البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة



ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة


في يوم الأحد ثاني المحرم توجه الملك الظاهر من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته العساكر المنصورة، وقد استولت الدولة الإسلامية على بلاد سيس بكمالها، وعلى كثير من معاقل الفرنج في هذه السنة، وقد أرسل العساكر بين يديه إلى غزة، وعدل هو إلى ناحية الكرك لينظر في أحوالها، فلما كان عند بركة زيزي تصيد هنالك فسقط عن فرسه فانكسرت فخذه.

فأقام هناك أياما يتداوى حتى أمكنه أن يركب في المحفة، وسار إلى مصر فبرأت رجله في أثناء الطريق فأمكنه الركوب وحده على الفرس.

ودخل القاهرة في أبهة عظيمة، وتجمل هائل، وقد زينت البلد، واحتفل الناس له احتفالا عظيما، وفرحوا بقدومه وعافيته فرحا كثيرا، ثم في رجب منها رجع من القاهرة إلى صفد، وحفر خندقا حول قلعتها وعمل فيه بنفسه وأمرائه وجيشه وأغار على ناحية عكا، فقتل وأسر وغنم وسلم وضرب لذلك البشائر بدمشق.

وفي ثاني عشر ربيع الأول صلى الظاهر بالجامع الأزهر الجمعة، ولم يكن تقام به الجمعة من زمن العبيديين إلى هذا الحين، مع أنه أول مسجد بني بالقاهرة، بناه جوهر القائد وأقام فيه الجمعة، فلما بنى الحاكم جامعه حول الجمعة منه إليه، وترك الأزهر لا جمعة فيه فصار في حكم بقية المساجد وشعث حاله وتغيرت أحواله، فأمر السلطان بعمارته وبياضه وإقامة الجمعة وأمر بعمارة جامع الحسينية وكمل في سنة سبع وستين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وفيها: أمر الظاهر أن لا يبيت أحد من المجاورين بجامع دمشق فيه وأمر بإخراج الخزائن منه، والمقاصير التي كانت فيه، فكانت قريبا من ثلاثمائة، ووجدوا فيها قوارير البول والفرش والسجاجيد الكثيرة، فاستراح الناس والجامع من ذلك واتسع على المصلين.

وفيها: أمر السلطان بعمارة أسوار صفد وقلعتها، وأن يكتب عليها: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105] { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة: 22] .

وفيها: التقى أبغا ومنكوتمر الذي قام مقام بركه خان فكسره أبغا وغنم منه شيئا كثيرا.

وحكى ابن خلكان فيما نقل من خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال: بلغنا أن رجلا يدعى أبا سلامة من ناحية بصرى، كان فيه مجون واستهتار، فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة، فقال: والله لا أستاك إلا في المخرج - يعني دبره - فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه، ثم أخرجه فمكث بعده تسعة أشهر فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم، ورأسه كرأس السمكة، وله دبر كدبر الأرنب.

ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات، فقامت ابنة ذلك الرجل فرضخت رأسه فمات، وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث وكان يقول هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي، وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان، ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا، ومنهم من رآه بعد موته.

من الأعيان:

السلطان بركه خان بن تولي بن جنكيز خان

وهو ابن عم هولاكو، وقد أسلم بركه خان هذا، وكان يحب العلماء والصالحين ومن أكبر حسناته كسره لهولاكو وتفريق جنوده، وكان يناصح الملك الظاهر ويعظمه ويكرم رسله إليه، ويطلق لهم شيئا كثيرا، وقد قام في الملك بعده بعض أهل بيته وهو منكوتمر بن طغان بن بابو بن تولي بن جنكيز خان، وكان على طريقته ومنواله ولله الحمد.

قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر ابن بنت الأعز الشافعي

كان دينا عفيفا نزها لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يقبل شفاعة أحد، وجمع له قضاء الديار المصرية بكمالها، والخطابة والحسبة ومشيخة الشيوخ، ونظر الأجياش، وتدريس الشافعي والصالحية وإمامة الجامع، وكان بيده خمسة عشر وظيفة، وباشر الوزارة في بعض الأوقات.

