البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة



ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة


استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد ذكرنا ما كان من عبيد مكة إلى الحجاج، وأنه قتل من المصريين أميران، فلما بلغ الخبر السلطان عظم عليه ذلك، وامتنع من الأكل على السماط فيما يقال أياما، ثم جرد ستمائة فارس وقيل ألفا، والأول أصح، وأرسل إلى الشام أن يجرد مقدما آخر، فجرد الأمير سيف الدين الجي بغا العادلي. وخرج من دمشق يوم دخلها الركب في سادس عشرين المحرم، وأمر أن يسير إلى إيلة ليجتمع مع المصريين، وأن يسيروا جميعا إلى الحجاز.

وفي يوم الأربعاء تاسع صفر وصل نهر الساجور إلى مدينة حلب، وخرج نائب حلب أرغون ومعه الأمراء مشاة إليه في تهليل وتكبير وتحميد، يتلقون هذا النهر، ولم يكن أحد من المعالي ولا غيرهم أن يتكلم بغير ذكر الله تعالى. وفرح الناس بوصوله إليهم فرحا شديدا، وكانوا قد وسعوا في تحصيله من أماكن بعيدة احتاجوا فيها إلى نقب الجبال، وفيها صخور ضخام وعقدوا له قناطر على الأودية، وما وصل إلا بعد جهد جهيد، وأمر شديد، فلله الحمد وحده لا شريك له.

وحين رجع نائب حلب أرغون مرض مرضا شديدا ومات رحمه الله.

وفي سابع صفر وسع تنكز الطرقات بالشام ظاهر باب الجابية، وخرب كل ما يضيق الطرقات.

وفي ثاني ربيع الأول لبس علاء الدين القلانسي خلعة سنية لمباشرة نظر الدواوين ديوان ملك الأمراء، وديوان نظر المارستان، عوضا عن ابن العادل، ورجع ابن العادل إلى حجابة الديوان الكبير.

وفي يوم ثاني ربيع الأول لبس عماد الدين بن الشيرازي خلعة نظر الأموي عوضا عن ابن مراجل عزل عنه لا إلى بدل عنه، وباشر جمال الدين بن القويرة نظر الأسرى بدلا عن ابن الشيرازي.

وفي يوم الخميس آخر ربيع الأول لبس القاضي شرف الدين بن عبد الله بن شرف الدين حسن ابن الحافظ أبي موسى عبد الله ابن الحافظ عبد الغني المقدسي خلعة قضاء الحنابلة عوضا عن عز الدين بن التقي سليمان، توفي رحمه الله، وركب من دار السعادة إلى الجامع، فقرئ تقليده تحت النسر بحضرة القضاة والأعيان، ثم ذهب إلى الجوزية، فحكم بها ثم إلى الصالحية وهو لابس الخلعة، واستناب يومئذ ابن أخيه النقي عبد الله بن شهاب الدين أحمد.

وفي سلخ ربيع الآخر اجتاز الأمير علاء الدين الطنبغا بدمشق وهو ذاهب إلى بلاد حلب نائبا عليها، عوضا عن أرغون، توفي إلى رحمة الله، وقد تلقاه النائب والجيش.

وفي مستهل جمادى الأولى حضر الأمير الشريف رميثة بن أبي نمي إلى مكة، فقرئ تقليده بإمرة مكة من جهة السلطان، صحبة التجريدة، وخلع عليه وبايعه الأمراء المجردون من مصر والشام داخل الكعبة، وقد كان وصول التجاريد إلى مكة في سابع ربيع الأول، فأقاموا بباب المعلى، وحصل لهم خير كثير من الصلاة والطواف، وكانت الأسعار رخيصة معهم.

وفي يوم السبت سابع ربيع الآخر خلع على القاضي عز الدين بن بدر الدين بن جماعة بوكالة السلطان ونظر جامع طولون ونظر الناصرية، وهنأه الناس عوضا عن التاج ابن إسحاق عبد الوهاب، توفي ودفن بالقرافة.

وفي هذا الشهر تولى عماد الدين ابن قاضي القضاة الاخنائي تدريس الصارمية وهو صغير بعد وفاة النجم هاشم بن عبد الله البعلبكي الشافعي، وحضرها في رجب وحضر عنده الناس خدمة لأبيه.

وفي حادي عشرين جمادى الآخرة رجعت التجريدة من الحجاز صحبة الأمير سيف الدين الجي بغا، وكانت غيبتهم خمسة أشهر وأياما وأقاموا بمكة شهرا واحدا ويوما واحدا وحصل للعرب منهم رعب شديد، وخوف أكيد، وعزلوا عن مكة عطية، وولوا أخاه رميثة وصلّوا وطافوا واعتمروا، ومنهم من أقام هناك ليحج.

وفي ثاني رجب خلع على ابن أبي الطيب بنظر ديوان بيت المال عوضا عن ابن الصاين توفي.

