البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل الدلائل على إخباره صلى الله عليه وسلم بما وقع
وأما الأحاديث الدالة على إخباره بما وقع كما أخبر فمن ذلك ما أسلفناه في قصة الصحيفة التي تعاقدت فيها بطون قريش وتمالأوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يؤووهم، ولا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله ﷺ فدخلت بنو هاشم وبنو عبد المطلب بمسلمهم وكافرهم شعب أبي طالب آنفين لذلك، ممتنعين منه أبدا ما بقوا دائما ما تناسلوا وتعاقبوا، وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية التي يقول فيها:
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا * ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا * يحوط الذمار غير درب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وكانت قريش قد علقت صحيفة الزعامة في سقف الكعبة، فسلط الله عليها الأرضة فأكلت ما فيها من أسماء الله لئلا يجتمع بما فيها من الظلم والفجور، وقيل: إنها أكلت ما فيها إلا أسماء الله - عز وجل - فأخبر بذلك رسول الله ﷺ عمه أبو طالب.
فجاء أبو طالب إلى قريش فقال: إن ابن أخي قد أخبرني بخبر عن صحيفتكم فإن الله قد سلط عليها الأرضة فأكلتها إلا ما فيها من أسماء الله - أو كما قال: - فأحضروها فإن كان كما قال وإلا أسلمته إليكم، فأنزلوها ففتحوها فإذا الأمر كما أخبر به رسول الله ﷺ فعند ذلك نقضوا حكمها ودخلت بنو هاشم وبنو المطلب مكة، ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك كما أسلفنا ذكره، ولله الحمد.
ومن ذلك حديث خباب بن الأرت حين جاء هو وأمثاله من المستضعفين يستنصرن النبي ﷺ وهو يتوسد رداءه في ظل الكعبة فيدعو لهم لما هم فيه من العذاب والإهانة فجلس محمرا وجهه وقال: « إن من كان قبلكم كان أحدهم يشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر ولكنكم تستعجلون ».
ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري: ثنا محمد بن العلاء، ثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله ابن أبي بردة، عن أبيه، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى أراه عن النبي ﷺ قال: « رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض فيها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرا والله خير فإذا هم المؤمنون يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي أتانا بعد يوم بدر ».
ومن ذلك قصة سعد بن معاذ مع أمية بن خلف حين قدم عليه مكة. قال البخاري: ثنا أحمد بن إسحاق، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد.
فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت فبينا سعد يطوف فإذا أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟
فقال سعد: أنا سعد.
فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟
فقال: نعم، فتلاحيا بينهما.
فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.
ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام.
قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك وجعل يمسكه.
فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمد ﷺ يزعم أنه قاتلك.
قال: إياي؟
قال: نعم.
قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟
قالت: وما قال لك؟
قال: زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي.
قالت: فوالله ما يكذب محمدا.
قال: فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ.
قالت له امرأته: ما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟
قال: فأراد أن لا يخرج.
فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي فسر يوما أو يومين، فسار معهم فقتله الله.
وهذا الحديث من أفراد البخاري، وقد تقدم بأبسط من هذا السياق.
ومن ذلك قصة أبي بن خلف الذي كان يعلف حصانا له فإذا مر برسول الله ﷺ يقول: إني سأقتلك عليه.
فيقول له رسول الله ﷺ: « بل أنا أقتلك إن شاء الله ».
فقتله يوم أحد كما قدمنا بسطه.
ومن ذلك إخباره عن مصارع القتلى يوم بدر كما تقدم الحديث في الصحيح أنه جعل يشير قبل الوقعة إلى محلها ويقول: « هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان ».
قال: فوالذي بعثه بالحق ما حاد أحد منهم عن مكانه الذي أشار إليه رسول الله ﷺ.
ومن ذلك قوله لذلك الرجل الذي كان لا يترك للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها ففراها بسيفه وذلك يوم أحد، وقيل: خيبر - وهو الصحيح - وقيل: في يوم حنين -.
