الأمالي (الزجاجي)

(حولت الصفحة من الأمالي (النهاوندي))
​الأمالي (النهاوندي)​ المؤلف عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النهاوندي الزجاجي


بسم الله الرحمن الرحيم

تَرْجَمَة الْمُؤلف، مختصرة من تَارِيخ ابْن خلكان

هُوَ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الزجاجي النَّحْوِيّ الْبَغْدَادِيّ دَارا ونشأةً، والنهاوندي أصلا ومولداً. كَانَ إِمَامًا فِي علم النَّحْو، وصنف فِيهِ كتاب " الْجمل الْكُبْرَى " وَهُوَ كتاب نافعٌ لَوْلَا طوله بِكَثْرَة الْأَمْثِلَة. أَخذ النَّحْو عَن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس اليزيدي، وأبي بكرٍ بن دريدٍ، وَأبي بكرٍ بن الْأَنْبَارِي. وَصَحب أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن السّري الزّجاج فنسب إِلَيْهِ، وَعرف بِهِ، وَسكن دمشق وانتفع بِهِ النَّاس وتخرجوا عَلَيْهِ، وَتُوفِّي فِي رجبٍ سنة سبعٍ وَقيل سنة تسعٍ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائةٍ، وَقيل فِي شهر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ وَالْأول أصح بِدِمَشْق، وَقيل بطبرية رَحْمَة الله تَعَالَى.

وكَانَ قد خرج من دمشق مَعَ ابْن الْحَارِث عَامل الضّيَاع الأخشيدية فَمَاتَ بطبرية. وَكتابه الْجمل من الْكتب الْمُبَارَكَة لم يشْتَغل بِهِ أحدٌ إِلَّا وانتفع بِهِ، وَيُقَال إِنَّه صنفه بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا فرغ من بابٍ طَاف أسبوعاً ودعا الله تَعَالَى أَن يغْفر لَهُ، وَأَن ينفع بِهِ قارئه، والزجاجي بِفَتْح الزّاي وَتَشْديد الْجِيم وَبعد الْألف جيمٌ ثانيةٌ انْتهى.

(/)

قَالَ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الزجاجي رَحمَه الله: أخبرنَا أَبُو عبد الله الْقَاسِم عَن أبي محمدٍ بن يحيى الْمُبَارَكِ الْيَزِيدِيِّ قَالَ رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ. قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله بن مَسْعُود

(1/1)

رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّةٌ قَانِتًا لله حَنِيفا " قَالَ: الأُمَّةُ الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ وَالْقَانِتُ الْمُطِيعُ وَالْحَنِيفُ التَّارِكُ لِلشِّرْكِ " اجتباه " يَقُولُ اصْطَفَاهُ " وَهَدَاهُ إِلَى صراطٍ مستقيمٍ " يَعْنِي طَرِيقًا يَسْتَقِيمُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ " وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً " قَالَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ، وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، مَا مِنْ أمةٍ وَلا أَهْلِ دينٍ إِلَّا يتولونه " قَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي ": الْقُنُوت فِي اللُّغَة طول الْقيام، وَمِنْه قيل للداعي قانتٌ، وللمصلي قانتٌ. والحنف الْميل، وَقيل للْمُسلمِ حَنِيفا لعدوله عَنِ الشّرك إِلَى الْإِسْلَام وميله عَنهُ ميلًا لَا رُجُوع مَعَه، وَمِنْه الحنف فِي الرجلَيْن وَهُوَ إقبال كل واحدةٍ من الإبهامين عَليّ صاحبتها، وميلها عَن سَائِر الْأَصَابِع. وَكَانَ الحنيف فِي الْجَاهِلِيَّة من كَانَ يحجّ الْبَيْت، ويغتسل من الْجَنَابَة، وَيغسل موتاه، ويختتن، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام صَار الحنيف الْمُسلم.

" أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الزجاجي رَحمَه اللَّه قَالَ ": أخبرنَا أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن يحيي عَنِ ابْن الْأَعرَابِي عَنِ الْمفضل الضَّبِّيّ قَالَ: قَالَ لي أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور: صف لي الْجواد من الْخَيل؟ فَقلت

(1/2)

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذا كَانَ الْفرس طَوِيل ثلاثٍ، قصير ثلاثٍ، رحب ثلاثٍ، صافي ثلاثٍ؛ فَذَلِك الْجواد الَّذِي لَا يجارى. قَالَ فَسرهَا؟ فَقلت أما الثَّلَاث الطوَال فالأذنان وَالْهَادِي والفخذ؛ وَأما الْقصار فالظهر والعسيب والساق، وَأما الرحاب فاللبان والمنخر والجبهة، والصافية الْأَدِيم وَالْعين والحافر.

" أنشدنا أَبُو غانمٍ الْمَعْنَوِيّ ": قَالَ أَنْشدني أَبُو خَليفَة الْفضل بْن الْحباب قَالَ أَنْشدني أَبُو محمدٍ التوزي عَن أبي عبيده لأنيف بْن جبلة الضَّبِّيّ الجمحيّ فَارس الشيط:

وَلَقَد حلبت الدَّهْر كلَّ ضروعه ... فَعرفت مَا آتِي وَمَا أتجنَّب

وَلَقَد شهِدت الْخَيل يحمل شكتي ... عندٌ كسرحان القصيمة منْهب

(1/3)

أما إِذا استقبلته فَكَأَنَّهُ ... للعين جذع من أوالٍ مشذب

وَإِذا اعترضت بِهِ اسْتَوَت أقطاره ... وَكَأَنَّهُ مستدبرا مَنْصُوب

" قَالَ أَبُو غَانِم ": معني هَذَا الْبَيْت مأخوذٌ من معني قَول ابْن أقيصرَ فِي وصف فرسٍ إِذا استقبلته أقعي، وَإِذا استدبرته جبا، وَإِذا اعترضته اسْتَوَى.

" أخبرنَا ": أَبُو محمدٍ عَبْد اللَّه بْن مالكٍ قَالَ أخبرنَا الرياشي قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد ابْن أبي رجاءٍ عَن رجلٍ من بني مخزومٍ عَن أَبِيه - أَو عَمه - قَالَ:

(1/4)

لقِيت ابْن هرمه مُنْصَرفه من الْمَدِينَة فَقَالَ لي قد خرج هَذَا الرجل - يَعْنِي مُحَمَّد بْن عبد الله ابْن حسن - وَقلت أبياتا فأعرفها واحفظها:

أرِي النَّاس فِي أمرٍ سحيلٍ فَلَا تزل ... عَليّ حذرٍ حتي ترى الْأَمر مبرما

وَإنَّك لَا تَسْتَطِيع ردَّ الَّذِي مضى ... إِذا القَوْل عَن زلاته فَارق الفما

فكائنٌ ترى من وافر الْعرض صامتا ... وَآخر أردى نَفسه إِن تكلَّما

" أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الزجاجي ": أخبرنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ حدثنَا مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ أَسْبَاطٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ " أَمْ حَسِبْتَ أنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ والرَّقيم كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا " قَالَ: إنَّ الْفِتْيَةَ لَمَّا هَرَبُوا من

(1/5)

أهلهم خوفًا على دينهم ففقدوهم فَخَبَّرُوا الْمَلِكَ خَبَرَهُمْ، فَأَمَرَ بلوحٍ من رصاصٍ فَكتب فِيهِ أَسْمَاءَهُم وَأَلْقَاهُ فِي خِزَانَتِهِ وَقَالَ إنَّه سَيَكُونُ لَهُ شأنٌ فَذَلِكَ اللَّوْحُ هُوَ الرقيم.

" أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الزجاجي رَحمَه اللَّه ": اعْلَم أنَّ فِي الرقيم خَمْسَة أقوالٍ أَحدهَا هَذَا الَّذِي روى عَنِ ابْن عباسٍ رَحمَه اللَّه أَنه لوحٌ كتب فِيهِ أَسمَاؤُهُم وَالْآخر أنَّ الرقيم هُوَ الدواة. يرْوى ذَلِك عَن مجاهدٍ، وَقَالَ: هُوَ بلغَة الرّوم وَالثَّالِث أنَّ الرقيم الْقرْيَة وَهُوَ يرْوى عَن كعبٍ. وَالرَّابِع أنَّ الرقيم الْوَادي وَالْخَامِس مَا رُوِيَ عَن الضَّحَّاك وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: الرقيم الْكتاب وَإِلَى هَذَا يذهب أهل اللُّغَة، وَيَقُولُونَ هُوَ فعيل بِتَأْوِيل مفعولٍ. يُقَال رقمت الْكتاب أَي كتبته، فَهُوَ مرقومٌ ورقيمٌ كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ " كتابٌ مرقومٌ ".

(1/6)

" أخبرنَا ": أَبُو بَكْرٍ محمدٌ بْنُ دريدٍ قَالَ أخبرنَا أَبُو حاتمٍ السَجْسَتَانيّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنِ الْعُتْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قَالَ: وَلَّى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَوْحَ بْنَ زنباعٍ عملاٌ، فَبَلَغَتْهُ عَنْهُ خيانةٌ فَصَرَفَهُ وَأَمَرَهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَلَمَّا أَخَذَتْهُ السِّيَاطُ قَالَ نشدتكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَهْدِمَ مِنِّي رُكْنًا أنتَ بَنَيْتَهُ، أَوْ تَضِعَ مِنِّي خَسِيسَةً أَنْتَ رَفَعْتَهَا، أَوْ تُشْمِتَ بِي عَدُوًّا أنتَ وَقَصْتَهُ وَبِاللَّهِ إِلا أَتَى حِلْمُكَ عَلَى جَهْلِي، وَعَفْوُكَ عَلَى إِفْسَادِ صَنَائِعِكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِذَا اللَّهُ سنَّى حلَّ عقدٍ تَيَسَّرَا، خليَّا عَنهُ.

" أخبرنَا ": أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَخْفَشُ قَالَ أخبرنَا أَحْمَدُ بن يحيى ثعلبٍ عَن عَمْرو بْنِ شَبَّةَ. قَالَ: تَزَوَّجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا خولةَ بِنْتَ منظورٍ بْنِ زبانَ، فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ حَوْلا لَا تكتَحل وَلا تَتَزَيَّنُ حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ ابْنا، فَدخل عَلَيْهَا

(1/7)

وَقَدْ تَزَيَّنَتْ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالَتْ خِفْتُ أَنْ أَتَزَيَّنَ وَأَتَصَنَّعَ فَيَقُولَ النِّسَاءُ تَجَمَّلَتْ فَلَمْ تَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا، فَأَمَّا وَقَدْ جَاءَ هَذَا فَلا أُبَالِي. فلمَّا مَاتَ الْحَسَنُ جَزِعَتْ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا. فَقَالَ أَبوهَا منظورٌ:

نُبِّئْتُ خَوْلَةَ أَمْسِ قَدْ جزعت ... من أَنْ تَنُوبَ نَوَائِبُ الدَّهْرِ

لَا تَجْزَعِي يَا خَوْلُ وَاصْطَبِرِي ... إنَّ الْكِرَام بنوا على الصَّبْر

" أخبرنَا ": عَبْد اللَّه بْن مالكٍ قَالَ أخبرنَا الزبير بْن بكارٍ عَن عَمه قَالَ: مَاتَ لعَلي بن عبد الله ابنٌ فجزع عَلَيْهِ جزعا شَدِيدا، وَامْتنع من الطَّعَام وَالشرَاب ثَلَاثًا وحجب عَنهُ النَّاس، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع خرج كَاتبه إِلَى الْحَاجِب وَقَالَ ائْذَنْ للنَّاس، فَقَالَ إِنَّه قد مَنَعَنِي من ذَلِك، قَالَ ائْذَنْ لَهُم. فَأذن لَهُم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقعد الْكَاتِب فِي طريقهم وَقَالَ لَهُم، عزوا الْأَمِير وَسَلُوهُ، فَفَعَلُوا فَلم يَسلهُ شيءٌ من قَوْلهم، حتي دخل عَلَيْهِ عَمْرو بْن حفْصٍ فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، عَلَيْكُم نزل الْكتاب فَأنْتم أعرف بتأويله، ومنكم رَسُول صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فَأنْتم أعلم بسنته، ولسنا نعلمك شَيْئا نرَاك تجهله، ولكنَّا نذكرك. وَهَذِه أبياتٌ قَالَهَا بعض من أَصَابَهُ مثل مَا أَصَابَك:

(1/8)

لعمري لَئِن أتبعت عَيْنَيْك مَا مضى ... من الدَّهْر أَو سَاق الْحمام إِلَى الْقَبْر

لتستنفدنَّ مَاء الشؤون بأسرها ... وَلَو كنت تمريهن من ثبج الْبَحْر

فَقلت لعبد اللَّه إِذْ حنَّ باكيا ... تعز وَمَاء الْعين منهمر يجْرِي

تبين فَإِن كَانَ البكَا ردَّ هَالكا ... عَليّ أحدٍ فاجهد بكاك عَليّ عَمْرو

وَلَا تبك مَيتا بعد ميتٍ أجنه ... عليٌ وعباسٌ وَآل أبي بكر

وأعزيك ببيتٍ قلته:

وهون مَا ألْقى من الوجد أنني ... أجاوره فِي دَاره الْيَوْم أَو غَدا

فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَطَعِمَ هُوَ وَأَصْحَابه.

(1/9)

" وأنشدني ": ابْن دريدٍ قَالَ أَنْشدني عَبْد الرَّحْمَن بْن أخي الْأَصْمَعِي

صديقك حِين تَسْتَغْنِي كثيرٌ ... وَمَالك عِنْد فقرك من صديق

فَلَا تغْضب عَليّ أحد إِذا مَا ... طوي عَنْك الزِّيَارَة عِنْد ضيق

" أخبرنَا ": أَبُو عَبْد اللَّه نفطويه عَن أَحْمَد بْن يحيي عَنِ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ الصَّبْر مصدر صبرت، وَالصَّبْر لُغَة فِي الصَّبْر لهَذَا المر، وَالصَّبْر الْحَبْس، يُقَال صبرت فلَانا عَليّ كَذَا وَكَذَا أَي حَبسته عَلَيْهِ، وَفِي الحَدِيث أَن رجلا أمسك رجلا فَقتله آخر، فَقيل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " اقْتُلُوا الْقَاتِل واصبروا الصابر " أَي احْبِسُوهُ وَالصَّبْر الاجتراء عَليّ الشَّيْء، وَمِنْه قَول اللَّه عزَّ وجلَّ " فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ " أَي مَا أجرأهم عَلَيْهَا. وَقَالَ الْمبرد تَأْوِيله مَا دعاهم إِلَى الصَّبْر عَلَيْهَا وَأنْشد ابْن الْأَعرَابِي:

سقيناهم كأسا سقونا بِمِثْلِهَا ... ولكنَّنا كنَّا على الْمَوْت أصبرا

أيْ كنَّا أجرأ مِنْهُم عَليّ الْمَوْت فاقتحمناه: " قَالَ أَبُو الْقَاسِم ": أنشدنا أَبُو بكرٍ بْن دريدٍ قَالَ أَنْشدني عَبْد الرَّحْمَن عَن عَمه:

(1/10)

وحبٍّ كأظماء الْبَعِير كتمته ... مَعَ الْقلب لم يعلم بِهِ من ألاطف

وَإِنِّي لأكني الحبَّ حَتَّى أردَّه ... خفيَّ المرد لم تنله الزعانف

فأخفي من الوجد الَّذِي لَو أذيعه ... لحنَّت إِلَيْهِ القاصرات العفائف

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم ": أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق الزّجاج قَالَ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد عَن أبي عُثْمَان الْمَازِني عَنِ الْأَصْمَعِي قَالَ: يُقَال أربت النَّاقة بالفحل وألمت بِهِ، وعشقته، إِذا لم تَبْرَح مِنْهُ وألفته، وَمِنْه سميَ الْمُحب عَاشِقًا.

" أخبرنَا ":عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش عَن أَحْمَد بْن يحيي عَنِ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: العشقة شجرةٌ يُقَال لَهَا اللبلابة، تخضر ثمَّ تدق ثمَّ تصفر، وَمن ذَلِك اشتقاق العاشق. وَقَالَ وَيُقَال غازل الْكَلْب الظبي. إِذا عدا فِي أَثَره فَلحقه وظفر بِهِ، ثمَّ عدل عَنهُ وَمِنْه مغازلة النِّسَاء، قَالَ كَأَنَّهُ يلاعبها الرجل فتطمعه فِي نَفسهَا، فَإِذا رام تقبيلها انصرفت.

(1/11)

قَالَ أَبُو الْقَاسِم رَحمَه اللَّه: أصل المغازلة من الإدارة والفتل، لِأَنَّهُ إدارةٌ عَن أمرٍ، وَمِنْه سمي المغزل لاستدارته وسرعته فِي دورانه، وَسمي الغزال غزالا لسرعته، وَسميت الشَّمْس الغزالة لاستدارتها وسرعتها. وَأنْشد أَبُو إِسْحَاق الزّجاج:

قَالَت لَهُ وارتفقت أَلا فَتى ... يَسُوق بالقوم غزالات الضُّحَى

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: ارْتَفَعت - اتكأت.

أخبرنَا: عَبْد اللَّه بْن مالكٍ قَالَ أخبرنَا الزبير بْن بكارٍ عَن عَمه قَالَ قَالَ عَبْد اللَّه بْن مسلمٍ بْن جندبٍ: طرقني لَيْلَة بعد مَا نمت عِيسَى بْن طلحه بْن عمر ابْن عَبْد اللَّه بْن معمرٍ، فَخرجت إِلَيْهِ فَقلت مَا جَاءَ بك فِي هَذَا الْوَقْت؟ فَقَالَ إِنَّه غنتني السَّاعَة جَارِيَة ابْن حمْرَان قَوْلك:

تَعَالَوْا أعينوني عَليّ اللَّيْل إِنَّه ... عَليّ كل عينٍ لَا تنام طَوِيل

فَقلت لَهُ قضى اللَّه عَنْك الْحُقُوق يَا ابْن أخي، أَبْطَأت بالإجابة حَتَّى أَتَى الله بالفرج.

(1/12)

أنشدنا: أَبُو بكرٍ بْن دريدٍ فَقَالَ أنشدنا عَبْد الرَّحْمَن:

أرى كل من أثرى يرى ذَا مهابةٍ ... وَإِن كَانَ مذموما لئيما نقائبه.

وَمن يفْتَقر يدع الْفَقِير ويمتهن ... غَرِيبا وَيبغض أَن ترَاهُ أَقَاربه.

وَيَرْمِي كَمَا ذُو العر يَرْمِي وَيَتَّقِي ... ويجني ذنوبا كلهَا هُوَ عائبه.

أخبرنَا: ابْن دريدٍ قَالَ أَخْبرنِي عَبْد الرَّحْمَن ابْن أخي الْأَصْمَعِي عَن عَمه قَالَ: مر الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه اللَّه بِبَاب عمر بْن هُبَيْرَة وَعَلِيهِ الْقُرَّاء، فَسلم ثمَّ قَالَ مالكم جُلُوسًا قد أحفيتم شواربكم، وحلقتم رؤوسكم، وقصرتم أكمامكم، وفلطحتم نعالكم؟ أما وَالله لَو زهدتم فِيمَا عِنْد الْمُلُوك لرغبوا فِيمَا عنْدكُمْ ولكنّكم رغبتم فِيمَا عِنْدهم فزهدوا فِيمَا عنْدكُمْ فضحتم الْقُرَّاء فضحكم اللَّه. قَالَ عَبْد الرَّحْمَن قلت لِعَمِّي - مَا المفلطح - قَالَ هُوَ الشئ يعرض أَعْلَاهُ

(1/13)

ويدق أَسْفَله، وَمِنْه قيل رأسٌ مفلطحٌ، والعامة تَقول مفرطحٌ.

أخبرنَا: أَبُو محمدٍ عَبْد اللَّه بْن مالكٍ قَالَ أخبرنَا الزبير بْن بكارٍ قَالَ حَدثنِي مسلمة قَالَ كَانَ عمر بْن عَبْد اللَّه بْن أبي ربيعَة مستهاما مغرما بِالثُّرَيَّا بنت عَليّ بْن عَبْد اللَّه بْن المجرثعة بْن أُميَّة الْأَصْغَر بْن عَبْد شمسٍ بْن عَبْد منافٍ " وَكَانَت عرضة ذَلِك جمالاً وكمالاً، وَكَانَت تصيف بِالطَّائِف " فَكَانَ يبكر فَيقوم على فرسه فَيسْأَل الركْبَان الَّذين يجيئون بالفاكهة من الطَّائِف عَن الْأَخْبَار يسكن إِلَى مَا يسمعهُ من خَبَرهَا، فَسَأَلَهُمْ ذَات يومٍ عَن مغربات أخبارهم فَقَالُوا: مَا عندنَا خبرٌ إِلَّا أَنا سمعنَا عِنْد رحيلنا صياحا عَالِيا عَليّ امرأةٍ من قريشٍ اسْمهَا على اسْم نجمٍ فِي السَّمَاء قد ذهب عنَّا، فَقَالَ لَهُم عمر الثريا قَالُوا نعم، فَسَار عمر على وَجهه يعدي فرسه فروجه نَحْو الطَّائِف، وأَخذ على طَرِيق كداءٍ وَهِي أَحْزَن الطَّرِيقَيْنِ وأخصرهما حَتَّى وافى الطَّائِف فَوَجَدَهَا سليمَة قد خرجت تتشوفه وَمَعَهَا أختاها رَضِيا وَأم عُثْمَان، فَأَخْبرهَا الْخَبَر

(1/14)

فَقَالَت: أَنا وَالله أَمرتهم بذلك لأعْلم مَالِي عنْدك وَقَالَ عمر فِي وَجهه ذَلِك:

تشكي الْكُمَيْت الجري لمَّا جهدته ... وبيَّن لَو يسطيع أَن يتكلَّما

فَقلت لَهُ إِن ألْقَ للعين قُرَّة ... فهان عليَّ أَن تكلَّ وتسأما

عدمت إِذا وفري وَفَارَقت مهجتي ... لَئِن لم أقل فزنا أَن اللَّه سلَّما

لذَلِك أدني دون خيلي رباطه ... وأوصي بِهِ أَن لَا يهان ويكرما

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم ": يُقَال عدَّى الْفرس وأعداه فارسه إِذا حمله عَليّ الْعَدو وكل الرجل إِذا ضعف يكل كلا وكلالة، وَمِنْه الْكَلَالَة فِي النّسَب إِنَّمَا هُوَ من الضعْف، لِأَنَّهُ مَا عدا الْوَلَد وَالْوَالِد وَبَعض الْعلمَاء جعل الْكَلَالَة فِي قَوْله يُورَثُ كَلالَةً المتوفَّى وَبَعْضهمْ يَجعله المَال، وَأَكْثَرهم مَا بدأنا بِهِ. وَالْكل الضَّعِيف، وَالْكل الصَّنَم.

" أخبرنَا ": أَبُو بكر بْن الْحسن بن دريدٍ قَالَ أَنْشدني الرياشي:

أَلا قَاتل اللَّه الْحَمَامَة غدْوَة ... عَليّ الْفَرْع مَاذَا هيجت حِين غنَّت

(1/15)

تغنت غناء أعجميا فهيجت ... جوايَ الَّذِي كَانَت ضلوعي أجنَّت

نظرت بصحراء البريقَيْن نظرة ... حجازيَّةً لَو جنَّ طرفٌ لجنَّت

" أخبرنَا ": أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ بْن مُحَمَّد بْن عرفه عَن أَحْمَد بْن يحيي عَنِ الرياشي قَالَ سَمُرَة بْن جندبٍ: مَاتَ مُحَمَّد بْن الْحجَّاج بْن يُوسُف، فَلَمَّا انصرفنا من جنَازَته اجتزت بشيخ من بني عقيلٍ، فَقَالَ لي من أَيْن؟ فَقلت من جَنَازَة مُحَمَّد بْن الْحجَّاج بْن يُوسُف، فَأَنْشَأَ الشَّيْخ يَقُولُ:

فَذُوقُوا كَمَا ذقنا غَدَاة محجرٍ ... من الغيظ فِي أكبادنا والتَحَوب

قَالَ وَكَانَ الْحجَّاج قد قتل ابْنا للشَّيْخ.

" أنشدنا ": ابْن دريدٍ قَالَ أنشدنا أَبُو عُثْمَان عَنِ التوزي عَن أبي عُبَيْدَة لرجلٍ من بني عَبْد شمسٍ:

دَعَاني سهمٌ دَعْوَة فأجبته ... وَمن ذَا الَّذِي يُرْجَى لنائبةٍ بعدِي

فَلَو بِي بدأتم ثمَّ من قد دعوتم ... لفرَّجت عَنْكُم كلَّ نائبة جهدي

إِذا الْمَرْء ذُو الْقُرْبَى وَذُو الود أجحفت ... بِهِ نكبةٌ سلت مصيبته حقدي

(1/16)

" أخبرنَا ": أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد عَن أبي عُثْمَان الْمَازِني عَنِ الْأَصْمَعِي عَن أبي عمروٍ بْن الْعَلَاء قَالَ: قيل لرجلٍ من بكر بْن وائلٍ قد عَاشَ ثَلَاثِينَ ومائتي سنةٍ كَيفَ رَأَيْت الدُّنْيَا؟ قَالَ قد عِشْت مائَة سنةٍ لم أصدع فِيهَا، ثمَّ أصابني فِي الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَة مَا يُصِيب النَّاس.

- أخبرنَا: الْأَخْفَش عَن أَحْمَد بْن يحيي ثعلبٍ:

إِن معَاذ بْن مسلمٍ رجلٌ ... قد ضجَّ من طول عمره الْأَبَد

قد شَاب رَأس الزَّمَان واكتهل الد ... هر وأثواب عمره جدد

يَا نسر لُقْمَان كم تعيش وَكم ... تسحب ذيل الْحَيَاة يَا لبد

(1/17)

قد أَصبَحت دَار آدمَ خربَتْ ... وَأَنت فِيهَا كَأَنَّك الوتد

تسْأَل غربانها إِذا حجلت ... كَيفَ يكون الصداع والرمد

مصححٌ كالظليم ترفل فِي ... ثَوْبَيْنِ مِنْك الجبين يتقد

أدْركْت نوحًا ورضت بغلة ذِي القر ... نين شَيخا لولدك الْوَلَد

فانعم مَلِيًّا إِن غايتك المو ... ت وَإِن عز ركنك الْجلد

هَذَا الشّعْر فِيمَا ذكر أَبُو بكرٍ الصولي لسهل بْن غالبٍ الخزرجي ويكني أَبَا السّري. وأنشدنا عَنهُ لِضِرَار بن عتبَة العبشمي:

أحب الشيءَ ثمَّ أصد عَنهُ ... مَخَافَة أَن يكون بِهِ مقَال

أحاذر أَن يُقَال لنا فنخزي ... ونعلم مَا يسب بِهِ الرِّجَال

" أخبرنَا ": الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن يحيي عَنِ ابْن الْأَعرَابِي عَن أبي الْفضل عَن الرياشي عَن الْأَصْمَعِي قَالَ

(1/18)

سَمِعت شَيخا من بني العجيف يَقُولُ تمنيت دَارا فَبَقيت فِيهَا أَرْبَعَة أشهر مفكرا فِي الدرجَة أَيْن تقع. " قَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي ": وَقيل لرجلٍ من الضباب تمن، فتمني خباءٍ وقوسا فِي جلة فِي ليلةٍ مطرةٍ، وَأَن يجيءَ الْكَلْب فَيدْخل مَعَه الخباء. قَالَ أَبُو الْقَاسِم: الْقوس بَقِيَّة التَّمْر فِي الجلة، والأسّ بَقِيَّة الْعَسَل فِي وعائه أَو الْموضع الَّذِي يشتار مِنْهُ والكعب بَقِيَّة السّمن فِي النحي، والهلال بَقِيَّة المَاء فِي الْحَوْض، والشفا مقصورٌ بَقِيَّة كل شيءٍ وَيُقَال للعسل هُوَ الْعَسَل واللوص، والأري، والضحك، والسعابيب، والطريم. وَيُقَال تمني الرجل إِذا حدثَّ نفسهن وتمني إِذا سَأَلَ ربَّه، وتمني إِذا كذب. واجتاز بعض الْعَرَب بِابْن دأبٍ وَهُوَ يحدث قوما فَقَالَ لَهُ: أَهَذا

(1/19)

شيءٌ رويته أم تمنيته؟ وَيُقَال تمني الرجل إِذا تَلا الْقُرْآن، ومِنْهُ قَوْله عزَّ وجلَّ " لَا يَعْلَمُونَ الْكتاب إِلَّا أمانيَّ " وينشدك:

تمني كتاب اللَّه أول لَيْلَة ... وَآخره لَاقَى حمام المقادر

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن بْن دريدٍ قَالَ أَنْشدني عَبْد الرَّحْمَن عَن عَمه لعَلي بْن بدال من بني سليم:

لعمرك إِنَّنِي وَأَبا رياحٍ ... عَليّ حَال التكاثر مُنْذُ حِين

لأبغضه ويبغضني وَأَيْضًا ... يراني دونه وَأرَاهُ دوني

فَلَو أَنا عَليّ حجرٍ ذبحنا ... جرى الدميان بالْخبر الْيَقِين

" أخبرنَا ": أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن بْن دريدٍ قَالَ أخبرنَا أَبُو حاتمٍ السجسْتانِي عَنِ الْأَصْمَعِي قَالَ: أربعةٌ لم يلحنوا فِي جدٍ وَلَا هزلٍ؛ الشّعبِيّ، وَعبد الْملك بْن مَرْوَان، وَالْحجاج بْن يُوسُف، وَابْن الْقرْيَة، وَالْحجاج أفصحهم. قَالَ يَوْمًا لطباخه اطبخ

(1/20)

لنا مخللةً، وأَكثر عَلَيْهَا من الفيجن واعمل لنا مزعزعا فَلم يفهم عَنهُ الطباخ فَسَأَلَ بعض ندمائه فَقَالَ لَهُ: اطبخ لَهُ سكباجاً، وَأكْثر عَلَيْهَا من السذاب، واعمل لَهُ فالوذا سلسا. قَالَ وَقدم إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى سَمَكَة مشوية فَقَالَ لَهُ: خُذْهَا وَيلك فسمنها وارددها، فَلم يفهم عَنهُ فَقَالَ لَهُ نديمه: بردهَا فَإِنَّهَا حارة.

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم ": قَالَ الْأَصْمَعِي يُقَال هُوَ الفالوذ، والسر طراط والمزعزع، واللمص. فَأَما الفالوذج فَهُوَ أعجمي والفالوذق مولدةٌ " أنشدنا ": أَبُو بكرٍ بْن دريدٍ قَالَ أَنْشدني عَبْد الرَّحْمَن بْن أخي الْأَصْمَعِي:

فبتنا بِهِ ليل التَّمام بنعمةٍ ... وعيش أَنا حَتَّى جلا الصُّبْح كاشف

نقُول إِذا مَا كوكبٌ غَار ليته ... بِحَيْثُ رَأَيْنَاهُ عشَاء يُخَالف

فلمَّا هممنا بالتفرق أظهرت ... بقايا التَّحِيَّات الدُّمُوع الذوارف

أنشدنا أَبُو غانمٍ:

أَلا من لقلبٍ معرضٍ للنوائب ... رمته خطوب الدَّهْر من كل جَانب

(1/21)

تبين يَوْم الْبَين أنَّ اعتزامه ... عَليّ الصَّبْر من إِحْدَى الظنون الكواذب

" أنشدنا ": ابْن دريدٍ قَالَ أنشدنا عَبْد الرَّحْمَن عَن عَمه لبَعض القيسيين:

يَا سلم لَا أقري التَّعَذُّر نازلا ... والذم ينزل ساحة المتعذر

وَلَقَد علمت إِذا الرِّيَاح تناوحت ... أطناب بَيْتك فِي الزَّمَان الأغبر

إِنِّي لأرفع للضيوف تحيتي ... وأشب ضوءَ النَّار للمتنور

وينال بِالْمَالِ الْقَلِيل رباعتي ... قحما تضيق بهَا ذِرَاع المكثر

" أنشدنا ": أَبُو عَبْد اللَّه نفطويه قَالَ أنشدنا ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي لأشجع السّلمِيّ:

بِأَكْنَافِ الْحجاز هوى دفينٌ ... يؤرقني إِذا هدت الْعُيُون

أحن إِلَيّ الْحجاز وساكنيه ... حنين الإلف فَارقه القرين

وأبْكِي حِين ترقد كل عينٍ ... بكاء بَين زفرته أَنِين

" أنشدنا ": أَبُو الْفضل ذيمل قَالَ أَنْشدني أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ لنَفسِهِ:

أخوكَ الَّذِي أَمْسَى بحبكَ مغرما ... يَتُوب إِلَيْك الْيَوْم مِمَّا تقدَّما

فَإِن لم تصله رَغْبَة فِي إخائه ... وَلم تَكُ مشتاقاً فَصله تكرماً

(1/22)

فقد وَالَّذِي عافاك ممَّا أَبْتَلِي بِهِ ... تندَّم لَو يرضيك أَن يتندَّما

ووَالله مَا كَانَ الصدود الَّذِي مضى ... دلالا ولاَ كَانَ الْجفَاء تبرما

فَلَا تجزه بالهجر إِن صدَّ مكْرها ... وَأظْهر إعْرَاضًا وأبدي تجهما

وَلم يلهه عَنْك السلو وَإِنَّمَا ... تأخرَّ لما لم يجد مُتَقَدما

" وأنشدني أَيْضا لَهُ ":

لكل امرىءٍ ضيفٌ يسر بِقُرْبِهِ ... وَمَا لي سوي الأحزان والهم من ضيف

لَهُ مقلةٌ ترمي الْقُلُوب بأسهمٍ ... أشدَّ من الضَّرْب المدارك بِالسَّيْفِ

يَقُولُ خليلي كَيفَ صبرك بَعدنَا ... فَقلت وَهل صبرٌ فَيسْأَل عَن كَيفَ

" أخبرنَا ": أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بْن منصورٍ الْمَعْرُوف بِابْن الْخياط النَّحْوِيّ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو الْحسن بْن الطيان عَن أبي يُوسُف يَعْقُوب بْن إِسْحَاق السّكيت عَنِ الْأَصْمَعِي وَأبي زيدٍ وَغَيرهمَا بِمَا يذكر من أَسمَاء الشجاج فِي هَذَا الْفَصْل دخل كَلَام بَعضهم فِي بعضٍ: قَالُوا. الشج فِي الْوَجْه وَالرَّأْس خَاصَّة دون سَائِر الْجَسَد. وَأول الشجاج الحارصة وَهِي الَّتِي تشق الْجلد شقاً خَفِيفا وَلم يجر مِنْهَا دمٌ، وَمِنْه قيل حرص الْقصار الثوبَ إِذا شقَّه شقا خَفِيفا، ثمَّ الدامية وَهِي الَّتِي ظهر دَمهَا وَلم يسل، ثمَّ الدامعة وَهِي الَّتِي قطر دَمهَا كَمَا تَدْمَع الْعين

(1/23)

ثمَّ الباضعة وَهِي الَّتِي أخذت فِي اللَّحْم ثمَّ السمحاق وَهِي الَّتِي جَاوَزت اللَّحْم إِلَيّ الْجلْدَة الرقيقة، وَهِي الَّتِي بَين الْعظم وَاللَّحم وَتلك الْجلْدَة الرقيقة يُقَال لَهَا السمحاق وَسميت الشَّجَّة بهَا وَيُقَال للسمحاق الملطاء أَيْضا يمد وَيقصر وَمِنْه الحَدِيث " الملطاء بدمها " أَي يحكم فِيهَا لوَقْتهَا وَلَا ينظر إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ أمرهَا، ثمَّ الْمُوَضّحَة وَهِي الَّتِي خرقت السمحاق فأوضحت عَنِ الْعظم أَي أظهرته، وَثمّ المقرشة إقراشا بِالْقَافِ وَهِي الَّتِي تخرج مِنْهَا الْعِظَام وَثمّ الآمة وَيُقَال لَهَا المأمومة والأميم أَيْضا وَهِي الَّتِي بلغت أم الرَّأْس وَهِي مُجْتَمع الدِّمَاغ، وصاحبها يصعق لصوت الرَّعْد ورغاء الْإِبِل وَلَا يُمكنهُ البروز للشمس، ثمَّ الدامغة وَهِي الَّتِي تخسف الْعظم وَلَا بَقَاء لصَاحِبهَا.

" أخبرنَا ": ابْن دريدٍ عَن عَبْد الرَّحْمَن عَن عَمه:

مَا وجد أعرابيةٍ قذفت بهَا ... صروف النَّوَى من حَيْثُ لم تَكُ ظنت

تمنَّت أحاليبَ الرعاء وخيمة ... بنجدٍ فَلم يقدر لَهَا مَا تمنَّت

وسدَّ عَلَيْهَا بَاب أصهب لازمٍ ... عَلَيْهِ دقاق قربةٍ قد أبلَّت

(1/24)

إِذا ذكرت مَاء الْقَضَاء وطيبه ... وَبرد الْحَصَى من نَحْو نجدٍ أرنَّت

بأوجد من وجدٍ بريَّا وجدته ... غَدَاة غدونا غربَة وإطمأنَّت

فَإِن يَك هَذَا عهد ريَّا وَأَهْلهَا ... فَهَذَا الَّذِي كُنَّا ظننَّا وظنَّت

" أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق الزّجاج ": وَأَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَا: أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حدثتُ مِنْ غَيْرِ وجهٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ ذَاتَ يومٍ فَحَمدَ الله بِمَا هُوَ أَهله، وَصلى على أنبيائه صلوَات اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ " يَا أَيُّهَا النَّاس إنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا إِلَى مَعَالِمِكُمْ، وإنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ، فإنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ؛ أجلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا اللَّهُ فاعلٌ فِيهِ، وأجلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا اللَّهُ قاضٍ فِيهِ فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مستعتبٍ وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ دارٍ إِلا الْجنَّة أَو النَّار ".

(1/25)

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دريدٍ قَالَ أَنْشدني عَبْد الرَّحْمَن للْمُغِيرَة بن حبناء:

إِذا الْمَرْء أفْضى ثمَّ قَالَ لِقَوْمِهِ ... أَنا السَّيِّد المفضي إِلَيْهِ المعمَّم

وَلم يولهم خيرا أَبَوا أَن يسودهم ... وَهَان عَلَيْهِم رغمه وَهُوَ أظلم

" أخبرنَا ": أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ قَالَ أخبرنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ قَالَ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ. قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ذَهَبًا مَصْبُوبًا، فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ هَذَا يَعْسُوبُ الْمُنَافِقِينَ. فَقُلْتُ وَمَا مَعْنَى يَعْسُوبٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ هَذَا يَلُوذُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ كَمَا يَلُوذُ الْمُؤْمِنُونَ بِي، فَأَنَا يَعْسُوبُ الْمُؤْمِنِينَ.

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم " الزجاجي رَحمَه اللَّه: اليعسوب من النَّاس السَّيِّد واليعسوب رَئِيس النَّحْل إِذا طَار طارت مَعَه، وَإِذا حطَّ حطت.

(1/26)

وَيُقَال هِيَ النَّحْل والثول والدبر والخشرم والرضع والدخا بتَخْفِيف الْخَاء وَالْقصر واليعاسيب والنوب كُله بمعني واحدٍ وَأنْشد:

إِذا لسعته النَّحْل لم يرج لسعها ... وخالفها فِي بَيت نوب عوامل

" الرَّجَاء " هَاهُنَا بِمَعْنى المخافة. وَكَذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي معني قَول اللَّه عزَّ وجلَّ " مَا لَكُمْ لَا ترجون لله وقاراً " أَي لَا تخافون لله عَظمَة.

