كثرة اختلاف الفلاسفة

وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره احد وقد ذكر ابو الحسن الاشعري في كتاب المقالات مقالات غير الاسلاميين عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وامثالهما وكذلك القاضي ابو بكر بن الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجدمين ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا انواعا من المقالات وردوها

ولكن مذهب الفلاسفة الذين نصره الفارابي وابن سينا وأمثالها كالسهروردي وردى المقتول على الزندقة وكأبي بكر بن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين اتباع ارسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب

مقاصد الفلاسفة وعليه رد في التهافت وهو الذي يذكره الرازي في الملخص و المباحث المشرقية ويذكره الامدى في دقائق الحقائق ورموز الكنوز وغير ذلك

وعلى طريقهم مشى ابو ابركات صاحب المعتبر لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله وكذلك الرازي والامدى يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما يسنح لهم وابن سينا ايضا قد يخالف الاولين في بعض ما ذكروه ولهذا ذكر في كتابه المسمى بالشفاء ان الحق الذي ثبت عنده ذكره في الحكمة المشرقية والسهروردي ذكر ما ثبت عنده في حكمة الاشراق والرازي في المباحث المشرقية

واتباع ارسطو من الاولين اشهرهم ثلاثة برقلس والاسكندر الافرديوسي وثامسطيوس صاحب الشروح والترجمة واذا قال الرازي في كتبه اتفقت الفلاسفة فهم هؤلاء والا فالفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والالهيات وفي الهيئة ايضا وقد ذكروا انه اول من قال منهم بقدم العالم ارسطو

وقد ذكر محمد بن يوسف العامري وهو من المصنفين في مذاهبم ان قدماءهم دخلوا الشام واخذوا عن اتباع الانبياء داود وسليمان وان فيثاغورس معلم سقراط اخذ عن لقمان الحكيم وسقراط هو معلم افلاطن وافلاطن معلم ارسطو

والمقصود هنا ان نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويبينون خطاهم فيما ذكروه في الحد والقياس جميعا كما يبينون خطأهم في الالهيات وغيرها ولم يكن احد من نظار المسلمين يلتفت الى طريقتهم بل المعتزلة والاشعرية والكرامية والشيعة وسائر طوائف النظر كانوا يعيبونها و يثبتون فسادها واول من خلط منطقهم بأصول المسلمين ابو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره

كلام النوبختي في الرد على المنطق

وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب اهل الكلام لكن اتفق اني رايت هذا الفصل اولا في كلام النوبختي فانه بعد ان ذكر طريقة ارسطو في المنطق قال

وقد اعترض قوم من متكلمي اهل الاسلام على اوضاع المنطق هذه وقالوا اما قول صاحب المنطق ان القياس لا يبنى من مقدمة واحدة فغلط لان القائل اذا اراد مثلا ان يدل على ان الانسان جوهر فقال استدل على نفس الشيء المطلوب من غير تقديم المقدمتين وهو ان يقول ان الدليل على ان الانسان جوهر انه يقبل المتضادات في ازمان مختلفة وليس يحتاج الى مقدمة ثانية هي قول القائل ان كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر لان دلالته على ان كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر هو نفس ما خولف فيه واراد الدلالة عليه لان الخاص داخل في العام فعلى ايهما دل استغنى عن الاخر وقد يستدل الانسان اذا شاهد الاثر على ان له مؤثرا والكتابة على ان لها كاتبا من غير ان يحتاج في استدلاله على صحة ذلك الى المقدمتين قالوا فنقول انه لا بد من مقدمتين فاذا ذكرت احداهما استغنى بمعرفة المخاطب بالاخرى فترك ذكرها لا لانه مستغن عنها

قلنا لسنا نجد مقدمتين كليتين يستدل بهما على صحة نتيجة لان القائل اذا قال الجوهر لكل حي والحيوة لكل انسان فتكون النتيجة ان الجوهر لكل انسان فسواء في العقول قول القائل الجوهر لكل حي وقوله لكل انسان

قلت معنى ذلك انا اذا قلنا كل انسان حي وكل حي جوهر كما يقولون كل انسان حيوان وكل حيوان جوهر او جسم فسواء في العقول علمنا بان كل انسان جوهر او جسم وعلمنا بأن كل حيوان جوهر او جسم فمن علم ان كل حيوان جوهر فقد علم ايضا ان كل إنسان جوهر

ومقصوده أنهم لا يجدون مقدمتين أوليتين بديهيتين يستدل بهما على شئ من موارد النزاع التي تحتاج الى البرهان بل لا بد ان يكون إحداهما او كلاهما غير بديهية ومتى قدر أنهما بديهيتان فاحداهما تكفى كما ذكره من المثال وإن قدرت إحداهما نظرية فهى التي يحتاج الى بيانها وإذا كانتا جميعا نظريتين احتيج الى بيانهما جميعا كما لو كانت ثلاث مقدمات وما يحتاج الى انه يستدل عليه ثم يستدل به وإنما يستدل إبتداء بما هو بين بنفسه كالبديهيات

قال ولا يجدون في المطالب العلمية ان المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما بل إذا كان الامر كذلك كانت إحداهما كافية

قال ونقول لهم أرونا مقدمتين أوليتين لا تحتاجان الى برهان يتقدمهما يستدل بهما على شئ مختلف فيه وتكون المقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيجة فاذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه

قال أبو محمد الحسن بن موسى النوبخي وقد سألت غير واحد من رؤسائهم ان يوجد بينة فما أوجد بينة

قال فما ذكره أرسطو طاليس غير موجود ولا معروف

قال وأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه وإذا كانا يصحان بقلب مقدماتهما حتى يعودا الى الشكل الاول فالكلام حينئذ في الشكل الاول هو الكلام فيهما

وذكر كلاما آخر ليس هذا موضعه ومقصوده ان سائر الاشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الاول إما بقياس الخلف الذي يتضمن إثبات الشئ بابطال نقيضه وإما بواسطة حكم نقيض القضية أو عكسها المستوى أو عكس نقيضها فبيان الاشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة مع انه لا حاجة اليها فان الشكل الاول يمكن ان يستعمل فيه جميع المواد الثبوتية والسلبية الكلية والجزئية وقد عرفت انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد اليه أولى وأحرى

والمقصود هنا ان هذه الامة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفظن لما في كلام اهل الباطل من الباطل ويرده وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيا وراية من غر تشاعر ولا تواطؤ

بطلان دعواهم ان النتائج النظرية تحتاج الى مقدمتين

وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه فان القياس مشتمل على مقدمتين صغرى وكبرى فالكبرى هي العامة والصغرى اخص منها كما إذا قلت كل نبيذ خمر وكل خمر حرام فان النبيذ المتنازع فيه اخص من الخمر والخمر اخص من الحرام فالاول هو الحد الاصغر والاخر هو الحد الاكبر والاوسط المتكرر فيهها هو الحد الاوسط وحاصل القياس إدراج خاص تحت عام

