البداية والنهاية/الجزء التاسع/فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن: ابن عباس، وجابر، والنعمان بن بشير

البداية والنهايةالجزء التاسع المؤلف ابن كثير
فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن: ابن عباس، وجابر، والنعمان بن بشير



فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن: ابن عباس، وجابر، والنعمان بن بشير


وروى عن: معاذ بن جبل، وأبي هريرة، وعن طاوس.

وعنه: من التابعين عدة.

وقال وهب: مثل من تعلم علما لا يعمل به كمثل طبيب معه شفاء لا يتداوى به.

وعن منير مولى الفضل بن أبي عياش، قال: كنت جالسا مع وهب بن منبه فأتاه رجل فقال له: إني مررت بفلان وهو يشتمك، فغضب وقال: ما وجد الشيطان رسولا غيرك؟ فما برحت من عنده حتى جاءه ذلك الشاتم فسلم على وهب فرد عليه السلام، ومد يده إليه وصافحه وأجلسه إلى جنبه.

وقال ابن طاوس: سمعت وهبا، يقول: ابن آدم، احتل لدينك فإن رزقك سيأتيك.

وقال وهب: كسي أهل النار والعرى كان خيرا لهم، وطعموا والجوع كان خيرا لهم، وأعطوا الحياة والموت كان خيرا لهم.

وقال داود عليه السلام: اللهم أيما فقير سأل غنيا فتصامَّ عنه، فأسالك إذا دعاك فلا تجبه، وإذا سألك فلا تعطه.

وقال: قرأت في بعض كتب الله: ابن آدم، لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت، فإن مثلك كمثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمةً فذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.

وقال: إن لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء.

وروى الطبراني، عنه، أنه قال: إذا أردت أن تعمل بطاعة الله عز وجل فاجتهد في نصحك وعملك لله، فإن العمل لا يقبل ممن ليس بناصح، والنصح لله لا يكمل إلا بطاعة الله، كمثل الثمرة الطيبة ريحها وطعمها، كذلك مثل طاعة الله، النصح ريحها، والعمل طعمها.

ثم زين طاعتك بالحلم والعقل، والفقه والعمل، ثم أكبر نفسك عن أخلاق السفهاء وعبيد الدنيا، وعبّدها على أخلاق الأنبياء والعلماء العاملين، وعوّدها فعل الحكماء، وامنعها عمل الأشقياء، وألزمها سيرة الأتقياء، واعزبها عن سبل الخبثاء، وما كان لك من فضل فأعن به من دونك، وما كان فيمن دونك من نقص فأعنه عليه حتى يبلغه.

فإن الحكيم من جمع فواضله وعاد بها على من دونه، وينظر في نقائص من دونه فيقويها ويرجيها حتى يبلغه، إن كان فقيها حمل من لا فقه له إذا رأى أنه يريد صحابته ومعونته، وإذا كان له مال أعطى منه من لا مال له، وإذا كان مصلحا استغفر للمذنب ورجا توبته، وإذا كان محسنا أحسن إلى من أساء إليه واستوجب بذلك أجره.

ولا يعتر بالقول حتى يحسن منه الفعل، فإذا أحسن الفعل نظر إلى فضل الله وإحسانه إليه، ولا يتمنى الفعل حتى يفعله، فإذا بلغ من طاعة الله مبلغا حمد الله على ما بلغ منها ثم طلب ما لم يبلغ منها، وإذا ذكر خطيئة سترها عن الناس واستغفر الله الذي هو قادر على أن يغفرها، وإذا علم من الحكمة شيئا لم يشبعه بل يطلب ما لم يبلغ منها.

ثم لا يستعين بشيء من الكذب، فإن الكذب كالأكلة في الجسد تكاد تأكله، أو كالأكلة في الخشب يرى ظهرها حسنا وجوفها نخر تغر من يراها حتى تنكسر على ما فيها وتهلك من اغتر بها.

وكذلك الكذب في الحديث لا يزال صاحبه يغتر به، يظن أنه معينه على حاجته ورائد له في رغبته، حتى يعرف ذلك منه، ويتبين لذوي العقول غروره، فتستنبط الفقهاء ما كان يستخفي به عنه.

فإذا اطلعوا على ذلك من أمره وتبين لهم، كذبوا خبره، وأباروا شهادته واتهموا صدقه، وحقروا شأنه، وأبغضوا مجلسه، واستخفوا منه بسرائرهم، وكتموه حديثهم، وصرفوا عنه أماناتهم، وغيبوا عنه أمرهم، وحذروه على دينهم ومعيشتهم، ولم يحضروه شيئا من محاضرتهم، ولم يأمنوه على شيء من سرّهم، ولم يحكموه فيما شجر بينهم.

وروى عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وهب، قال: قال لقمان لابنه: إن مثل أهل الذكر والغفلة كمثل النور والظلمة.

وقال: قرأت في التوراة أربعة أسطر متواليات: من قرأ كتاب الله فظن أنه لا يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله، ومن شكا مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه عز وجل، ومن أسف على ما فاته من الدنيا سخط قضاء ربه عز وجل، ومن تضعضع لغني ذهب ثلث دينه.

وقال وهب: قرأت في التوراة: أيما دار بنيت بقوة الضعفاء جعلت عاقبتها إلى الخراب، وأيما مال جمع من غير حله أسرع الفقر إلى أهله.

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا معمر، عن محمد بن عمرو، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: وجدت في بعض الكتب: يقول الله تعالى: إذا أطاعني عبدي استجبت له من قبل أن يدعوني، وأعطيته من قبل أن يسألني، وإن عبدي إذا أطاعني لو أن أهل السموات وأهل الأرض اجلبوا عليه جعلت له المخرج من ذلك، وإن عبدي إذا عصاني قطعت يديه من أبواب السماء، وجعلته في الهواء فلا يمتنع من شيء أراده من خلقي.

وقال ابن المبارك أيضا: حدثنا بكار بن عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: قال الله تعالى: فيما يعيب به أحبار بني إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتتعلمون لغير العمل، و تبتاعون الدنيا بعمل الآخرة، وتلبسون جلود الضأن، وتحملون نفس الذباب، وتتغذون الغذاء من شرابكم، وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال، ثم لا تعينوهم برفع الخناصر.

وتبتلعون الصلاة، وتبيضون الثياب، تنتقصون بذلك مال اليتيم والأرملة، فبعزتي حلفت لأضربنكم بفتنة يضل فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم.

وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد الصنعاني، حدثنا همام بن مسلمة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن الله ليس يحمد أحدا على طاعة، ولا ينال أحد من الله خيرا إلا برحمته، وليس يرجو الله خير الناس ولا يخاف شرهم، ولا يعطف الله على الناس إلا برحمته إياهم.

إن مكروا به أباد مكرهم، وإن خادعوه رد عليهم خداعهم، وإن كاذابوه كذب بهم، وإن أدبروا قطع دابرهم، وإن أقبلوا قبل منهم، ولا يقبل منهم شيئا من حيلة، ولا مكر ولا خداع ولا سخط ولا مشادة.

وإنما يأتي بالخير من الله تعالى رحمته، ومن لم يبتغ الخير من قبل رحمته لا يجد بابا غير ذلك يدخل منه، فإن الله تعالى لا ينال الخير منه إلا بطاعته، ولا يعطف الله على الناس شيء إلا تعبدهم له، وتضرعهم إليه حتى يرحمهم، فإذا رحمهم استخرجت رحمته منه حاجتهم، وليس ينال الخير من الله من وجه غير ذلك، وليس إلى رحمة الله سبيل تؤتى من قبله إلا تعبد العباد له وتضرعهم إليه، فإن رحمة الله عز وجل باب كل خير يبتغى من قبله.

وإن مفتاح ذلك الباب التضرع إلى الله عز وجل والتعبد له، فمن ترك المفتاح لم يفتح له، ومن جاء بالمفتاح فتح له به، وكيف يفتح الباب بغير مفتاح، ولله خزائن الخير كله، وباب خزائن الله رحمته، ومفتاح رحمة الله التذلل والتضرع والافتقار إلى الله، فمن حفظ ذلك المفتاح فتحت له الخزائن ودخل، فله فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما تشاؤون وما تدعون في مقام أمين لا يحولون عنه ولا يخافون ولا ينصبون ولا يهرمون ولا يفتقرون ولا يموتون، في نعيم مقيم، وأجر عظيم، وثواب كريم، نزل من غفور رحيم.

وقال سفيان بن عيينة: قال وهب: أعون الأخلاق على الدين الزهادة في الدنيا، وأسرعها ردا اتباع الهوى وحب المال والشرف، ومن حب المال والشرف تنتهك المحارم، ومن انتهاك المحارم يغضب الرب، وغضب الله ليس له دواء.

وقال: يقول الله تعالى في بعض كتبه يعتب به بني إسرائيل: إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، وإن اللعنة مني تبلغ السابع من الولد.

وقال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله عز وجل مائتي سنة، ثم مات فأخذوا برجله فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى: أن صلِّ عليه، فقال: يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه قد عصاك مائتي سنة، قال الله له: نعم هكذا كان، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ورأى اسم محمد قبَّله ووضعه على عينيه وصلى عليه فشكرت ذلك له فغفرت له ذنوبه وزوجته سبعين حوراء.

كذا روي وفيه علل، ولا يصح مثله وفي إسناده غرابة وفي متنه نكارة شديدة.

وروى ابن إدريس، عن أبيه، عن وهب، قال: قال موسى: يا رب احبس عني كلام الناس، فقال الله له: يا موسى ما فعلت هذا بنفسي.

وقال: لما دعي يوسف إلى الملك وقف بالباب وقال: حسبي ديني من دنياي، حسبي ربي من خلقه، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، ثم دخل على الملك فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره وخرَّ له ساجدا ثم أقعده الملك معه على السرير، وقال: { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف: 54] .

فقال: { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55] ، حفيظ: بهذه السنين وما استودعتني فيها، عليم: بلغة من يأتيني.

وقال الإمام أحمد: حدثنا منذر بن النعمان الأفطس، أنه سمع وهبا، يقول: لما أمر الله الحوت أن لا يضره ولا يكلمه - يعني: يونس - قال: { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143-144] .

قال: من العابدين قبل ذلك، فذكره الله بعبادته المتقدمة، فلما خرج من البحر نام فأنبت الله شجرة من يقطين - وهو: الدباء - فلما رآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته، ثم نام فاستيقظ فإذا هي قد يبست، فجعل يتحزن عليها، فقيل له: أنت لم تخلق ولم تسق ولم تنبت وتحزن عليها، وأنا الذي خلقت مائة ألف من النار أو يزيدون ثم رحمتهم فشق ذلك عليك.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد الغساني، حدثنا رباح، حدثني عبد الملك بن عبد المجيد بن خشك، عن وهب، قال: لما أمر نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين، قال: يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب؟ وكيف أصنع بالحمام والهر؟

قال: من ألقى بينهم العداوة؟ قال: أنت يا رب، قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضررون.

وقال وهب لعطاء الخراساني: ويحك يا عطاء، ألم أخبر أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا، وأبواب الأمراء؟

ويحك يا عطاء، أتأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتترك باب من يقول: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }؟ [غافر: 60] .

ويحك يا عطاء، إن كان يغنيك ما يكفيك فأوهى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يكفيك.

ويحك يا عطاء، إنما بطنك بحر من البحور، وواد من الأدوية، لا يملؤه شيء إلا التراب.

وسئل وهب عن رجلين يصليان، أحدهما أطول قنوتا وصمتا، والآخر أطول سجودا فأيهما أفضل؟ فقال: أنصحهما لله عز وجل.