فقال الناس: ما أغنى أحد اليوم ما أغنى فلان - يقال: إنه قرمان -.
فقال: « إنه من أهل النار ».
فقال بعض الناس: أنا صاحبه فاتبعه فجرح فاستعجل الموت فوضع ذباب سيفه في صدره ثم تحامل عليه حتى أنفذه فرجع ذلك الرجل فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقال: « وما ذاك؟ »
فقال: إن الرجل الذي ذكرت آنفا كان من أمره كيت وكيت، فذكر الحديث كما تقدم.
ومن ذلك إخباره عن فتح مدائن كسرى وقصور الشام، وغيرها من البلاد يوم حفر الخندق لما ضرب بيده الكريمة تلك الصخرة فبرقت من ضربه، ثم أخرى، ثم أخرى كما قدمنا.
ومن ذلك إخباره ﷺ عن ذلك الذراع أنه مسموم، فكان كما أخبر به اعترف إليه بذلك، ومات - من أكل معه - بشر بن البراء بن معرور.
ومن ذلك ما ذكره عبد الرزاق عن معمر أنه بلغه أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم: « اللهم نج أصحاب السفينة ».
ثم مكث ساعة ثم قال: « قد استمرت » والحديث بتمامه في دلائل النبوة للبيهقي، وكانت تلك السفينة قد أشرفت على الغرق وفيها الأشعريون الذين قدموا عليه - وهو بخيبر -.
ومن ذلك إخباره عن قبر أبي رغال حين مر عليه وهو ذاهب إلى الطائف وأن معه غصنا من ذهب، فحفروه فوجدوه كما أخبر- صلوات الله وسلامه عليه -.
رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن بحر ابن أبي بحر، عن عبد الله بن عمرو به.
ومن ذلك قوله عليه السلام للأنصار لما خطبهم تلك الخطبة مسليا لهم عما كان وقع في نفوس بعضهم من الإيثار عليهم في القسمة لما تألف قلوب من تألف من سادات العرب ورؤوس قريش وغيرهم فقال: « أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم ».
وقال: « إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ».
وقال: « إن الناس يكثرون وتقل الأنصار ».
وقال لهم في الخطبة قبل هذه على الصفا: « بل المحيا محياكم، والممات مماتكم ».
وقد وقع جميع ذلك كما أخبر به سواء بسواء.
وقال البخاري: ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب قال: وأخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وقال البخاري: ثنا قبيصة، ثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة رفعه: « إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده » وقال: « لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث جرير، وزاد البخاري وابن عوانة، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير به، وقد وقع مصداق ذلك بعده في أيام الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، استوثقت هذه الممالك فتحا على أيدي المسلمين، وأنفقت أموال قيصر ملك الروم وكسرى ملك الفرس في سبيل الله على ما سنذكره بعد إن شاء الله.
وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمسلمين، وهي أن ملك فارس قد انقطع فلا عودة له، وملك الروم للشام قد زال عنها فلا يملوكها بعد ذلك، ولله الحمد والمنة.
وفيه دلالة على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، والشهادة لهم بالعدل حيث أنفقت الأموال المغنومة في زمانهم في سبيل الله على الوجه المرضي الممدوح.
وقال البخاري: ثنا محمد بن الحكم، ثنا النضر، ثنا إسرائيل، ثنا سعد الطائي، أنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي ﷺ إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل.
فقال: « يا عدي هل رأيت الحيرة؟ »
قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.
قال: « فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ما تخاف أحدا إلا الله عز وجل » - قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟ - « ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى »
قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: « كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقولن له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وولدا وأفضلت عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يسارة فلا يرى إلا جهنم ».
قال عدي: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجد فبكلمة طيبة ».
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة فلا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم ﷺ يخرج ملء كفه.
ثم رواه البخاري عن عبيد الله بن محمد - هو أبو بكر ابن أبي شيبة - عن أبي عاصم النبيل، عن سعدان بن بشر، عن أبي مجاهد - سعد الطائي -، عن محل عنه به.
