التاج في أخلاق الملوك/باب في صفة ندماء الملك/رد على العامة

رد على العامة

والعامة تضع هذا وما أشبهه في غير موضعه؛ وإنما هو شيء ألقاه الشيطان في قلوبهم، وأجراه على ألسنتهم، حتى قلوا في نحوٍ من هذا في البائع والمشتري: المغبون لا محمود ولا مأجور. فحملوا الجهلة على المنازعة للباعة، والمشاتمة للسفلة والسوقة، والمقاذفة للرعاع والوضعاء، والنظر في قيمة حبةٍ، والاطلاع في لسان الميزان، وأخذ المعايير بالأيدي.

وبالحرى أن يكون المغبون محموداً ومأجوراً، اللهم إلا أن يكون قال له: اغبني. بل لو قالها، كانت أكرومة وفضيلة، وفعلةً جميلة تدل على كرم عنصر القائل، وطيب مركبه.

ولذلك قالت العرب: السرو التغافل.

وأنت لا تجد أبداً أحداً يتغافل عن ماله إذا خرج، وعن مبايعته إذا غبن، وعن التقصي إذا بخس، إلا وجدت له في قلبك فضيلةً وجلالةً ما تقدر على دفعها.

وكذا أدبنا نبينا ، فقال: يرحم الله سهل الشراء، سهل البيع، سهل القضاء، سهل التقاضي. وهذا الأدب خارج من قولهم: المغبون لامحمود ولا مأجور.

وقال معاوية في نحوٍ من هذا: إني لأجر ذيلي على الخدائع.

وقال الحسن عليه السلام: المؤمن لا يكون مكاساً.

وفيما يحكى عن سليمان بن عبد الملك أنه خرج في حياة أبيه لمتنزهه، فبسط له في صحراء، فتغدى مع أصحابه، فلما حان انصرافه، تشاغل غلمانه بالترحال، وجاء أعرابي، فوجد منهم غفلةً، فأخذ دواج سليمان، فرمى به على عاتقه، وسليمان ينظر إليه.

فبصر به بعض حشمه، فصاح به: ألق ما عليك! فقال الأعرابي: لا لعمري! لا ألقيه ولا كرامة! هذا كسوة أمير المؤمنين وخلعته.

فضحك سليمان، وقال: صدق، أنا كسوته. فمر كأنه إعصار الريح.

وأحسن من هذا ما فعله جعفر بن سليمان بن علي بالأمس، وقد عثر برجلٍ سرق درةً رائعةً، أخذها من بين يديه.

فطلبت بعد أيامٍ، فلم توجد. فباعها الرجل ببغداد، وقد كانت وصفت لأصحاب الجوهر. فأخذ وحمل إلى جعفر، فلما بصر به، استحيا منه، وقال: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني، فوهبتها لك؟ قال: بلى.

قال: لاتعرضوا له. فباعها بمائتي ألف درهم.



التاج في أخلاق الملوك لعمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبي عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى عام 255هـ)

باب في الدخول على الملوك | دخول الأشراف | دخول الأوساط | كيفية الدخول على الملك | استقبال الملك للملوك | وداع الملك للملوك | باب في مطاعمة الملوك | المنصور والفتى الهاشمي | على مائدة اسحق بن ابراهيم | شرف مؤاكلة الملوك | بين معاوية والحسن بن علي | شره القضاة | الملك وضيوفه على المائدة | الحديث على المائدة | طبقات الندماء | في حضرة الملك | مراتب الندماء والمغنين | أقسام الناس | انقلاب الحال في عهد بهرام جور | في عهد الأمويين | الخليفة الأمين | الخليفة المأمون | أخلاق الملك السعيد | أنعام الملوك ومنتهم | العفو عند المقدرة | آداب البطانة مع الملوك | حديث الملك | بين معاوية والرهاوي | أقوال في حسن الاستماع | عود إلى أخلاق الملوك | معاقبة أنوشروان للخائن | عبد الملك والأشدق | الرشيد والبرامكة | مراعاة حرمة الملك | إغضاء البصر وخفض الصوت بحضرة الملك | في غياب الملك | مكافآت الملوك | باب في صفة ندماء الملك | عدة الملك في سفره أو نزهته | خلال الندماء وملاعبة الملوك | آداب الندماء عند نعاس الملك | إمامة الملك للصلاة | آداب مسايرة الملك | مسايرة الموبذ لقباذ | مسايرة شرحبيل لمعاوية | صاحب الشرطة والهادي | ما قاله الهاشمي للخراساني | عدم تسمية أو تكنية الملك | عند تشابه الأسماء | ما يتفرد به الملك في عاصمته | دعاء الملك وتعزيته | غضب الملك ورضاه | وعلى هذا أخلاق الملوك وصنيعهم | أسرار الملك | حفظ حرم الملك | امتحان من يطعن في المملكة | تقاضي الملك عن الصغائر | رد على العامة | إكرام الأوفياء | أدب سماع الملك ومحادثته | إعادة الحديث | أمارات الذهاب من مجلس الملك | اغتياب الآخرين أمام الملك | آداب رسول الملك | احتياط الملك | معاملة ابن الملك للملك | صلاح الجفوة في التأديب | صفات المقربين من الملك | سخاء الملك وحياؤه | اعتلال الملك | جوائز البطانة | هدايا المهرجان والنيروز | لهو الملوك وشربهم | زيارة الملوك لأخصانهم | استقبال الملوك للناس في الأعياد | عقوبة الملك الظالم | استقصاء أحوال الرعية | الملوك أمام الأمور الجليلة | الحرب خدعة | النهاية |