العلوم الحسية لا تكون إلا جزئية معينة

ومما يوضح ذلك ان القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار لم ندرك ان كل نار محرقة فاذا جعلنا هذه قضية كلية وقلنا كل نار محرقة لم يكن لنا طريق يعلم به صدق هذه القضية الكلية علما يقينيا إلا والعلم بذلك ممكن في الاعيان المعينة بطريق الاولى

وإن قيل ليس المراد العلم بالامور المعينة فان البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية فالنتائج المعلومة بالبرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك

والكليات إنما تكون كليات في الاذهان لا في الاعيان

قيل فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشئ موجود بل بأمور مقدرة في الاذهان لا يعلم تحققها في الاعيان وإذا لم يكن في هذا علم بشئ موجود لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدا بل عديم المنفعة

وهم لا يقولوك بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجة الطبيعية والالهية

ولكن حقيقة الامر كما بيناه في غير هذا الموضع ان المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة بل الاكثرية فلا تفيد مقصود البرهان

وأما الالهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن ان تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان

ولهذا حدثونا باسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب كشف اسرار المنطق والموجز وغيرهما انه قال عند الموت أموت وما عرفت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر الى المؤثر ثم قال الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئا وكذلك حدثونا عن آخر من افاضلهم

فهذا امر يعرفه كل من خبرهم ويعرف انهم اجهل اهل الارض بالطرق التي ينال بها العلوم العقلية والسمعية إلا من علم منهم علما من غير الطريق المنطقية فتكون علومه من تلك الجهة لا من جهتهم مع كثرة تعبهم في البرهان الذين يزعمون أنهم يزنون به العلوم ومن عرف منهم بشئ من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق

القضايا الكلية تعلم بقياس التمثيل

ومما يبين ان حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر الى برهانهم ان يقال إذا كان لا بد في برهانهم من قضية كلية فالعلم بتلك القضية الكلية لا بد له من سبب فان عرفوها ب اعتبار الغائب بالشاهد وان حكم الشيء حكم مثله كما إذا عرفنا أن هذا النار محرقة علمنا ان النار الغائبة محرقة لانها مثلها وحكم الشيء حكم مثله فيقال

هذا استدلال ب قياس التمثيل وهم يزعمون انه لا يفيد اليقين بل الظن فاذا كانوا علموا القضية الكلية بقياس التمثيل رجعوا في اليقين الى ما يقولون إنه لا يفيد إلا الظن

وإن قالوا بل عند الاحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم الكلى من واهب العقل أو تستعد النفس عند الاحساس بالجزئيات لان يفيض عليها الكلى من واهب العقل او قالوا من العقل الفعال عندهم او نحو ذلك قيل لهم

الكلام فيها به يعلم ان ذلك الحكم الكلى الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل

فان قالوا هذا يعلم بالبديهة والضرورة كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة وأن النفس مضطرة الى هذا العلم وهذا إن كان حقا فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع

فان جزم العقلاء بالشخصيات من الحسيات أعظم من جزمهم بالكليات وجزمهم بكلية الانواع أعظم من جزمهم بكلية الاجناس والعلم بالجزئيات أسبق الى الفطرة فجزم الفطرة بها اقوى ثم كلما قوى العقل اتسعت الكليات

وحينئذ فلا يجوز ان يقال إن العلم بالاشخاص موقوف على العلم بالانواع والاجناس ولا ان العلم بالانواع موقوف على العلم بالاجناس بل قد يعلم الانسان انه حساس متحرك بالارادة قبل ان يعلم ان كل إنسان كذلك ويعلم ان الانسان كذلك قبل ان يعلم ان كل حيوان كذلك فلم يبق علمه ب انه أو ب ان غيره من الحيوان حساس متحرك بالارادة موقوفا على البرهان

وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد أو انه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركا بالارادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الاحكام الشرعية

استواء قياس التمثيل وقياس الشمول

وهؤلاء يزعمون ان ذلك القياس إنما يفيد الظن وقياسهم هو الذي يفيد اليقين وقد بينا في غير هذا الموضع ان قولهم هذا من أفسد الاقوال وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء وإنما يختلف اليقين والظن بحسب المواد فالمادة المعينة إن كانت يقينية في أحدهما كانت يقينية في الاخر وإن كانت ظنية في أحدهما كانت ظنية في الاخر

وذلك ان قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة الاصغر والاوسط والاكبر والحد الاوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطا وجامعا ومشتركا وصفا ومقتضيا ونحو ذلك من العبارات

