البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة، وثاني مرة أيضا.
وقال مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
إن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ.
قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟
فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس - وهو أشده عليّ - فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فأعي ما يقول».
قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ﷺ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصد عرقا أخرجاه في (الصحيحين) من حديث مالك به.
ورواه الإمام أحمد، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه.
وكذا رواه عبدة بن سليمان، وأنس بن عياض، عن هشام بن عروة.
وقد رواه أيوب السختياني، عن هشام، عن أبيه، عن الحارث بن هشام أنه قال: سألت رسول الله ﷺ فقلت: كيف يأتيك الوحي؟
فذكره، ولم يذكر عائشة.
وفي حديث الإفك قالت عائشة: فوالله ما رام رسول الله ﷺ، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه.
فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال: أملى عليّ يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله ﷺ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل..
وذكر تمام الحديث في نزول: { قد أفلح المؤمنون }.
وكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عبد الرزاق، ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدا رواه، غير يونس بن سليم، ولا نعرفه.
وفي (صحيح مسلم)، وغيره، من حديث الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت.
قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك، وتربد وجهه.
وفي رواية - وغمض عينيه - وكنا نعرف ذلك منه.
وفي (الصحيحين) حديث زيد بن ثابت حين نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: { غير أولى الضرر }.
قال: وكانت فخذ رسول الله ﷺ على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي.
وفي (صحيح مسلم) من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية.
قال: قال لي عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله ﷺ وهو يوحى إليه؟
فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة؛ فإذا هو محمرّ الوجه، وهو يغط كما يغط البكر.
وثبت في (الصحيحين) من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة.
فرجعت إلى رسول الله ﷺ فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال: «إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن».
فدلَّ هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس.
قال: كان رسول الله ﷺ إذا أنزل عليه الوحي تربَّد لذلك جسده ووجهه، وأمسك عن أصحابه، ولم يكلمه أحد منهم.
وفي (مسند أحمد)، وغيره، من حديث ابن لهيعة: حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن ابن عبد الله بن عمرو، قلت يا رسول الله هل تحس بالوحي؟.
قال: «نعم اسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه».
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب، حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم.
قال: كنا عند رسول الله ﷺ وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة، وفرغ سمعه وقلبه، لما يأتيه من الله عز وجل.
وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا علي بن غراب، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي صدع وغلف رأسه بالحناء.
هذا حديث غريب جدا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد.
قالت: إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول الله ﷺ، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري، عن ليث بن أبي سليم به.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني جبر بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله ﷺ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.
وروى ابن مردويه من حديث صباح ابن سهل، عن عاصم الأحول، حدثتني أم عمرو، عن عمها: أنه كان في مسير مع رسول الله ﷺ، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها.
وهذا غريب من هذا الوجه.
ثم قد ثبت في (الصحيحين) نزول سورة الفتح على رسول الله ﷺ مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته، فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال والله أعلم.
وقد ذكرنا أنواع الوحي إليه ﷺ في أول (شرح البخاري)، وما ذكره الحليمي، وغيره من الأئمة رضي الله عنهم.