وكان السلطان يعظمه، والوزير ابن حنا يخاف منه كثيرا، وكان يحب أن ينكبه عند السلطان ويضعه فلا يستطيع ذلك، وكان يشتهي أن يأتي داره ولو عائدا، فمرض في بعض الأحيان فجاء القاضي عائدا، فقام إلى تلقيه لوسط الدار، فقال له القاضي: إنما جئنا لعيادتك فإذا أنت سوي صحيح، سلام عليكم، فرجع ولم يجلس عنده.

وكان مولده في سنة أربع وستمائة، وتولى بعده القضاء تقي الدين بن رزين.

واقف القيمرية الأمير الكبير ناصر الدين

أبو المعالي الحسين بن العزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي، كان من أعظم الأمراء مكانة عند الملوك، وهو الذي سلم الشام إلى الملك الناصر صاحب حلب، حين قتل توران شاه بن الصالح أيوب بمصر، وهو واقف المدرسة القيمرية عند مأذنة فيروز، وعمل على بابها الساعات التي لم يسبق إلى مثلها، ولا عمل على شكلها، يقال إنه غرم عليها أربعين ألف درهم.

الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل

بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس أبو محمد وأبو القاسم المقدسي الشيخ الإمام العالم الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ المعروف بأبي شامة شيخ دار الحديث الأشرفية، ومدرس الركنية، وصاحب المصنفات العديدة المفيدة، له اختصار تاريخ دمشق في مجلدات كثيرة، وله شرح الشاطبية، وله الرد إلى الأمر الأول، وله في المبعث وفي الأسراء، وكتاب (الروضتين في الدولتين النورية والصلاحية)، وله الذيل على ذلك، وله غير ذلك من الفوائد الحسان والغرائب التي كالعقيان.

ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وذكر لنفسه ترجمة في هذه السنة في الذيل، وذكر مرباه ومنشأه، وطلبه العلم، وسماعه الحديث، وتفقهه على الفخر بن عساكر وابن عبد السلام، والسيف الآمدي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، وما رئي له من المنامات الحسنة.

وكان ذا فنون كثيرة، أخبرني علم الدين البرزالي الحافظ عن الشيخ تاج الدين الفزاري، أنه كان يقول: بلغ الشيخ شهاب الدين أبو شامة رتبة الاجتهاد، وقد كان ينظم أشعارا في أوقات، فمنها ما هو مستحلى، ومنها ما لا يستحلى، فالله يغفر لنا وله.

وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، وكانت وفاته بسبب محنة ألبوا عليه، وأرسلوا إليه من اغتاله وهو بمنزل له بطواحين الأشنان.

وقد كان اتهم برأي، الظاهر براءته منه، وقد قال جماعة من أهل الحديث وغيرهم: إنه كان مظلوما ولم يزل يكتب في التاريخ حتى وصل إلى رجب من هذه السنة، فذكر أنه أصيب بمحنة في منزله بطواحين الأشنان.

وكان الذين قتلوه جاؤوه قبل فضربوه ليموت فلم يمت، فقيل له: ألا تشتكي عليهم، فلم يفعل وأنشأ يقول:

قلت لمن قال: ألا تشتكي ** ما قد جرى فهو عظيم جليل

يقيض الله تعالى لنا ** من يأخذ الحق ويشفي الغليل

إذا توكلنا عليه كفى ** فحسبنا الله ونعم الوكيل

وكأنهم عادوا إليه مرة ثانية وهو في المنزل المذكور فقتلوه بالكلية في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان رحمه الله.

ودفن من يومه بمقابر دار الفراديس، وباشر بعده مشيخة دار الحديث الأشرفية الشيخ محيي الدين النووي.

وفي هذه السنة كان مولد الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي، وقد ذيل على تاريخ أبي شامة لأن مولده في سنة وفاته، فحذا حذوه وسلك نحوه، ورتب ترتيبه وهذب تهذيبه.

وهذا أيضا ممن ينشد في ترجمته:

ما زلت تكتب في التاريخ مجتهدا ** حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا

ويناسب أن ينشد هنا:

إذا سيد منا خلا قام سيد ** قؤول لما قال الكرام فعول

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697