البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة أربع وستمائة



ثم دخلت سنة أربع وستمائة


فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي، الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة، فضيق على الناس في المياه والميرة،

فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق، وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه الناس وابن السبيل، الأمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.

فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا، وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الناس صدر جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده، فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء.

وفيها: قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي، وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة، وقيل غير ذلك من الأسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات، بها وكان جبارا عنيدا حتى قال بعضهم فيه:

خليلي قولا للخليفة وانصحا ** توق وقيت السوء ما أنت صانع

وزيرك هذا بين أمرين فيهما ** صنيعك يا خير البرية ضائع

فإن كان حقا من سلالة حيدر ** فهذا وزير في الخلافة طامع

وإن كان فيما يدعي غير صادق ** فأضيع ما كانت لديه الصنائع

وقيل: إنه كان عفيفا عن الأموال حسن السيرة جيد المباشرة فالله أعلم بحاله. وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء، يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شيء كثير، وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج.

وكان يتولى ذلك عمه أبو طالب، كما كان العباس يتولى السقاية، وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له، كما تقدم بيان ذلك في مواضعه، وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الأحوال في الخلفاء العباسيين. وفيها: أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية.

وفيها: الطوق والسواران، وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا.

وفيها: ملك الأوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر، وكان شابا جميل الصورة جدا، قتله بعض مماليكهم ثم قتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك فأخذها الأوحد بن العادل.

وفيها: ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة. اتفق له في بعض المواقف أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه.

فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا، وأسروا خلقا منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك، وأسر معه أميرا يقال له مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الإسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافا كثيرا وانزعجت خراسان بكمالها.

ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل، وأما ما كان من أمر السلطان وذاك الأمير فقال الأمير للسلطان: من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة، وتظهر أنك غلام لي، فقبل منه ما قال وأشار به، ثم جعل الملك يخدم ذلك الأمير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه، ولا يألو جهدا في خدمته.

فقال الذي أسرهما: إني أرى هذا يخدمك فمن أنت؟فقال: أنا مسعود الأمير، وهذا غلامي، فقال: والله لو علم الأمراء أني قد أسرت أميرا وأطلقته لأطلقتك، فقال له: إني إنما أخشى على أهلي، فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيرا.

فقال: نعم، فعين رجلا من أصحابه فقال له الأمير مسعود: إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه، ثم يسعى في تحصيل المال، فقال: نعم، فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه.

فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها. فلما رآه الناس فرحوا به فرحا شديدا، ودقت البشائر في سائر بلاده، وعاد الملك إلى نصابه، واستقر السرور بإيابه، وأصلح ما كان وهي من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله، وحاصر هراه وأخذها عنوة.

وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوما للأمير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل، فقال: لا، هو الذي كان في أسرك، فقال له: فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقرا معظما؟ فقال: خفتك عليه، فقال: سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكراما زائدا، وأحسن إليهما.

وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية، حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الأغنام، وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها، فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهرا وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف.

وأنزل الملك من القلعة وقتله صبرا بين يديه، ولم يترك له نسلا ولا عقبا، واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك، وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول: متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وكذا.

وكتب التتار إليه أيضا يستنصرونه على الخطا ويقولون: هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك، فكن معنا عليهم، فكتب إلى كل من الفريقين يطيب قلبه، وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين، وكانت الدائرة على الخطا، فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه.

فوقعت بينهم الوحشة الأكيدة، وتواعدوا للقتال، وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلادا كثيرة متاخمة لبلاد كشلى خان خوفا عليها أن يملكها.

ثم إن جنكيز خان خرج على كشلى خان، فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه، ثم إنه وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفيها: كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص، فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم، فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكرا قواه بهم على الفرنج، وخرج العادل من مصر في العساكر الإسلامية، وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها، لأن القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعا فيها جماعة من المسلمين.

فطلب صاحب عكا الأمان والصلح على أن يرد الأسارى، فأجابه إلى ذلك، وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريبا من حمص، ثم سار إلى بلاد طرابلس، فأقام اثني عشر يوما يقتل ويأسر ويغنم، حتى جنح الفرنج إلى المهادنة، ثم عاد إلى دمشق.

وفيها: ملك صاحب أذربيجان الأمير نصير الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر، لأن ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير، فدبر أمره خادم له. وفي غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني، فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد.

وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف، وحضر عنده خلق كثير. وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي، وحضر عنده الأعيان والأكابر.

وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع، فلبس هو وولداه المعظم والأشرف ووزيره صفي الدين بن شكر، وغير واحد من الأمراء، ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد، وقرأ التقليد الوزير وهو قائم، وكان يوما مشهودا.

وفيها: درس شرف الدين عبد الله ابن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق.

وفيها: انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية، ودرس بمدرسة أم الخليفة، وحضر عنده الأكابر من سائر المذاهب.

وفيها توفي من الأعيان:

الأمير بنامين بن عبد الله

أحد أمراء الخليفة الناصر، كان من سادات الأمراء عقلا وعفة ونزاهة، سقاه بعض الكتاب من النصارى سما فمات. وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا، فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال: إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار، فكتب الخليفة على رأس الورقة:

إن الأسود أسود الغاب همتها ** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه، وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم.

حنبل بن عبد الله ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي

المكبر بجامع المهدي، راوي مسند أحمد عن ابن الحصين عن ابن المذهب عن أبي مالك عن عبد الله عن أبيه، عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه بإربل، واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند، وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات، فتصيبه التخمة كثيرا، لأنه كان فقيرا ضيق الأمعاء من قلة الأكل، خشن العيش ببغداد.

وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم، فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم، ثم أعطاه المعظم مالا جزيلا ورده إلى بغداد فتوفي بها، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة، وكان معه ابن طبرزد، فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة.

عبد الرحمن بن عيسى ابن أبي الحسن المروزي الواعظ البغدادي

سمع من ابن أبي الوقت وغيره، واشتغل علي ابن الجوزي بالوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه، واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة.

الأمير زين الدين قراجا الصلاحي

صاحب صرخد، كانت له دار عند باب الصفير عند قناة الزلاقة، وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك، وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد.

عبد العزيز الطبيب

توفي فجأة، وهو والد سعد الدين الطبيب الأشرفي، وفيه يقول ابن عنين:

فراري ولا خلف الخطيب جماعة ** وموت ولا عبد العزيز طبيب

وفيها توفي:

العفيف بن الدرحي

إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية.

أبو محمد جعفر بن محمد ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الإربلي

كان فاضلا في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب، والفرائض، والهندسة، والأدب، والنحو، وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز، وغير ذلك ومن شعره:

لا يدفع المرء ما يأتي به القدر ** وفي الخطوب إذا فكرت معتبر

فليس ينجي من الأقدار إن نزلت ** رأى وحزم ولا خوف ولا حذر

فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا ** تجزع لشيء فعقبى صبرك الظفر

كم مُسنا عسر فصرفه الإ ** له عنا وولى بعده سر

لا ييئس المرء من روح الإله فما ** ييأس منه إلا عصبة كفروا

إني لأعلم أن الدهر ذو دول ** وأن يوميه ذا أمن وذا خطر

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697