فاذا قال في مسألة النبيذ كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فلا بد له من إثبات المقدمة الكبرى وحينئذ يتم البرهان، وحينئذ فيمكنه ان يقول النبيذ مسكر فيكون حراما قياسا على خمر العنب بجامع ما يشتركان فيه من الاسكار فان الاسكار هو مناط التحريم في الاصل وهو موجود في الفرع

فيما به يقرر ان كل مسكر حرام به يقرر ان السكر مناط التحريم بطريق الاولى بل التقرير في قياس التمثيل اسهل عليه لشهادة الاصل له بالتحريم

فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات لا يكفى في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزئين لثبوته في الجزء الاخر ل اشتراكهما في امر لم يقم دليل على استلزامه للحكم كما يظنه هؤلاء الغالطون بل لا بد من ان يعلم ان المشترك بينهما مستلزم للحكم والمشترك بينهما هو الحد الاوسط وهو الذي يسميه الفقهاء واهل اصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم

وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج اليه غالبا في تقرير صحة القياس

فان المعترض قد يمنع الوصف في الاصل وقد يمنع الحكم في الاصل وقد يمنع الوصف في الفرع وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم ويقول لا اسلم ان ما ذكرته من الوصف المشترك هو العلة او دليل العلة فلا بد من دليل يدل على ذلك إما من نص او إجماع او سبر وتقسيم أو المناسبة او الدوران عند من يستدل بذلك فما دل على ان الوصف المشترك مستلزم الحكم إما علة وإما دليل العلة هو الذي يدل على ان الحد الاوسط مستلزم الاكبر وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى فان اثبت العلة كان برهان علة وإن اثبت دليلها كان برهان دلالة وإن لم يفد العلم بل افاد الظن فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية وهذا أمر بين

ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولى كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلى وحقيقة احدهما هو حقيقة الاخر

رد القول بأنه لا قياس في العقليات إنما هو في الشرعيات

ومن قال من متأخري اهل الكلام والرأى كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم إن العقليات ليس فيها قياس وإنما القياس في الشرعيات ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقا فقولهم مخالف لقول جمهور نظار المسلمين بل وسائر العقلاء

فان القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات فانه إذا ثبت ان الوصف المشترك مستلزم الحكم كان هذا دليلا في جميع العلوم وكذلك إذا ثبت انه ليس بين الفرع والاصل فرق مؤثر كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي

وأبو المعالي ومن قبله من نظار المتكلمين لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها بل يستدلون بالادلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها من غير اعتبار ذلك

غير ان المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزما للحكم كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل

ومنازعهم يقول لم يثبت الحكم في الغائب لاجل ثبوته في الشاهد بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج الى التمثيل

فيقال لهم وهكذا في الشرعيات فانه متى قام الدليل على ان الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج الى الاصل بل نفس الدليل الدال على ان الحكم معلق بالوصف كاف لكن لما كان هذا كليا والكلى لا يوجد إلا معينا كان تعيين الاصل مما يعلم به تحقق هذا الكلى وهذا امر نافع في الشرعيات والعقليات فعلمت ان القياس حيث قام الدليل على ان الجامع مناط الحكم او على إلغاء الفارق بين الاصل والفرع فهو قياس صحيح ودليل صحيح في أي شئ كان

تنازع الناس في مسمى القياس

وقد تنازع الناس في مسمى القياس

فقالت طائفة من اهل الاصول هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول كابي حامد الغزالي وابي محمد المقدسي وغيرهما

وقالت طائفة بل هو بالعكس حقيقة في الشمول مجاز في التمثيل كابن حزم وغيره

وقال جمهور العلماء بل هو حقيقة فيهما والقياس العقلي يتناولهما جميعا وهذا قول اكثر من تكلم في أصول الدين واصول الفقه وانواع العلوم العقلية وهو الصواب وهو قول الجمهور من أتباع الائمة الاربعة وغيرهم كالشيخ ابي حامد والقاضي ابي الطيب وأمثالهما وكالقاضي ابي يعلى والقاضي يعقوب والحلواني وابي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم فان حقيقة احدهما هو حقيقة الاخر وإنما تختلف صورة الاستدلال

والقياس في اللغة تقدير الشئ بغيره وهذا تتناول تقدير الشئ المعين بنظيره المعين وتقديره بالامر الكلى المتناول له ولأمثاله فان الكلى هو مثال في الذهن لجزئياته ولهذا كان مطابقا موافقا له

