البداية والنهاية/الجزء الثالث/باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله ﷺ، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم.
كان ذلك وله ﷺ من العمر أربعون سنة.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب : أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثا وأربعين سنة.
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال: اقرأ.
فقال: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.
فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.
فقال: اقرأ.
فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [سورة العلق: 1-5] .
فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي.
فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة.
وكان امرأ قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي.
فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما أُري.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله ﷺ: «أو مخرجي هم؟»
فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله ﷺ - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك.
قال: فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له: مثل ذلك.
هكذا وقع مطولا في باب التعبير من البخاري.
قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت: زملوني، زملوني. فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [سورة المدثر: 1-5] فحمي الوحي وتتابع».
ثم قال البخاري: تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، يعني عن الليث، وتابعه هلال بن رداد عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره.
وهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه، وتكلمنا عليه مطولا في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي إسنادا ومتنا ولله الحمد والمنة. وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به، ومن طريق يونس ومعمر، عن الزهري كما علقه البخاري عنهما. وقد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم ورواياته ولله الحمد، وانتهى سياقه إلى قول ورقة: أنصرك نصرا مؤزرا.
فقول أم المؤمنين عائشة: أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبيد بن عمر الليثي، أن النبي ﷺ قال: «فجاءني جبريل، وأنا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني».
وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة، عن الزهري، أنه رأى ذلك في المنام، ثم جاءه الملك في اليقظة.
وقد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (دلائل النبوة): حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جناب بن الحارث، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد.
وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه. وهو كلام حسن يؤيده ما قبله، ويؤيده ما بعده.