ومعلوم ان من علم العام فقد علم شموله لافراده ولكن قد يعزب عنه دخول بعض الافراد فيه إما لعزوب علمه بالعام او لعزوب علمه بالخاص كما مثله المنطقيون ابن سينا وغيره فيمن ظن ان هذه الدابة تحمل فيقال له اما تعلم ان هذه بغلة فيقول نعم ويقال له اما تعلم ان البغلة لا تحمل فحينئذ يتفطن لانها لم تحمل فهذا وان ذكر بشيء كان غافلا عنه لم يستفد بذلك علم ما لم يكن يعلمه فان لم يخطر بقلبه هذا لم يلزم من علمه بأنها بغلة انها لا تحمل

لكن هذا قد لا يحتاج الا الى مقدمة واحدة وهي التي يذكرها فانه ان كان يعلم ان هذه الدابة بغلة ونسى ان البغلة لا تحمل بحمل وهو قد جهل او نسى ان هذه بغلة عرف بهذه وحدها

وقد تنازع في هذا الموضع طائفتان ابن سينا ومن معه والرازي ومن معه وسبب نزاعهما الاصل الفاسد الذي اخذوه تقليدا لارسطو فقال ابن سينا لا بد مع المقدمتين من التفطن لاندراج الخاص تحت العام ومثله بهذا فقال قد يكون الرجل يعلم ان هذه الدابة المعينة بغلة ويعلم ان البغلة لا تحمل لكن يذهل عن دخول هذا المعين تحت ذلك العام فاذا تفطن لذلك حصل النتاج والا فلا

وقال الرازي وهذا يقتضى انه لا بد من ثلاث مقدمات مقدمة بأن يعلم ان هذه بغلة ومقدمة ان البغلة لا تحمل ومقدمة ان هذا يتناول هذا واختار انه لا يحتاج الا الى مقدمتين ان هذه بغلة وان البغلة لا تحمل وانه اذا كان غافلا عن هذه الكلية لم يكن عالما بها بالفعل فاذا صار عالما بها بالفعل بحيث تكون حاضرة في ذهنه امتنع مع ذلك ان لا يعلم ان هذه البغلة لا تحمل

وفصل الخطاب ان المطلوب قد يحتاج الى مقدمة والى اثنتين والى ثلاث والى اربع فأصل الاضطراب دعواهم ان النتائج النظرية تحتاج الى مقدمتين وتكفى فيها مقدمتان فجعلوا لا بد في كل مطلوب نظري من مقدمتين وادعوا انه يكفى في كل مطلوب نظري مقدمتان وكلا الامرين باطل

فالشخص المعين إذا راى دابة وظنها حاملا إن كان ممن لم يعلم أنها بغلة ولم يعلم أن البغال عقم او يعلم الامرين ونسيهها او نسى احدهما وجهل الاخر فانه يحتاج الى العلم بمقدمتين وتذكر المنسي نوع من العلم يحتاج ان يعلم انها بغلة ويعلم ان البغلات لا يحملن وإن كان يعلم ان البغلة لا تحمل لكن لم يعرف انها بغلة احتاج الى مقدمة واحدة فاذا قيل له هذه بغلة فاذا عرف انها بغلة وفي نفسه معلوم ان البغلة لا تحمل علم ان هذه المعينة لا تحمل وإن كان يعلم ان هذه بغلة وقد علم قديما ان البغلة لا تحمل لكن عزب هذا العلم عن ذهنه في هذا الوقت ونسيه فهذا قد نسى علمه والنسيان من اضداد العلم فاذا ذكر بعلمه ذكره فاذا ذكر أن البغلة لا تحمل حصل له مقدمة واحدة

والعلم يحصل بالعلم بالدليل لمن لم يكن عالما به قط ولمن يذكره بعد النسيان إذا كان قد علمه ثم نسيه ولهذا قال سبحانه أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنينها وزينها وما لها من فروج والارض مددنها والقينا فيها رواسي وأنبتنا فيه من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ق فبين سبحانه ان آياته تبصرة وتذكرة فالتبصرة بعد العمى وهو الجهل والتذكرة بعد النسيان وهو ضد العلم

وهؤلاء لما تقلدوا قول من يقول إنه لا بد من مقدمتين وبهما يحصل النتاج فرأى بعضهم ان المقدمتين معلومتان لهذا الظان أن هذه البغلة حامل مع عدم العلم قال فلا بد من التفطن فيقال له ما ذكرته من التفطن هو الذي يحتاج اليه هذا لا يحتاج الى شئ من المقدمات غير هذه وهذا التفطن هو تذكر ما نسيه وهو مقدمة واحدة

ومن قال إن هذا هو إحدى المقدمتين فقد أصاب في ذلك لكن يقال له لا تحتاج إلا الى هذه المقدمة فقط لا تحتاج الى غيرها وهذا الظان متى حضر في ذهنه أن هذه بغلة وان البغلة لا تحمل لزم قطعا ان يحضر في ذهنه انها لا تحمل

فالمدلول لازم للدليل فمتى تصور الانسان الدليل ولزوم المدلول له تصور المدلول فاذا تصور انها بغلة وتصور لازم ذلك وهو نفى الحمل عن البغلة تصور قطعا نفيه عن هذه فأما مجرد الدليل بدون تصور لزوم المدلول له فلا يحصل به العلم واللوازم البين لزومها للدليل تعلم بمجرد العلم به وبلزومها له واللوازم الخفية التي يفتقر العلم بلزومها الى وسط وهو دليل ثان على اللزوم يقف على ذلك والاذهان في هذا متفاوقة فقد يحتاج هذا الذهن في معرفة اللزوم الى وسط وهو الدليل والاخر لا يحتاج اليه

وقد تنازع النظار في العلم الحاصل بالدليل هل هو لزومه عن الدليل لزوما عاديا كما يقولونه في الشبع مع الاكل أو لزوما عقليا يسمى التضمن بحيث لا يمكن الانفكاك عنه كما يمتنع وجود العلم والارادة بدون الحيوة

والاول قول قدماء النظار كالاشعري وغيره ولهذا جعله المعتزلة من باب التولد وهذا كالرؤية مع التحديق وكالسمع مع الاصغاء وإلا فحصول العلم بالدليل دون المدلول عليه ليس ممتنعا لذاته بل الاول سبب للثاني ومقتض له وموجب له بحكم سنة الله تعالى في عباده بخلاف الحيوة مع العلم فان الاول شرط للثاني ولهذا كان العلم يوجد مع الحيوة ليست الحيوة متقدمة عليه كما يتقدم العلم بالدليل على العلم بالمدلول عليه

ونظار المسلمين مع تنازعهم في هذا متفقون على ان الدليل مقدمة واحدة كما ذكرناه وما ذكروه من البغلة موجود في سائر النظريات فان الانسان قد يعلم الخاص ولا يعلم العام وقد يعلم العام ولا يعلم الخاص كما قد يعلم ان هذه بغلة ولا يعلم ان البغلة لا تحمل وقد يعلم أن البغلة لا تحمل ولا يعلم ان هذه بغلة ولا يجب ان يكون علمه بالخاص مقدما على العام ولا متاخرا بل قد يتفق في بعض الناس علمه بالخاص قبل العام وفي بعض الناس يعلم العام قبل الخاص