" أخبرنَا ": أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن مالكٍ النَّحْوِيّ قَالَ أخبرنَا الزبير بن بكرٍ قَالَ حَدثنِي سُلَيْمَان بْن عياشٍ السَّعْدِيّ " من سعد الْعَشِيرَة " قَالَ حَدَّثتنِي جمال بنت عونٍ بْن مسلمٍ عَن أَبِيهَا عَن جدها قَالَ:

(1/27)

خرجت ذَات يومٍ فَرَأَيْت رجلا أسود كالليل مَعَه امرأةٌ بَيْضَاء كاللبن، فدنوت مِنْهُ ففغمتني رَائِحَة الْمسك، فَقلت من أَنْت فَقَالَ أَنا الَّذِي أَقُول:

أَلا لَيْت شعري مَا الَّذِي تحدثا لنا ... غَدا غربَة النأي المفرق والبعد

لَدَى أم بكرٍ حِين تقذفها النَّوَى ... بِنَا ثمَّ يَخْلُو الكاشحون بهَا بعدِي

أتصرمني عِنْد الَّذين هم العدى ... فتشمتهم بِي أم تدوم عَليّ الْعَهْد

فصاحت بِهِ الْمَرْأَة لَا وَالله بل ندوم عَليّ الْعَهْد، فَسَأَلت عَنهُ فَقيل هَذَا نصيبٌ وَهَذِه أم بكرٍ.

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ محمدٌ بْنُ دريدٍ قَالَ أَنْشدني عَبْد الرَّحْمَن بن أخي الْأَصْمَعِي:

أَلا ربَّ من تَدْعُو صديقا وَلَو ترى ... مقَالَته بِالْغَيْبِ ساءَكَ مَا يفري

مقَالَته كالشهد مَا كَانَ شَاهدا ... وبالغيب مأثورٌ على ثغرة النَّحْر

(1/28)

" أخبرنَا ": أَبُو الْقَاسِم الصَّائِغ قَالَ حَدثنَا عَبْد اللَّه بْن مسلمٍ بْن قتيبةَ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: لما احْتضرَ قيس بْن عاصمٍ الْمنْقري جمع بنيه ثمَّ قَالَ: يَا بنيَّ احْفَظُوا عني فَلَا أحد أنصح لكم مني؛ إِذا أَنا مت فسودوا كبَارَكم وَلَا تسودوا صغاركم فيحقر النَّاس كباركم فتهونوا جَمِيعًا عَلَيْهِم، وَعَلَيْكُم بِحِفْظ المَال فَفِيهِ منبهةٌ للكريم ويستغني بِهِ عَنِ اللَّئِيم وَإِيَّاكُم وَمَسْأَلَة النَّاس فَإِنَّهَا آخر كسب الرجل.

" أخبرنَا ": أَبُو بكر بْن دريدٍ قَالَ أنشدنا عَبْد الرَّحْمَن عَن عَمه لرجلٍ من غطفان:

إِذا أَنْت لم تستبق ودَّ صحابةٍ على ... دخنٍ أكثرت نثَّ المعائب

وَإِنِّي لأستبقي امْرأ السوء عدَّة ... لعدوة عريض من النَّاس عَاتب

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ بْن مجاهدٍ عَن محمدٍ بْن الجهم قَالَ بَلغنِي أنَّ رجلا من خثعم فال:

(1/29)

لَو كنت أصعد فِي المكارم والعلا ... مثل التهبط كنت سيدَّ خثعم

قَالَ: فَسَاد قومة بعد مدةٍ، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

خلت الديار فَسدتْ غير مسودٍ ... وَمن العناء تفردي بالسؤدد

" حدثنَا ": مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دريدٍ قَالَ أخبرنَا أَبُو حاتمٍ سهل بْن محمدٍ عَنِ الْأَصْمَعِي عَن أبي عمروٍ بْن الْعَلَاء قَالَ: قيل لرجلٍ من بني بكر بْن وائلٍ قد كبر حَتَّى ذهبت مِنْهُ لَذَّة المأكل وَالْمشْرَب وَالنِّكَاح، أَتُحِبُّ أَن تَمُوت؟ قَالَ لَا قيل لَهُ فَمَا بَقِي من لذتك فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ أسمع بالعجائب. وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

وَهلك الْفَتى أَن لَا يراح إِلَيّ الندى ... وَأَن لَا يرى شَيْئا عجيبا فيعجبا

معني " يراح " يرتاح، ومعني الْكَلَام وَأَن لَا يعجب إِذا رأى الْعجب.

" أخبرنَا ": مُحَمَّد بْن الْحسن قَالَ أخبرنَا أَبُو حاتمٍ عَنِ الْأَصْمَعِي قَالَ قَالَ رؤبة فِي نعت الْخَيل وأخطأَ، قَالَ فِي وصف القوائم:

(1/30)

بأربعٍ لَا يعتلقن العفقا ... يهوين مثنى ويقعن وفقا

فَقَالَ لَهُ سلمٌ: هَذَا خطأ، هَذَا يضبر، أتجعله يضرح بِرجلِهِ ويسبح بِيَدِهِ!! هلا كَمَا قَالَ أَبُو النجمِ:

يسبحُ أولاه ويطفو آخرهْ ... فَمَا يمس الأرضَ مِنْهُ حافرهْ

فَقَالَ: أَي بنيَّ لَا علم لي بِالْخَيْلِ، وَلَكِن أدنى من ذَنْب الْبَعِير. قَالَ الْأَصْمَعِي: فأدنى مِنْهُ فَلم يصنعْ شَيْئا " أخبرنَا ": أَبُو بكر بْن دريدٍ قَالَ أنشدنا عَبْد الرَّحْمَن عَن عمِّهِ للمستنيرِ ابْن طلبه أحد بني قشيرٍ:

أعاتب ليلى إِنَّمَا الصرم أَن ترى ... خَلِيلك يَأْتِي مَا أُتِي لَا تعاتبه

وَمَا أهل ليلِي من صديقٍ فينفعوا ... وَمَا أهل ليلِي من عدوٍ تجانبه

وَيُوَلُّونَ حقدا كَانَ بيني وَبينهمْ ... قَدِيما كَمَا يستوعب الدرَّ حالِبه

(1/31)

وَذي حنقٍ بادٍ عليَّ تركته ... كذي العرى يستدمي من الطير غاربه

" أخبرنَا ": عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش عَن أَحْمَد بْن يحيي ثَعْلَب عَن ابْن شبة قَالَ: رُوِيَ عَن هِشَام بن عُرْوَة أنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن أبي بكرٍ الصّديق رَحمَه الله دخل دمشق فِي الْجَاهِلِيَّة، فَرَأى جَارِيَة كأنَّها مهرةٌ عربيةٌ حواليها جوارٍ يفدينها ويحلفن برأسها ويقلنَ لَا وَحقّ ابْنة الجودي، فَوَقَعت بِقَلْبِه فَانْصَرف عَنْهَا وَأَنْشَأَ يَقُول:

تذكر ليلى والسماوة دونهَا ... وَمَا لابنَة الجودي ليلِي وَمَا ليَا

وَكَيف تَعْنِي قلبه حارثيةٌ ... تدمن بَصرِي أَو تحل الحوَافيَا

وَكَيف تلاقيها يَلِي ولعلَّهَا ... إِن النَّاس وافوا موسما أَن توافيَا

فمازال يشبب بهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خلَافَة عمر رَحمَه الله وَأرْسل إِلَى الشَّام قَالَ

(1/32)

لَهُم: إِن افتتحتم دمشق فادفعوا ابْنة الجودي إِلَى ابْن أبي بكرٍ، فأعطيها فآثرها على نِسَائِهِ حَتَّى شكونه إِلَى عَائِشَة، فعاتبته على ذَلِك فَقَالَت لَهُ إنَّ لنسائك عَلَيْك حَقًا؟ فَقَالَ كَأَنَّمَا أترشف برضابها حبَّ الرُّمَّان.

" حَدثنَا ": مُحَمَّد بن قاسمٍ الْأَنْبَارِي قَالَ حَدثنِي أبي عَن أَحْمَد بْن الْحَارِث عَنِ الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ عمر بْن عَبْد الْعَزِيز رَحمَه اللَّه يَقُولُ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة ووافت الرّوم بقياصرها، وَالْفرس بأكاسرتها، جِئْنَا بالحجاج فَكَانَ عدلا لَهُم.

" أخبرنَا ": أَحْمَد بْن الْحُسَيْن بْن شقيرٍ قَالَ حدثنَا أَحْمَد بْن يحيي ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: يُقَال نقع فلانٌ فلَانا بِعَيْنِه، وزلفه بهَا، وزلفه وأزلفه وشقذه وشوهه. وكل ذَلِك إِذا أَصَابَهُ بِعَيْنِه، ويَقُول الرجل لصَاحبه إِذا أَجَاد فِي عملهِ لَا تشوّهْ عَليّ أَي لَا تقل لي أجدتَ فتصيبني بِعَيْنِك

(1/33)

وَيُقَال رجلٌ معينٌ إِذا أُصِيب بِالْعينِ، ورجلٌ معيونٌ إِذا كَانَ فِيهِ عينٌ وَيُقَال رجلٌ شائهٌ وشاهٍ ومشوهٌ وشقذٌ وشقذانٌ إِذا كَانَ شَدِيد الإصابةِ بِالْعينِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَتَسَايَرَانِ، فَأَبْصَرَا رَاكِبًا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هُوَ فلانٌ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هُوَ فلانٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَاهُ كَانَ الَّذِي قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ يَا أَبَا بكرٍ مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْحِدَّةَ مَعَ الْكِبَرِ! قَالَ بُرِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَكَتَ فَقَالَ لَهُ الثَّانِيَةَ بُرِكَ فَسَكَتَ، وَضَحِكَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. مَا أَحْسَنَ هَذِه الثنايا وأطرى هَذَا الْوَجْهَ مَعَ طُولِ الْعُمُرِ وَكَثْرَةِ الْهُمُومِ!! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بُرِكَ فَسكت يَقُول ثَلاثًا وَيَسْكُتُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. ثُمَّ افْتَرقَا، فاشتكى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَيْنَيْهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى ذِهَابِهِمَا، وَسَقَطَتْ ثَنَايَا مُعَاوِيَةَ، فَالْتَقَيَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بكرٍ أَنا أشوى مِنْكَ " أَيْ أَكْثَرُ حَظًّا مِنْكَ " فِي الإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ وَأَنَا أَقَلُّ ضرراٌ مِنْكَ. قَالَ ثَعْلَب: هُوَ من قَوْلهم رَمَاه فأشواه إِذا لم يصب مَقْتَله

(1/34)

" أخبرنَا ": أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِم الْأَنْبَارِي عَن أَبِيه عَن بعض شُيُوخه عَن مُحَمَّد بْن خازمٍ " وكَانَ شَاعِرًا ظريفا " قَالَ: دَعَانَا بشار بْن برد وَكَانَت عِنْده قينتان تُغنيَانِ، فَكَانَ فِي الْمجْلس من يعبث بهما ويمد يَده إِلَيْهِمَا فأنفتْ لَهُ من ذَلِك فَكتبت إِلَيْهِ من الْغَد:

إتَّق اللَّه أَنْت شَاعِر قيسٍ ... لَا تكن وصمة عَليّ الشعراءِ

إِن إخوانك المقيمين بِالْأُمِّ ... س أَتَوا للزناءِ لَا للغناءِ

أَنْت أعمي وللزناة هناتٌ ... منكراتٌ تخفي عَليّ البصراء

هبك تستسمع الحَدِيث فَمَا علم ... ك فِيهِ بالغمز والإيماء

والإشارات بالعيون وبالأي ... دي وَأخذ الْمعَاد للإلتقاءِ

قطعُوا أَمرهم وَأَنت حمارٌ ... موقرٌ من بلادةٍ وغباءِ

قَالَ فأدخلهما السُّوق فباعهما.

" أخبرنَا ": أَبُو عِيسَى محمدٌ بْن أَحْمَد بْن قطنٍ السمسار الْعجلِيّ قَالَ أخبرنَا

(1/35)

أَبُو جعفرٍ بْن أبي شَيْبه قَالَ رَأَيْت أَبَا الْعَتَاهِيَة فِي الْمَقَابِر قَائِما وَهُوَ يَقُولُ:

أهل الْقُبُور أتيتكم أتحسَّس ... فَإِذا جماعتكم أَصمّ وأخرس

إنَّ إمرءاً ذكر الْمعَاد فخافه ... لأحظ مِمَّن لم يخفه وأكيس

يَا أَيهَا الرجل الْحَرِيص أما ترى ... أَعْلَام عمرك كلَّ يومٍ تدرس

بك لَا أبالك مذ خلقت موكلا ... ملكٌ يعد عَلَيْك مَا تتنفس

فَإِذا انْقَضى الْأَجَل الَّذِي أجلته ... وَمضى فمالك بعد ذَلِك محبس

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم " الزجاجي رَحمَه الله: قَالَ لي أَبُو عِيسَى سَمِعت شُيُوخنَا يَقُولُونَ إنَّ ابْن آدم يتنفس فِي كل يومٍ وليلةٍ أَرْبَعَة وعشرينَ ألف نفسٍ، فِي كل ساعةٍ ألف نفس، فَيكون خُرُوج روحِهِ معَ آخر نفسٍ قدر لَهُ.

" أخبرنَا ": أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ بْن محمدٍ بْن عرفه نفطويه قَالَ حدثنَا إِسْحَاق بْن الْحُسَيْن بْن ميمونٍ أَبُو يعقوبٍ الْحَرْبِيّ قَالَ حدثنَا الْحُسَيْن بْن محمدٍ عَن شَيبَان عَن قَتَادَة فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ " أَمْ نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا

(1/36)

الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار " قَالَ افترق الْقَوْم فِي أديانهم فافترقوا عِنْد الْمَمَات وَعند الْمصير.

" أخبرنَا ": إِبْرَاهِيم بْن محمدٍ قَالَ حدثنَا إِسْحَاق بْن الْحُسَيْن عَنِ الْحُسَيْن ابْن محمدٍ عَن شَيبَان عَن قَتَادَة فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ " أَو يَأْخُذهُمْ على تخوفٍ " قَالَ عَليّ تنقصٍ.

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم " رَحمَه اللَّه: وأصحابنا يَقُولُونَ إِن الْأَخْفَش سعيد بْن مسْعدَة كَانَ ينشد شَاهدا لهَذَا الحرفِ:

تخوف السّير مِنْهَا تامكا قردا ... كَمَا تخوف عود النبعةِ السفن

وَعلي هَذَا التَّأْوِيل أهل اللُّغَة والمفسرون إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاك فإنَّه كَانَ يَقُول تَأْوِيله أَنه يبلي قوما فيخوف بهم آخَرين.

" أنشدنا ": نفطويه عَن ثعلبٍ عَنِ ابْن الْأَعرَابِي لعراعر الْمَازِني:

قَالَت سليمي وَهِي ذَات أَقْوَال ... أَفْلح عَيْش مثل عَيْش الْجمال

يَا سلم يَا ذَات الوشاح الجوال ... والمعصم الفعم الروي المغتال

(1/37)

يرميك من جالٍ إِلَيّ ضوج جالٍ ... ورد همومٍ طرفتْ ببلبال

وظلم ساعٍ وأمير مقتالٍ ... يَأْخُذ مِنْك المَال من بعد المَال

حتي يظلَّ الشَّيْخ بعد الإرمال ... يغص بالعذب النقاخ السلسال

فِي كلب القر وَيَوْم هتال ... يمهن فِي جمازةٍ وسربال

محفوفة الْكمّ وسحق هلهال

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم " الزجاجي رَحمَه اللَّه: - المغتال - الَّذِي قد غاص فِي شحمها وَيُقَال فِي غير هَذَا: اغتالته غول إِذا أهلكته - والفعم - الممتلئ، وَيُقَال فِي صِفَات الْمَرْأَة هِيَ عطشي الوشاح ريا الخلخال وَيُقَال رميت الشَّيْء من يَدي وأرميته عَن الْفرس وَغَيره إرماءً، والضوج جَانب الْبِئْر وَنَحْوه وَكَذَلِكَ الجال والساعي صَاحب الصَّدقَات والمقتال الْمُخْتَار يُقَال اقتلت الشَّيْء إِذا اخترته، وَحكى ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي انه يُقَال اقتلت شَيْئا بِشَيْء إِذا أبدلته وَهُوَ نادرٌ شاذٌ. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُولُ لآخر: ادخل بغلامك هَذَا السُّوق فَاقْتُلْ بِهِ غَيره، أَي أستبدل بِهِ. والارمال الْفقر ونفاد الزَّاد وَالْمَاء والنقاخ العذب والجمازة جُبَّة الملاح، وَهِي قَصِيرَة بِلَا كمين والمهنة، الْخدمَة يُقَال مهن الرجل يمهن ويمهن مهنة إِذا خدم فَهُوَ ماهنٌ ومهن فَهُوَ مهينٌ إِذا هان فِي نَفسه وخسَّ.

(1/38)

" أخبرنَا ": عليٌ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ: لما توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد وانتهي الْأَمر إِلَيّ الْأمين، كَانَ أَبُو نواسٍ فِي حبس الرشيد فَكتب إِلَيّ الْفضل بْن الرّبيع:

تعزَّ أَبَا الْعَبَّاس عَن خير هَالك ... بِأَفْضَل حيٍ كَانَ أَو هُوَ كائنٌ

حوادث أيامٍ تَدور صروفها ... لَهُنَّ مساوٍ مرّة ومحاسن

وَفِي الْحَيّ بِالْمَيتِ الَّذِي ضمن الثرى ... فَلَا أَنْت مغبونٌ وَلَا الْمَوْت غابن

فَدخل عَليّ الْأمين فاستوهبه مِنْهُ فَخَلَّاهُ، وَسَهل لَهُ الطَّرِيق إِلَى الدُّخُول إِلَيْهِ

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن بْنِ دريدٍ قَالَ أخبرنَا الْمَكِّيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي خالدٍ عَنِ الْهَيْثَمِ قَالَ أخبرنَا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خرجت مَعَ أناسٍ من قريشٍ فِي تجارةٍ إِلَى الشَّامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنِّي فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهَا إِذَا ببطريقٍ قَدْ قَبَضَ عَلَى عُنُقِي، فَذَهَبْتُ أُنَازِعُهُ فَقِيلَ لي

(1/39)

لَا تَفْعَلْ فإنَّه لَا نِصْفَ لَكَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَنِي كَنِيسَةً فَإِذَا ترابٌ عَظِيمٌ مُلْقًى، فَجَاءَنِي بزنبيلٍ ومجرفةٍ فَقَالَ لِي انْقِلْ مَا هَاهُنَا فَجَلَسْتُ أَمْثُلُ أَمْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَلَمَّا كَانَ فِي الْهَاجِرَةِ جَاءَنِي وَعَلِيهِ سبنيةٌ أَرَى سَائِرَ جَسَدِهِ مِنْهَا، فَقَالَ إِنَّكَ عَلَى مَا أَرَى مَا نَقَلْتَ شَيْئًا، ثُمَّ جَمَعَ يَدَيْهِ وَضَرَبَ بِهِمَا دِمَاغِي، فَقُلْتُ وَاثَكْلَ أُمِّكَ يَا عُمَرَ أَبَلَغْتَ مَا أَرَى؟! ثُمَّ وَثَبْتُ إِلَى الْمِجْرَفَةِ فَضَرَبْتُ بِهَا هَامَّتَهُ، ثُمَّ وَارَيْتُهُ فِي التُّرَابِ وَخَرَجْتُ عَلَى وَجْهِي لَا أَدْرِي أَيْنَ أَسِيرُ، فَسِرْتُ بَقِيَّةَ يَوْمِي وَلَيْلَتِي وَمِنَ الْغَدِ إِلَى الْهَاجِرَةِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى دَيْرٍ فَاسْتَظْلَلْتُ فِي فِنَائِهِ، فَخَرَجَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا يقعدك هَاهُنَا؟ فَقُلْتُ أَضْلَلْتُ أَصْحَابِي، فَقَالَ مَا أَنْتَ عَلَى طريقٍ وَإِنَّكَ لَتَنْظُرُ بِعَيْنَيِّ خائفٍ فَادْخُلْ فَأَصِبْ مِنَ الطَّعَامِ وَاسْتَرِحْ، فَدَخَلْتُ فَأَتَانِي بطعامٍ وشرابٍ وَأَلْطَفَنِي ثُمَّ صعّدَ إِلَيَّ النّظر وَصَوَّبَهُ فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَوِ الْكُتُبِ أَنَّهُ مَا عَلَى الأَرْضِ أَعْلَمُ بِالْكِتَابِ أَوِ الْكُتُبِ مِنِّي، وَإِنِّي لأَجِدُ صِفَتَكَ الصِّفَةَ الَّتِي تُخْرِجُنَا مِنْ هَذَا الدَّيْرِ وَتَغْلِبُنَا عَلَيْهِ، فَقُلْتُ يَا هَذَا لَقَدْ ذَهَبْتَ فِي غَيْرِ مذهبٍ فَقَالَ لِي مَا اسْمُكَ فَقُلْتُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَنْتَ وَاللَّهِ صَاحِبُنَا، فَاكْتُبْ عَلَى دَيْرِي هَذَا وَمَا فِيهِ. فَقُلْتُ لَهُ يَا هَذَا إِنَّك قد صنعت إليّ صَنِيعَةً فَلا تُكَدِّرْهَا فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ كِتَابٌ فِي رقٍ، فَإِنْ كُنْتَ صَاحِبَنَا فَذَاكَ وَإِِلا لَمْ يضرَّكَ شيءٌ فَكَتَبْتُ لَهُ عَلَى دَيْرِهِ وَمَا فِيهِ، وَأَتَانِي بثيابٍ ودراهم فَدَفعهَا إليَّ. ثُمَّ أَوْكَفَ أَتَانًا وَقَالَ لِي أَتَرَاهَا قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ سِرْ عَلَيْهَا فانَّك لَا تمر

(1/40)

عَلَى قومٍ إِلا سَقَوْهَا وَعَلَفُوهَا وَأَضَافُوكَ، فَإِذَا بَلَغْتَ مَأْمَنَكَ فَاضْرِبْ وَجْهَهَا مُدْبِرَةً فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ بِهَا كَذَلِكَ حَتَّى تَرْجِعَ إليَّ. قَالَ فَرَكِبْتُهَا حتَّى لَحِقْتُ أَصْحَابِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ فَلَمَّا وَافَى عُمَرُ الشَّامَ فِي خِلافَتِهِ جَاءَهُ ذَلِكَ الرَّاهِبُ بِالْكتاب وَهُوَ صَاحب دَيْرِ عَدْسٍ، فلمَّا رَآهُ عَرَفَهُ ثُمَّ قَالَ: قَدْ جَاءَ مَا لَا مَذْهَبَ لِعُمَرَ عَنْهُ، ثمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فحدثَّهم بِحَدِيثِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ أَقْبَلَ عَلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِنْ أَضَفْتُمُ الْمُسْلِمِينَ وَمَرَّضْتُمُوهُمْ وَأَرْشَدْتُمُوهُمْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، قَالَ نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَوَفَّى لَهُ عمر.

" أخبرنَا ": أَبُو غانمٍ قَالَ أخبرنَا أَبُو خَليفَة عَن مُحَمَّد بْن سَلام عَن يُونُس ابْن حبيبٍ قَالَ: كَانَ يزِيد بْن رَبِيعه بْن مفرغٍ رجلا من يحصب وَكَانَ عديداً لأسيد بن الْعيص بْن أُميَّة وَكَانَ منزلَة الْبَصْرَة، وَكَانَ هجاء مقداما عَليّ الْمُلُوك فصحب عباد بْن زيادٍ وَعباد عَليّ سجستان من قبل عبيد اللَّه بْن زيادٍ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة بْن أبي سُفْيَان، فهجا عبادا فَبَلغهُ وَكَانَ عَليّ ابْن

(1/41)

مفرغٍ دينٌ فاستعدى عَلَيْهِ عباد فَبَاعَ عَلَيْهِ رَحْله ومتاعه وَقضى الْغُرَمَاء، وَكَانَ فِيمَا بيع لَهُ عبدٌ يُقَال لَهُ بردٌ، وجاريةٌ يُقَال لَهَا أراكة فَقَالَ ابْن مفرغٍ:

أصرمت حبلك من أَمَامه ... من بعد أيامٍ برامه

لهفي عَليّ الرَّأْي الَّذِي ... كَانَت عواقبه ندامه

تركي سعيدا ذَا الندى ... وَالْبَيْت ترفعه الدعامه

وتبِعت عبد بنى علا ... جٍ تِلْكَ أَشْرَاط الْقِيَامَة

جَاءَت بِهِ حبشيةٌ ... سكاء تحسبها نعَامَة

من نسْوَة سودٍ الوجو ... هـ ترى عليهنَّ الدمامه

وشريت بردا لَيْتَني ... من بعد برد كنت هامه

(1/42)

أَو بومة تَدْعُو صدى ... بَين المشقر واليمامةْ

العَبْد يقرع بالعصا ... وَالْحر تكفيه الملامةْ

الرّيح تبْكي شجوها ... والبرق يلمع فِي غمامةْ

ورمقتها فَوَجَدتهَا ... كالضلع لَيْسَ لَهُ استقامةْ

" قَالَ ": ثمَّ إنَّ ابْن مفرغٍ صَار إِلَيّ الْبَصْرَة، فَاسْتَجَارَ جمَاعَة من بني زيادٍ فَلم يجره مِنْهُم أحدٌ إِلَّا الْمُنْذر بْن الْجَارُود، فَدخل عبيد اللَّه بْن زيادٍ عَليّ مُعَاوِيَة فَقَالَ: إِن ابْن مفرغٍ قد آذَانا فائذن لنا فِي قَتله، فَقَالَ لَا وَلَكِن مَا دون الْقَتْل. فَبعث فتناوله من دَار الْمُنْذر بْن الْجَارُود وَلم يُمكنهُ الدّفع عَنهُ فعاقبه معاقبه شَدِيدَة، ثمَّ أسلمه إِلَيّ الحجامين ليعلموه الْحجامَة فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

وَمَا كنت حجاما وَلَكِن أحلني ... بِمَنْزِلَة الْحجام نأتي عَن الأَصْل

" أنشدنا ": أَبُو بكر بْن الْأَنْبَارِي قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيي ثَعْلَب:

سل اللَّه صبرا واعترف لفراقهم ... عَسى بعد بينٍ أَن يكون تلاقٍ

(1/43)

أَلا لَيْتَني قبل الْفِرَاق وَبعده ... سقاني بكأسٍ للمنية ساقٍ

" أنشدنا ": نفطويه قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى:

ومَا فِي الأَرْض أشقي من محبٍ ... وَإِن وجد الْهوى حلوَ المذاقِ

ترَاهُ باكيا أبدا حَزينًا ... مَخَافَة فرقةٍ أَو لاشتياق

فيبكي إِن نأوا شوقاً إِلَيْهِم ... ويبكي إِن دنوا خوف الْفِرَاق

فتسخن عينه عِنْد التنائي ... وتسخن عينه عِنْد التلاق

" أخبرنَا ": أَبُو غَانِم الْمَعْنَوِيّ قَالَ أخبرنَا أَبُو خَليفَة الْفضل بْن الْحباب الجُمَحِي عَن مُحَمَّد بْن سلامٍ عَنِ الْفضل بْن عباسٍ الْهَاشِمِي قَالَ: دخلت مَسْجِد الرَّسُول صلي اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا أَنا بنصيبٍ الشَّاعِر، فَقلت لَهُ من أَنْت يَرْحَمك اللَّه فَمَا أَدْرِي مِمَّا أعجب أَمن شدَّة بريق سَواد وَجهك، أم من نظافة ثَوْبك، أم من طيب رائحتك!! قَالَ: أَنا نصيبٌ الشَّاعِر،

(1/44)

فَقلت فَلم لَا تهجو كَمَا تمدح وَقد أقرَّت الشُّعَرَاء لَك فِي الْمَدْح، قَالَ تراني لَا أحسن أَقُول مَكَان عافاه اللَّه أَخْزَاهُ الله، ولكنى أدعُ الهجاء لخلتين؛ إِمَّا لأهجو كَرِيمًا فأهتك عرضه، وَإِمَّا أهجو لئيماً لطلب مَا عِنْده، فنفسي أَحَق بالهجاء إِذْ سَوَّلت إِلَى لئيم. قَالَ ثمَّ إِن بني عَم مَوْلَاهُ اجْتَمعُوا إِلَيّ مَوْلَاهُ فَقَالُوا إِن عَبدك هَذَا قد نبغ بقول الشّعْر، وَنحن مِنْهُ بَين شرتين؛ إِمَّا أَن يهجونا فيهتك أعراضنا، أَو يمدحنا فيشبب بنسائنا، وَلَيْسَ لنا فِي شيءٍ من الخلتين خيرةٌ فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: يَا نصيب أَنا بائعك لَا محَالة، فاختر لنَفسك. فَسَار إِلَيّ عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان بِمصْر فَدخل إِلَيْهِ فِي زوَّاره فأنشده:

لعبد الْعَزِيز عَليّ قومه ... وَغَيرهم مننٌ ظاهرهٌ

فبابك أسهل أَبْوَابهم ... ودارك مأهولةٌ عامره

وكلبك أرأف بالزائر ... ين من الْأُم بابنتها الزائره

وكفك حِين ترى المعتف ... ين أثرى من اللَّيْلَة الماطره

(1/45)

فمنك الْعَطاء ومنَّا الثَّنَاء ... بكلِّ محبرةٍ سائرةْ

فَأمر لَهُ بِأَلف دينارٍ، فَقَالَ أصلحك الله إِلَى عبدٌ ومثلي لَا يَأْخُذ الجوائز قَالَ فَمَا شَأْنك؟ فخبره بِحَالهِ، فَقَالَ لوَكِيله: اذْهَبْ بِهِ إِلَيّ بَاب الْجَامِع فَنَادِ عَلَيْهِ، فَإِذا بلغ الْغَايَة فعرفني بِهِ فَذهب بِهِ فَنَادَى عَلَيْهِ من يُعْطي لعبدٍ أسود جلدٍ قَالَ رجلٌ هُوَ على بِخَمْسِينَ دِينَارا، فَقَالَ نصيبٌ قُولُوا على أَن أبري القسىَّ، وأريش السِّهَام، وأحتجر الأوتار، فَقَالَ هُوَ عليَّ بِمِائَتي دينارٍ. قَالَ قُولُوا عَليّ أَن أرعى الْإِبِل وأمريها، وأقضقضها وأصدرها، وأوردها وأرعاها وأرعيها. قَالَ رجلٌ هُوَ عليَّ بِخَمْسِمِائَة دينارٍ، قَالَ نصيبٌ قُولُوا عَليّ عربيٍ شاعرٍ، لَا يوطىء وَلَا يقوى وَلَا يساند. قَالَ رجلٌ هُوَ عليَّ بِأَلف دينارٍ فَسَار بِهِ إِلَيّ عَبْد الْعَزِيز فخبره بِحَالهِ، فَلم يزل فِي جملَته إِلَى أَن

(1/46)

احْتضرَ، فأوصى بِهِ سُلَيْمَان خيرا فصيره فِي جملَة سماره، فَدخل الفرزدق ذَات يومٍ عَليّ سُلَيْمَان فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا فراسٍ أَنْشدني، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن ينشده مديحا فِيهِ فَأَنْشَأَ الفرزدق يَقُولُ:

وركبٍ كأنَّ الرّيح تطلب عِنْدهم ... لهاترةً من جذبها بالعصائب

سروا يركبون الرّيح وَهِي تلفهم ... إِلَيّ شعبٍ الأكوار ذَات الحقائب

إِذا أبصروا نَارا يَقُولُونَ ليتها ... وَقد خصرت أَيْديهم نَار غَالب

فتمعر سُلَيْمَان واربد لما ذكر الفرزدق غَالِبا، فَوَثَبَ نصيبٌ فَقَالَ أَلا أنْشدك على روية مَا لَا يقصر عَنهُ:

أَقُول لركبٍ صادرين تَركتهم ... قفا ذَات أوشالٍ ومولاك قَارب

(1/47)

قفوا خبروني عَن سُلَيْمَان إِنَّنِي ... لمعروفه من آل ودان طَالب

فعاجوا فَأَثْنوا بِالَّذِي أَنْت أَهله ... وَلَو سكتوا أثنت عَلَيْك الحقائب

فَقَالَ للفرزدق كَيفَ ترى شعره فَقَالَ هُوَ أشعر أهل جلدته. قَالَ سُلَيْمَان: وَأهل جلدتك، ثمَّ قَالَ يَا غُلَام اعطِ نَصِيبا خَمْسمِائَة دينارٍ، وللفرزدق نَار أَبِيه. فَوَثَبَ الفرزدق وَهُوَ يَقُولُ:

وَخير الشّعْر أشرفه رجَالًا ... وَشر الشّعْر مَا قَالَ العبيد

قَالَ أَبُو غانمٍ الْمَعْنَوِيّ معنى بَيت نصيبٍ الْأَخير مأخوذٌ من قَول حَاجِب ابْن زُرَارَة بْن عدسٍ:

أغرَّكم أَنِّي بِأَحْسَن شيمتي ... رفيقٌ وَأَنِّي بالفواحش أخرق

ومثلي إِذا لم يجزَ أحسن صنعه ... تكلم نعماه بِفِيهِ فَتَنْطِق

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبرنِي عمِّي عَن ابْن الْكَلْبِيّ. قَالَ وَأَخْبرنِي بِهِ أَبُو حاتمٍ عَن أبي عبيده قَالَا: خرج سامة بْن لؤيٍ ابْن غالبٍ من مَكَّة حَتَّى نزل بعمان وَأَنْشَأَ يَقُول:

(1/48)

بلغَا عَامِرًا وكعبا رَسُولا ... أنَّ نَفسِي إِلَيْهِمَا مشتاقه

إِن تكن فِي عمان دَاري فَإِنِّي ... ماجدٌ مَا خرجت من غير فاقه

فَمَا برح يسير حتَّى نزل على رجلٍ من الأزد، فقراه وَبَات عِنْده، فلمَّا أصبح قعد يستن، فَنَظَرت إِلَيْهِ زَوْجَة الأزديِّ فأعجبها، فَلَمَّا رمى قضمة سواكه أَخَذتهَا فمصتها، فَنظر إِلَيْهَا زَوجهَا فَحلبَ نَاقَة وَجعل فِي حلابها سما وَقدمه إِلَى سامة، فغمزته الْمَرْأَة فهراق اللَّبن وَخرج يسير، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي موضعٍ يُقَال لَهُ جَوف الخميلة هوت نَاقَته إِلَى عرفجةٍ فانتشلتها وفيهَا أَفْعَى، فنفحتها فرمت بهَا على سَاق سامة فنهشتها فَمَاتَ، فَقَالَت الْأَزْدِيَّة حِين بلغَهَا أمره تبكيه:

عينٌ بَكَى لسامة بْن لؤَي ... علقت سَاق سامة العلاقه

(1/49)

لَا أرى مثل سامة بْن لؤيٍ ... حملت حتفه إِلَيْهِ النَّاقة

ربَّ كأسٍ هرقت يَا ابْن لؤىٍ ... حذر الْمَوْت لم تكن مهراقه

وعدوسِ السرى تركت رذيا ... بعد جدٍ وجرأةٍ ورشاقه

وتعاطيت مفرقاً بحسامٍ ... وتجنبت قالة العواقة

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم ": عبد الرَّحْمَن بن اسحق أخبرنَا أَحْمَد بْن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن شقير النَّحْوِيّ وَعلي بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَا: أخبرنَا أَحْمَد ابْن يحيى ثعلبٌ قَالَ: كَانَ الْكسَائي والأصمعي بِحَضْرَة الرشيد، وَكَانَا ملازمين لَهُ يقيمان بإقامته ويظعنان بظعنه فَأَنْشد الْكسَائي:

(1/50)

أَنى جزوا عَامِرًا سوآى بفعلهم ... أم كَيفَ يجزونني السوآى من الْحسن

أم كَيفَ ينفع مَا تُعْطِي الْعلُوق بِهِ ... رئمان أنفٍ إِذا مَا ضنَّ بِاللَّبنِ

فَقَالَ الْأَصْمَعِي: إِنَّمَا هُوَ رئمان أنف بِالنّصب. فَقَالَ لَهُ الْكسَائي: اسْكُتْ مَا أَنْت وَذَاكَ يجوز رئمان أنفٍ، ورئمان أنفٍ، ورئمان أنفٍ. بِالرَّفْع وَالنّصب والخفض. أما الرّفْع فعلى الرَّد على مَا لِأَنَّهَا فِي مَوضِع رفعٍ بينفع، فَيصير التَّقْدِير أم كَيفَ ينفع رئمان أنفٍ. وَالنّصب بتعطي، والخفض على الرَّد على الْهَاء الَّتِي فِي بِهِ. قَالَ فَسكت الْأَصْمَعِي وَلم يكن لَهُ علمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ صَاحب لغةٍ لم يكن صَاحب إعرابٍ.

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم رَحمَه اللَّه ": معنى هَذَا الْبَيْت أَنه مثلٌ يضْرب لمن يعدك بِلِسَانِهِ كلَّ جميلٍ وَلم يفعل مِنْهُ شَيْئا، لِأَن قلبه منطوٍ على ضِدّه. كأنَّه قيل لَهُ كَيفَ يَنْفَعنِي قَوْلك الْجَمِيل إِذا كنت لَا تفي بِهِ؟ وَأَصله أنَّ الْعلُوق هِيَ النَّاقة الَّتِي تفقد وَلَدهَا بنحرٍ أَو موتٍ، فيسلخ جلده ويحشى تبنا وَيقدم إِلَيْهَا لترأمه " أَي تعطف عَلَيْهِ " ويدر لَبنهَا فينتفع بِهِ، فَهِيَ تشمه بأنفها وينكره قَلبهَا فتعطف عَلَيْهِ وَلَا ترسل اللَّبن فشبَّه ذَلِك بِهَذَا.