وقال: من خصال المنافق أن يحب الحمد ويكره الذم، أي: يحب أن يحمد على ما لم يفعل، ويكره أن يذم بما فيه.

قال: وقال لقمان لابنه: يا بني، اعقل عن الله فإن أعقل الناس من عقل عن الله، وإن الشيطان ليفر من العاقل ما يستطيع أن يكايده.

وقال لرجل من جلسائه: ألا أعلمك طبا لا يتعايا فيه الأطباء، وفقها لا يتعايا فيه الفقهاء، وحلما لا يتعايا فيه الحلماء، قال: بلى يا أبا عبد الله.

قال: أما الطب: فلا تأكل طعاما إلا سميت الله على أوله وحمدته على آخره، وأما الفقه: فإن سئلت عن شيء عندك فيه علم فأخبر بما تعلم و إلا فقل: لا أدري، وأما الحلم: فأكثر الصمت إلا أن تسأل عن شيء.

وقال: إذا كان في الصبي خلقان: الحياء والرهبة، طمع في رشده.

وقال: لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملك هناك: صف لي الناس، فقال: محادثتك من لا يعقل كمن يغني الموتى، ومحادثتك من لا يعقل كمن يبل الصخر الأصم كي يلين، وكمن يطبخ الحديد يلتمس أدمه، ومحادثتك من لا يعقل كمن يضع المائدة لأهل القبور، ونقل الحجارة من رؤس الجبال أيسر من محادثتك من لا يعقل.

وقال: قرأت في بعض الكتب أن مناديا ينادي من السماء الرابعة كل صباح: أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده، أبناء الخمسين ما ذا قدمتم؟ أبناء الستين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم.

وقال: قال دانيال: يا لهفي على زمن يلتمس فيه الصالحون فلا يوجد منهم أحد، إلا كالسنبلة في أثر الحاصد، أو كالخصلة في أثر القاطف، يوشك نوائح أولئك وبواكيهم أن تبكيهم.

وروى عبد الرزاق، عن عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهبا، يقول: في قوله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأنبياء: 47]

قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبد خيرا ختم له بخير عمله، وإذا أراد الله بعبد شرا ختم له بشر عمله.

وقال وهب: إن الله تعالى لما فرغ من الخلق نظر إليهم حين مشوا على وجه الأرض فقال: أنا الله لا إله إلا أنا الذي خلقتكم وأفنيكم بحكمي حق قضائي ونافذ أمري، أنا أعيدكم كما خلقتكم، وأفنيكم حتى أبقى وحدي، فإن الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خلقي وأجمعهم بقضائي، يوم أحشر أعدائي، وتجل القلوب من هيبتي، وتتبرأ الآلهة ممن عبدها دوني.

قال: وذكر وهب أن الله لما فرغ من خلقه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله وذكر عصمته وجبروته وكبرياءه وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيته، فأنصت كل شي وأطرق له، فقال: أنا الملك لا إله إلا أنا ذو الرحمة الواسعة والأسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو العرش المجيد والأمثال العلا، أنا الله لا إله إلا أنا ذو الطول والمن والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والأرض.

ملأت كل شيء عظمتي، وقهر كل شيء ملكي، وأحاطت بكل شيء قدرتي، وأحصى كل شيء علمي، ووسعت كل شيء رحمتي، وبلغ كل شيء لطفي، فأنا الله يا معشر الخلائق فاعرفوا مكاني، فليس شيء في السموات والأرضين إلا أنا وخلقي كلهم لا يقوم ولا يدوم إلا بي، ويتقلب في قبضتي، ويعيش برزقي، وحياته وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له محيص ولا ملجأ غيري.

لو تخليت عنه طرفة عين لدمر كله، وكنت أنا على حالي لا ينقصني ذلك شيئا، ولا ينقص ذلك ملكي شيئا، وأنا مستغن العز كله في جبروتي وملكي، وبرهان نوري وشديد بطشي، وعلو مكاني وعظمة شأني، فلا شيء مثلي ولا إله غيري، وليس ينبغي لشيء خلقته أن يعدل بي ولا ينكرني.

وكيف ينكرني من خلقته يوم خلقته على معرفتي؟ أم كيف يكابرني من قهر قهره ملكي؟ أم كيف يعجزني من ناصيته بيدي؟ أم كيف يعدل بي من أعمره وأسقم جسمه وأنقص عقله وأتوفى نفسه وأخلقه وأهرمه فلا يمتنع مني؟ أم كيف يستنكف عن عبادتي عبدي وابن عبدي وابن أمتي، ومن لا ينسب إلى خالق ولا وارث غيري؟ أم كيف يعبد دوني من تخلقه الأيام، ويفني أجله اختلاف الليل والنهار؟ وهما شعبة يسيرة من سلطاني؟

فإلي إلي يا أهل الموت والفناء، لا إلى غيري، فإني كتبت الرحمة على نفسي وقضيت العفو والمغفرة لمن استغفرني، أغفر الذنوب جميعا، صغيرها وكبيرها لمن استغفرني، ولا يكبر ذلك علي ولا يتعاظمني، فلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا تقنطوا من رحمتي، فإن رحمتي سبقت غضبي، وخزائن الخير كلها بيدي، ولم أخلق شيئا مما خلقت لحاجة كانت مني إليه، ولكن لأبين به قدرتي، ولينظر الناظرون في ملكي، ويتدبروا حكمتي، وليسبحوا بحمدي، ويعبدوني لا يشركوا بي شيئا ولتعنوا الوجوه كلها إلي.

وقال أشرس: عن وهب، قال: قال داود: إلهي أين أجدك؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي.

وقال: كان رجل من بني إسرائيل صام سبعين أسبوعا يفطر في كلٍّ يوما وهو يسأل الله أن يريه كيف يغوي الشيطان الناس، فلما أن طال ذلك عليه ولم يجب، قال في نفسه: لو أقبلت على خطيئتي وعلى ذنوبي وما بيني وبين ربي لكان خيرا من هذا الأمر الذي أطلب، ثم أقبل على نفسه فقال: يا نفس من قبلك أتيت، لو علم الله فيك خيرا لقضى حاجتك.

فأرسل الله ملكا إلى نبيهم: أن قل لفلان العابد: إزراؤك على نفسك وكلامك الذي تكلمت به، أعجب إليَّ مما مضى من عبادتك، وقد أجاب الله سؤالك، وفتح بصرك فانظر الآن، فنظر فإذا أحبولة لإبليس قد أحاطت بالأرض، وإذا ليس أحد من بني آدم إلا وحوله شياطين مثل الذباب، فقال: إي رب ! ومن ينجو من هؤلاء؟ قال: صاحب القلب الوادع اللين.

وقال وهب: كان رجل من السائحين فأتى على أرض فيها قثاء فدعته نفسه إلى أخذ شيء منه، فعاقبها فقام مكانه يصلي ثلاثة أيام، فمر به رجل وقد لوحته الشمس والريح، فلما نظر إليه قال: سبحان الله !! لكأنما أحرق هذا الإنسان بالنار، فقال السائح: هكذا بلغ مني ما ترى خوف النار، فكيف بي لو قد دخلتها؟!.

وقال: كان رجل من الأولين أصاب ذنبا فقال: لله علي أن لا يظلني سقف بيت أبدا حتى تأتيني براءة من النار، فكان بالصحراء في الحر والقر، فمر به رجل فرأى شدة حاله فقال: يا عبد الله ما بلغ بك ما أرى؟ فقال: بلغ ما ترى ذكر جهنم، فكيف بي إذا أنا وقعت فيها !؟.

وقال: لا يكون البطال من الحكماء أبدا، ولا يرث الزناة من ملكوت السماء.

وقال وهب في موعظته: اليوم يعظ السعيد، ويستكثر من منافعه اللبيب.

يا ابن آدم ! إنما جمعت من منافع هذا اليوم لدفع ضرر الجهالة عنك، وإنما أوقدت فيه مصابيح الهدى لتنبه لحزبك، فلم أر كاليوم ضل مع نوره متحير داع لمداوة سليم

يا ابن آدم ! إنه لا أقوى من خالق، ولا أضعف من مخلوق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أضعف ممن هو في يد طالبه.

يا أبن آدم ! إنه قد ذهب منك ما لا يرجع إليك، وأقام عندك ما سيذهب، فما الجزع مما لابد منه؟ وما الطمع فيما لا يرتجي؟ وما الحيلة في بقاء ما سيذهب؟

يا ابن آدم ! أقصر عن طلب ما لا تدرك، وعن تناول ما لا تناله، وعن ابتغاء ما لا يوجد.

وأقطع الرجاء عنك كما قعدت به عنك الأشياء، واعلم أنه رب مطلوب هو شر لطالبه.

يا ابن آدم ! إنما الصبر عند المصيبة، وأعظم من المصيبة سوء الخلق منها.

يا ابن آدم ! أي أيام الدهر ترتجى؟ يوم يجيء في عتم أو يوم تستأخر عاقبته عن أوان مجيئه؟ فانظر إلى الدهر تجده ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم لا بد منه، ويوم يجيء لا تأمنه.

فأمس: شاهد عليك مقبول، وأمين مؤدٍ، وحكيم مؤدب، قد فجعك بنفسه، وخلف فيك حكمته.

واليوم: صديق مودع، كان طويل الغيبة عنك، وهو سريع الظعن إياك ولم يأته، وقد مضى قبله شاهد عدل، فإن كان ما فيه لك فاشفعه بمثله أوثق لك باجتماع شهادتهما عليك.

يا ابن آدم ! إنما أهل الدنيا سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها، وإنما يتبلغون بالعواري فما أحسنه - يعني: الشكر - للمنعم والتسليم للمعاد.

يا ابن آدم ! إنما الشيء من مثله وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله؟! إنما يقر الفرع بعد الأصل.

يا ابن آدم ! إنه لا أعظم رزية في عقله ممن ضيع اليقين وأخطأ العمل.

أيها الناس ! إنما البقاء بعد الفناء، وقد خلقنا ولم نكن، وسنبلى ثم نعود، ألا وإنما العواري اليوم والهنات غدا، ألا وإنه قد تقارب منا سلب فاحش، أو عطاء جزيل، فأصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه.

أيها الناس !! إنما أنتم في هذه الدنيا غرض تنتضل فيها المنايا، وإن ما أنتم فيه من دنياكم نهب للمصائب، لا تنالون فيها نعمة إلا بفراق الأخرى، ولا يستقبل منكم معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، ولا يتخذ له زيادة في ماله إلا بنفاد ما قبله من رزقه، ولا يحيى له أثر إلا مات له أثر.

نسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما مضى من هذه العظة.

وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن مروان، عن وهب بن منبه، عن الطريق ولم تستقم لسائقها، وإن فتر سائقها حزنت، ولم تتبع قائدها: فإذا اجتمعا استقامت طوعا أو كرها، ولا تستطيع الدين إلا بالطوع والكره، وإن كان كلما كره الإنسان شيئا من دينه تركه أوشك أن لا يبقى معه من دينه شيء.

وقال وهب: إن من حكمة الله عز وجل: أنه خلق الخلق مختلفا خلقه ومقاديره، فمنه خلق يدوم ما دامت الدنيا، لا تنقصه الأيام ولا تهرمه وتبليه ويموت، ومنه خلق لا يطعم ولا يرزق، ومنه خلق يطعم ويرزق، خلقه الله وخلق معه رزقه.

ثم خلق الله من ذلك خلقا في البر وخلقا في البحر، ثم جعل رزق ما خلق في البحر وفي البر، ولا ينفع رزق دواب البر دواب البحر، ولا رزق دواب البحر دواب البر، لو خرج ما في البحر إلى البر هلك، ولو دخل ما في البر إلى البحر هلك، ففي ذلك ممن خلق الله في البر والبحر عبرة لمن أهمته قسمة الأرزاق والمعيشة فليعتبر ابن دم فيما قسم الله من الأرزاق، فإنه لا يكون فيها شيء إلا كما قسمه سبحانه بين خلقه، لا يستطيع أحد أن يغيرها ولا أن يخلطها.