حقيقة قياس الشمول

وقياس الشمول هو انتقال الذهن من المعين الى المعنى العام المشترك الكلى المتناول له ولغيره والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلى بأن ينتقل من ذلك الكلى اللازم الى الملزوم الاول وهو المعين فهو انتقال من خاص إلى عام ثم انتقال من ذلك العام الى الخاص من جزئى الى كلى ثم من ذلك الكلى الى الجزئي الاول فيحكم عليه بذلك الكلى

ولهذا كان الدليل اخص من مدلوله الذي هو الحكم فانه يلزم من وجود الدليل وجود الحكم واللازم لا يكون اخص من ملزومه، بل أعم منه أو مساويه وهو المعنى بكونه أعم

والمدلول عليه الذي هو محل الحكم وهو المحكوم عليه المخبر عنه الموصوف الموضوع إما أخص من الدليل وإما مساويه فيطلق عليه القول بأنه اخص منه لا يكون أعم من الدليل إذ لو كان أعم منه لم يكن الدليل لازما له وإذا لم يكن لازما له لم يعلم ان لازم الدليل وهو الحكم لازم له فلا يعلم ثبوت الحكم له فلا يكون الدليل دليلا وإنما يكون إذا كان لازما ل المحكوم عليه الموصوف المخبر عنه الذي يسمى الموضوع والمبتدأ مستلزما الحكم الذي هو صفة وخبر وحكم وهو الذي يسمى المحمول والخبر. هذا كالسكر الذي هو أعم من النبيذ المتنازع فيه وأخص من التحريم

وقد يكون الدليل مساويا في العموم والخصوص للحكم ولمحله

وبأي صورة ذهنية أو لفظية صور الدليل فحقيقته واحدة وإن ما يعتبر في كونه دليلا هو كونه مستلزما للحكم لازما للمحكوم عليه فهذا هو جهة دلالته سواء صور قياس شمول وتمثيل أو لم يصور كذلك

وهذا امر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه اللسان ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل بالادلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم فالعلم بذلك الملزوم لا بد ان يكون بينا بنفسه او بدليل آخر

حقيقة قياس التمثيل والموازنة بينه وبين قياس الشمول

وأما قياس التمثيل فهو انتقال المذهن من حكم معين الى حكم معين لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلى لان ذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلى ثم العلم بذلك الملزوم لا بد له من سبب إذا لم يكن بينا كما تقدم

فهنا يتصور المعينين أولا وهما الاصل والفرع ثم ينتقل الى لازمهما وهو المشترك ثم الى لازم اللازم وهو الحكم

ولا بد ان يعرف ان الحكم لازم المشترك وهو الذي يسمى هناك قضية كبرى ثم ينتقل الى إثبات هذا اللازم للملزوم الأول المعين

فهذا هو هذا في الحقيقة وإنما يختلفان في تصوير الدليل ونظمه وإلا فالحقيقة التي بها صار دليلا وهو أنه مستلزم للمدلول حقيقة واحدة

ومن ظلم هؤلاء وجهلهم انهم يضربون المثل في قياس التمثيل بقول القائل السماء مؤلفة فتكون محدثة قياسا على الانسان ثم يوردون على هذا القياس ما يختص به لخصوص المادة وهذا يرد عليه لو جعل قياس الشمول فانه لو قيل السماء مؤلفة وكل مؤلف محدث لورد عليه هذه الاسئلة وزيادة

ولكن إذا اخذ قياس الشمول في مادة معلومة بينة لم يكن فرق بينه وبين قياس التمثيل بل قد يكون التمثيل أبين ولهذا كان العقلاء يقيسون به

وكذلك قولهم في الحد إنه لا يحصل بالمثال إنما ذلك في المثال الذي لا يحصل به التمييز بين المحدود وغيره بحيث يعرف به ما يلازم المحدود طردا وعكسا بحيث يوجد حيث وجد وينتفى حيث انتفى فان الحد المميز للمحدود هو ما به يعرف الملازم المطابق طردا وعكسا فكل ما حصل هذا فقد ميز المحدود من غيره وهذا هو الحد عند جماهير النظار ولا يسوغون إدخال الجنس العام في الحد

فاذا كان المقصود الحد بحسب الاسم فسأل بعض العجم عن مسمى الخبز فأرى رغيفا وقيل له هذا فقد يفهم ان هذا اللفظ يوجد فيه كل ما هو خبز سواء كان على صورة الرغيف او غير صورته وقد بسط الكلام على ما ذكروه وذكره المنطقيون في الكلام على المحصل وغير ذلك