(1/51)

" حَدثنِي ": أَبُو الْحسن بْن الْبَراء قَالَ حَدثنِي صَدَقَة بْن مُوسَى قَالَ: كَانَ فِي جوارنا رجلٌ اسْمه حمارٌ، فَتزَوج امْرَأَة من ولد دَارا فَحسن موقعها مَعَه فَقَالَت لَهُ أحب أَن تغير أسمك، فَقَالَ لَهَا أفعل. ثمَّ قَالَ لَهَا قد تسميت بغلا فَقَالَت لَهُ: هُوَ أحسن من ذَاك ولكنَّك بعد فِي الإصطبل!! " أَنْشدني ": الكركي قَالَ أَنْشدني ابْن أبي الدُّنْيَا قَالَ أَنْشدني حسن بن عَبْد الرَّحْمَن القَاضِي:

وَذي ألمٍ يخفي هَوَاهُ وطرفه ... يبين عَن أسراره حِين يطرف

يُنَازعنِي يَوْم الْجفَاء تجلدا ... وَيصرف عني الوجد طورا وأصرف

كِلَانَا محبٌّ يشتكي ألم الْهوى ... ولكنني مِنْهُ على الهجر أَضْعَف

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ بْن دريدٍ أَنبأَنَا أَبُو معاذٍ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عُثْمَان قَالَ حَدثنِي يَعْقُوب بْن يُوسُف الْكُوفِي " وَكَانَ قد روى الْأَشْعَار وَالْأَحَادِيث عَن أَبِيه " قَالَ:

(1/52)

حججْت ذَات سنةٍ فَإِذا أَنا برجلٍ عِنْد الْبَيْت وَهُوَ يَقُولُ: اللهمَّ اغْفِر لي وَمَا أَرَاك تفعل. قَالَ فَقلت يَا هَذَا مَا أعجب يأسك من عَفْو اللَّه، قَالَ إنَّ لي ذَنبا عَظِيما، قَالَ فَقلت أَخْبرنِي قَالَ كنت مَعَ يحيى بْن محمدٍ بالموصل فَأمرنَا يَوْم جمعةٍ فاعترضنا الْمَسْجِد، فنرى أَنا قتلنَا ثَلَاثِينَ ألفا ثمَّ نَادَى مناديه من علَّقَ سَوْطه على دارٍ فالدار وَمَا فِيهَا لَهُ، فعلقت سَوْطِي على دَار ودخلتها فَإِذا فِيهَا رجلٌ وامرأةٌ وابنان لَهما، فَقدمت الرجل فَقتلته، ثمَّ قلت للْمَرْأَة هَاتِي مَا عنْدك وَإِلَّا ألحقت ابنيك بِهِ، فجاءتني بسبعة دَنَانِير ومتيعٍ، قَالَ فَقلت هَاتِي مَا عنْدك فَقَالَت مَا عِنْدِي غَيرهَا، فَقدمت أحد ابنيها فَقتلته ثمَّ قلت هَاتِي مَا عنْدك وَإِلَّا ألحقت الآخر بِهِ فَلَمَّا رَأَتْ الجدَّ مني قَالَت ارْفُقْ فإنَّ عِنْدِي شَيْئا كَانَ أودعنيه أَبوهُمَا، فجاءتني بدرعٍ مذهبةٍ لم أر مثلهَا فِي حسنها فَجعلت أقلبها فَإِذا عَلَيْهَا مكتوبٌ بِالذَّهَب:

إِذا جَار الْأَمِير وحاجباه ... وقاضي الأَرْض أسرف فِي الْقَضَاء

فويلٌ ثمَّ ويلٌ ثمَّ ويلٌ ... لقَاضِي الأَرْض من قَاضِي السَّمَاء

فَسقط السَّيْف من يَدي وارتعدت، وَخرجت من وَجْهي إِلَى حَيْثُ ترى

(1/53)

" أَنْشدني ": جَعْفَر بْن قدامَة لأبي طاهرٍ:

لَو أنَّ لي مَالا لما قيل لي ... أَنْت قَبِيح الْوَجْه لَا تعشق

وَكم فَتى قد زانه مَاله ... وَمَا لَهُ حسنٌ وَلَا منطق

من كَانَ ذَا مالٍ فَمَا ضرَّه ... قبحٌ وَإِن قيل هُوَ الأحمق

" أنشدنا ": أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عبيد اللَّه بْن عمارٍ لأبي الْعَتَاهِيَة:

يستغنم الْقَوْم من قومٍ فوائدهم ... وَإِنَّمَا هِيَ فِي أَعْنَاقهم ربق

ويجهد النَّاس فِي الدُّنْيَا مُنَافَسَة ... وَلَيْسَ للنَّاس فِيهَا غير مَا رزقوا

أخي مَا نَحن من حزم على ثقةٍ ... حَتَّى نَكُون إِلَى الْخيرَات نَسْتَبِق

تذم دنياك ذما مَا تبوح بِهِ ... إِلَّا وَأَنت لَهَا فِي ذَاك معتنق

كل امرىءٍ فَلهُ رزقٌ سيبلغه ... وَالله يرْزق لَا كيسٌ وَلَا حمق

مَا نَحن إِلَّا كركبٍ ضمهم سفرٌ ... يَوْمًا إِلَى ظلِّ أيكٍ ثمَّ نفترق

(1/54)

وَلنْ يُقيم على الأسلاف عابرهم ... إِلَّا وهم بهم من بعد قد لَحِقُوا

أخي إنَّا لفي دارٍ نصيب بهَا ... جهلا وَنحن لَهَا فِي الذَّم نتفق

دَار لَهَا لعقٌ مَا زَالَ ذائقها ... يغص فِيهَا بهَا طورًا ويختنق

إِذا نظرت إِلَى دنياك مقبلة ... فَلَا يهمك تعظيمٌ وَلَا ملق

الْحَمد لله حمدا لَا انْقِطَاع لَهُ ... مَا يعظم النَّاس إِلَّا من لَهُ ورق

" أَخْبرنِي ": مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ أنشدت الراضي بِاللَّه فِي أيامِ إِمَامَته رَحمَه اللَّه لنَفْسي:

(1/55)

يَا مليح الدلالِ رفقا بصبٍ ... يشتكي مِنْك جفوة وملالا

نطق السقم بِالَّذِي كَانَ يخفي ... فاسأل الْجِسْم إِن أردْت السؤالا

قد أَتَاهُ فِي النّوم مِنْك خيالٌ ... فَرَآهُ كَمَا اشْتهيت خيالا

تتحاماه للضنى ألسن العذ ... ل فأضحي لَا يعرف العذَّالا

فَعمل فِي مَعْنَاهَا أبياتا بحضرتي وأنشدنيها وَهِي:

قلبِي لَا يعرف المحالا ... وَأَنت لَا تبذل الوصالا

ضللت فِي حبِّكم فحسبي ... حتَّى مَتى أتبع الضلالا

وزارني مِنْكُم خيالٌ ... فزدت إِذْ زارني خبالا

رأى خيالا على فراشٍ ... وَلَا أرَاهُ رأى خيالاً

" أخبرنَا ": أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ: كنت يَوْمًا بحضرةِ ثعلبٍ فأسرعت الْقيام قبل انْقِضَاء الْمجْلس، فَقَالَ لي إِلَى أَيْن مَا أَرَاك تصبر عَن مجْلِس الْخُلْدِيِّ فَقلت لَهُ لي حاجةٌ، فَقَالَ لي إِنِّي أرَاهُ يقدم البحتريَّ على أبي تمامٍ، فَإِذا أَتَيْته فَقل لَهُ مَا معني قَول أبي تمامٍ:

(1/56)

أآلفة النحيب كم افتراقٍ ... أظل فَكَانَ دَاعِيَة اجتماعٍ

قَالَ أَبُو الْحسن: فَلَمَّا صرت إِلَى أبي الْعَبَّاس الْمبرد سَأَلته عَنهُ فَقَالَ: معني هَذَا أنَّ المتحابين والعاشقين قد يتصارمان ويتهاجران إدلالا لَا عزما على القطيعة، وَإِذا حَان الرحيل وأحسَّا بالفراق تراجعا إِلَى الودِّ وتلاقيا خوف الْفِرَاق، وَإِن يطول الْعَهْد بالالتقاء بعده فَيكون الْفِرَاق حينئذٍ سَببا للاجتماع كَمَا قَالَ الآخر:

متعا بالفراقِ يومَ الفراقِ ... مستجيرين بالبكَا والعناقِ

كم أسرَّا هواهما حذر النا ... سِ وَكم كتما غليل اشتياق

فأظل الْفِرَاق فَالْتَقَيَا فِي ... هِ فراقٌ أتاهما بِاتِّفَاق

كَيفَ أدعوا على الْفِرَاق بحتفٍ ... وغداةَ الفراقِ كَانَ التلاقي

قَالَ فلمَّا عدت إِلَى ثعلبٍ فِي الْمجْلس الآخر سَأَلَني عَنهُ فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْجَواب والأبيات، فَقَالَ مَا أشهد تمويهه مَا صنع شَيْئا، إِنَّمَا معني الْبَيْت أنَّ الْإِنْسَان قد يُفَارق محبوبه رَجَاء أَن يُقيم فِي سَفَره فَيَعُود إِلَى محبوبه مستغنيا عَنِ التَّصَرُّف فَيطول اجتماعه مَعَه. أَلا ترَاهُ يَقُولُ فِي الْبَيْت الثَّانِي:

وَلَيْسَت فرحة الأوباتِ إِلَّا ... لموقوفٍ على ترحِ الوداعِ

وَهَذَا نَظِير قَول الآخرِ، بل مِنْهُ اخذ أَبُو تمامٍ:

(1/57)

وأطلب بعد الدَّار مِنْكُم لتقربوا ... وتسكب عَيْنَايَ الدُّمُوع لتجمدا

هَذَا هُوَ ذَلِك بِعَيْنِه.

" أخبرنَا ": أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ دخلت على سعيد بْن سلمٍ وَعِنْده الْأَصْمَعِي ينشده قصيدة للعجَّاج حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله:

فَإِن تبدلت باآدى آدا ... لم يَك يناآد فأمسى أناآدا

" فقد أَرَانِي أصل القعادا "

فَقَالَ لَهُ مَا معني القعادا؟ فَقَالَ النِّسَاء، فَقلت لَهُ هَذَا خطأٌ إِنَّمَا يُقَال فِي جمع النساءِ الْقَوَاعِد، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ " وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يرجون نِكَاحا " وَيُقَال فِي جمع الرِّجَال القعاد، كَمَا يُقَال راكبٌ وركابٌ، وضاربٌ وضرابٌ فَانْقَطع.

(1/58)

قَالَ وَكَانَ سَبيله أَن يحتجَّ عليَّ فَيَقُول قد يحمل بعض الجموع على بعضٍ فَيحمل جمع الْمُؤَنَّث على الْمُذكر، وَجمع الْمُذكر على الْمُؤَنَّث عِنْد الْحَاجة إِلَى ذَلِك. كَمَا قَالُوا فِي الْمُذكر هالكٌ فِي الهوالك، وفارسٌ فِي الفوارس فَجمع كَمَا يجمع الْمُؤَنَّث. وكما قَالَ القطامىُّ فِي الْمُؤَنَّث:

أبصارهنُّ إِلَى الشبَّان مائلةٌ ... وَقد أراهنَّ عني غير صدادِ

" أخبرنَا ": أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اليزيديُّ قَالَ أَخْبرنِي عمي الْفضل بْن محمدٍ عَن أبي محمدٍ يحيى بْن الْمُبَارك اليزيديِّ قَالَ: كنَّا فِي بلدٍ مَعَ المهديِّ فِي شهر رَمَضَان قبل أَن يسْتَخْلف بأَرْبعَة أشهرٍ، فتذاكروا لَيْلَة عِنْده النحوَ والعربية، وَكنت مُتَّصِلا بخالة يزِيد بْن منصورٍ وَالْكسَائِيّ مَعَ ولدِ الْحسن الْحَاجِب، فَبعث إليَّ وَإِلَى الْكسَائي فصرت إِلَى الدَّار فَإِذا الْكسَائي بِالْبَابِ قد سبقني، فَقَالَ لي أعوذ بِاللَّه من شَرِّكَ يَا أَبَا محمدٍ. فَقلت وَالله لَا تُؤْتى من قبلي أَو أُوتى من قبلك، فلمَّا دَخَلنَا على الْمهْدي أقبل عليَّ فَقَالَ كَيفَ نسبوا إِلَى الْبَحْرين فَقَالُوا بحراني، وَإِلَى الحصنين فَقَالُوا حصنيِّ، هلا قَالُوا حصناني كَمَا قَالُوا بحراني؟ فَقلت أَيهَا الْأَمِير لَو قَالُوا

(1/59)

فِي النّسَب إِلَى الْبَحْرين بحري لالتبس فَلم يدر ألنسبة إِلَى الْبَحْرين وَقعت أم إِلَى الْبَحْر، فزادوا ألفا للْفرق بَينهمَا كَمَا قَالُوا فِي النّسَب إِلَى الرّوح روحانيّ، وَلم يكن لحصنين شيٌ يلتبس بِهِ فَقَالُوا حصني على الْقيَاس فَسمِعت الْكسَائي يَقُولُ لعَمْرو بْن بزيعٍ: لَو سَأَلَني الْأَمِير عَنْهُمَا لأجبته بِأَحْسَن من هَذِه الْعلَّة، فَقلت أصلح اللَّه الْأَمِير إنَّ هَذَا يزْعم أنَّك لَو سَأَلته أجَاب بِأَحْسَن من جوابي، قَالَ فقد سَأَلته. قَالَ كَرهُوا أَن يَقُولُوا حصناني فيجمعوا بَين نونين، وَلم يكن فِي الْبَحْرين إِلَّا نونٌ واحدةٌ فَقَالُوا بحراني لذَلِك قلت كَيفَ تنْسب إِلَى رجلٍ من بني جنانٍ إِن لَزِمت قياسك فَقلت جنِّى فَجمعت بَينه وَبَين الْمَنْسُوب إِلَى الجنِّ، وَإِن قلت جناني رجعت عَن قياسك وجمعت بَين ثَلَاث نوناتٍ. ثمَّ تفاوضنا الْكَلَام إِلَى أَن قلت لَهُ كَيفَ تَقول إِن من خير الْقَوْم وأفضلهم أَو خَيرهمْ بتة زيدٌ فَأَطْرَقَ مفكرا وَأطَال الفكرة فَقلت أصلح اللَّه الْأَمِير لِأَن يُجيب فيخطىء فيتعلم أحسن من هَذِه الإطالة فَقَالَ إِن من خير الْقَوْم وأفضلهم أَو خَيرهمْ بتة زيدا، فَقلت أَخطَأ أَيهَا الْأَمِير، قَالَ وَكَيف قلت لرفعه قبل أَن يأتىَ باسم إنَّ، ونصبه بعد الرّفْع وَهَذَا لَا يُجِيزهُ أحدٌ. فَقَالَ شيبةُ بْن الْوَلِيد عمُّ ذفافة متعصباً لَهُ: أَرَادَ بأوبل فَقلت هَذَا لعمري معني فلقَّنه الْكسَائي فَقَالَ مَا أردْت غَيره، فَقلت

(1/60)

أخطأتما جَمِيعًا لأنَّه غير جائزٍ أَن يُقَال أَن من خير الْقَوْم وأفضلهم، بل خَيرهمْ زيدا فَقَالَ الْمهْدي: يَا كسائيُّ مَا مرَّ بك مثل اليومِ. قَالَ فَكيف الصَّوَاب عنْدك فَقلت إنَّ من خير الْقَوْم وأفضلهم أَو خَيرهمْ بتة زيدٌ على معني تَكْرِير إِن فَقَالَ المهديُّ: قد اختلفتما وأنتما عالمان فَمن يفصل بَيْنكُمَا، قلت فصحاء الْعَرَب المطبوعون. فَبعث إِلَى أبي المطوق فَعمِلت أبياتا إِلَى أَن يجيءَ وَكَانَ الْمهْدي يمِيل إِلَى أَخْوَاله من الْيمن فَقلت:

يَا أَيهَا السائلي لأخبره ... عمَّن بِصَنْعَاء من ذَوي الْحسب

حمير ساداتها تقرُّ لَهَا ... بِالْفَضْلِ طرا جحاجح الْعَرَب

فَإِن من خَيرهمْ وأفضلهم ... أَو خَيرهمْ بتة أَبُو كرب

فَلَمَّا جَاءَ أَبُو المطوق أنشدته الأبيات وَسَأَلته عَنِ الْمَسْأَلَة، فوافقني فلمَّا خرجنَا تهدَّدني شيبَة وَقَالَ تلحنني بِحَضْرَة الْأَمِير فأنشأت أَقُول:

عش بجدٍ وَلَا يضرُّك نوك ... إِنَّمَا عَيْش من ترى بالجدود

عش بجدٍ وَكن هبنقة القي ... سي جهلا أَو شيبَة بْن الْوَلِيد

شيب يَا شيب يَا هني بني القع ... قاع مَا أَنْت بالحليم الرشيد

(1/61)

لَا وَلَا فِيك خصلةٌ من خِصَال ال ... خير أحرزتها بحلمٍ وجودٍ

غير مَا أَنَّك الْمجِيد لتحبي ... ر غنَّاء بِضَرْب دفٍ وعود

فعلي ذَا وَذَاكَ تحْتَمل الده ... ر مجيدا بِهِ وَغير مجيد

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي ": رَحمَه اللَّه تعالي. الْمَسْأَلَة مبنيةٌ على الْفساد للمغالطة، فأمَّا جَوَاب الْكسَائي فَغير مرضىٍّ عِنْد أحدٍ، وَجَوَاب اليزيديِّ غير جائزٍ عندنَا لِأَنَّهُ أضمر أنَّ وأعملها وَلَيْسَ من قوتها أَن تضمر فتعمل فَأَما تكريرها فجائزٌ قد جَاءَ فِي الْقُرْآن، والفصيح من الْكَلَام قَالَ الله عزَّ وجلَّ " إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَينهم يَوْم الْقِيَامَة " فَجعل إنَّ الثَّانِيَة مَعَ أسمها وخبرها خَبرا عَن الأولي. وَقَالَ الشَّاعِر:

إنَّ الْخَلِيفَة إنَّ اللَّه سربله ... سربال ملكٍ بِهِ ترجى الخواتيم

وَالصَّوَاب عندنَا فِي الْمَسْأَلَة أَن يُقَال إنَّ من خير الْقَوْم وأفضلهم أَو خَيرهمْ الْبَتَّةَ زيدٌ، فتضمر اسْم إنَّ فِيهَا وتستأنف مَا بعْدهَا. وَذكر سِيبَوَيْهٍ أنَّ الْبَتَّةَ مصدرٌ لم تستعمله الْعَرَب إِلَّا بِالْألف وَاللَّام وَأَن حذفهما مِنْهُ خطأٌ

(1/62)

" أخبرنَا ": أَبُو إِسْحَاق الزجَّاج قَالَ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس المبردُّ قَالَ حدثَّ الْمَدَائِنِي عَنِ الْعجْلَاني عَن إِسْمَاعِيل بْن يسارٍ قَالَ: مَاتَ ابنٌ لارطاةِ بْن سهية المريِّ فَلَزِمَ قَبره حولا يَأْتِيهِ بالغداةِ فيقف عَلَيْهِ فَيَقُول: أَي عَمْرو هَل أَنْت رائحٌ معي إِن أَقمت عَلَيْك إِلَى العشىِّ، ثمَّ يَأْتِيهِ بالمساء فَيَقُول مثل ذَلِك، فلمَّا كَانَ بعد الْحول أنشأ يَقُولُ متمثلا:

إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبكِ حولا كَامِلا فقد اعتذر

ثمَّ انْصَرف عَن قَبره وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

وقفت على قبر ابْن ليلى فَلم يكن ... وُقُوفِي عَلَيْهِ غير مبكى ومجزعٍ

هَل أَنْت ابْن ليلى إِن نظرتك رائحٌ ... مَعَ الركب أم غادٍ غَدا تئذٍ معي

فَلَو كَانَ لبّى حَاضرا مَا أصابني ... سَهْو على قبرٍ بأكنافِ أجرعٍ

(1/63)

فَمَا كنت إِلَّا والها بعد فقدها ... على شجوها إِثْر الحنين الْمرجع

إِذا لم تَجدهُ تَنْصَرِف لطيَّاتهَا ... من الأَرْض أَو تَأتي بألفٍ فترتعي

على الدَّهْر فاعتب إنَّه غير معتبٍ ... وَفِي غير من قدوارت الأَرْض فاطمع

" أخبرنَا ": أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بْن يزِيد عَن أبي عُثْمَان عَنِ الْأَصْمَعِي. قَالَ: كَانَ خلف إِذا أَوَى إِلَى فرَاشه لَا يضطجع حَتَّى ينشد:

لَا يبرح الْمَرْء يستقري مضاجعه ... حَتَّى يبيت بأقصاهنَّ مُضْطَجعا

وَلَيْسَ يَنْفَكّ يستصفي مشاربه ... حَتَّى يجرَّع من رنق البلى جرعا

فامنع جفونك طول اللَّيْل رقدتها ... وامنع حشاك لذيذ الرّيّ والشبعا

واستشعر البرَّ وَالتَّقوى تعد بهَا ... حَتَّى تنَال بهنَّ الْفَوْز والرفعا

(1/64)

" أخبرنَا ": أَبُو بكرٍ محمدٌ بْنُ الْقَاسِم الأنباريُّ قَالَ أخبرنَا أَبُو عِيسَى عَن أبي يعلى عَنِ الْأَصْمَعِي. قَالَ قَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد: نظرت فِي علم النُّجُوم فهجمت مِنْهُ على مَا لزمني تَركه، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

بلغا عني المنجّمَ أَنِّي ... كافرٌ بِالَّذِي قضته الْكَوَاكِب

عالمٌ أنَّ مَا يكون وَمَا كَا ... ن قضاءٌ من الْمُهَيْمِن واجبُ

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجيُّ ": رَحمَه اللَّه؛ الْمُهَيْمِن المؤيمن، وَالْهَاء فِيهِ بدلٌ من الْهمزَة. وينشد للْعَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب يمدح النبيَّ صلى اللَّه عَلَيْهِ وسلمٌ:

من قبلهَا طبت فِي الظلال وَفِي ... مستودعٍ حَيْثُ يخصف الْوَرق

ثمَّ هَبَطت الْبِلَاد لَا بشر ... أَنْت وَلَا مضغةٌ وَلَا علق

(1/65)

بل نطفةٌ تركب السفين وَقد ... ألْجم نسراً وَأَهله الْغَرق

تنقل من صالبٍ إِلَى رحمِ ... إِذا مضى عَالم بدا طبقٌ

حَتَّى احتوى بَيْتك الْمُهَيْمِن من ... خندفِ علياءَ تحتهَا النُّطْق

وَأَنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفقُ

وَنحن فِي ذَلِك الضياء وَفِي س ... بل الْهدى والرشاد نخترقُ

" أنشدنا ": من حفظه أَبُو إِسْحَاق الزجاجُ قَالَ أنشدنا أَبُو أَحْمَد الدِّمَشْقِي:

وعَلى قُدَّام حملت شكة حَازِم ... فِي الروع لَيْسَ فُؤَاده بمثقل

(1/66)

أما إِذا استقبلتها فتخالها ... كالجذع شذبه نفي المنجل

أما إِذا استعرضتها فمطارةٌ ... تَنْفِي سنابكها رصيص الجندل

أما إِذا استدبرتها فنبيلة ... نهدٍ مَكَان حزامها والمركل

وَإِذا وصفتَ وصفتَ جوز جرادةٍ ... وَإِذا ملكت عنانها لم تفشل

فكأنَ خيري المزاد موكرا ... يعلي بِهِ كفلٌ شَدِيد الْموصل

فاعتامها بَصرِي لعلمي أنَّها ... عدوا ستقبل فِي الرعيل الأول

" حدثنَا ": حَمْزَةُ بْنُ محمدٍ قَالَ حدثنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ حَدثنَا مُسلم بن

(1/67)

إِبْرَاهِيمَ قَالَ حدثنَا شُعْبَةُ عَنْ عبد الْملك بن عميرٍ بن خراشٍ: عَنْ حُذَيْفَةَ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ " اللهمَّ باسمكَ أَحْيَا وَبِاسْمِكَ أَمُوتُ " فَإِذَا أَصْبَحَ حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ " الْحَمْدُ لله الَّذِي أَحْيَانًا بَعْدِ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ "

" أخبرنَا ": مُحَمَّدُ بْنُ خلفٍ سنةَ خمسٍ وثلاثمائةٍ قَالَ حدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ قَالَ حدثنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نميرٍ قَالَ حدثنَا مِسْعَرُ بْنُ كدامٍ عَنْ أَبِي العنبس عَن أبي يربوعٍ عَن أَبِي غالبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عله وَسلم وَهُوَ متكىءٌ عَلَى عَصَاهُ، فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ " لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَعَاجِمُ " فَأَرَدْنَا أَنْ يَدْعُوَ لَنَا فَقَالَ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَارْزُقْنَا وَعَافِنَا وَاعْفُ عنَّا وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كلَّه " قَالَ فَكَأَنَّا أَرَدْنَا أَنْ يَزِيدَ فَقَالَ " لَقَدْ جَمَعْتُ لكم الْأَمر "

(1/68)

" أخبرنَا ": الحرمي بْن أبي الْعَلَاء قَالَ حَدثنَا عَبْد اللَّه بْن شبيبٍ قَالَ حدثنَا الزبير قَالَ حَدثنِي عمر بْن الضَّحَّاك وَمُحَمّد بْن الْحُسَيْن قَالَا: كَانَ يزِيد بْن مُعَاوِيَة ينادم قردا، فَأَخذه يَوْمًا فَحَمله على أتانٍ وحشٍ وشده عَلَيْهَا رِبَاطًا وَأرْسل الْخَيل فِي إثْرهَا حَتَّى حسرتها الْخَيل، فَمَاتَتْ الأتان. فَقَالَ فِي ذَلِك يزِيد ابْن مُعَاوِيَة:

تمسكْ أَبَا قيسٍ بفضلِ عنانها ... فَلَيْسَ علينا أَن هَلَكت ضَمَان

كَمَا فعل الشَّيْخ الَّذِي سبقتْ بِهِ ... زياداً أَمِير الْمُؤمنِينَ أتان

فَسَبهُ أَبُو حَمْزَة فِي خطبَته حَيْثُ يَقُولُ: خَالف الْقُرْآن، وتابع

(1/69)

الْكُهَّان، ونادم القردة، وَفعل وَفعل.

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم ": قَالَ بعض الْحُكَمَاء: الدول محكمَة على النَّاس وَالتَّأَهُّب لَهَا مَطِيَّة الأكياس، فَلَا عدَّة لحلولها أفضل من اكْتِسَاب مَوَدَّة أهل الْوَفَاء والحفاظ " وقليلٌ مَا هم " فَإِذا ظَفرت بِمن يتخيل ذَلِك فِيهِ فاجعله بَين خلبك وقلبك.

" وَقَالَ بعض حكماء الْعَجم ": مُفَاوَضَة أولي الْأَلْبَاب والآداب نزهةٌ الْأَبْصَار، ومستراح الْقُلُوب، ومجتنَي الصوابِ، وفيهَا بعد ذَلِك زيادةٌ لقدر الشريف، وتنبيهٌ لحَال الخامل. أنشدنا أَبُو بكرٍ بْن دريدٍ لنفسِهِ:

أعن الشَّمْس عشَاء ... كشفت تِلْكَ السجوف

أم عَن البدري تسري ... موهنا ذَاك النصيف

أم على ليتي غزالٍ ... علقت تِلْكَ الشنوف

أم أَرَاك الْحِين مَا لم ... يره الْقَوْم الْوُقُوف

(1/70)

إِن حكم الْمقل النّجْ ... لِ على الخلقِِ يَحِيف

هنَّ قربنَ إلىَّ ال ... وجد والوجد قذيف

فأزلنَ الصبرَ عني ... وَهُوَ لي خدنٌ حَلِيف

يالها شربة سقمٍ ... شوبها سمٌ مدوف

سَاقهَا الْحِين لنَفْسي ... جهرة وَهِي عيوف

يَا ابْنة القيل الْيَمَان ... ي وللدهر صروف

إِن يكن أضحى مضيئا ... فَلهُ يَوْمًا كسوف

أَو يكن هبَّ نسيمٌ ... فَلهُ يَوْمًا هيوف

لَا يغرَّنك سماح ... ي فمقتادي عنيف

رُبمَا انْقَادَ جموحٌ ... تَارَة ثمَّ يصيف

فاحذري عزفة نَفسِي ... عَنْك فَالنَّفْس عزوف

(1/71)

أقصدت ضرغام غابٍ ... بَين خيسيهِ غريفْ

ظَبْيَة يكنفها فِي الأ ... لمجيات الرفيف

ربَّما أردى الجليد الس ... هم والرامي ضَعِيف

وعقارٍ عتقتها ... بعد أسلافٍ خلوف

كَانَت الْجِنّ اصطفتها ... قبل وَالْأَرْض رجوف

فَهِيَ معنى لَيْسَ يحتا ... ط بِهِ الْوَهم اللَّطِيف

وَهِي فِي الْجِسْم وساع ... وَهِي فِي الكأس قطوف

وَهِي ضدٌ لظلام اللي ... ل وَاللَّيْل عكوف

يصرف الرامق عَنْهَا ... طرفه وَهُوَ نزيف

قد تعدينا إِلَيْهَا ال ... نهى وَالله رؤوف

ومقامٍ ورده مس ... توبلٌ ضنكٌ مخوف

بَكت الْآجَال لمَّا ... ضحِكت فِيهِ الحتوف

خفضت فِيهِ العوالي ... وعلت فِيهِ السيوف

قد تسربلت وعقبا ... ن الردى فِيهِ تعيف

(1/72)

حِين للأنفس فِي الرو ... ع من الهول وجيف

إِن بَيْتِي فِي ذرى قح ... طان للبيت المنيف

ولى الجمجمة الع ... لياء والعز الكثيف

ولى التالد ملحم ... دٌ قَدِيما والطريف

كل مجدٍ لم يسمِّن ... هـ اليمانون نحيف

" أَبُو الْقَاسِم الزجاجي ": رَحمَه اللَّه؛ السجوف جمع سجف وَهُوَ السّتْر يُقَال هُوَ سجفٌ وسجفٌ وَقَوله تسري من قَوْلك تسريت ثوبي إِذا أَلقيته الموهن من أول اللَّيْل إِلَى سَاعَات مِنْهُ، والنصيف الْخمار، والليتان صفحتا الْعُنُق، والشنوف جمع شنفٍ وَهُوَ مَا علق فِي أعلي الْأذن، والقذيف الْبعيد والحليف اللَّازِم والشوب الْخَلْط، من قَوْله تَعَالَى " ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا من حميمٍ " والعيوف الكاره للشيءِ، والقيل جليس الْملك، وَيُقَال صافٍ عَنِ الشيءِ إِذا عدل عَنهُ وعزفت نَفسِي عَنِ الشيءِ إِذا كرهته. والغاب جمع غابةٍ وَهِي الأجمة، وَكَذَلِكَ الخيس. والأمجيات موضعٌ، والرفيف حَرَكَة الشيءِ وبريقه وصفاؤه. يُقَال أَسْنَان فلانٍ ترف، والأسلاف جمع سلفٍ والخلوف جمع خلفٍ وخالفٍ، وَالْخلف بِفَتْح اللَّام مُسْتَعْمل فِي الْخَيْر وَالشَّر،

(1/73)

فَأَما الْخلف بتسكين اللَّام فَلَا يكون إِلَّا فِي الذَّم والوساع الْوَاسِع الخطوِ والقطف مداركه الخطوِ، ومقاربته والنزيف السَّكْرَان، والمستوبل الْمَكْرُوه، والعوالي جمع عاليةٌ وَهِي أَعلَى الرمْح وَقَوله وعقبان الردى فِيهِ تعيف الردى الْهَلَاك، وتعيف أَي تَدور حوله وَتكره ورده.

" أخبرنَا أَبُو غانمٍ الْمَعْنَوِيّ ": قَالَ أخبرنَا أَبُو خَليفَة الْفضل بْن الْحباب الجُمَحِي قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بْن سلامٍ قَالَ: بَلغنِي أَن مسلمة بْن عَبْد الْملك قَالَ ليزِيد ابْن عَبْد الْملك: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببابك وُفُود الْعَرَب، وَيقف ببابك أَشْرَاف النَّاس، أَفلا تقعد لَهُم وَأَنت قريب الْعَهْد بعمر بْن عَبْد الْعَزِيز، وَقد اشتغلت بهؤلاءِ الإماءِ؟ فَقَالَ أَرْجُو أَن لَا تعاتبني بعد هَذَا. فَلَمَّا أوي إِلَى فرَاشه جَاءَتْهُ جَارِيَته حبابة، فَقَالَ لَهَا أعزبي عني. فَقَالَت مَا دهاك فَأَخْبرهَا بِمَا قَالَ لَهُ مسلمة فَقَالَت لَهُ: فأمتعني مِنْك مَجْلِسا وَاحِدًا؟ قَالَ ذَاك لَك، فأحضرت معبدًا فَقَالَت لَهُ

(1/74)

مَا الْحِيلَة فِيهِ؟ قَالَ: يَقُولُ الْأَحْوَص أبياناً، وألحنها أَنا، وَتُغْنِينَا إِيَّاه. فَأرْسلت إِلَى الْأَحْوَص وعرفته الْخَبَر فَقَالَ الْأَحْوَص:

أَلا لَا تلمه الْيَوْم أَن يتبلدا ... فقد غلب المحزون أَن يتجلدا

إِذا كنت عزهات عَنِ اللَّهْو وَالصبَا ... فَكُن حجرا من يَابِس الصخر جلمدا

فَمَا الْعَيْش إِلَّا مَا تلذ وتشتهي ... وَإِن لَام فِيهِ ذَوي الشنان وفنَّدا

فلحَّنها معبد وَقَالَ: اجتزت بدير نَصَارَى يقرءُون بلحنٍ شجٍ فحاكيته فِي هَذَا الصَّوْت، فَلَمَّا غنته حبابة يزِيد قَالَ: قَاتل اللَّه مسلمة، وَصدق قَائِل هَذَا الشّعْر، وَالله لَا أطيعه أبدا.

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم رَحمَه الله ": العزهات الَّذِي لَا يحب اللَّهْو، وَلَا يطرب لغلظ طبعه وقساوته، والشنان الْعَدَاوَة. وَهُوَ مهموزٌ وَلكنه اضطرَّ فَحذف الْهمزَة، يُقَال شنئت الرجل أشنؤه شَيْئا وشناء وشناآناً. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى " وَلا يجرمنَّكم شناآن قومٍ " وشناآن قومٍ بِإِسْكَان النُّون أَيْضا، فانا شانيءٌ وَالرجل مشنوءٌ

(1/75)

وأنشدنا لعبد بني الحسحاس:

تزودَّ من أَسمَاء مَا قد تزودا ... وراجع سقما بعد مَا قد تجلَّدا

وَقد أَقْسَمت بِاللَّه يجمع بَيْننَا ... هوى أبدا حَتَّى تحول أمردا

كَانَ على أنيابها بعد هجعةٍ ... من اللَّيْل نامتها سلافا مبردا

سلافة دنٍ أوسلافة ذارعٍ ... إِذا صبَّ مِنْهَا فِي الزجاجة أزبدا

رَأَيْت المنايا لايهبن مُحَمَّدًا ... وَلَا أحدا وَلَا يدعن مخلداً

(1/76)

أَلا لَا أرى على الْمنون مُسلما ... وَلَا بَاقِيا إِلَّا لَهُ الْمَوْت مرْصدًا

رَأَيْت الحبيب لَا يملُّ حَدِيثه ... وَلَا ينفع المشنوء أَن يتوددا

" أخبرنَا ": أَبُو الْحَسَنِ عليُّ بْنُ سُلَيْمَان وَأَبُو إِسْحَاق الزّجاج عَن أبي الْعَبَّاس بن مُحَمَّد يزِيد الْمبرد قَالَ: ثبتَتْ الرِّوَايَات وَالْأَخْبَار أَن ليلِي الأخيلية لم تكن امْرَأَة تَوْبَة بْن الْحمير ولاأخته، وَلَا كَانَ بَينهمَا نسبٌ شابك، إلاَّ أَنَّهُمَا كَانَا جَمِيعًا من بني عقيل بْن كَعْب بْن ربيعَة بْن عَامر بْن صعصعة، وَكَانَ يُحِبهَا وتحبه، فأقاما على حبٍّ عفيفٍ دهرا وَتلك السّنة فِي عشاق بني عذرة وَغَيرهم، إِلَى أَن قتل تَوْبَة. وَكَانَ سَبَب قَتله إِنَّه كَانَ يَطْلُبهُ بَنو عَوْف فأحسُّوا قدومه من سَفَره فَأتوهُ طروقا وَبَينه وَبَين الْحَيّ مسيرَة ليلةٍ، وَمَعَهُ أَخُوهُ عَبْد اللَّه ومولاه قَابض، فهربا وأسلماه فَفِي ذَلِك تَقول ليلِي:

دَعَا قَابِضا والمرهفات تنوشه ... فقبحت مدعوا ولبيك دَاعيا

(1/77)

فيا لَيْت عَبْد اللَّه حلَّ مَكَانَهُ ... فأودي وَلم أسمع لتوبة ناعيا

وَمن جيد مَا رثته بِهِ قَوْلهَا:

أَقْسَمت أبْكِي بعد تَوْبَة هَالكا ... وأحفل من دارت عَلَيْهِ الدَّوَائِر

لعمرك مَا بِالْمَوْتِ عارٌ على الْفَتى ... إِذا لم تصبه فِي الْحَيَاة المعاير

فَلَا الْحَيّ مِمَّا يحدث الدَّهْر سالمٌ ... وَلَا الْمَيِّت إِن لم يصبر الحيُّ ناشر

وكلُّ شباب أَو جَدِيد إِلَى بلَى ... وكلُّ امرىءٍ يَوْمًا إِلَى اللَّه صائر

فَلَا يبعدنَّك اللَّه تَوْبَة هَالكا ... أَخا الْحَرْب إِذْ دارت عَلَيْهِ الدَّوَائِر

وَأَقْسَمت لَا أنفكُّ أبكيك مَا دعت ... على غُصْن وَرْقَاء أَو طَار طَائِر

قَتِيل بني عوفٍ فيا لهفتا لَهُ ... وَمَا كنت إيَّاهُم عَلَيْهِ أحاذر

" قَالَ أَبُو الْقَاسِم ": رَحمَه اللَّه قَوْلهَا أَقْسَمت أبْكِي بعد تَوْبَة هَالكا أَي لَا أبْكِي بعد تَوْبَة هَالكا، وَالْعرب تضمر لَا فِي الْقسم مَعَ الْمَنْفِيّ، لِأَن الْفرق بَينه وَبَين الْمُوجب قد وَقع بِلُزُوم الْمُوجب اللَّام وَالنُّون كَقَوْلِك: وَالله لأخرجنَّ. قَالَ الله عز وجلَّ " تالله تفتؤ تذكر يُوسُف " أَي لَا تفتؤ تذكر يُوسُف، وَقَوْلها وَلَا الْمَيِّت إِن لم يصبر الحيُّ ناشر. يُقَال نشر اللَّه الْمَوْتَى فنشروا أَي أحياهم فَحَيوا قَالَ الشَّاعِر:

(1/78)

لَو أسندت مَيتا إِلَى نحرها ... عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر

حَتَّى يَقُولَ النَّاس ممَّا رَأَوْا ... يَا عجبا للْمَيت النَّاشر

وقرأت الْقُرَّاء " وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشرها " بالراء وَضم أَوله تَأْوِيله كَيفَ نحييها كَمَا ذكرنَا، وَقَرَأَ بَعضهم ننشزها بِضَم أَوله وَالزَّاي معجمةٌ تَأْوِيله كَيفَ نشخصها ونرفعها ونزعجها حَتَّى ينضمَّ بَعْضهَا إِلَى بعض، مَأْخُوذ من النشر وَهُوَ مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَمِنْه قيل نشرت الْمَرْأَة على زَوجهَا أَي نبت عَنهُ. وَرُوِيَ أَن الْحسن قَرَأَ كَيفَ ننشرها بِفَتْح أَوله وبالراء غير معجمةٍ ذهب إِلَى النشر والبسط.