كما لا تستطيع دواب البر أن تعيش بأرزاق دواب البحر، ولا دواب البحر بأرزاق دواب البر، ولو اضطرت إليه هلكت كلها، فإذا استقرت كل دابة منها فيما رزقت أصلحها ذلك وأحياها، وكذلك ابن آدم إذا استقر وقنع بما قسم الله له من رزقه أحياه ذلك وأصلحه، فإذا تعاطى رزق غيره نقصه ذلك وضره وفضحه.

وقال لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلكم قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى أهل الدنيا ولا إلى ما في أيديهم، فكان أهل الدنيا يبذلون إليهم دنياهم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم فينا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في الدنيا، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم، فإياك يا عطاء وأبواب السلطان فإن عند أبوابهم فتنا كمبارك الإبل، لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله.

وقال إبراهيم الجنيد: حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الصنعاني، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم، فقال: كيف صلاتك؟

فقال: ما أحسب أحدا سمع بذكر الجنة والنار يأتي عليه ساعة لا يصلي فيها.

قال: فكيف ذكرك للموت؟

قال: ما أرفع قدما ولا أضع أخرى إلا رأيت أني ميت.

فقال: فكيف صلاتك أنت أيها الرجل؟

فقال: إني لأصلي و أبكي حتى ينبت العشب من دموعي.

فقال العالم: أما إنك إن تضحك وأنت معترف بخطيئتك خير لك من أن تبكي وأنت مدل بعلمك، فإن المدل لا يرفع له عمل.

فقال: أوصني فإني أراك حكيما.

فقال: ازهد في الدنيا ولا تنازع أهلها فيها، وكن فيها كالنخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عدو لم تكسره، وانصح لله نصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه ويضربونه وهو يأبى إلا أن يحوطهم ويحفظهم، وينصح لهم.

فكان وهب إذا ذكر هذا الحديث قال: واسوأتاه إذا كان الكلب أنصح لأهله منك يا ابن آدم لله عز وجل.

وفي رواية أنه قال: إني لأصلي حتى ترم قدماي.

فقال له: إنك إن تبتْ تائبا، وتصبح نادما، خير لك من أن تبيت قائما وتصبح معجبا، إلى آخره.

وروى سفيان، عن رجل من أهل صنعاء، عن وهب، فذكر الحديث كما تقدم.

وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا الصلت بن عاصم المرادي، عن أبيه، عن وهب، قال: لما أهبط آدم من الجنة استوحش لفقد أصوات الملائكة، فهبط عليه جبريل فقال: يا آدم ! ألا أعلمك شيئا تنفع به في الدنيا والآخرة؟ قال: بلى !

قال: قل اللهم تمم لي النعمة حتى تهنيني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم اكفني مؤنة الدنيا، وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة في عافية.

وقال عبد الرزاق: حدثني بكار بن عبد الله، عن وهب، قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت الله تعالى يقول: يا ابن آدم ! ما أنصفتني، تذكر بي وتنساني، وتدعو إلى وتفر مني، خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، ولا يزال ملك كريم قد نزل إليك من أجلك.

يا ابن آدم ! إن أحب ما تكون إلي وأقرب ما تكون مني إذا رضيت بما قسمت لك، وأبغض ما تكون إلي، وأبعد ما تكون مني إذا سخطت بما قسمت لك.

يا ابن آدم ! أطعني فيما أمرتك، ولا تعلمني بما يصلحك، إني عالم بخلقي، وأنا أعلم بحاجتك التي ترفعك من نفسك، إني إنما أكرم من أكرمني، وأهين من هان عليه أمري، لست بناظر في حق عبدي حتى ينظر العبد في حقي.

وقال وهب: قرأت نيفا وتسعين كتابا من كتب الله تعالى فوجدت في جميعها: إن من وكل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر.

وقال: لا يسكن ابن آدم، إن الله هو قسم الأرزاق متفاضلة ومختلفة، فإن تقلل ابن آدم شيئا من رزقه فليزدد إلى الله رغبة، ولا يقولن لو اطلع الله على هذا من حالي، أو شعر به غيره؟ فكيف لا يطلع على شيء الذي خلقه وقدره؟ أو يعتبر ابن آدم في غير ذلك مما يتفاضل فيه الناس، كأن الله فاضل بينهم في الأجسام والأموال والألوان والعقول والأحلام، فلا يكبر على ابن آدم أن يفضل عليه في الرزق والمعيشة، ولا يكبر عليه أن يفضل عليه في الحلم والعلم والعقل والدين.

أولا يعلم ابن آدم أن الذي رزقه في ثلاثة أزمان من عمره لم يكن له في واحد منها كسب ولا حيلة، أنه سوف يرزقه في الزمن الرابع.

أول زمان من أزمانه حين كان في بطن أمه، يخلق فيه ويرزق من غير مال كسبه، وهو في قرار مكين، لا يؤذيه فيه حر ولا برد، ولا شيء ولا هم ولا حزن، وليس له هناك يد تبطش، ولا رجل تسعى، ولا لسان ينطق، فساق الله عز وجل إليه رزقه هناك على أتم الوجوه وأهناها وأمراها.

ثم إن الله عز وجل أراد أن يحوله من تلك المنزلة إلى غيرها، ويحدث له في الزمن الثاني رزقا من أمه يكفيه ويغنيه من غير حول منه ولا قوة، ولا بطش ولا سمعة، بل تفضلا من الله وجودا، ورزقا أجراه وساقه إليه.

ثم أراد الله سبحانه أن ينقله من الزمن الثاني إلى الزمن الثالث من ذلك اللبن إلى رزق يحدثه له من كسب أبويه، بأن يجعل له الرحمة في قلوبهما حتى يؤثراه على نفسهما بكسبهما، ويغنياه ويغذياه بأطيب ما يقدران عليه من الأغذية، وهو لا يعينهما على شيء من ذلك بكسب ولا حيلة، حتى إذا عقل حدث نفسه بأنه إنما يرزق بحيلته ومكسبه وسعيه.

ثم يدخل عليه في الزمن الرابع إساءة الظن بربه عز وجل، فيضيع أوامر الله في طلب المعاش وزيادة المال وكثرته، وينظر إلى أبناء الجنس وما عليه من التنافس في طلب الدنيا، فيكسب بذلك ضعف اليقين والإيمان، ويمتلئ قلبه فقرا وخوفا منه مع المتاع، ويبتلى بموت القلب وعدم العقل.

ولو نظر ابن آدم نظر معرفة وعقل لعلم أنه لن يغنيه في الزمن الرابع إلا من أغناه ورزقه في الأزمان الثلاثة قبل، فلا مقال له ولا معذرة مما سلط عليه في الزمان الرابع إلا برحمة الله.

فإن ابن آدم كثير الشك يقصر به حكمه وعلمه عن علم الله والتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم، وتفهم حتى يعلم، علم أن علامة الله التي بها يعرف، خلقه ثم رزقه لما خلق، وقدره لما قدر.

وقال عطاء الخراساني: لقيت وهبا في الطريق فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز.

فقال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: يا داود أما وعزتي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجا ومخرجا، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الأرض من تحته ولا أبالي في أي واد هلك.

وقال أبو بلال الأشعري: عن أبي هشام الصنعاني، قال عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: وجدت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: كفاني للعبد مآلا، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له من قبل أن يدعوني، فإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه.

وقال: قرأت في بعض الكتب أن الشيطان لم يكابد شيئا أشد عليه من مؤمن عاقل لأنه إذا كان مؤمنا عاقلا ذا بصيرة فهو أثقل على الشيطان من الجبال الصم، إنه ليزالل المؤمن العاقل فلا يستطيعه، فيتحول عنه إلى الجاهل فيستأمره ويتمكن من قياده.

وقال: قام موسى عليه السلام فلما رأته بنو إسرائيل قاموا، فقال: على مكانكم، ثم ذهب إلى الطور فإذا هو بنهر أبيض فيه مثل رؤس الكثبان كافور محفوف بالرياحين، فلما رآه أعجبه فدخل عليه فاغتسل وغسل ثوبه، ثم خرج وجفف ثوبه، ثم رجع إلى الماء فاستنضح فيه إلى أن جف ثوبه، فلبسه ثم أخذ نحو الكثيب الآخر الذي فوق الطور، فإذا هو برجلين يحفران قبرا، فقام عليهما فقال: ألا أعينكما؟

قالا: بلى !

فنزل فحفر فقال لهما: لتحدثاني مثل من الرجل؟

فقالا: على طولك وهيئتك، فاضطجع فيه لينظروا فالتأمت عليه الأرض، فلم ينظر إلى قبر موسى عليه السلام إلا الرخم، فأصمها الله وأبكمها.

وقال: يقول الله عز وجل: لولا أني كتبت النتن على الميت لحبسه الناس في بيوتهم، ولولا أني كتبت الفساد على اللحم لحرمه الأغنياء على الفقراء.

وقال: مر عابد براهب فقال له: منذ كم أنت في هذه الصومعة؟

قال: منذ ستين سنة !

قال: وكيف صبرت فيها ستين سنة؟

قال: مرَّ فإن الزمان يمر، وإن الدنيا تمر.

ثم قال له: يا راهب كيف ذكرك للموت؟

قال: ما أحسب عبدا يعرف الله تأتي عليه ساعة إلا يذكر الموت فيها، وما أرفع قدما إلا وأنا أظن أن لا أضعها حتى أموت، وما أضع قدما إلا وأنا أظن أن لا أرفعها حتى أموت، فجعل العابد يبكي !

فقال له الراهب: هذا بكاؤك إذا خلوت؟ - أو قال: كيف أنت إذا خلوت؟ -

فقال العابد: إني لأبكي عند إفطاري فأشرب شرابي بدموعي، ويصرعني النوم فأبل متاعي بدموعي.

فقال له الراهب: إنك إن تضحك وأنت معترف بذنبك خير لك من أن تبكي وأنت مدل على الله بعلمك.

فقال: أوصني بوصية.

قال: كن في الدنيا بمنزلة النخلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن سقطت على شيء لم تضره، ولا تكن في الدنيا بمنزلة الحمار إنما همته أن يشبع ثم يرمي بنفسه في التراب، وانصح لله نصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه، وهو يأبى إلا أن يحرسهم ويحفظهم.

قال أبو عبد الرحمن: أشرس.

وكان طاوس إذا ذكر هذا الحديث بكى وقال: عز علينا أن تكون الكلاب أنصح لأهلها منا لمولانا عز وجل.

وقد تقدم نحو هذا المتن.

وقال وهب: تخلى راهب في صومعته في زمن المسيح، فأراد إبليس أن يكيده فلم يقدر عليه، فأتاه بكل مراد فلم يقدر عليه، فأتاه متشبها بالمسيح فناداه: أيها الراهب ! أشرف عليَّ أكلمك فأنا المسيح.

فقال: إن كنت المسيح فمالي إليك من حاجة، أليس قد أمرتنا بالعبادة؟ ووعدتنا القيامة؟ انطلق لشأنك فلا حاجة لي فيك.

قال: فذهب عنه الشيطان خاسئا وهو حسير، فلم يعد إليه.

ومن طريق أخرى عنه، قال: أتى إبليس راهبا في صومعته فاستفتح عليه، فقال له: من أنت؟

قال: أنا المسيح.