وجد هذا في الامثلة المجردة إذا كان المقصود إثبات الجيم للألف والحد الاوسط هو الباء فقيل

كل ألف باء وكل باء جيم أنتج كل الف جيم

ولكن يحتاج ذلك الى إثبات القضية الكبرى مع الصغرى وإذا قيل

كل ألف جيم قياسا عل الدال

لأن الدال هي جيم

وإنما كانت جيما لأنها باء

والألف أيضا باء

فتكون الالف جيما لاشتراكهما في المستلزم للجيم وهو الباء

كان هذا صحيحا في معنى الاول لكن فيه زيادة مثال قيست عليه الالف مع ان الحد الاوسط وهو الباء موجود فيهما

دعواهم في البرهان أنه يفيد العلوم الكمالية

فان قيل ما ذكرتموه من كون البرهان لا بد فيه من قضية كلية صحيح ولهذا لا يثبتون به إلا مطلوبا كليا ويقولون البرهان لا يفيد إلا الكليات

ثم اشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل فهى التي تكمل بها النفس وتصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير

وإذا كان المطلوب هو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير فتلك إنما تحصل بالقضايا العقلية الواجب قبولها بل إنما تكون في القضايا التي جهتها الوجوب كما يقال كل إنسان حيوان وكل موجود فاما واجب وإما ممكن

ونحو ذلك من القضايا الكلية التي لا تقبل التغير

أقسام العلوم عندهم ثلاثة

ولهذا كانت العلوم عندهم ثلاثة

إما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الطبيعي وموضوعه الجسم

وإما علم مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو الرياضي كالكلام في المقدورات المعدودة والمقدار والعدد

وإما ما يتجرد عن المادة فيهما وهو الالهى وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه الى واجب وممكن وجوهر وعرض

الجواهر الخمسة

وانقسام الجوهر الى ما هو حال وما هو محل وما ليس بحال ولا محل بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير والى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك

فالاول هو الصورة

والثاني هوالمادة وهو الهيولي ومعناه في لغتهم المحل

والمركب منهما هو الجسم

والثالث هو النفس

والرابع هو العقل

وهذه الخمسة اقسام الجوهر عندهم

والاول مقالي يجعله اكثرهم من مقولة الجوهر ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرا وقالوا الجوهر ما اذا وجد كان وجوده لا في موضوع أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه وهذا انما يكون فيما وجوده غير ماهيته والاول ليس كذلك فلا يكون جوهرا وهذا خالفو مما فيه سلفهم ونازعوهم فيه نزاعا لفظيا ولم يأتوا بفرق صحيح معقول فان تخصيص أسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي

وأولئك يقولون بل هو كل ما ليس في موضوع كما يقول المتكلمون كل ما هو قائم بنفسه أو كل ما هو متحيز او كل ما قامت به الصفات أو كل ما حمل الاعراض ونحو ذلك

وأما الفرق المعنوي فدعواهم ان وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل ودعواهم ان الاول وجود مقيدة بالسلوب ايضا باطل كما هو مبسوط في موضعه

علم المقولات العشر

مع أن تقسيم الوجود الى واجب وممكن هو تقسيم ابن سينا وأتباعه وأما أرسطو والمتقدمون فلا يقسمونه إلا الى جوهر وعرض والممكن عندهم لا يكون إلا حادثا كما اتفق على ذلك سائر العقلاء وهذا العلم هو علم المقولات العشر وهو المسمى عندهم قاطيغورياس

الادلة على بطلان دعواهم في البرهان

والمقصود هنا الكلام على البرهان فيقال

هذا الكلام وإن ضل به طوائف فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه ولكن ننبه هنا على بعض ما فيه وذلك من وجوه

الوجه الاول: البرهان لا يفيد العلم بشئ من الموجودات

الاول أن يقال إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات والكليات إنما تتحقق في الاذهان لا في الاعيان وليس في الخارج إلا موجود معين لم يعلم بالبرهان شئ من المعينات فلا يعلم به موجود اصلا بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الاذهان

ومعلوم ان النفس لو قدر ان كمالها في العلم فقط وإن كانت هذه قضية كاذبة كما بسط في موضعه فليس هذا علما تكمل به النفس إذ لم تعلم شيئا من الموجودات ولا صارت عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل صارت عالما لامور كلية مقدرة لا يعلم بها شئ من العالم الموجود وأي خير في هذا فضلا عن ان يكون كمالا