" أخبرنَا ": أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس الْمبرد يَقُولُ: من جيد مَا قيل فِي الطيف وَأحسنه قَول نصيبٍ:

أيقظان أم هبَّ الْفُؤَاد لطائفٍ ... ألمَّ فَحَيَّا الركب وَالْعين نَائِمَة

سرى من بِلَاد الْغَوْر حتَّى اهْتَدَى لنا ... وَنحن قريبٌ من عَمُود سوادمه

(1/79)

بنجدٍ وَمَا كَانَت بعهدي رجيلة ... وَلَا ذَات فكرٍ فِي سرى اللَّيْل فاطمه

وَوَاللَّه مَا من عادةٍ لَك فِي السرى ... سريت وَلَا إِن كنت بِالْأَرْضِ عالمه

ولكنما مثلت ليلى لذِي الْهوى ... فَبت على خيرٍ وَفَارَقت سالمه

فبالك ذَا ودٍ وَيَا لَك لَيْلَة ... تجلت وَكَانَت بردة الْعَيْش ناعمة

فَلَو دمت لم أملل وَلَكِن تَرَكتنِي ... بدائي وَمَا الدُّنْيَا لحيٍ بدائمه

وذكرتنا أيامنا بسويقةٍ ... وليلتنا إِذْ النَّوَى متلائمه

أخبرنَا أَبُو غَانِم: قَالَ أخبرنَا أَبُو خَليفَة قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بْن سَلام قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بْن أبان أَن الْأَحْوَص بْن مُحَمَّد الشَّاعِر كَانَ يهوى أُخْت امْرَأَته ويكتم ذَلِك وينسب بهَا وَلَا يفصح باسمها، فَتَزَوجهَا مطر فَبَلغهُ الْأَمر فَأَنْشَأَ يَقُول:

(1/80)

أأن نَادَى هديلًا ذَات فلجٍ ... مَعَ الْإِشْرَاق فِي فننٍ حمام

ظللت كَأَن دمعك در سلكٍ ... هوى نسقا وأسلمه النظام

تَمُوت تشوقا طَربا وتحيا ... وَأَنت جو بدائك مستهام

كَأَنَّك من تذكر أم حفصٍ ... وحبل وصالها خلق رمام

صريع مدامةٍ غلبت عَلَيْهِ ... تَمُوت لَهَا المفاصل وَالْعِظَام

وأتى من بلادك أم حفصٍ ... سقى بَلَدا تحل بِهِ الْغَمَام

أحل النعف من أحدٍ وَأدنى ... مساكنها الشبيكة أَو سَنَام

سَلام اللَّه يَا مطرٌُ عَلَيْهَا ... وَلَيْسَ عَلَيْك يَا مطر السَّلَام

فَلَا غفر الْإِلَه لمنكحيها ... ذنوبهم وَإِن صلوا وصاموا

(1/81)

كَأَن المالكين نِكَاح سلمى ... غَدَاة يرومها مطرٌ نيام

فَإِن يكن النِّكَاح أحل شَيْئا ... فَإِن نِكَاحهَا مَطَرا حرَام

فَلَو لم ينكحوا أأ تمن تنمتبمينشست إِلَّا كفيا ... لَكَانَ كفيها الْملك الْهمام

فَطلقهَا فلست لَهَا بكفء ... وَإِلَّا عض مفرقك الحسام

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: رَحمَه اللَّه أما قَوْله أأن نَادَى هديلا فَإِنِّي سَمِعت أَبَا الْحسن الْأَخْفَش يَقُولُ سَمِعت الْمبرد يَقُولُ أَصْحَابنَا يَقُولُونَ هدل الْحمام هديلا وهدر هديرا إِذا صَوت وهدر الْجمل وَلَا يُقَال هدل. وَغير أَصْحَابنَا يُجِيزهُ. فَإِذا طرب غرد تغريداً والتغريد يكون من الْإِنْسَان وَأَصله من الطير وَبَعْضهمْ يَقُولُ الهديل ذكر الْحمام ويحتج بقول الرَّاعِي:

كهداهد كسر الرُّمَاة جنَاحه ... يَدْعُو بقارعة الطَّرِيق هديلا

وسَاق حر ذكر القماري وَالْحمام، وَمِنْه قَول الطرماح فِي تَشْبِيه الرماد بالحمام:

(1/82)

بَين أظارٍ بمظلومةٍ ... كسراة السَّاق سَاق الْحمام

وَأما قَوْله: سَلام اللَّه يَا مطر عَلَيْهَا فَإِنَّهُ منادى مُفْرد ونونه ضَرُورَة فَأَما الْخَلِيل وسيبويه والمازني فيختارون أَن ينونوه مَرْفُوعا، وَيَقُولُونَ لما اضطررنا إِلَى تنوينه نوناه على لَفظه وَإِلَى هَذَا كَانَ يذهب الْفراء ويختاره. وَأما أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء وَيُونُس بْن حبيب وَعِيسَى بن عمر وَأَبُو عمر صَالح ابْن إِسْحَاق الْجرْمِي فينشدونه سَلام الله يَا مَطَرا عَلَيْهَا بِالنّصب والتنوين وَيَقُولُونَ رده التَّنْوِين إِلَى أَصله وَأَصله النصب وَهُوَ مثل اسْم لَا ينْصَرف فَإِذا اضْطر الشَّاعِر إِلَى تنوينه نونه وَصَرفه ورده إِلَى أَصله قَالَ الشَّاعِر:

مَا إِن رَأَيْت وَلَا أرى فِي مدتي ... كجواري يلعبن بالصحراء

أَلا ترى كَيفَ نونه وخفضه.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي رَحمَه اللَّه: القَوْل عِنْدِي قَول الْخَلِيل وَأَصْحَابه وتلخيص ذَلِك أَن الِاسْم المنادى الْمُفْرد الْعلم مَبْنِيّ على الضَّم لمضارعته عِنْد الْخَلِيل وَأبي عَمْرو وأصحابهما للأصوات وَعند غَيرهمَا لوُقُوعه موقع الْمُضمر فَإِذا لحقه التَّنْوِين فِي ضَرُورَة الشّعْر فالعلة الَّتِي من أجلهَا بنى قَائِمَة بعد، فينون على لَفظه. لأَنا قد رَأينَا من المبنيات مَا هُوَ منون نَحْو إبه وغاق وَمَا أشبه ذَلِك.

(1/83)

وَلَيْسَ بِمَنْزِلَة مَا لَا ينْصَرف أَصله الصّرْف. وَكثير من الْعَرَب لَا يمْتَنع من صرف شَيْء فِي ضَرُورَة شعر وَلَا غَيره إِلَّا أفعل مِنْك وعَلى هَذِه اللُّغَة قرئَ " قواريرا قواريرا من فضَّة " بتنوينهما جَمِيعًا. فَإِذا نون فَإِنَّمَا يرد إِلَى أَصله. والمفرد المنادى الْعلم لم ينْطق بِهِ منونا مَنْصُوبًا فِي غير ضَرُورَة شعر وَهَذَا بَين وَاضح.

أخبرنَا: عَبْد اللَّه بْن مَالك قَالَ أخبرنَا الزبير بْن بكار عَن مُحَمَّد قَالَ: خرج عمر بن ربيعَة بْن عَبْد اللَّه بْن أبي ربيعَة إِلَى الشَّام، فَلَقِيَهُ جميل فَقَالَ أَنْشدني شَيْئا من شعرك يَا جميل فأنشده:

خليلي فَمَا عشتما هَل رَأَيْتُمَا ... قَتِيلا بَكَى من حب قَاتله قبلي

ثمَّ قَالَ أَنْشدني يَا أَبَا الْخطاب فأنشده:

ألم تسْأَل الأطلال والمتربعا ... بِبَطن خليات دوارس بلقعا

(1/84)

أَتَانِي رَسُول من ثَلَاث كواعب ... ورابعةٍ تستكمل الْحسن أجمعا

فَلَمَّا توافقنا وسلمت أَقبلت ... وُجُوه زهاها الْحسن أَن تتقنعا

تَبًّا لَهُنَّ بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امْرُؤ بَاغ أضلّ وأوضعا

وقربن أَسبَاب الْهوى لمتيم ... يقيس ذِرَاعا كلما قسن إصبعا

فَقلت لمطريهن بالْحسنِ إِنَّمَا ... ضررت فَهَل تسطيع نفعا فتنفعا

فصاح جميل وَقَالَ: هَذَا وَالله الَّذِي أَخذ مِنْهُ النسيب، وَلم ينشده شَيْئا إِلَى أَن افْتَرقَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: نسب الشَّاعِر بِالْمَرْأَةِ ينْسب نسيباً إِذا ذكره فِي شعره محاسنها، وَنسب الرجل الرجل ينْسبهُ نِسْبَة وَنسبَة ونسبا.

أنشدنا: عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ أَنْشدني الْمبرد قَالَ أَنْشدني أَبُو عَبْد الرَّحْمَن العطوي لنَفسِهِ يرثي أَحْمد بن أبي دواد:

(1/85)

وَلَيْسَ صرير النعش مَا تسمعونه ... وَلكنه أصلاب قوم تقصف

وَلَيْسَ نسيم الْمسك مَا تجدونه ... وَلكنه ذَاك الثَّنَاء المخلف

أخبرنَا: أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن حمدَان الْبَصْرِيّ وَأَبُو غَانِم الْمَعْنَوِيّ قَالَا: أخبرنَا أَبُو خَليفَة الْفضل بْن الْحباب الجُمَحِي عَن مُحَمَّد بْن سَلام قَالَ كَانَ سراقَة الْبَارِقي شَاعِرًا ظريفا زوارا للملوك حُلْو الحَدِيث فَخرج فِي جملةٍ من خرج لقِتَال الْمُخْتَار فَوَقع أَسِيرًا فَأتي بِهِ الْمُخْتَار فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِير آل مُحَمَّد إِنَّه لم يأسرني أحد مِمَّن بَين يَديك، فَقَالَ

(1/86)

وَيحك فَمن أسرك: قَالَ رَأَيْت رجَالًا على خيل بلق يقاتلوننا مَا أَرَاهُم السَّاعَة هم الَّذين أسروني. فَقَالَ الْمُخْتَار لأَصْحَابه أَن عَدوكُمْ بري من هَذَا الْأَمر مَا لَا ترَوْنَ. ثمَّ أَمر بقتْله فَقَالَ يَا أَمِير آل مُحَمَّد إِنَّك لتعلم أَنه مَا هَذَا وَأَن تقتلني فِيهِ، فَقَالَ فَمَتَى أَقْتلك؟ قَالَ إِذا فتحت دمشق ونقضتها حجرا حجرا ثمَّ جَلَست على كرْسِي فِي أحد أَبْوَابهَا فهناك تَدعُونِي فتقتلني ثمَّ تصلبني. قَالَ الْمُخْتَار: صدقت، ثمَّ الْتفت إِلَى صَاحب شرطته فَقَالَ وَيحك من يخرج سري إِلَى النَّاس ثمَّ أَمر بتخلية سَبيله. فَلَمَّا أفلت أنشأ يَقُول وَكَانَ يكني أَبَا إِسْحَاق:

أَلا أبلغ أَبَا إِسْحَاق أَنِّي ... رَأَيْت البلق دهما مصمتات

أرى عَيْني مَا لم ترأياه ... كِلَانَا عالمٌ بالترهات

كفرت بوحيكم وَرَأَيْت نذرا ... على قتالكم حَتَّى الْمَمَات

(1/87)

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: أما قَوْله مَا لم ترأياه فَإِنَّهُ رده إِلَى أصت كنتيسبأصله، وَالْعرب لم تسْتَعْمل أرى وَيرى وَترى ونرى إِلَّا بِإِسْقَاط الْهمزَة تَخْفِيفًا فَأَما فِي الْمَاضِي فالهمزة مثبتة. وَكَانَ الْمَازِني يَقُولُ: الِاخْتِيَار عِنْدِي أَن أرويه لم ترياه، لِأَن الزحاف أيسر من رد هَذَا إِلَى أَصله وَكَذَلِكَ ينشد قَول الآخر:

ألم تَرَ مَا لاقيت والدهر أعصر ... وَمن يتمل الْعَيْش ير وَيسمع

بتحقيق الْهمزَة.

قَالَ أَبُو غَانِم الْمَعْنَوِيّ: أخبرنَا أَبُو خَليفَة عَن مُحَمَّد بْن سَلام قَالَ: كَانَت معي الَّتِي ينْسب بهَا ذُو الرمة بنت طلبة بْن قيس بْن عَاصِم الْمنْقري

(1/88)

وَكَانَت أم ذِي الرمة مولاة لآل قيس بْن عَاصِم، فَلَمَّا رَأَتْ شغف ذِي الرمة بهَا وتزيد أمره أَرَادَت أَن توقع بَينهمَا على لِسَان ذِي الرمة فَقَالَت:

على وَجه مي مسحة من ملاحةٍ ... وَتَحْت الثِّيَاب الْعَار لَو كَانَ باديا

ألم تَرَ أَن المَاء يخْبث طعمه ... وَإِن كَانَ لون المَاء أَبيض صافيا

فَوجدت مي من ذَلِك، فَمَا زَالَ ذُو الرمة يعْتَذر وَيحلف أَنه مَا قَالَه فَقَالَ وَكَيف وَقد أفنيت عمري فِي النسيب بهَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَهَذَا الشّعْر أشبه شَيْء بقول ذِي الرمة أنشدناه الْأَخْفَش والزجاج عَن أبي الْعَبَّاس الْمبرد:

تَقول عجوزٌ مدرجي متروحا ... على بَابهَا من بَيت أَهلِي وغادياً

(1/89)

أذو زوجةٍ بِالْمِصْرِ أم ذُو قرابةٍ ... أَرَاك لَهَا بِالْبَصْرَةِ الْعَام ثاويا

فَقلت لَهَا لَا إِن أَهلِي لجيرة ... لأكثبة الدهنا جَمِيعًا وماليا

وَمَا كنت مذ أبصرتني فِي خُصُومَة ... أراجع فِيهَا يَا ابْنة الْقَوْم قَاضِيا

ولكنني أَقبلت من جَانِبي قسا ... أَزور فَتى نجدا كَرِيمًا يَمَانِيا

من آل أبي مُوسَى ترى الْقَوْم حوله ... كَأَنَّهُمْ الكروان أبصرن بازيا

مرمين من ليثٍ عَلَيْهِ مهابةٌ ... تفادي أسود الغاب مِنْهُ تفاديا

وَمَا الْخرق مِنْهُ يرهبون وَلَا الْخَنَا ... عَلَيْهِم وَلَكِن هَيْبَة هِيَ مَا هيا

(1/90)

أخبرنَا: مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْدٍ قَالَ أخبرنَا أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِي قَالَ تَقول الْعَرَب العرى الفادح خير من الزرى الفاضح.

أخبرنَا: عَليّ ابْن سُلَيْمَانَ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ رَوَتِ الرُّوَاةُ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بكر الصّديق رَحمَه الله وَلَمْ تَحْضُرْهُ عَائِشَةُ زَارَتْ قَبْرَهُ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَخِي إِنِّي لَو حضرت وفاتك مَا زُرْتُ قَبْرَكَ. وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ مُتَمَثِّلَةً:

وَكُنَّا كندماني جُذَيْمَةَ حُقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا

فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجتماعٍ لَمْ نبت لَيْلَة مَعًا

(1/91)

ثُمَّ إِنَّهَا حَضَرَتْ أَبَا بكرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَتْ: هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قَالَ حَاتِمٌ:

أَمَاوَيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: يَا بُنَيَّةُ لَا تَقُولِي هَذَا وَلَكِنْ قُولِي " وَجَاءَتْ سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ " وَهَكَذَا كَانَ يَقْرَؤُهَا أَبُو بَكْرٍ رَحمَه الله.

أنشدنا: عَليّ بْن سُلَيْمَان وَأَبُو إِسْحَاق الزّجاج قَالَا: أنشدنا الْمبرد لأبي الْعَتَاهِيَة يرثي عَليّ بْن ثَابت وَكَانَ مؤاخيا لَهُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس وَكَانَ عَليّ أديبا ناسكا ظريفا:

أَلا من لي بأنسك يَا أخيا ... وَمن لي أَن أبثك مَا لديا

طوتك خطوب الدَّهْر بعد نشر ... كَذَاك خطوبة نشرا وطيا

فَلَو نشرت قواك لي المنايا ... شَكَوْت إِلَيْك مَا صنعت إليا

بكيتك يَا أخي بدمع عَيْني ... فَلم يُغني الْبكاء عَلَيْك شيا

وَكَانَت فِي حياتك لي عظاتٌ ... وَأَنت الْيَوْم أوعظ مِنْك حَيا

(1/92)

قَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَخذ هَذَا من قَول بعض الْأَعَاجِم حضر ملكا لَهُم مَاتَ فَقَالَ: كَانَ الْملك أمس أنطق مِنْهُ الْيَوْم، وَهُوَ الْيَوْم أوعظ مِنْهُ أمس.

وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة فِيهِ أَيْضا:

يَا عَليّ بن ثَابت أَيْن أنتا ... أَنْت بَين الْقُبُور حَيْثُ دفنتا

يَا عَليّ بْن ثَابت بَان مني ... صَاحب جلّ فَقده يَوْم بِنْتا

قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لَهَا وسكنتا

قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: وَهَذَا أَيْضا مَأْخُوذ من قَول بعض الْأَعَاجِم، حضر موت صديق لَهُ، فَلَمَّا قضى ارْتَفَعت الْأَصْوَات عَلَيْهِ بالبكاء فَقَالَ: حركنا بسكونه ... وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة فِي عَليّ بْن ثَابت أَيْضا:

صَاحب كَانَ لي هلك ... والسبيل الَّتِي سلك

كل حيٍ مملك ... سَوف يفنى وَمَا ملك

يَا عَليّ بْن ثَابت ... غفر الله لي وَلَك

(1/93)

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: قَالَ بزرجمهر التأني حصن منيع إِلَيْهِ يتوافى الرَّأْي وَبِه يستماح النجيح، ويتوقع الظفر بِكُل مَطْلُوب وَقَالَ بزرجمهر: لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يجزع أَن حطه ذُو سُلْطَان عَن منزله رفع إِلَيْهَا جَاهِلا، فَإِن الْأَقْسَام لم تجر على قدر الأخطاء.

أخبرنَا: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَزِيدِيُّ عَن عَمه قَالَ: وَفد المؤمل بْن أميل على الْمهْدي بِالريِّ فامتدحه فَأمر لَهُ بِعشْرين ألف دِرْهَم. فاتصل الْخَبَر بالمنصور فَكتب إِلَيْهِ يعذله وَيَقُول: إِنَّمَا كَانَت سَبِيلك أَن تَأمر للشاعر بعد أَن يقوم ببابك سنة بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم وَكتب

(1/94)

إِلَى كَاتب الْمهْدي بإنفاذ الشَّاعِر إِلَيْهِ فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل لَهُ قد شخص إِلَى مَدِينَة السَّلَام، فَكتب إِلَى الْمَنْصُور بِخَبَرِهِ فأنفذ الْمَنْصُور قائداً من قواده إِلَى النهروان يتصفح وُجُوه النَّاس حَتَّى وَقع بِيَدِهِ المؤمل فَأتى بِهِ الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ أتيت غُلَاما فخدعته قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أتيت غُلَاما غرا كَرِيمًا فخدعته فانخدع لي فَكَأَن ذَلِك أعجبه فَقَالَ لَهُ أَنْشدني مَا قلت فِيهِ فأنشده:

هُوَ الْمهْدي إِلَّا أَن فِيهِ ... مشابه صُورَة الْقَمَر الْمُنِير

تشابه ذَا وَذَا فهما إِذا مَا ... أنارا مشكلان على الْبَصِير

فَهَذَا فِي الظلام سراج نَار ... وَهَذَا فِي النَّهَار سراج نور

وَلَكِن فضل الرَّحْمَن هَذَا ... على ذَا بالمنابر والسرير

وبالملك الْعَزِيز فَذا أَمِير ... وماذا بالأمير وَلَا الْوَزير

وَنقص الشَّهْر يخمد ذَا وَهَذَا ... مُنِير عِنْد نُقْصَان الشُّهُور

فيا ابْن خَليفَة اللَّه الْمُصَفّى ... بِهِ تعلى مفاخرة الفخور

لَئِن فت الْمُلُوك وَقد توافوا ... إِلَيْك من السهولة والوعور

لقد سبق الْمُلُوك أَبوك حَتَّى ... بقوا من بَين كاب أَو حسير

وَجئْت وَرَاءه تجْرِي حثيثا ... وَمَا بك حِين تجْرِي من فتور

فَقَالَ النَّاس مَا هَذَانِ إِلَّا ... بِمَنْزِلَة الخليق من الجدير

(1/95)

لَئِن سبق الْكَبِير فَأهل سبقٍ ... لَهُ فضل الْكَبِير على الصَّغِير

وَإِن بلغ الصَّغِير مدى كَبِير ... فقد خلق الصَّغِير من الْكَبِير

فَقَالَ أَحْسَنت، وَلَكِن لَا يُسَاوِي عشْرين ألف دِرْهَم. ثمَّ قَالَ لَهُ أَيْن المَاء قَالَ هَا هُوَ ذَا قَالَ يَا ربيع أعْطه مِنْهُ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم وَخذ الْبَاقِي فَفعل، فَلَمَّا صَارَت الْخلَافَة إِلَى الْمهْدي رفع المؤمل إِلَيْهِ يذكر قصَّته فَضَحِك وَأمر برد المَال إِلَيْهِ فَرد.

أنشدنا الزّجاج قَالَ أنشدنا الْمبرد:

أحبا على حب وَأَنت بخيلةٌ ... وَقد زَعَمُوا أَن لَا يحب بخيل

بلي وَالَّذِي حج الملبون بَيته ... ويشفي الجوي بالنيل وَهُوَ قَلِيل

وأنشدنا أَبُو عَبْد اللَّه اليزيدي قَالَ أَنْشدني عمي لمُحَمد بْن عَبْد الله ابْن طَاهِر:

مطيات السرُور بَنَات عشر ... إِلَى عشْرين ثمَّ قف المطايا

فَإِن جاوزتهن فسر قَلِيلا ... بَنَات الْأَرْبَعين من الرزايا

مقاساة النِّسَاء مَعَ اللَّيَالِي ... إِذا أولدتهن من البلايا

(1/96)

قَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش: من أحسن مَا قيل فِي تَرْتِيب أَسْنَان النِّسَاء وَإِن كَانَ شعرًا ضَعِيفا قَول ضَمرَة للنعمان بْن الْمُنْذر وَقد سَأَلَهُ عَن وصف النِّسَاء:

مَتى تلق بنت الْعشْر قد نَص ثديها ... كلؤلؤة الغواص يَهْتَز جيدها

تَجِد لَذَّة مِنْهَا لخفة روحها ... وغرتها وَالْحسن بعد يزيدها

وصاحبة الْعشْرين لَا شَيْء مثلهَا ... فَتلك الَّتِي تلهو بهَا وتريدها

وَبنت الثَّلَاثِينَ الشِّفَاء حَدِيثهَا ... هِيَ الْعَيْش مَا رقت وَلَا دق عمودها

وَإِن تلق بنت الْأَرْبَعين فغبطة ... وَخير النِّسَاء ودها وولودها

وصاحبة الْخمسين فِيهَا بقيةٌ ... من الباه وَاللَّذَّات صلب عودهَا

وصاحبة السِّتين لَا خير عِنْدهَا ... وفيهَا ضيَاع والحريص يريدها

وصاحبة السّبْعين إِن تلف معرسا ... عَلَيْهَا فتلكم خزية يستفيدها

وَذَات الثَّمَانِينَ الَّتِي قد تجللت ... من الْكبر الفاني وَقد وريدها

وصاحبة التسعين يرعش رَأسهَا ... وبالليل مقلاق قَلِيل هجودها

وَمن طالع الْأُخْرَى فقد ضل عقلهَا ... وتحسب أَن النَّاس طراً عبيدها

(1/97)

أخبرنَا: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ أخبرنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الْأَصْمَعِي قَالَ: دخل بعض الشُّعَرَاء على يحيى بْن خَالِد الْبَرْمَكِي وَبَين يَدَيْهِ جَارِيَة يُقَال لَهَا خنساء وَكَانَت شاعرة ظريفة فَقَالَ لَهُ اعبث بهَا فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

خنساء يَا خنساء حَتَّى مَتى ... يرْتَفع النَّاس وتنحط

قد صرت نضوا فَوق فرش الْهوى ... كأنني من دقي خيط

فَقَالَت خنساء:

وَكَيف منجاي وَقد حف بِي ... بَحر هوى لَيْسَ لَهُ شط

يدركك الْوَصْل فتنجو بِهِ ... أَو يَقع الْبَحْر فتنحط

أخبرنَا: أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن السّري الزّجاج قَالَ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد قَالَ:

(1/98)

دخلت على عبيد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر وَقد فصد فَظَنَنْت أَن ذَلِك لعِلَّة فَأَكْثَرت لَهُ من الدُّعَاء فَقَالَ: خفض عَلَيْك أَبَا الْعَبَّاس فَلَيْسَ ذَلِك لعِلَّة، وَانْظُر مَا تَحت الْبسَاط فَنَظَرت فَإِذا رقْعَة فِيهَا:

حلف الظريف بِقطعِهِ يَده ... إِذا مس من يهواه بالألم

حَتَّى إِذا ضَاقَ الفضاء بِهِ ... جعل الفصاد تَحِلَّة الْقسم

قلت: حسن أَيهَا الْأَمِير فَمَا سَببه؟ قَالَ مددت البارحة يَدي إِلَى بعض الْجَوَارِي بِالضَّرْبِ فألمت لما نالها من الْأَلَم فَحَلَفت بِقطع يَدي فاستفتيت الْيَوْم فأفتيت بِالْقَصْدِ فَفعلت.

أنشدنا: الْأَخْفَش لأبي نواس:

مَا بَال قَلْبك لَا يقر خفوقا ... وأراك ترعى النَّجْم والعيوقا

وجفون عَيْنك قد نثرن من البكا ... فَوق المدامع لؤلؤا وعقيقا

لَو لم يكن إِنْسَان عَيْنك سابحا ... فِي بَحر دمعته لمات غريقاً

(1/99)

أخبرنَا: عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن يحيي عَنِ عمر بْن شبه قَالَ مدح رؤبة العجاج بن شبْرمَة فَقَالَ:

لما سَأَلت النَّاس أَيْن المكرمة ... والعز والجرثومة المقدمه

وَأَيْنَ فاروق الْأُمُور المبهمة ... تتَابع النَّاس على ابْن شبرمه

فَأعْطَاهُ مائَة دِرْهَم وَكَانَ رزقه فِي الشَّهْر للْقَضَاء.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الزجاجي أنشدنا الْأَخْفَش للعديل بن الْفرج:

يَأْخُذن زينتهن أحسن مَا يرى ... وَإِذا عطلن فهن غير عواطل

(1/100)

وَإِذا خبأن خدودهن أريننا ... حدق المها وأخذن نبل الْقَاتِل

ورمينني لَا يستترن بجنةٍ ... إِلَّا الصِّبَا وعلمن أَيْن مقاتلي

يلبسن أردية الشَّبَاب لأَهْلهَا ... ويجر باطلهن ذيل الْبَاطِل

وأنشدني لأبي حَيَّة النميري:

حوراء تسحب من قيامٍ فرعها ... فتغيب فِيهِ وَهُوَ جثلٌ أسحم

فَكَأَنَّهَا فِيهِ نَهَار مشرق ... وَكَأَنَّهُ ليل عَلَيْهَا مظلم

وأنشدنا الزّجاج لأبي الْعَتَاهِيَة:

هَل الدَّهْر إِلَّا لَيْلَة ثمَّ يَوْمهَا ... وحوال إِلَى حول وَشهر إِلَى شهر

سرينا فأدلجنا فَكَانَت رِكَابنَا ... تسير بِنَا فِي غير بر وَلَا بَحر

منايا يقربن الْبعيد من البلى ... ويدنين أشلاء الْكِرَام إِلَى الْقَبْر

ويتركن أَزوَاج الغيور لغيره ... ويقسمن مَا أبقى الشحيح من الوفر

وأنشدنا للْعَبَّاس بْن الْأَحْنَف:

لم ألق ذَا شجنٍ يبوح بحبه ... إِلَّا ظننتك ذَلِك المحبوبا

(1/101)

حذرا عَلَيْك وإنني بك واثق ... أَن لَا ينَال سواي مِنْك نَصِيبا

أنشدنا أَبُو كبر الْأَصْبَهَانِيّ لنَفسِهِ:

قسمت عَلَيْك الدَّهْر نصفا تعقبا ... لفعلك فِي الْمَاضِي وَنصفا ترقبا

إِذا استيقنت نَفسِي بِأَن لست غادرا ... أَبى الظَّن والإشفاق إِلَّا تربيا

فقد وَالَّذِي لَو شَاءَ غيب وَاحِدًا ... فَروح قلبا والها متهيبا

شَككت فَمَا أَدْرِي أفرط مودتي ... يربيك أم ظَنِّي يربيك مذنبا

وَلَو كَانَ قصدي مِنْك وصلا أناله ... لقد كنت لي أندى جناباً وأخصبا

إِذا وَلَا قللت العتاب وَلم أَزْد ... على أَن تراني فِي امتداحك مطنبا

وأنشدنا أَيْضا:

لقد جمعت أهواي بعد شتاتها ... صفاتك فانقاد الْهوى لَك أجمع

سوى خصْلَة فكري رهين بذكرها ... فقلبي مِنْهَا مَا حييت مروع

وحاشاك مِنْهَا غير أَن أَخا الْهوى ... بِذكر الَّذِي يخْشَى من الْغدر مولع

أنشدنا: أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن السّري الزّجاج قَالَ أنشدنا الْمبرد لديك الْجِنّ:

(1/102)

يَا مهجة طلع الْحمام عَلَيْهَا ... وجنى لَهَا ثَمَر الردى بِيَدَيْهَا

حكمت سَيفي فِي مجَال خناقها ... ومدامعي تجْرِي على خديها

رويت من دمعها الثرى ولطالما ... روى الْهوى شفتي من شفتيها

فوحق نعليها وَمَا وطئ الْحَصَا ... شَيْء أعز على من نعليها

مَا كَانَ قتليها لِأَنِّي لم أكن ... أبْكِي إِذا سقط الذُّبَاب عَلَيْهَا

لَكِن بخلت على الْعُيُون بلحظها ... وأنفت من نظر الْعُيُون إِلَيْهَا

(1/103)

حدثنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ قَالَ حدثنَا أَبُو هَاشِمٍ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ الطُّوسِيُّ قَالَ حدثنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ عَنْ بَسَّامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ وَعَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَعَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: الْجَلالَة الأبل الَّتِي تَأْكُل الْعذرَة وأصل الجلة البعر. قَالَ الْأَصْمَعِي يُقَال خرج الْإِمَاء يجتللن، وَالْبَغي الْفَاجِرَة، والبغاء الزِّنَا بِالْمدِّ وَالْقصر، قَالَ اللَّه عز وَجل: " وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبغاء " وَالْبَغي فِي غير هَذَا الْأمة والبغية الربيئة وَهُوَ الطليعة للْقَوْم. وَأنْشد الْأَصْمَعِي:

فَكَانَ وَرَاء الْقَوْم مِنْهُم بغية ... فأوفى يفاعا من بعيد فبشرا

(1/104)

حدثنَا: إِسْمَاعِيلُ الْوَرَّاقُ قَالَ حدثنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدثنَا شَبابَة ابْن سَوَّارٍ قَالَ حدثنَا فُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أُصِيبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَكَى وَقَالَ أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ أَشَاهِدٌ لِي بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ كع، فَضرب عَليّ عَلَى مِنْكَبِهِ وَقَالَ أَجَلْ أَشْهَدُ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَقَالَ عُمَرُ كَيْفَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِسْلامُكَ عِزًّا وَوِلايَتُكَ عَدْلا وَمِيتَتُكَ شَهَادَةً فَقَالَ لَا وَالله لَا تغروني فِي رَبِّي أَوْ قَالَ دِينِي شَكَّ الزَّعْفَرَانِيُّ ثَكِلَتْ عُمَرَ أُمُّهُ إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُ رَبُّهُ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: كع الرجل عَنِ الْأَمر فَهُوَ كاع إِذا تلكأ عَنهُ جبنا وفرقا، فَأَما العك فَهُوَ شدَّة الْحر يُقَال يَوْم عك وعكيك وأكٍ وأكيك إِذا كَانَ شَدِيد الْحر، والعكوك من الرِّجَال الْقصير المقتدر الْخلق، والعنكنكع ذكر السعالي ذكره الْخَلِيل وَأنْشد:

غولٌ تنازى شرساً عكنكعا

(1/105)

أخبرنَا: مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ أخبرنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن أخي الْأَصْمَعِي عَن عَمه وَأَبُو حَاتِم عَن أبي عبيده قَالَ: كَانَت امْرَأَة من الْعَرَب ذَات جمال وَكَمَال وَحسب وَمَال، فآلت أَن لَا تزوج نَفسهَا إِلَّا كَرِيمًا، وَلَئِن خطبهَا لئيم لتجدعن أَنفه، فتحاماها الرِّجَال حَتَّى انتدب لَهَا زيد الْخَيل وحاتم ابْن عبد الله، وَأَوْس بن حَارِثَة بْن لأم الطائيون. فارتحلوا إِلَيْهَا فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهَا قَالَت: مرْحَبًا بكم مَا كُنْتُم زوارًا، فَمَا الَّذِي جَاءَ بكم؟ فَقَالُوا جِئْنَا زواراً وخطاباً، قَالَت أكفياء كرام، فأنزلتهم وَفرقت بَينهم وأسبغت لَهُم الْقرى وزادت فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي بعثت بعض جواريها مُتَنَكِّرَة فِي زِيّ سائلةٍ تتعرض لَهُم، فَدفع لَهَا زيد وَأَوْس شطر مَا حمل إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا فَلَمَّا صَارَت إِلَى رَحل حَاتِم دفع إِلَيْهَا جَمِيع مَا حمل إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث دخلُوا عَلَيْهَا فَقَالَت ليصف كل وَاحِد مِنْكُم نَفسه فِي شعره، فابتدر زيد وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

هلا سَأَلت بني نَبهَان مَا حسبي ... عِنْد الطعان إِذا مَا احْمَرَّتْ الحدق

(1/106)

وَجَاءَت الْخَيل محمرا بوادرها ... بِالْمَاءِ يسفح عَن لباتها العلق

وَالْخَيْل تعلم أَنِّي كنت فارسها ... يَوْم الأكس بِهِ من نجدة روق

وَالْجَار يعلم أَنِّي لست خاذله ... إِن نَاب دهر لعظم الْجَار معترق

هَذَا الثَّنَاء فَإِن ترْضى فراضيةٌ ... أَو تسخطي فَإلَى من تعطف الْعُنُق

وَقَالَ أَوْس بْن حَارِثَة إِنَّك لتعلمين أَنا أكْرم أحسابا وَأشهر أفعالاً من أنصف أَنْفُسنَا لَك، أَنا الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِر:

إِلَى أَوْس بْن حَارِثَة بْن لأم ... ليقضي حَاجَتي فِيمَن قَضَاهَا

فَمَا وطئ الْحَصَى مثل ابْن سعدي ... وَلَا لبس النِّعَال وَلَا احتذاها

وَأَنا الَّذِي عقت عقيقته فأعتقت عَن كل شَعْرَة مِنْهَا نسمَة وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

فَإِن تنحكي ماوية الْخَيْر حاتما ... فَمَا مثله فِينَا وَلَا فِي الْأَعَاجِم

(1/107)

فتي لَا يزَال الدَّهْر أكبر همه ... فكاك أَسِير أَو مَعُونَة غَارِم

فَإِن تنكحي زيدا ففارس قومه ... إِذا الْحَرْب يَوْم أقعدت كل قَائِم

وَصَاحب نَبهَان الَّذِي يتقى بِهِ ... شذا الْأَمر عِنْد الْمُعظم المتفاقم

وَإِن تنكحيني تنكحي غير فَاجر ... وَلَا جارف جرف الْعَشِيرَة هَادِم

وَلَا متق يَوْمًا إِذا الْحَرْب شمرت ... بأنفسها نَفسِي كَفعل الأشائم

وَإِن طَارق الأضياف لَاذَ برحله ... وجدت ابْن سعدي للقرى غير عاتم

فَأَي فَتى أهدي لَك اللَّه فاقبلي ... فَإنَّا كرام من رُؤْس الأكارم

وَأَنْشَأَ حَاتِم يَقُولُ:

أماوي قد طَال التجنب والهجر ... وَقد عذرتني فِي طلابكم الْعذر

(1/108)

أماوي إِمَّا مَانع فمبينٌ ... وَإِمَّا عطاءٌ لَا ينهنهه الزّجر

أماوي مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْر

وَقد علم الأقوام لَو أَن حاتما ... أَرَادَ ثراء المَال كَانَ لَهُ وفر

إِلَى أَن أَتَى على القصيدة وَهِي مَشْهُورَة، فَقَالَت مَا أَنْت يَا زيد فقد وترت الْعَرَب وبقاؤك مَعَ الْحرَّة قَلِيل، وَأما أَنْت يَا أَوْس فَرجل ذُو ضرائر وَالصَّبْر عَلَيْهِنَّ شَدِيد، وَأما أَنْت يَا حَاتِم فمرضي الْخَلَائق مَحْمُود الشيم، كريم النَّفس، وَقد زَوجتك نَفسِي.

أخبرنَا: أَبُو عَبْد اللَّه نفطويه قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن يحيي عَنِ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ تَقول الْعَرَب الملاحة فِي الْفَم، والحلاوة فِي الْعَينَيْنِ، والْجمال فِي الْأنف.

أخبرنَا: نفطوية عَن ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ يُقَال للعمامة هِيَ الْعِمَامَة والمشوذ والسب والمقطعة والعصابة

(1/109)

والعصاب والتاج والمكورة والاقتعاط وَهُوَ أَن يتعمم الرجل وَلَا يحنك وَفِي الحَدِيث فَهِيَ عَنِ الاقتعاط وَأمر بالتلحي وَذكر أَيْضا أَنه يُقَال جَاءَ الرجل متختما أَي متعمما، وَمَا أحسن تختمه أَي تعممه وَهَذَا حرف لم يذكرهُ غير ابْن الْأَعرَابِي.

أنشدنا أَبُو بكر بْن السراج قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن أبي طَاهِر لنَفسِهِ:

حَبِيبِي حبيبٌ يكتم النَّاس أَنه ... لنا حِين ترمينا الْعُيُون حبيب

يباعدني فِي الْمُلْتَقى وفؤاده ... وَإِن هُوَ أبدى لي البعاد قريب

ويعرض عني والهوى لي مقبلٌ ... إِذا خَافَ عينا أَو أَشَارَ رَقِيب

فتخرس منا ألسن حِين نَلْتَقِي ... وتنطق منا أعين وَقُلُوب

(1/110)

أنشدنا أَبُو بكرٍ القياسي لنَفسِهِ:

لَئِن كَانَ الرَّقِيب بلَاء قوم ... فَمَا عِنْدِي أجل من الرَّقِيب

حجاب الْألف أيسر من نَوَاه ... وهجر الْخلّ خير للأديب

وَلَا وَأَبِيك مَا عَايَنت شَيْئا ... أَشد من الْفِرَاق على الْقُلُوب

أنشدنا عَليّ بْن سُلَيْمَان قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد:

الْمَرْء يأمل أَن يع ... يش وَطول عيشه قد يضرّهُ

تفنى بشاشته ويب ... قى بعد حُلْو الْعَيْش مره

وتخونه الْأَيَّام ح ... تى لَا يرى شَيْئا يسره

أخبرنَا: عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أخبرنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ عَن الرياشي قَالَ أخبرنَا عَبْد القاهر بْن السّري قَالَ: أصَاب قُتَيْبَة بْن مُسلم قَمِيصًا منسوجا بِاللُّؤْلُؤِ فَبعث بِهِ إِلَى الْحجَّاج بْن يُوسُف فَبعث بِهِ الْحجَّاج إِلَى الْوَلِيد ثمَّ تتبعته نفس الْحجَّاج فَكتب إِلَى قُتَيْبَة أما بعد: فَإنَّا كُنَّا أنفذنا مَا أنفذته إِلَيْنَا إِلَى الْوَلِيد وَمَا أحسبك إِلَّا قد احتسبت مثله قبلك لنسائك وبناتك، فآثرنا بِمَا قبلك مِنْهُ

(1/111)

فَكتب إِلَيْهِ: لِأَن آكل الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل بِهِ لغير اللَّه أحب إِلَيّ من أَن أدخر عَنْك علقا. فَكتب إِلَيْهِ ذَلِك الظَّن بك.

حدثنَا: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ قَالَ حدثنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدثنَا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد عَن شَيبَان عَن قَتَادَة فِي قَول اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كثير " قَالَ ذكر لنا أَن رَسُول اللَّه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ خَدَشٌ مِنْ عُودٍ وَلَا عَثْرَة رجل وَلَا اخْتِلَاق عِرْقٍ إِلا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ.