فقال الراهب: والله لئن كنت إبليس لأخلون بك، ولئن كنت المسيح فما عسى أن أصنع بك اليوم شيئا، لقد بلغتنا رسالة ربك عز وجل فقبلناها عنك، وشرعت لنا الدين فنحن عليه، فاذهب فلست بفاتح لك.

فقال: صدقت، أنا إبليس ولا أريد إضلالك بعد اليوم أبدا فسلني عما بدا لك أخبرك به.

قال: وأنت صادق؟

قال: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك فيه.

قال: فأخبرني أي أخلاق بني آدم أوثق في أنفسكم أن تضلوهم به؟

قال ثلاثة أشياء: الجدة، والشح، والشكر.

وقال وهب: قال موسى: يا رب أي عبادك؟

قال: من لا تنفعه موعظة، ولا يذكرني إذا خلا.

قال: إلهي فما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه؟

قال: يا موسى أظله يوم القيامة بظل عرشي، وأجعله في كنفي.

وقال وهب: لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: رحمك الله ما هذا البناء الذي لا إسراف فيه؟

قال: ما سترك من الشمس، وأكنك من الغيث.

قال: فما هذا الطعام الذي لا إسراف فيه؟

قال: فوق الجوع و دون الشبع من غير تكلف.

قال: فما هذا اللباس الذي لا إسراف فيه؟

قال: هو ما ستر العورة ومنع الحر والبرد من غير تنوع ولا تلون.

قال: فما هذا الضحك الذي لا إسراف فيه؟

قال: هو ما أسفر وجهك ولا يسمع صوتك.

قال: فما هذا البكاء الذي لا إسراف فيه؟

قال: لا تمل من البكاء من خشية الله عز وجل، ولا تبك على شيء من الدنيا.

قال: كم أخفي من عملي؟

قال: ما أظن بك أنك لم تعمل حسنة.

قال: ما أعلن من عملي؟

قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يأتم بك الحريص، واحذر النظر إلى الناس.

وقال: لكل شيء طرفان ووسط، فإذا أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدلا، فعليكم بالوسط من الأشياء.

وقال: أربعة أحرف في التوراة: من لم يشاور يندم، ومن استغنى استأثر، والفقر الموت الأحمر، وكما تدين تدان، ومن تجر فجر.

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله، أنه سمع وهب بن منبه، يقول: كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يزار فيعظهم.

فاجتمعوا إليه ذات يوم فقال: إنا قد خرجنا عن الدنيا، وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان، وقد خفنا أن يكون قد دخل علينا في حالنا هذه من الطغيان أعظم وأكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، وعلى الملوك في ملكهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له الحاجة، وإذا اشترى شيئا أن يحابى لمكان دينه، وأن يعظم إذا لقي الناس لمكان دينه، وجعل يعدد آفات العلماء والعباد الذين يدخل عليهم في دينهم من حب الشرف والتعظم.

قال: فشاع ذلك الكلام عنه حتى بلغ ملك تلك البلاد، فعجب منه الملك وقال لرؤوس دولته: ينبغي لهذا أن يزار.

ثم اتعدوا لزيارته يوما، فركب إليه الملك ليسلم عليه، فأشرف العابد - وكان عالما جيد العلم بآفات العلوم والأعمال ودسائس النفوس - فرأى الأرض التي تحت مكانه قد سدت بالخيل والفرسان.

فقال: ما هذا؟

فقيل له: هذا الملك قاصد إليك يسلم عليك لما بلغه من حسن كلامك.

فقال: إنا لله، وما أصنع به؟ هلكنا والله إن لم نلقن الحجة من عند الله مع هذا الرجل، وينصرف عنا وهو ماقت لنا، ثم سأل خادمه: هل عندك طعام؟

قال: نعم.

قال: فأت به فضعه بين أيدينا.

قال: هو شيء من ثمر الشجر، وهو شيء من بقل وزيتون.

قال: فأت به.

فأتى به، ثم أمر بجماعته فاجتمعوا حول ذلك الطعام، فقال: إذا دخل عليكم هذا الرجل فلا يلتفت أحد منكم إليه، ولا يقم له أحد، وأقبلوا على الأكل العنيف، ولا يرفع أحد منكم رأسه، لعل الله أن يصرفه عنا وهو كاره لنا فإني أخاف الفتنة والشهرة وامتلاء القلب منهما، فلا نخلص إلا بنار جهنم.

قال: فبكى القوم وبكى ذلك الرجل العالم، فلما اقترب الملك من جبلهم الذي هم فيه، ترجل الملك ومن معه من أعيان دولته وصعد في الجبل، فلما وصل إلى قرب مكانهم أخذوا في الأكل العنيف، فدخل عليهم الملك وهم يأكلون فلم يرفعوا رؤوسهم إليه، وجعل ذلك العالم الفاضل يلف البقل مع الزيتون مع الكسرة الكبيرة من الخبز ويدخلها في فمه، فسلم عليهم الملك، وقال: أيكم العابد؟

فأشاروا إليه، فقال له الملك: كيف أنت أيها الرجل؟

فقال له: كالناس - وهو يأكل ذلك الأكل العنيف -.

فقال الملك: ليس عند هذا خير.

ثم أدبر الملك خارجا عنه، وقال: ما عند هذا من علم.

فلما نزل الملك من الجبل نظر إليه العابد من كوة، وقال: أيها الملك ! الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي كاره - أو قال: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به -.

وفي رواية: ذكر ابن المبارك أنه قال: الحمد لله الذي صرفه عني وهو لي لائم.

وفي رواية: أن هذا العابد كان ملكا، وكان قد زهد في الدنيا وتركها، لأنه كان قد دخل عليه رجل من بقايا أهل الجنة والعمل الصالح فوعظه، فاتعد معه أن يصحبه، وأنه يخرج عن الملك طلبا لما عنده في الدار الآخرة، وأنه وافقه جماعة من بنيه وأهله ورؤوس دولته، فخرجوا برمتهم، لا يدري أحد أين ذهبوا، وكان هذا الملك من أهل العدل والخير والخوف من الله عز وجل، وكان متسع الملك والمملكة، كثير الأموال والرجال، فساروا حتى أتوا جبلا في أطراف مملكته، كثير الشجر والمياه، فأقاموا به حينا.

فقال الملك: إن نحن طال أمرنا ومقامنا في هذا الجبل سمع بنا الناس من أهل مملكتنا فلا يدعونا وإني أرى أن نذهب إلى غير مملكتنا، فننزل مكانا بعيدا عن الناس، لعل أن نسلم منهم ويسلموا منا، فساروا من ذلك الجبل طالبين بلادا لا يعرفون، فوجدوا بها جبلا نائيا عن الناس، كثير الأشجار والمياه، قليل الطوارق، وإذا في ذروته عين ماء جارية وأرض متسعة، تزرع لمن أراد الزرع بها، فنزلوا به وبنوا به أماكن للعبادة والسكنى، وزرعوا لهم على ماء تلك العين بعض بقول يأتدمون بها، وأشجار زيتون، وجعلوا يزرعون بأيديهم ويأكلون ثم شاع أمرهم في بعض تلك البلاد القريبة من جبلهم، فجعلوا يأتونهم ويزورونهم، إلى أن شاع ذلك الكلام المتقدم عن ذلك العالم، فبلغ ملك تلك البلاد فقصدهم للزيارة، فذكر القصة كما تقدم، والله أعلم.

وقال وهب: أزهد الناس في الدنيا - وإن كان عليها حريصا - من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب، مع حفظ الأمانات، وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضا، من لم يبال من أين كسبه منها حلالا كان أو حراما، وإن أجود الناس في الدنيا من جاد بحقوق الله عز وجل، وإن رآه الناس بخيلا فيما سوى ذلك، وإن أبخل الناس في الدنيا من بخل بحقوق الله عز وجل وإن رآه الناس جوادا فيما سوى ذلك.

وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا علي بن المديني، حدثنا محمد بن عمرو بن مقسم، قال: سمعت عطاء بن مسلم، يقول: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام في ألف مقام، وكان إذا كلمه رؤي النور على وجه موسى ثلاثة أيام، ولم يمس موسى امرأة منذ كلمه ربه عز وجل.

وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: سمعت ابن منبه اليماني، يقول: إن للنبوة أثقالا ومؤنةً لا يحملها إلا القوي، وإن يونس بن متى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل، فرفضها من يده وخرج هاربا، فقال الله تعالى لنبيه : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف:35] ، وقال: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } الآية [القلم: 48] .

وقال يونس بن بكير: عن أبي إسحاق بن وهب بن منبه، عن أبيه، قال: أمر الله الريح أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء في الأرض إلا ألقته في أذن سليمان، فلذلك سمع كلام النملة.

وروى سفيان، عن عمرو بن دينار، عن وهب، قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا ساح أربعين سنة أري شيئا، كأن يرى علامة القبول.

قال: فساح رجل من ولد ربيعة أربعين سنة فلم ير شيئا.

فقال: يا رب إذا أحسنت وأساء والداي فما ذنبي؟

قال: فأري ما كان يرى غيره.

وفي رواية أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أكل أضرس أنا؟

وفي رواية عنه، أنه قال: يا رب إذا كان والداي قد أساء أحرم أنا إحسانك وبرك؟ فأظلته غمامة.

وروى عبد الله بن المبارك، عن رباح بن زيد، عن عبد العزيز بن مروان، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

وقال: إن أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك بالله السحر.

وروى عبد الرزاق، قال: أخبرني أبي، عن وهب، قال: إذا صام الإنسان زاغ بصره، فإذا أفطر على حلاوة عاد بصره.

وقال ابن المبارك: عن بكر بن عبد الله، قال: سمعت وهبا، يقول: مر رجل عابد على رجل عابد فرآه مفكرا، فقال له: مالك؟

فقال له: أعجب من فلان، إنه كان قد بلغ من عبادته ما بلغ، ثم مالت به الدنيا.

فقال: لا تعجب ممن مال كيف مال، ولكن اعجب ممن استقام كيف استقام.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا بكار بن عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن بني إسرائيل أصابتهم عقوبة وشدة، فقال النبي : «وددنا أن نعلم ما الذي يرضي ربنا فنتبعه»، فأوحى الله عز وجل إليه: إن قومك يقولون: «إذا أرضوهم رضيت، وإذا أسخطوهم أسخطت».

وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثني عمر بن عبد الرحمن قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن عيسى عليه السلام كان واقفا على قبر ومعه الحواريون - أو نفر من أصحابه - قال: وصاحب القبر يدلَّى فيه، قال: فذكروا من ظلمة القبر وضيقه.

فقال عيسى: قد كنتم فيما هو أضيق من ذلك، في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسع، أو كما قال.

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا بكار بن عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: كان رجل عابد من السياح أراده الشيطان من قبل الشهوة والرغبة والغضب، فلم يستطع منه شيئا من ذلك، فتمثل له حية وهو يصلي، فمضى ولم يلتفت إليه، فالتوى على قدميه فلم يلتفت إليه، فدخل ثيابه وأخرج رأسه من عند رأسه فلم يلتفت ولم يستأخر، فلما أراد أن يسجد التوى في موضع سجوده، فلما وضع رأسه ليسجد فتح فاه ليلتقم رأسه، فوضع رأسه فجعل يعركه حتى استمكن من السجود على الأرض.

ثم جاءه على صورة رجل فقال له: أنا صاحبك الذي أخوفك، أتيتك من قبل الشهوة والغضب والرغبة، وأنا الذي كنت أتمثل لك بالسباع والحيات فلم أستطع منك شيئا، وقد بدا لي أن أصادقك ولا آتيك في صلاتك بعد اليوم.

فقال له العابد: لا يوم خوفتني خفتك، ولا اليوم بي حاجة في مصادقتك.

قال: سلني عما شئت أخبرك.