الوجه الثاني: لا يعلم بالبرهان واجب الوجود ولا العقول الخ

الثاني ان يقال اشرف الموجودات هو واجب الوجود ووجوده معين لا كلى فان الكلى لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه بل إنما علم امر كلى مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود

وكذلك الجواهر العقلية عندهم وهي العقول العشرة او اكثر من ذلك عند من يجعلها اكثر من ذلك عندهم كالسهروردى المقتول وأبى البركات وغيرهما كلها جواهر معينة لا امور كلية فاذا لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شئ منها

وكذلك الافلاك التي يقولون إنها ازلية ابدية وهي معينة فاذا لم يعلم إلا الكليات لم تكن معلومة

فلا يعلم لا واجب الوجود ولا العقول ولا شئ من النفوس ولا الافلاك بل ولا العناصر ولا المولدات وهذه جملة الموجودات عندهم فأي علم هنا تكمل به النفس

الوجه الثالث: ليس العلم الالهي عندهم علما بالخالق ولا بالمخلوق

الثالث ان يقال العلم الاعلى عندهم الذي هو الفلسفة الاولى والحكمة العليا علم ما بعد الطبيعة باعتبار الاستدلال وما هو قبلها باعتبار الوجود وهو الذي يسميه طائفة منهم العلم الالهي

وموضوع هذا العلم هو الوجود المطلق الكلى المنقسم الى واجب وممكن وقديم ومحدث وجوهر وعرض

إيراد لابن المطهر الحلى وتخطئة المصنف له عليه

وقد أورد بعض المتأخرين من الشيعة المصنفين في علمهم ما ذكره انه الاسرار الخفية في العلوم العقلية عليهم سؤالا قال إن كان موضوعه كل موجود فلا يبحث فيه عن عوارض كل موجود وإن كان أخص من ذلك ك الواجب والممكن فذلك جزء منه

التقسيم نوعان تقسيم الكل الى أجزائه وتقسيم الكلى الى جزئياته

فيقال له القسمة نوعان قسمة الكلى إلى جزئياته وقسمة الكل الى أجزائه والقسمة الثانية هي المعروفة في الامر العام كما يقول العلماء باب القسمة ويذكرون قسمة المواريث والمغانم والارض وغير ذلك ومنه قوله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر القمر ومنه قوله تعالى لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم الحجر

أما تقسيم الكلى الى جزئياته فمثل قولنا الحيوان ينقسم الى ناطق وأعجمي وهو قسمة الجنس الى أنواعه والنوع الى اشخاصه

استطراد

ولهذا كان النحاة إذا ارادوا ان يقسموا ما يقسمونه الى اسم وفعل وحرف يختلف كلامهم فكثير منهم يقول الكلام ينقسم الى اسم وفعل وحرف وهذا هو الذي يذكره قدماء النحاة

فاعترض عليهم بعض من صنف في قوانين النحو كالكرولي وقالوا كل جنس قسم الى أنواعه أو انواع اشخاصه ف الاسم المقسوم الاعلى صادق على الانواع والاشخاص وإلا فليست بأقسام له فصاروا يقولون الكلمة تنقسم الى اسم وفعل وحرف ويقولون الكلمة جنس تحته انواع الاسم والفعل والحرف

وهذا الاعتراض خطأ ممن أورده لان اولئك لم يقصدوا تقسيم الكلى الى جزئياته وإنما قصدوا تقسيم الكل الى أجزائه وهو التقسيم المعروف اولا في العقول واللغات كما إذا قلت هذه الارض مقسمومة فلفلان هذا الجانب ولفلان هذا الجانب كما قال تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر القمر والكلام مركب من الاسماء والافعال

والحروف كما يتركب البيت من السقف والحيطان والارض وكما ان بدن الانسان مركب من أعضائه المتميزة وأخلاطه الممتزجة فتقسيمه الى الاعضاء والاخلاط تقسيم كل الى أجزائه ومثل هذا يمتنع ان يصدق فيه اسم المقسوم على الاجزاء فليس كل واحد من أعضائه بدنا ولا كل من أخلاطه بدنا ولا كل من اجزاء السقف بيتا وكذلك الوجه إذا قيل ينقسم الى جبين وأنف وعين وخد وغير ذلك لم يكن كل واحد من هذه الاعضاء وجها ونظائر هذا كثيرة

وأما الكلى فانما يوجد في الذهن لا في الخارج فتبين ان تقسيم الاولين أظهر من تقسيم الآخرين

