الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الثالث: دوائر الحركات الحيوية والنفسية - الحياة الشاعرة والحياة اللاشاعرة

​الفصل الثالث: دوائر الحركات الحيوية والنفسية - الحياة الشاعرة والحياة اللاشاعرة​ المؤلف غوستاف لوبون


الفصل الثالث

دوائر الحركات الحيوية والنفسية - الحياة الشاعرة والحياة اللاشاعرة


١ – دوائر الحركات الحيوية والنفسية

لما كانت غاية هذا الكتاب فى البحث عن تكوين الآراء والمعتقدات من الضروري أن نعلم أولا البقعة التي تنبت فيها، وقد زادت أهمية هذا البحث بنسبة ما أثبتته مبتكرات العلم الحديث من البطلان فى كتب علم النفس القديمة.

يمكننا أن نرجع حوادث ذوات الحياة إلى ثلاثة أنواع تنضدت بعد أن تم ظهورها واحدا بعد الآخر على مر القرون، وهى : أولاً الحوادث الحيوية كالتغذية والتنفس الخ، ثانياً الحوادث العاطفية كالمشاعر والأطماع الخ، ثالثاً الحوادث العقلية کالتأمل والتفكير الله. والحوادث العقلية هي أحدثها طيورا في تاريخ البشر، والحياة المعنوية والحياة العاطفية والحياة المقلية يؤثر بعضها في البعض الآخر تأثير تالا على رغم كونها مختلفة منفصلة، ولهذه العلة يستحيل إدراك الأخيرة من غير أن نبحث عن الأولى، فاند أخطأ علماء النفس بتركهم أمر البحث في الحوادث الحيوية إلى علماء وظائف الأعضاء وحدهم.

وسوف تثبت شأن الحوادث الحيوية عندما نبحث في جزء من هذا الكتاب عن الحوادث التي يهيمن المنطق الحيوي عليها، وأما في هذا الفصل فاننا لا نبحث الا عن المرحلة الأولى للحياة النفسية أي عن حركة النفس الللاشاعرة، ولهذه المرحلة أهمية عظيمة، إذ نرى جذور أفكارنا وسيرنا سائخةً فيها.

٢ – النفسية اللاشاعرة ومصادر الالهام

المشاعر لا تنفذ دائرة الشعور إلا بعد أن تنضج في منطقة اللاشعور نضجاً آلياً، وبما أن الحوادث العقلية الشعورية هي أسهل إدراكا فان علم النفس لم يطلع على غيرها في بدء أمره، إلا أن العلم الحديث دل– مستعيناً بطرق صحيحة غير مباشرة– على أن الحوادث اللاشعورية تمثل في الحياة دوراً هو في الغالب أهم من الدور الذي تمثله الحوادث العقلية، فيمكننا أن نقیس الحياة العقلية بالجزائر الصغيرة التي هي شماريخ جبال عظيمة مستترة بالماء، وهذه الجبال هي اللاشعور.

معلم اللاشعور موروث عن الآباء، وما قوته الا لكونه يمثل ميراث سلسلة طويلة من القرون التي زاد كل منها فيه شيئاً، وقد أصبح شأنه الذي أغفل في الماضي من الأهمية بحيث أن بعض الفلاسفة – وعلى الخصوص ويليام جيمس و برکسون – أخذوا يفسرون أكثر الحوادث النفسية به، وبتأثير هؤلاء الفلاسفة ظهرت في العالم حركة قوية ضد المذهب العقلى، وقد غالى انصار المذهب الجديد في التشيع فيه فطفقوا ينسون أن المنطق العقلى وحده يأتي بمبتكرات العلم والصناعة التي هي قوام حضارتنا.

ولم تنشأ المباحث التي منحت دائرة اللاشعور تلك الأهمية عن التأمل بل عن تجارب أتى بها لغاية أخرى هي ليست ایجاد أدلة فلسفية، وإني أذكر من تلك التجارب مباحث التنويم المغنطيسي وانحلال الذات والسير في المنام واستخدام الأرواح الخ، غير أن علة المعلولات لا تزال مجهولة، ففي علم النفس اللاشعوری کما في علم النفس الشعوری يجب الاكتفاء في الغالب بالتحقيق والمشاهدة .

والذي يسيرنا في أكثر حوادث الحياة اليومية هو اللاشعور، فلا تلبث ممارسة احدى الصنائع أن تصبح سهلة بعد أن يعبر اللاشعور مديراً لها، وما الأخلاق التويمة سوى لاشعور مثقف مهذب .

و يمكننا أن نقول إن اللاشعور هو عبارة عن مخزن مكتظ بالاحوال العاطفية والذهنية قد يتضعضع ولكنه لا فنى أبداً، ولو سلمنا بما نترصده من أعراض بعض الأمراض لقلنا أن العناصر التي تدخل في عالم اللاشعور تبقى فيه زمناً طويلا، بهذه الصورة وحدها نفسر بعض الحوادث التي نشاهدها في الوسطاء أو المرضى الذين يتكلمون لغات لم يتعلموها ولكنهم سمعوها في ريعان شبابهم .