حدثنَا: إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد قَالَ حدثنَا إِسْحَاق بْن مُحَمَّد عَنِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد

(1/112)

عَن شَيبَان عَن قَتَادَة فِي قَول اللَّه عز وَجل: " وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بعد قُوَّة أنكاثاً " قَالَ هَذَا مثل ضربه اللَّه عز وَجل لمن نكث عَهده وَيَقُول لَو سَمِعْتُمْ بِامْرَأَة نقضت غزلها من بعد إبرامه، أما كُنْتُم تَقولُونَ مَا أَحمَق هَذِه؟ قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَالَّذِي يذهب إِلَيْهِ غير قَتَادَة أَنهم نهوا عَنِ الرُّجُوع إِلَى الْكفْر بعد الْإِسْلَام لِئَلَّا يَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد إبرامه وَوَاحِد الأنكاث نكث. وَهُوَ مَا نقض من الأخبية والأكسية ليغزل ثَانِيَة ويعاد مَعَ الْجَدِيد.

أخبرنَا: أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد قَالَ سَأَلت أَبَا الْفضل الرياشي عَن معني قَول الشَّاعِر:

الرّيح تبْكي شجوها ... والبرق يلمع فِي الغمامة

فَقَالَ هُوَ عِنْدِي كَقَوْلِهِم ويل للشجي من الخلي يَعْنِي أَن الْبَرْق يضْحك وَالرِّيح تبْكي فَضَربهُ مثلا لنَفسِهِ

(1/113)

قَالَ وَغير الرياشي يذهب إِلَى أَن الرّيح تبْكي شجوها والبرق أَيْضا يبكي وَجعل يلمع حَالا وَالتَّقْدِير الرّيح تبْكي شجوها والبرق لامعاً فِي الغمامة.

أنشدنا أَبُو بكر الْأَصْبَهَانِيّ لنَفسِهِ:

إِلَّا تكن فِي الْهوى أرويت من ظمأ ... وَلَا فَككت من الأغلال مأسورا

لقد دللت على أَن الْهوى بدل ... من أجل مَا كَانَ مرجوا ومحذورا

فَحسب نَفسِي غَنِي علمي بموضعها ... من الْهوى وبأني كنت مَعْذُورًا

فَأَيْنَ أذهب لَا بل مَا أُرِيد من الأ ... يام أروى غليلي الْإِفْك والزورا

وَأَنت خَال وقلبي ذَا الَّذِي ملكت ... هَوَاهُ نَفسك إِكْرَاها وتخييرا

ميلًا إِلَيْهَا لَهُ من دون مالكةٍ ... فلست أنساه مَوْصُولا ومهجوراً

إِنِّي وغيلة نَفسِي فِيك قائمةٌ ... لم تلق مذ ألفتك النَّفس تغييرا

لم يهوك الْقلب إِذْ أظهرت أَنْت لَهُ ... برا فيسلاك إِذْ أظهرت تقصيرا

وَلم يكن باختيارٍ لي فأتركه ... وَلَا اضطرارا أَتَاهُ الْقلب مقهورا

لكنه من أُمُور اللَّه ممتنعٌ ... فِي الْوَصْف قدرَة الرَّحْمَن تَقْديرا

لن يضْبط الْعقل إِلَّا من يدبره ... وَلنْ ترى للهوى فِي الْعقل تدبيرا

كن محسنا أَو مسيئا وابق لي أبدا ... تكن لدي على الْحَالين مشكورًا

(1/114)

وأنشدنا لنَفسِهِ فِي مثل هَذَا:

فَإِن تكن الْقُلُوب إِذا تجازي ... وتسلك فِي الْهوى سننا سويا

فَمَالِي أَهْون الثقلَيْن جمعا ... عَلَيْك وَأَنت أكْرمهم عليا

عَمَدت سِنِين أستخفي التصابي ... وَلَا أرضي من الْوَصْل الرضيا

فَلم تقلع صروف الدَّهْر حَتَّى ... خسست عَن أَن أحيي أَو أَحْيَا

تبغض مَا اسْتَطَعْت وعش سليما ... فَأَنت أحب مخلوقٍ إليا

أنشدنا أَبُو إِسْحَاق الزّجاج قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد:

يَا أَيهَا الرَّاكِب الغادي لطيته ... عرج أنبئك عَن بعض الَّذِي أجد

مَا عالج النَّاس من وجدٍ ألم بهم ... إِلَّا وجدت بِهِ فَوق الَّذِي وجدوا

حسبي رِضَاهُ وَأَنِّي فِي محبته ... ووده آخر الْأَيَّام اجْتهد

أخبرنَا: أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس اليزيدي قَالَ أَخْبرنِي عمي الْفضل

(1/115)

بن مُحَمَّد قَالَ أَنْشدني سُلَيْمَان بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر لِأَبِيهِ:

إِلَّا إِنَّمَا الْإِنْسَان غمد لِقَلْبِهِ ... وَلَا خير فِي غمد إِذا لم يكن نصل

فَإِن كَانَ للْإنْسَان قلبٌ فقلبه ... هُوَ النصل وَالْإِنْسَان من بعده فضل

أخبرنَا: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبرنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن أخي الْأَصْمَعِي عَن عَمه قَالَ: وقف أَعْرَابِي على مَرْوَان بْن الحكم وَهُوَ يفْرض للنَّاس بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ افْرِضْ لي فَقَالَ طوينا الْكتاب فَقَالَ أما علمت أَنِّي الْقَائِل:

إِذا هز الْكَرِيم يزِيد خيرا ... وَإِن هز اللَّئِيم فَلَا يزِيد

فَقَالَ مَرْوَان أنشدتك الله أَنْت الْقَائِل، فَقَالَ نعم. فَقَالَ أفرضوا لَهُ.

(1/116)

أخبرنَا: مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبرنِي عَبْد الرَّحْمَن بن أخي الْأَصْمَعِي قَالَ: كَانَ عمي يتطير مني ويتشاءم بِي وَكَانَت الضَّرُورَة تدفعني إِلَى لِقَائِه للْقِرَاءَة عَلَيْهِ فَكنت لَا آتيه حَتَّى يفرغ من صلَاته فباكرته يَوْمًا وَهُوَ يُصَلِّي الْغَدَاة فَجَلَست حَتَّى فرغ من صلَاته ثمَّ الْتفت إِلَيّ فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن عوذا بِاللَّه مِنْك ثمَّ أدَار وَجهه إِلَى نَاحيَة الْيَمين فَقُمْت فَجَلَست بحذائه فأدار وَجهه إِلَى نَاحيَة يسَاره فَقُمْت فَجَلَست بحذائه فأدار وَجهه عني وَجعل إِلَيّ قَفاهُ فَقُمْت فَجَلَست بحذائه فَقَالَ هَات يَا مَلْعُون. مَا مَعَك فاقرأه ثمَّ أنشا يَقُولُ:

نظر الْعين إِلَى ذَا ... يكحل الْعين بداء

رب قد أعطيتناه ... وَهُوَ من شَرّ الْعَطاء

عَارِيا يَا رب خُذْهُ ... فِي قَمِيص ورداء

أخبرنَا: أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن مُسلم بْن قُتَيْبَة قَالَ أَخْبرنِي أبي قَالَ حَدثنِي أَبُو حَاتِم سهل بْن مُحَمَّد السجسْتانِي قَالَ كنت عِنْد الْأَخْفَش سعيد ابْن مسعده وَعِنْده التوزي فَقَالَ لي التوزي

(1/117)

مَا صنعت فِي كتاب الْمُذكر والمؤنث يَا أَبَا حَاتِم؟ قلت قد جمعت مِنْهُ شَيْئا قَالَ فَمَا تَقول فِي الفردوس؟ قلت هُوَ مُذَكّر، قَالَ فَإِن اللَّه عز وَجل يَقُولُ " الَّذِينَ يَرِثُونَ الفردوس هم فِيهَا خَالدُونَ " قلت ذهب إِلَى معني الْجنَّة فأنثه كَمَا قَالَ عز وَجل " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالهَا " فأنث والمثل مُذَكّر لِأَنَّهُ ذهب إِلَى معنى الْحَسَنَات، وكما قَالَ عمر بْن أبي ربيعَة:

فَكَانَ مجني دون من كنت أتقي ... ثَلَاث شخوص كاعبان ومعصر

فأنث والشخص مُذَكّر لِأَنَّهُ ذهب إِلَى معنى النِّسَاء، وَأَبَان لذَلِك بقوله كاعبان ومعصر كَمَا قَالَ الآخر:

وَإِن كلابا هَذِه عشر أبطنٍ ... وَأَنت برئٌ من قبائلها الْعشْر

فأنث والبطن مُذَكّر لِأَنَّهُ ذهب إِلَى الْقَبِيلَة فَقَالَ لي: يَا غافل النَّاس يَقُولُونَ نَسْأَلك الفردوس الْأَعْلَى فَقلت يَا نَائِم هَذَا حجتي لِأَن الْأَعْلَى من صِفَات الذكران لِأَنَّهُ أفعل، وَلَو كَانَ مؤنثا لقَالَ الْعليا كَمَا تَقول الْأَكْبَر والكبرى والأصغر وَالصُّغْرَى فَسكت خجلاً.

(1/118)

أنشدنا أَبُو الْحسن عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب للعرجي

لقد أرْسلت ليلى رَسُولا بِأَن أقِم ... وَلَا تقربنا فالتجنب أمثل

لَعَلَّ الْعُيُون الرامقات لودنا ... تكذب عَنَّا أَو تنام فتغفل

أناسٌ أمناهم فنموا حديثنا ... فَلَمَّا كتمنا السِّرّ عَنْهُم تَقولُوا

فَمَا حفظوا الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَيْننَا ... وَلَا حِين هموا بالقطيعة أجملوا

فَقلت وَقد ضَاقَتْ بلادي برحبها ... عَليّ بِمَا قد قيل فالعين تهمل

سأجتنب الدَّار الَّتِي أَنْتُم بهَا ... وَلَكِن طرفِي نَحْوهَا سَوف يعْمل

ألم تعلمي أَنِّي وَهل ذَاك نافعي ... لديك وَمَا أخْفى من الود أفضل

(1/119)

أرى مُسْتَقِيم الطّرف مَا الطّرف أمكُم ... وَإِن أم طرفِي غَيْركُمْ فَهُوَ أَحول

أنشدنا: أَبُو الْحسن بْن كيسَان النَّحْوِيّ قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب:

لما رَأَيْت أميرنا متجهما ... ودعت عَرصَة دَاره بِسَلام

ورفضت صفحته الَّتِي لم أرْضهَا ... وأزلت عَن رتب الدنات مقَامي

وَوجدت آبَائِي الَّذِي تقدمُوا ... سنوا الإباء على الْمُلُوك أَمَامِي

أنشدنا: الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا أَبُو عروس لنَفسِهِ:

قد أَتَيْنَاك وَإِن كن ... ت بِنَا غير حقيق

وتوخيناك بَال ... بر على بعد الطَّرِيق

كلما جئْنَاك قَالُوا ... نائمٌ غير مُفِيق

(1/120)

لَا أَنَام الله عَيْني ... ك وَإِن كنت صديقي

أخبرنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُود الوَاسِطِيّ قَالَ أخبرنَا أَبُو بكر الاشناني عَن أَحْمَد بْن صَالح عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر قَالَ سَأَلت أَبَا عَمْرو بْن الْعَلَاء عَنِ العثان مَا هُوَ؟ فَسكت سَاعَة ثمَّ قَالَ: هُوَ الدُّخان من غير نَار. قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُقَال هُوَ الدُّخان وَجمعه دواخن والغثان أأموجمعه غواثن وَلَا يعرف لَهما نَظِير فِي الجموع لِأَن فعالاً لَا يجمع على فواعل غير هذَيْن وَيُقَال للدخان الدخ والدخ. والنحاس وَأنْشد ابْن الْأَعرَابِي:

تضئ كَمثل سراج السلي ... ط لم يَجْعَل اللَّه فِيهِ نُحَاسا

وَأنْشد أَيْضا:

لَا خير فِي الشَّيْخ إِذا مَا اجلخا ... وسال غرب دمعه فلخا

وَكَانَ أكلا كُله وشخا ... تَحت رواق الْبَيْت يغشى الدخا

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: اجلخ اعوج ولخ يَقُولُ التصقت عينه وشخا يَقُول كثر غائطه ويغشى الدخا يَقُولُ يغشى التَّنور فَيَقُول أَطْعمُونِي.

(1/121)

أخبرنَا: مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْدٍ قَالَ أخبرنَا أَبُو حَاتِمٍ السجسْتانِي عَنِ الْأَصْمَعِي قَالَ قلت لبَعض الْأَعْرَاب أَي الْأَيَّام أقرّ؟ قَالَ الأحص الْورْد والأزب الهلوف. قلت فسره لي قَالَ الأحص الْورْد هُوَ يَوْم تصفو سماؤه ويحمر جوه وتطلع شمسه فَلَا يَنْفَكّ من برده لِأَنَّك لَا تَجِد لَهَا مسا والأزب الهلوف يَوْم تهب فِيهِ نكباؤه تَسوق الجهام.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم أصل الحصص قلَّة الشّعْر فَكَأَنَّهُ لما لم يكن فِيهِ غيم شبهه بالأحص الرَّأْس والهلوف الْجمل الْكثير الْوَبر يُقَال لحية هلوفة إِذا كَانَت كَثِيرَة الشّعْر فشبهه للغيم الَّذِي فِيهِ بِهَذَا والجهام سحابٌ لَا مَاء فِيهِ.

حدثنَا: أَبُو عَبْد اللَّه نفطويه قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن يحيي ثَعْلَب قَالَ أَخْبرنِي ابْن نجدة عَن أبي زيد الْأنْصَارِيّ قَالَ تَقول الْعَرَب لشهري الْبرد شَيبَان وملحان لما يرى فيهمَا من بَيَاض الثَّلج والصقيع، فاشتقاق شَيبَان من الشيب وملحان من الْملح، وَيُقَال لَهما

(1/122)

أَيْضا شهرا قماح لِأَن المَاء فيهمَا متكره مهجور أَخذ من مقامحة الْإِبِل وَذَلِكَ أَن تورد المَاء فَلَا تشرب وترفع رؤسها قَالَ بشر بْن أبي خازم يصف سفينة كَانَ فِيهَا هُوَ وَأَصْحَابه:

وَنحن على جوانبها قعُود ... نغض الطّرف كَالْإِبِلِ القماح

وَيَزْعُم الْعلمَاء بالأنواء أَن مُدَّة هذَيْن الشَّهْرَيْنِ من لدن سُقُوط الثريا وطلوع الإكليل، إِلَى سُقُوط الطرفة وطلوع سعد بلع، وَتلك خَمْسَة أنواء، قَالَ وتسمي الْعَرَب ضدي هذَيْن الشَّهْرَيْنِ فِي الْحر واشتداده أَيَّام ناجر مَأْخُوذ من النجر وَهُوَ شدَّة الْعَطش قَالَ ذُو الرمة وَهُوَ يصف مَاء ورده:

صدى آجنٍ يزوي لَهُ الْمَرْء وَجهه ... وَلَو ذاقه ظمآن فِي شهر ناجر

ومناهما بالخمس وَالْخمس بعده ... وبالحل والترحال أَيَّام ناجر

أعَاد القافية مرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ واطأ فِي شعره وَالْعرب تسمي هَذَا الإيطاء

(1/123)

أنشدنا أَبُو بكر الصولي قَالَ أنشدنا عَبْد اللَّه بْن المعتز بِاللَّه لنَفسِهِ:

وليل يود المصطلون بناره ... لَو أَنهم حَتَّى الصَّباح وقودها

رفعت بِهِ نَارِي لمن يَبْتَغِي الْقرى ... على شرف حَتَّى أَتَتْنِي وفودها

أنشدنا: أَبُو بكر الصولي أَيْضا قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيي ثَعْلَب قَالَ أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي:

ليلك يَا وقاد ليل قر ... وَالرِّيح مَعَ ذَلِك فِيهَا صر

أوقد يرى نارك من يمر ... إِن جلبت ضيفا فَأَنت حر

أنشدنا أَبُو غَانِم الْمَعْنَوِيّ:

يَوْم من الزَّمْهَرِير مقرور ... عَلَيْهِ جيب الْحساب مزرور

(1/124)

وشمسه حرَّة مخدرة ... لَيْسَ لَهَا من ضبابه نور

كَأَنَّمَا الجو حشوه إبر ... وَالْأَرْض من تَحْتَهُ قواوير

أنشدنا الْأَخْفَش قَالَ أَنْشدني أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى لِابْنِ الدمينة:

أَقُول وَقد أجد رحيل صحبي ... لحادي أهديا هَديا جميلا

ألما قبل بَيْنكُمَا بسلمى ... فقولا أَنْت ضامنة قَتِيلا

رجا مِنْك النوال فَلم تنيلي ... وَقد أورثته سقماً طَويلا

فَإِن وصلتكما سلمى فَإنَّا ... نرى فِي الْحق أَن تصل الوصولا

وَإِن آنستما بخلا فلسنا ... بِأول من رجا حرجاً بَخِيلًا

أنشدنا أَعْرَابِي ببادية الجزيرة:

أيا رب أَنْت الْمُسْتَعَان على النَّوَى ... لعزة قد أودى بجسمي حذارها

أسائل عَنْهَا أهل مَكَّة كلهم ... بِحَيْثُ التقى حجاجها وتجارها

(1/125)

عَسى خبرٌ مِنْهَا يُصَادف رفْقَة ... محلقة أَو حَيْثُ ترمي جمارها

ومعتمرٍ فِي ركب عزة لم تكن ... لَهُ حاجةٌ فِي الْحَج لَوْلَا اعتمارها

لَئِن عزفت نَفسِي عَنِ الْبعد عَنْكُم ... لبعد أَشد الوجد كَانَ اصطبارها

أنشدنا الْأَخْفَش لبَعض الظرفاء:

زعم الرَّسُول بأنني جمشته ... كذب الرَّسُول وفالق الأصباح

إِن كنت جمشت الرَّسُول فصافحت ... كفي أنامل قَابض الْأَرْوَاح

شغلي بحبك عَن سواك وَلَيْسَ لي ... قلبان مشغولٌ وَآخر صَاح

قلبِي الَّذِي لم يبْق فِيهِ هواكم ... فضلا لتجميشٍ وَلَا لمزاح

أنشدنا الْأَخْفَش قَالَ أَنْشدني أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب لنويفع بْن نفيع الفقعسي:

(1/126)

بَانَتْ لطيتها الْغَدَاة جنوب ... وطربت إِنَّك مَا علمت طروب

وَلَقَد تجاورنا وتهجر بَيْننَا ... حَتَّى نفارق أَو يُقَال مريب

وزيارة الْبَيْت الَّذِي لَا يَبْتَغِي ... فِيهِ سَوَاء حديثهن معيب

وَلَقَد يمِيل بِي الشَّبَاب إِلَى الصِّبَا ... حينا فَيحكم رَأْيِي التجريب

وَلَقَد توسدني الفتاة يَمِينهَا ... وشمالها البهنانة الرعبوب

نفج الحقيبة لَا ترى لكعوبها ... حدا وَلَيْسَ لساقها ظنبوب

عظمت روادفها وأكمل خلقهَا ... والوالدان نجيبةٌ ونجيب

لما أحل الشيب بِي أثقاله ... وَعلمت أَن شَبَابِي المسلوب

قَالَت كَبرت وكل صَاحب لذةٍ ... لبلىً يعود وَذَلِكَ التتبيب

هَل لي من الْكبر الْمُبين طَبِيب ... فأعود غرا وَالزَّمَان عَجِيب

ذهبت لداتي والشباب فَلَيْسَ لي ... فِيمَن تَرين من الْأَنَام ضريب

(1/127)

وَإِذا السنون دأبن فِي طلب الْفَتى ... لحق السنون وَأدْركَ الْمَطْلُوب

يسْعَى الْفَتى لينال أفضل سَعْيه ... هَيْهَات ذَاك وَدون ذَاك خطوب

يسْعَى ويأمل والمنية خَلفه ... توفى الإكام لَهَا عَلَيْهِ رَقِيب

لَا الْمَوْت محتقر الصَّغِير فعادلٌ ... عَنهُ وَلَا كبر الْكَبِير مهيب

وَلَئِن كَبرت لقد عمرت كأنني ... غُصْن تفيئه الرِّيَاح رطيب

فكذاك حَقًا من يعمر يبله ... كرّ الزَّمَان عَلَيْهِ والتقليب

حَتَّى يعود من البلى وَكَأَنَّهُ ... فِي الْكَفّ أفوق ناصلٍ معصوب

مرط القذاذ فَلَيْسَ فِيهِ مصنعٌ ... لَا الريش يَنْفَعهُ وَلَا التعقيب

ذهبت شعوب بأَهْله وبماله ... إِن المنايا للرِّجَال شعوب

والمرء من ريب الزَّمَان كَأَنَّهُ ... عود تداوله الرعاء ركُوب

(1/128)

غرضٌ لكل ملمةٍ يَرْمِي بهَا ... حَتَّى يصاب سوَاده الْمَنْصُوب

أمْلى أَبُو الْقَاسِم الزجاجي: رَحمَه اللَّه علينا قَالَ: لم يَجِيء فِي كَلَام الْعَرَب من الجموع على فعال إِلَّا سِتَّة أحرف من ذَلِك قَوْلهم: ظئر وظؤار وعنزٌ رَبِّي وأعنز ربَاب حَدِيثَة النِّتَاج وتوءم وتؤام وعرق وعراق ورخل ورخال وفرير وفرار لولد الْبَقَرَة وَقَالَ أَيْضا رَحمَه اللَّه: وَمِمَّا جَاءَنِي مثنى وَلم ينْطق لَهُ بِوَاحِد قَوْلهم جَاءَ يضْرب أصدريه إِذا جَاءَ فَارغًا وَكَذَلِكَ جَاءَ يضْرب أزدريه وَيُقَال للرجل إِذا كَانَ يهدد

(1/129)

وَلَيْسَ وَرَاءه شَيْء جَاءَ ينفض مذرويه وَقد يُقَال لَهُ أَيْضا مثل ذَلِك إِذا جَاءَ فَارغًا لَا شَيْء مَعَه وَيُقَال الشَّيْء حوالينا بِلَفْظ التَّثْنِيَة لَا غير وَلم يفرد لَهُ وَاحِد إِلَّا فِي شعر شَاذ أنشدوا:

أهدموا بَيْتك لَا أَبَا لكا ... وَزَعَمُوا أَنَّك لَا أَخا لكا

وَأَنا أَمْشِي الدألي حوالكا

وَمن ذَلِك دواليك وَالْمعْنَى مداولة بعد مداولة وَلَا يفرد لَهُ وَاحِد قَالَ عَبْد بني الحسحاس:

كَأَن الصبيريات يَوْم لقيننا ... ظباءٌ أعارت طرفها للمكانس

(1/130)

وَهن بَنَات الْقَوْم إِن يشعروا بِنَا ... يكن بَنَات الْقَوْم إِحْدَى الدهارس

فكم قد شققنا من رِدَاء مُنِير ... وَمن برقع عَن طفلة غير عانس

إِذا شقّ بردٌ شقّ بالبرد مثله ... دواليك حَتَّى كلنا غير لابس

وَمن ذَلِك حنانيك وَمَعْنَاهُ تَحَنن بعد تَحَنن وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا هَكَذَا مَنْصُوبًا مُضَافا بِلَفْظ التَّثْنِيَة لِأَنَّهُ مصدر وَقد أفرد وَاسْتعْمل مُتَمَكنًا أنْشد سِيبَوَيْهٍ:

قَالَت حنان مَا أُتِي بك هَا هُنَا ... أذو زَوْجَة أم أَنْت بالحي عَارِف

(1/131)

تَقْدِيره أمرنَا حنان فرفعه بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر وَمعنى الحنان الرَّحْمَة والتعطف ... وَمن ذَلِك هَذَا ذيك إِنَّمَا يُرِيد هَذَا بعد هَذ والهذ الْقطع واحده مُسْتَعْمل أنْشد سِيبَوَيْهٍ:

ضربا هَذَا ذيك وطعنا وخضا

وَمن ذَلِك لبيْك وَسَعْديك إِنَّمَا يسْتَعْمل هَكَذَا فِي لفظ التَّثْنِيَة قَالَ سِيبَوَيْهٍ سَأَلت الْخَلِيل عَنِ اشتقاقه وَمَعْنَاهُ فَقَالَ لبيْك من الْأَلْبَاب يُقَال ألب الرجل بِالْمَكَانِ إلباباً إِذا أَقَامَ بِهِ فَإِذا قَالَ لبيْك فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنا مُقيم عِنْد أَمرك وَسَعْديك مَأْخُوذ من الإسعاد والإسعاد والمساعدة سَوَاء فَإِذا قَالَ لله عز وَجل لبيْك وَسَعْديك فِي التَّلْبِيَة فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنا مُقيم عِنْد أَمرك ومتابع لَهُ فقد تقرب مِنْهُ بهواه لَا بِبدنِهِ هَذَا قَول الْخَلِيل رَحمَه اللَّه وَتَفْسِيره.

أنشدنا الْأَخْفَش لأبي القمقام الْأَسدي:

(1/132)

عفيراءكم من ميتةٍ قد أذقتني ... وحزنٍ ألج الْعين فِي الهملان

بلينا بهجرانٍ وَلم أر مثلنَا ... من النَّاس إنسانين يهتجران

أَشد مكافاة وَأبْعد من قلى ... وَأكْثر حبا حِين يكتنفان

أنشدنا أَبُو مُوسَى الحامضي قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيي عَنِ ابْن الْأَعرَابِي ليزِيد الغواني:

سرت عرض ذِي قارٍ إِلَيْنَا وبطنه ... أَحَادِيث للواشي بِهن دَبِيب

أَحَادِيث سداها شبيبٌ ونارها ... وَإِن كَانَ لم يسمع بِهن شبيب

(1/133)

وَقد يكذب الواشي فَيسمع قَوْله ... وَيصدق بعض الْقَوْم وَهُوَ كذوب

حدثنَا أَبُو بَكْرٍ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْرَائِيلَ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ حدثنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي الْمُعَلَّى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ " إِنَّ قَدَمِي عَلَى تُرْعَةٍ من الْحَوْضِ " وَقَالَ " إِنَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ خَيَّرَهُ رَبُّهُ بَيْنَ أَنْ يَعِيشَ فِي الدُّنْيَا مَا شَاءَ أَنْ يَعِيشَ وَأَنْ يَأْكُلَ فِي الدُّنْيَا مَا شَاءَ أَنْ يَأْكُلَ وَبَيْنَ لِقَائِهِ فَاخْتَارَ الْعَبْدُ لِقَاء ربه " قَالَ صلى أَبُو بَكْرٍ حِينَ قَالَهَا وَقَالَ بَلْ نَفْدِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِآبَائِنَا.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَالرِّوَايَة مُتَّصِلَة من غير وَجه أَن رَسُول اللَّه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَذَا فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ نعى نَفسه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَصْحَابه

(1/134)

وَلِهَذَا الحَدِيث لفظ آخر. حدثنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ قَالَ حدثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْبَرِي هَذَا عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ " قَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي: للْعُلَمَاء فِي الترعة ثَلَاثَة أَقْوَال قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ الترعة الدرجَة، وَقَالَ غَيره الترعة الْبَاب، وَقَالَ أَبُو عبيده معمر بْن المثني الترعة الرَّوْضَة تكون فِي الْموضع الْمُرْتَفع خَاصَّة، فَإِذا كَانَت فِي الْموضع المطمئن فَهِيَ رَوْضَة وَأنْشد الْأَعْشَى:

مَا رَوْضَة من رياض الْحزن معشبة ... خضراء جاد عَلَيْهَا مُسبل هطل

يضاحك الشَّمْس مِنْهَا كوكبٌ شرقٌ ... مؤزرٌ بعميم النبت مكتهل

(1/135)

يَوْمًا بأطيب مِنْهَا نشر رائحةٍ ... وَلَا بِأَحْسَن مِنْهَا إِذْ دنا الأَصْل

قَالَ الْأَصْمَعِي: قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء: لم يقل فِي وصف الرياض وَلَا فِي وصف جمال النِّسَاء وَطيب نشرهن أبلغ من هَذَا الشّعْر وَلَا أحسن.

أخبرنَا: عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أنبأنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ قَالَ الْمَدَائِنِيُّ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: يَجِبْ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَمَانِهِ، مَالِكًا لِلِسَانِهِ، مُقْبِلا عَلَى شَأْنِهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مَنْ قَعَدَ بِهِ أَدَبُهُ لَمْ يَرْفَعْهُ حَسَبُهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَسَبُ التَّقْوَى وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: بِالْعلمِ يعرف قدر النِّعْمَة وبالمعرفة بهَا يبلغ كنه شكرها، وَالشُّكْر عَلَيْهَا يسْتَحق بِهِ الْمَزِيد مِنْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ مُخَالطَة الأشرار دَلِيل على شرارة من خالطهم، وَالْكفْر

(1/136)

للنعم أَمارَة البطر، وَسبب الْغَيْر واللجاجة مسلبةٌ للسلامة ومورثةٌ للندامة والهزء فكاهة السُّفَهَاء وصناعة الْجُهَّال والنزق مغضبة للإخوان ومورث للشنان والغدر كاسب البلية، وجار على التقية، والعقوق يعقب الْقلَّة وَيُؤَدِّي إِلَى الذلة وَالْغَضَب فَاتِحَة العوار وخاتمة الْبَوَار.

أخبرنَا: مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ أَنبأَنَا أَبُو حَاتِم السجسْتانِي قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عبيده معمر بْن المثني قَالَ: خرج الْكُمَيْت إِلَى أبان بْن عَبْد اللَّه البَجلِيّ وَهُوَ على خُرَاسَان فَجعله فِي سماره وَكَانَ فِي الْكُمَيْت حسد فَبينا هُوَ كَذَلِك ذَات لَيْلَة يسمر عِنْده أغفى أبان فتناظر الْقَوْم فِي الْجُود وَالْكَرم فَقَالَ أحدهم: مَاتَ الْجُود يَوْم مَاتَ الْفَيَّاض وَرفع صَوته فانتبه البَجلِيّ فَقَالَ فيمَ أَنْت؟ فَقَالَ الْكُمَيْت:

(1/137)

زعم النَّضر والمغيرة والنعمان ... والبحتري وَابْن عِيَاض

فَقَالَ وَيحك زَعَمُوا مَاذَا يَا أَبَا المستهل فَقَالَ:

أَن جود الْأَنَام كَانَ جَمِيعًا ... يَوْم راحوا منية الْفَيَّاض

قَالَ فَقلت لَهُم مَاذَا يَا أَبَا المستهل قَالَ:

كذبُوا وَالَّذِي يُلَبِّي لَهُ الرك ... ب سرَاعًا بالمفيضات العراض

لَا يَمُوت الندى وَلَا الْجُود مَا عا ... ش أبان غياث ذِي الأنفاض

فَإِذا مَا دَعَا الْإِلَه أَبَانَا؟ ... آذن الْجُود بعده بانقراض

قَالَ لَهُ أَجدت فسل قَالَ تُعْطِينِي لَك بيتٍ عشرَة آلَاف دِرْهَم قَالَ أفعل وَأَزِيدك عشرَة آلَاف دِرْهَم من عِنْدِي. فَأمر لَهُ بستين ألف دِرْهَم.

(1/138)

أنشدنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن السّري الزّجاج قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد:

فَإِن تَكُ ليلِي قد جفتني وطاوعت ... على صرم حبلي من وشي وتكذبا

لقد باعدت نفسا عَلَيْهَا شفيقة ... وَقَلْبًا عصى فِيهَا الحبيب المقربا

فلست وَإِن ليلى تولت بودها ... وَأصْبح بَاقِي الْوَصْل مِنْهَا تقضبا

بمثن سوى عرف عَلَيْهَا ومشمت ... وشَاة بهَا حَولي شُهُودًا وغيبا

ولكنني لَا بُد أَنِّي قَائِل ... وَذُو الود قوالٌ إِذا مَا تعتبا

فَلَا مرْحَبًا بالشامتين بهجرنا ... وَلَا زمنٍ أَمْسَى بِنَا قد تقلبا

أخبرنَا: عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبرنِي أبي عَن جدي عَن إِسْمَاعِيل بن نوبخت قَالَ:

(1/139)

قصد أَبُو نواس بعض النوبختية من الْكتاب، وكَانَ بعض أجداد ذَلِك الْكَاتِب كتب لبَعض الأكاسرة، فَوجدَ كسْرَى على بعض حظاياه فَدَفعهَا إِلَى ذَلِك الْكَاتِب النوبختي وَأمره بقتلها، فكره أَن يَقْتُلهَا فتتبعها نفس الْملك وخشي أَن يستبقيها فيتهمه فاستبقاها هُوَ وَجب نَفسه ثمَّ إِن نفس الْملك تتبعتها فحملها إِلَيْهِ وعرفه مَا صنع بِنَفسِهِ فأكبر ذَلِك وَقَالَ مَا جزاؤك إِلَّا أَن أجمع خاصتي وأقعدك على رقبتي، فحسده وزراء الْملك وَقَالُوا لَهُ إِن

(1/140)

هَذَا لقبيح وَلَكِن يَأْمر الْملك بِأَن يصاغ لَهُ تَاج ويصور فِيهِ تمثاله فَيَجْعَلهُ على رَأسه فَفعل فَقَالَ أَبُو نواس يذكر هَذِه الْقِصَّة:

مَا حَاجَة علق الْهدى بنجاحها ... من حَاجَة علقت أَبَا تَمام

إِن الرِّجَال رَأَوْا أَبَاك بأعين ... كحلت لَهُ بمراود الإعظام

فاستودعوا تيجانهم تمتاله ... اللَّه يعلم ذَاك فِي الأقوام

فلئن مددت يدا إِلَيّ نبائلٍ ... فَلَقَد هززتك هزة الصمصام

فَبعث إِلَيْهِ بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم وَلم يكن يملك غَيرهَا.

أخبرنَا: أَحْمَد بْن الْحُسَيْن بْن شقير النَّحْوِيّ قَالَ أَنبأَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد ابْن يحيى ثَعْلَب عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ قَالَ: كَانَت رَملَة بنت عبيد اللَّه بْن معمر تَحت هِشَام بْن سُلَيْمَان بْن عَبْد اللَّه فَجرى بَينهمَا ذَات يَوْم كَلَام فَقَالَ لَهَا أَنْت بغلة لَا تلدين، فَقَالَت لَهُ يأبي كرمي أَن يخالط لؤمك.

(1/141)

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس وشبيةٌ بِهَذَا من الجوابات المسكتة مَا روى عَنِ الخنساء حِين دخلت على عَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا فأنشدتها قَوْلهَا فِي أَخِيهَا صَخْر:

أَلا يَا صَخْر إِن أبكيت عَيْني ... فقد أضحكتني زَمنا طَويلا

بكيتك فِي نسَاء معولاتٍ ... وَكنت أَحَق من أبدى العويلا

دفعت بك الخطوب وَأَنت حَيّ ... فَمن ذَا يدْفع الْخطب الجليلا

إِذا قبح الْبكاء على قتيلٍ ... رَأَيْت بكاءك الْحسن الجميلا

فَقَالَت عَائِشَة: أتبكين صخرا وَهُوَ جَمْرَة فِي النَّار، فَقَالَت يَا أم الْمُؤمنِينَ ذَاك أَشد لجزعي عَلَيْهِ وأبعث لبكائي.

أنشدنا: أَبُو بكر بْن دُرَيْد قَالَ أَنْشدني عَبْد الرَّحْمَن عَن عَمه لمُحَمد بْن بشير من عدوان:

نعم الْفَتى فجعت بِهِ إخوانه ... يَوْم البقيع حوادث الْأَيَّام

(1/142)

سهل الفناء إِذا حللت بِبَابِهِ ... طلق الْيَدَيْنِ مؤدب الخدام

وَإِذا رَأَيْت شقيقه وَصديقه ... لم تدر أَيهمَا أَخُو الْأَرْحَام

أخبرنَا: أَبُو عَبْد اللَّه نفطويه قَالَ أَنبأَنَا أَحْمَد بْن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ الفسيط بِالْفَاءِ قلامة الظفر، والسفيط بِالْفَاءِ أَيْضا بِتَقْدِيم السِّين الرجل السخي، والسقيط بِالْقَافِ الرجل الأحمق والسقيط أَيْضا الثَّلج، والصفيع والربيط الراهب، والأربط الأحمق وَتقول الْعَرَب فلَان لَا يعرف قطاته من لهاته. وَبَعْضهمْ يَقُولُ لَا يعرف قطاته من لطاته، والقطاة الدبر، واللطاة الْجَبْهَة، والبطيط الْعجب والأطيط الْجُوع، والأطيط أَيْضا صَوت تمدد النطع وأشباهه، والحضيرة الْجَمَاعَة القليلة يغزون وينشد:

(1/143)

يرد الْمِيَاه حضيرة ونفيضةٌ ... ورد القطاة إِذا اسمأل التبع

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: التبع الظل، واسمأل تلقص.

أخبرنَا: أَبُو حَفْص مُحَمَّد بْن رستم الطَّبَرِيّ قَالَ أَنبأَنَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِني قَالَ: كنت عِنْد الْأَخْفَش سعيد بْن مسْعدَة ومعنا الرياشي، فَقَالَ إِن مذ إِذا رفع بهَا فَهِيَ اسْم مُبْتَدأ وَمَا بعْدهَا خَبَرهَا كَقَوْلِك مَا رَأَيْته مذ يَوْمَانِ وَإِذا خفض بهَا فَهِيَ حرف معنى لَيْسَ باسم، كَقَوْلِك مَا رَأَيْته مذ الْيَوْم. فَقَالَ لَهُ الرياشي: فَلم لَا تكون فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْما فقد نرى الْأَسْمَاء تخْفض وتنصب كَقَوْلِك هَذَا ضَارب زيدا غَدا وَهَذَا ضَارب زيد أمس فَلم لَا تكون مذ بِهَذِهِ الْمنزلَة؟ فَلم يَأْتِ الْأَخْفَش بمقنع. قَالَ أَبُو عُثْمَان: فَقلت أَنا لَا تشبه مذ مَا ذكرت من الْأَسْمَاء لأَنا لم نر الْأَسْمَاء هَكَذَا تلْزم موضعا وَاحِدًا إِلَّا إِذا ضارعت حُرُوف الْمعَانِي نَحْو أَيْن

(1/144)

وَكَيف، وَكَذَلِكَ مذ هِيَ مضارعة لحروف الْمعَانِي موضعا وَاحِدًا. قَالَ أَبُو جَعْفَر: فَقَالَ أَبُو يعلي بْن أبي زرْعَة للمازني أَفَرَأَيْت حرف المعني يعْمل عملين متضادين؟ قَالَ نعم كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم حاشى زيد وحاشى زيدا وعَلى زيد ثوب، وعَلى زيد الْجَبَل، فَيكون مرّة حرفا وَمرَّة فعلا بِلَفْظ وَاحِد.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: هَذَا الَّذِي قَالَه الْمَازِني أَبُو عُثْمَان صَحِيح إِلَّا أَنه كَانَ يلْزمه أَن يبين لأي حرف ضارعت مذ كَمَا أَنا قد علمنَا أَن متي وَكَيف مضارعان ألف الِاسْتِفْهَام. وان يبين كَيفَ وجد الرّفْع بمذ وَأي شَيْء الْعَامِل فِيهَا، وَالْقَوْل فِي ذَلِك أَن مذ إِذا خفض بهَا فِي قَوْلك مَا رَأَيْته مذ الْيَوْم مضارعة من لِأَن من لابتداء الغايات ومذ إِذا كَانَ مَعهَا النُّون فَهِيَ لابتداء الغايات فِي الزَّمَان خَاصَّة فَوَقَعت مذ بِمَعْنى مُنْذُ فِي هَذَا الْموضع ومنذ بمعني من فقد بَان تضارعهما وَأما القَوْل فِي الرّفْع بهَا فِي قَوْله مَا رَأَيْته مذ يَوْمَانِ فَإِن هَذَا لَا يَصح إِلَّا من كلامين لِأَنَّك إِن جعلت الرُّؤْيَة وَاقعَة على مذ انْقَطَعت مِمَّا بعْدهَا وَلم يكن لَهُ رَافع وَلكنه على تَقْدِير قَوْلك مَا رَأَيْته ثمَّ يَقُولُ لَك الْقَائِل كم مُدَّة ذَلِك فَتَقول يَوْمَانِ أَي مُدَّة ذَلِك يَوْمَانِ.

