ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن ابي عقبة وكان مولى من أهل فارس قال شهدت مع رسول الله أحدا فضربت رجلا من المشركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي رسول الله فقال هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري

حضه رسول الله على الانتساب إلى الأنصار وإن كان بالولاء وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة وهي نسبة حق ليست محرمة

ويشبه والله أعلم أن يكون من حكمة ذلك أن النفس تحامي عن الجهة التي تنتسب إليها كان ذلك لله كان خيرا للمرء

فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقا وهو المطلوب في هذا الكتاب

ومثل هذا ما روى سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر سقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بآنفها النتن رواه أبو داود وغيره وهو صحيح

فأضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية

ومثله ما روى مسلم في صحيحه عن أبي قيس زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمياء يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل قتل قتلة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه

ذكر في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاء والعداة وأهل العصبية

فالقسم الأول الخارجون عن طاعة السلطان فنهى عن نفس الخروج عن الطاعة والجماعة وبين أنه إن مات ولا طاعة عليه لإمام مات ميتة جاهلية فإن أهل الجاهلية من العرب ونحوهم لم يكونوا يطيعون أميرا عاما على ما هو معروف من سيرتهم

ثم ذكر الذي يقاتل تعصبا لقومه أو أهل بلده ونحو ذلك

وسمى الراية عمياء لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدري وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا

وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه أو دعا بلسانه أو ضرب بيده

وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل فقيل كيف يكون ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار

والقسم الثالث الخوارج على الأمة إما من العداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم أو غرضهم الرياسة كمن يقتل أهل مصر الذين هم تحت حكم غيره مطلقا وإن لم يكونوا مقاتلة أو من الخارجين عن السنة الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقا كالحرورية الذين قتلهم علي رضي الله عنه

ثم إنه سمى الميتة والقتلة ميتة جاهلية وقتلة جاهلية على وجه الذم لها والنهي عنها وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك

فعلم أنه كان قد تقرر عند أصحابه أن ما أضيف إلى الجاهلية من ميتة وقتلة ونحو ذلك فهو مذموم منهي عنه وذلك يقتضي ذم كل ما كان من أمور الجاهلية وهو المطلوب

ومن هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر عليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله فعيره بأمه فأتى الرجل النبي فذكر ذلك له فقال له النبي إنك امرؤ فيك جاهلية وفي رواية قلت على ساعتي هذه من كبر السن قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه

ففي هذا الحديث أن كل ما كان من أمر الجاهلية فهو مذموم لأن قوله فيك جاهلية ذم لتلك الخصلة فلولا أن هذا الوصف يقتضي ذم ما اشتمل عليه لما حصل به المقصود

وفيه أن التعبير بالأنساب من أخلاق الجاهلية

وفيه أن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه

وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية ومطل دم امرئ بغير حق ليريق دمه

أخبر أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر

وأما فساد الدين فنوعان نوع يتعلق بالعمل ونوع يتعلق بمحل العمل

فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية

وأما ما يتعلق بمحل العمل فالالحاد في الحرم لأن أعظم محال العمل هو الحرم وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني ولهذا حرم من تناول المباحات من الصيد والنبات في البلد الحرام مالم يحرم مثله في الشهر الحرام

ولهذا كان الصحيح أن حرمة القتال في البلد الحرام باقية كما دلت عليه النصوص الصحيحة بخلاف الشهر الحرام فلهذا والله أعلم ذكر الإلحاد في الحرم وابتغاء سنة جاهلية

والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فسواء قيل مبتغيا أو غير مبتغ فإن الابتغاء هو الطلب والإرادة فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث

والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها فإن السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة قال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض وقال النبي لتتبعن سنن من كان قبلكم والاتباع هو الاقتفاء والاستثنان فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية

وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم

ولفظ الجاهلية قد يكون اسما للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة وقد يكون اسما لذي الحال

فمن الأول قول النبي لأبي ذر رضي الله عنه إنك امرؤ فيك جاهلية وقول عمر إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة وقول عائشة كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء وقولهم يا رسول الله كنا في جاهلية وشر أي في حال جاهلية أو طريقة جاهلية أو عادة جاهلية ونحو ذلك

فإن لفظ الجاهلية وإن كان في الأصل صفة لكنه غلب عليه الاستعمال حتى صار اسما ومعناه قريب من معنى المصدر

وأما الثاني فتقول طائفة جاهلية وشاعر جاهلي وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم أو عدم اتباع العلم فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلا بسيطا فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلا مركبا فإن قال خلاف الحق عالما بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضا كما قال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال النبي إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ومن هذا قول بعض الشعراء ... ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ...

