البداية والنهاية/الجزء السابع/فصل خطبة علي رضي الله عنه بعد انصرافه من النهروان
قال الهيثم بن عدي في كتابه الذي جمعه في الخوارج وهو من أحسن ما صنف في ذلك قال: وذكر عيسى بن دآب قال: لما انصرف علي رضي الله عنه من النهروان قام في الناس خطيبا، فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ﷺ.
أما بعد فإن الله قد أعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام.
فقاموا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين نفذت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنتنا، فانصرف بنا إلى مصرنا حتى نستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من فارقنا وهلك منا، فإنه أقوى لنا على عدونا - وكان الذي تكلم بهذا الأشعث بن قيس الكندي - فبايعهم وأقبل بالناس حتى نزل بالنخيلة، وأمرهم أن يلزموا معسكرهم ويوطنوا أنفسهم على جهاد عدوهم، ويقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم، فأقاموا معه أياما متمسكين برأيه وقوله، ثم تسللوا حتى لم يبق منهم أحد إلا رؤوس أصحابه.
فقام علي فيهم خطيبا فقال: الحمد لله فاطر الخلق وفالق الأصباح وناشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وأوصيكم بتقوى الله، فإن أفضل ما توسل به العبد الإيمان، والجهاد في سبيله، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقام الصلاة، فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها من فريضته، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من عذابه، وحج البيت فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنب.
وصلة الرحم فإنها مثراة في المال، منسأة في الأجل، محبة في الأهل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنع المعروف فإنه يدفع ميتة السوء ويقي مصارع الهول.
أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقون فإن وعد الله أصدق الوعد، واقتدوا بهدي نبيكم ﷺ فإنه أفضل الهدى، واستسنوا بسنته فإنها أفضل السنن.
وتعلموا كتاب الله فإنه أفضل الحديث، وتفقهوا في الدين فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص.
وإذا قرىء عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الجائر الذي لا يستقيم عن جهله.
بل قد رأيت أن الحجة أعظم، والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما مضلل مثبور.
لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا، ولا تذهلوا في الحق فتخسروا.
ألا وإن من الحزم أن تثقوا، ومن الثقة أن لا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه، من يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخف ويندم.
ثم سلوا الله اليقين وارغبوا إليه في العافية، وخير ما دام في القلب اليقين، إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها، وكل محدث بدعة، وكل محدث مبتدع، ومن ابتدع فقد ضيع.
وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة المغبون من غبن دينه، والمغبون من خسر نفسه.
وإن الريا من الشرك، وإن الإخلاص من العمل والإيمان، ومجالس اللهو تنسي القرآن ويحضرها الشيطان، وتدعو إلى كل غي، ومجالسة النساء تزيغ القلوب وتطمح إليه الأبصار، وهي مصائد الشيطان.
فأصدقوا الله فأن الله مع من صدق، وجانبوا الكذب فإن الكذب مجانب للإيمان، ألا إن الصدق على شرف منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف رديء وهلكه.
ألا وقولوا الحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم.
وإذا عاهدتم فأوفوا، وإذا حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا تمازحوا، ولا يغضب بعضكم بعضا.
وأعينوا الضعيف، والمظلوم، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب، وارحموا الأرملة واليتيم، وأفشوا السلام، وردوا التحية على أهلها بمثلها أو بأحسن منها.
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [المائدة: 2] وأكرموا الضيف، وأحسنوا إلى الجار، وعودوا المرضى، وشيعوا الجنائز، وكونوا عباد الله إخوانا.
أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أظلت وأشرفت بإطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق، وإن السبقة الجنة والغاية النار.
ألا وإنكم في أيام مهل من ورائها أجل يحثه عجل، فمن أخلص لله عمله في أيام مهله قبل حضور أجله فقد أحسن عمله ونال أمله، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وخاب أمله، وضره أمله، فاعملوا في الرغبة والرهبة، فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة.
وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة، فإن الله قد تأذن المسلمين بالحسنى، ولمن شكر بالزيادة.
وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ولا أكثر مكتسبا من شيء كسبه ليوم تدخر فيه الدخائر، وتبلى فيه السرائر، وتجتمع في الكبائر، وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك، ومن لا ينفعه حاضره فعازبه عنه أعور، وغائبه عنه أعجز، وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد.
ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل، واتباع الهوى.
فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم، ولا تكونوا من بني الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
وهذه خطبة بليغة نافعة جامعة للخير، ناهية عن الشر.
وقد روي لها شواهد من وجوه أخر متصلة، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر ابن جرير: أن عليا رضي الله عنه لما نكل أهل العراق عن الذهاب إلى الشام خطبهم فوبخهم وأنبهم وتوعدهم وهددهم وتلا عليهم آيات في الجهاد من سور متفرقة، وحث على المسير إلى عدوهم فأبوا من ذلك وخالفوا ولم يوافقوه، واستمروا في بلادهم، وتفرقوا عنه هاهنا وهاهنا، فدخل على الكوفة.