أخبرنَا: أَبُو عَبْد اللَّه نفطويه قَالَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب سَأَلَني بعض أَصْحَابنَا عَن قَول الشَّاعِر:

(1/145)

جَاءَت بِهِ مرمدا ماملا ... ماني أل خم حِين أَلا

فَلم أدر مَا يَقُولُ، فصرت إِلَى ابْن الْأَعرَابِي فَسَأَلته عَنهُ ففسره لي فَقَالَ هَذَا يصف قرصًا خبزته امْرَأَة فَلم تنضجه فَقَالَ جَاءَت بِهِ مرمدا أَي ملوثا بالرماد مامل أَي لم يمل فِي الْملَّة وَهُوَ الْجَمْر والرماد الْحَار، ثمَّ قَالَ: ماني أل وَمَا زَائِدَة كَأَنَّهُ قَالَ ني أل، والأل وَجهه يَعْنِي وَجه القرص وَقَوله خم أَي تغير حِين أَلا أَي حِين أَبْطَأَ فِي النضج يُقَال أَلِي الرجل إِذا توانى وَأَبْطَأ فِي الْعَمَل وَأنْشد:

فَمَا ألى بني وَلَا أساؤا

وَأنْشد عَليّ بْن سُلَيْمَان لأبي نواس:

وَدَار ندامي عطلوها وأدلجوا ... بهَا أثرٌ مِنْهُم جَدِيد ودارس

مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحانٍ جنى ويابس

(1/146)

وقفت بهَا صحبي فجددت عَهدهم ... وَإِنِّي على أَمْثَال ذَلِك لحابس

وَلم أدر مَا هم غير مَا شهِدت بِهِ ... بشرقي ساباط الديار البسابس

أَقَمْنَا بهَا يَوْمًا وَيَوْما وثالثاً ... وَيَوْما لَهُ يَوْم الترحل خَامِس

تدار علينا الراح فِي عسجديةٍ ... حبتها بأنواع التصاوير فَارس

قرارتها كسْرَى وَفِي جنباتها ... مهى تدريها بالقسي الفوارس

فللخمر مَا زرت عَلَيْهِ جيوبها ... وللماء مَا دارت عَلَيْهِ القلانس

قَالَ أَبُو الْقَاسِم الدَّار منزل الْقَوْم مَبْنِيَّة كَانَت أَو غير مَبْنِيَّة، وَيُقَال دَار ودارة، والبسابس القفار وَاحِدهَا بسبس وَمثلهَا السباسب وَاحِدهَا سبسب وَأَصلهَا الصَّحرَاء الملساء والعسجدية كأس مصنوعة من العسجد وَهُوَ الذَّهَب، وَقَوله قرارتها كسْرَى نَصبه على الظّرْف يُرِيد أَنه فِي كَانَ قرارة الكأس وَهُوَ أرْضهَا صُورَة كسْرَى وَفِي جنباتها وَهِي نَوَاحِيهَا صور المهى وَهُوَ بقر الْوَحْش وصور فرسَان بِأَيْدِيهِم قسي ونشاب يرْمونَ تِلْكَ المهى وَهُوَ معني تدريها بالقسي الفوارس والدريئة الشَّيْء الَّذِي يرْمى يَعْنِي أَنه صب الْخمر فِي الكأس إِلَى أَن بلغت صور حلوق الفرسان وَهُوَ مَوضِع الأزرار ثمَّ صب المَاء مِقْدَار رُءُوس الصُّور وَهُوَ الَّذِي تجتازه القلانس.

(1/147)

أنشدنا: أَبُو بكر بْن الْأَنْبَارِي قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب لأبي نواس:

فُؤَادِي كتوم وَاللِّسَان كتوم ... ودمعي بأسرار الْفُؤَاد نموم

إِذا قلت أفناه الْبكاء تَجَدَّدَتْ ... لَهُ عبرات تستهل سجوم

وطرفي الَّذِي قاد الْفُؤَاد إِلَى الْهوى ... أَلا إِن طرفِي مَا علمت مشوم

دَعَاهُ الْهوى فاقتاد طَوْعًا إِلَى الْهوى ... وداعي الْهوى ظَبْي أغن رخيم

مناي من الدُّنْيَا العريضة شادن ... وَذَاكَ قَضَاء فِي الْقَضَاء سدوم

هِيَ الشَّمْس إشراقا ودرة غائص ... ومسكة عطار تصان وريم

حَلَفت لَهَا بِاللَّه أَنِّي أحبها ... وَمَا كل حلافٍ لَهُنَّ أثيم

فَمَا رحمتني إِذْ شَكَوْت صبابتي ... وَلَا كَانَ فِي دَار الحبيب رَحِيم

(1/148)

وَلما رَأَيْت الْعين لَا تطعم الْكرَى ... وجسمي مِمَّا فِي الْفُؤَاد سقيم

سَأَلت أَبَا عِيسَى وَجِبْرِيل غافل ... وَلَيْسَ سَوَاء جَاهِل وَعَلِيم

فَقلت أَرَانِي وَلَا أَزَال كأنني ... سليم فَقَالَ المستهام سليم

إِذا خطرت مِنْك الهموم فداوها ... بأصغر حَتَّى لَا تكون هموم

أدرها وخذها قهوة بابلية ... لَهَا بَين بَصرِي وَالْعراق كروم

وَمَا عرفت نَارا وَلَا قدر طابخٍ ... سوى حر شمس أَو نهب سموم

فَقلت فزدني قَالَ إِن سمت رَبهَا ... فبالرطل دِينَارا عَلَيْك يسوم

فَقلت كفاني قد عرفت مَكَانهَا ... بقطر بل حَيْثُ السفين تعوم

وَقلت لملاح أَلا هِيَ زورقي ... وَبت يغنيني أَخ ونديم

لَهَا من ذكي الْمسك ريحٌ زكيةٌ ... وَمن طيب ريح الزَّعْفَرَان نسيم

فشمرت أثوابي وهرولت مسرعاً ... وقلبي من شوق يكَاد يهيم

إِلَى بَيت خمار كثير زحامه ... لَهُ ثروةٌ وَالْوَجْه مِنْهُ دميم

(1/149)

وَفِي بَيته دن وزق ودورقٌ ... وباطيه تروي الْفَتى وتنيم

فأزقاقه سود وحمر دنانه ... فَفِي الْبَيْت حبشان لَدَيْهِ وروم

ودهقانه مِيزَانه نصب عينه ... وميزانه للمشترين غشوم

فعانقته طورا وَقبلت رَأسه ... على أنني فِيمَا أتيت مليم

وَقلت لَهُ هذي الدنان قديمَة ... فَقَالَ نعم أَنِّي بِذَاكَ زعيم

أَلَسْت ترَاهَا قد تعفت رسومها ... كَمَا قد تعفت للديار رسوم

تحوم عَلَيْهَا العنكبوت بنسجها ... وَلَيْسَ على أَمْثَال تِلْكَ تحوم

ذخيرة دهقان حواها لنَفسِهِ ... إِذا ملك أوفى إِلَيْهِ وسيم

وَمَا بَاعهَا إِلَّا لعظم خراجه ... لِأَن الَّذِي يجني الْخراج ظلوم

فَقلت بكم رَطْل فَقَالَ بأصفر ... فحزت دنانا وزرهن عَظِيم

ورحت بهَا فِي زَرُّوق قد كتمتها ... وَمن أَيْن للمسك الذكي كتوم

فمتعت نَفسِي والندامى بشربها ... وَهَذَا شقاء مر بِي ونعيم

(1/150)

لعمري لَئِن لم يغْفر اللَّه وزرها ... فَإِن عَذَابي فِي الْحساب أَلِيم

على أَنَّهَا لَيست بخمرٍ بِعَينهَا ... وللشارب الْخمر الْمصر جحيم

حدثنَا: إِسْمَاعِيلُ الْوَرَّاقُ قَالَ حدثنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حدثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حدثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يسَار عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم " لَا تناجشوا " يَقُول لَا يزيدن أحدكُم فِي ثمن سلْعَة إِذا لم يرد شراءها، لِئَلَّا ينظر إِلَيْهِ من لَا بصر لَهُ بالسلعة فيغتر بِهِ وأصل النجش إستثارة الشَّيْء وَمِنْه النَّجَاشِيّ. وَكَانَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق يَقُولُ: النَّجَاشِيّ اسْم الْملك كَقَوْلِهِم قَيْصر وهرقل. وَكَانَ اسْمه أَصْحَمَة وتفسيرة بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّة وَقَوله " وَلَا تدابروا " وَيَقُول وَلَا تقاطعوا وَلَا تهاجروا لِأَن المتهاجرين إِذا ولى كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه فقد ولاه دبره،

(1/151)

وَيُقَال بِعْت الشَّيْء إِذا بِعته فَأَخْرَجته عَن يدك، وبعته إِذا اشْتَرَيْته يسْتَعْمل فِي الضدين جَمِيعًا. وَيُقَال أبعت الشَّيْء إِذا عرضته للْبيع وينشد:

ورضيت آلَاء الْكُمَيْت فَمن يبع ... فرسا فَلَيْسَ جوادنا بمباع

أَي بمعرض للْبيع.

أخبرنَا: أَبُو الْقَاسِم الصَّائِغ قَالَ أنبأنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ: رُوِيَ أَنْ وَفد هَمدَان قدمُوا على النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقُوهُ مُقْبِلا مِنْ تَبُوكَ، فَقَامَ مَالك بن نميط الْهَمْدَانِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَصِيَّةٌ مِنْ هَمْدَانَ مَنْ كُلِّ حَاضِرٍ وَبَادٍ أَتَوْكَ عَلَى قُلُصٍ نَوَاجٍ مُتَّصِلَةٍ بِحَبَائِلِ الإِسْلامِ مِنْ مِخْلافِ خَارِفٍ وَيَامٍ، لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ عَهْدُهُمْ لَا يُنْقَضُ عَنْ سُنَّةِ مَاحِلٍ وَلَا سَوْدَاء عَنْقَفِيرٍ مَا قَامَ لَعْلَعٌ وَمَا جَرَى الْيَعَفُورُ بِصُلَّعٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله لمخلاف خارف وَأَهْلِ جِنَابِ الْهَضْبِ وَحِقَافِ الرَّمْلِ مَعَ وافدها مَالك بن نميط وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ فِرَاعَهَا وَوِهَاطَهَا وَعَزَازَهَا مَا أَقَامُوا الصَّلاةُ وَآتَوُا الزَّكَاةَ يَرْعَوْنَ عِلافَهَا وَيَأْكُلُونَ عَفَاءَهَا لَنَا من دفئهم وصرامهم

(1/152)

مَا سَلِمُوا بِالْمِيثَاقِ وَالأَمَانَةِ وَلَهُمْ من الصَّدَقَة الثلب والناب والفيصل وَالْفَارِضُ الدَّاجِنُ وَالْكَبْشُ الْحَوَرِيُّ وَعَلَيْهِمُ الصَّالِغُ وَالْقَارِحُ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: قَوْله نصية من هَمدَان يَقُولُ نَحن نصية من هَمدَان فرفعه لِأَنَّهُ خبر ابْتِدَاء مُضْمر والنصية الرؤساء المختارون وَيُقَال انتصيت الشَّيْء إِذا اخترته وأصلة من الناصية كَمَا أَن الرؤساء من الرَّأْس والقلص جمَاعَة القلوص وَهِي الْفتية من الأبل. قَالَ الْأَصْمَعِي القلوص من النوق بِمَنْزِلَة الشَّابَّة من النِّسَاء والجمل بِمَنْزِلَة الرجل وَالْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى والنواجي السراع واحدتها نَاجِية والنجاء السرعة يمد وَيقصر قَالَ بعض لصوص الْأَعْرَاب:

إِذا أخذت النهب فالنجا النجا ... إِنِّي أَخَاف طَالبا سفنجا

وخارف ويام قبيلتان والمخلاف لأهل الْيمن كالأجناد لأهل الشَّام والكور لأهل الْعرَاق والطساسيج لأهل الأهواز والرساتيق لأهل الْجبَال وَقَوله عَهدهم لَا ينْقض عَن سنة ماحل، فالماحل السَّاعِي يُقَال مَحل بِهِ إِلَى السُّلْطَان إِذا سعى بِهِ والسوداء العنقفير الداهية وَالسّنة الطَّرِيقَة يُرِيد أَنهم لَا يزولون عَن الْعَهْد لسعي ساع وَلَا لشدَّة عَظِيمَة تنزل بهم، ولعلع جبل بِعَيْنِه واليعفور ولد الْبَقَرَة، والصلع الأَرْض الملساء والفراع أعالي

(1/153)

الْجبَال والأشياء المرتفعة وَاحِدهَا فرعة والفرعة فِي غير هَذَا القملة وَمِنْه حسان بْن الفريعة والوهاط مَا انخفض من الأَرْض والعزاز مَا صلب مِنْهَا وَهُوَ مثل الْجلد والدفء الأبل سميت بذلك لِأَنَّهُ يتَّخذ من أوبارها مَا يستدفأ بِهِ والصرام النّخل لِأَنَّهَا تصرم وَيجوز أَن يكون الصرام التَّمْر نَفسه، والثلب الْجمل المسن، والناب النَّاقة المسنة والفارض الْكَبِيرَة الَّتِي لَيست بصغيرة والداجن الَّذِي يعلف فِي الْبَيْت وَلَا يُرْسل إِلَى المرعى والصالغ من الْبَقر وَالْغنم مَا كمل وانتهت سنه وَذَلِكَ فِي السّنة السَّادِسَة والقارح مثله من الْخَيل وَأما الْكَبْش الحوري فَذكر ابْن قُتَيْبَة أَنه ضرب من الكباش الْحمر الْجُلُود وَلَا أَدْرِي من أَي شَيْء اشتقاقه إِذْ كَانَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة هُوَ أَن الْحور الْبيَاض وَمِنْه قيل للقصارين الحواريون لتبييضهم الثِّيَاب.

أنشدنا: أَبُو الْحسن عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب قَالَ أنشدنا ابْن الْأَعرَابِي لِابْنِ الدمينة:

أميم مِنْك الدَّار غَيرهَا البلى ... وهيف بجولان التُّرَاب لعوب

(1/154)

بسابس لم يصبح وَلم يمس ثاويا ... بهَا بعد بَين الْحَيّ مِنْك عريب

أمنخرم هَذَا الرّبيع وَلم يكن ... لنا من ظباء الواديين ربيب

أحقا عباد اللَّه أَن لست خَارِجا ... وَلَا والجا إِلَّا عَليّ رَقِيب

وَلَا مَاشِيا فَردا فِي جماعةٍ ... من النَّاس إِلَّا قيل أَنْت مريب

كَبِير عَدو أَو صغيرٌ ملقنٌ ... بتدبير أَقْوَال الرِّجَال لَبِيب

وَهل ريبةٌ فِي أَن تحن نجيبةٌ ... إِلَى إلفها أَو يحن نجيب

أحب هبوط الواديين وإنني ... لمشتهرٌ بالواديين غَرِيب

أَلا لَا أرى وَادي الْمِيَاه يثيب ... وَلَا النَّفس عَن وَادي الْمِيَاه تطيب

وَأَن الْكَثِيب الْفَرد من أَيمن الْحمى ... إِلَيّ وَإِن لم آته لحبيب

(1/155)

أَلا لَا أُبَالِي مَا أجنت قُلُوبهم ... إِذا رضيت مِمَّن أحب قُلُوب

ديار الَّتِي هَاجَرت عصرا وللهوى ... لقلبي إِلَيْهَا قائدٌ ومهيب

لتسلم من قَول الوشاة وإنني ... لَهُم حِين يغتابونها لذنوب

أميم لقلبي من هَوَاك صبابةٌ ... وَأَنت لَهَا قد تعلمين طَبِيب

فَإِن خفت أَلا تحكمي مرّة الْهوى ... فردي فُؤَادِي والمرد قريب

أكون أَخا ذِي الصرم أما لخلةٍ ... سواك وَإِمَّا أرعوي فأتوب

لعمري لَئِن أوليتني مِنْك جفوة ... وشب هوى نَفسِي عَلَيْك شبوب

وطاوعت أَقْوَامًا عدا لي تظاهروا ... عَليّ بقول الزُّور حِين أغيب

لبئس إِذا عون الصّديق أعنتني ... على نائبات يَا أميم تنوب

تضنين حَتَّى يذهب الْبُخْل بالمنى ... وَحَتَّى تكَاد النَّفس عَنْك تطيب

أميم لقد عنيتني وأريتني ... بَدَائِع أحدثٍ لَهُنَّ ضروب

فأرتاح أَحْيَانًا وحينا كَأَنَّمَا ... على كَبِدِي ماضي الشباة ذريب

(1/156)

فَلَو أَن مَا لي بالحصى فلق الْحَصَى ... وبالريح لم يسمع لَهُنَّ هبوب

وَلَو أَن أنفاسي أَصَابَت بحرها ... حديدا إِذا ظلّ الْحَدِيد يذوب

وَلَو أنني أسْتَغْفر اللَّه كلما ... ذكرتك لم تكْتب علىَّ ذنُوب

أميم أبي هونٌ عَلَيْك فقد بدا ... بجسمي مِمَّا تزدرين شحوب

صدودا وإعراضا كَأَنِّي مذنبٌ ... وَمَا كَانَ لي لَوْلَا هَوَاك ذنُوب

ألهفي لما ضيعت ودي وَمَا هُنَا ... فُؤَادِي بِمن لم يدر كَيفَ يثيب

وَإِن طَبِيبا يشعب الْقلب بَعْدَمَا ... تصدع من وجد بهَا لكذوب

رَأَيْت لَهَا نَارا وبيني وَبَينهَا ... من الْعرض أَو وَادي الْمِيَاه سهوب

إِذا مَا خبت وَهنا من اللَّيْل شبها ... من المندلي المستجاد ثقوب

وَمَا وعدت ليلى ومنت وَلم يكن ... لراجي المنى من ودهن نصيب

(1/157)

محبا أجن الوجد حَتَّى كَأَنَّهُ ... من الْأَهْل وَالْمَال التلاد سليب

وَإِنِّي لأستحييك حَتَّى كَأَنَّمَا ... عَليّ بِظهْر الْغَيْب مِنْك رَقِيب

حذار القلى والصرم مِنْك وإنني ... على الْعَهْد مَا داومتني لصليب

فيا حسرات الْقلب من غربَة النَّوَى ... إِذا أقسمتها نِيَّة وشعوب

وَمن خطراتٍ تعتريني وزفرةٍ ... لَهَا بَين لحمي وَالْعِظَام دَبِيب

يَقُولُونَ أقصر عَن هَواهَا فقد وعت ... ضغائن شُبَّان عَلَيْك وشيب

وَمَا أَن نبالي سخط من كَانَ ساخطا ... إِذا نصحت مِمَّن نود جُيُوب

أما وَالَّذِي يبلو السرائر كلهَا ... وَيعلم مَا نبدي بِهِ ونغيب

(1/158)

لقد كنت مِمَّن تصطفي النَّفس خلة ... لَهَا دون خلان الصفاء نصيب

وَلَكِن تجنيت الذُّنُوب وَمن يرد ... بجد الْهَوِي تعدد لَدَيْهِ ذنُوب

وَلما وجدت الصَّبْر أبقى مَوَدَّة ... وطارت بأضغان إِلَى قُلُوب

هجرت اجتنابا غير صرم وَلَا قلى ... أُمَيْمَة مهجور إِلَى حبيب

أخبرنَا: أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس اليزيدي عَن أَبِيه عَن جده قَالَ أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ اجتزت بِنَاحِيَة نجد على جَارِيَة من الْأَعْرَاب كَأَنَّهَا فلقَة قمر تنظر عَن عينين نجلاوين بأهداب كقوادم النسْر لم أر أكمل جمالا مِنْهَا، فوقفت أنظر إِلَيْهَا وبجنبها عَجُوز، فَقَالَت الْعَجُوز مَا وقوفك على هَذَا الغزال النجدي وَلَا حَظّ لَك فِيهِ؟ فَقَالَت الْجَارِيَة: دعيه بِاللَّه يَا أمتاه يكن مثل مَا قَالَ ذُو الرمة:

(1/159)

خليلي عدا حَاجَتي من هواكما ... وَمن ذَا يواسي النَّفس إِلَّا خليلها

ألما بمي قبل أَن تطرح النَّوَى ... بِنَا مطرحا أَو قبل بينٍ يزيلها

فَإِن لم يكن إِلَّا تعلل ساعةٍ ... قَلِيلا فَإِنِّي نافعٌ لي قليلها

أخبرنَا عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن يحيي ثَعْلَب قَالَ أَخْبرنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ رجل من آل أبي جَعْفَر يعشق مغنية، فطال عَلَيْهِ أمرهَا وثقلت مؤنتها فَقَالَ يَوْمًا لبَعض إخوانه إِن هَذِه قد شغلتني عَن كثير من أموري فَامْضِ بِنَا إِلَيْهَا لأكاشفها وأتاركها فقد وجدت بعض السلو فَلَمَّا صَار إِلَيْهَا قَالَ أتغنين قَول الشَّاعِر:

وَكنت أحبكم فسلوت عَنْكُم ... عَلَيْكُم فِي دِيَاركُمْ السَّلَام

فَقَالَت لَا وَلَكِنِّي أُغني قَول الْقَائِل:

تحمل أَهلهَا مِنْهَا فبانوا ... على أثار من ذهب العفاء

(1/160)

فاستحيا الْفَتى وأطرق وازداد بهَا كلفاً فَقَالَ لَهَا أتغنين قَول الْقَائِل:

وأخضع للعتبى إِذا كنت ظَالِما ... وَإِن ظلمت كنت الَّذِي أتنصل

قَالَت نعم وَقَول الْقَائِل:

فَإِن تقبلي بالود أقبل بِمثلِهِ ... وَإِن تدبري أذهب إِلَى حَال بَالِيًا

فتقاطعا فِي بَيْتَيْنِ وتواصلا فِي بَيْتَيْنِ وَلم يشْعر بهما أحد أخبرنَا: أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد قَالَ: دخلت فِي حداثتي أَنا وصديق لي من أهل الْأَدَب إِلَى بعض الديارات

(1/161)

لنَنْظُر إِلَى مجانين وصفوا لنا فِيهِ، فَرَأَيْت مِنْهُم عجائب حَتَّى انتهينا إِلَى شَاب جَالس حجرَة مِنْهُم نظيف الْوَجْه وَالثيَاب على حَصِير نظيف بِيَدِهِ مرْآة ومشط وَهُوَ ينظر فِي الْمرْآة ويسرح لحيته فَقلت مَا يقعدك هَا هُنَا وَأَنت مباين لهَؤُلَاء فَرفع طرفا وأمال آخر وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

اللَّه يعلم أنني كمد ... لَا أَسْتَطِيع أبث مَا أجد

نفسان لي نفس تقسمها ... بلد وَأُخْرَى حازها بلد

وَإِذا المقيمة لَيْسَ ينفعها ... صَبر وَلَيْسَ لأختها جلد

وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تَجِد الَّذِي أجد

فَقلت لَهُ أَرَاك عَاشِقًا قَالَ أجل، قلت لمن؟ قَالَ إِنَّك لسؤول قلت محسن إِن أخْبرت؟ قَالَ إِن أبي عقد لي على ابْنة عَم لي نِكَاحا فَتوفي قبل أَن أزفها وَخلف مَالا عَظِيما فَقبض عمي على جَمِيع المَال وحبسني فِي هَذَا الدَّيْر وَزعم أَنِّي مَجْنُون وقيم الدَّيْر فِي خلال ذَلِك يَقُولُ لنا احذروه فَإِنَّهُ الْآن يتَغَيَّر. ثمَّ قَالَ لي بِاللَّه أَنْشدني شَيْئا فَأَنِّي أَظُنك من أهل الْأَدَب فَقلت لرفيقي أنْشدهُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

قبلت فاها على خوف مخالسة ... كقابس النَّار لم يشْعر من الْعجل

(1/162)

مَاذَا على رصد فِي الدَّار لَو غفلوا ... عني فَقَبلتهَا عشرا على مهل

غضي جفونك عني وانظري أمما ... فَإِنَّمَا افتضح العشاق بالمقل

فَقَالَ لي أَبُو من أَنْت جعلت فدَاك؟ فَقلت أَبُو الْعَبَّاس. قَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاس أَنا وَهَذَا الْفَتى فِي طرفين هَذَا مجاور من يهواه مُسْتَقْبل لما يَنَالهُ مِنْهُ، وَأَنا ناء مقصي فبالله أَنْشدني أَنْت شَيْئا. فَلم يحضرني فِي الْوَقْت غير قَول ابْن أبي ربيعَة:

قَالَت سكينَة والدموع ذوارف ... تجْرِي على الْخَدين والجلباب

لَيْت المغيري الَّذِي لم أجزه ... فِيمَا أَطَالَ تصبري وطلابي

كَانَت ترد لنا المنى أيامنا ... إِذْ لَا ألام على هوى وتصاب

(1/163)

خبرت مَا قَالَت فَبت كَأَنَّمَا ... يَرْمِي الحشا بصوائب النشاب

أسكين مَا مَاء الْفُرَات وطيبه ... مني على ظمأ وَحب شراب

بألذ مِنْك وَإِن نأيت وقلما ... يرْعَى النِّسَاء أَمَانَة الغياب

ثمَّ قلت لَهُ أنشدنا أَنْت شَيْئا آخر فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

أبن لي أَيهَا الطلل ... عَن الأحباب مَا فعلوا

ترى سَارُوا ترى نزلُوا ... بِأَرْض الشَّام أَو رحلوا

فَقَالَ لَهُ رفيقي مجونا وَلَعِبًا. مَاتُوا، فَقَالَ وَيلك مَاتُوا؟ قَالَ نعم مَاتُوا فاضطرب واحمرت عَيناهُ فَجعل يضْرب بِرَأْسِهِ الأَرْض وَيَقُول وَيلك مَاتُوا حَتَّى هالنا أمره وانصرفنا عَنهُ. ثمَّ عدنا بعد أَيَّام فسألنا عَنهُ صَاحب الدَّيْر فَقَالَ مَا زَالَت تِلْكَ حَاله إِلَى أَن مَاتَ.

أخبرنَا: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ أخبرنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الْأَصْمَعِي: قَالَ

(1/164)

تَقول الْعَرَب رَجَعَ فلَان على حافرته، وَرجع أدراجه، وَرجع عوده وَرجع على بدئه، إِذا رَجَعَ فِي الطَّرِيق الَّذِي جَاءَ مِنْهَا. قَالَ والنفير وَالْجمع أَنْفَار الْقَوْم الَّذين ينفرون فِي حوائجهم وَفِي الْغَزْو وَغير ذَلِك، وَقَوْلهمْ لَا فِي العير وَلَا فِي النفير كلمة قيلت يَوْم بدر، وَجرى فِي الْإِسْلَام كَلَام بَين يزِيد بْن مُعَاوِيَة بْن أبي سُفْيَان وَبَين عَمْرو الْأَشْدَق فَقَالَ عَمْرو ليزِيد اسْكُتْ فلست فِي العير وَلَا فِي النفير فَقَالَ يزِيد لجلسائه إِن هَذَا الأحمق سمع كلمة فَأحب أَن يتَمَثَّل بهَا وَلم يحسن أَن يَضَعهَا موضعهَا، يَقُولُ لي لست فِي العير وَلَا فِي النفير وَصَاحب العير جدي أَبُو سُفْيَان وَصَاحب النفير جدي عتبَة بن ربيعَة.

(1/165)

أخبرنَا: أَبُو عَبْد اللَّه نفطويه عَن أَحْمد عَن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي فِي قَول الشَّاعِر:

مَا للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا

أم صرفانا بَارِدًا شَدِيدا ... أم الرِّجَال قبصا قعُودا

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: أما قَوْله مَا للجمال مشيها فَإِنَّهُ خفضه على الْبَدَل من الْجمال لاشتمال المعني عَلَيْهِ وَالتَّقْدِير مَا لمشي الْجمال وئيدا أَي ثقيلا وَنصب وئيدا على الْحَال فالقبص الْجَمَاعَات كَأَنَّهُ جمع قابص بِمَنْزِلَة ضَارب وَضرب وصائم وَصَوْم وَالْقَبْض بِكَسْر الْقَاف وَإِسْكَان الْبَاء الْعدَد الْكثير من النَّاس والصرفان الرصاص وَبَعض أهل اللُّغَة يَقُول الصرفان الْمُؤَن.

(1/166)

وَقَالَ بَعضهم فِي هَذَا الْبَيْت الصرفان التَّمْر نَفسه، وَأكْثر أهل اللُّغَة على القَوْل الأول.

أنشدنا: أَبُو الْحسن عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي لِابْنِ الدمينة:

قفي يَا أميم الْقلب نَقْرَأ تَحِيَّة ... ونشكو الْهوى ثمَّ افعلي مَا بدا لَك

فَلَو قلت طأ فِي النَّار أعلم انه ... هوى مِنْك أَو مدن لنا من نوالك

لقدمت رجْلي نَحْوهَا فوطئتها ... هدى مِنْك لي أَو ضلة من ضلالك

سلى البانة الْغناء بالأجرع الَّذِي ... بِهِ البان هَل كلمت أطلال دَارك

وَهل قُمْت فِي أطلالهن عَشِيَّة ... مقَام أخي البؤسي وآثرت ذَلِك

لِيَهنك إمساكي بكفي عَليّ الحشا ... ورقراق عَيْني خشيَة من زيالك

(1/167)

أبيني أَفِي يمنى يَديك جَعَلتني ... فَأَفْرَح أم صيرتني فِي شمالك

أرى النَّاس يرجون الرّبيع وَإِنَّمَا ... رجائي الَّذِي أَرْجُو رَجَاء وصالك

فيا بانة الْعليا أثيبي متيما ... أَخا سقمٍ لببته فِي ظلالك

أأذهب غضبانا وأرجع رَاضِيا ... وَأقسم مَا أرضيتني بنوالك

أنشدنا: أَبُو بكر بْن دُرَيْد عَن أبي حَاتِم سهل بْن مُحَمَّد السجسْتانِي لسكينة بنت الْحُسَيْن بْن عَليّ بْن أبي طَالب رضوَان اللَّه عَلَيْهِم:

لَا تعذليه فهم قَاطع طرقه ... فعينه بدموع ذرف غدقه

إِن الْحُسَيْن غَدَاة الطف يرشقه ... ريب الْمنون فَمَا إِن يُخطئ الحدقه

(1/168)

بكف شَرّ عباد اللَّه كلهم ... نسل البغايا وجيش المرق الفسقه

أأمة السوء هاتوا مَا احتجاجكم ... غَدا وجلكم بِالسَّيْفِ قد صفقه

الويل حل بكم إِلَّا بِمن لحقه ... صيرتموه لأرماح العدا درقه

يَا عين فاحتفلي طول الْحَيَاة دَمًا ... لَا تبك ولدا وَلَا أهل وَلَا رفقه

لَكِن على ابْن رَسُول الله فانسكبي ... قَيْحا ودماً وَفِي أثريهما العلقه

أنشدنا: أَبُو الْحسن عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش لأبي نواس:

أعاذل أعتبت الإِمَام وأعتبا ... وأعربت عَمَّا فِي الضَّمِير وأعربا

وَقلت لساقينا أجزها فَلم أكن ... ليأبى أَمِير الْمُؤمنِينَ وأشربا

فجوزها عني عقارا ترى لَهَا ... إِلَى الشّرف الْأَعْلَى شعاعا مطنبا

(1/169)

إِذا عب فِيهَا شَارِب الْقَوْم خلته ... يقبل فِي داج من اللَّيْل كوكبا

ترى حَيْثُ مَا كَانَت من الْبَيْت مشرقا ... وَمَا لم تكن فِيهِ من الْبَيْت مغرباً

يطوف بهَا سَاق أغن ترى لَهُ ... على مستدار الخد صدغا معقربا

سقاهم ومناني بِعَيْنيهِ منية ... فَكَانَت إِلَى نَفسِي ألذ وأعجبا

أنشدنا: الْأَخْفَش لِابْنِ الرُّومِي:

ومهفهف تمت محاسنه ... حَتَّى تجَاوز منية النَّفس

تصبو الكؤوس إِلَى مراشفه ... وتهش فِي يَده إِلَى الْحَبْس

أبصرته والكأس بَين فمٍ ... مِنْهُ وَبَين أنامل خمسٍ

(1/170)

فَكَأَنَّهَا وَكَأن شاربها ... قمر يقبل عَارض الشَّمْس

أنشدنا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن يحيى الصولي لعبد اللَّه بْن المعتز:

بشر بالصبح طَائِر هتفا ... معتنقا للجدار مشترفا

مبشرا بالصبوح صَاح بِنَا ... كخاطب فَوق مِنْبَر هتفا

صَوت إِمَّا ارتياحه لسنا الف ... جر وَإِمَّا على الدجى أسفا

فَاشْرَبْ عقارا كَأَنَّهَا قبسٌ ... قد سبك الدَّهْر تبرها فصفا

من كف سَاق حُلْو شمائله ... مُقَلِّب لحظ عينه صلفا

أخبرنَا: أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل بْن النَّجْم الشرابي قَالَ كُنَّا فِي مجْلِس أبي الْعَبَّاس الْمبرد فِي يَوْم شات شَدِيد الْبرد فَمر بِنَا إِسْمَاعِيل بن زرزور الْمُغنِي وَعَلِيهِ غلالة قصب وكرحك ديباج وعَلى رَأسه منديلاً

(1/171)

ديبقي وَفِي رجلَيْهِ نعل صرارة فَمر وَلم يسلم فَقَالَ لنا الْمبرد من هَذَا؟ فَقُلْنَا ابْن زرزور الْمُغنِي فَقَالَ اكتبوا:

غناؤك يكسبك التزنيه ... وصفعا وطردا من الأفنيه

وقذفك أجمل من أَن تبر ... وشتمك أولى من التكنيه

فَيوم ولادك للتعزيات ... وَيَوْم حمامك للتهنية

وأنشدنا غَيره لِابْنِ بسام:

سيان من بالصفع مكسبه ... أَو من لَهُ بغنائه وفر

حالاهما فِي الْكسْب وَاحِدَة ... مَا بَين مكتسبيهما فتر

(1/172)

حدثنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ قَالَ حدثنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّد عَنِ الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد عَن شَيبَان عَن قَتَادَة فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كهفهم ذَات الْيَمين " يَقُول تميل عَنهُ " وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ " قَالَ مَعْنَاهُ تَدَعُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ " وهم فِي فجوة مِنْهُ " يَقُول فِي قَضَاء مِنَ الْغَارِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: أصل تزاور تتزاور فأبدلت التَّاء الثَّانِيَة ذالاً وأدغمت فِي الَّتِي بعْدهَا فَقيل تزاور وَالْأَزْوَر المائل. وَفِي تقرضهم أَقْوَال قَالَ بعض أهل الْعلم باللغة مَعْنَاهُ تَدعهُمْ ذَات الشمَال كَمَا قَالَ قَتَادَة وَقَالَ آخَرُونَ تجاوزهم فتخلفهم ذَات الشمَال وَهُوَ مَذْهَب أبي عبيده: قَالَ وَيُقَال هَل مَرَرْت بمَكَان كَذَا وَكَذَا فَيَقُول المسؤل قرضته لَيْلًا أَي جاوزته لَيْلًا، وَأنْشد غَيره لذِي الرمة:

إِلَى ظعن يقرضن أجواز مشرف ... سرَاعًا وَعَن أيمانهن الفوارس

وَقَالَ آخَرُونَ: تقرضهم ذَات الشمَال أَي تعدل عَنْهُم.

(1/173)

وَحكى ابْن شقير عَن ثَعْلَب أَنه قَالَ قَالَ الْكسَائي وَالْفراء هُوَ من الْمُحَاذَاة، يُقَال فرضني الشَّيْء وحذاني يقرضني ويحذوني وحاذاني يحاذيني بِمَعْنى وَاحِد. يُقَال غربت الشَّمْس غروبا وَغَابَتْ غيوبا وغياباً ومغيباً وَوَجَبَت وجوبا وآبت أيابا ووقبت وقوبا وقنبت قنوبا وقسبت قسوبا وَأَلْقَتْ يدا فِي كَافِر. كل ذَلِك بمعني وَاحِد وَيُقَال أفل الْكَوْكَب يأفل ويأفل أَفلا وأفولا وَغرب وَغَابَ واغتمس وخفق فَإِذا دنت الشَّمْس للغروب وَلما تغب قيل زبت وأزبت وتضيفت وَمَاتَتْ وجنحت وطفلت.

أخبرنَا عَليّ بْن سُلَيْمَان وَأَبُو إِسْحَاق الزّجاج قَالَا: أخبرنَا مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد قَالَ: حدثنَا من غير وَجه بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَمَعَان متفقة وَبَعضهَا يزِيد على بعض، أَنه لما مَاتَ النَّبِي صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم تولى غسله الْعَبَّاس وَعلي وَالْفضل قَالَ عَليّ: فَلم أره يعْتَاد فَاه من التَّغَيُّر مَا يعْتَاد

الْمَوْتَى فَلَمَّا فرغ من غسله كشف على الْإِزَار عَن وَجهه، ثمَّ قَالَ:

(1/174)

بِأبي أَنْت وَأمي طبت حَيا وطبت مَيتا انْقَطع بموتك مَا لم يَنْقَطِع بِمَوْت أحد مِمَّن سواك من الْأَنْبِيَاء والنبوة خصصت حَتَّى صرت مسليا عَمَّن سواك، وعممت حَتَّى صَارَت فِيك الرزية فِيك سَوَاء، وَلَوْلَا أَنَّك أمرت بِالصبرِ ونهيت عَنِ الْجزع لأنفدنا عَلَيْك الشؤون وَلَكِن مَا لَا بُد مِنْهُ كمد وإدبار محالفان وهما الدَّاء الْأَجَل، وقلا وَالله لَك بِأبي أَنْت وَأمي اذكرنا عِنْد رَبك، واجعلنا من همتك. ثمَّ لمح قذاة فِي عينه فلفظها بِلِسَانِهِ ورد الْإِزَار على وَجهه.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: الشؤون الدُّمُوع وَاحِدهَا شَأْن، وَيُقَال هِيَ مجاري الدُّمُوع وَيُقَال هِيَ قبائل الرَّأْس وَمِنْهَا ابْتِدَاء مجاري الدُّمُوع ثمَّ سميت الدُّمُوع شؤوناً لذك وينشد لأوس بن حجر:

لَا تحزنيني بالفراق فإنني ... لَا تستهل من الْفِرَاق شؤوني

(1/175)

أخبرنَا: عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ حدث لُوطُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ أَسْأَلُ بِهِ، فَلَمْ أَجْلِسْ عِنْدَهُ لأَنَّهُ دَخَلَتْ عَلَيْهِ بِنْتٌ لَهُ مُسْتَتِرَةٌ، فَدَعَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَلا تَبْغِيَا لِلدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا، وَلا تَبْكِيَا عَلَى شَيْءٍ زَوَى عَنْكُمَا مِنْهَا، قُولا الْحَقَّ وَارْحَمَا الْيَتِيمَ وَأَعِينَا الصَّانِعَ وَاصْنَعَا لِلأَخْرَقِ وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْمًا وَلِلْمَظْلُومِ عَوْنًا، وَلا تَأْخُذْكُمَا فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ أَسمعتَ مَا وَصَّيْتُهُمَا بِهِ قَالَ نعم قَالَ أوصيك بِمِثْلِهِ وَبِتَزْيِينِ أَمْرِ أَخَوَيْكَ وَلا تَقْطَعْ أَمْرًا دُونَهُمَا ثُمَّ قَالَ لَهُمَا وَأُوصِيكُمَا بِهِ فَإِنَّهُ شَقِيقُكُمَا وَابْنُ أَبِيكُمَا، وَقَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُحِبهُ فأحباه.