قال: فما عسيت أن أسألك؟

قال: ألا تسألني عن مالك ما فعل به بعدك؟

قال: لو أردت ذلك ما فارقته.

قال: أفلا تسألني عن أهلك من مات منهم ومن بقي؟

قال: أنا مت قبلهم.

قال: أفلا تسألني عما أضل به الناس؟

قال: أنت أضلهم. فأخبرني عن أوثق ما في نفسك تضل به بني آدم؟

قال: ثلاثة أخلاق: الشح، والحدة، والسكر.

فإن الرجل إذا كان شحيحا قللنا ماله في عينه ورغبناه في أموال الناس.

وإذا كان حديدا تداولناه بيننا كما يتداول الصبيان الكرة، ولو كان يحيي الموتى بدعوته لم نيأس منه، وكل ما يبنيه نهدمه، لنا كلمة واحدة.

وإذا سكر قدناه إلى كل شر وفضيحة وخزي وهوان كما تقاد القط إذا أخذ بأذنها كيف شئنا.

وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، ومسخ بختنصر في السباع سبع سنين.

وسئل وهب عن الدنانير والدراهم فقال: هي خواتيم رب العالمين، فالأرض لمعايش بني آدم لا تؤكل ولا تشرب، فأينما ذهبت بخاتم رب العالمين قضيت حاجتك، وهي أزمة المنافقين بها يقادون إلى الشهوات.

وروى داود بن عمر الضبي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن سماك بن المفضل، عن وهب، قال: مثل الذي يدعو بغير عمل مثل الذي يرمي بغير وتر.

وقال ابن المبارك: أخبرني عمر بن عبد الرحمن بن مهرب، قال: سمعت وهبا، يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لأستحي من الله عز وجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة فقط، فأكون كالأجير السوء، إن أعطى عمل وإن لم يعط لم يعمل، وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار فقط، فأكون كالعبد السوء إن رهب عمل وإن ترك لم يعمل، وإني ليستخرج مني حب الله ما لا يستخرج مني غيره.

وقال السري بن يحيى: كتب وهب إلى مكحول: إنك قد أصبت بما ظهر من علم الإسلام عند الناس محبة وشرفا، فاطلب بما بطن من علم الإنسان عند الله محبة وزلفى، واعلم أن إحدى المحبتين تمنع الأخرى - أو قال: سوف تمنعك الأخرى -.

وقال زافر بن سليمان: عن أبي سنان الشيباني، قال: بلغنا أن وهب بن منبه، قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله تجارة تريد بها ربح الدنيا والآخرة، والإيمان سفينتك التي تحمل عليها، والتوكل على الله شراعها، والدنيا بحرك، والأيام موجك، والأعمال الصالحة تجارتك التي ترجو ربحها.

والنافلة هي هديتك التي ترجوا بها كرامتك، والحرص عليها يسيرها ويزجيها.

ورد النفس عن هواها مراسيها، والموت ساحلها، والله ملكها، وإليه مصيرها.

وأحب التجار إلى الله وأفضلهم وأقربهم منه أكثرهم بضاعة وأصفاهم نية، وأخلصهم هدية.

وأبغضهم إليه أقلهم بضاعة، وأردأهم هدية، وأخبثهم طوية، فكلما حسنت تجارتك ازداد ربحك، وكلما خلصت هديتك تكرم.

وفي رواية عنه، أنه قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله بضاعة تأتك الأرباح من كل مكان، واجعل سفينتك تقوى الله، وحشوها التوكل على الله، وشراعها الإيمان بالله، وبحرك العلم النافع والعمل الصالح، لعلك أن تنجو، وما أراك بناج.

وقال عبد الله بن المبارك: عن رباح بن زيد، عن رجل قال: إن للعلم طغيانا كطغيان المال.

وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الصنعاني، حدثنا أبو قدامة همام بن مسلمة، عن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن منبه، قال: سمعت عمي وهب بن منبه، يقول: الأجر من الله عز وجل معروض، ولكن لا يستوجبه من لا يعمل، ولا يجده من لا يبتغيه، ولا يبصره من لا ينظر إليه.

وطاعة الله قريبة ممن يرغب فيها، بعيدة ممن زهد فيها، ومن يحرص عليها يصل إليها، ومن لا يحبها لا يجدها، لا تسبق من سعى إليها، ولا يدركها من أبطأ عنها.

وطاعة الله تشرف من أكرمها، وتهين من أضاعها، وكتاب الله يدل عليها، والإيمان بالله يحض عليها.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا عمر بن عبد الرحمن، سمعت وهب بن منبه، يقول: قال داود عليه السلام: يا رب أي عبادك أحب إليك؟

قال: مؤمن حسن الصورة حسن العمل.

قال: يا رب أي عبادك أبغض إليك؟

قال: كافر حسن الصورة كفر أو شكر، هذان.

وفي رواية: ذكرها أحمد بن حنبل: أي عبادك أبغض إليك؟

قال: عبد استخارني في أمر فخرت له، فلم يرض له.

وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثني إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، حدثنا عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، قال: كان سائح يعبد الله تعالى فجاءه إبليس أو شيطان فتمثل بإنسان فجعل يريه أنه يعبد الله تعالى، وجعل يزيد عليه في العبادة، فأحبه ذلك السائح لما رأى من اجتهاده وعبادته، فقال له الشيطان: - والسائح في مصلاه -: لو دخلنا إلى المدينة فخالطنا الناس وصبرنا على أذاهم وأمرنا ونهينا، كان أعظم لأجرنا، فأجابه السائح إلى ذلك، فلما أخرج السائح إحدى رجليه من باب مكانه لينطلق معه هتف به هاتف فقال: إن هذا شيطان أراد أن يفتنك.

فقال السائح: رجل خرجت في معصية الله وطاعة الشيطان لا تدخل معي، فما حولها من موضعها ذلك حتى فارق الدنيا، فأنزل الله تعالى ذكره في بعض كتبه فقال: وذو الرجل.

وقال وهب: أتى رجل من أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، فأعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، فقال له صاحب شرطة الملك - سرا بينه وبينه -: أيها العالم اذبح جديا مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلي حتى أصنعه لك على حدته، فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع بن يديك، فتأكل منه حلالا ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير.

فذبح ذلك العالم جديا ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له، وأمر الطباخين إذا أمر الملك بأن يقدم إلى هذا العالم لحم الخنزير، أن يضعوا بين يديه لحم هذا الجدي، واجتمع الناس لينظروا أمر هذا العالم فيه أيأكل أم لا؟

وقالوا: إن أكل أكلنا، وإن امتنع امتنعنا.

فجاء الملك فدعا لهم بلحوم الخنازيز فوضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكى، فألهم الله ذلك العالم فألقى في روعه وفكره.

فقال: هب أني أكلت لحم الجدي الذي أعلم حله أنا، فماذا أصنع بمن لا يعلم؟ والناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي، وهم لا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير فيأكلون اقتداء بي، فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة، لا أفعل والله وإن قتلت وحرقت بالنار، وأبى أن يأكل.

فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه ويومي إليه ويأمره بأكله - أي: إنما هو لحم الجدي - فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله، فلما ذهبوا به ليقتلوه.

قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل من اللحم الذي ذكيته أنت ودفعته إلي؟ أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما ائتمنتني عليه؟ ما كنت لأفعل والله.

فقال له العالم: قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بي، وهم إنما ينتظرون أكلي منه، ولا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير، وكذلك كل من أراد على أكله فيما يأتي من الزمان، يقول: قد أكله فلان فأكون فتنة لهم. فقتل رحمه الله.

فينبغي للعالم أن يحذر المعايب، ويجتنب المحذورات، فإن زلته وناقصته منظورة يقتدي بها الجاهل.

وقال معاذ بن جبل: اتقوا زيغة الحكيم.

وقال غيره: اتقوا زلة العالم، فإنه إذا زل بزلته عالم كبير.

ولا ينبغي له أن يستهين بالزلة وإن صغرت، ولا يفعل الرخص التي اختلف فيها العلماء، فإن العالم هو عصاة كل أعمى من العوام، بها يصول على الحق ليدحضه، ويقول: رأيت فلانا العالم، وفلانا وفلانا يفعلون ويفعلون.

وليجتنب العوائد النفسية، فإنه قد يفعل أشياء على حكم العادة فيظنها الجاهل جائزة أو سنة أو واجبة.

كما قيل: سل العالم يصدقك، ولا تقتد بفعله الغريب، ولكن سله عنه يصدقك إن كان ذا دينٍ.

وكم أفسد النظر إلى غالب علماء زمانك هذا من خلق، فما الظن بمخالطتهم ومجالستهم ولكن { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدا } [الكهف: 17] .

وقال محمد بن عبد الملك بن زنجوية: حدثنا عبد الرزاق، عن أبيه، قال: قلت لوهب بن منبه: كنت ترى الرؤيا فتخبرنا بها، فلا نلبث أن نراها كما رأيتها، قال: ذهب ذلك عني منذ وليت القضاء.

قال عبد الرزاق: فحدثت به معمرا، فقال: والحسن بعد ما ولي القضاء لم يحمدوا فهمه، فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟ فكيف حال من قد غرق في قاذورات الدنيا من علماء زمانك هذا، ولاسيما من بعد فتنة تمرلنك؟ فإن القلوب قد امتلأت بحب الدنيا، فلا يجد العلم فيها موضعا، فجالس من شئت منهم لتنظر مبادئ مجالستهم وغاياتها، ولا تستخفك البدوات، فإنما الأمور بعواقبها وخواتيمها ونتائجها، وغاياتها.

{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2-3] .

وقال وهب: البلاء للمؤمن كالشكال للدابة.

وقال أبو بلال الأشعري: عن أبي شهاب الصنعاني، عن عبد الصمد، عن وهب، قال: من أصيب بشيء من البلاء فقد سلك به طريق الأنبياء.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا منذر، قال: سمعت وهبا، يقول: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذا سلك بك طريق - أو قال سبيل أ- أهل البلاء فطب نفسا، فقد سلك بك طريق الأنبياء والصالحين.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثني أمية بن شبل، عن عثمان بن بزدويه، قال: كنت مع وهب وسعيد بن جبير يوم عرفة تحت نخيل ابن عامر، فقال وهب لسعيد: يا أبا عبد الله ! كم لك منذ خفت من الحجاج؟

فقال: خرجت عن امرأتي وهي حامل فجاءني الذي في بطنها وقد خرج شعر وجهه.

فقال له وهب: إن من كان قبلكم كان إذا أصابه بلاء عده رجاء، وإذا أصابه رجاء عده بلاء.

وروى عبد الله بن أحمد بسنده، عن وهب، قال: قرأت في بعض الكتب ليس من عبادي من سحر أو سحر له، أو تكهن أوتكهن له، أو تطير أو تطير له، فمن كان كذلك فليدع غيري، فإنما هو أنا وخلقي كلهم لي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن جعفر بن محمد، عن التيمي، عن وهب، أنه قال: دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الأغنياء الجنة.

قلت: هذا إنما هو لشدة الحساب وطول وقوف الأغنياء في الكرب، كما قد ضربت الأمثال للشدائد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا بكار، قال: سمعت وهبا، يقول: ترك المكافأة من التطفيف.

وقال الإمام أحمد: حدثنا الحجاج وأبو النصر، قالا: حدثنا محمد بن طلحة، عن محمد بن حجادة، عن وهب، قال: من يتعبد يزدد قوة، ومن يتكسل يزدد فترة.

وقد قال غيره: إن حوراء جاءته في المنام في ليلة باردة فقالت له: قم إلى صلاتك فهي خير لك من نومة توهن بدنك.

