البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة تسع وثمانين وستمائة



ثم دخلت سنة تسع وثمانين وستمائة


فيها:كانت وفاة الملك المنصور قلاوون، وكان الخليفة الحاكم العباسي، ونائب مصر حسام الدين طرقطاي، ونائب الشام حسام الدين لاجين، وقضاة الشام شهاب الدين بن الخوي الشافعي، وحسام الدين الحنفي، ونجم الدين بن شيخ الجبل، وجمال الدين الزواوي المالكي.

وجاء البريد يطلب شمس الدين سنقر الأشقر إلى الديار المصرية، فأكرمه السلطان وقواه وشديده وأمره باستخلاص الأموال، وزاده مشد الجيوش، والكلام على الحصون إلى البيرة وكختا وغير ذلك، فقويت نفسه وزاد تجبره ولكن كان يرجع إلى مروءة وستر وينفع من ينتمي إليه، وذلك مودة في الدنيا في أيام قلائل، وفي جمادى الآخرة جاء البريد بالكشف على ناصر الدين المقدسي، وكيل بيت المال، وناظر الخاص، فظهرت عليه مخازي من أكل الأوقاف وغيرها، فرسم عليه بالعذراوية وطولب بتلك الأموال وضيق عليه.

وعمل فيه سيف الدين أبو العباس السامري قصيدة يتشفى فيها لما كان أسدى إليه من الظلم والإيذاء، مع أنه راح إليه وتغمم له وتمازحا هنالك.

ثم جاء البريد بطلبه إلى الديار المصرية فخاف النواب من ذهابه، فأصبح يوم الجمعة وهو مشنوق بالمدرسة العذراوية، فطلبت القضاة والشهود فشاهدوه كذلك، ثم جهز وصلي عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر الصوفية عند أبيه، وكان مدرسا بالرواحية وتربة أم الصالح، مع الوكالتين والنظر.

وجاء البريد بعمل مجانيق لحصار عكا، فركب الأعسر إلى أراضي بعلبك، لما هنالك من الأخشاب العظيمة التي لا يوجد مثلها بدمشق، وهي تصلح لذلك، فكثرت الجنايات والجبايات والسخر، وكلفوا الناس تكليفا كثيرا، وأخذوا أخشاب الناس، وحملت إلى دمشق بكلفة عظيمة وشدة كثيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفاة الملك المنصور قلاوون

بينما الناس في هذا الهم والمصادرات وأمثال ذلك، إذ وردت بريدية فأخبروا بوفاة الملكا لمنصور يوم السبت سادس ذي القعدة من هذه السنة، بالمخيم ظاهر القاهرة، ثم حمل إلى قلعة الجبل ليلا وجلس بعده ولده الملك الأشرف خليل بولاية العهد له، وحلف له جميع الأمراء، وخطب له على المنابر، وركب في أبهة الملك، والعساكر كلهم في خدمته مشاة من قلعة الجبل إلى الميدان الأسود الذي هو سوق الخيل، وعلى الأمراء والمقدمين الخلع، وعلى القضاة والأعيان.

ولما جاءت الأخبار بذلك حلف له الأمراء بالشام، وقبض على حسام الدين طرقطاي نائب أبيه وأخذ منه أموالا جزيلة أنفق منها على العساكر.

وفيها: ولي خطابة دمشق زين الدين عمر بن مكي بن المرحل عوضا عن جمال الدين بن عبد الكافي، وكان ذلك بمساعدة الأعسر، وتولى نظر الجامع الرئيس وجيه الدين بن المنجي الحنبلي، عوضا عن ناصر الدين بن المقدسي، وثمر وقعة وعمره وزاد مائة وخمسين ألفا.

وفيها: احترقت دار صاحب حماه، وذلك أنه وقع فيها نار في غيبته فلم يتجاسر أحد يدخلها، فعملت النار فيها يومين فاحترقت واحترق كل ما فيها.

وفي شوال درس بتربة أم الصالح بعد ابن المقدسي القاضي إمام الدين القونوي.

وفيها: باشر الشرف حسين بن أحمد بن الشيخ أبي عمر قضاء الحنابلة عوضا عن ابن عمه نجم الدين بن شيخ الجبل، عن مرسوم الملك المنصور قبل وفاته.

وحج بالناس في هذه السنة من الشام الأمير بدر الدين بكتوت الدوباسي، وحج قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي، وشمس الدين بن السلعوس، ومقدم الركب الأمير عتبة، فتوهم منه أبو نمي، وكان بينهما عداوة فأغلق أبواب مكة ومنع الناس من دخولها فأحرق الباب وقتل جماعة ونهب بعض الأماكن، وجرت خطوب فظيعة.

ثم أرسلوا القاضي ابن الخوي ليصلح بين الفريقين، ولما استقر عند أبي نمي رحل الركوب وبقي هو في الحرم وحده وأرسل معه أبو نمي من ألحقه بهم سالما معظما.

وجاء الخبر بموت المنصور إلى الناس وهم بعرفات وهذا شيء عجيب.

وجاء كتاب يستحث الوزير ابن السلعوس في المسير إلى الديار المصرية، وبين الأسطر بخط الملك الأشرف: يا شقير يا وجه الخير احضر لتستلم الوزارة.

فساق إلى القاهرة فوصلها يوم الثلاثاء عاشر المحرم، فتسلم الوزارة كما قال السلطان.

من الأعيان:

السلطان الملك المنصور قلاوون

ابن عبد الله التركي الصالحي الألفي، اشتراه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، بألفي دينار، وكان من أكابر الأمراء عنده وبعده.