(1/176)

أخبرنَا: أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس اليزيدي قَالَ أَخْبرنِي عمي الْفضل ابْن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن أبي مُحَمَّد اليزيدي قَالَ لحق أَبَا الْعَتَاهِيَة جفَاء من عَمْرو ابْن مسْعدَة فَكتب إِلَيْهِ:

غنيت عَنِ الود الْقَدِيم غنيتا ... وضيعت عهدا كَانَ لي ونسيتا

تجاهلت عَمَّا كنت تحسن وَصفه ... ومت عَن الْإِحْسَان حِين جييتا

وَقد كنت بِي أَيَّام ضعف من القوى ... أبر وأوفى مِنْك حِين قويتا

عهدتك فِي غير الْولَايَة حَافِظًا ... فأغلقت بَاب الود حِين وليتا

وَمن عجب الْأَيَّام أَن باد من يَفِي ... وَمن كنت ترعاني لَهُ وبقيتا

(1/177)

غناك لمن يرجوك فقر وفاقه ... وَذَلِكَ ويأس مِنْك يَوْم رجيتا

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: أخبرنَا أَبُو عَبْد اللَّه اليزيدي قَالَ أَخْبرنِي عمي الْفضل ابْن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: لما ولى النُّعْمَان بْن الْمُنْذر بعض الْأَعْرَاب بَاب الْحيرَة مِمَّا يَلِي الْبَريَّة فصاد ضبا فَبعث بِهِ إِلَى النُّعْمَان وَكتب إِلَيْهِ:

جبى المَال عُمَّال الْخراج وجبوتي ... مقطعَة الآذان صفر الشواكل

رعين الرِّبَا والبقل حَتَّى كَأَنَّمَا ... كساهن سُلْطَان ثِيَاب المراجل

(1/178)

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: الرِّبَا جمع ربوة وَهُوَ مَا ارْتَفع من الأَرْض يُقَال ربوة وربوه وربوة ورباوة ويروى فِي بعض التفاسير أَن الْمَعْنى بقول اللَّه عز وَجل " وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين " دمشق، والشواكل جمع شاكلة وَهِي الخاصرة، وَثيَاب المراجل ثِيَاب مخططة تعْمل بِالْيمن. وَيُقَال أَن المراجل مَوضِع هُنَاكَ تعْمل فِيهِ هَذِه الثِّيَاب فنسبت إِلَيْهِ.

أنشدنا نفطويه للمؤمل:

لَا تغضبن على قوم تحبهم ... فَلَيْسَ مِنْك عَلَيْهِم ينفع الْغَضَب

وَلَا تخاصمهم يَوْمًا وَإِن ظلمُوا ... إِن الْوُلَاة إِذا مَا خوصموا غلبوا

يَا جائرين علينا فِي حكومتهم ... والجور أقبح مَا يُؤْتى ويرتكب

لسنا إِلَى غَيْركُمْ مِنْكُم نفر إِذا ... جرتم وَلَكِن إِلَيْكُم مِنْكُم الْهَرَب

وَهَذَا بِعَيْنِه قَول البحتري:

يَا ظَالِما لي بِغَيْر جرم ... إِلَيْك من ظلمك المفر

وَهَذَا المعني مستنبط من كتاب اللَّه عز وَجل " فَفِرُّوا إِلَى الله إِنِّي لكم من نَذِير مُبين.

(1/179)

أنشدنا نفطويه لأبي الْعَتَاهِيَة:

كتب الفناء على الْبَريَّة رَبهَا ... وَالنَّاس بَين مقدم ومخلف

سُبْحَانَ ذِي الملكوت أَيَّة لَيْلَة ... مخضت بِوَجْه صباح يَوْم الْموقف

حدثنَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ حدثنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَرِيرٍ النَّسَائِيُّ قَالَ حدثنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ أَنَّ أَبَا مُوسَى أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَبَكَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَالَ: أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنَ حلق وسلق وخرق.

(1/180)

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: أما قَوْله حلق فَمن حلق الرَّأْس للبكاء على الْمَيِّت، وَأما السلق فَرفع الصَّوْت بالبكاء والعويل، قَالَ اللَّه عز وَجل " سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ " وَكَذَلِكَ النَّقْع رفع الصَّوْت بالبكاء وَهَذَا كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ فِي أول الْإِسْلَام أَعنِي الْبكاء على الْمَيِّت ثمَّ رخص فِيهِ مَا لم يكن مفرطا متجاوزا للقدر الْمُعْتَاد بالصراخ والعويل قَالَ عمر بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مَا على نسَاء بني الْمُغيرَة أَن يُهْرِقَن عَليّ أبي سُلَيْمَان من دُمُوعهنَّ مَا لم يكن نقع وَلَا لقلقَة فالنقع مَا ذكرنَا وَاللَّقْلَقَة تَحْرِيك اللِّسَان والولولة. وَأَبُو سُلَيْمَان خَالِد بن الْوَلِيد بْن الْمُغيرَة، والسلق بِفَتْح اللَّام وَالسِّين المستوي من الأَرْض وَجمعه سلقان والفلق مطمئن بَين ربوتين وَجمعه فلقان.

أخبرنَا: عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ حدثنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ قَالَ أخبرنَا أَبُو عبد الله بن الْأَعرَابِي قَالَ

(1/181)

اجْتمعت غَنِي وَبَنُو نمير بِالْمَدِينَةِ عِنْد مَرْوَان بْن الحكم فِي دم نسيب بْن سَالم النميري وَكَانَت غنى قتلته خطأ فَتَنَازَعَ الْقَوْم عِنْد مَرْوَان وَهُوَ وَالِي الْمَدِينَة، وَكَانَ نَافِع بْن خَليفَة الغنوي أحدث أَصْحَابه سنا. فَجعل يدْخل فِي كَلَامهم فَنَهَاهُ مَرْوَان وَقَالَ لَهُ اسْكُتْ فَقَالَ لَهُ لَيْسَ مثلي يسكت فِي هَذَا الْمَكَان فَقَالَ مَا أحوجك إِلَى أَن يقطع لسَانك قَالَ مَا ذَاك بِرِفْق بالخطيب ثمَّ تكلم الْقَوْم فَتكلم نَافِع فَقَالَ لَهُ مَرْوَان مَا أحوجك إِلَى أَن تنْزع ثنيتاك؟ قَالَ وَلم فوَاللَّه مَا أكلتا من خَبِيث وَلَا نبتتا من عضاض وَيُقَال نتتا ونبتتا قَالَ وَإنَّك لذُو عضاض يَا أَعْرَابِي مَا أَظُنك تعرف الصَّلَاة قَالَ:

إِن الصَّلَاة أَربع وَأَرْبع ... ثمَّ ثَلَاث بعدهن أَربع

ثمَّ صَلَاة الصُّبْح لَا تضيع

قَالَ مَا أَظُنك تحسن أَن تَأتي الْغَائِط؟ قَالَ إِنِّي لأبعد الْمَذْهَب، وأستقبل الرّيح وأخوي تخوية النسْر وأمتش بِثَلَاثَة أَحْجَار بشمالي

(1/182)

قَالَ مَرْوَان لأمرأته قطية بنت بشر: لدي مثل خَالك الأشغي فَبعث إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابه بأدهان وَطَعَام.

حَدثنَا: مُحَمَّد بن مَحْمُود الْوَاسِطِيُّ قَالَ حدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيّ قَالَ حَدثنَا عَفَّان بن هَمَّامٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حدثهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ؟ فَقَالَ " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا " أنشدنا ابْن شقير النَّحْوِيّ قَالَ أنشدنا ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي للغنوي:

(1/183)

هبطنا بلادًا ذَات حمى وحصبة ... وموم وإخوان مُبين عقوقها

سوى أَن أَقْوَامًا من النَّاس وطشوا ... بأَشْيَاء لم يذهب ضلالا طريقها

وَقَالُوا عَلَيْكُم حب جوخي وسوقها ... وَمَا أَنا أم مَا حب جوخي وسوقها

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: التوطيش الْإِعْطَاء الْقَلِيل وَقَوله لم يذهب ضلالا طريقها لم يضع مغالهم عندنَا.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُقَال أحر من النَّار وَالْحَرب والقرع،

(1/184)

وَيُقَال من حفر مهواة وَقع فِيهَا أَي مهلكة وَقَالَ سَابق الْبَرْبَرِي:

فَلَا تحفرن بيراً تُرِيدُ أَخا بهَا ... فَإنَّك فِيهَا أَنْت من دونه تقع

كَذَاك الَّذِي يَبْغِي على النَّاس ظَالِما ... تصبه على رغم عواقب مَا صنع

أخبرنَا: إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عرفه قَالَ أخبرنَا إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد السَّامِي قَالَ أَخْبرنِي بدل بْن المحبر قَالَ سَمِعت شُعْبَة يَقُول: تعلمُوا الْعَرَبيَّة

(1/185)

فَإِنَّهَا تزيد فِي الْعقل.

أخبرنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي وَأَبُو بكر بْن شقير النَّحْوِيّ قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن عبيد قَالَ: كَانَ فِي عضد بزر جمهر، إِن كَانَت الحظوظ بالجدود فَمَا الْحِرْص، وَإِن كَانَت الْأَشْيَاء غير دائمةٍ فَمَا السرُور وَإِن كَانَت الدَّار غرارة فَمَا الطُّمَأْنِينَة.

أنشدنا الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي:

لما رَأَتْ فِي ظَهْري انحناء ... وَالْمَشْي بعد قعس إجناء

أجلت وَكَانَ حبها إجلاء ... وَجعلت نصف غبوقي مَاء

تمزق لي من بغضي السقاء ... ثمَّ تَقول من بعيد هَاء

(1/186)

دحرجة إِن شِئْت أَو إِلْقَاء ... ثمَّ تمنى أَن يكون دَاء

لَا يَجْعَل الله لَهُ شِفَاء

أنشدنا أَبُو بكر بْن شقير عَن أبي عَمْرو بْن الْحسن الطوسي عَنِ ابْن الْأَعرَابِي:

رب شريب لَك ذِي حساس ... شرابه كالحز بالمواس

لَيْسَ بريان وَلَا مواس ... أفعس يمشي مشْيَة النّفاس

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: نِفَاس جمع نفسَاء، وَيُقَال للحائض نفسَاء. قَالَ والحساس الشؤم. وَيُقَال أَيْضا الحساس الْقَتْل يَقُولُ مشاربته كَالْقَتْلِ

(1/187)

وَالنّفاس جمع نفسَاء قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُقَال خصة بِكَذَا وَكَذَا أعطَاهُ شَيْئا كثيرا وخوصه الشيب إِذا لَاحَ فِي رَأسه شَيْئا بعد شَيْء وخوصه فلَان إِذا أعطَاهُ شَيْئا قَلِيلا.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: يُقَال قوم عطان وعطنة وعطنون وعاطنون إِذا نزلُوا فِي أعطان الأبل، وَلَا يُقَال إبل عطان وَأنْشد لرجل من فَزَارَة قَالَ لامْرَأَته:

هَلُمَّ خبي ودعي تعديدك ... ليغلبن خلقي جديدك

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: لما كبر أَقبلت تتثاقل عَن خدمته وتروغ عَنهُ، فَقَالَ لَهَا هَذَا ومعني ليغلبن خلقي جديدك أَي ليغلبن كبري شبابك فِي الْبَاءَة.

أنشدنا أَبُو الْحسن عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَخْفَشُ قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب النَّحْوِيّ عَن أبي عَبْد اللَّه بْن الْأَعرَابِي:

كَأَن صَوت شخبها إِذا حما ... صَوت الأفاعي فِي حشى أغشما

(1/188)

يحسبه الْجَاهِل مَا كَانَ غما ... شَيخا على كرسيه معمما

لَو أَنه أبان أَو تكلما ... لَكَانَ إِيَّاه وَلَكِن أعجما

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: يصف حلب النَّاقة وَصَوت درتها شبهه بِصَوْت أفاعي فِي خشِي والخشي الْيَابِس والخشي مَا قد فسد أَصله وعفن، والأغشم الْيَابِس أنشدنا ابْن دُرَيْد قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم:

أخسأ إِلَيْك جرير إِنَّا معشر ... نلنا السَّمَاء نجومها وهلالها

مَا رامنا ملك وَلَا ذُو سودد ... إِلَّا أبحنا خيله ورجالها

أنشدنا الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا ثَعْلَب عَنِ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ أَنْشدني هَذِه

(1/189)

الأبيات رجل من بني كلاب أَعْرَابِي محرم:

لَا يشترى الْحَمد أُمْنِية ... وَلَا يشترى الْحَمد بالمقصر

وَلكنه يَشْتَرِي غالياً ... فَمن يُعْط أثمانه يشتر

وَمن يتعطفه على مئزر ... فَنعم الرِّدَاء على المئزر

حدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ أخبرنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الْحَرْبِيّ قَالَ أخبرنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْقرشِي قَالَ قَالَ أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي بعث عَبْد الْملك بْن مَرْوَان أَخَاهُ مُحَمَّد بْن مَرْوَان إِلَى مُصعب بْن الزبير يُعْطِيهِ الْأمان فَقَالَ مُصعب: لَا ترجع عَن مثل هَذَا الْموضع إِلَّا غَالِبا أَو مَغْلُوبًا.

أخبرنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَخْفَشُ قَالَ أَنبأَنَا السكرِي عَن الزيَادي

(1/190)

عَنِ الْأَصْمَعِي قَالَ كَانَ الْأَحْوَص بْن مُحَمَّد يشبب بنساء الْأَشْرَاف فَشكى ذَلِك إِلَى عمر بْن عَبْد الْعَزِيز فنفاه إِلَى قَرْيَة من قرى الْيمن قَالَ وَلما قَالَ الْأَحْوَص:

أدور وَلَوْلَا أَن أرى أم جَعْفَر ... بأبياتكم مَا درت حَيْثُ أدور

وَمَا كنت زوارا وَلَكِن ذَا الْهوى ... إِذا لم يزر لَا بُد أَن سيزور

لقد منعت معروفها أم جَعْفَر ... وَإِنِّي إِلَى معروفها لفقير

جَاءَت أم جَعْفَر بِكِتَاب حق على الْأَحْوَص بدين حَال فقبضت عَلَيْهِ وَجعلت تطالبه بِالدّينِ الْمَذْكُور فِي الْكتاب وَهُوَ يحلف بِاللَّه إِنَّه مَا يعرفهَا وَلَا رَآهَا قطّ قَالَت لَهُ: يَا فَاسق فَأَنا أم جَعْفَر فَلم تذكرني فِي شعرك وَلم ترني قطّ؟ أنشدنا أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب النَّحْوِيّ قَالَ أنشدنا ابْن الْأَعرَابِي لحسين بن مطير الْأَسدي:

(1/191)

لقد كنت جلدا قبل أَن توقد النَّوَى ... على كَبِدِي نَارا بطيئا خمودها

وَلَو تركت نَار الْهوى لتضرمت ... وَلَكِن شوقا كل يَوْم وقودها

وَقد كنت أَرْجُو أَن تَمُوت صبابتي ... إِذا قدمت أَيَّامهَا وعهودها

وَقد جعلت فِي حَبَّة الْقلب والحشا ... عهاد الْهوى يولي بشوق بعيدها

بمرتجة الأرداف هيف خصورها ... عَذَاب ثناياها عجاف قيودها

(1/192)

وصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نَوَاصِيهَا وبيض خدودها

تمنيننا حَتَّى ترف قُلُوبنَا ... رفيف الخزامى بَات طل بجودها

وفيهن مقلاق الوشاح كَأَنَّهَا ... مهاة بتربان طَوِيل عقودها

قَالَ أَبُو الْقَاسِم حدثنَا بعض أَصْحَابنَا قَالَ بعث قوم رائدا فَلَمَّا أَتَاهُم قَالُوا مَا وَرَاءَك قَالَ رَأَيْت عشبا يشْبع مِنْهُ الْجمل البروك وتشكت مِنْهُ النِّسَاء وهم الرجل بأَخيه يَقُولُ العشب قصير لَا يَنَالهُ الْجمل من قصره حَتَّى يبرك وَقَوله تشكت مِنْهُ النِّسَاء يَقُولُ من قلته إِنَّمَا تحلب الْغنم فِي شكوة وَقَوله وهم الرجل بأَخيه أَي تقاطع النَّاس وَلم يتواصلوا من قلَّة العشب.

(1/193)

أخبرنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَزِيدِيُّ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو مُحَمَّد بْن حمدون عَن أَبِيه قَالَ أَنْشدني أَبُو نواس لنَفسِهِ:

شبهته بالبدر حِين بدا ... أَو بالعروس صَبِيحَة الْعرس

وأعيذه من أَن يكون لَهُ ... مَا تَحت مئزرها من الرجس

أخبرنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيَزِيدِيُّ قَالَ أَنبأَنَا أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب قَالَ كُنَّا عِنْد ابْن الْأَعرَابِي فَأَنْشد قَول جرير:

وَيَوْم كإبهام القطاة تخايلت ... ضحاة وَطَابَتْ بالْعَشي أصائله

رزقنا بِهِ الصَّيْد الغزير وَلم نَكُنْ ... كمن نبله محرومة وحبائله

(1/194)

فعجبنا من تشبيهه قصر النَّهَار بإبهام القطاة فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي أحسن مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي أَخذ مِنْهُ جرير قَول الآخر:

وَيَوْم عِنْد دَار أبي نعيم ... قصير مثل سالفة الذُّبَاب

قَالَ أَبُو الْقَاسِم: وَأَنا أَقُول إِن هَذَا نِهَايَة فِي الإفراط وَخُرُوج عَن حُدُود التَّشْبِيه الْمُصِيب وَنَظِيره فِي الإفراط ضد هَذَا المعني قَول أبي تَمام:

وَيَوْم كطول الدَّهْر فِي عرض مثله ... وشوقي من هَذَا وهذاك أطول

أنشدنا أَبُو بكر بْن شقير النَّحْوِيّ قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب قَالَ أنشدنا ابْن الْأَعرَابِي لِابْنِ عبدل الْأَسدي:

إِنِّي امْرُؤ أغتدى وَذَاكَ من الل ... هـ أديباً أعلم الأدبا

(1/195)

أقيم بِالدَّار مَا اطمأنت بِي ال ... دَار وَإِن كنت نازحا طَربا

أطلب مَا يطْلب الْكَرِيم من الرز ... ق بنفسي وأجمل الطلبا

وأحلب الثرة الصفاء وَلَا ... أجهد أخلاف غَيرهَا حَلبًا

إِنِّي رَأَيْت الْفَتى الْكَرِيم إِذا رغبته فِي صَنِيعَة رغبا

وَالْعَبْد لَا يحسن الفعال وَلَا يُعْط ... يَك شَيْئا إِلَّا إِذا رهبا

وَلم أجد عُرْوَة الْخَلَائق إِلَّا ... الدَّين لما اعْتبرت والحسبا

قد يرْزق الْخَافِض الْمُقِيم وَمَا ... شدّ لنعس رحلاً وَلَا قتباً

(1/196)

وَيحرم المَال ذُو المطية وَا ... لرحل وَمن لَا يزَال مغترباً

وأنشدنا ابْن الْخياط النَّحْوِيّ عَن ثَعْلَب عَنِ الْفراء عَنِ الْكسَائي

نهيت عمرا وَيزِيد والطمع ... والحرص يضْطَر الْكَرِيم فَيَقَع

فِي دجلة فَلَا يكَاد ينْزع

وأنشدنا الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا ثَعْلَب:

أَبَا هَانِئ لَا تسْأَل النَّاس وَالْتمس ... بكفيك فضل اللَّه فَالله أوسع

فَلَو تسْأَل النَّاس التُّرَاب لأوشكوا ... إِذا قلت هاتوا أَن يملوا ويمنعوا

حدثنَا أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ قَالَ حَدثنَا الْمبرد قَالَ

(1/197)

قَالَت أم سَلمَة لعُثْمَان رحمهمَا اللَّهُ وَهِيَ تَعِظُهُ يَا بُنَيَّ مَا لِي أَرَى رَعِيَّتَكَ عَنْكَ نَافِرِينَ، وَمِنْ جَنْبِكَ مَزَّوَرِينَ لَا تَعْفُ طَرِيقًا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحَبَهَا وَلا تقتدح زنداً كَانَ أكباها، توخى حَيْثُ تَوَخَّى صَاحِبَاكَ فَإِنَّهُمَا ثَكَمَا الأَمْرَ ثَكْمًا لَمْ يَظْلِمَا أَحَدًا فَتِيلا وَلا نَقِيرًا، وَلا يُخْتَلَفُ إِلا فِي ظَنَّيْنِ هَذِهِ حَقُّ بُنُوَّتِي قَضَيْتُهَا إِلَيْكَ وَلِي عَلَيْكَ حق الطَّاعَة.

فَقَالَ عُثْمَانُ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قُلْتِ وَوَعَيْتُ، وَوَصَّيْتِ فَاسْتَوْصَيْتُ وَلِي عَلَيْكِ حَقُّ النِّصْتَةِ إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْم الغثرة تطأطأت لَهُم تطأطأ الدُّلاةِ أَرَانِيهُمُ الْحَقُّ إِخْوَانًا، وَأَرَاهُمُ الْبَاطِلُ إِيَّايَ شَيْطَانًا، أَجْرَرْتُ الْمَرْسُونَ مَنْهُمْ رَسَنَهُ وَأَبْلَغْتُ الرَّاتِعَ مَسْقَاتَهُ فَتَفَرَّقُوا عَلَيَّ فِرَقًا صَامِتٌ صَمْتُهُ أنفذ من قَول

(1/198)

غَيْرِهِ وَمُزَيِّنٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَأَنا مِنْهُم بَين أَلْسِنَة لداد وَقُلُوبٍ شِدَادٍ وَسُيُوفٍ حِدَادٍ أَلا يَنْهَى حَلِيمٌ سَفِيهًا أَلا يَعِظُ عَالِمٌ جَاهِلا، عَذِيرِي اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ لَا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُم فيعتذرون.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم عَن الزّجاج عَنِ الْمبرد: كتب رجل إِلَى ابْن أَخ لَهُ يعزيه عَن أَبِيه: عَلَيْك بتقوى الله وَالصَّبْر فَإِنَّهُ بهما يَأْخُذ الْمُحْتَسب وإليهما يرجع الجازع.

أخبرنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن بْن دُرَيْد قَالَ أَنبأَنَا أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ عَنْ أَبِي زيد الْأنْصَارِيّ قَالَ البطريق الرجل المختال المعجب المزهو، وهم البطاريق والبطارقة. وَلَا فعل لَهُ وَلَا يسْتَعْمل فِي النِّسَاء والجحجاح الرجل السَّيِّد الأديب وَلَا فعل لَهُ وَلَا يسْتَعْمل فِي النِّسَاء.

(1/199)

أنشدنا أَبُو عَبْد اللَّه اليزيدي: قَالَ أَنْشدني عمي:

إِمَّا تريني مره العيتين ... مسفع الوجنة والخدين

جلد الْقَمِيص جاسي النَّعْلَيْنِ ... فَإِنَّمَا الْمَرْء بالأصغرين

قَالَ أَبُو الْقَاسِم الأصغران الْقلب وَاللِّسَان وَمِنْه قَول ضمره بْن ضَمرَة وَكَانَ يُغير على مسالح النُّعْمَان وَينْقص أَطْرَافه فَطَلَبه فأعياه وأشجاه فَجعل لَهُ ألف نَاقَة والأمان فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ ازدراه لِأَنَّهُ كَانَ حَقِيرًا دميما فَقَالَ النُّعْمَان: لِأَن تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ، وَهُوَ أول من قَالَهَا فَذَهَبت مثلا، فَقَالَ لَهُ ابْن ضَمرَة: مهلا أَبيت اللَّعْن فَإِنَّمَا الْمَرْء بأصغريه قلبه وَلسَانه إِن نطق نطق بِبَيَان وَإِن قَاتل قَاتل بجنان فأعجب بِهِ وولاه مَا وَرَاء بَابه.

أنشدنا الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا الْمبرد لبَعض الْأَعْرَاب:

(1/200)

حنت قلوصي آخر اللَّيْل حنة ... فيا روعة مَا رَاع قلبِي حنينها

سعت فِي عقاليها ولاح لعينها ... سنا بارق وَهنا فجن جنونها

نَحن إِلَى أهل الْحجاز صبَابَة ... وَقد بت من أهل الْحجاز قرينها

فيا رب أطلق قيدها وجريرها ... فقد رَاع أهل المسجدين حنينها

وَقَالَ أنشدنا مثله:

حنت وَمَا عقلت فَكيف إِذا بَكَى ... شوقا يلام على البكا من يعقل

ذكرت قرى نجد فَأَطْلقهُ الْهوى ... وقرى الْعرَاق وليلهن الأطول

أنشدنا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم السجسْتانِي قَالَ أنشدنا الْأَصْمَعِي لِثَابِت قطنة الْعَتكِي:

يَا هِنْد كَيفَ بِنصب بَات يبكيني ... وعائر فِي سَواد الْعين يُؤْذِينِي

(1/201)

كَأَن ليلى والأصداء هاجدة ... ليل السَّلِيم وأعيا من يداويني

لما حَنى الدَّهْر من قوسي وعذرني ... شيبي وقاسيت أَمر الغلظ واللين

إِذا ذكرت أَبَا غَسَّان أرقني ... هم إِذا عرض السارون يشجيني

كَانَ الْمفضل عزا فِي ذَوي يمن ... وعصمة وثمالا للْمَسَاكِين

غيثاً لدي أزمة غبراء شَاتِيَة ... من السنين ومأوى كل مِسْكين

إِنِّي تذكرت قَتْلَى لَو شهدتهم ... فِي حومة الْمَوْت لم يصلوا بهَا دوني

لَا خير فِي الْعَيْش إِن لم نجن بعدهمْ ... حَربًا تبئ بهم قَتْلَى فتشفيني

لَا خير فِي طمع يدنى إِلَى طبع ... وعفة من قَلِيل الْعَيْش تكفيني

(1/202)

أنظر الْأَمر يعييني الْجَواب بِهِ ... وَلست انْظُر فِيمَا لَيْسَ يعنيني

لَا أَكثر القَوْل فِيمَا ينهضون بِهِ ... من الْكَلَام قَلِيل مِنْهُ يَكْفِينِي

لَا أركب الْأَمر تزري بِي عواقبه ... وَلَا يعاب بِهِ عرضي وَلَا ديني

لَا يغلب الْجَهْل حلمي عِنْد مقدرَة ... وَلَا العضيهة من ذِي الضغن تكبيني

كم من عَدو رماني لَو قصدت لَهُ ... لم يَأْخُذ النّصْف مني حِين يرميني

حَدثنَا ابْن شقير النَّحْوِيّ قَالَ حدثنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب أَنبأَنَا أَبُو عَبْد اللَّه بن الْأَعرَابِي قَالَ

(1/203)

دفع رجل رجلا فَقَالَ لتجدني ذَا منْكب مرحم وركن مدعم وَرَأس مصدم ولسان مرجم وَوَطْء مئثم.

قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُقَال مَاء مدرع إِذا أكل مَا حوله من الكلاء وَمَاء قَاصِر إِذا كَانَ حول المَاء حوله يرْعَى.

أنشدنا ابْن دُرَيْد عَن أبي حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي:

سَلِي الساغب المقرور يَا أم مَالك ... إِذا مَا اعْتَرَانِي بَين قدري ومجزري

أأبسط وَجْهي أَنه أول الْقرى ... وأبذل معروفي لَهُ دون منكري

(1/204)

وبإسناده عَنِ ابْن الْأَعرَابِي لبَعض الْأَعْرَاب:

إِنَّك يَا ابْن جَعْفَر نعم الْفَتى ... وَنعم مأوى طَارق إِذا أَتَى

وَرب ضيف طرق الْحَيّ سري ... صَادف زادا وحديثا مَا اشْتهى

إِن الحَدِيث جَانب من الْقرى

أنشدنا أَبُو مُوسَى الحامض عَن أبي عُثْمَان السكرِي الْمَعْرُوف بالحلو عَنِ ابْن قُتَيْبَة عَن بعض أشياخه للحسين بْن مطير الْأَسدي:

تضعفني حلمي وَكَثْرَة جهلهم ... على وَأَنِّي لَا أصُول بجاهل

دفعتكم عني وَمَا دفع رَاحَة ... بِشَيْء إِذا لم تستعن بالأنامل

حدثنَا أَبُو إِسْحَاق عَن شُيُوخه قَالَ: يُقَال أفهني عَن حَاجَتي حَتَّى فههت فهها أَي شغلني عَنْهَا حَتَّى نسيتهَا وأنشدوا:

وَلَقَد سبرت النَّاس ثمَّ عرفتهم ... وَعلمت مَا عرفُوا من الْأَنْسَاب

(1/205)

حدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ حدثنَا أَبُو حَاتِم قَالَ حدثنَا أَبُو زيد قَالَ قَالَ الخص وَأَرَادَ أَن يَشْتَرِي فحلا لأبله فَقَالَ لأَصْحَابه أَشِيرُوا عَليّ كَيفَ أشتريه؟ فَقَالَت ابْنَته هِنْد اشتره كَمَا أصفه لَك قَالَ صَفيه قَالَت: اشتره سلجم اللحيين أسجح الْخَدين غائر الْعَينَيْنِ أرقب أحزم أعكى أكوم إِن عصى عثم وَإِن أطيع تجرثم. قَالَ أَبُو الْقَاسِم: الأعكى الشَّديد عكوة الذَّنب وَهُوَ أَصله والأرقب الغليظ الْعُنُق والأحزم الغليظ مَوضِع الحزم مَعَ شدَّة.

حدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن الْحسن بْن دُرَيْد قَالَ حدثنَا أَبُو حَاتِم قَالَ حدثنَا الْأَصْمَعِي قَالَ

(1/206)

قَالَ مُحَمَّد بْن عمرَان التَّيْمِيّ قَاضِي أهل الْمَدِينَة مَا شَيْء أثقل من حمل الْمُرُوءَة قيل لَهُ وَمَا الْمُرُوءَة قَالَ لَا تعْمل فِي السِّرّ شَيْئا تَسْتَحي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَة.

أخبرنَا أَبُو مُوسَى الْحَامِضُ عَنِ الْمُبَرِّدِ عَنِ الْمَازِنِيِّ عَنِ الأَصْمَعِيِّ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِلأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: يَا أَبَا بَحْرٍ بِمَ يُسَوَّدُ الْغُلامُ فِيكُم؟ قَالَ إِذا رَأَيْته نشآن يَتَّقِيَ رَبَّهُ وَيُطِيعَ وَالِدَهُ وَيَسْتَصْلِحَ مَالَهُ وَيُقِيمَ مُرُوءَتَهُ وَيَبْسِطَ ضَيْفَهُ وَلا يُغْضِبَ جَارَهُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَفينَا وَأَبِيك.

أنشدنا أَبُو الْحسن الْأَخْفَش قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب قَالَ أنشدنا الْفراء الْحصين بن الْحمام:

(1/207)

تَأَخَّرت أستبقي الْحَيَاة فَلم أجد ... لنَفْسي حَيَاة مثل أَن أتقدما

فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا ... وَلَكِن على أقدامنا يقطر الدما

نفلق هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما

أخبرنَا أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ أخبرنَا الْجرْمِي بْن أبي الْعَلَاء قَالَ حَدثنِي أَبُو شبيب يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن شبيب قَالَ حَدثنِي أَبُو الْعَالِيَة الْحسن بْن مَالك الريَاحي ثمَّ العذري قَالَ حَدثنِي عون بْن وهب الْعَبْسِي قَالَ حَدثنِي زِيَاد ابْن عُثْمَان الْغَطَفَانِي من بني عَبْد الله بن غطفان قَالَ:

(1/208)

كُنَّا بِبَاب بعض وُلَاة الْمَدِينَة فغرضنا من طول الثواء فَإِذا أَعْرَابِي يَقُولُ يَا معشر الْعَرَب مَا فِيكُم من يأتيني أعلله وَأخْبرهُ عني وَعَن أم جحدر فَجئْت إِلَيْهِ فَقلت من أَنْت قَالَ أَنا الرماح بْن أبرد فَقلت أَخْبرنِي ببدء أمركما؟ فَقَالَ: كَانَت أم جحدر من عشيرتي فأعجبتني وَكَانَت بيني وَبَينهَا خلة ثمَّ أَنِّي عتبت عَلَيْهَا من شَيْء بَلغنِي عَنْهَا فأتيتها فَقلت يَا أم جحدر أَن الْوَصْل عَلَيْك مَرْدُود فَقَالَت مَا قضى اللَّه فَهُوَ خير. فَلَبثت على ذَلِك سنة وَذَهَبت بهم نجعة فصاعدوا وَاشْتقت إِلَيْهِ شوقاً شَدِيدا فَقلت لامْرَأَة أَخ لي وَالله لَئِن دنت دَارنَا من دَار أم جحدر لآتينها ولأطلبن إِلَيْهَا آن ترجع إِلَى وَصلي وَلَئِن ردته لَا نقضته أبدا وَلم يكن يَوْمَانِ حَتَّى رجعُوا فَلَمَّا أَصبَحت غَدَوْت عَلَيْهِم فَإِذا أَنا ببيتين نازلين إِلَى سَنَد أبرق طَوِيل وَإِذا امْرَأَتَانِ جالستان فِي كسَاء وَاحِد بَين الْبَيْتَيْنِ فَسلمت فَردَّتْ إِحْدَاهمَا وَلم ترد الْأُخْرَى فَقَالَت مَا جَاءَ بك يَا رماح إِلَيْنَا مَا كُنَّا حَسبنَا إِلَّا أَنه قد انْقَطع مَا بَيْننَا وَبَيْنك فَقلت إِنِّي جعلت نذرا لَئِن دنت بِأم جحدر دَار لآتينها ولأطلبن

(1/209)

مِنْهَا أَن ترد الْوَصْل بيني وَبَينهَا فلئن فعلت لَا نقضته أبدا وَإِذا الَّذِي تكلمني امْرَأَة أَخِيهَا وَإِذا الساكتة أم جحدر. فَقَالَت امْرَأَة أَخِيهَا: ادخل مقدم الْبَيْت فَدخلت وَجَاءَت فَدخلت من مؤخره فدنت قَلِيلا ثمَّ إِذا هِيَ قد برزت فساعة برزت جَاءَ غراب فنعب على رَأس الأبرق فَنَظَرت إِلَيْهِ وشهقت وَتغَير وَجههَا فَقلت مَا شَأْنك قَالَت لَا شَيْء قلت بِاللَّه أَخْبِرِينِي قَالَت إِن هَذَا الْغُرَاب يُخْبِرنِي أَنا لَا نَجْتَمِع بعد هَذَا الْيَوْم إِلَّا بِبَلَد غير هَذَا فتقبضت نَفسِي وَقلت جَارِيَة وَالله مَا هِيَ فِي بَيت عيافة فأقمت عِنْدهَا ثمَّ تروحت إِلَى أَهلِي فَمَكثت عِنْدهم يَوْمَيْنِ ثمَّ أَصبَحت غادياً إِلَيْهَا فَقَالَت لي امْرَأَة أَخِيهَا وَيحك يَا رماح أَيْن تذْهب؟ فَقلت إِلَيْكُم فَقَالَت وَمَا تُرِيدُ قد وَالله زوجت أم جحدر البارحة فَقلت بِمن وَيحك فَقَالَت بِرَجُل من أهل الشَّام من أهل بَيتهَا جَاءَهُم من الشَّام فَخَطَبَهَا وَقد حولت إِلَيْهِ فمضيت إِلَيْهِم فَإِذا هُوَ قد ضرب سرادقا فَجَلَست إِلَيْهِ فَأَنْشَدته وغدوت إِلَيْهِ أَيَّامًا ثمَّ إِنَّه احتملها وَذهب فَقلت:

أجارتنا إِن الخطوب تنوب ... علينا وَبَعض الْآمنينَ تصيب

أجارتنا لست الْغَدَاة ببارح ... وَلَكِن مُقيم مَا أَقَامَ عسيب

(1/210)

فَإِن تسأليني هَل صبرت فإنني ... صبور على ريب الزَّمَان صَلِيب

جرى بانبتات الْحَبل يَا أم جحدر ... ظباء وطير بالفراق نعوب

نظرت فَلم أعيف وعافت وبينت ... لَهَا الطير قبلي واللبيب لَبِيب

فَقَالَت حرَام أَن نرى بعد يَوْمنَا ... جمعين إِلَّا أَن يلم غَرِيب

أجارتنا صبرا فيا رب هَالك ... تقطع من وجد عَلَيْهِ قُلُوب

قَالَ أَبُو الْقَاسِم هَذِه الأبيات أغار عَلَيْهَا ابْن ميادة فَأَخذهَا بِأَعْيَانِهَا أما البيتان الْأَوَّلَانِ فهما لامرئ الْقَيْس قالهما لما احْتضرَ بأنقرة فِي بَيت وَاحِد وَهُوَ:

أجارتنا أَن الخطوب تنوب ... وَإِنِّي مُقيم مَا أَقَامَ عسيب

وَالْبَيْت الثَّالِث لرجل من شعراء الْجَاهِلِيَّة وتمثل بِهِ عَليّ بْن أبي طَالب رَضِي اللَّه عَنهُ فِي رسَالَته إِلَى أَخِيه عقيل بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فنقله ابْن ميادة نقلا.

(1/211)

أخبرنَا أَبُو الْحسن الْبَصْرِيّ عَن أبي حَاتِم قَالَ أنشدت أَبَا زيد هَذَا الْبَيْت وَسَأَلته مَا يَقُول فِيهِ:

أديسم يَا ابْن الذِّئْب من نسل زارع ... أتروي هجاء دارساً غير مقصر

فَقَالَ لمن هَذَا الشّعْر؟ قلت لبشار فِي ديسم الْعَنزي قَالَ قَاتله اللَّه مَا أعلمهُ بِكَلَام الْعَرَب. ثمَّ قَالَ الديسم ولد الذِّئْب من الكلبة، وَيُقَال للكلاب أَوْلَاد زارع والعسبار ولد الضبع من الذِّئْب والسمع ولد الذِّئْب من الضبع وتزعم الْعَرَب أَن السّمع لَا يَمُوت حتف أَنفه وَأَنه أسْرع من الذيخ وَإِنَّمَا هَلَاكه بِعرْض من أَعْرَاض الدُّنْيَا.

حَدثنَا أَبُو بكر بن مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حدثنَا يحيى بْن عَليّ وَالْحسن بن عَليّ وَمُحَمّد بن عمرَان الصَّيْرَفِي حدثنَا الْعَنزي قَالَ حَدثنِي جَعْفَر ابْن مُحَمَّد بن سَلام قَالَ حَدثنَا مخلد أَبُو سُفْيَان قَالَ كَانَ جرير ابْن الْمُنْذر السدُوسِي يفاخر بشارًا فَقَالَ لَهُ بشار:

(1/212)

أمثل بني مُضر وَائِل ... فقدتك من فاخر مَا أجن

أَفِي النّوم هَذَا أَبَا مُنْذر ... فخيرا رَأَيْت وَخيرا يكن

رَأَيْتُك وَالْفَخْر فِي مثلهَا ... كعاجنة غير مَا تطحن

وبإسناده قَالَ حدثنَا عصيم بن وهب الشَّاعِر البرجمي وَعِنْده رجل ينازعه فِي اليمانية والمضرية إِذْ أذن الْمُؤَذّن فَقَالَ بشار تفهم هَذَا الْكَلَام فَلَمَّا قَالَ أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه قَالَ لَهُ بشار: رويدا هَذَا الَّذِي يُؤذن باسمه مَعَ اللَّه عز وَجل من مُضر هُوَ أَو من حمير؟ فَسكت الرجل.