وكذلك المعينات وذلك أن علمه بأن هذه البغلة لا تحمل كعلمه بأن هذه لا تحمل وبأن هذه لا تحمل فلا يجب أن يعلم ان هذا المعين مثل هذا المعين بل قد يعلم احد المعينين ولا يعلم الاخر ولا يجب ان يكون علمه بالمعينات قبل علمه بالقضية العامة ولا ان يكون بالمعينات أعلم ولا يجب ان يكون بالقضية العامة الكلية التي يستفيد بها العلم بحكم الققضايا المعينة اعلم منه بوصف القضايا المعينة أي لا يجب ان يكون علمه بأن كل بغلة لا تحمل اقوى ولا يجب ان يكون العلم العام الذي يفيده علم المعينات في نفسه اسبق من علم معين علم به انها بغلة أي العلم بأن البغلة لا تحمل لا يجب ان يكون اقوى ولا اسبق في الذهن من العلم بأن هذه الدابة بغلة بل قد يجهل انها بغلة كما قد يجهل أن البغلة لا تحمل فاذا قدر انه يعلم ان البغلة لا تحمل ومستنده في ذلك ما اشتهر من خبر الناس فذلك يتناول المعين كتناوله لما هو اعم منه مثل تناوله للبغلات الحمراء والسوداء ولما تكون امه اتانا فلو خطر له ان ما تكون امه اتانا وابوه حصانا يحمل قيل له اما تعلم ان هذا البغلة وان البغلة لا تحمل

وان كان مستنده في ان البغلة لا تحمل هو تجربته فالتجربة لا تكون عامة وانما جرب ذلك في بغلات معينة فما به يعلم مساواة سائر البغلات لها يعلم مساواة هذه البغلة لها

واعتبر هذا بنظائره يتبين لك انه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي بل يكون استعماله تطويلا وتكثيرا للفكر والنظر والكلام بلا فائدة وان الحاجة الى المقدمات بحسب حال المستدل فقد يحتاج تارة الى مقدمة وتارة الى ثنتين وتارة الى ثلاث وتارة الى اكثر من ذلك وانه تارة يجهل كون المعين بغلة واذا كان كذلك فمتى علم ان هذه بغلة علم انها لا تحمل اذا كان قد حصل في نفسه علم عام يتناول جميع البغلات واذا علم المعين وهو انها بغلة ولم يعلم المطلق لم يحتج الا الى علم العام وهو ان البغلة لا تحمل واعتبر هذا بسائر الامور تجده كذلك

الوجه الثالث: عدم دلالة القياس البرهاني على اثبات الصانع

الوجه الثالث ان القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة وانما تكون كلية في الاذهان لا في الاعيان واما الموجودات في الخارج فهي امور معينة كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشاركه فيها غيره فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين وهم معترفون بذلك وقائلون ان القياس لا يدل على امر معين وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وانما يدل على كلي والمراد بالجزئي ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وكل موجود له حقيقة تخصه يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فاذن القياس لا يفيد معرفة امر موجود بعينه وكل موجود فانما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات وانما يفيد امورا كلية مطلقة مقدرة في الاذهان لا محققة في الاعيان

وقد بسطنا الكلام على هذا وغيره في غير هذا الموضع وبين ان ما يذكره النظار من الادلة القياسية التي يسمونها براهين على اثبات الصانع سبحانه وتعالى لا يدل شيء منها على عينه وانما يدل على امر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه

فانا اذا قلنا هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث او ممكن والممكن لا بد له من واجب انما يدل هذا على محدث مطلق او واجب مطلق ولو عين بأنه قديم ازلي عالم بكل شيء وغير ذلك فكل هذا انما يدل فيه القياس على امر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وانما يعلم عينه بعلم اخر يجعله الله في القلوب وهم معترفون بهذا لان النتيجة لا تكون ابلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لا بد من ذلك والكلي لا يدل على معين

وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الايات كقوله تعالى ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار الى قوله لقوم يعقلون (البقرة)

وقوله ان في ذلك لايات لقوم يعقلون لقوم يتفكرون وغير ذلك فانه يدل على المعين كالشمس التي هي اية النهار وقال تعالى وجعلنا اليل والنهار ايتين فمحونا اية اليل وجعلنا اية النهار مبصرة لتبتغوا الاسراء والدليل اتم من القياس فان الدليل قد يكون بمعين على معين كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة ف الايات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره فان كل ما سواه مفتقر اليه نفسه فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه

الكلام على علة الافتقار الى الصانع

وقد بسط الكلام على هذا في مواضع مثل ما ذكرناه من طرق اثبات العلم بالصانع والطرق التي سلكها عامة النظار في هذا المطلوب والكلام على المحصل وغير ذلك فان المتأخرين من النظار تكلموا في علة الافتقار الى المؤثر وان شئت قلت الى الصانع هل هو الامكان او الحدوث او مجموعهما

فالاول قول المتفلسفة المتأخرين ومن وافقهم كالرازي ومقصودهم بذلك ان مجرد الامكان بدون الحدوث يوجب الافتقار الى الصانع فيمكن كون الممكن قديما لا محدثا مع كونه مفتقرا الى المؤثر وهذا القول مما اتفق جماهير العقلاء من الاولين والاخرين على فساده حتى ارسطو وقدماء الفلاسفة ومن اتبعه من متأخريهم كابن رشد الحفيد وغيره كلهم يقولون ان ما امكن وجوده وامكن عدمه لا يكون الا محدثا وانما قال هذا القول ابن سينا وامثاله واتبعهم الرازي وامثاله وهؤلاء يجعلون الشيء الممكن مفتقرا الى الفاعل في حال بقائه فقط فانه لم يكن له حال حدوث ولهذا لما جعلوا مثل هذا ممكنا اضطرب كلامهم في الممكن وورد عليهم اشكالات لا جواب لهم عنها كما ذكر في كتبه كلها الكبار والصغار ك الاربعين ونهاية العقول والمطالب العالية والمحصل وغيرها وقد بسطناه في غير هذا الموضع

والقول الثاني ان علة الافتقار مجرد الحدوث وان المحدث يفتقر الى الفاعل حال حدوثه لا حال بقائه وهذا قول طائفة من اهل الكلام المعتزلة وغيرهم وهذا ايضا قول فاسد

والقول الثالث ان علة الافتقار هي الامكان والحدوث ولم يجعل احدهما شرطا في الاخر وقد يجعل احد الشطرين وقد بينا في غير هذا الموضع ان كل واحد من الحدوث والامكان دليل على الافتقار الى الصانع وان كانا متلازمين فاذا علمنا ان هذا محدث علمنا انه مفتقر الى من يحدثه واذا علمنا ان هذا ممكن وجوده وممكن عدمه علمنا انه لا يرجح وجوده على عدمه الا بفاعل يجعله موجودا