استطراد آخر: معنى الكلمة والحرف في كلام العرب

ثم إن الاخرين جعلوا ان الكلمة اسم جنس لهذه الانواع ولفظ الكلمة لا يوجد في لغة العرب إلا اسما لجملة تامة اسمية أو فعلية كقول النبي - كلمتان حفيفتان على اللسان حبيبتان الى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقوله اصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل وقوله في النساء أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ومنه قوله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا التوبة وقوله تعالى وينذر الذين قالوا اتخد الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم

كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا الكهف

ومثل هذا كثير في كلام العرب

وبعض متأخرى النحاة لما سمع بعض هذا قال وقد يراد بالكلام الكلمة

وليس الامر كما زعمه بل لا يوجد في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة التي هي كلام ولا تطلق العرب لفظ كلمة ولا كلام إلا على جملة تامة ولهذا ذكر سيبويه انهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا

وأما تسمية الاسم وحده كلمة والفعل وحده كلمة والحرف وحده كلمة مثل هل وبل فهذا اصطلاح محض لبعض النحاة ليس هذا من لغة العرب اصلا وانما تسمى العرب هذه المفردات حروفا ومنه قول النبي - من قرا القران فله بكل حرف عشر حسنات اما اني لا اقول الم حرف ولكن الف حرف ولام حرف وميم حرف والذي عليه محققو العلماء ان المراد بالحرف الاسم وحده والفعل حرف المعنى لقوله الف حرف وهذا اسم

ولهذا لما سأل الخليل اصحابه عن النطق بالزاء من زيد فقالوا زا فقال نطقتم بالاسم وانما الحرف زه ومنه قول ابي الاسود الدؤلي وذكر له لفظه من الغريب وقال هذا حرف لم يبلغك فقال كل حرف لم يبلغ علمك فافعل به كذا

ولهذا ذكر سيبويه في اول كتابه التقسيم الى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فجعل الفصل من النوع الثالث انه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فميزه بقوله جاء لمعنى عن حروف الهجاء مثل الف با تا فان هذه حروف هجاء

وهذه الالفاظ اسماء تعرب اذا عقدت وركبت ولكن اذا نطق بها قبل التركيب نطق بها ساكنة كما ينطق بأسماء العدد قبل التركيب والعقد فيقال واحد اثنان ثلاثة ولهذا يعلم الصبيان في اول الامر اسما الحروف المفردة ا ب ت ث ثم المركبة وهو ابجد هوز حطي ويعلمون اسماء الاعداد واحد اثنان ثلاث

عود إلى أصل الموضوع

والمقصود هنا ان التقسيم نوعان تقسيم الكل الى اجزائه وهو اشهرهما واعرفهما في العقول واللغات والثاني تقسيم الكلي الى جزئياته وهو التقسيم الثاني لان الكليات هي المعقولات الثانية

فاذا قال القائل الوجود الذي هو موضوع العلم الالهي عندهم اما ان يكون كل موجود او بعضه وهو الواجب او الممكن كان هذا الحصر خطأ منه لان موضوعه الوجود الكلي المنقسم الى انواعه لا الكل المنقسم الى اجزائه ومعلوم ان الوجود الكلي يتكلمون في لواحقه الذاتيه لا في لواحق كل موجود

العلم الاعلى عند المنطقيين ليس علما بموجود في الخارج

لكن الذي تبين به خساسة ما عند القوم ونقص قدره ان هذا الوجود الكلي

انما يكون كليا في الذهن لا في الخارج فاذا كان هذا هو العلم الاعلى عندهم لم يكن الاعلى عندهم علما بشيء موجود في الخارج بل علما بأمر مشترك بين جميع الموجودات وهو مسمى الوجود وذلك كمسمى الشيء والذات والحقيقة والنفس والعين والماهية ونحو ذلك من المعاني العامة ومعلوم ان العلم بهذا ليس هو علما بموجود في الخارج لا بالخالق ولا بالمخلوق وانما هو علم بأمر مشترك كلي يشترك فيه الموجودات لا يوجد الا في الذهن ومن المتصورات ما يشترك فيه الموجود والمعدوم كقولنا مذكور ومعلوم ومخبر عنه فهذا اعم من ذاك

وهذا بخلاف العلم الاعلى عند المسلمين فانه العلم بالله الذي هو في نفسه اعلى من غيره من كل وجه والعلم به اعلى العلوم من كل وجه والعلم به اصل لكل علم وهم يسلمون ان العلم به اذا حصل على الوجه التام يستلزم العلم بكل موجود

وهذا بخلاف العلم بمسمى الوجود فان هذا لا حقيقة له في الخارج ولا العلم بالقدر المشترك يستلزم العلم بأجناسه وأنواعه وما يتميز به كل شئ بل ليس فيه إلا علم بقدر مشترك لا تصور له في الخارج وإنما هو علم بهذه المشتركات