وفي أوائل شعبان حصل بدمشق هواء شديد مزعج كسر كثيرا من الأشجار والأغصان، وألقى بعض الحيطان والجدران، وسكن بعد ساعة بإذن الله، فلما كان يوم تاسعه سقط برد كبار مقدار بيض الحمام، وكسر بعض جامات الحمام.

وفي شهر شعبان هذا خطب بالمدرسة المعزية على شاطئ النيل أنشأها الأمير سيف الدين طغزدمر، أمير مجلس الناصري، وكان الخطيب عز الدين عبد الرحيم بن الفرات الحنفي.

وفي نصف رمضان قدم الشيخ تاج الدين عمر بن علي بن سالم الملحي ابن الفاكهاني المالكي، نزل عند القاضي الشافعي، وسمع عليه شيئا من مصنفاته، وخرج إلى الحج عامئذ مع الشاميين، وزار القدس قبل وصوله إلى دمشق.

وفي هذا الشهر وطأ سوق الخيل وركبت في حصبات كثيرة، وعمل فيه نحو من أربعمائة نفس في أربعة أيام حتى ساووه وأصلحوه، وقد كان قبل ذلك يكون فيه مياه كثيرة، وملقات.

وفيه: أصلح سوق الدقيق داخل باب الجابية إلى الثابتية وسقف عليه السقوف.

وخرج الركب الشامي يوم الاثنين ثامن شوال وأميره عز الدين أيبك، أمير علم، وقاضيه شهاب الدين الظاهري.

وممن حج فيه: شهاب الدين بن جهبل، وأبو النسر، وابن جملة، والفخر المصري، والصدر المالكي، وشرف الدين الكفوي الحنفي، والبهاء ابن إمام المشهد، وجلال الدين الأعيالي ناظر الأيتام، وشمس الدين الكردي، وفخر الدين البعلبكي، ومجد الدين ابن أبي المجد، وشمس الدين ابن قيم الجوزية، وشمس الدين ابن خطيب بيرة، وشرف الدين قاسم العلجوني، وتاج الدين ابن الفاكهاني، والشيخ عمر السلاوي، وكاتبه إسماعيل بن كثير، وآخرون من سائر المذاهب.

حتى كان الشيخ بدر الدين يقول: اجتمع في ركبنا هذا أربعمائة فقيه وأربع مدارس وخانقاه، ودار حديث، وقد كان معنا من المتفتيين ثلاثة عشر نفسا، وكان في المصريين جماعة من الفقهاء منهم قاضي المالكية تقي الدين الأخنائي، وفخر الدين النويري، وشمس الدين بن الحارثي، ومجد الدين الأقصرائي، وشيخ الشيوخ الشيخ محمد المرشدي.

وفي ركب العراق الشيخ أحمد السروجي أشد، وكان من المشاهير.

وفي الشاميين الشيخ علي الواسطي صحبة ابن المرجاني، وأمير المصريين مغلطاي الجمالي الذي كان وزيرا في وقت، وكان إذ ذاك مريضا، ومررنا بعين تبوك وقد أصلحت في هذه السنة، وصينت من دوس الجمال والجمالين، وصار ماؤها في غاية الحسن والصفاء والطيب، وكانت وقفة الجمعة ومطرنا بالطواف، وكانت سنة مرخصة آمنة.

وفي نصف ذي الحجة رجع تنكز من ناحية قلعة جعبر، وكان في خدمته أكثر الجيش الشامي، وأظهر أبهة عظيمة في تلك النواحي.

وفي سادس عشر ذي الحجة وصل توقيع القاضي علاء الدين بن القلانسي بجميع جهات أخيه جمال الدين بحكم وفاته مضافا إلى جهاته، فاجتمع له من المناصب الكبار ما لم يجتمع لغيره من الرؤساء في هذه الأعصار، فمن ذلك:

وكالة بيت المال، وقضاء العسكر، وكتابة الدست، ووكالة ملك الأمراء، ونظر البمارستان، ونظر الحرمين، ونظر ديوان السعيد، وتدريس الأمينية والظاهرية والعصرونية وغير ذلك انتهى.

من الأعيان:

قاضي القضاة عز الدين المقدسي

عز الدين أبو عبد الله بن محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر المقدسي الحنبلي.

ولد سنة خمس وستين وستمائة، وسمع الحديث واشتغل على والده واستنابه في أيام ولايته، فلما ولي ابن مسلم لزم بيته يحضر درس الجوزية ودار الحديث الأشرفية بالجبل ويأوي إلى بيته.

فلما توفي ابن مسلم ولي قضاء الحنابلة بعده نحوا من أربع سنين، وكان فيه تواضع وتودد وقضاء لحوائج الناس، وكانت وفاته يوم الأربعاء تاسع صفر، وكان يوما مطيرا، ومع هذا شهد الناس جنازته، ودفن بتربتهم رحمهم الله، وولي بعده نائبه شرف الدين ابن الحافظ، وقد قارب الثمانين.

وفي نصف صفر توفي:

الأمير سيف الدين قجليس

سيف النعمة، وقد كان سمع على الحجار ووزيره بالقدس الشريف.