وهذا كثير وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق كما قال سبحانه إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال أصحاب محمد كل من عمل سوءا فهو جاهل

وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار

ومن هنا تعرف دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجازا وإن لم يكن كل من ترك شيئا من الأعمال كافرا أو خارجا عن أصل مسمى الإيمان وكذلك اسم العقل ونحو ذلك من الأسماء

ولهذا يسمي الله تعالى أصحاب هذه الأحوال موتى وعميا وصما وبكما وضالين وجاهلين ويصفهم بأنهم لا يعقلون ولا يسمعون

ويصف المؤمنين بأولي الألباب والنهى وأنهم مهتدون وأن لهم نورا وأنهم يسمعون ويعقلون

فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث الرسول كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جهال وإنما يفعله جاهل وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهي جاهلية وتلك كانت الجاهلية العامة

فأما بعد ما بعث الله الرسول فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون في جاهلية وإن كان في دار الإسلام

فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة

والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من المسلمين كما قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية وقال لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ونحو ذلك

فقوله في هذا الحديث ومبتغ الإسلام سنة جاهلية يندرج فيه كل جاهلية مطلقة أو غير مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئة أو وثنية أو شركية من ذلك أو بعضه أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد وإن كان لفظ الجاهلية لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها فإن المعنى واحد

وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة

ورواه البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئارها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء

وفي حديث جابر عن النبي أنه قال لما مر بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم

فنهى رسول الله عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم

ونهى عن الانتفاع بمياههم حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة وهي غزوة العسرة وهي أشد غزوة كانت على المسلمين أن يعلفوا النواضج بعجين مائهم

وكذلك أيضا روي عنه أنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب

فروى أبو داود عن سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال إن حبيبي النبي نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة

ورواه أيضا عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أيضا أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعناه ولفظه فلما خرج منها مكان برز

وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أصح من هذا عن علي رضي الله عنه نحوا من هذا أنه كره الصلاة بأرض بابل وأرض الخسف أو نحو ذلك

وكره الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه

وقوله نهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة يقتضي أن لا يصلي في أرض ملعونة

والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب دخل في ذلك الصلاة وغيرها من باب أولى

ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار لا تقم فيه أبدا فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم

وقد روى أنه لما هدم خرج منه دخان

وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء فكذلك نهي عن الصلاة في أماكن العذاب

فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للايمان والطاعة فهذا حسن كما أمر النبي أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم وكان موضع مسجده مقبرة للمشركين فجعله مسجدا بعد نبش القبور

فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها واستحقوا بها العذاب

فإنه إذا قيل هذا العمل الذي يعملونه لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرما ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية لو تجرد عن كونه أثرهم ونحن لا نقصد التشبه بهم بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار فإن جميع ما يعملونه مما ليس من أعمال المسلمين السابقين إما كفر وإما معصية وإما شعار كفر أو شعار معصية وإما مظنة للكفر والمعصية وإما أن يخاف أن يجر إلى المعصية وما أحسب أحدا ينازع في جميع هذا ولئن نازع فيه فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان

ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم

وأيضا مما هو صريح في الدلالة ما روى أبو داود في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر يعني هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله من تشبه بقوم فهو منهم وهذا إسناد جيد فإن ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين وهم أجل من أن يحتاجوا إلى أن يقال هم من رجال الصحيحين

وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين وأبو زرعة وأحمد بن عبد الله العجلي ليس به بأس وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم هو ثقة وقال أبو حاتم هو مستقيم الحديث

وأما أبو منيب الجرشي فقال فيه أحمد بن عبد الله العجلي هو ثقة وما علمت أحدا يذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث

وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله ومن يتولهم منكم فإنه منهم

وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة

فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك

وبكل حال فهو يقتضي التشبه بهم بعلة كونه تشبها

والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذا عن ذلك الغير

فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإعفائها وإحفاء الشوارب مع أن قوله غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية

وقد روى في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه نهى عن التشبه بالأعاجم وقال من تشبه بقوم فهو منهم ذكره القاضي أبو يعلى

وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين

قال محمد بن حرب سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه فكرهه للرجل والمرأة وقال إن كان للكنيف والوضوء فلا بأس وأكره الصرار وقال هو من زي الأعاجم وقد سئل سعيد بن عامر عنه فقال سنة نبينا أحب إلينا من سنة باكهن

وقال في رواية المروذي وقد سأله عن النعل السندي فقال أما أنا فلا أستعملها ولكن إذا كان للطين أو المخرج فأرجو وأما من أراد الزينة فلا ورأى على باب المخرج نعلا سنديا فقال نتشبه بأولاد الملوك

وقال حرب الكرماني أيضا قلت لأحمد فهذه النعال الغلاظ قال هذه السندية إذا كانت للوضوء أو للكنيف أو لموضع ضرورة فلا بأس وكأنه كره أن يمشي بها في الأزقة قيل فالنعل من الخشب قال لا بأس بها أيضا إذا كان موضع ضرورة

قال حرب حدثنا أحمد بن نصر حدثنا حبان بن موسى قال سئل ابن المبارك عن هذه النعال الكرمانية فلم تعجبه وقال أما في هذه غنية عن تلك

وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة

سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد قال يحيى بن سعيد القطان وذكر عنده سعيد بن عامر الضبعي فقال

هو شيخ البصرة منذ أربعين سنة وقال أبو مسعود بن الفرات ما رأيت بالبصرة مثل سعيد بن عامر

وقال الميموني رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب عمائمها تحت أذقانها

وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس

ولهذا أيضا كره أحمد لباس أشياء كانت شعار الظلمة في وقته من السواد ونحوه وكره هو وغيره تغميض العين في الصلاة وقال هو من فعل اليهود

وقد روى أبو حفص العكبري بإسناده عن بلال بن أبي حدرد قال قال رسول الله تمعددوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة

وهذا مشهور محفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب به إلى المسلمين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في كلام الخلفاء الراشدين

وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قال ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف قال وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة ولم يرفعه

وهذا وإن كان فيه ضعف فقد تقدم الحديث المرفوع من تشبه بقوم فهو منهم وهو محفوظ عن حذيفة بن اليمان أيضا من قوله وحديث ابن لهيعة يصلح للاعتضاد كذا كان يقول أحمد وغيره

وأيضا ما روى أبو داود حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا محمد بن ربيعة حدثنا أبو الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة أو محمد بن علي بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي فصرعه النبي قال ركانة سمعت النبي يقول فرق ما بيننا وبين المشركين بالعمائم على القلانس

وهذا يقتضي أنه حسن عند أبي داود ورواه الترمذي أيضا عن قتيبة وقال غريب وليس إسناده بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة

وهذا القدر لا يمنع أن يعتضد بهذا الحديث ويستشهد به

وهذا بين في أن مفارقة المسلم المشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع كقوله فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت

فإن التفريق بينهما مطلوب في الظاهر إذ الفرق بالاعتقاد والعمل بدون العمامة حاصل فلولا أنه مطلوب بالظاهر أيضا لم يكن فيه فائدة

وهذا كما أن الفرق بين الرجال والنساء لما كان مطلوبا ظاهرا وباطنا لعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وقال أخرجوهم من بيوتكم ونفى الخنث لما كان رجلا متشبها في الظاهر بغير جنسه

وأيضا عن أبي غطفان المري سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى قال رسول الله

إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله رواه مسلم في صحيحه

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قال رسول الله صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا يوما قبله ويوما بعده والحديث رواه ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس

فتدبر هذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر صيامه سنة ماضية صامه رسول الله وأمر بصيامه ورغب فيه ثم لما قيل له قبيل وفاته إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه وعزم على فعل ذلك