ورأيت في ذلك حديثا لم يحضرني الآن، وهذا أمر مجرب أن العبادة تنشط البدن وتلينه، وأن النوم يكسل البدن فيقسيه.

وقد قال بعض السلف لما تبع ضلة بن أشيم حين دخل تلك الغيضة، وأنه قام ليلته إلى أن أصبح، قال: فأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت ولي من الكسل والفتور ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.

وقد قيل للحسن: ما بال المتعبدين أحسن الناس وجوها؟

قال: لأنهم خلو بالجليل فألبسهم نورا من نوره.

وقال يحيى بن أبي كثير: والله ما رجل يخلو بأهله عروسا أقر ما كانت نفسه وآنس، بأشد سرورا منهم بمناجاة ربهم تعالى إذا خلوا به.

وقال عطاء الخراساني: قيام الليل محياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والأعضاء كلها، وإن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحا مسرورا، وإذا نام عن حزبه أصبح حزينا مكسور القلب كأنه قد فقد شيئا، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو جعفر أحمد بن منيع، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النصر، حدثنا بكر بن حبيش، عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال، قال: قال رسول الله : «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير عن السيئات، ومطردة للشيطان عن الجسد».

وقد رواه غيره من طرق: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم»

ويكفي في هذا الباب ما رواه أهل الصحيح والمسانيد، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان».

وهذا باب واسع.

وقد قال هود فيما أخبر الله عنه: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [المؤمنون: 32]

ثم قال: { مِدْرَارا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى } [هود: 52] وهذه القوة تشمل جميع القوى، فيزيد الله عابديه قوة في إيمانهم ويقينهم ودينهم وتوكلهم، وغير ذلك مما هو من جنس ذلك، ويزدهم قوة في أسماعهم وأبصارهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهبا، يقول: تصدق صدقة رجل يعلم أنه إنما قدم بين يديه ماله وما خلف مال غيره.

قلت: وهذا كما في الحديث: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله»؟

فقالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه.

فقال: «إن ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخرَّ».

قال: وسمعت وهبا على المنبر، يقول: احفظوا عني ثلاثا: إياكم وهوى متبعا، وقرين السوء، وإعجاب المرء بنفسه.

وقد رويت هذه الألفاظ في حديث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن عبد الصمد بن معقل، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، قال: سمعت وهبا، يقول: أحب بني آدم إلى الشيطان النؤوم الأكول.

وقال الإمام أحمد: حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عمران بن عبد الرحمن أبو الهذيل، أنه سمع وهبا، يقول: إن الله عز وجل يحفظ بالعبد الصالح القيل من الناس.

وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن عقيل، حدثنا عمران أبو الهذيل من الأنباء، عن وهب بن منبه، قال: ليس من الآدميين أحد إلا ومعه شيطان موكل به، فأما الكافر فيأكل معه ويشرب معه، وينام معه على فراشه، وأما المؤمن فهو مجانب له ينتظر متى يصيب منه غفلة أو غرة. وأحب الآدميين إلى الشيطان الأكول النؤوم.

وقال محمد بن غالب: حدثنا أبو المعتمر ابن أخي بشر بن منصور، عن داود بن أبي هند، عن وهب، قال: قرأت في بعض الكتب الذي أنزلت من السماء على بعض الأنبياء: إن الله تعالى قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: أتدري لم اتخذتك خليلا؟

قال: لا يا رب.

قال: لذل مقامك بين يدي في الصلاة.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن وهب بن منبه، قال: حدثني أبي، قال: كان لسليمان بن داود ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فاستعظم ما أوتي سليمان من الملك.

فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما.

فحملت الريح كلام الحراث فألقته في أذن سليمان، قال: فأمر الريح فوقفت، ثم نزل يمشي حتى أتى الحراث.

فقال له: إني قد سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه مما أقدرني الله عليه تفضلا وإحسانا منه علي، لأنه هو الذي أقامني لهذا وأعانني.

ثم قال: والله لتسبيحة واحدة يقبلها الله عز وجل منك أو من مؤمن خير مما أوتي آل داود من الملك، لأن ما أوتي آل داود من ملك الدنيا يفنى، والتسبيحة تبقى، وما يبقى خير مما يفنى.

فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن عقيل بن معقل، حدثني أبي، عن وهب بن منبه، قال: إن الله عز وجل أعطى موسى عليه السلام نورا، فقال له هارون: هبه لي يا أخي، فوهبه له، فأعطاه هارون ابنه، وكان في بيت المقدس آنية تعظمها الأنبياء والملوك فكان ابنا هارون يسقيان في تلك الآنية الخمر، فنزلت نار من السماء فاختطفت ابني هارون فصعدت بهما ففزع هارون لذلك فقام مستغيثا متوجها بوجهه إلى السماء بالدعاء والتضرع.

فأوحى الله إليه: يا هارون هكذا أفعل بمن عصاني من أهل طاعتي، فكيف فعلي بمن عصاني من أهل معصيتي؟.

وقال الحكم بن أبان، نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال: سمعت وهب بن منبه، يقول: إن لله عز وجل في السماء السابعة دارا يقال لها: البيضاء يجمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم.

وقال: من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظلمه، فمن غلب علمه هواه فذلك العالم الغلاب.

وقال فضيل بن عياض: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم إذا صاروا إلى داري، وتبحبحوا في رياض نعمتي؟

هنالك فليبشر المضعفون لله أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب، أتراني أنسى لهم عملا؟

وكيف وأنا ذو الفضل العظيم أجود على المولين المعرضين عني، فكيف بالمقبلين عليَّ؟

وما غضبت على شيء كغضبي على من أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي، ولو تعاجلت بالعقوبة أحدا، أو كانت العجلة من شأني، لعاجلت القانطين من رحمتي.

ولو رآني عبادي المؤمنين كيف أستوهبهم ممن اعتدوا عليه، ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم، اتهموا فضلي وكرمي، أنا الديان الذي لا تحل معصيتي، والذي أطاعني أطاعني برحمتي، ولا حاجة لي بهوان من خاف مقامي.

ولو رآني عبادي يوم القيامة كيف أرفع قصورا تحار فيها الأبصار فيسألوني: لمن ذا؟

فأقول: لمن وهب لي ذنبا ما لم يوجب على نفسه معصيتي والقنوط من رحمتي، وإني مكافئ على المدح فامدحوني.

و قال سلمة بن شبيب: حدثنا سلمة بن عاصم، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقبة، حدثنا عبد الرحمن أبو طالوت، حدثني مهاجر الأسدي، عن وهب، قال: مر عيسى بن مريم ومعه الحواريون بقرية قد مات أهلها، إنسها وجنها، وهوامها وأنعامها وطيورها، فقام عليها ينظر إليها ساعة، ثم أقبل على أصحابه فقال: إنما مات هؤلاء بعذاب من عند الله، ولولا ذلك لماتوا متفرقين.

ثم ناداهم عيسى يا أهل القرية، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله.

فقال: ما كانت جنايتكم وسبب هلاككم؟

قال: عبادة الطاغوت وحب الدنيا.

قال: وما كانت عبادتكم للطاغوت؟

قال: طاعة أهل المعاصي هي: عبادة الطاغوت.

قال: وما كان حبكم للدنيا؟

قال: كحب الصبي لأمه، كنا إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت حزنا، مع أمل بعيد، وإدبار عن طاعة الله، وإقبال على مساخطه.

قال: فكيف كان هلاككم؟

قال: بتنا ليلة في عافية، وأصبحنا في هاوية.

قال: وما الهاوية؟

قال: سجين.

قال: وما السجين؟

قال: جمرة من نار مثل أطباق الدنيا كلها دفنت أرواحنا فيها.

قال: فما بال أصحابك لا يتكلمون؟

قال: لا يستطيعون أن يتكلموا.

قال: وكيف ذلك؟

قال: هم ملجمون بلجم من نار.

قال: وكيف كلمتني أنت من بينهم؟

قال: كنت فيهم لما أصابهم العذاب ولم أكن منهم ولا على أعمالهم، فلما جاء البلاء عمني معهم، وأنا معلق بشعرة في الهاوية لا أدري أكردس فيها أم أنجو؟

فقال عيسى عليه السلام عند ذلك لأصحابه: بحق أقول لكم: لخبز الشعير وشرب الماء القراح والنوم على المزابل كثير على عافية الدنيا والآخرة.

وروى الطبراني، عنه، أنه قال: لا يكون المرء حكيما حتى يطيع الله عز وجل وما عصى الله حكيم، ولا يعصي الله إلا أحمق، وكما لا يكمل النهار إلا بالشمس، ولا يعرف الليل إلا بالظلام، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله عز وجل، ولا يعصي الله حكيم، كما لا يطير الطير إلا بجناحين، ولا يستطيع من لا جناح له أن يطير، كذلك لا يطيع الله من لا يعمل له، ولا يطيق عمل الله من لا يطيعه.

وكما لا مكث للنار في الماء حتى تطفأ، كذلك لا مكث لعمل الرياء حتى يبور.

وكما يبدي سرُّ الزانية وفضيحتها فعلها، كذلك يفتضح بالفعل السيء من كان يقرأ لجليسه بالقول الحسن ولم يعمل به.

وكما تكذب معذرة السارق بالسرقة إذا ظهر عليها عنده، كذلك تكذب معصية القارئ لله قراءته إذا كان يقرؤها لغير الله تعالى.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن النضر، حدثنا علي بن بحر بن بري، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهبا يقول في مزامير آل داود: طوبى لمن يسلك سبيل الحطابين ولا يجالس البطالين، وطوبى لمن يسلك طريق الأئمة ويستقيم على عبادة ربه، فمثله كمثل شجرة نابتة على ساقية لا تزال فيها الحياة، ولا تزال خضراء.

وروى الطبراني أيضا عنه قال: إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراح النساء، وقطرت العضاه دما.

وروي عنه أنه قال: ما من شيء إلا يبدو صغيرا، ثم يكبر، إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر.

وروي عنه أيضا أنه قال: وقف سائل على باب داود عليه السلام فقال: يا أهل بيت النبوة تصدقوا علينا بشيء رزقكم الله رزق التاجر المقيم في أهله.

فقال داود: أعطوه، فوالذي نفسي بيده إنها لفي الزبور.

وقال: من عرف بالكذب لم يجز صدقه، ومن عرف بالصدق ائتمن على حديثه، ومن أكثر الغيبة والبغضاء لم يوثق منه بالنصيحة، ومن عرف بالفجور والخديعة لم يؤمن إليه في المحنة، ومن انتحل فوق قدره جحد قدره، ولا تستحسن فيك ما تستقبح في غيرك.

هذه الآثار رواها الطبراني عنه من طرق.

وروى داود بن عمرو، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم قال: قدم علينا وهب مكة فطفق لا يشرب ولا يتوضأ إلا من زمزم.

فقيل له: مالك في الماء العذب؟

فقال: ما أنا بالذي أشرب وأتوضأ إلا من زمزم حتى أخرج منها، إنكم لا تدرون ما ماء زمزم؟ والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله: طعام طعم، وشفاء سقم، ولا يعمد أحد إليها يتضلع منها ريا ابتغاء بركتها إلا نزعت منه داء، وأحدثت له شفاء.

وقال: النظر في زمزم عبادة.

وقال: النظر فيها يحط الخطايا حطا.

وقال وهب: مسخ بختنصر أسدا، فكان ملك السباع، ثم مسخ نسرا، فكان ملك الطيور، ثم مسخ ثورا فكان ملك الدواب، وهو في كل ذلك يعقل عقل الإنسان، وكان ملكه قائما يدبر، ثم رد الله عليه روحه إلى حالة الإنسان فدعا إلى توحيد الله، وقال: كل إله باطل إلا إله السماء.

