الرد على المنطقيين


الوجه السادس: من القضايا الكلية ما يمكن العلم به بغير توسط القياس

وهو يتضح بالوجه السادس وهو أن يقال لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها لا يكون أخص منها والنتيجة اخص من الكبرى أومساوية لها واعم من الصغرى أو مساوية لها كالحدود الثلاثة فان الاكبر أعم من الاصغر او مثله والاوسط مثل الاصغر أو اعم ومثل الاكبر أو اخص ولا ريب ان الحس يدرك المعينات اولا ثم ينتقل منها الى القضايا العامة فان الانسان يرى هذا الانسان وهذا الانسان وهذا الانسان ويرى أن هذا حساس متحرك بالارادة ناطق وهذا كذا وهذا كذا فيقضى قضاء عاما أن كل إنسان حساس متحرك بالارادة ناطق

فنقول العلم بالقضية العامة إما ان يكون بتوسط قياس او بغير توسط قياس فان كان لا بد من توسط قياس والقياس لا بد فيه من قضية عامة لزم ان لا يعلم العام إلا بالعام وذلك يستلزم الدور أو التسلسل فلا بد ان ينتهى الامر الى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة وهم يسلمون ذلك

وإن أمكن علم القضية العامة بغير توسط قياس أمكن علم الاخرى فان كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه بل هو امر نسبى إضافي بحسب حال علم الناس بها فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له ومن احتاج الى نظر واستدلال بدليل كانت نظرية له

وكذلك كونها معلومة بالعقل أو الخبر المتواتر أو خبر النبي الصادق أو الحس ليس هو أمرا لازما لها بل كذب مسيلمة الكذاب مثلا قد يعلم بقول النبي الصادق إنه كذاب وقد يعلم ذلك من باشره ورآه يكذب ويعلم ذلك من غاب عنه بالتواتر ويعلم ذلك بالاستدلال فانه ادعى النبوة وأتى يناقض النبوة فيعلم بالاستدلال وكذلك الهلال قد يعلم طلوعه بالرؤية فتكون القضية حسية ويعلم ذلك من لم يره بالاخبار المتواترة فتكون القضية عنده من المواترات ويعلم ذلك من علم أن تلك الليلة إحدى وثلاثون بالحساب والاستدلال ومثل هذا كثير فالمعلوم الواحد يعلمه هذا بالحس وهذا بالخبر وهذا بالنظر وهذه طرق العلم لبني آدم وهكذا القضايا الكلية إذا كان منها ما يعلم بلا قياس ولا دليل وليس لذلك حد في نفس القضايا بل ذلك بحسب احوال بنى آدم لم يمكن ان يقال فيما علمه زيد بالقياس إنه لا يمكن غيره ان يعلمه بلا قياس بل هذا نفى كاذب

الوجه السابع: الادلة القاطعة على استواء قياسي الشمول والتمثيل

الوجه السابع أن يقال هم يدعون ان المفيد لليقين هو قياس الشمول فأما قياس التمثيل فيزعمون انه لا يفيد اليقين ونحن نعلم ان من التمثيل ما يفيد اليقين ومنه ما لا يفيده ك الشمول فان الشيئين قد يكون تماثلهما معلوما وقد يكون مظنونا كالعموم وإن جمع بينهما بالعلة فالعلة في معنى عموم الشمول

يوضح هذا أن يقال قياس الشمول يؤول في الحقيقة الى قياس التمثيل كما ان الاخر في الحقيقة يؤول الى الاول ولهذا تنازع الناس في مسمى القياس فقيل هو قياس التمثيل فقط وهو قول اكثر الاصوليين وقيل قياس الشمول فقط وهو قول اكثر المنطقيين وقيل بل القياسان جميعا وهو قول اكثر الفقهاء والمتكلمين وذلك أن قياس الشمول مبناه على اشتراك الافراد في الحكم العام وشموله لها وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الاثنين في الحكم الذي يعمهما، ومآل الامرين واحد وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

ونحن نذكر هنا ما لم نذكره في غير هذا الموضع فنقول قد تبين فيما تقدم ان قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس فاذا قال القائل في مسئلة القتل بالمثقل قتل عمد عدوان محض لمن يكافئ القاتل فأوجب القود كالقتل بالمحدد فقد جعل القدر المشترك الذي هو مناط الحكم القتل العمد العدوان المحض للمكافئ وهذا يسمى العلة والمناط والجامع والمشترك والمقتضى والموجب والباعث والامارة وغير ذلك من الاسماء فاذا أراد أن يصوغه ب قياس الشمول قال هذا قتل عمد عدوان محض للمكافئ وما كان كذلك فهو موجب للقود

والنزاع في الصورتين هو في كونه عمدا محضا فان المنازع يقول العمدية لم تتمحض وليس المقصود هنا ذكر خصوص المسئلة بل التمثيل وهذا نزاع في المقدمة الصغرى وهو نزاع في ثبوت الوصف في الفرع فان قياس التمثيل قد يمنع فيه ثبوت الوصف في الاصل ويمنع ثبوته في الفرع وقد يمنع كونه علة الحكم

ويسمى هذا السؤال سؤال المطالبة وهو اعظم أسئلة القياس وجوابه عمدة القياس فان عمدة القياس على كون المشترك مناط الحكم وهذا هو المقدمة الكبرى وهو كما لو قال في هذه المسئلة لا نسلم ان كل ما كان عمدا محضا يوجب القصاص وكذلك منع الحكم في الاصل أو منع الوصف في الاصل وهو منع للمقدمة الكبرى في قياس الشمول

اللهم إلا ان يقيم المستدل دليلا على تأثير الوصف في غير أصل معين وهذا قياس التعليل المحض كما لو قال النبيذ المسكر محرم لان المعنى الموجب للتحريم وهو كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلوة موجود فيها وهذا المعنى قد دل النص علىانه علة التحريم وقد وجد فيثبت فيه التحريم

وهم في قياس الشمول إذا أرادوا إثبات المقدمة الكبرى التي هي نظير جعل المشترك بين الاصل والفرع مناط الحكم فلا بد من دليل يبين ثبوت الحكم لجميع أفراد المقدمة باعتبار القدر المشترك الكلى بين الافراد وهذا هو القدر المشترك الجامع في قياس التمثيل فالجامع هو الكلى والكلى هو الجامع

ومن قال من متأخرى النظار كأبي المعالى وأبي حامد والرازي وابي محمد إن العقليات ليس فيها قياس بل الاعتبار فيها بالدليل فهذا مع انهم خالفوا فيه جماهير النظار وأئمة النظر فنزاعهم فيها يرجع الى اللفظ فانهم يقولون العقليات لا تحتاج الى ان يعين فيها أصل يلحق فيه الفرع وليس جعل احدهما اصلا والاخر فرعا بأولى من العكس بل الاعتبار بالدليل الشامل للصورتين فيقال لهم لا ريب انه في العقليات والشرعيات لم يقع النزاع في جميع أفراد المعنى العام الذي يسمى الجامع المشترك بل وقع في بعضها وبعضها متفق عليه فتسمية هذا أصلا وهذا فرعا أمر إضافي ولو قدر أن بعض الناس علم حكم الفرع بنص وخفى عليه حكم الاصل لجعل الاصل فرعا والفرع أصلا والجمع إما ان يكون بالغاء الفارق وإما أن يكون بابداء الجامع وهذا يكون في العقليات قطعيا وظنيا كما يكون في الشرعيات

فاذا قيل الاحكام والاتقان يدل على علم الفاعل شاهدا فكذلك غائبا او قيل علة كون العالم عالما قيام العلم به في الشاهد فكذلك في الغائب أو قيل الحيوة شرط في العلم شاهدا فكذلك غائبا او قيل حد العالم في الشاهد من قام به العلم فكذلك في الغائب فهذه الجوامع الاربعة التي تذكرها الصفاتية من الجمع بين الغائب والشاهد في الصفات الحد والدليل والعلة والشرط فذكر الشاهد حتى يمثل القلب صورة معينة ثم يعلم بالعقل عموم الحكم وهو ان الاحكام والاتقان مستلزم لعلم الفاعل فان الفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم وكذلك سائرها

وهذا كسائر ما يعلم من الكليات العادية إذا قيل هذا الدواء مسهل للصفراء ومنضج للخلط الفلاني ونحو ذلك فان التجربة إنما دلت على اشياء معينة لم تدل على امر عام لكن العقل يعلم ان المناط هو القدر المشترك بما يعلم من انتفاء ما سواه ومناسبته او لا يعلم مناسبته وهذا قد يكون معلوما تارة كما يعلم ان أكل الخبز يشبع وشرب الماء يروي وأن السقمونيا مسهل للصفراء وإن كان قد يتخلف الحكم بفوات شرطه إذ قدمنا ان الطبيعيات التي هي العاديات ليس فيها كليات لا تقبل النقض بحال فكان ذكر الاصل في القياس العقلي لتنبيه العقل على المشترك الكلى المستلزم للحكم لا لأن مجرد ثبوت الحكم في صورة يوجب ثبوته في أخرى بدون أن يكون هناك جامع يستلزم الحكم

وإذا قيل فمن أين يعلم أن الجامع مستلزم للحكم قيل من حيث يعلم القضية الكبرى في قياس المشول فاذا قال القائل هذا فاعل محكم لفعله وكل محكم لفعله فهو عالم فأي شئ ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل وزيادة ان هناك اصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك وفي قياس الشمول لم يذكر شئ من الافراد التي يثبت الحكم فيها ومعلوم أن ذكر الكلى المشترك مع بعض افراده اثبت في العقل من ذكره مجردا عن جميع الافراد باتفاق العقلاء

ولهذا هم يقولون إن العقل بحسب إحساسه بالجزئيات يدرك العقل بينها قدرا مشتركا كليا فالكليات في النفس تقع بعد معرفة الجزئيات المعينة فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الاسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفا للقياس ويكون عدم ذكرها موجبا لقوته وهذه خاصة العقل فان خاصة العقل معرفته الكليات بتوسط معرفته بالجزئيات فمن أنكرها انكر خاصة عقل الانسان ومن جعل ذكرها بدون شئ من محالها المعينة أقوى من ذكرها مع التمثيل لمواضعها المعينة كان مكابرا والعقلاء باتفاقهم يعلمون ان ضرب المثل الكلى مما يعين على معرفته وانه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردا عن الامثال

ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والطبيعيات والصناعات والتجارات وغير ذلك وجد الامر كذلك فاذا قيل يسخن جوف الانسان في الشتاء ويبرد في الصيف لانه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة الى باطن البدن لان الضد يهرب من الضد والشبيه ينجذب الى شبيه فتظهر البرودة الى الظاهر لان شبه الشئ منجذب اليه كان هذا أمرا كليا مطلقا فاذا قيل ولهذا يسخن جوف الارض في الشتاء وجوف الحيوان كله ولهذا تبرد الاجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة الى الاجواف كان كلما تصور الانسان النظائر قويت معرفته بتكلك الكلية وهو ان الضد يهرب من ضده والنظير ينجذب الى نظيره وهذا معلوم في الطبيعيات والنفسانيات وغيرهما لكن إذا ذكرت النظائر قوى العلم بذلك وقد يعبر عن ذلك بأن الجنسية علة الضم

وكذلك إذا قيل الشمس إذا وقعت على البحر أو غيره تسخنه فتصاعد منه بخار لان الحرارة تحلل الرطوبة ثم قيل كما يتصاعد البخار من القدر التي فيها الماء الحار كان هذا المثال مما يؤكد معرفة الاول

والاقيسة التي يستعملها الفلاسفة في علومهم ويجعلونها كلية كلها يعتضدون فيها بالامثلة وليس مع القوم إلا ما علموه من صفات الامور المشاهدة ثم قاسوا الغائب على المشاهد به بالجامع المشترك الذي يجعلونه كليا فان لم يكن هذا صحيحا لم يكن مع أحد من أهل الارض علم كلى يشترك فيه ما شهده وما غاب عنه حتى قوله الخبز يشبع والماء يروي ونحو ذلك فانه لم يعلم بحسه إلا امورا معينة فمن أين له أن الغائب بمنزلة الشاهد إلا بهذه الطريق والانسان قد ينكر امرا حتى يرى واحدا من جنسه فيقر بالنوع ويستفيد بذلك حكما كليا

ولهذا يقول سبحانه كذبت قوم نوع المرسلين كذبت عاد المرسلين كذبت ثمود المرسلين ونحو ذلك وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد لكن كانوا مكذبين بجنس الرسل لم يكن تكذيبهم بالواحد لخصوصه وهذا بخلاف تكذيب اليهود والنصارى لمحمد - فانهم لم يكذبوا جنس الرسل إنما كذبوا واحدا بعينه بخلاف مشركي العرب الذين لم يعرفوا الرسل فان الله يحتج عليهم في القرآن باثبات جنس الرسالة

ولهذا يجيب سبحانه عن شبه منكري جنس الرسالة كقولهم أبعث الله بشرا رسولا الاسراء فيقول وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل) أي هذا متواتر عند أهل الكتاب فاسئلوهم عن الرسل الذين جاءتهم أكانوا بشرا أم لا وكذلك قوله وقالوا لو لا انزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون (الأنعام) فانهم لا يستطيعون الاخذ عن الملك في صورته فلو أرسلنا اليهم ملكا لجعلناه رجلا في صورة الانسان وحينئذ كان يلتبس عليهم الامر ويقولون هو رجل والرجل لا يكون رسولا وكذلك الرسل قبله قال تعالى او عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منك لينذركم ((الأعراف)) كما قال تعالى أكان للناس عجبا أن اوحينا الى رجل منهم ان انذر الناس (يونس) وكما قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل (الاحقاف) ونحو ذلك

فكان علمهم بثبوت معين من هذا النوع يوجب العلم بقضية مطلقة وهو ان هذا النوع موجود بخلاف ما إذا اثبت ذلك ابتداء بلا وجود نظير فانه يكون اصعب وإن كان ممكنا فان نوحا اول رسول بعثه الله الى اهل الارض ولم يكن قبله رسول بعث الى الكفار المشركين يدعوهم الى الانتقال عن الشرك الى التوحيد وآدم والذين كانوا بعده كان الناس في زمهنم مسلمين كما قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الاسلام لكن لما بعث الله نوحا وانجى من آمن به وأهلك من كذبه صار هذا المعين يثبت هذا النوع أقوى مما كان يثبت ابتداء

والذين قالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان مبدأ كلامهم في الامور الطبيعية فانهم رأوا البارد إنما يقتضى التبريد فقط والحار إنما يقتضي التسخين فقط وكذلك سائرها لكن هذا ليس فيه إحداث واحد لواحد فان البرودة الحاصلة لا بد لها مع السبب من محل قابل وارتفاع موانع فلم يحصل السبب إلا عن شيئين لا عن واحد لكن هذا كان مبدأ كلامهم

وأما احتجاج ابن سينا وامثاله بأنه لو صدر اثنان لكان مصدر هذا غير مصدر هذا ولزم التركيب المنافي للوحدة فهذه الحجة تبع لحجة التركيب وهذه اخذوها من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم ليست هذه من كلام أئمة الفلاسفة كأرسطو وأتباعه لا سيما أكثر أساطين الفلاسفة فانهم كانوا يقولون باثبات الصفات لله تعالى بل وبقيام الامور الاختيارية كما ذكرنا كلامهم في غير هذا الموضع وهو اختيار ابي البركات صاحب المعتبر ومن قال إنه خالف اكثر الفلاسفة فمراده المشائين وأما الاساطين قبل هؤلاء فكلام كثير منهم يدل على هذا الاصل كما هو مذكور في موضعه

ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف فاذا رأى الشيئين المتماثلين علم ان هذا مثل هذا يجعل حكمهما واحدا كما إذا رأى الماء والماء والتراب والتراب والهواء والهواء ثم حكم بالحكم الكلى على القدر المشترك وإذا حكم على بعض الاعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد إذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس

وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس فانه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار ان يعلم ان من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقى تكذيب الرسل حذرا من العقوبة وهذا قياس الطرد ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل أتبعهم لا يصيبه ما اصاب هؤلاء وهذا قياس العكس وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين فان المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الاصل لا نظيره والاعتبار يكون بهذا وبهذا قال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الالباب يوسف وقال قد كان لكم أية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار ((آل عمران))

الميزان المنزل من الله هو القياس الصحيح

وقد قال سبحانه وتعالى الله الذي انزل الكتب بالحق والميزان الشورى وقال لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط الحديد والميزان يفسره السلف بالعدل ويفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان وقد أخبر انه انزل ذلك مع رسله كما أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط

فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات فمعرفة أن هذه الدارهم أو غيرها من الاجسام الثقيلة بقدر هذه تعرف بموازينها وكذلك معرفة أن هذا الكيل مثل هذا يعرف بميزانه وهو المكاييل وكذلك معرفة أن هذا الزمان مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التي يقدر بها الاوقات كما يعرف به مظلال وكما يعرف بجرى من ماء ورمل وغير ذلك وكذلك معرفة أن هذا بطول هذا يعرف بميزانه وهو الذارع فلا بد بين كل متماثلين من قدر مشترك كلى يعرف به ان احدهما مثل الاخر

فكذلك الفروع المقيسة على اصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الاوسط فانا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من انها تصد عن ذكر الله وعن الصلوة وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلى المشترك الذي هو علة التحريم كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي انزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا ونجعله مثل هذا فلا نفرق بين المتماثلين والقياس الصحيح هو من العدل الذي امر الله تعالى به

ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط والمقصود بها وزن الامور الموجودة في الخارج وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينات لم يكن بها اعتبار كما أنه لولا الموزونات لم يكن الى الميزان من حاجة ولا ريب أنه إذا احضر احد الموزونين واعتبر بالاخر بالميزان كان اتم في الوزن من ان يكون الميزان وهو الوصف المشترك الكلى في العقل أي شئ حضر من الاعيان المفردة وزن بها فان هذا ايضا وزن صحيح وذلك احسن في الوزن فانك إذا وزنت بالصنجة قدرا من النقدين ثم وزنت بها نظيره والاول شاهد والناس يشهدون ان هذا وزن به هذا فظهر مثله او اكثر او اقل كان احسن من ان يوزن احدهما في مغيب الاخر فانه قد يظن ان الوازن لم يعدل في الوزن كما يعدل إذا وزنها معا فان هذا يعتبر بأن يوزن أحدهما بالاخر بلا صنجة وهكذا الموزونات بالعقل

وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع وبينا ان القياس الصحيح هو من العدل الذي انزله وانه لا يجوز قط ان يختلف الكتاب والميزان فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح لا قياس شرعي ولا عقلي ولا يجوز قط ان الادلة الصحيحة النقلية تخالف الادلة الصحيحة العقلية وأن القياس الشرعي الذي روعيت شروط صحته يخالف نصا من النصوص وليس في الشريعة شئ على خلاف القياس الصحيح بل على خلاف القياس الفاسد كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد وذكرنا في كتاب درء تعارض العقل والنقل ومتى تعارض في ظن الظان الكتاب والميزان النص والقياس الشرعي او العقلي فأحد الامرين لازم إما فساد دلالة ما احتج به من النص إما بأن لا يكون ثابتا عن المعصوم او لا يكون دالا على ما ظنه او فساد دلالة ما احتج به من القياس سواء كان شرعيا او عقليا بفساد بعض مقدماته او كلها لما يقع في الاقيسة من الالفاظ المجملة المشتبهة

وأبو حامد ذكر في القسطاس المستقيم الموازين الخمسة وهي منطق اليونان بعينة غير عبارته ولا يجوز لعاقل ان يظن ان الميزان العقلي الذي انزل الله هو منطق اليونان لوجوه احدها إن الله انزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وابراهيم وموسى وغيرهم وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلثمائة سنة فكيف كانت الامم المتقدمة تزن بهذا الثاني إن امتنا أهل الاسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية ولم يسمع سلفنا بذكر هذا المنطق اليوناني وإنما ظهر في الاسلام لما عربت الكتب الرومية في دولة المأمون او قريبا منها الثالث انه ما زال نظار المسلمين بعد ان عرب وعرفوه يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا الى اهله في موازينهم العقلية والشرعية

ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا إصطلاحات لفظية وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الامم فانه ليس الامر كذلك بل فيه معان كثير فاسدة ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الاقيسة العقلية وزعموا انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن ان يزل في فكره وليس الامر كذلك فانه لو احتاج الميزان الى ميزان لزم التسلسل وايضا فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي وإن كانت بليدة او فاسدة لم يزدها المنطق لوكان صحيحا إلا بلادة وفسادا ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه لا بد ان يتخبط ولا يأتي بالادلة العقلية على الوجه المحمود ومتى اتى بها على الوجه المحمود اعرض عن اعتبارها بالمنطق لما فيه من العجز والتطويل وتبعيد الطريق وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط

كل قياس في العالم يمكن رده الى القياس الاقتراني

فان قيل ما ذكرته من أن قياس الشمول يرجع الى قياس التمثيل يتوجه في قياس الاقترانى دون الاستثنائى فان الاستثنائى ما تكون النتيجة او نقيضها مذكورة فيه بالفعل بخلاف الاقترانى فان النتيجة إنما هي فيه بالقوة والاستثنائي مولف من الشرطيات المتصلة وهو التلازم ومن المنفصلة وهو التقسيم ولا ريب أن الحد الاوسط في الاقترانى يمكن جعله الجامع المشترك في القياس التمثيلي بخلاف الاستثنائى قيل الجواب من وجوه

منها ان التلازم والتقسيم إذا قيل هذا مستلزم لهذا حيث وجد وجد فان هذا قضية كلية فتستعمل على وجه التمثيل وعلى وجه الشمول بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل القدر المشترك هو مناط الحكم وكذلك إذا قيل هذا إما كذا وإما كذا فهو أيضا كلى يبين بصيغة التمثيل وبصيغة الشمول ولهذا كانت الاحكام الثابتة بصيغة العموم يمكن استعمال قياس التمثيل فيها بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل المعنى المشترك هو مناط الحكم

ومنها أن كل قياس في العالم يمكن رده الى الاقترانى فاذا قيل بصيغة الشرط إن كانت الصلوة صحيحة فالمصلى متطهر أمكن أن يقال كل مصل فهو متطهر وأن يقال الصلوة مستلزمة الطهارة ونحو ذلك من صور القياس الاقتراني والحد الاوسط فيه ان استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم وهذا معنى قولنا إذا وجد الملزوم وجد اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فان المقدم هو الملزوم والتالي هو اللازم وهكذا كل شرط وجزاء فالشرط ملزوم والجزاء لازم له

وهذا إذا جعل بصيغة الاقترانى فقيل هذا مصل وكل مصل متطهر فهذا متطهر أو قيل هذا ليس بمتطهر ومن لا يكون متطهرا ليس بمصل فهذا ليس بمصل والقضية الكلية فيه ان كل مصل متطهر وأن كل من ليس بمتطهر فليس بمصل فالسالبة والموجبة كلاهما كليتان وهذه الكلية معروفة بنص الشارع ليست مما عرفت بالعقل ولو كانت مما تعرف بالعقل المجرد لعرفت ب قياس التمثيل مع انها تصاغ ب قياس التمثيل فيقال هذا مصل فهو متطهر كسائر المصلين او هذا ليس بمتطهر فليس بمصل كسائر من ليس بمتطهر ثم يبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم كما في الاول

وكذلك الشرطي المنفصل الذي هو التقسيم والترديد إذا قيل هذا إما أن يكون شفعا أو وترا ونحو ذلك قيل هذا لا يخلو من كونه شفعا او وترا ولا يجتمع هذاوهذا معا وهو شفع فلا يكون وترا أو هو وتر فلا يكون شفعا وهذه القضية معلومة بالبديهة لكن تصور أفرادها أبين من تصور كليتها فلا يحتاج شئ من أفرادها أن يبين بالقياس الكلى المنطقي فانه أي شئ علم انه شفع علم انه ليس بوتر بدون ان يوزن بامر كلى عنده ولا بقياس على نظيره فلا يحتاج ان يقال وكل شفع فليس بوتر أو كل وتر فليس بشفع

وهذا كما تقدم التنبيه عليه ان ما يثبتونه بالقضايا الكلية تعلم مفرداتها بدون تلك القضايا بل وتعرف بدون قياس التمثيل فاذا عرف ان هذا الثوب او غيرة اسود عرف انه ليس بأبيض بدون أن يقال كل اسود فانه ليس بابيض وهذه الكلية من أن كل أسود لا يكون ابيض يعرف بدون أن يعرف أن كل ضدين لا يجتمعان ولو أثبت تلك المعينات بهذه الكلية لا حتيج أن يبين أنهما ضدان فانه لا يعلم انهما ضدان حتى يعلم انهما لا يجتمعان وإذا علم انهما لا يجتمعان أغنى ذلك عن الاستدلال عليه بكونهما ضدين

فعلم انه لا يحتاج أن يبين ما يندرج في هذا الكلى لا من الانواع ولا من الاعيان المعينة به بل العلم بها أبين من العلم بهذه الكلية بل إذا أرادوا أن يبينوا ان الضدين لا يجتمعان قالوا المراد بالضدين هما الوصفان الوجوديان الذان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض فيعود الامر الى تعريفهم مرادهم بهذا اللفظ وأما بيان ما دل عليه من المعاني المعقولة فلا يحتاج الى الاستدلال عليه بالكلى وكذلك في النقيضين وكذلك في الشرط والمشروط والعلة والمعلول وسائر هذه الامور الكلية

إبطال القول باقتران العلة والمعلول في الزمان

ولهذا من لم يحكم معرفة هذا وإلا التبست عليه المعقولات ودخل عليه غلطهم سواء كانوا قد غلطوا هم في التصور وهو الغالب على أئمتهم أو كانوا يقصدون التغليط كما يفعله بعضهم

مثال ذلك انه إذا قيل لهم في مسئلة حدوث العالم كيف يكون العالم مفعولا مصنوعا للرب وهو مساوق له أزلا وأبدا مقارن له في الزمان هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل فان المفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان قالوا بل هذا ممكن وهو أن تقدم العلة على المعلول تقدما عقليا لازما كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم الذي فيها وتقدم الشمس على الشعاع وتقدم الحركة على الصوت الناشئ عنها ثم إن كان ممن تكلم في العلة والمعلول المذكور في الصفات والاحوال وهو يقول العلم علة كون العالم عالما كما يقوله مثبتوا الاحوال من النظار كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي في أول قوليه والقاضي أبي يعلى وأمثالهم فانه قد ألف أن العلة والمعلول متلازمان مقترنان فلا يستنكر مثل هذا هنا

ولهذا غلط بسبب متابعتهم في هذا طوائف من الفقهاء في الفقه كأبي المعالي واتباعه ابي حامد والرافعي وغيرهم فادعوا شيئا خالفوا فيه جميع أئمة الفقه المتقدمين من اصحاب الائمة الاربعة وغيرهم ولم يقله الشافعي ولا احد من ائمة أصحابه ولا غيرهم وهو انه إذا قال لامرأته إذا شربت أو زنيت أو فعلت كذا فأنت طالق وقصده أن يقع بها الطلاق إذا وجد ذلك الشرط أو قال إذا أعطيتني الفا فأنت طالق أو قال إذا طلقتك فانت طالق طلقة أخرى أو إذا وقع عليك طلاقي فانت طالق أو قال مثل ذلك في العتق فزعموا ان الحكم المعلق بشرط يقع هو والشرط معا في زمن واحد بناء على أن الشرط علة للحكم والمعلول يقارن العلة في الزمان

وهذا خطأ شرعا ولغة وعقلا أما الشرع فان جميع الاحكام المعلقة بالشروط لا تقع شئ منها إلا عقيب الشروط لا تقع مع الشروط والفروع المنقولة عن الائمة تبين ذلك واما لغة فإن الجزاء عند أهل اللغة يكون عقب الشرط وبعده ولا يكون الجزاء مع الشرط في الزمان ولهذا قد يكون الجزاء مما يتأخر زمانه كقوله تعالى ف من يعلم مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (الزلزال) وفي النذر إذا قال إن شفى الله مريضي فعلي صوم سنة فلا يجب عليه الصوم إلا بعد الشفاء لا مقارنا للشفاء ولا في زمن الشفاء وكذلك إذا قال إن سلم الله مالى الغائب وكذلك إذا قال من رد عبدي الآبق أو بنى لى هذا الحائط ونحو ذلك وأيضا فهذا يذكر بحرف الفاء والفاء للتعقيب يوجب ان يكون الثاني عقيب الاول لا معه وأما عقلا فلأن الاول هنا كالفاعل الموجب للثاني ولا يعرف قط أن الفاعل يقارنه مفعوله

وما ذكروه من اقتران العلة العقلية لمعلولها ك العلم والعالمية فجوابه أنه عند جماهير العقلاء ليس هنا علة ومعلول بل العلم هو العالمية وهذا مذهب جمهور نظار اهل السنة والبدعة وهو نفي الاحوال فلا علة ولا معلول وإن جعلت المعلول الحكم بكونه عالما والخبر عنه بكونه عالما فهذا قد يتأخر عن العلم وعلى قول من أثبت الحال هو يقول إنها ليست موجودة ولا معدومة فليست نظير المعلولات الوجودية

وأيضا فهولاء يقولون إن العالم فاعل للعالمية ولا هو جاعل العالمية ولا هذا عنده من باب تأثير الوجود كالاسباب والعلل فان كونه عالما لازم للعلم بما يلزم العلم انه علم ليس هذا مثل كون قطع الرقبة سببا للموت ولا كون الاكل سببا للشبع من الاسباب التي خلقها الله فكيف بالاسباب التي يصنعها العباد كقوله إذا زنيت فأنت طالق فهنا علق حادثا بحادث وحكم بكون ذلك الاول سببا للثاني فأين هذا من العلم والعالمية وإنما غرهم الاشتراك في لفظ العلة

وكذلك المتفلسفة ليس في جميع ما مثلوا به علة فاعله قارنت مفعولها في الزمان فحركة اليد ليست هي الفاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لهما واحد ولكن حركتهما متلازمة لاتصال الخاتم باليد كحركة بعض اليد مع بعض وكما يقال حركت يدى فتحرك الخاتم وكما يقال حركت كفى فتحركت اصابعي وليست حركة الكف فاعلة لحركة الاصابع وإن قدر انها بعدها لم يسلم اقترانهما في الزمان بل تكون كأجزاء الزمان المتصل بعضها ببعض فانه لا فصل بينهما وإن كان الجزء الثاني متصلا بالاول كذلك أجزاء الحركة كحركة الظل وغيره كل جزء منها يحدث بعد الاخر وفي الزمان الذي يلى حركة الجزء الاول فأما أن يقال الحركتان وجدتا معا وأحدهما فاعلة للاخرى فهذا باطل

وأيضا فان المعروف أنه إذا قيل حركت يدى فتحرك خاتمى او المفتاح في كمى ونحو ذلك إذا تحرك بحركة تخصه مثل ان يكون الخاتم ملقى فاذا حرك يده علق في يده فتحرك وهذه الحركة بعد حركة اليد في الزمان واما إذا كان الخاتم متصلا بالاصبع ثابتا فيها وإنما يتحرك كما تتحرك الاصابع فالمحرك للجميع واحد ولو كان الانسان نائما او ميتا فرفع رجل يده وفيها الخاتم لكانت أيضا متحركة بحركة اليد وهى حركة واحدة شملت الجميع لاتصال بعضه ببعض ليس هنا حركتان إحداهما سبب الاخرى فضلا عن ان تكون فاعلة لها ومن قال في مثل هذا حركت يده فتحرك خاتمه فانما هو كقوله فتحركت اليد فانما يريد بذلك أن الحركة شملت الجميع ولم يرد بذلك أن حركة اليد كانت سببا للحركة الاولى ولا نعرف عاقلا يقول هذا ويقصد هذا وإن قدر انه وجد فليس قوله حجة على سائر العقلاء ومن رفع يد ميت أو نائم وفيها خاتم لم تكن حركة بعض ذلك سببا لبعض بل الجميع موجود في زمان واحد لفاعل واحد وسبب واحد

فبطل أن يكون في الوجود سبب يقارن مسببه في الزمان بل لا يكون إلا قبله فكيف بالفاعل المستقل وإنما الذي يقارن الشئ في الزمان شرطه وتقدم الواحد على الاثنين هو من هذا الباب لا من باب تقدم الشرط على المشروط وحركة الخاتم مع اليد هي من باب المشروط مع الشرط ليست من باب المفعول مع الفاعل ولكن لفظ العلة فيه إجمال

وكذلك الصوت مع الحركة فان الصوت يحدث عقيب الحركة وغايته أن يكون معها كالجزء الثاني من الحركة مع الاول والحركة المتصلة والزمان المتصل ليس بعضه مع بعض في الزمان فغاية الصوت مع الحركة أن تكون كذلك وكذلك الشعاع مع ظهور الشمس مع أن الشمس ليست فاعلة للشعاع بل الشعاع يحدث في الارض إذا قابل الشمس ما ينعكس الشعاع عليه وكذلك الحركة ليست هى الفاعلة للصوت ولكن الشمس شرط في الشعاع والحركة شرط في الصوت

وأما فاعل يبدع مفعوله ويكون مقارنا له في الزمان فهذا لا يوجد قط لكن لفظ العلة فيه إجمال ف العلة الفاعلة شئ والعلة التي هي شرط شئ آخر والشرط قد يقارن المشروط في زمانه بخلاف الفاعل فانه لا بد ان يتقدم فعله على المعين وإذا قدر انه لم يزل فاعلا فكل جزء من أجزاء الفعل مسبوق بجزء آخر وإن كان نوع الفعل لم يزل فلا يتصور أن يكون فعله أو مفعوله معينا مع الله أزلا وابدا وإن قيل إنه لم يزل فاعلا بمشيئته فدوام نوع الفعل شئ ودوام الفعل المعين والمفعول المعين شئ آخر

والذي أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول واتفق عليه جماهير العقلاء من الاولين والاخرين أن الله خالق كل شئ وأن كل ما سواه فهو مخلوق له وكل مخلوق محدث مسبوق بالعدم وأما تغيير هولاء للفظ المحدث وقولهم إنا نقول إنه محدث حدوثا ذاتيا بمعنى أنه معلول فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه فان المحدث معلوم انه قد كان بعد أن لم يكن وأنه مفعول أحدثه محدث إحداثا وما لم يزل ولا يزال فلا يسميه أحد من العقلاء في لغة من اللغات محدثا بل ولا يقول أحد من العقلاء أنه مفول مصنوع مخلوق ولا يقول أحد أنه ممكن يمكن وجوده ويمكن عدمه إلا هذه الشرذمة من الفلاسفة

الميزان العقلي هو المعرفة الفطرية للتماثل والاختلاف

وهذه الامور مبسوطة في مواضعها وإنما المقصود هنا أنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات الى اقيسة كلية وضعوا الفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة وكانوا فيها من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (المطففين) واين البخس في الاموال من البخس في العقول والاديان مع ان اكثرهم لا يقصدون البخس بل هم بمنزلة من قد ورث موازين من ابيه يزن بها تارة له وتارة عليه ولا يعرف أهى عادلة ام عائلة

والميزان التي انزلها الله مع الكتاب حيث قال الله تعالى الذي انزل الكتب بالحق والميزان وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وانزلنا معهم الكتب والميزان هي ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشئ بمثله وخلافه فيسوى بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين بما جعله الله في فطر عبادة وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف

فان قيل إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل قيل لان الرسل ضربت للناس الامثال العقليه التي يعرفون بها التماثل والاختلاف فان الرسل دلت الناس وارشدتهم الى ما به يعرفون العدل ويعرفون الاقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية فليست العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام ويجعلون ما يعلم بالعقل قسيما للعلوم النبوية بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا وضربت الامثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه او كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الاراء والاهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينها رسله

والقرآن والحديث مملوء من هذا يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والامثال المضروبة ويبين طرق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين امنوا وعملوا الصلحت سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون الجاثية وقوله أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم أي هذا حكم جائر لا عادل فان فيه تسوية بين المختلفين وقال ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار ومن التسوية بين المتماثلين قوله أكفاركم خير من أولئكم ام لكم برآءة في الزبر القمر وقوله أم حسبتهم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباسآء والضرآء وزلزلوا (البقرة)

والقرآن مملوء من ذلك لكن ليس هذا موضعه وإنما المقصود التنبيه على جنس الميزان العقلى وانها حق كما ذكر الله في كتابه وليست هي مختصة بمنطق اليونان وإن كان فيه قسط منها بل هى الاقيسة الصحيحة المتضمنة التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل وصيغ التمثيل هى الاصل وهي أكمل والميزان القدر المشترك وهو الجامع وهو الحد الاوسط

وإنزاله تعالى الميزان مع الرسل كانزاله الايمان وهو الامانة معهم والايمان لم يحصل إلا بهم كما قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتب ولا الايمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي الى صراط مستقيم الشورى وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله - حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الاخر حدثنا ان الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة وحدثنا عن رفع الامانة قال ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منترا وليس فيه شئ فقد بين في هذا الحديث أن الامانة التي هى الايمان أنزلها في أصل القلوب فان الجذر هو الاصل وهذا إنما كان بواسطة الرسل لما اخبروا بما اخبروا به فسمع ذلك ف ألهم الله القلوب الايمان وانزله في القلوب

وكذلك أنزل الله سبحانه الميزان في القلوب لما بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الامور حتى تعرف التماثل والاختلاف وتضع من الالات الحسية ما يحتاج اليه في ذلك كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك وهذا من وضعه تعالى الميزان قال تعالى والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان الرحمن وقال كثير من المفسرين هو العدل وقال بعضهم ما يوزن به ويعرف العدل وهما متلازمان

الوجه الثامن: ليس عندهم برهان على علومهم الفلسفية

إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات والاوليات والمتواترات والمجربات والحدسيات ومعلوم أنه لا دليل على نفى ما سوى هذه القضايا كما تقدم البينة عليه

ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهما ما جرت العادة باشتراك بنى آدم فيه وتناقضوا في ذلك وذلك ان بنى آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات فانهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم وكذلك اكثر المرئيات فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيره وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شئ معين فيه بل الذي يشمونه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين كما يتفقون في شرب جنس الماء ومس جنس النساء

وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس فانه قد يتواتر عند هؤلاء ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الادوية ويجرب الاخرون جنس تلك الادوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب

ثم هم مع هذا يقولون في المنطق إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره فيقال لهم وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات بل اشتراك الناس في المتواترات اكثر فان الخبر المتواتر ينقله عدد كثير فيكثر السامعون له ويشتركون في سماعه من العدد الكثير لا سيما إذا كان العدد الكثير مئين وألوفا فبطائفة من هؤلاء يحصل العلم المتواتر فاذا نقل هؤلاء لقوم وهولاء لقوم وهؤلاء لقوم حصل العلم المتواتر لامم لا يحصى عددهم إلا الله بخلاف ما يدرك بالحواس فانه يختص بمن احسه فاذا قال رأيت او سمعت او ذقت او لمست او شممت فكيف يمكنه ان يقيم من هذا برهانا على غيره ولو قدر انه شاركه في تلك الحسيات عدد فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم احسها ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر فاذا ادعوا أن الخبر المتواتر مختص بالحسيات فلا يقوم به البرهان على المنازع فالحسيات اعظم اختصاصا فيلزم ان لا يقوم بها برهان على المنازع وليس في الحسيات اكثر اشتراكا

الرؤية فان الناس يشتركون في رؤية الانوار العلوية كالشمس والقمر والكواكب ولكن مواد البرهان لا يختص بذلك

وإن قالوا الحسيات تحصل بالاشتراك في جنسها كاشتراك الناس في معرفة الالوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة وإن لم يكن عين ما احسه هؤلاء هو عين ما احسه هؤلاء لكن اشتركا في الجنس قيل والمتواترات والمجربات قد يشتركون في جنسها كما تقدم بل وجود الشبع والري عقيب الاكل والشرب هو من المجربات والناس يشتركون في جنسه وكذلك وجود اللذة بذلك وبالجماع وغير ذلك بما إذا فعله الانسان وجد عقيبه اثرا من الاثار ثم يتكرر ذلك حتى يعلم ان ذاك سبب هذا الاثر فهذا هو التجربيات

والقضايا الظنية أصلها التجربيات وهو من هذا الباب فان المراد أنه إذا استعمل الدواء الفلاني وجد زوال المرض أو حصل به ألم المرض فوجود المرض بهذا ووجود زواله بهذا هو من التجربيات وكذلك الالام واللذات التي تحصل بالمشمومات والمسموعات والمرئيات والملموسات فان الحس ينال كذا ويرى هذا ويسمع هذا ويذوق هذا ويلمس هذا ثم وجود اللذة في النفس هو من الوجديات المعلومة بالحس الباطن وهو من جنس الحسيات الظاهرة

وأما الاعتقاد الكلى القائم في النفس من أن هذا الجنس يحصل به اللذة وهذا الجنس يحصل به الالم فهذا من التجربيات إذ الحسيات الظاهرة والباطنة ليس فيها شئ كلى فالقضاء الكلى الذي يقوم بالقلب هو مركب من الحس والعقل وهو التجربيات كما في اعتقاد حصول الشبع والري بما يعرف من المأكولات والمشروبات والموت والمرض بما يعرف من السموم القاتلة والاسباب الممرضة وزوال ذلك بالاسباب المعروفة وكل هذا من القضايا التجربية فالحس به يعرف الامور المعينة ثم إذا تكررت مرة بعد مرة أدرك العقل ان هذا بسبب القدر المشترك الكلى فقضى فضاء كليا أن هذا يورث اللذة الفلانية وهذا يورث الالم الفلاني

والحدسيات هى كذلك فبالحس يعرف أعيانها ثم يتكرر فتعلم بالعقل القدر المشترك لكن ذلك التكرر لا يكون بفعل الانسان بل هو كما يعرف من الامور السماوية مثل ان يرى اختلاف انوار القمر عند اختلاف مقابلته للشمس فيحدس أن ضوءه مستفاد منها ومثل ما يرى الثوابت لا تختلف حركتها بالطول والعرض بل حركتها حركة واحدة فيحدس أن فلكها واحد وإلا فيجوز أن يكون لكل واحد فلكا حركته مثل حركة الاخر ومثل ما يرى اختلاف حركات السبعة فيحدس عن اختلاف أفلاكها وهذا يسمى في اللغة تجربيات وكثير منهم ايضا يسميه تجربيات ولا يجعل قسما غير المجربات