ولهذا استحب العلماء منهم الإمام أحمد أن يصوم تاسوعا وعاشوراء وبذلك عللت الصحابة رضي الله عنهم

قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع عطاء عن ابن عباس يقول صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود

وأيضا عن عمر رضي الله عنه عن النبي قال إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين رواه البخاري ومسلم

فوصف هذه الأمة بترك الكتابة والحساب الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عبادتهم وأعيادهم وأحالها على الرؤية حيث قال في غير حديث صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وفي رواية صوموا من الوضح إلى الوضح أي من الهلال إلى الهلال

وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى

وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضا في صومهم وعبادتهم وتأولوا على ذلك قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ولكن أهل الكتابين بدلوا ولهذا نهى النبي عن تقدم رمضان باليوم واليومين

وعلل الفقهاء ذلك بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه كما زاده أهل الكتاب من النصارى فإنهم زادوا في صومهم وجعلوه فيما بين الشتاء والصيف وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه بها

وقد يستدل بهذا الحديث على خصوص النهي عن أعيادهم فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب والحديث فيه عموم

أو يقال إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله ففي غيره من الأعياد والمواسم أولى وأحرى أو لما في ذلك من مضارعة الأمة الأمية سائر الأمم

وبالجملة فالحديث يقتضي اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص

وأيضا ففي الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية عام حج على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذه ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم

وفي رواية سعيد بن المسيب في الصحيح أن معاوية قال ذات يوم إنكم اتخذتم زي سوء وإن النبي النبي نهى عن الزور قال وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة قال معاوية ألا وهذا الزور قال قتادة يعني ما يكثر به النساء اشعارهن من الخرق

وفي رواية عن ابن المسيب في الصحيح قال قدم معاوية المدينة فخطبنا وأخرج كبة من شعر فقال ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود إن رسول الله بلغه فسماه الزور

فقد أخبر النبي عن وصل الشعر أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم يحذر أمته مثل ذلك ولهذا قال معاوية ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود

فما كان من زي اليهود الذي لم يكن عليه المسلمون إما أن يكون مما يعذبون عليه أو مظنة لذلك أو يكون تركه حسما لمادة ما عذبوا عليه لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره فيترك الجميع كما أن ما يخبرون به لما اشتبه صدقه بكذبه ترك الجميع

وأيضا ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله أو قال قال عمر إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح

وهذا المعنى صحيح عن النبي من رواية جابر وغيره أنه أمر في الثوب الضيق بالاتزار دون الاشتمال وهو قول جمهور أهل العلم وفي مذهب أحمد قولان

وإنما الغرض أنه قال لا يشتمل اشتمال اليهود فان المنهي عنه إلى اليهود دليل على أن لهذه الإضافة تأثيرا في النهي كما تقدم التنبيه عليه

وأيضا فمما نهانا الله سبحانه فيه عن مشابهة أهل الكتاب وكان حقه أن يقدم في أوائل الكتاب قوله سبحانه ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون

فقوله ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي وقد وصف الله سبحانه بها اليهود في غير موضع فقال تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون وقال تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين

وإن قوما من هذه الأمة ممن ينسب إلى علم أو دين قد أخذوا من هذه الصفات بنصيب يرى ذلك من له بصيرة فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله ولهذا كان السلف يحذرون هذا

فروى البخاري في صحيحه عن أبي الأسود قال بعث أبو موسى إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وإنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة

فحذر أبو موسى القراء أن يطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم

ثم لما كان نقض الميثاق يدخل فيه نقض ما عهد الله إليهم من الأمر والنهي وتحريف الكلم عن مواضعه وتبديل وتأويل كتاب الله أخبر ابن مسعود رضي الله عنه بما يشبه ذلك

فروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري حدثنا عبد الله حديثا ما سمعت حديثا هو أحسن منه إلا كتاب الله أو رواية عن رسول الله قال إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم اشتهته قلوبهم واستحلته أنفسهم وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقالوا اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوهم ثم قالوا لا بل أرسلوا إلى فلان رجل من علمائهم فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد فأرسلوا إليه فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله ثم جعلها في قرن ثم علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا أتؤمن بهذا فأوما إلى صدره فقال آمنت بهذا ومالي لا اومن بهذا يعني الكتاب الذي في القرن فخلوا سبيله وكان له أصحاب يغشونه فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا فيه الكتاب فقالوا ألا ترون قوله آمنت بهذا ومالي لا أومن بهذا إنما عنى هذا الكتاب فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة وخير مللهم أصحاب ذي القرن قال عبد الله وإن من بقي منكم سيرى منكرا وبحسب امرئ يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره

ولما نهى الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم ذكر أيضا في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية فما رعوها حق رعايتها فعقبها بقوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

فإن الإيمان بالرسول هو تصديقه وطاعته واتباع شريعته وفي ذلك مخالفة للرهبانية لأنه لم يبعث بها بل نهى عنها وأخبر أن من اتبعه من أهل الكتاب كان له أجران وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة من طريق ابن عمر وغيره في مثلنا ومثل أهل الكتاب

وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود في سننه من حديث ابن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فقال إن رسول الله كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم

هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود وفي رواية ابن داسة عنه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير بالمدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريب منها فلما سلم قال يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته قال إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ثم غدا من الغد فقال ألا تركب وننظر لنعتبر قال نعم فركبا جميعا فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها قال أتعرف هذه الديار فقال نعم ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل ديار أهلكهم الله ببغيهم وحسدهم إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه

فأما سهل بن أبي أمامة فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وروى له مسلم وغيره أما ابن أبي العمياء فمن أهل بيت المقدس ما أعرف حاله لكن رواية أبي داود للحديث وسكوته عنه يقتضي أنه حسن عنده وله شواهد في الصحيح

فأما ما فيه من وصف صلاة رسول الله بالتخفيف ففي الصحيحين عنه أعني أنس بن مالك قال كان النبي يوجز الصلاة ويكملها

وفي الصحيحين أيضا عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي زاد البخاري وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه

وما ذكره أنس بن مالك من التخفيف فهو بالنسبة إلى ما كان يفعله بعض الأمراء وغيرهم في قيام الصلاة فإن منهم من كان يطيل زيادة على ما كان النبي يفعله في غالب الأوقات ويخفف الركوع والسجود والإعتدال عما كان النبي ص - يفعله في غالب الأوقات ولعل أكثر الأئمة أو كثيرا منهم كانوا قد صاروا يصلون كذلك ومنهم من كان يقرأ في الآخريين مع الفاتحة سورة وهذا كله قد صار مذاهب لبعض الفقهاء

وكان الخوارج أيضا قد تعمقوا وتنطعوا كما وصفهم النبي بقوله يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ولهذا لما صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالبصرة قال عمران بن حصين لقد أذكرني هذا صلاة رسول الله وكانت صلاة رسول الله معتدلة كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود وقد جاء هذا مفسرا عن أنس بن مالك نفسه

فروى النسائي عن قتيبة عن العطاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال دخلنا على أنس بن مالك فقال صليتم قلنا نعم قال يا جارية هلمي لي وضوءا ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله من إمامكم هذا قال زيد وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود

وهذا حديث صحيح فإن العطاف بن خالد المخزومي قال فيه يحيى بن معين غير مرة هو ثقة وقال أحمد بن حنبل هو من أهل مكة ثقة صحيح الحديث روى عنه نحو مائة حديث وقال ابن عدي يروي قريبا من مائة حديث ولم أر بحديثه بأسا إذا حدث عنه ثقة

وروى أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان حدثني أبي عن وهب بن مانوس سمعت سعيد بن جبير يقول سمعت أنس بن مالك يقول ما صليت وراء أحد بعد رسول الله أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وقال يحيى بن معين إبراهيم بن عمر بن كيسان يماني ثقة وقال هشام بن يوسف أخبرني إبراهيم بن عمر وكان من أحسن الناس صلاة وابنه عبد الله قال فيه أبو حاتم صالح الحديث ووهب بن مانوس بالنون يقوله عبد الله هذا وكان عبد الرزاق يقوله بالباء المنقوطة بواحدة من أسفل وهو شيخ كبير قديم قد أخذ عنه إبراهيم هذا واتبع ما حدثه به ولولا ثقته عنده لما عمل بما حدثه به وحديثه موافق لرواية زيد بن أسلم وما أعلم فيه قدحا