والالهام الذي هو أصل الدهاء والعبقرية يصدر عن اللاشعور الموروث وعن التربية الصحيحة، نعم يلوح لنا أن إلمامات القائد الذي يدوخ البلاد ويتحكم في القدر، والمتفنن الماهر الذي يبرز ما في الأشياء من رونق وجمال، والعالم الشهير الذي يتجلى الاسرار هي أمور غريزية، ولكن اللاشعور الذي صدرت عنه هو الذي أنضجها مقداراً فمقداراً، والمشاعر وان أمكن أن تظهر بتأثر بعض العوامل العقلية الا أنها تتكون في عالم اللاشعور على كل حال، وقد ينتهي نضجها التدريجي بأن تظهر للعيان فجأة كالانقلابات الدينية والسياسية .

والمشاعر التي نضجت في عالم اللاشعور لا تنفذ دائرة الشعور الا بتأثير أحد المحرضات، وهذا هو السر في جهلنا أحياناً مشاعرنا الحقيقية نحو ما يحيط بنا من موجودات، وما أكثر المرات التي تكون فيها مشاعرنا وما ينشأ عنها من آراء ومعتقدات خلاف مانظن، وفي بعض الاوقات يكون الحب أو الحقد مستولياً على نفوسنا من غير أن تعلم ذلك، وانما يبدو لنا ذلك عندما نرغم على العمل، فالعمل هو بالحقيقة مقياس المشاعر الذي لا ريب فيه، و به يعرف الانسان نفسه وتظل الآراء بدونه الفاظاً فارغة لا معنى لها.

۲ – اشكال اللاشعور : اللاشعور الذهني واللاشعور العاطفي

يمكننا على ما أظن تفريق ثلاثة أنواع مختلفة في عالم اللاشعور، فالنوع الأول هو اللاشعور العضوي المسيطر على جميع أمور الحياة كالتنفس والدورة الدمويّة الخ، فلما استقر أمره بتعاقب الوراثة فانه يقوم بوظائفه قياماً داعياً للعجب دون أن نعلم ذلك، وهو يسير الحياة فيقودنا من الطفولة إلى الهرم ومنه الى الموت من غير أن تقدر على إدراك عمله .

وفوق اللاشعور العضوي يوجد نوع آخر يقال له اللاشعور العاطفي، فتكوين هذا اللاشعور تم بعد تكوين الأول، ولذلك فانه أقل رسوخاً منه وإن كان على جانب عظيم من الرسوخ، من أجل هذا الرسوخ الكبير ترانا لا تؤثر في المشاعر الا قليلا مع أننا نقدر على تبديل المواضيع التي نؤثر فيها بمشاعرنا.

وعلى رأس تلك السلسلة يوجد نوع يسمى اللاشعور الذهني، فلما كان ظهوره على مسرح الكون حديثاً فان جذور الوراثة ليست سائخة فيه كما يجب، ومع أن أمر اللاشعور العضوي واللاشعور العاطفي قد أصبح من الثبات بحيث نشأت عنه غرائز تنتقل بالارث نرى أن اللاشعور الذهني لا يزال يبدو على شكل أهواء وأغراض، والتربية هي التي تتدرج به الى الكمال في كل جيل.

إن للتربية سلطاناً كبيراً على اللاشعور الذهني لكونه أقل رسوخاً من ذينك النوعين، وليس لهذا اللاشعور سوى تأثير ضئيل في المشاعر التي هي قوام الخلق، وأما اللاشعور العاطفي فانه يكون في الغالب سیداً مهیمناً غير ميال بالمعقولات، وهذا سبب كون كثير من الرجال الذين يكونون على جانب عظيم من الفطنة والصواب في مؤلفاتهم وخطبهم يصبحون في سيرهم آلات متحركة يقولون ما لا يودون أن يقولوه ويفعلون ما لا يريدون أن يفعلوه. نستنتج من الايضاح السابق أن العقل ليس – كما ظن زمناً طويلاً – أهم عامل في الحياة النفسية، فاللاشعور هو الذي يُنضِجُ ولا تصل نتائج هذا النضج الى دائرة العقل الا تامة التكوين كالالفاظ التي تتدفق على شفتي الخطيب، وتتجلى قوة اللاشعور في كون جميع ما يتم به على جانب عظيم الدية والضبط، فالتدرب على احدى الصنائع لا يكمل إلا إذا صار العمل ينجز بقوة التكرار على شكل لاشعوری، ولذا عرفنا التربية في كتاب آخر بأنها عبارة عن إدخال الشهور الى اللاشعور.

ومع أن علم الحياة الحديث أصاب في نقضي مبدأ علة المال فاننا نرى سلسلة الأشياء تبدو كأنها خاضعة لهذا المبدل، يؤيد ذلك كون الشروح العملية التي أتى بها العلماء لم تقدر على حل كثير من الأمور الغامضة في الكون، على أنا لو نظرنا إلى اللاشعور من حيث نتائجه لرأيناه يشتمل على شياطين لطيفة - هي سبب الاسباب الحديث - تسعى في إعمائنا لنضح بمنافعنا الشخصية في سبيل منافع الجنس، وما هذه الشياطين الأكناية عن ضرورات تأصلت في النفوس بفعل الزمان.

والأمر مهما يكن فان اللاشعور يهيمن علينا في الغالب ويعمى أبصارنا على الدوام، ولا نأسف على ذلك، لأن كشف المصير يجعل الحياة شقية، فالبقر لا يرعی الكلأ مطمئنا إذا علم أن مصيره الى الذبح واكثر الموجودات تتقهقر جزعا لو اطلعت على نصيبها.