وكونه مفتقرا الى الفاعل هو من لوازم حقيقته لايحتاج ان يعلل بعلة جعلته مفتقرا بل الفقر لازم لذاته فكل ما سوى الله فقير اليه دائما لايستغني عنه طرفة عين وهذا من معاني اسمه الصمد ف الصمد الذي يحتاج اليه كل شيء وهو مستغن عن كل شيء وكما ان غنى الرب ثبت له لنفسه لا لعلة جعلته غنيا فكذلك فقر المخلوقات وحاجتها اليه ثبت لذواتها لا لعلة جعلتها مفتقرة اليه

فمن قال علة الافتقار الى الفاعل هي الحدوث أو الامكان أو مجموعهما إن اراد ان هذه المعاني جعلت الذات فقيرة لم يصح شئ من ذلك وإن أراد أن هذه المعاني يعلم بها فقر الذات فهو حق فكل منهما مستلزم لفقر الذات وهي مفتقرة اليه حال حدوثها وحال بقائها لا يمكن استغناؤها عنه لا في هذه الحال ولا في هذه الحال

وأما تقدير ممكن يقبل أن يكون موجودا ويقبل أن يكون معدوما مع انه واجب الوجود لغيره أزلا وابدا فهذا جمع بين المتناقضين فان ما يجب وجوده أزلا وأبدا لا يقبل العدم أصلا وقول القائل إنه باعتبار ذاته مع قطع النظر عن موجبه يقبل الوجود والعدم باطل لوجوه

منها ان هذا مبنى على أن له ذاتا محققة في الخارج غير الموجود المعين وأن تلك الذات تكون ثابتة مع عدمه وهذا باطل بل ليس له حقيقة في الخارج إلا الموجود الثابت في الخارج وما يكون حقيقة الوجود لا يقبل العدم اصلا فليس في الخارج ماهية ثابتة تكون ثابتة في الخارج في حال العدم حتى يقال إن الوجود يعرض ولكن الذات المعلومة المتصورة في الذهن تكون تارة موجودة في الخارج وتارة معدومة

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع فان هذا يتعلق بقول من يقول المعدوم شئ من المعتزلة وغيرهم ويقول من يقول الماهيات ثابتة في الخارج وهي الموجودات المعينة كقول من يقول ذلك من المتفلسفة ومن وافقهم وكلاهما باطل بل الفرق المعقول هو الفرق بين ما يعلم في الاذهان وبين ما يوجد في الاعيان فاذا قيل لما يعلم في الذهن إنه شئ في الذهن او العلم او ثابت في العلم او الذهن او سمى ذلك ماهية وقيل إن المثلث تثبت ماهيته في الذهن مع الشك في وجوده فهذا صحيح وأما إذا قيل في الخارج ذات ثابتة لا موجودة أو في الخارج ماهيه المثلث او غيره ثابتة مع انه ليس موجودا فهذا باطل يعلم بطلانه بالتصور الجيد السليم والدلائل الكثيرة كما قد بسط في موضعه

ومنها أنه لو فرض ان ل الممكن ذاتا غير وجوده فاذا كان الموجود لازما لها أبدا وأزلا واجبا بغيرها لم تقبل هذه الذات ان تكون معدومة قط وقول القائل هى في نفسها ليس لها وجود إذا قدر أن هناك ذاتا غير الوجود لا يقتضى أنه يمكن عدمها ويمكن وجودها مع القول بوجوب وجودها أزلا وأبدا

ومنها ان الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله المعين لا يجوز مقارنته له في الزمان وما يذكرونه من تقدم حركة اليد على حركة الخاتم ونحو ذلك ويجعلونه تقدما بالعلة ليس في شئ من ذلك علة فاعلة اصلا وإنما ذلك شرط في هذا ولا يمكن أحدا قط أن يبين في الوجود علة فاعلة لمعلول مفعول مع مقارنتها له في الزمان اصلا وإنما يمكن المقارنة بين الشرط والمشروط ولكن لفظ العلة فيه إجمال يراد به الفاعل ويراد به القابل والشروط

وهذا أيضا مما حصل فيه تلبيس في صفات واجب الوجدود لما قالوا لو كانت له صفات لكانت معلولة للذات والواجب لا يكون معلولا فيقال لهم واجب الوجود قد يعنى به ما لايحتاج الى فاعل فالصفات واجبة بهذا الاعتبار وقد يعنى به ما لا يفتقر الى محل وعلى هذا فالذات واجبة وأما الصفات فليست واجبة بهذا التفسير والبرهان قام على ان الممكنات لا بد لها من فاعل لا يفتقر الى ما سواه لم يقم على ان صفاته كذاته لا تفتقر الى محل وهذه الامور مبسوطة في موضعها

الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا

والمقصود هنا الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على ما ذكروه من أن الاستدلال تارة يكون بالعام على الخاص وهو القياس وتارة بالخاص على العام وهو الاستقراء وتارة بأحد الخاصين على الاخر وهو التمثيل وبينا فساد هذا الحصر والتقسيم وفساد ما ذكر في حكم الاقسام فان من أنواع الاستدلال ما يستدل فيه بمعين على معين وبالمساوى على المساوى سواء كان معينا أو كليا

فليس من ضرورة الدليل أن يكون أعم أو اخص بل لا بد في الدليل من أن يكون ملزوما للحكم والملزوم قد يكون اخص من اللازم وقد يكون متساويا له ولا يجوز ان يكون أعم منه لكن قد يكون اعم من المحكوم عليه الموصوف الذي هو موضوع النتيجة المخبر عنه

فان المطلوب الذي هو النتيجة إذا كانت هو أن النبيذ المسكر المتنازع فيه حرام فاستدل على ذلك بان النبيذ المسكر خمر بالنص وهو قول النبي - كل مسكر خمر رواه مسلم وغيره فالخمر أعم من النبيذ المتنازع فيه أخص من الحرام والحرام هو الحكم وهو الخبر وهو الصفة وهو المطلوب بالدليل وهو الذي يسمونه الحد الاكبر ويسمونه محمول النتيجة والنبيذ هو المحكوم عليه وهو المخبر عنه وهو الموصوف وهو محل الحكم وهو الذي يسمونه الحد الاصغر وموضوع النتيجة والخمر هو الدليل وهو الحد الاوسط والمطلوب بالدليل معرفة الحكم لا معرفة عينة فهذا الدليل يجب أن لا يكون أخص من محل الحكم بل يكون إما مساويا له وإما أعم منه لانه لا بد ان يشمل جميع محل الحكم فاذا كان اخص لم يشمله، ويجب ان لا يكون أعم من الحكم بل يكون إما مساويا له وإما اخص منه لانه مستلزم للحكم والحكم لازم له فاذا كان أعم منه امكن وجوده بدون وجود الحكم فلا يصلح أن يكون دليلا مستلزما له فلا بد في الدليل أن يكون مساويا للحكم أو أخص منه ليكون مستلزما له ولا بد ان يكون أعم من المحكوم عليه او مساويا له ليتناول جميع صور المحكوم عليه وإلا لم يكن دليلا على حكمه بل على حكم بعضه

والناس هنا قد يضطرب أذهانهم في الدليل هل يجب ان لا يكون اعم من المدلول عليه أو لا يكون اخص وسبب ذلك أن المدلول عليه قد يعنى به الحكم نفسه وقد يعنى به المحكوم عليه فاذا أقمنا الدليل على ان النبيذ حرام فقد يقال المدلول عليه هو النبيذ وهذا يجب أن لا يكون أعم من الدليل بل إما مساويا وإما أخص وقد يقال المدلول عليه هو الحكم وهو حرمة النبيذ وهذا الحكم يجب ان لا يكون اخص من الدليل بل يكون إما مساويا له وإما أعم منه لان الحكم لازم للدليل والدليل لازم للمحكوم عليه فلا بد ان يكون المحكوم عليه مستلزما للدليل بحيث يكون حيث وجد وجد الدليل ليشمله الدليل ولا بد أن يكون الحكم لازما للدليل بحيث يكون حيث تحقق الدليل تحقق الحكم حتى يثبت الحكم في جميع صور المحكوم عليه

وإذا كان كذلك فقد يستدل بالمعين على المعين المساوى له في العموم والخصوص كالاستدلال باحدى كواكب السماء على الملازم كما يستدل بالجدى على بنات نعش وببنات نعش على الجدى ويستدل بالجدى على جهة الشمال وبجهة الشمال على الجدى ويستدل بالشمس على المشرق وبالمشرق على الشمس ومن هذا الباب ما ذكر من اخبار نبينا - في كتب الانبياء قبله فانها صفات مطابقة له ليست اعم منه ولا أحص منه وكذلك سائر الامور المتلازمة فانه يستدل بأحد المتلازمين على ثبوت الاخر وبانتفائه على انتفائه فاذا كان المدلول معينا كانت الاية معينة

وقد تكون الاية تستلزم وجود المدلول من غير عكس كآيات الخالق سبحانه وتعالى فانه يلزم من وجوده وجدوده ولا يلزم من وجوده وجودها وهي كلها آيات دالة على نفسه المقدسة لا على أمر كلى لا يمنع تصوره من وقوع الاشتراك فيه بينه وبين غيره بل ذلك مدلول القياس

والقرآن يستعمل الاستدلال بالايات ويستعمل ايضا في إثبات الالهية قياس الاولى وهو أن ما ثبت لموجود مخلوق من كمال لا نقص فيه فالرب احق به وما نزه عنه مخلوق من النقائص فالرب أحق بتنزيهه عنه كما ذكر سبحانه وتعالى هذا في محاجته للمشركين الذين جعلوا له شركاء فقال ضرب لكم مثلا من انفسكم هل من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقنكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم انفسكم الروم

وقال تعالى ويجعلون لله البنت سبحنه ولهم ما يشتهون وإذا بشر احدهم بالاثنى ظل وجه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون ام يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم (النحل) وقال أفريتم اللت والعزى ومنوة الثالثة الاخرى الكم الذكر وله الانثى تلك إذا قسمته ضيزى النجم وكذلك في إثبات صفاته وإثبات النبوة والمعاد كما قد بسط في موضعه

وأما القياس الذي يستوى افراده ويماثل الفرع فيه أصله فهذا يمتنع استعماله في حق الله تعالى فان الله لا مثل له سبحانه وتعالى وإذا استعمل فيه مثل هذا القياس لم يفد إلا أمرا كليا مشتركا بينه وبين غيره لا يدل على ما يختص به الرب سبحانه إلا أن يضم اليه علم آخر فان هذا الكلى الذي هو مدلول القياس قد انحصر نوعه في شخصه وهذا ايضا لا يفيد التعيين بل لا بد في التعيين من علم آخر

الوجه الرابع: التصور التام للحد الاوسط يغنى عن القياس المنطقي

الوجه الرابع أن يقال القياس ثلاثة انواع قياس التداخل وقياس التلازم وقياس التعاند باعتبار القضايا الحملية والشرطية المتصلة والشرطية المنفصلة ومن ذلك تعرف المختلطات فنقول مثلا في قياس التداخل له ثلاثة حدود الحد الاصغر والحد الاوسط والحد الاكبر إذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام ف المسكر مثلا هو الحد الاصغر والخمر الاوسط والحرام الاكبر والاصغر لا بد ان يكون داخلا في الاوسط لانه اخص منه او مساويا له والشئ يدخل في أكثر منه وفي نظيره كما يدخل الانسان في الحيوان فان الحيوان اعم وكذلك الانسان والناطق والضحاك متلازمة فكل منها يتناول الاخر فكذلك التداخل في الاحكام الشرعية فان من شرب الخمر ثم شرب ثم شرب كفاه حد واحد والنتيجة المطلوبة هى كل مسكر حرام

والنظر نوعان أحدهما النظر في المسئلة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها الذي هو الحد الاوسط مثلا وهذا هو النظر الذي لا يجامع العلم بل يضاده لان هذا الناظر طالب للعلم بها ولو كان عالما بها لم يطلب العلم لان ذلك تحصيل الحاصل والثاني النظر في الدليل وهو العلم بالدليل المستلزم للعلم بالمدلول عليه وهو تصور الحد الاوسط المستلزم لثبوت الاكبر للاصغر مثل من يعلم ان الخمر حرام وأن كل مسكر خمر فيلزم أن يعلم أن كل مسكر حرام وهذا النظر هو ترتيب المقدمتين في النفس وهذا النظر هو الذي يوجب العلم ولا ينافى العلم

وللناس في هذا الباب اضطراب عظيم هل النظر مفيد للعلم أو غير مفيد وهل هو ضد العلم ام لا وأمثال ذلك وكثير من النظار يقول في مصنفه إن النظر يضاد العلم ويقول ايضا إنه مستلزم للعلم وهذا تناقض بين فان ملزوم الشئ لا يكون مضادا له لكن النظر الذي يستلزم العلم غير النظر الذي يضاده فذاك هو النظر الاستدلالى وهذا هو النظر الطلبي ذاك هو نظر في الدليل فاذا تصوره وتصور استلزامه للحكم علم الحكم والنظر الطلبي نظر في المطلوب حكمه هل يظفر بدليل يدله على حكمه أو لا يظفر كطالب الضالة والمقصود قد يجده وقد لا يجده وقد يعرض عنهما فان الاول انتقال من المبادئ الى المطالب والاخر انتقال من المطالب الى المبادئ

وتحقيق الامر ان النظر نوعان بمنزلة نظر العين وهو نوعان احدهما التحديق لطلب الرؤية وهو بمنزلة تحديق القلب في المسئلة لطلب حكمها وهذا قد يحصل معه العلم وقد لا يحصل ولا يكون طالب العلم حين الطلب عالما بمطلوبة تصديقا كان علمه أو تصورا على رأى من جعل التصور المطلوب خارجا عن التصديق والثاني نفس الرؤية وهو بمنزلة رؤية الدليل كترتيب المقدمتين والظفر بالحد الاوسط