وروى مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس ابن مالك قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله في تمام كانت صلاة رسول الله متقاربة وكانت صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الفجر وكان رسول الله إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم

ورواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة أنبأنا ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله في تمام وكان رسول الله إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ثم يسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم

فجمع أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجاز النبي الصلاة وإتمامها وبين أن من إتمامها الذي أخبر به إطالة الاعتدالين وأخبر في الحديث المتقدم أنه ما رأى أوجز من صلاته ولا أتم

فيشبه والله أعلم أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام والإتمام إلى الركوع والسجود لأن القيام لا يكاد يفعل إلا تاما فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام بخلاف الركوع والسجود والاعتدالين

وأيضا فإنه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود تصير الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها فيصدق قوله ما رأيت أوجز ولا أتم

فأما إن أعيد الإيجاز إلى لفظ لا أتم والإتمام إلى لفظ لا أوجز فإنه يصير في الكلام تناقضا لأن من طول القيام على قيامه لم يكن دونه في إتمام القيام إلا أن يقال الزيادة في الصورة تصير نقصا في المعنى وهذا خلاف ظاهر اللفظ فإن الأصل أن يكون معنى الإيجاز والتخفيف غير معنى الإتمام والإكمال ولأن زيد بن أسلم قال كان عمر يخفف القيام والقعود ويتم الركوع والسجود فعلم أن لفظ الإتمام عندهم هو إتمام الفعل الظاهر

وأحاديث أنس كلها تدل على أن النبي كان يطيل الركوع والسجود والاعتدالين زيادة على ما فعله أكثر الأئمة وسائر روايات الصحيح تدل على ذلك

ففي الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إني لا آلو أن أصلي لكم كما كان رسول الله يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه وإذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى نقول قد نسي

وفي رواية في الصحيح وإذا رفع رأسه بين السجدتين

وفي رواية للبخاري من حديث شعبة عن ثابت كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي

فهذا يبين لك أن أنسا أراد بصلاة رسول الله إطالة الركوع والسجود والرفع فيهما على ما كان الناس يفعلونه وتقصير القيام عما كان الناس يفعلونه

وروى مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال كان رسول الله يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة

فبين أن التخفيف الذي كان يفعله هو تخفيف القراءة وإن كان يقتضي ركوعا وسجودا يناسب القراءة ولهذا قال كانت صلاته متقاربة أي يقرب بعضها من بعض

وصدق أنس فإن النبي كان يقرأ في الفجر بنحو الستين إلى المائة يقرأ في الركعتين بطول المفصل بآلم تنزل وهل أتى وبالصافات وبقاف وربما قرأ أحيانا بما هو أطول من ذلك وأحيانا بما هو أخف

فأما عمر رضي الله عنه فكان يقرأ في الفجر بيونس وهود ويوسف ولعله علم أن الناس خلفه يؤثرون ذلك

وكان معاذ رضي الله عنه قد صلى خلف النبي العشاء الآخرة ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بقباء فقرأ فيها بسورة البقرة فأنكر النبي ذلك وقال أفتان أنت يا معاذ إذا أممت الناس فخفف فإن من ورائك الكبير والضعيف وذا الحاجة هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما من السور

فالتخفيف الذي أمر به النبي معاذا وغيره من الأئمة هو ما كان يفعله بأبي هو وأمي فإنه كما قال أنس كان أخف الناس صلاة في تمام وقد قال صلوا كما رأيتموني أصلي

ثم إن عرض حال عرف منها إيثار المأمومين للزيادة على ذلك فحسن فإنه قرأ في المغرب بطولى الطوليين وقرأ فيها بالطور

وإن عرض ما يقتضي التخفيف عن ذلك فعل كما قال في بكاء الصبي ونحوه

فقد تبين أن حديث أنس تضمن مخالفة من خفف الركوع والسجود تخفيفا كثيرا ومن طول القيام تطويلا كثيرا وهذا الذي وصفه أنس ووصفه سائر الصحابة

وروى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه عن هلال بن أبي حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رمقت الصلاة مع محمد فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء