البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما
والصحيح أن عائشة تزوجها أولا كما سيأتي.
قال البخاري في باب تزويج عائشة: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي ﷺ قال لها: «أريتك في المنام، مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك، فأكشف عنها فإذا هي أنت، فأقول إن كان هذا من عند الله يمضه».
قال البخاري باب نكاح الأبكار.
وقال ابن أبي مليكة: قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي ﷺ بكرا غيرك.
حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟
قال: «في التي لم يرتع منها» تعني أن النبي ﷺ لم يتزوج بكرا غيرها.
انفرد به البخاري ثم قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: قال لي رسول الله ﷺ: «أريتك في المنام فيجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب؛ فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه».
وفي رواية: «أريتك في المنام ثلاث ليال».
وعند الترمذي: أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
وقال البخاري في باب تزويج الصغار من الكبار؛ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن يزيد، عن عراك، عن عروة: أن رسول الله ﷺ خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك.
فقال: «أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال».
هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل، وهو عند البخاري والمحققين متصل لأنه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها.
وهذا من إفراد البخاري رحمه الله.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
قال: تزوج رسول الله ﷺ عائشة بعد خديجة بثلاث سنين، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع، ومات رسول الله ﷺ وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة، وهذا غريب.
وقد روى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي ﷺ بثلاث سنين فلبث سنتين - أو قريبا من ذلك - ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين.
وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا، ولكنه في حكم المتصل في نفس الأمر.
وقوله: تزوجها وهي ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع ما لا خلاف فيه بين الناس - وقد ثبت في (الصحاح) وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة.
وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ففيه نظر.
فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله ﷺ متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة، وأنا ابنة سبع - أو ست سنين - فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فهيآنني وصنعنني، ثم أتين بي إلى رسول الله ﷺ فبنى بي وأنا ابنة تسع سنين.
فقوله في هذا الحديث: - متوفى خديجة - يقتضي أنه على أثر ذلك قريبا، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير، وأبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: تزوجني النبي ﷺ وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج
فوعكت فتمزق شعري، وقد وفت لي جميمة، فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار.
قال: فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله ﷺ ضحىً، فأسلمنني إليه وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين.
وقال الإمام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة ويحيى قالا: قالت عائشة: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج؟
قال: «من؟».
قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.
قال: «فمن البكر؟».
قالت: أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر.
قال: «ومن الثيب؟».
قالت: سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.
قال: «فاذهبي فاذكريهما علي».
فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟
قالت: وما ذاك؟
قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة.
قالت: انظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟
قال: وما ذاك؟
قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة.
قال: وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له.
قال: «ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي».
فرجعت فذكرت ذلك له.
قال: انتظري وخرج.
قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبي صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟
فقال أبو بكر للمطعم ابن عدي: أقول هذه تقول؟
قال: إنها تقول ذلك.
فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عِدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله ﷺ، فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذٍ بنت ست سنين.
ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة؟
قالت: وما ذاك؟
قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطبك إليه.
قالت: وددت، ادخلي إلى أبي - بكر - فاذكري ذلك له - وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج - فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية.
فقال: من هذه؟
قالت: خولة بنت حكيم.
قال: فما شأنك؟
قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة.
فقال: كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك؟
قالت: تحب ذلك.
قال: ادعيها إلي، فدعتها.
قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل بخطبتك وهو كفؤ كريم، أتحبين أن أزوجك به؟
قالت: نعم.
قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله ﷺ فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجاء يحثي على رأسه التراب.
فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله ﷺ سودة بنت زمعة.
قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح.
قالت: فجاء رسول الله ﷺ فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من الماء.
ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله ﷺ جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجرة ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك.
فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله ﷺ في بيتنا ما نحرت علي جزور، ولا ذبحت علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله ﷺ إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذٍ ابنة تسع سنين.
وهذا السياق كأنه مرسل وهو متصل لما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار: حدثنا عبد الله بن إدريس الأزدي، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت يا رسول الله: ألا تزوج؟
قال: «ومن؟».
قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.
قال: «من البكر ومن الثيب؟».
قالت: أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك: عائشة، وأما الثيب: فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.
قال: «فاذكريهما علي». وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم.
وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم، وكما سيأتي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: لما كبرت سودة وهبت يومها لي، فكان رسول الله ﷺ يقسم لي بيومها مع نسائه.
قالت: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثني شهر، حدثني عبد الله بن عباس: أن رسول الله ﷺ خطب امرأة من قومه يقال لها سودة، وكانت مصبية كان لها خمس صبية - أو ست من بعلها - مات.
فقال رسول الله ﷺ: «ما يمنعك مني؟».
قالت: والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية.
قال: «فهل منعك مني غير ذلك؟».
قالت: لا والله.
قال لها رسول الله ﷺ: «يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده».
قلت: وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم.
ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه.
هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة، وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل.
ورواه يونس، عن الزهري، واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة، وحكاه عن قتادة وأبي عبيد.
قال: ورواه عقيل عن الزهري.