فهذا يوجب العلم كما توجب رؤية العين العلم بالمرئى ولا ينافى هذا النظر العلم فهذا الثاني نظر في الدليل كالذي ينظر في القرآن والحديث فيعلم الحكم والاول نظر في الحكم كالذي ينظر في المسئلة لينال دليلها من القرآن والحديث

فنقول من المعلوم أن معرفة القلب بثبوت المحمول للموضوع وهو ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم المسئول عنه مثل حرمة المسكر قد تحصل بواسطة هذا الحد وهو أن يعلم ان هذا خمر مع علمه أن الخمر حرام وهذا قياس الشمول وقد يحصل بغير هذا مثل أن يرى ان المسكر مساو لخمر العنب في مناط التحريم فيستوى بينهما في التحريم وهذا قياس التمثيل وقد يحصل بأن يرى فيه المفسدة التي في الخمر فيحكم بالتحريم لدرء تلك المفسدة وهذا قياس التعليل

وقياس التمثيل وقياس التعليل يشملهما جنس القياس لكن القياس قد يحتاج في إثبات الحكم في الفرع الى اصل معين فيلحق الفرع به إما لابداء الجامع وإما لالغاء الفارق فان إبداء الجامع وهو علة الحكم في الاصل يسمى قياس العلة وأما ما يدل على العلة وهو قياس الدلالة فهذا صار قياس تمثيل وتعليل معا وإن قاس بالغاء الفارق وهو أن يبين له أنه ليس بينهما فرق مؤثر وإن لم يعلم عين العلة فهذا قياس تمثيل لا تعليل وقد يقوم دليل على ان الوصف الفلاني مستلزم للحكم وإن لم يعرف له أصل معين وهذا قياس تعليل وهو يشبه قياس الشمول

وقياس الشمول وقياس التمثيل متلازمان فكل ما ذكر بهذا القياس يمكن ذكره بهذا القياس فان قياس الشمول لا بد فيه من حد أوسط مكرر وذاك هو مناط الحكم في قياس التمثيل وهو القدر المشترك وهو الجامع بين الاصل والفرع مثال ذلك إذا قيل النبيذ حرام قياسا على الخمر لان فيه الشدة المطربة

وهذه هى العلة في التحريم أو لانه مسكر والمسكر هو علة التحريم وبين ذلك بدليله كان قياسا صحيحا وإذا قيل النبيذ مسكر وكل مسكر حرام أو النبيذ فيه الشدة المطربة وما فيه الشدة المطربة فهو حرام فهذا أيضا صحيح وكل ما امكن أن يستدل به على صحة المقدمة الكبرى أمكن ان يستدل به على كون الوصف المشترك علة للحكم في الاصل وكل ما أمكن يستدل به على الصغرى فانه يستدل به على ثبوت الوصف في الفرع

ثم إن كان ذاك الدليل قطعيا فهو قطعي في القياسين وإن كان ظنيا فهو ظنى في القياسين وأما دعوى من يدعى من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل ب قياس الشمول دون قياس التمثيل فهو قول في غاية الفساد وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين كما قد بسط في موضعه

وقد يعلم الحكم المطلوب بنص علىأن كل مسكر حرام كما قد ثبت هذا الحديث في الصحاح عن النبي - وإذا كان كذلك لم يتعين قياس الشمول لافادة الحكم بل ولا قياس من الاقيسة فانه قد يعلم بلا قياس

وإذا علم بقياس الشمول فكل ما يعلم بقياس الشمول فانه يعلم بقياس التمثيل أيضا كما تقدم ويجعل الحد الاوسط هو الجامع بين الاصل والفرع والدليل الذي يقيمه صاحب قياس الشمول على صحة المقدمة الكبرى الكلية يقيمه صاحب قياس التمثيل على علية الوصف وإن الجامع وهو الوصف المشترك الذي هو الحد الاوسط في قياس الشمول هو مستلزم للحكم وهو علية في الاصل كما يقيمه في ذاك على أن الحد الاكبر لازم للحد الاوسط فالحد الاكبر في قياس الشمول هو الحكم في قياس التمثيل والحد الاوسط هو الجامع المشترك ويسمى المناط والحد الاصغر هو الفرع ويمتاز قياس التمثيل بأن فيه ذكر اصل يكون نظيرا للفرع الذي هو الحد الاصغر وقياس الشمول ليس فيه هذا فصار في قياس التمثيل ما في قياس الشمول وزيادة وقد بسط هذا في موضع آخر

وقد لا يحتاج الى دليل آخر ذى مقدمتين ولا قياس ولا غيره بل يكفيه مقدمة واحدة وقد يستغنى ايضا عن تلك المقدمة بتصوره التام ابتداء مثل أن يكون نفس علمه بأن الخمر حرام قد تصور معه مسمى الخمر أنها المسكر فصار علمه بجميع مفردات الخمر سواء فيعلم ان هذا المسكر خمر حرام وهذا المسكر خمر حرام وامثال ذلك او يعلم ان الخمر حرام ولا يعلم أن كل مسكر يسمى خمرا بل يظن ذلك الاسم مختصا ببعض المسكرات فاذا علم بنص الشارع أو باستعمال الصحابة الذين نزل فيهم القرآن أو بأنها لما حرمت لم يكن عندهم من عصير الاعناب شئ وإنما كان الذي يسمونه خمرا هو المسكر من نبيذ التمر او بغير ذلك من الادلة إذا علم هذه المقدمة الواحدة وهو أن كل مسكر خمر علم الحكم

فتبين أن قولهم إن المطلوب لا بد فيه من القياس وذلك القياس يجب أن يكون القياس المنطقى الشمولي ولا بد فيه من مقدمتين ليس بصواب وهذا يبطل قولهم لا علم تصديقى إلا بالقياس المنطقي كما تقدم وأما هنا فالمقصود بيان قلة منفعته او عدمها وذلك أن هذا المطلوب إن كان معه قضية علمت من جهة الرسول تفيده العموم وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه فالقضايا الكلية المتلقاه عن الرسل تفيد العلم في المطالب الالهية

وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل وإما انها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة فانه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها بل يشترك فيها سائر الامم بدون خطور منطقهم بالبال مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول

وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفا على شئ من الاقيسة بل يعلم بالايات الدالة على شئ معين لا شركة فيه ويحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر الى نظر وما يحصل منها بالقياس الشمولي فهو بمنزلة ما يحصل بقياس التمثيل فهو أمر كلى لا يحصل به العلم بما يختص به الرب وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر اليه

والعلم بصدق المخبر المعين وإن لم يكن نبيا يعلم بأسباب متعددة غير القياس ويعلم ايضا بقياس التمثيل كما يعلم بقياس الشمول فكيف العلم بصدق النبي الصادق - وقد ذكرنا طرقا من الطرق التي يعلم بها صدق الانبياء في غير هذا الموضع

