البداية والنهاية/الجزء السابع/وقعة جسر أبي عبيد ومقتل أمير المسلمين وخلق كثير منهم
لما رجع الجالينوس هاربا مما لقي من المسلمين، تذامرت الفرس بينهم، واجتمعوا إلى رستم فأرسل جيشا كثيفا عليهم ذا الحاجب بهمس حادويه وأعطاه راية أفريدون وتسمى: درفش كابيان، وكانت الفرس تتيمن بها.
وحملوا معهم راية كسرى، وكانت من جلود النمور عرضها ثمانية أذرع.
فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر، وعليه جسر فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم؟
فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: أأمرهم فليعبروا هم إلينا.
فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا، ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله المسلمون في نحو من عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفيلة كثيرة عليها الجلاجل، قائمة لتذعر خيول المسلمين فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر.
وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة ورشقتهم الفرس بالنبل، فنالوا منهم خلقا كثيرا، وقتل المسلمون منه مع ذلك ستة آلاف.
وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولا، فاحتوشوها فقتلوها عن آخرها، وقد قدمت الفرس بين أيديهم فيلا عظيما أبيض، فتقدم إليه أبو عبيد فضربه بالسيف فقطع ذلومه فحمى الفيل، وصاح صيحة هائلة وحمل فتخبطه برجليه فقتله ووقف فوقه فحمل على الفيل خليفة أبي عبيد الذي كان أوصى أن يكون أميرا بعده فقتل، ثم آخر ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد، ثم صارت إلى المثنى بن حارثة بمقتضى الوصية أيضا.
وقد كانت دومة امرأة أبي عبيد رأت مناما يدل على ما وقع سواء بسواء.
فلما رأى المسلمون ذلك وهنوا عند ذلك، ولم يكن بقي إلا الظفر بالفرس، وضعف أمرهم، وذهب ريحهم، وولوا مدبرين، وساقت الفرس خلفهم فقتلوا بشرا كثيرا وانكشف الناس فكان أمرا بليغا، وجاؤا إلى الجسر فمر بعض الناس.
ثم انكسر الجسر فتحكم فيمن وراءه الفرس، فقتلوا من المسلمين وغرق في الفرات نحو من أربعة آلاف. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وسار المثنى بن حارثة فوقف عند الجسر الذي جاؤا منه، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق.
فنادى المثنى: أيها الناس على هينتكم فإني واقف على فم الجسر لا أجوزه حتى لا يبقى منكم أحد ههنا، فلما عدّى الناس إلى الناحية الأخرى، سار المثنى فنزل بهم أول منزل، وقام يحرسهم هو وشجعان المسلمين، وقد جرح أكثرهم وأثخنوا.
ومن الناس من ذهب في البرية لا يُدري أين ذهب، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية مذعورا.
وذهب بالخبر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب فوجده على المنبر، فقال له عمر: ما وراءك يا عبد الله بن زيد؟
فقال: أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه المنبر فأخبره الخبر سرا.
ويقال: كان أول من قدم بخبر الناس عبد الله بن يزيد بن الحصين الحطمي فالله أعلم.
قال سيف بن عمر: وكانت هذه الوقعة في شعبان من سنة ثلاث عشرة بعد اليرموك بأربعين يوما فالله أعلم.
وتراجع المسلمون بعضهم إلى بعض، وكان منهم من فر إلى المدينة، فلم يؤنب عمر الناس، بل قال: إنا فيئكم، وأشغل الله المجوس بأمر ملكهم.
وذلك أن أهل المدائن عدوا على رستم فخلعوه ثم ولوه، وأضافوا إليه الفيرزان، واختلفوا على فرقتين، فركب الفرس إلى المدائن ولحقهم المثنى بن حارثة في نفر من المسلمين، فعارضه أميران من أمرائهم في جيشهم، فأسرهما وأسر معهما بشرا كثيرا فضرب أعناقهم.
ثم أرسل المثنى إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يستمدهم، فبعثوا إليه بالأمداد، وبعث إليه عمر بن الخطاب بمدد كثير فيهم جرير بن عبد الله البجلي، في قومه بجلية بكمالها، وغيره من سادات المسلمين حتى كثر جيشه.