وبالجملة الامور العادية سواء كان سبب العادة إرادة نفسانية أو قوة طبيعية فالعلم بكونها كلية هو من التجربيات او الحدسيات إن جعلت نوعا أخر حتى العلم بمعانى اللغات هو من الحدسيات فان الانسان يسمع لفظ المتكلم ثم قد يعلم مراده المعين بإشارة إليه أو بقرينة أخرى ثم إذا تكرر تكلمه بذلك اللفظ مرة بعد مرة وهو يريد به ذلك المعنى علم ان هذه عادته الارادية وهو إرادة هذا المعنى بهذا اللفظ إذا قصد إفهام المخاطب وهذا مما يسمونه الحدسيات إذ ليس كلام المتكلم موقوفا على اختيار المستمع وهو من التجربيات العامة فان السمع إنما عرف به الصوت والمعنى المعين قد يفهم أولا بأسباب متعددة إما كون هذا المتكلم من عادته ولغته انه إذا تكلم بهذا اللفظ أراد ذلك المعنى فهذا من هذا الباب وكذلك سائر ما يعلم من عادات الناس وعادات البهائم وعادات النبات وعادات سائر الاعيان هو من هذا الباب

وقد يعلم احد الشخصين بعادة نظيره فاذا كان من عادة شخص إذا قال أو فعل أمرا اراد به شيئا ورأى نظيره يقول ذلك او يفعله فقد اعتقد انه اراد ما اراد لان العادة عرف أنها للنوع لا للشخص كعادة الناس في اللغات والافعال من العبادات وغير العبادات فاذا رأى الرجل يدخل المسجد قرب صلوة الجمعة وعليه أهبة أهل الصلوة اعتقد أنه يدخله للصلوة لان هذا عادة هذا النوع وكذلك إذا رأى قاعدا في محل التطهير شارعا فيما يشرع فيه المتطهر عرف أنه يتطهر ثم العاديات قد تنتقض وقد يعلم ما يفعله الفاعل من العلم بصفاته ويعلم صفاته من افعاله لكن ذاك من باب الاستدلال النظري العقلي وهو الاستدلال بالملزوم على اللازم فليس ذاك من هذا

كون العلوم الفلسفية من المجربات

فعامة ما عند الفلاسفة بل وسائر العقلاء من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هو من العلم بعادة ذلك الموجود وهو مما يسمونه الحدسيات وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والعلوم الفلكية كعلم الهيئة فهو من هذا القسم من المجربات ان كان علما فان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع فليس عند القوم برهان على المنازع وايضا فان كون هذه الاجسام الطبيعية جربت وكون الحركات الفلكية جربت لا يعرفه اكثر الناس الا بالنقل والتواتر في هذا قليل وانما الغاية ان تنتقل التجربة في ذلك عن بعض الاطباء او بعض اهل الحساب

وعلم الهيئة الذي هو اعظم علومهم الرياضية العقلية الذي جعله ارسطو اهله هم ائمة الفلاسفة وعلمهم اصل الفلسفة فانه منه تعرف عدد الافلاك وحركاتها والا فالحس لا يرى الا حركة الاجسام المعينة فيرى الشمس متحركة والقمر متحركا والكواكب متحركة هذا الذي يعلم بالحس واما كون هذه مذكورة في افلاك متحركة فهذا انما يعلمونه من علم الهيئة والعلم بأن بعض الافلاك فوق بعض علموه بكسوف الاعلى الاسفل فلما راوا القمر يكسف سائرها استدلوا بذلك على انه تحت الجميع ولما راوا زحل لا يكسف شيئا والجميع تكسفه استدلوا بذلك على انه فوق الجميع وكذلك كون الثوابت في الثامن ادعوا علمه بأنها لا تكسف شيئا بل قد يكسفها غيرها واما افلاكها فاستدلوا عليها بالحركات

والعلم بقدر حركاتها وبكسوف بعضها لبعض ونحو ذلك مداره على الارصاد وغايته ان بعض الناس راى هذا فأخبر به غيره وليس هذا خبرا متواترا بل غالبه خبر واحد ثم ان الارصاد يقع فيها من الغلط ما هو معروف ولهذا اختلفت ارصاد المتقدمين والمتأخرين في حركة الثوابت هل تقطع درجة فلكية في كل مائة سنة او في ستة وستين وثلثي سنه كما زعمه اهل الرصد المأموني ولما اخبرهم اهل الهيئة بحركة الفك استدلوا بذلك على ان لها نفسا تحركه بالارادة لان حركته دورية ليست طبيعية واستدلوا على عدد النفوس التسعة بالافلاك التسعة وعلى العقول العشرة بالافلاك التسعة مع العقل العاشرة الذي هو اول صادر عن واجب الوجود وجعلوا الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الاولى ليخرج ما فيه من الايون والاوضاع وغاية الفلسفة عندهم التشبه بالعلة الاولى بحسب الامكان فهذا هو العلم الالهي الذي هو الفلسفة الاولى والحكمة العليا وفيه من المقدمات الضعيفة ما ليس هذا موضع بسطه

وانما المقصود ان مبناه على قضايا يخبر بها بعض الناس عن قضايا حدسية فاذا قالوا ان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع والقضايا الطبيعية مبناها على ما ينقله بعض الناس من التجارب فاذا لم يكن في هذا ولا هذا برهان لم يكن عند القوم برهان على ما يختصون به واما ما يشتركون فيه هم وسائر الناس فهذا ليس مضافا اليهم ولا هو من علمهم فأين البرهان على العلوم الفلسفية مع العلم بأن العاديات التي هي عامة علومهم الكلية منتقضة كما بيناه في غير هذا الموضع فنحن نعلم انه ليس معهم في عامة ما يدعونه برهانيا برهان يقيني ولكن مع هذا نذكر بعض تناقضهم


الرد على المنطقيين
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19