ولما تزوج الملك السعيد بن الظاهر بابنته غازية خاتون، عظم شأنه جدا عند الظاهر، وما زال يترفع في الدولة حتى صار أتابك سلامش بن الظاهر، ثم رفعه من البين واستقل بالملك في سنة أربع وثمانين، وفتح طرابلس سنة ثمان وثمانين، وعزم على فتح عكا وبرز إليها فعاجلته المنية في السادس والعشرين من ذي القعدة، ودفن بتربته بمدرسته الهائلة التي أنشأها بين القصرين، التي ليس بديار مصر ولا بالشام مثلها.

وفيها: دار حديث ومارستان.

وعليها أوقاف دارة كثيرة عظيمة، مات عن قريب من ستين سنة، وكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة، وكان حسن الصورة مهيبا، عليه أبهة السلطنة ومهابة الملك، تام القامة حسن اللحية عالي الهمة شجاعا وقورا سامحه الله.

الأمير حسام الدين طرقطاي

نائب السلطنة المنصورية بمصر، أخذه الأشرف فسجنه في قلعة الجبل، ثم قتله وبقي ثمانية أيام لا يدري به، ثم لف في حصير وألقي عل مزبلة، وحزن عليه بعض الناس، فكفن كآحاد الفقراء بعد النعيم الكثير، والدنيا المتسعة، والكلمة النافذة، وقد أخذ السلطان من حواصله ستمائة ألف دينار وسبعين قنطارا بالمصري فضة، ومن الجواهر شيئا كثيرا، سوى الخيل والبغال والجمال والأمتعة والبسط الجياد، والأسلحة المثمنة، وغير ذلك من الحواصل والأملاك بمصر والشام.

وترك ولدين أحدهما أعمى، وقد دخل هذا الأعمى على الأشرف فوضع المنديل على وجهه وقال: شيء لله وذكر له أن لهم أياما لا يجدون شيئا يأكلونه، فرق له وأطلق لهم الأملاك يأكلون من ريعها، فسبحان الله المتصرف في خلقه بما يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء.

الشيخ الإمام العلامة رشيد الدين عمر بن إسماعيل بن مسعود الفارقي الشافعي

مدرس الظاهرية، توفي بها وقد جاوز التسعين، وجد مخنوقا في المحرم، ودفن بالصوفية، وقد سمع الحديث، وكان منفردا في فنون من العلوم كثيرة، منها علم النحو، والأدب، وحل المترجم، والكتابة، والإنشاء، وعلم الفلك والنجوم، وضرب الرمل، والحساب، وغير ذلك، وله نظم حسن.

الخطيب جمال الدين أبو محمد عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي

توفي بدار الخطابة وحضر الناس الصلاة عليه يوم السبت سلخ جمادى الأولى، وحمل إلى السفح فدفن إلى جانب الشيخ يوسف الفقاعي.

فخر الدين أبو الظاهر إسماعيل ابن عز القضاة أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الواحد بن أبي اليمن

الشيخ الزاهد المتقلل من متاع الدنيا، توفي في العشرين من رمضان، وصلي عليه في الجامع، ودفن بتربة بني الزكي بقاسيون محبة في محيي الدين بن عربي، فإنه كان يكتب من كلامه كل يوم ورقتين، ومن الحديث ورقتين، وكان مع هذا يحسن الظن به، وكان يصلي مع الأئمة كلهم بالجامع، وقد أخبر عنه بعض العلماء أنه رأى بخطه.

وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه عينه

وقد صحح على عينه وإنما الصحيح المروي عمن أنشد هذا الشعر: ** تدل على أنه واحد **

وله شعر فمنه:

والنهر مذ جن في الغصون هوى ** فراح في قلبه يمثلها

فغار منه النسيم عاشقها ** فجاء عن وصله يميلها

وله أيضا:

لما تحقق بالإمكان فوقكم ** وقد بدا حكمه في عالم الصور

فميز الجمع عنه وهو متخذ ** فلاح فرقكم في عالم الصور

وله:

لي سادة لا أرى سواهم ** هم عين معناي وعين جوفي

لقد أحاطوا بك جزء ** مني وعزوا عن درك طرفي

هم نظروا في عموم فقري ** وطول ذلي وفرط ضعفي

فعاملوني ببحت جود ** وصرف بر ومحض لطف

فلا تلم إن جررت ذيلي ** فخرا بهم أو ثنيت عطفي

وله:

مواهب ذي الجلال لدى تتري ** فقد أخر ستني ونطقن شكرا

فنعمى إثر نعمى إثر نعمى ** وبشرى بعد بشرى بعد بشرى

لها بدء وليس لها انتهاء ** يعم مزيدها دنيا وأخرى

الحاج طيبرس بن عبد الله

علاء الدين الوزير، صهر الملك الظاهر، كان من أكابر الأمراء، ذوي الحل والعقد، وكان دينا كثير الصدقات، له خان بدمشق أوقفه، وله في فكاك الأسرى وغير ذلك، وأوصى عند موته بثلاثمائة ألف تصرف على الجند بالشام ومصر، فحصل لكل جندي خمسون درهما، وكانت وفاته في ذي الحجة، ودفن بتربته بسفح المقطم.

قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر المقدسي

توفي ثاني عشر رجب بسوا، وكان فاضلا بارعا خطيبا مدرسا بأكثر المدارس، وهو شيخ الحنابلة وابن شيخهم، وتولى بعده القضاء الشيخ شرف الدين حسين بن عبد الله بن أبي عمر، والله أعلم.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697