وفي منتصف صفر توفي الأمير الكبير سيف الدين أرغون بن عبد الله الدويدار الناصري، وقد عمل على نيابة مصر مدة طويلة، ثم غضب عليه السلطان فأرسله إلى نيابة حلب، فمكث بها مدة ثم توفي بها في سابع عشر ربيع الأول، ودفن بتربة اشتراها بحلب، وقد كان عنده فهم وفقه، وفيه ديانة وأتباع للشريعة.

وقد سمع البخاري على الحجار وكتبه جميعه بخطه، وأذن له بعض العلماء في الإفتاء، وكان يميل إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية وهو بمصر، توفي ولم يكمل الخمسين سنة، وكان يكره اللهو رحمه الله.

ولما خرج يلتقي نهر الساجور خرج في ذل ومسكنة، وخرج معه الأمراء كذلك مشاة في تكبير وتهليل وتحميد، ومنع المغاني ومن اللهو واللعب في ذلك رحمه الله.

القاضي ضياء الدين أبو الحسن علي بن سليم بن ربيع

بن سليمان الأزرعي الشافعي، تنقل في ولاية الأقضية بمدارس كثيرة مدة ستين سنة، وحكم بطرابلس وعجلون وزرع وغيرها، وحكم بدمشق نيابة عن القونوي نحوا من شهر، وكان عنده فضيلة وله نظر كثير.

نظم (التنبيه) في نحو ست عشرة ألف بيت، وتصحيحها في ألف وثلاثمائة بيت، وله مدائح ومواليا وأزجال وغير ذلك، ثم كانت وفاته بالرملة يوم الجمعة ثالث عشرين ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة رحمه الله، وله عدة أولاد منهم عبد الرزاق أحد الفضلاء، وهو ممن جمع بين علمي الشريعة والطبيعة.

أبو دبوس عثمان بن سعيد المغربي

تملك في وقت بلاد قابس، ثم تغلب عليه جماعة فانتزعوها منه، فقصد مصر فأقام بها وأقطع إقطاعا، وكان يركب مع الجند في زي المغاربة متقلدا سيفا، وكان حسن الهيئة يواظب على الخدمة إلى أن توفي في جمادى الأولى.

الإمام العلامة ضيا الدين أبو العباس أحمد

بن قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي الشافعي، مدرّس الحسامية ونائب الحكم بمصر، وأعاد في أماكن كثيرة، وتفقه على والده، توفي في جمادى الآخرة وتولى الحسامية بعده ناصر الدين التبريزي.

الصدر الكبير تاج الدين الكارمي

المعروف بابن الرهايلي، كان أكبر تجار دمشق الكارمية وبمصر، توفي في جمادى الآخرة، يقال إنه خلف مائة ألف دينار غير البضائع والأثاث والأملاك.

الإمام العلامة فخر الدين عثمان بن إبراهيم

بن مصطفى بن سليمان بن المارداني التركماني الحنفي شرح فخر الدين هذا الجامع وألقاه دروسا في مائة كراس، توفي في رجب وله إحدى وسبعون سنة، كان شجاعا عالما فاضلا، وقورا فصيحا حسن المفاكهة، وله نظم حسن، وولي بعده المنصورية ولده تاج الدين.

تقي الدين عمر ابن الوزير شمس الدين

محمد بن عثمان بن السلعوس، كان صغيرا لما مات أبوه تحت العقوبة، ثم نشأ في الخدم ثم طلبه السلطان في آخر وقت فولاه نظر الدواوين بمصر. فباشره يوما واحدا وحضر بين يدي السلطان يوم الخميس، ثم خرج من عنده وقد اضطرب حاله فما وصل إلى منزله إلا في محفة، ومات بكرة يوم السبت سادس عشرين ذي القعدة، وصلّي عليه بجامع عمرو بن العاص، ودفن عند والده بالقرافة، وكانت جنازته حافلة.

جمال الدين أبو العباس

أحمد بن شرف الدين بن جمال الدين محمد بن أبي الفتح نصر الله بن أسد بن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي بن القلانسي، قاضي العساكر ووكيل بيت المال ومدرّس الأمينية وغيرها حفظ (التنبيه) ثم (المحرر) للرافعي، وكان يستحضره، واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وتقدم لطلب العلم والرئاسة، وباشر جهات كبارا.

ودرّس بأماكن وتفرد في وقته بالرياسة والبيت والمناصب الدينية والدنيوية، وكان فيه تواضع وحسن سمت وتودد وإحسان وبر بأهل العلم والفقراء والصالحين، وهو ممن أذن له في الإفتاء وكتب إنشاء ذلك وأنا حاضر على البديهة فأفاد وأجاد، وأحسن التعبير وعظم في عيني.

توفي يوم الاثنين ثامن عشرين ذي القعدة، ودفن بتربتهم بالسفح، وقد سمع الحديث على جماعة من المشايخ وخرج له فخر الدين البعلبكي مشيخة سمعناها عليه رحمه الله.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767