وقد تفرد به البخاري من هذين الوجهين.
ورواه النسائي من حديث شعبة عن محل عنه: « إتقوا النار ولو بشق تمرة ».
وقد رواه البخاري من حديث شعبة ومسلم من حديث زهير، كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مغفل، عن عدي مرفوعا: « اتقوا النار ولو بشق تمرة ».
وكذلك أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش عن خيثمة عن عبد الرحمن، عن عدي.
وفيها من حديث شعبة عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن عدي به.
وهذه كلها شواهد لأصل هذا الحديث الذي أوردناه، وقد تقدم في غزوة الخندق بفتح مدائن كسرى وقصوره وقصور الشام وغير ذلك من البلاد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل عن قيس، عن خباب قال: أتينا رسول الله ﷺ وهو في ظل الكعبة متوسدا بردة له فقلنا: يا رسول الله أدع الله لنا واستنصره.
قال: فاحمر لونه أو تغير فقال: « لقد كان من قبلكم تحفر له الحفيرة ويجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيشق ما يصرفه عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم أو لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون ».
وهكذا رواه البخاري عن مسدد ومحمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد به.
ثم قال البخاري في كتاب علامات النبوة: حدثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا ليث عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي الحسين، عن عتبة، عن النبي ﷺ أنه خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال: « أنا فرطكم وأنا شهيد عليكم، إني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا، ولكني أخاف أن تنافسوا فيها ».
وقد رواه البخاري أيضا من حديث حيوة بن شريح، ومسلم من حديث يحيى بن أيوب، كلاهما عن يزيد ابن أبي حبيب كرواية الليث عنه.
ففي هذا الحديث مما نحن بصدده أشياء:
منها أنه أخبر الحاضرين أنه فرطهم أي المتقدم عليهم في الموت، وهكذا وقع فإن هذا كان في مرض موته عليه السلام.
ثم أخبر أنه شهيد عليهم، وإن تقدم وفاته عليهم.
وأخبر أنه أعطي مفاتيح خزائن الأرض، أي فتحت له البلادكما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم قال أبو هريرة: فذهب رسول الله ﷺ وأنتم تفتحونها كفرا كفرا، أي بلدا بلدا.
وأخبر أن أصحابه لا يشركون بعده، وهكذا وقع ولله الحمد والمنة.
ولكن خاف عليهم أن ينافسوا في الدنيا، وقد وقع هذا في زمان علي ومعاوية رضي الله عنهما ثم من بعدهما، وهلم جرا إلى وقتنا هذا.
ثم قال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، أنا أزهر بن سعد، أنا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس بن مالك عن أنس أن النبي ﷺ افتقد ثابت بن قيس.
فقال رجل: يا رسول الله أعلم لك علمه.
فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه فقال: ما شأنك؟
فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي - ﷺ - فقد حبط عمله وهو من أهل النار.
فأتى الرجل فأخبره أنه قال: كذا وكذا.
قال موسى: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: « إذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة ».
تفرد به البخاري، وقد قتل ثابت بن قيس بن شماس شهيدا يوم اليمامة، كما سيأتي تفصيله.
وهكذا ثبت في الحديث الصحيح البشارة لعبد الله بن سلام أنه يموت على الإسلام ويكون من أهل الجنة، وقد مات رضي الله عنه على أكمل أحواله وأجملها، وكان الناس يشهدون له بالجنة في حياته لأخبار الصادق عنه بأنه يموت على الإسلام، وكذلك وقع.
وقد ثبت في الصحيح الإخبار عن العشرة بأنهم من أهل الجنة، بل ثبت أيضا الإخبار عنه - صلوات الله وسلامه عليه - بأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، وقيل: وخمسمائة، ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء رضي الله عنه عاش إلا حميدا، ولا مات إلا على السداد والاستقامة والتوفيق، ولله الحمد والمنة.
وهذا من أعلام النبوات ودلالات الرسالة.