فقيل له: أمات مؤمنا؟

فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه.

فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت، وقال بعضهم: قتل الأنبياء، وحرق الكتب، وحرق بيت المقدس فلم يقبل منه التوبة، هكذا رواه الطبراني، عن محمد بن أحمد بن الفرج، عن عباس بن يزيد، عن عبد الرزاق، عن بكار بن عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه يقول، فذكره.

وقال وهب: كان رجل بمصر فسألهم ثلاثة أيام أن يطعموه فلم يطعموه، فمات في اليوم الرابع، فكفنوه ودفنوه، فأصبحوا فوجدوا الكفن في محرابهم مكتوب عليه: قتلتموه حيا وبررتموه ميتا؟

قال يحيى: فأنا رأيت القرية التي مات فيها ذلك الرجل، وما بها أحد إلا وله بيت ضيافة، لا غني ولا قفير هكذا رواه يحيى بن عبد الباقي، عن علي بن الحسن، عن عبد الله بن أخي وهب، قال: حدثني عمي وهب بن منبه فذكره.

قال: وأهل القرية يعترفون بذلك، فمن ثم اتخذوا بيوتا للضيفان والفقراء خوفا من ذلك.

وقال عبد الرزاق: عن بكار، عن وهب قال: إذا دخلت الهدية من الباب خرج الحق من الكوة.

وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثنا إبراهيم بن سعيد، عن عبد المنعم بن إدريس، عن عبد الصمد، عن وهب بن منبه قال: مر نبي من الأنبياء على عابد في كهف جبل فمال إليه، فسلم عليه وقال له: يا عبد الله منذ كم أنت هاهنا؟

قال: منذ ثلثمائة سنة.

قال: من أين معيشتك؟

قال: من ورق الشجر.

قال: فمن أين شرابك؟

قال: من ماء العيون.

قال: فأين تكون في الشتاء؟

قال: تحت هذا الجبل.

قال: فكيف صبرك على العبادة؟

قال: وكيف لا أصبر، وإنما هو يومي إلى الليل، وأما أمس فقد مضى بما فيه، وأما غد فلم يأت بعد.

قال: فعجب النبي من قوله إنما هو يومي إلى الليل.

وبهذا الإسناد: أن رجلا من العباد قال لمعلمه: قطعت الهوى فلست أهوى من الدنيا شيئا.

فقال له معلمه: أتفرق بين النساء والدواب إذا رأيتهن معا؟

قال: نعم.

قال: أتفرق بين الدنانير والدراهم والحصا؟

قال: نعم.

قال: يا بني إنك لم تقطع الهوى عنك، ولكنك قد أوثقته، فاحذر انفلاته وانقلابه.

وقال غوث بن جابر بن غيلان بن منبه: حدثني عقيل بن معقل، عن وهب قال: اعمل في نواحي الدين لثلاث، فإن للدين نواحي ثلاثا هن جماع الأعمال الصالحة لمن أراد جمع الصالحات، أولاهن:

تعمل شكرا لله على الأنعم الكثيرات الغاديات الرائحات، الظاهرات الباطنات الحادثات القديمات، يعمل المؤمن شكرا لهن، ورجاء تمامهن.

والناحية الثانية: من الدين رغبة في الجنة التي ليس لها ثمن وليس لها مثل ولا يزهد فيها وفي العمل لها إلا سفيه فاجر، أو منافق كافر.

والناحية الثالثة: من الدين أن يعمل المؤمن فرارا من النار التي ليس لأحد عليها صبر، ولا لأحد بها طاقة، لا يدان وليست مصيبتها كالمصيبات، ولا حزن أهلها كالأحزان، نبأها عظيم، وشأنها شديد، والآخرة وحزنها فظيع، ولا يغفل عن الفرار والتعوذ بالله منها إلا سفيه أحمق خاسر: { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج: 11] .

وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الملك بن محمد الدمادي، قال: أخبرني محمد بن سعيد بن رمانة، قال: أخبرني أبي قال: قيل لوهب أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟

قال: بلى ! ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان فمن أتى الباب بمفتاح بأسنانه فتح له، ومن لم يأت الباب بمفتاح بأسنانه لم يفتح له.

وقال محمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا، يقول: ركب ابن ملك في جند من قومه وهو شاب، فصرع عن فرسه، فدق عنقه فمات في أرض قريبة من القرى، فغضب أبوه وحلف أن يقتل أهل تلك القرية عن آخرهم، وأن يطأهم بالأفيال، فما أبقت الأفيال وطئته الخيل، فما أبقت الخيل وطئته الرجال، فتوجه إليهم بعد أن سقى الأفيال والخيل الخمر وقال: طأوهم بالأفيال، وإلا فما أبقت الأفيال فلتطأه الخيل، فما أخطأته الخيل فلتطأه الرجال، فلما سمع بذلك أهل تلك القرية وعرفوا أنه قد قصدهم لذلك، خرجوا بأجمعهم، فجأروا إلى الله سبحانه وعجوا إليه وابتهلوا يدعونه تعالى ليكشف عنهم شر هذا الملك الظالم، وما قصده من هلاكهم؟؟.

فبينما الملك وجيشه سائرون على ذلك، وأهل القرية في الابتهال والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، إذ نزل فارس من السماء فوقع بينهم، فنفرت الأفيال فطغت على الخيل، وطغت الخيل على الرجال، فقتل الملك ومن معه وطأ بالأفيال والخيل، ونجى الله أهل تلك القرية من بأسهم وشرهم.

وروى عبد الرزاق، عن المنذر بن النعمان أنه سمع وهبا يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس لأضعن عليك عرشي، ولأحشرن عليك خلقي، وليأتينك داود يومئذ راكبا.

وروى سماك بن الفضل، عن وهب، قال: إني لا تفقد أخلاقي وما فيها شيء يعجبني.

وروى عبد الرزاق، عن أبيه قال: قال: وهب ربما صليت الصبح بوضوء العتمة.

وقال بقية بن الوليد: حدثنا زيد بن خالد، عن خالد بن معدان، عن وهب قال: كان نوح عليه السلام من أجمل أهل زمانه، وكان يلبس البرقع، فأصابهم مجاعة في السفينة، فكان نوح إذا تجلى لهم شبعوا.

وقال: قال عيسى: الحق أقول لكم إن أشدكم جزعا على المصيبة أشدكم حبا للدنيا.

وقال جعفر بن برقان: بلغنا أن وهبا كان يقول: طوبى لمن نظر في عيبه عن عيب غيره، وطوبى لمن تواضع لله من غير مسكنة، ورحم أهل الذل والمسكنة، وتصدق من مال جمعه من غير معصية، وجالس أهل العلم والحلم والحكمة، ووسعته السنة، ولم يتعدها إلى البدعة.

وروى سيار، عن جعفر، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب قال: وجدت في زبور داود يا داود هل تدري من أسرع الناس مرا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة بذكري.

وقيل: إن عابدا عبد الله تعالى خمسين سنة، فأوحى الله إلى نبيهم إني قد غفرت له فأخبره ذلك النبي فقال: أي رب وأي ذنب تغفر لي، فأمر عرقا في عنقه فضرب عليه فلم ينم ولم يهدأ، ولم يصل ليلته ثم سكن العرق فشكا ذلك إلى النبي فقال: ما لاقيت من عرق ضرب علي في عنقي ثم سكن، فقال له النبي: إن الله يقول إن عبادتك خمسين سنة ما تعدل سكون هذا العرق.

وقال وهب: رؤوس النعم ثلاثة:

إحداها: نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها.

والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بهات.

والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.

ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح، وهو يقول: الحمد لله على نعمه.

فقال له رجل كان مع وهب: أي شيء بقي عليك من النعمة تحمد الله عليه؟

فقال المبتلى: أدم بصرك إلى أهل المدينة وانظر إلى كثرة أهلها، أولا: أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري؟

وقال وهب: المؤمن يخالط ليعلم، ويسكت ليسلم، ويتكلم ليفقههم، ويخلو ليقيم.

وقال: المؤمن مفكر مذكر مدخر، تذكر فغلبته السكينة، سكن فتواضع فلم يتهم، رفض الشهوات فصار حرا، ألقى عنه الحسد فظهرت له المحبة، زهد في كل فان فاستكمل العقل، رغب في كل باقٍ فعقل المعرفة، قلبه متعلق بهمه، وهمه موكل بمعاده، لا يفرح إذا فرح أهل الدنيا، بل حزنه عليه سرمد، وفرحه إذا نامت العيون يتلو كتاب الله ويردده على قلبه، فمرة يفرغ قلبه ومرة تدمع عينه، يقطع عنه الليل بالتلاوة، ويقطع عنه النهار بالخلوة والعزلة، مفكرا في ذنوبه، مستصغرا لأعماله.

وقال وهب: فهذا ينادي يوم القيامة في ذلك الجمع العظيم علي رؤوس الخلائق: قم أيها الكريم فادخل الجنة.

وقال إبراهيم بن سعيد: عن عبد الرحمن بن مسعود، عن ثور بن يزيد، قال: قال وهب بن منبه: الويل لكم إذ سماكم الناس صالحين، وأكرموكم على ذلك.

وقال الطبراني: حدثنا عبيد بن محمد الكشوري، حدثنا همام بن سلمة بن عقبة، حدثنا غوث بن جابر، حدثنا عقيل بن معقل بن منبه، قال: سمعت عمي وهب بن منبه، يقول: يا بني ! أخلص طاعة الله بسريرة ناصحة، يصدق بها فعلك في العلانية، فإن من فعل خيرا ثم أسره إلى الله فقد أصاب مواضعه، وأبلغه قراره، ووضعه عند حافظه، وإن من أسر عملا صالحا لم يطلع عليه إلا الله فقد اطلع عليه من هو حسبه، واستحفظه واستودعه حفيظا لا يضيع أجره.

فلا تخافن يا بني على من عمل صالحا أسره إلى الله عز وجل ضياعا، ولا تخافن ظلمة ولا هضمة، ولا تظنن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها والسريرة أصلها، إن يحرق العرق هلكت الشجرة كلها، وإن صلح الأصل صلحت الشجرة، ثمرها وورقها، والورق يأتي عليه حين يجف ويصير هباء تذروه الرياح، بخلاف العرق، فإنه لا يزال ما ظهر من الشجرة في خير وعافية ما كان عرقها مستخفيا لا يرى منه شيء.

كذلك الدين والعلم والعمل، لا يزال صالحا ما كان له سريرة صالحة يصدق الله بها علانية العبد، فإن العلانية تنفع مع السريرة الصالحة، ولا تنفع العلانية مع السريرة الفاسدة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياته من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإن العلانية معها تزين الدين وتجمله إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل.

وقال الهيثم بن جميل: حدثنا صالح المري، عن أبان، عن وهب، قال: قرأت في الحكمة: الكفر أربعة أركان: ركن منه الغضبة، وركن منه الشهوة، وركن منه الطمع، وركن منه الخوف.

وقال: أوحى الله تعالى إلى موسى: إذا دعوتني فكن خائفا مشفقا وجلا، وعفر خدك بالتراب، واسجد لي بمكارم وجهك ويديك، وسلني حين تسألني بخشية من قلبك ووجل، واخشني أيام الحياة، وعلم الجهال آلائي، وقل لعبادي: لا يتمادوا في غي ما هم فيه، فإن أخذي أليم شديد.

وقال وهب: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به دخل النقص على أهل مملكته، وقلت البركات في التجارات والزراعات والضروع والمواشي، ودخل المحق في ذلك، وأدخل الله عليه الذل في ذاته وفي ملكه، وإذا هم بالعدل والخير كان عكس ذلك، من كثرة الخير ونمو البركات.

