البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب
قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله ﷺ مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله ﷺ يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز وجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.
قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدؤلي - ومن حدثه أبو الزناد عنه - وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة عباد يحدثه أبي قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله ﷺ يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به».
قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله ﷺ من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
قال: فقلت لأبي يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟
قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب.
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي العباس: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه: أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الدئل وكان جاهليا فأسلم.
قال: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا». والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الدئلي: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت: من هذا؟
قالوا: هذا أبو لهب.
وكذا رواه أبو نعيم في (الدلائل) من طريق ابن أبي ذئب، وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه.
ثم رواه البيهقي من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».
وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب فإذا هو أبو جهل وهو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.
كذا قال في هذا السياق أبو جهل.
وقد يكون وهما ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا، وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إذائه ﷺ.
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري: أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: «يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم»، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن رسول الله ﷺ أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم.
وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.
ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟
قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء».
قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه.
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم.
فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.
قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم؟
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله ﷺ في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: «لا أُكره أحدا منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء».
فلم يقبله أحد منهم وما يأت أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟! وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به.
وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الأجلح ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس قال: قال لي رسول الله ﷺ: «لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس».
وكانت مجمع العرب قال: فقلت: هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك؟
قال: فبدأ بكندة فأتاهم، فقال: «ممن القوم؟».
قالوا: من أهل اليمن.
قال: «من أي اليمن؟».
قالوا: من كندة.
قال: «من أي كندة؟».
قالوا: من بني عمرو بن معاوية.
قال: «فهل لكم إلى خير؟».
قالوا: وما هو؟
قال: «تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله».
قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟
فقال رسول الله ﷺ: «إن الملك لله يجعله حيث يشاء».
فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به.
وقال الكلبي: فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.
فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال: «ممن القوم؟».
قالوا: من بكر بن وائل.
فقال: «من أي بكر بن وائل؟».
قالوا: من بني قيس بن ثعلبة.
قال: «كيف العدد؟».
قالوا: كثير مثل الثرى.
قال: «فكيف المنعة؟».
قالوا: لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم.
قال: «فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين».
قالوا: ومن أنت؟
قال: «أنا رسول الله».
ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي: وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس: لا تقبلوا قوله، ثم مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟
قال: نعم هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون؟
فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا: زعم أنه رسول الله.
قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه.
قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر.
قال الكلبي: فأخبرني عبد الرحمن المعايري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله ﷺ ونحن بسوق عكاظ فقال: «ممن القوم؟».
قلنا: من بني عامر بن صعصعة.
قال: «من أي بني عامر بن صعصعة؟».
قالوا: بنو كعب بن ربيعة.
قال: «كيف المنعة فيكم؟».
قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يسطلى بنارنا.
قال: فقال لهم: «إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولاأُكره أحدا منكم على شيء».
قالوا: ومن أي قريش أنت؟
قال: «من بني عبد المطلب».
قالوا: فأين أنت من عبد مناف؟
قال: «هم أول من كذبني وطردني».
قالوا: ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك.
قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال: من هذا الرجل أراه عندكم أنكره؟.
قالوا: محمد بن عبد الله القرشي.
قال: فما لكم وله؟
قالوا: زعم لنا أنه رسول الله ﷺ فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.
قال: ماذا رددتم عليه؟
قالوا: بالترحيب والسعة نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا.
قال بحيرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدأ تم ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه فبئس الرأي رأيتم.
ثم أقبل على رسول الله ﷺ فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك.
قال: فقام رسول الله ﷺ إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله ﷺ فألقته.
وعند بني عامر يومئذٍ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله ﷺ بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟
فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء»
قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء وهم: غطيف، وغطفان ابنا سهل، وعروة - أو عذرة - بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في (مغازيه) عن أبيه به.
وهلك الآخرون: وهم بيحرة بن فراس، وحزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بني عقيل - لعنهم الله لعنا كثيرا -، وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته والله أعلم.
وقد روى أبو نعيم له شاهدا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صعصعة وقبيح ردهم عليه وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لأبي نعيم رحمهم الله - من حديث أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب
قال: لما أمر الله رسوله ﷺ أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة.
فقال: ممن القوم؟
قالوا: من ربيعة.
قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها؟.
قالوا: بل من هامها العظمى.
قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى أنتم؟
فقالوا: ذهل الأكبر.
قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذي كان يقال له لاحر بوادي عوف؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم بسطام بن قيس: أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار؟
قالوا: لا.
قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟
قالوا: لا.
قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟
قالوا: لا.
قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟
قالوا: لا.
قال لهم أبو بكر رضي الله عنه: فلستم بذهل الأكبر بل أنتم من ذهل الأصغر.
قال: فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي - حين بقل وجهه - فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول:
إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا نعرفه أو نحمله
يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، ونحن نريد أن نسألك فمن أنت؟
قال: رجل من قريش.
فقال الغلام: بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة قادمة العرب وهاديها فمن أنت من قريش؟
فقال له: رجل من بني تيم بن مرة.