وليس في مجرد العلم بذلك ما يوجب كمال النفس بل ولا في العلم بأقسامه العامة فانا إذا علمنا أن الوجود ينقسم الى جوهر وعرض وأن اقسام الجوهر خمسة كما زعموه مع ان ذلك ليس بصحيح ولا يثبت مما ذكروه إلا الجسم وأما المادة والصورة والنفس والعقل فلا يثبت لها حقيقة في الخارج إلا ان يكون جسما اوعرضا ولكن ما يثبتونه يعود الى امر مقدر في النفس لا في الخارج كما قد بسط في موضعه

وقد اعترف بذلك من ينصرهم ويعظمهم كأبى محمد بن حزم وغيره ولتعظيمه المنطق رواه باسناده الى متى الترجمان الذي ترجمه الى العربية ومع هذا فاعترف بما ذكرناه وقد بسط ذلك في موضعه

ونحن نفرض هنا وجود ذلك في الخارج فالعلم بانقسام ذلك الى جواهر خمسة وانقسام العرض الى الانواع التسعة مع انه لم يقم دليل على انقسامه الى تسعة عند بعضهم وقد انشدوا فيها

زيد الطويل الاسود ابن مالك ... في داره بالامس كان يتكى

في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوى

فذكر في هذين البيتين الجوهر والكم والكيف والاضافة والاين ومتى والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل

ولما لم يقم دليل على حصر أجناسها العالية في تسعة جعلها بعضهم خمسة وبعضهم ثلاثة الكم والكيف والاضافة

والمقصود هنا أنه إذا علم هذا التقسيم وعندهم كلما كان أعم كان أقرب الى المعقول وكان البرهان عليه أقوم فانه لا يقوم برهان واجب القبول دائما إلا على ما لا يتغير وهذه الاعراض عندهم لا يقوم ب واجب الوجود بل ولا بالعقول إلا بعضها على نزاع بينهم فيعود الكمال الى تصور وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج كتصور ذات مطلقة وشئ مطلق وحقيقة مطلقة

وأي كمال للنفس في مجرد تصور هذه الامور العامة الكلية إذا لم تتصور أعيان الموجودات المعينة الجزئية وأي علم في هذا برب العالمين الذي لا تكمل النفوس إلا بمعرفته وعبادته محبة وذلا كما قد بسط في موضعه

ولهذا كانت نهاية الفلاسفة إذا هداهم الله بعض الهداية بداية اليهود والنصارى الكفار فضلا عن المسلمين أمة محمد - فان ما عند اليهود والنصارى الكفار بعد النسخ والتبديل مما هو من نوع كمال النفس افضل في الجنس والكم والكيف مما عند الفلاسفة

الوجه الرابع: العلم الرياضي لا تكمل به النفوس وإن ارتاضت به العقول

إن تقسيمهم العلوم الى الطبيعي والى الرياضي والى الالهي وجعلهم الرياضي اشرف من الطبيعي والالهي اشرف من الرياضي هو مما قلبوا به الحقائق

فان العلم الطبيعي وهو العلم بالاجسام الموجودة في الخارج ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال الى حال وما فيها من الطبائع اشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة فان كون الانسان لا يتصور إلا شكلا مدورا او مثلثا أو مربعا ولو تصور كل ما في اقليدس او لا يتصور إلا أعدادا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج وليس ذلك كمالا في النفس ولولا ان ذلك يطلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجية التي هي أجسام وأعراض لما جعل علما

وإنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة او ينتفعوا به في عمارة الدنيا هذا مع ان براهينهم القياسية لا تدل على شئ دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية

فان علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل والهندسة التي هي علم بالكم المنفصل علم يقينى لا يحتمل النقيض البتة مثل جمع الاعداد وقسمتها وضربها ونسبة بعضها الى بعض

فانك إذا جمعت مائة الى مائة علمت انها مائتان واذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة واذا ضربتها في عشرة كان المرتفع مائة

والضرب مقابل للقسمة فان ضرب الاعداد الصحيحة تضعيف احاد احد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع احد العددين على آحاد العدد الاخر فاذا قسم المرتفع بالضرب على احد العددين خرج المضروب الاخر واذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه والنسبة تجمع هذا كله فنسبة احد المضروبين الى المرتفع كنسبة الواحد الى المضروب الاخر ونسبة المرتفع الى احد المضروبين كنسبة الاخر الى الواحد