والناس يعلمون الامور الموجودة وصفاتها وأحوالها من غير قياس شمولي فضلا عن أن يقال لا بد هنا من مقدمتين صغرى وكبرى فالصغرى هي المشتملة على الحد الاصغر والكبرى المشتملة على الحد الاكبر والحد الاوسط متكرر فيها خبر محمول في الصغرى ومبتدأ موضوع في الكبرى كقولك كل خمر حرام فيقال إذا علم أن كل خمر حرام فقد يعلم ابتداء مفردات الخمر وأنها شاملة لكل مسكر بل يظن انها متناولة لبعض المسكر كعصير العنب النى المشتد ثم يعلم بعد ذلك شمولها لكل مسكر وهو إذا تجدد له هذا العلم فانما يجدد له علمه بالعموم وعلمه بالعموم إنما يعود بتصوره التام لمسمى الخمر فانه كان قبل ذلك لم يتصورها تصورا جامعا بل تصورا غير جامع ولو حصل له هذا التصور الجامع لم يحتج الى قياس فقد تبين أن القياس المفيد للتصديق يغنى عنه التصور التام للحد الاوسط

كل تصور يمكن جعله تصديقا وبالعكس

وهذا يؤول الى امر وهو أن كل ما يسمونه تصورا يمكن جعله تصديقا وما يسمونه تصديقا يمكن جعله تصورا فان القائل إذا قال ما الخمر المحرمة فقال المجيب هى المسكر كان هذا عندهم تصورا واحدا وهو تصور مسمى الخمر وهذا في الحقيقة تصديق مركب من موضوع ومحمول وإذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام كان هذا قياسا وهو يفيد التصديق الذي هو المسكر حرام ويفيد ان المسكر داخل في مسمى الخمر وإن أريد بيان الحد المطرد المنعكس قيل المسكر هو الخمر وكل خمر حرام فيفيد هذا القياس تصور معنى الخمر

وسبب ذلك أن كل ما يتكلم به في الحد والقياس هو قضية تامة وهي الجملة في اصطلاح النحاة والجواب في السؤال عن التصور وعن التصديق هو بقضية تامة هي جملة خبرية فكلاهما قول مركب في السؤال والجواب وكلاهما فيه إثبات صفة لموصوف كاثبات الخمرية للمسكر وهو إثبات محمول لموضوع والانسان هو في الموضعين قد تصور ان المسكر هو الخمر وصدق بأن المسكر هو الخمر فأما التصور المفرد الذي لا يعبر عنه إلا ب اسم مفرد فذلك لا يسأل عنه باللفظ المفرد ولا يجاب عنه باللفظ المفرد حتى يفصل نوع تفصيل يصلح لمثله لان يكون جملة

وهذا قد بسط في غير هذا الموضع كما بسط في الكلام على المحصل وغيره وبين ان قولهم العلم ينقسم الى تصور وتصديق وأن التصور وهو التصور الساذج العرى عن جميع القيود الثبوتية والسلبية كلام باطل فان كل ما عرى عن كل قيد ثبوتى وسلبى يكون خاطرا من الخواطر ليس هو علما أصلا بشئ من الاشياء فان من خطر بقلبه شئ من الاشياء ولم يخطر بقلبه صفة لاثبوتية ولا سلبية لم يكن قد علم شيئا

وإذا قيل الانسان حيوان والعالم مخلوق ونحو ذلك فهنا قد تصور إنسانا علم انه موجود لم يتصور شيئا تصورا ساذجا لا نفى فيه ولا إثبات بل تصور وجوده وغير ذلك من صفاته وكذلك العالم قد تصور وجوده وإذا تصور بحر زئبق وجبل ياقوت فان لم يتصور مع هذا عدمه في الخارج ولا امتناعه ولا شئ من الاشياء كان هذا خيالا من الخيالات ووسواسا من الوساوس ليس هذا من العلم في شئ فان تصور مع ذلك عدمه في الخارج كان قد تصور تصورا مقيدا بالعدم لم يكن تصوره خاليا من جميع القيود

فان قلت فما التصور القابل للتصديق المشروط فيه قيل هو التصور الخالي عن معرفة ذلك التصديق ليس هو الخالي عن جميع القيود السلبية والثبوتية فاذا كان يشك هل النبيذ حرام ام لا فقد تصور النبيذ وتصور الحرام وكل من التصورين متصور بقيود فهو يعلم أن النبيذ شراب وأنه موجود وأنه يشرب وأنه يسكر وغير ذلك من صفاته لكن لم يعلم أنه حرام فليس من شرط التصور المشروط في التصديق أن يكون ساذجا خاليا عن كل قيد ثبوتى وسلبى بل أن يكون خاليا عن التقييد بذلك التصديق

وقول القائل التصديق مسيوق بالتصور مثل قوله القول مسبوق بالعلم فليس لأحد أن يتكلم بمالا يعلم كذلك لا يصدق ولا يكذب لما لا يتصوره وحينئذ فالتصور التام مستلزم للتصديق والتصور الناقص يحتاج معه الى دليل يثبت له حكم

وهذا يقرر ما عليه نظار المسلمين كما قررنا ذلك من قبل من أن التصورات المفردة لا تعلم بمجرد الحد وأن المطلوب بالحد هو تصديق يفتقر إلى ما تفتقر اليه التصديقات فكما ذكرنا هناك ان الذي يحعلونه حدا هو تصديق يفتقر الى دليل فيقال هنا ما يجعلونه قياسا يعود في الحقيقة الى الحد والتصور كما يعود هذا القياس الى ان يعلم مسمى الخمر وإذا كان كذلك فاذا كانوا يقولون إن الحد لا يقام عليه دليل ولا يحتاج الى قيام دليل فنقول العلم بمسمى الخمر لا يحتاج الى قياس بل قد يعلم بما يعلم به سائر التصورات المفردة ومسميات جميع الاسماء من تفطن النفس لشمول ذلك المعنى لهذه الصورة وثبوته فيها

وكلما تدبر العاقل هذا وعرفه معرفة جيدة تبين له أن الصواب ماعليه نظار المسلمين وجماهير العقلاء من أن الحدود بمنزلة الاسماء وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال وأن المطلوب من الحد هو التمييز بين المحدود وغيره وذلك يكون بالوصف الملازم له طردا وعكسا بحيث يكون الحد جامعا مانعا

وأنه مع ذلك ليس لاحد ان يدعي دعوى غير بديهية إلا بدليل فالحاد إن كان يحد مسمى اسم كما يقول في الخمر إنها المسكر وفي الغيبة إنها ذكرك أخاك بما يكره وفي الكبر إنه بطر الحق وغمط الناس فعليه ان يبين أن ما ذكره مطابق لمسمى ذلك الاسم إما بالنقل عن الشارع المتكلم بهذه الاسماء مثل أن يقول قد ثبت في الصحيح عن النبي - أنه قال كل مسكر خمر وما ليس بمسكر فليس بخمر بالاجماع فيثبت ان الخمر هو المسكر او يقول ثبت في الصحيح عن النبي - انه قيل يا رسول الله ما الغيبة قال ذكرك أخاك بما يكره فقال أرأيت إن كان في أخى ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته

فاذا عورض هذا بما ثبت في الصحيح عن النبي - أنه قال لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت خطبني أبو جهم ومعاوية فقال أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء وفي لفظ لا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحى اسامة فاذا قال المعترض هنا قد ذكر كلا منهما بما يكره والغيبة محرمة كان الجواب مع إحدى المقدمتين بأن يقال لا نسلم أن هذا داخل في حد الغيبة وإن سلم دخوله في الحد دل على جواز الغيبة لمصلحة راجحة مثل نصيحة المستشير فانها لما استشارته وجب نصحها ومثل ذلك الكلام في جرح الرواة الكاذبين والغالطين وشهادة الشاهد الكاذب وشكاية المظلوم وغير ذلك عما دل الشرع على جوازه

فانه يقال فيه أحد الامرين لازم إما أن يقال المؤمن لا يكره ذلك إذا كان صادق الايمان لان المؤمن لا يكره ما امر الله ورسوله به وهذا مما أمر الله به ورسوله ويقال إن كرهه فهو من هذه الجهة ناقص الايمان فيه شعبة نفاق فلا يكون هو الاخ الذي قيل فيه ذكرك أخاك بما يكره وهذا مبنى على ان الشخص الواحد يكون فيه طاعة ومعصية وبر وفجور وخير وشر وشعبة إيمان وشعبة نفاق أو يقول إذا سلم شمول اللفظ له هذا من الغيبة المباحة فلا بد من التزام أحد أمرين إما أنه لم يدخل في مسمى الغيبه وإما انه لم يدخل فيما حرم منها ولهذا نظائر

والمقصود التنبيه على المثال وأن من ادعى حد اسم فلا بد له من دليل وكذلك إن ادعى حدا بحسب الحقيقة

وهذا الذي عليه نظار المسلمين وغيرهم أصح مما عليه أهل المنطق اليوناني من وجوه فان أولئك يدعون ان الحد يفيد تصوير الماهية في نفس المستمع ويدعون أن ذلك يحصل بمجرد قول الحاد من غير دليل اصلا

ثم إنهم عمدوا الى الصفات اللازمة للموصوف ففرقوا بينها وجعلوها ثلاثة اصناف ذاتية داخلة في الماهية وخارجة لازمة للماهية دون وجودها وخارجة لازمة لوجودها وهذا كله باطل إذا اريد بالماهية الموجودات الخارجية وهي التي تقصد بالحد والتعريف وأما إذا قدر ان الماهية هي مجرد ما يتصوره النفس فقدر تلك الماهية وصفتها يتبع تصور المتصور فتارة يتصور جسما حساسا ناميا متحركا بالارادة ناطقا فتكون الماهية هي هذه الاجزاء كلها وتارة يتصور حيوانا ناطقا وتارة يتصور حيوانا ضاحكا وتارة يتصور ضاحكا فقط وتارة يتصور ناطقا فقط فاذا جعل ما دخل في تصوره داخلا فيه وما خرج عنه لازما له او غير لازم كما ذكر ذلك بعضهم وكما ذكروه من دلالة المطابقة والتضمن الالتزام كان هذا صحيحا لكن ليس فيه منفعة في العلوم والحقائق ومعرفة صفاتها الذاتية وغير الذاتية أصلا بل هذا يرجع الى تصور مراد المتكلم سواء كان حقا أو باطلا

وأما نظار المسلمين فالحد عندهم يكون بالوصف الملازم والوصف الواحد الملازم كاف لا يذكرون معه الوصف المشترك لا الجنس ولا العرض العام بل يعيبون على من يذكر ذلك في الحدود وهل يحد بالتقسيم لهم فيه قولان والصفات تنقسم الى قسمين لازمه للموصوف وغير لازمة والذي عليه نظار أهل السنة وسائر المثبتين للصفات والقدر أن وجود كل شئ في الخارج عين حقيقته فاللازم للموجود الخارجي لازم للحقيقة الخارجية ولا يقبل من أحد دعوى غير معلومة إلا بدليل فأين هذا المنطق وأين هذا الميزان المستقيمة العادلة من ميزان أولئك الجائرة الغائلة التي ليس فيها لا صدق ولا عدل وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمته (الأنعام)

الوجه الخامس: من الاقيسة ما تكون مقدمتاه ونتيجته بديهية

الوجه الخامس ان يقال هذا القياس هو قياس الشمول وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الافراد

فنقول قد علم وسلموا انه لا بد ان يكون العلم بثبوت بعض الاحكام لبعض أفرادها بديهيا فان النتيجة إذا افتقرت الى مقدمتين فلا بد ان ينتهي الامر الى مقدمتين تعلم بدون مقدمتين وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان ولهذا كان من المقرر عند أهل النظر انه لا بد في التصورات والتصديقات من تصورات بديهية وتصديقات بديهية

ولفرض المقدمتين البديهيتين كل مسكر خمر وكل خمر حرام وإن لم يكن هذا بديهيا لكن المقصود التمثيل ليعلم بالمثال حكم سائر القضايا فاذا قدر انه علم بالبديهة أن كل فرد من أفراد الخمر حرام وعلم بالبديهة ان كل فرد من افراد المسكر خمر كان علمنا بالبديهة ان هذه الافراد حرام من أسهل الاشياء

وإنما يخفى ذلك لكون أكثر المقدمات لا يكون بديهية بل مبينة بغيرها كا في هذا المثال فان المقدمة الثانية ثابتة بالنص والاجماع والاولى ثابتة بالسنة الصحيحة لكن لم يعرفها كثير من العلماء فطريق العلم بالمقدمتين يختلف

وأما إذا أفردنا ذلك في مقدمتين طريق العلم بهما واحد لم نحتج الى القياس مثل العلم بأن كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس متحرك بالارادة فهنا قد يكون العلم بأن كل إنسان حساس متحرك بالارادة أبين وأظهر وكذلك إذا قلنا كل إنسان جسم أو جوهر أو حامل للصفات ثم قلنا كل ما هو جسم او جوهر او حامل للصفات فليس بعرض أو هو قائم بنفسه او هو موصوف بالصفات ونحو ذلك كان العلم بأن كل انسان هو كذلك مما لا يحتاج الى هذا التطويل فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدا وقد علمتا فلا حاجة الى بيانهما وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج الى بيانها وإن لم يحتج الى الاخرى التي علمهاوهذا ظاهر في كل ما تقدره

فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الاذهان وكذلك إذا علمنا أن كل رسول نبي وكل نبي فهو في الجنة فعلمنا ان كل رسول فهو في الجنة أبين من هذا وهذ كثير جدا


الرد على المنطقيين
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19