أخبرنَا هَاشم بْن مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ قَالَ حدثنَا الرياشي قَالَ أنْشد بشار قَول الشَّاعِر

(1/213)

وَقد جعل الْأَعْدَاء ينتقصونها ... وتطمع فِينَا ألسن وعيون

أَلا إِنَّمَا ليلى عَصا خيزرانة ... إِذا غمزوها بالأكف تلين

فَقَالَ وَالله لَو زعم أَنَّهَا عَصا مخ أَو عَصا زبد لقد كَانَ جعلهَا جافية خشنة بعد أَن جعلهَا عَصا أَلا قَالَ كَمَا قلت:

وحوراء المدامع من معد ... كَأَن حَدِيثهَا ثَمَر الْجنان

إِذا قَامَت لسبحتها تثنت ... كَأَن عظامها من خيزران

أخبرنَا حبيب بْن نصر قَالَ حَدثنِي عمر بْن شبة قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن الْحجَّاج قَالَ قلت لبشار إِنِّي أنشدت لإِنْسَان قَوْلك:

إِذا أَنْت لم تشرب مرَارًا على القذى ... ظمئت وَأي النَّاس تصفو مشاربه

(1/214)

فَقَالَ: مَا كنت أَظُنهُ إِلَّا لرجل كَبِير فَقَالَ لي بشار وَيلك أَفلا قلت لَهُ هُوَ وَالله أكبر الْإِنْس وَالْجِنّ أخبرنَا: الْحسن بن عَليّ قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مهرويه قَالَ حَدثنِي الْفضل بن سعيد قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ مر بشار بقاص فِي الْمَدِينَة فَسَمعهُ يَقُول فِي قصصه وَمن صَامَ رجباً وَشَعْبَان ورمضان بنى الله لَهُ قصراً فِي الْجنَّة صحنه ألف فَرسَخ فِي مثلهَا، فَالْتَفت بشار إِلَى قائده فَقَالَ لَهُ بئست الدَّار هَذِه الدَّار فِي كانون الثَّانِي.

تمت أمالي الزجاجي، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى اللَّه على سيدنَا مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين

(1/215)

القسم الأول: ما نص على أنه من الأمالي الصغرى فقط أو من الأمالي الصغرى وغيرها

وروي الزجاجي فِي أماليه الصغرى قَالَ: ورد يزيد بْن الحكم الثقفي من الطائف، علي الحجاج بْن يوسف بالعراق , وكان شريفا شاعرا , فولاه الحجاج فارس , فلما جاء لأخذ عهده، قَالَ له: يا يزيد، أنشدنا من شعرك، يريد أنشدنا ينشده مديحا له، فأنشده:

من يك سائلا عني فأني ... أنا ابن الصيد من سلفي ثقيف

وفي وسط البطاح محل بيتي ... محل الليث من وسط الغريف

وفي كعب , ومن كالحي كعب ... حللت ذؤابه الجبل المنيف

حويت فحارها غورا ونجدا ... وذلك منتهى شرف الشريف

نماني كل أصيد ولا ضعيف ... بحمل المعضلات ولا عنيف

فوجم الحجاج وأطرق ساعة , ثم رفع رأسه، فقال: الحمد لله , أحمده وأشكره , إذ لم يأت علينا زمان إلا فينا أشعر العرب، ثم قَالَ: أنشدنا يا يزيد، فأنشأ يَقُولُ:

وأبي الذي فتح البلاد بسيفه ... فأذلها لبني الزمان الغابر

وأبي الذي سلب ابن كسرى راية ... فِي الملك تخفق كالعقاب الكاسر

وإذا فخرت فخرت غير مكذب ... فخرا أدق به فخار الفاخر

(1/219)

فقام الحجاج مغضبا , ودخل القصر , وانصرف يزيد والعهد فِي يده , فقال الحجاج لخادمه: اتبعه وقل له: اردد علينا عهدنا، فإذا أخذته فقل له: هل ورثك أبوك مثل هذا العهد؟ ففعل الخادم وأبلغه الرسالة , فرد عليه العهد فقال: قل للحجاج: أورثني أبي مجده وفعاله , وأورثك أبوك أعنزا ترعاها! ثم سار تحت الليل فلحق بسليمان وهو ولي عهد الوليد , فضمه إليه وجعله فِي خاصته , ومدحه بقصائد , فقال له سليمان: كم كان أجري لك فِي عمالة فارس؟ قَالَ: عشرين ألفا، قَالَ: هي لك علي ما دمت حيا، والسليم: اللديغ، قَالَ الزجاجي فِي أماليه الصغرى: سمت العرب الملسوع سليما تفاؤلا , كما سموا المهلكة مفازة , من قولهم: فوز الرجل , إذا مات، كأنهما لفظتان لمعنى، وكان ينشد قول الشاعر:

كأني من تذكر آل ليلى ... إذا ما أظلم الليل البهيم

سليم بان عنه أقربوه ... وأسلمه المداوي والحميم

ولو كان على ما ذهب إليه , في السليم لقيل لكل من به علة صعبة:

(1/220)

سليم، مثل المبرسم , والمجنون , والمفلوج , بل كان يلزم أن يقال للميت سليم.

قَالَ البغدادي: وفيه أنشدنا المنقول عنه، أنه هو وابن الأعرابي، قالا: إن بني أسد تقول: إنما سمي السليم سليما لأنه أسلم لما به، على أنشدنا العلة لا يجب اطرادها، فتأمل، ثم أورد السيد جملا من أحواله , إلى أن أورد هذه الحكاية وأوردها الزجاجي فِي أماليه الصغرى , بسندها إلى سعيد بْن خالد الجدلي، أنه قَالَ: لما قدم عَبْد الملك بْن مروان الكوفة بعد قتل مصعب بْن الزبير , دعا الناس إلى فرائضهم , فأتيناه فقال: ممن القوم؟ فقلنا من بني جديلة، فقال: جديلة عدوان؟ قلنا: نعم، فتمثل عَبْد الملك:

عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض

بغي بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض

ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض

ثم أقبل على رجل كنا قدمناه أمامنا , جسيم وسيم , فقال: أيكم يَقُولُ هذا الشعر؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: يقوله ذو الإصبع، فتركني

(1/221)

وأقبل على ذلك الجسيم فقال: وما كان اسم ذي الإصبع؟ فقال: لا أدري.

فقلت أنا من خلفه: اسمه حرثان، فأقبل عليه وتركني فقال: لم سمي ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري فقلت أنا من خلفه: نهشته حية على أصبعه، فأقبل علي وتركني فقال: من أيكم كان؟ فقال: لا أدري، فقلت أنا من خلفه: من بني ناج، فأقبل على الجسيم فقال: كم عطاؤك؟ فقال: سبعمائة درهم، فقال لكاتبه: حط من عطاءك هذا ثلثمائة وزدها فِي عطاء هذا، فرحت وعطائي سبعمائة، وعطاؤه أربعمائة.

قَالَ أَبُو القاسم الزجاجي في أماليه الوسطى والصغرى:

أخبرنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْيَزِيدِيُّ، قَالَ: أخبرنا أَبُو الْفَضْلِ الرِّيَاشِيُّ، عَنِ الأَصْمَعِيِّ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُؤْبَةَ الْعَجَّاجِ , عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: " أَنْشَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَصِيدَتِي الَّتِي أَوَّلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اسْتَقَلَّتْ،

(1/222)

حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا , فَقَالَ: أَشْهَدُ إِنَّكَ لَمُؤْمِنٌ "، انتهى

وقد أورد أَبُو القاسم الزجاجي هذه الأبيات الثلاثة، فِي أماليه الصغرى والوسطى , وقال فيها: أما عصام فحاجب النعمان، يَقُولُ: لا ألومك إن منعتني من الوصل إليه , ولكن عرفني خبره، وكان الملك إذا مرض يجعل فِي سرير ويحمل على أكتاف الرجال , يعلل بذلك , ويقولون: هو أرفه له، وأما قوله: ونأخذ بعده، فيجوز فيه الرفع والنصب والجزم، أما الجزم فعلي العطف على قوله: يهلك ربيع الناس، والرفع على القطع والابتداء، وانصب بالصرف على إضمار أن، وكذلك كل معطوف بعد جواب الجزاء من الأفعال المستقبلة , تجوز فيه هذه الأوجه الثلاثة، وقوله: أجب الظهر يعني مقطوع الظهر , وهذا تشبيه تمثيل، ويروي: أجب الظهر بخفضهما

(1/223)

جميعا على إضافة أجب إلى الظهر، ويروي: أجب الظهر بفتح أجب ونصب أن يكون موضع أجب خفضا ولكن لا ينصرف , وينصب الظهر على التشبيه بالمفعول به ويضمر في أجب الفاعل , كأنه قَالَ: أجب الظهر بالتنوين , ثم منعه التنوين لأنه لا ينصرف، وهو فِي تقدير قولك: مررت برجل حسن الوجه , وكثير المال , وطيب العيش، ويروي: أجب الظهر أنه فِي موضع خفض ورفع الظهر به , كأنه قَالَ: أجب ظهره، فأهل الكوفة يجعلون الألف واللام عقيب الإضافة , وأهل البصرة يضمرون ما يعلق الذكر بالأول , وتقديره عندهم: أجب الظهر منه، انتهى، قَالَ البغدادي: وعذرهم فِي تقديم الجواب أن هذا البيت , ساقط فِي أكثر الروايات , وقد ذكره الزجاجي فِي أماليه الصغرى والكبرى فِي جملة أبيات ثمانية , رواها عَنِ المبرد , من قصيدة لأمرئ القيس , ورأينا أن نقتصر عليها , وهي:

بعثت إليها والنجوم خواضع ... حذارا عليها آن تقوم فتسمعا

(1/224)

فجاءت قطوف المشي هائبة السرى ... يدافع ركناها كواعب أربعا

يزجينها مشي النزيف وقد جرى ... صباب الكرى فِي مخها فتقطعا

تقول وقد جردتها من ثيابها ... كما رعت مكحول المدامع أتلعا

وجدك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

إذن لرددناه ولو طال مكثه ... لدينا ولكن بحبك ولعا

فبتنا نصد الوحش عنا كأننا ... قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا

إذا أخذتها هزة الروع أمسكت ... بمنكب مقدام على الهول أروعا

(1/225)

وفي أمالي الزجاجي الصغرى:

أخبرنا أَبُو جعفر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن رستم الطبري، قَالَ: أخبرنا أَبُو عثمان المازني، قَالَ: قرأ مُحَمَّد بْن سليمان الهاشمي , وهو أمير البصرة على المنبر «إن اللَّه وملائكته يصلون على النبي» بالرفع , فعلم أنه قد لحن , فبعث إلى النحويين وقال لهم: خرجوا لها وجها، فقالوا: نعطف به على موضع أن، لأنها داخلة على المبتدأ والخبر، فأحسن صلتهم , ولم يرجع عنها لئلا يقال لحن الأمير

وأخبرنا أَبُو إسحاق الزجاج، قَالَ: أخبرنا أَبُو العباس المبرد , عَنِ المازني، قَالَ: حدثني الأخفش قَالَ: كان أمير فِي البصرة يقرأ على المنبر: «إن اللَّه وملائكته يصلون على النبي» بالرفع , فصرت إليه ناصحا ومنبها , فتهددني وأوعدني وقال: تلحنون أمراءكم , ثم عزل وتقلد مُحَمَّد بْن سليمان الهاشمي , فكأنه تلقنها من فِي المعزول , فقلت: هذا هاشمي نصيحته واجبة، فجبنت عنه وخشيت أن يتلقاني بمثل ما تلقاني به الأول , ثم حملت على نفسي فأتيته , فإذا هو فِي غرفة

(1/226)

له , وعنده أخوه , والغلمان على رأسه , فقلت: هذا، وأومأت إلى أخيه، فنهض أخوه وتفرق الغلمان , فقلت أصلح اللَّه الأمير , أنتم أهل بيت النبوة , ومعدن الرسالة والفصاحة , وتقرأ: إن اللَّه وملائكته , بالرفع , وهو لحن لا وجه له؟ فقال: جزاك اللَّه خيرا , قد نبهت ونصحت! فانصرف مشكورا.

فانصرفت , فلما صرت فِي نصف الدرجة إذا قائل يَقُولُ لي: قف، فوقفت وخفت أن يكون أخوه أغراه بي , فإذا بغلة سفواء , وغلام , وبدرة , وتخت ثياب , وقائل يَقُولُ: هذا لك , قد أنر به الأمير، فانصرفت مغتبطا.

انتهى كلامه

(1/227)

القسم الثاني ما نص على أنه من الأمالي الوسطى فقط

أخبرنا ابن شقير، قَالَ: وقد سأله رجل حضرت المبرد عَن معنى قول الشاعر:

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت

فقال هذا كقول الآخر:

وقافية قيلت فلم أستطع لها ... دفاعا إذا لم تضربوا بالمناصل

فأدفع عَن حق بحق ولم يكن ... ليدفع عنكم قاله الحق باطلي

قَالَ أَبُو القاسم: معني هذا الفصيل إذا لهج بالرضاع، جعلوا فِي أنفه خلالة محددة , فإذا جاء يرضع أمه نخستها تلك الخلالة فمنعته من الرضاع , فإن كف وإلا أجروه، والإجرار: إن يشق لسان الفصيل أو يقع طرفه , فيمتنع حينئذ من الرضاع ضرورة، فقال قائل البيت الأول: إن قومي لم عَن مدحهم كما يجر الفصيل عَنِ الرضاع، ففسره أَبُو العباس بالبيتين اللذين مضيا.

وللإجراء موضع آخر , وهو أن يطعن الفارس فيمكن الرمح

(1/228)

فيه , ثم يتركه منهزمًا يجر الرمح , فذلك قاتل لا محالة.

ومنه قول الشاعر:

وأخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع

وقول الآخر:

ونقي بأفضل ما لنا أحسابنا ... ونجر فِي الهيجا الرماح وندعي

انتهى.

وهو نص ملفق من كتاب المحاسن والأضداد للجاحظ , ومن كتاب المغربين , لأبي الحسن علي بْن مُحَمَّد المدائني , والأمثال لحمزة الأصبهاني , والروض الأنف السهيلي , وغاية السائل إلى معرفة الأوائل لإسماعيل بْن هبة اللَّه الموصلي , والأمالي الوسطى للزجاجي، والنص يتعلق بالفريعة بنت همام , المعروفة بالمتمنية أم الحجاج بْن يوسف, وكانت تهوى نصر بْن حجاج.

وقد وجدت من العسير أن أفصل نص الزجاجي من سائر النصوص

(1/229)

لاتصال معنيها وسياقها , ورأيت أن فِي نقلها إطالة يمكن الاستغناء عنها بالرجوع إليها فِي الخزانة.

قَالَ البغدادي: وزعم الخطيب التبريزي فِي شرح ديوان أبي تمام، أن البيت الشاهد للعرجي المذكور آنفا , ولم يوجد فِي ديوانه، والذي رواه العلماء أنه لعمر بْن أبي ربيعة , وهو موجود فِي شعره، وسبب توهمه: أن للعرجي أبياتا على هذا النمط رواها الزجاجي فِي أماليه الوسطى، بسنده إلى إسحاق ابن سعيد بْن عمرو بْن سعيد بْن العاص , قَالَ: كان العرجي، وهو عَبْد اللَّه بْن عمر بْن عمرو بْن عثمان بْن عفان، يشبب بامرأة مُحَمَّد بْن هشام، وقال غيره: إنه يشبب بامرأته الحارثية:

عوجي علينا ربة الهودج ... إنك إلا تفعلي تحرجي

أيسر ما قَالَ محب لدي ... بين حبيب قوله: عرج

(1/230)

يفضي إليكم حاجة أو يقل ... هل لي مما بي من مخرج

من حبكم بنتم ولم ينصرم ... وجد فؤادي الهائم المنضج

فما استطاعت غير أن أومأت ... بطرف عيني شاد أدعج

تذود بالبرد لها عبرة ... جادت بها العين ولم تنشج

مخافة الواشين أن يفطنوا ... بشأنها والكاشح المزعج

أقول لما فاتني منهم ... ما كنت من وصلهم أرتجي

إني أتيحت لي يمانية ... إحدى بني الحارث من مذحج

نمكث حولا كاملا كله ... لا نلتقي إلا على منهج

فِي الحج إن حجت وماذا مني ... وأهله إن هي لم تحجج

فقال عطاء: الكثير الطيب يا خبيث.

(1/231)

ساق البغدادي الأبيات التالية لزيد بْن عمرو بْن نفيل:

تلك عرساي تنطقان على عمد ... لي اليوم قول زور وهتر

سالتاني الطلاق أن رأتا ما ... لي قليلا قد جئتماني بنكر

فلعلي أن يكثر المال عندي ... ويعرى من المغارم ظهري

وترى أعبد لنا وأواق ... ومناصيف فِي خوادم عشر

ونجر الأذيال فِي نعمة زول ... تقولان ضع عصاك لدهر

وي كأن لم يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر

ويحنب سر النجي ولكن ... أخا المال محضر كل سر

ثم قَالَ: وروي الزجاجي فِي أماليه بدل نكر: مر من المرارة ضد الحلاوة، وروي أيضا:

سالتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد. . . . . . إلخ

(1/232)

وقال البغدادي أيضا: وهي لزيد بْن عمر بْن نفيل , كما فِي كتاب سيبويه وخدمته , وكذا فِي أمالي الزجاجي الوسطي، وأثبتها الجاحظ , لابنه سعيد بْن زيد , ونسبها الزبير بْن بكار , لنبيه بْن الحجاج.

ورأيت فِي أمالي الزجاجي الوسطي قَالَ:

أخبرنا الأشنانداني , عَنِ العتبي، عَن رجل من قريش، قَالَ: حضرت مجلس عَبْد الملك وعنده بطن من بني عامر بْن صعصعة , وكان رجل بينهم معه ابنتاه وذوده وهن ثلاث , فراح ذوده يوما , ففقد منها واحد فنشده، أي سأل عنه وطلبه، فلم ينشد , فأوفى على صخرة وأنشأ يَقُولُ:

أذئب القفر أم ذئب أنيس ... سطا بالبكر أم صرف الليالي

(1/233)

وأنتم لو أراد الدهر عدوا ... عديد الترب من أهل ومال

ونحن ثلاثة وثلاث ذود ... لقد جار الزمان على عيالي

ولو مولي ضباب عال فيهم ... لجر الدهر على حال لحال

ومولاهم أبي لا عيب فيه ... وفي مولاكم بعض المقال

هلم براءة والحي ضاح ... وإلا بالوقوف على الإل

دعا داعي القوص على ثبير ... ألا أين القوص بني قتال

فطلبوا له ذوده فردها عليه , وغرموا له ذودًا وقالوا: اخرج عنا , انتهى.

أورد البغدادي قول الراجز:

إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل

ثم ساق رأي سيبويه فيه ونصه: وقد يجوز أن تقول: بمن تر أمر , وعلى من تنزل أنزل , إذا أردت معني

(1/234)

عليه وبه , وليس بجد الكلام , وفيه ضعف، ومثل ذلك قول بعض الأعراب:

إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل

يريد: يتكل عليه , ولكنه حذف، وهذا قول الخليل.

انتهى.

قَالَ الزجاجي فِي أماليه الوسطى: زعم بعض الناس أن سيبويه غلط فيه , وتقديره عند سيبويه أن يكون يجد متعديا إلى من بعلي , وليس وجدت مما يتعدى بحرف خفض , فلهذا خالفوه، قَالَ: تقديره صحيح جيد , لأن الفعل المتعدي قد يجوز ألا يتعدى , فكأنه قصد ذلك ثم بدا له فعداه بعلي , كما قَالَ تعالى: عسى أن يكون ردف لكم وإنما جاز أن يحذف عليه لذكرها فِي أول الكلام.

انتهى.

أنشد البغدادي قول الراجز:

تضحك مني أن رأتني أحترش ... ولو حرشت لكشفت عَن حرش

ثم قَالَ 25 ورواه الزجاجي فِي أماليه الوسطي:.

تعجب لما أن رأتني أحترش

(1/235)

القسم الثالث ما نص على أنه من الأمالي الكبرى فقط , وهو نص واحد.

أنشد قول الراجز:

يا ابن الزبير طالما عصيكا

وطالما عنيتنا إليكا

لنضربن بسيفنا قفيكا

ثم قَالَ: هكذا أورده أَبُو زيد فِي نوادره , ونسبه لراجز من حمير , وتبعه صاحب الصحاح فِي مادة السين المهملة، وأما الزجاجي فإنه رواه فِي آخر أماليه الكبرى على خلاف هذه الرواية فقال: باب التاء، والكاف فِي المكني: يقال ما فعلت وما فعلك.

قَالَ الراجز:

يا ابن الزبير طالما عصيكا

وطالما عنيكنا إليكا

لنصر بْن بسيفنا قفيكا

يريد: عصيتا وعنيتنا.

فروي عنيكنا بدل التاء كافا , ثم عصيكا وعنيتنا إليك بمعنى أتعبتنا بالمسير إليك.

(1/236)

القسم الرابع ما ورد منسوبا إلى الأمالي للزجاجي، هملا بدون قيد

أورد قول الراجز:

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

ثم قَالَ: ورواه الدينوري فِي النبات , وابن قتيبة فِي أبيات المعاني , والزجاجي وابن الشجري فِي أماليهما، وروي الزجاجي فِي أماليه قَالَ:

حدثنَا ابن دريد، قَالَ: أخبرنا أَبُو حاتم، قَالَ: أخبرنا أَبُو عبيده قَالَ: كتبت امرأة من العرب إلى طلحة الطلحات:

يأيها المائح دلوي دونكا

إني رأيت الناس يحمدونكا

يثنون خيرا ويمجدونكا

(1/237)

فلما قرأ طلحة الكتاب أحب ألا يفطن الرسول فقال: ما أيسر ما سالت , إنما سألت جنبة، ثم أمر بجنبة عظيمة فقورت وملئت دنانير , وكتب إليها:

إنا ملأناها تفيض فيضا ... فلن تخافي ما حييت غيضا

خذي لك الجنب وعودي أيضا.

قَالَ أَبُو القاسم الزجاجي فِي أماليه:

حدثنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ رُسْتُمَ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: حدثنَا أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، حدثنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ , حدثنَا سَعِيدُ بْنُ سَلْمٍ الْبَاهِلِيُّ , حدثنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَرَأَيْتُهُ مُطْرِقًا مُتَفَكِّرًا , فَقُلْتُ: فِيمَ تُفَكِّرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: " إِنِّي سمعتُ بِبَلَدِكُمْ هُنَا لَحْنًا , فَأَرَدْتُ أَنْ أَصْنَعَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الْعَرَبِيَّةِ , فَقُلْتُ: إِنْ فَعَلْتَ هَذَا أَحْيَيْتَنَا وَبَقِيتَ فِينَا هَذِهِ اللُّغَةُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ ثَلاثٍ فَأَلْقَى لِي صَحِيفَةً فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْكَلامُ كُلُّهُ اسْمٌ، وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، فَالاسْمُ: مَا أنبأ عَنِ الْمُسَمَّى، وَالْفِعْلُ مَا أنبأ عَنْ حَرَكَةِ الْمُسَمَّى، وَالْحَرْفُ مَا أنبأ عَنْ مَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلا فِعْلٍ، ثُمَّ قَالَ: تَتَبَّعْهُ وَزِدْ فِيهِ مَا وَقَعَ لَكَ، وَاعْلَمْ يَا أَبَا الأَسْوَدِ أَنَّ الأَسْمَاءَ

(1/238)

ثَلاثَةٌ: ظَاهِرٌ , وَمُضْمَرٌ , وَشَيْءٌ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَلا مُضْمَرٍ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَلا مُضْمَرٍ، قَالَ أَبُو الأَسْوَدِ: فَجَمَعْتُ مِنْهُ أَشْيَاءَ وَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ , فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ حُرُوفُ النَّصْبِ , فَذَكَرْتُ مِنْهَا , إِنَّ , وَأَنَّ , وَلَيْتَ , وَلَعَلَّ , وَكَأَنَّ، وَلَمْ أَذْكُرْ لَكِنَّ , فَقَالَ لِي: لِمَ تَرَكْتَهَا؟ فَقُلْتُ: لَمْ أَحْسِبْهَا مِنْهَا، فَقَالَ: بَلْ هِيَ مِنْهَا، فَزِدْهَا فِيهَا "

أخبرنا أَبُو الحسن علي بْن سليمان الأخفش النحوي , حدثنَا أَبُو العباس أَحْمَد بْن يحيى ثعلب، قَالَ: حدثني سلمة، قَالَ: قَالَ الفراء: قدم سيبويه على البرامكة , فعزم يحيى على الجمع بينه وبين الكسائي , فجعل لذلك يوما , فلما حضر تقدمت والأحمر فدخلنا , فإذا بمثال فِي صدر المجلس , فقعد عليه يحيى , ومعه إلى جانب المثال جعفر، والفضل، ومن حضر بحضورهم، فأقبل عليه الأحمر فسأله عَن مسألة فأجاب فيها سيبويه، وحضر سيبويه , فقال له: أخطأت، ثم سأل عَن ثانية فأجاب فقال له: أخطأت،

(1/239)

ثم سأله عَن ثالثة فأجاب , فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سوء أدب! قَالَ الفراء: فأقبلت عليه فقلت: إن فِي هذا الرجل حدة وعجلة , ولكن ما تقول فيمن قَالَ: هؤلاء أبون ومررت بأبين , كيف تقول مثال ذلك من وأيت وأويت؟ فقدر فأخطأ , فقلت: أعد النظر، فقدر وأخطأ ثلاث مرات يجيب ولا يصيب، فلما كثر ذلك قَالَ: لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره.

قَالَ: فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ قَالَ: لا , بل سلني أنت، فأقبل عليه الكسائي فقال: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي , أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي ولا يجوز النصب، فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عَن مسائل من هذا النحو: خرجت فإذا عَبْد اللَّه القائم , أو القائم؟ فقال سيبويه فِي ذلك كله بالرفع دون النصب، وقال له الكسائي: ليس هذا كلام العرب , العرب ترفع ذلك كله وتنصبه، فدفع سيبوبه قوله , فقال يحيى بْن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلدكما , فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب , ووفدت عليك من كل صقع , وهم فصحاء الناس , وقد قنع بهم أهل المصريين , وسمع أهل الكوفة أهل البصرة منهم , فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت، فأمر بإحضارهم فدخلوا , وفيهم أَبُو فقعس , وأبو زياد , وأبو الجراح , وأبو ثروان , فسئلوا عَنِ المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه , فتابعوا الكسائي

(1/240)

وقالوا بقوله، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه , وأقبل الكسائي على يحيى فقال: أصلح اللَّه الوزير , إنه قد وفد إليك من بلده مؤملا , فإن رأيت ألا ترده خائبا! فأمر له بعشرة آلاف درهم , فخرج وصير وجهه إلى فارس , وأقام هناك ولم يعد إلى البصرة، ثم قَالَ السيوطي قَالَ السخاوي فِي سفر السعادة قَالَ لي شيخنا أَبُو اليمن الكندي: إن سيبويه إنما قَالَ ذلك لأن المعاني لا تنصب المفاعيل الصريحة، قَالَ السخاوي: لم أسمع فِي هذه المسألة أحسن من قول الكندي ولا أبلغ!

أخبرنا أَبُو عَبْد اللَّه بْن اليزيدي , يرفعه إلى عمه , عَن جده أبي مُحَمَّد اليزيدي واسمه يحيى المبارك، قَالَ: كنا فِي مجلس أبي عمرو العلاء , فجاءه عيسى بْن عمر الثقفي فقال:

(1/241)

يا أبا عمرو , ما شيء بلغني أنك تجيزه؟ قَالَ: وما هو؟ قَالَ: بلغني أنك تجيز: ليس الطيب إلا المسك , بالرفع، فقال له أَبُو عمرو: هيهات , نمت وأدلج الناس! ليس فِي الأرض حجازي إلا وهو ينصب , ولا فِي الأرض تميمي إلا وهو يرفع، ثم قَالَ لي أَبُو عمرو: تعال أنت يا يحيى، وقال لخلف الأحمر: تعال أنت يا خلف، امضيا إلى أبي مهدية فلقناه الرفع , فإنه يأبى، وامضيا إلى المنتجع بْن نبهان التميمي , فلقناه النصب فإنه يأبى، قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فمضينا إلى أبي مهدية فوجدناه قائما يصلي , فلما قضى صلاته أقبل علينا فقال: ما خطبكما؟ فقلت: جئناك لنسألك عَن شيء من كلام العرب، قَالَ: هاتياه، فقلنا: كيف تقول ليس الطيب إلا المسك؟ فقال: أتأمراني بالكذب على كبر سني , فأين الزعفران , وأين الجادي , وأين بنة الأبل الصادرة؟ فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسل، قَالَ: فما تصنع سودان هجر , ما لهم غير هذا التمر، فلما رأيت ذلك قلت له: كيف تقول: ليس ملاك الأمر إلا طاعة اللَّه والعمل بها؟ فقال: هذا كلام لا دخل

(1/242)

فيه , ليس ملاك الأمر إلا طاعة اللَّه والعمل بها , فنصب فلقناه الرفع فأبى , فكتبنا ما سمعناه منه.

ثم جئنا إلى المنتجع فقلنا له: كيف تقول: ليس الطيب إلا المسك؟ ونصبنا فقال: ليس الطيب إلا المسك , فرفع , وجهدنا به أن ينصب , فلم ينصب.

فرجعنا إلى أبي عمرو، وعنده عيسى بْن عمر لم يبرح بعد , فأخبرناه بما سمعنا , فأخرج عيسى خاتمه من يده , فدفعه إلى أبي عمرو , وقال: بهذا سدت الناس يا أبا عمرو

حضرت أبا إسحاق الزجاج يوم الجمعة، فِي مجلسه بالجامع الغربي، بمدينة السلام، بعد الصلاة , وقد دس إليه أَبُو موسى الحامض رجلا غريبا بمسائل , منها: كيف تجمع هبي وهبية جمع التكسير؟ فقال أَبُو إسحاق: أقول: هباي كما ترى , فأدغم , وأصل الياء الأولى عندي السكون , ولولا ذلك لأظهرتها، فقال له الرجل: فلم تصرفه إذا كان أصله عندك السكون كما تصرف حمارا؟ فقال: لأن حمارا غير مكسر , وإنما هو واحد , فلذلك صرفته ولم أصرف هباي، قَالَ: وما أنكرت من أن يكونوا أعلوا العين فِي هذا الباب وصححوا اللام , فشبهوا الياء التي ههنا هي لام بعين المعتل , ثم أعلوا العين بمثل رأيته؟ فقال: هذا مذهب , وهو عندي جائز،

(1/243)

ثم قَالَ أَبُو إسحاق: أراك تسأل سؤال فهم فكيف تصغر هبي؟ فقال أنا مستفهم والجواب منك أحسن، فقال أَبُو إسحاق: يقال فِي تصغيره هبيي , فتصحح الياء الثانية فِي الأصل وتدغم فيها الياء الأولى التي هي لام الفعل , وتأتي بياء التصغير ساكنة فلا يلزم حذف شيء.

والهبي والهبية: الصبي قَالَ له الرجل: كيف تبني من قضيت مثل جحمرش؟ وهي العجوز، قَالَ أَبُو إسحاق: أما على مذهب المازني فيقال فيه قضي، لأن اللام الأولى بمنزلة غير المعتل لسكون ما قبلها , فأشبهت ياء ظبي , فكأن ليس فِي الكلام إلا ياءان , فصحت الأولى من الأخريين، وأعلت الآخرة.

هذا مذهب أبي عثمان.

والأخفش يَقُولُ فيها قضيا , قَالَ: وأقلب الوسطى ألفا أحذف الآخرة لانفتاح من قبلها.

قَالَ له الرجل: فكيف تقول منها من قرأت؟ فقال له أَبُو إسحاق: يقال قرآء مثل قرقاع , وأصله قرأئئ وزنه قرقيع , فاجتمعت ثلاث همزات فقلبت الوسطى منهن ياء لاجتماع الهمزات , ثم قلبتها ألفا لاجتماع ما قبلها.

فقال له: فما وزن كينونة عندك؟ قَالَ: فيعلولة , وأصلها كيونونة , ثم قلبت الواو ياء لسبق الياء لها ساكنة , وأدغمت الأولى فِي الثانية فصار كينونة , ثم خففت فقيل كينونة؟ كما قيل فِي ميت وهين وطيب: ميت وهين وطيب.

قَالَ: ما الدليل على هذه الدعوى والفراء يزعم أنها فعلولة؟

(1/244)

قَالَ: الدليل عل ذلك ثبات الياء , لأنه لو كان أصلا لزمه الاعتلال , لأنه لا محالة من الكون , فكان يجب أن يقال كونونة , إن كان أصلها فعلولة بإسكان العين، وإن كان أصلها فعلولة بتحريك العين فواجب أن يقال كانونة.

فقال له الرجل: فما تقول فِي امرأة سميت أريس، ثم خففت الهمزة , كيف تصغرها؟ قَالَ: أريس ولا أزيد الهاء.

فقال له: ولم وقد صار ثلاثة أحرف , ألست تقول فِي تصغير هند هنيدة , وعين عيينة، فقال الزجاج: هذا مخالف لذلك، فغني لو خففت الهمزة فإنها مقدرة فِي الأصل , والتخفيف بعد التحقيق.

قَالَ: فلم لا تلحقه بتصغير سماء إذا قلت سمية , أليس الأصل مقدرا؟ فقال: هذا لا يشبه تصغير سماء، لأن التخفيف فِي أرؤس عارض , والتحقيق فيه جائز، وأنت فِي تحقير سماء تكره الجمع بين ثلاث ياءات , وأنت لا تكره التحقيق فِي أرؤس , فلو حققته صار على أربعة أحرف وهو الأصل، وسماء الحذف لها لازم , فصار كأنه على ثلاثة أحرف , فلحقتها الهاء فِي التصغير.

قَالَ أَبُو القاسم الزجاجي: ونظير كينونة فِي الوزن القيدودة , وهو الطول، والهيعوعة , وهو مصدر هاع , إذا جبن هيعوعة، الطيرورة من الطيران، كل هذا أصله عند البصريين فيعلولة , ثم لحقته ما ذكرته لك، وكان فِي

(1/245)

المجلس المشوق , فأخذ بياضا , وكتب من وقته:

صبرا أبا إسحاق عَن قدرة ... فذو النهي يمتثل الصبرا

واعجب من الدهر وأوغاده ... فإنهم قد فضحوا الدهرا

لا ذنب للدهر ولكنهم ... يستحسنون الغدر المكرا

نبئت بالجامع كلبا لهم ... ينبح منك الشمس والبدرا

والعلم والحلم ومحض الحجا ... وشامخ الأطواد والبحرا

والديمة الوطفاء فِي سحها ... إذا الربى أضحت به خضر

فتلك أوصافك بين الورى ... يأبين والتيه لك الكبرا

يظن جهلا والذي دسه ... أن يلمسوا العيون والغفرا

فأرسلوا النزر إلى غامر ... وغمرنا يستوعب النزار

فاله أبا إسحاق عَن خامل ... ولا تضق منك به صدرا

وعن خشار عور فِي الورى ... خطيبهم من فمه يخرا

قَالَ أَبُو إسحاق: فعقب هذا المجلي سألني مُحَمَّد بْن يزيد المبرد يوما، فقال: كيف تقول فِي تصغير أموي؟ فقلت له: أقول أمي، فقال لي: لم طرحت ياء التصغير من أموي وأثبتها فِي هذا؟ فقلت: تلك لغيره , تلك للجنس هذا

(1/246)

له فِي نفسه , فلا يطرح له ما فِي نفسه حملا على ما كان للجنس، فقال: أجدت يا أبا إسحاق.

أخبرني بعض أصحابنا، قَالَ: حضرت مجلس أبي بكر بْن دريد وقد سأله بعض الناس عَن معني قول الشاعر:

هجرتك لا قلى مني ولكن ... رأيت بقاء ودك فِي الصدود

كهجر الحائمات الورد لما ... رأت أن النية فِي الورود

تفيض نفوسها ظمأ وتخشي ... حماما فهي تنظر من بعيد

قَالَ: الحائم: الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه، يقال: حام يحوم حياما.

معني الشعر أن الأيائل , تأكل الأفاعي فِي الصيف , فتحمي وتلهب لحرارتها , فتطلب الماء , فإذا وقعت عليه امتنعت من شربه وحامت حوله تتنسمه، لأنها إن شربته فِي تلك الحال وصادف الماء السم الذي فِي أجوافها

(1/247)

تلفت , فلا تزال تدافع شرب الماء حتى يطول الزمان , فيسكن فوران السم , ثم تشربه فلا يضرها.

فيقول هذا الشاعر: فأنا فِي تركي وصالك مع شدة حاجتي إليه إبقاء على ودك , بمنزلة هذه الحائمات التي تدع شرب الماء مع شدة حاجتها إليه، إبقاء على حياتها

أخبرنا أَبُو بكر بْن شقير، قَالَ: أخبرني مُحَمَّد بْن القاسم بْن خلاد , عَن عَبْد اللَّه بْن بكر بْن حبيب السهمي , عَن أبيه، قَالَ: دخلت على عيسى بْن جعفر بْن المنصور , وهو أمير البصرة , أعزيه عَن طفل له مات , فبينا أنا عنده دخل عليه شبيب بْن شيبه المنقري , فقال: أبشر أيها الأمير , فإن الطفل لا يزال محنبظئا , بباب الجنة يَقُولُ: لا أدخل حتى يدخل

(1/248)

والدي! فقلت: يا أبا المعمر , دع عنك الظاء والزم الطاء.

قَالَ: أولي تقول هذا وما بين لابتيها أفصح مني! فقلت: له هذا خطأ ثان , ومن أين للبصرة لابة , إنما البصرة الحجارة البيض الرخوة، واللابة: الحجارة السود.

يقال لابة ولاب , ولوبة ولوب , ونوبة ونوب , لمعني واحد، فكان كلما انتعش انتكس

قَالَ ثعلب فِي أماليه , ووكيع فِي الغرر:

حدثني أَبُو سعيد عَبْد اللَّه بْن شبيب، حدثني هارون بْن أبي بكر أخو الزبير , حدثني مُحَمَّد بْن إبراهيم الليثي , حدثني مُحَمَّد بْن معن الغفاري، قَالَ: أقحمت السنة المدينة ناسا من الأعراب , فحل المزاد , منهم صرم من بني كلاب , فأبرقوا ليلة فِي النجد , وغدوت عليهم , فإذا غلام منهم قد عاد جلدا وعظما , ضيعة ومرضا وضمانة حب , وإذا هو رافع عقيرته بأبيات قالها من الليل:

(1/249)

ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق علي كريم

لمعت اقتذاء الطير والقوم هجع ... فهيجت أسقاما وأنت سليم

فبت بجد المرفقين أشيمه ... كأني لبرق بالستار حميم

فهل من معين طرف عين خلية ... فإنسان طرف العامري كليم

رمي قلبه الرق الملألئ رمية ... بذكر الحمي وهنا فبات يهيم

فقلت له: فِي دون ما بك ما يفحم عَنِ الشعر! فقال: صدقت ولكن البرق أنطقني.

قَالَ: ثم والله ما لبث يومه حتى مات قبل الليل , ما يتهم عليه غير الوجد أخرجه الزجاجي فِي أماليه من وجه آخر , عَن محمد بن معن به نحوه

(1/250)