وقال وهب: كان في مصحف إبراهيم عليه السلام: أيها الملك المبتلى إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولا لتبنى البنيان، وإنما بعثتك لترفع لي دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر.

وروى أبن أبي الدنيا، عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: أن ذا القرنين قال لبعض الملوك: ما بال ملتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة؟

قال: من قبل أنا لا نخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا.

وروى ابن أبي الدنيا، عنه، أنه قال: ثلاث من كن فيه أصاب البر: سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا سهل بن عاصم، عن سلمة بن ميمون، عن المعافى بن عمران، عن أدريس، قال: سمعت وهبا، يقول: كان في بنى إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أنهما مشيا على الماء، فبينما هما يمشيان على البحر إذا هما برجل يمشي في الهواء، فقالا له: يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة؟

قال: بيسير من البر فعلته، ويسير من الشر تركته، فطمت نفسي عن الشهوات، وكففت لساني عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه خالقي، ولزمت الصمت، فإن أقسمت على الله عز وجل أبر قسمي، وإن سألته أعطاني.

وقال: حدثني أبو العباس البصري الأزدي، عن شيخ من الأزد، قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: علمني شيئا ينفعني الله به.

قال: أكثر من ذكر الموت، واقصر أملك، وخصلة ثالثة إن أنت أصبتها بلغت الغاية القصوى، وظفرت بالعبادة الكبرى.

قال: وما هي؟

قال: التوكل.

وممن توفي فيها من الأعيان:

البداية والنهاية - الجزء التاسع
ثم دخلت سنة أربع وسبعين | رافع بن خديج بن رافع الأنصاري | أبو سعيد الخدري | عبد الله بن عمر | عبيد بن عمير | أبو جحيفة | سلمة بن الأكوع | مالك بن أبي عامر | أبو عبد الرحمن السلمي | أبو معرض الأسدي | بشر بن مروان | ثم دخلت سنة خمس وسبعين | وفيها خرج داود بن النعمان المازني بنواحي البصرة فوجه إليه الحجاج أميرا على سرية فقتله | وكان ممن توفي فيها في قول أبي مسهر وأبي عبيد | أبو ثعلبة الخشني | الأسود بن يزيد | حمران بن أبان | ثم دخلت سنة ست وسبعين | قال ابن جرير وفي هذه السنة نقش عبد الملك بن مروان على الدراهم والدنانير وهو أول من نقشها | وممن توفي فيها من الأعيان أبو عثمان النهدي القضاعي | صلة بن أشيم العدوي | زهير بن قيس البلوي | ثم دخلت سنة سبع وسبعين | مقتل شبيب عند ابن الكلبي | كثير بن الصلت | محمد بن موسى | عياض بن غنم الأشعري | مطرف بن عبد الله | ثم دخلت سنة ثمان وسبعين | جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام | شريح بن الحارث | عبد الله بن غنم الأشعري | جنادة بن أمية الأزدي | العلاء بن زياد البصري | سراقة بن مرداء الأزدي كان شاعرا مطبقا هجا الحجاج فنفاه إلى الشام فتوفي بها | ثم دخلت سنة تسع وسبعين | عبيد الله بن أبي بكرة رحمه الله | ثم دخلت سنة ثمانين من الهجرة النبوية | أسلم مولى عمر بن الخطاب | جبير بن نفير | عبد الله بن جعفر بن أبي طالب | أبو إدريس الخولاني | معبد الجهني القدري | ثم دخلت سنة إحدى وثمانين | فتنة بن الأشعث | بجير بن ورقاء الصريمي | أبو أمية الجعفي الكوفي | عبد الله بن شداد بن الهاد | محمد بن علي بن أبي طالب | ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين | وقعة دير الجماجم | وفي هذه السنة كانت وفاة المهلب بن أبي صفرة | توفي المهلب غازيا بمرو الروذ وعمره ستة وسبعون سنة رحمه الله | أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي | المغيرة بن المهلب | الحارث بن عبد الله | محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة | عبد الله بن أبي طلحة بن أبي الأسود | عبد الله بن كعب بن مالك | عفان بن وهب | جميل بن عبد الله | عمر بن عبيد الله | كمَيل بن زياد | زاذان أبو عمرو الكندي | أم الدرداء الصغرى | ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين | بناء واسط | عبد الرحمن بن جحيرة | طارق بن شهاب | عبيد الله بن عدي | ثم دخلت سنة أربع وثمانين | أيوب بن القرية | أبو زرعة الجذامي الفلسطيني | عمران بن حطان الخارجي | روح بن زنباع الجذامي | روح بن زنباع | ثم دخلت سنة خمس وثمانين | عبد العزيز بن مروان | بيعة عبد الملك لولده الوليد ثم من بعده لولده سليمان | أبان بن عثمان بن عفان | واثلة بن الأسقع | خالد بن يزيد | ثم دخلت سنة ست وثمانين | وممن يذكر أنه توفي في هذه السنة تقريبا أرطأة بن زفر | مطرف بن عبد الله بن الشخير | خلافة الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق | ثم دخلت سنة سبع وثمانين | وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الترك | عتبة بن عبد السلمي | المقدام بن معدي كرب | أبو أمامة الباهلي | قبيصة بن ذؤيب | عروة بن المغيرة بن شعبة | شريح بن الحارث بن قيس القاضي | ثم دخلت سنة ثمان وثمانين | عبد الله بن بسر بن أبي بسر المازني | عبد الله بن أبي أوفى | وفيها توفي هشام بن إسماعيل | عمير بن حكيم | ثم دخلت سنة تسع وثمانين | عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير | ثم دخلت سنة تسعين من الهجرة | يتاذوق الطبيب | وتوفي في هذه السنة محمد بن يوسف الثقفي | خالد بن يزيد بن معاوية | عبد الله بن الزبير | ثم دخلت سنة إحدى وتسعين | السائب بن يزيد بن سعد بن تمامة | سهل بن سعد الساعدي | ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين | مالك بن أوس | طويس المغني | الأخطل | ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين | فتح سمرقند | أنس بن مالك ابن النضر بن ضمضم | عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة | بلال بن أبي الدرداء | بشر بن سعيد المزني | زرارة بن أوفى | خبيب بن عبد الله | حفص بن عاصم | سعيد بن عبد الرحمن | فروة بن مجاهد | أبو الشعثاء جابر بن زيد | ثم دخلت سنة أربع وتسعين | مقتل سعيد بن جبير رحمه الله | سعيد بن جبير الأسدي | سعيد بن المسيب | طلق بن حبيب العنزي | عروة بن الزبير بن العوام | علي بن الحسين | أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث | أبو سلمة بن عبد الرحمن | عبد الرحمن بن عائذ | عبد الرحمن بن معاوية بن خزيمة | ثم دخلت سنة خمس وتسعين | وهذه ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وذكر وفاته | فصل خطبة الحجاج لأهل العراق | فصل فيما روي عنه من الكلمات النافعة والجراءة البالغة | إبراهيم بن يزيد النخعي | الحسن بن محمد بن الحنفية | حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري | ثم دخلت سنة ست وتسعين | فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار | الكلام على ما يتعلق برأس يحيى بن زكريا عليهما السلام | ذكر الساعات التي على بابه | ذكر ابتداء أمر السبع بالجامع الأموي | فصل بناء الجامع الأموي | ترجمة الوليد بن عبد الملك | عبد الله بن عمر بن عثمان | خلافة سليمان بن عبد الملك | مقتل قتيبة بن مسلم رحمه الله | ثم دخلت سنة سبع وتسعين | الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب | موسى بن نصير أبو عبد الرحمن اللخمي | ثم دخلت سنة ثمان وتسعين | وفيها فتحت مدينة الصقالبة | وممن توفي فيها من الأعيان سنة ثمانية وتسعين | ثم دخلت سنة تسع وتسعين | خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه | عبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد | محمود بن لبيد بن عقبة | نافع بن جبير بن مطعم | كريب بن مسلم | محمد بن جبير بن مطعم | مسلم بن يسار | حنش بن عمرو الصنعاني | خارجة بن زيد | سنة مائة من الهجرة النبوية | وفيها كان بدوّ دعوة بني العباس | سالم بن أبي الجعد الأشجعي | أبو أمامة سهل بن حنيف | أبو الزاهرية حدير بن كريب الحمصي | أبو الطفيل عامر بن واثلة | أبو عثمان النهدي | ثم دخلت سنة إحدى ومائة | وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز الإمام المشهور رحمه الله | فصل وقد كان منتظرا فيما يؤثر من الأخبار | فصل حديث إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة | فصل صفات عمر بن عبد العزيز ووصاياه | ذكر سبب وفاته رحمه الله | فصل خلافة عمر بن عبد العزيز | خلافة يزيد بن عبد الملك | وفيها توفي سنة إحدى ومائة | ثم دخلت سنة ثنتين ومائة | ولاية مسلمة على بلاد العراق وخراسان | ذكر وقعة جرت بين الترك والمسلمين | وممن توفي فيها من الأعيان والسادة | أبو المتوكل الناجي | ثم دخلت سنة ثلاث ومائة | أبو محمد القاص المدني | مجاهد بن جبير المكي | فصل قول ابن عباس: لا تنامن إلا على وضوء | مصعب بن سعد بن أبي وقاص | موسى بن طلحة بن عبيد الله التميمي | ثم دخلت سنة أربع ومائة | خالد بن سعدان الكلاعي | عامر بن سعد بن أبي وقاص الليثي | عامر بن شراحبيل الشعبي | أبو بردة بن أبو موسى الأشعري | أبو قلابة الجرمي | ثم دخلت سنة خمس ومائة | هو يزيد بن عبد الملك بن مروان | خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان | ثم دخلت سنة ست ومائة | سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب | وطاوس بن كيسان اليماني | ثم دخلت سنة سبع ومائة | سليمان بن يسار أحد التابعين | عكرمة مولى ابن عباس | القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق | وفيها توفي كثير عزة الشاعر المشهور | ثم دخلت سنة ثمان ومائة | بكر بن عبد الله المزني البصري | راشد بن سعد المقراني الحمصي | محمد بن كعب القرظي | ثم دخلت سنة تسع ومائة | سنة عشر ومائة من الهجرة النبوية | جرير الشاعر | فأما الحسن بن أبي الحسن | وأما ابن سيرين | أما الحسن أبو سعيد البصري | محمد بن سيرين | وهيب بن منبه اليماني | فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن: ابن عباس، وجابر، والنعمان بن بشير | سليمان بن سعد | أم الهذيل | عائشة بنت طلحة بن عبد الله التميمي | عبد الله بن سعيد بن جبير | عبد الرحمن بن أبان | ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة | ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائة | رجاء بن حيوة الكندي | شهر بن حوشب الأشعري الحمصي | ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة | قال ابن جرير فيها كان مهلك الأمير عبد الوهاب بن بخت | مكحول الشامي | ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة | عطاء بن أبي رباح | فصل من أقوال عطاء بن أبي رباح | ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة | أبو جعفر الباقر | فصل ترجمة أبو جعفر رضي الله عنه | ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة | ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة | قتادة بن دعامة السدوسي | نافع مولى ابن عمر | ذو الرمة الشاعر | ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة | علي بن عبد الله بن عباس | ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة | سنة عشرين ومائة من الهجرة | ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة | زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب | مسلمة بن عبد الملك | نمير بن قيس | ثم دخلت سنة ثنين وعشرين ومائة | إياس الذكي | ثم دخلت سنة ثلاث عشرين ومائة | ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة | القاسم بن أبي بزة | الزهري | بلال بن سعد | ترجمة الجعد بن درهم | ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة | ذكر وفاته وترجمته رحمه الله