فقال له الغلام: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة؟ أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها وأجلى بقيتهم، وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار، وأنزل قريشا منازلها فسمته العرب بذلك مجمعا وفيه يقول الشاعر:
أليس أبوكم كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
فقال أبو بكر: لا.
قال: فمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة؟
فقال أبو بكر: لا.
قال: فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه ولأهل مكة ففيه يقول الشاعر:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنون عجاف
سنُّوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الأصياف
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخُّ خالصةٌ لعبد مناف
الرايشين وليس يعرف رايشٌ * والقائلين هلمَّ للأضياف
والضاربين الكبش يبرق بيضه * والمانعين البيض بالأسياف
لله درك لو نزلت بدارهم * منعوك من أزل ومن إقراف
فقال أبو بكر: لا.
قال: فمنكم عبد المطلب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، ومطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليلة الظلماء؟
قال: لا.
قال: أفمن أهل الإفاضة أنت؟
قال: لا.
قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟
قال: لا.
قال: أفمن أهل الندوة أنت؟
قال: لا.
قال: أفمن أهل السقاية أنت؟
قال: لا.
قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟
قال: لا.
قال: فمن المفيضين أنت؟
قال: لا.
ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده
فقال له الغلام:
صادف درَّ السيلِ درٌّ يدفعه * يَهيضه حينا وحينا يرفعه
ثم قال: أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب.
قال: فأقبل إلينا رسول الله ﷺ يتبسم.
قال علي: فقلت له: يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة
فقال: أجل يا أبا الحسن إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول.
قال: ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم - قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير - فقال لهم أبو بكر: ممن القوم؟
قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة.
فالتفت إلى رسول الله ﷺ فقال: بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم.
وفي رواية: ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.
وكان في القوم مفروق ابن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر.
فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟
فقال له: إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة.
فقال له: فكيف المنعة فيكم؟
فقال: علينا الجهد ولكل قوم جد.
فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟
فقال مفروق: إنا أشدُّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى لعلك أخو قريش؟
فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا..
فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك فإلى ما تدعو يا أخا قريش، ثم التفت إلى رسول الله ﷺ، فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال ﷺ: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد».
قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟
فتلا رسول الله ﷺ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا } إلى قوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الأنعام: 151] .
فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.
فتلا رسول الله ﷺ: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل: 90] .
فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة.
فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإني أرى أن تركنا ديننا واتِّباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة.
فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به.
والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة وتركنا ديننا واتِّباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة، والآخر السماوة.
فقال له رسول الله ﷺ: وما هذان الصريان؟
فقال له: أما أحدهما: فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر: فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا.
ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول.
فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا.
فقال رسول الله ﷺ: «ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه».
ثم قال رسول الله ﷺ: «أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه؟».
فقال له النعمان ابن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش!
فتلا رسول الله ﷺ: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا * وَدَاعِيا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجا مُنِيرا } [الأحزاب: 45] .
ثم نهض رسول الله ﷺ قابضا على يدي أبي بكر.
قال علي: ثم التفت إلينا رسول الله ﷺ
فقال يا علي: «أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها - بها يتحاجزون في الحياة الدنيا».
قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي ﷺ.
قال علي: وكانوا صدقاء صبراء فسرَّ رسول الله ﷺ من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنسابهم.
قال: فلم يلبث رسول الله ﷺ إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: «احمدوا الله كثيرا فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا».
قال: وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار وفيها يقول الأعشى:
فدى لبني ذُهلِ بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلَّت
هموا ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت
فلله عينا من رأى من فوارسٍ * كذهل بن شيبان بها حين ولت
فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت
هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب، وقد ورد هذا من طريق أخرى
وفيه: أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر مكان قريب من الفرات جعلوا شعارهم: اسم محمد ﷺ فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام.
وقال الواقدي: أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول الله ﷺ في منازلنا بمنى ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وهو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة، فدعانا فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال: وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي.
فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ.
فقال القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قِبل لنا به.
وطمع رسول الله ﷺ في ميسرة فكلمه.
فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد.
فانصرف رسول الله ﷺ وخرج القوم صادرين إلى أهليهم.
فقال لهم ميسرة: ميلوا نأتي فدك فإن بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل.
فمالوا إلى يهود فأخرجوا سِفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله ﷺ النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزي بالكسرة ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينيه حمرة مشرق اللون.
فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه.
فقال ميسرة: يا قوم ألا إن هذا الأمر بيـِّن.
فقال القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم.
فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه.
فقال يا رسول الله: والله ما زلت حريصا على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله؟
فقال رسول الله ﷺ: «كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار».
فقال الحمد لله الذي أنقذني، فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان.
وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي فقص خبر القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم وغيرهم.
وسياق أخبارها مطولة وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا ولله الحمد والمنة..
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أنا إسرائيل بن يونس، عن عثمان - يعني: ابن المغيرة - عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله.
قال: كان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: «هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل؟»، فأتاه رجل من همدان، فقال: ممن أنت؟
قال الرجل: من همدان.
قال: فهل عند قومك من منعة؟
قال: نعم! ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله ﷺ فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل!
قال: نعم! فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب.
وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن إسرائيل به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.