فهذه الامور وامثالها مما يتكلم فيه الحساب امر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول وما من احد من الناس الا يعرف منه شيئا فانه ضروري في العلم ضروري في العمل ولهذا يمثلون به في قولهم الواحد نصف الاثنين ولا ريب ان قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة

استطراد

وهذا مبتدا فلسفتهم التي وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون اصحابه اصحاب العدد وكانوا يظنون ان الاعداد المجردة موجودة خارج الذهن

ثم تبين لافلاطون واصحابه غلط ذلك وظنوا ان الماهيات المجردة ك الانسان المطلق والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وانها ازلية ابدية

ثم تبين لارسطو واصحابه غلط ذلك فقالوا بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الاشخاص ومشى من مشى من اتباع ارسطو من المتأخرين على هذا وهو ايضا غلط فان ما في الخارج ليس بكلى اصلا وليس في الخارج الا ما هو معين مخصوص

واذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فمعناه ان ما هو كلي في الذهن هو مطابق للافراد الموجودة في الخارج مطابقة العام لافراده والموجود في الخارج معينا مختص ليس بكلي اصلا ولكن فيه حصة من الكلي

وما في الذهن يطلق عليه انه قد يوجد الخارج كما يقال فعلت ما في نفسي وفي نفسي امور اريد فعلها ومنه قوله تعالى الا حاجة في نفس يعقوب قضاها وقول عمر كنت زورت في نفسي مقالة احببت ان اقولها ونظائره كثيرة

والكلي اذا وجد في الخارج لا يكون الا معينا لا يكون كليا فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن

ومن اثبت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فتصور قوله تصورا تاما يكفي في العلم بفساد قوله وهذه الامور مبسوطة في غير هذا الموضع

عود الى اصل الموضوع

والمقصود هنا ان هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة لكن لا تكمل بذلك نفس ولا تنجو به من عذاب ولا يحصل لها به سعادة

ولهذا قال ابو حامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء

هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبه لا ثقه بها وان بعض الظن اثم يشيرون بالاول الى العلوم الرياضية وبالثاني الى ما يقولونه في الالهيات وفي احكام النجوم ونحو ذلك

الاسباب المغرية بالاشتغال بالعلم الرياضي وما اشبهه

لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك فان الانسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه وسماع ما لم يكن سمعه اذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو اهم عنده منه كما قد يلتذ بأنواع من الافعال التي هي من جنس اللهو واللعب

وايضا ففي الادمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصادقة والقياس المستقيم فيكون في ذلك تصحيح الذهن والادراك وتعويد النفس انها تعلم الحق وتقوله لتستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك

ولهذا يقال انه كان اوائل الفلاسفة اول ما يعلمون اولادهم العلم الرياضي وكثير من شيوخهم في اخر امره انما يشتغل بذلك لانه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من اهل الكلام الباطل لم يجد في ذلك ما هو حق اخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي كما كان يجري مثل ذلك لمن هو من ائمة الفلاسفة كابن واصل وغيره

وكذلك كثير من متأخري اصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك لان فيه تفريحا للنفس وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط

وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال اذا لهوتم فالهوا بالرمي واذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض فان حساب الفرائض علم معقول مبني على اصل مشروع فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع ولكن ليس هو علما يطلب لذاته ولا تكمل به النفس

واولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل ويدعونها بأنواع الدعوات كما هو معروف من اخبارهم وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعه في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والاقسام التي بها يعظم ابليس وجنوده وكان الشيطان بسبب السحر والشرك يغويهم بأشياء هي التي دعتهم الى ذلك الشرك والسحر فكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها ومقادير حركاتها وما بين بعضها وبعض من الاتصالات ليستعينوا بذلك على ما يرونه مناسبا لها

ولما كانت الافلاك مستديرة ولم يكن معرفة حسابها الا بمعرفة الهندسة واحكام الخطوط المنحنية والمستقيمة تكلموا في الهندسة لذلك ولعمارة الدنيا

فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك والا فلو لم يتعلق بذلك غرض الا مجرد تصور الاعداد والمقادير لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور

وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك فان لذات النفوس انواع ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار حتى يشغله ذلك عما هو انفع له منه

فكان مبدا وضع المنطق من الهندسة فجعلوه اشكالا كالاشكال الهندسية وسموه حدودا كحدود تلك الاشكال لينتقلوا من الشكل المحسوس الى الشكل المعقول وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم الا بالطريق البعيدة

والله تعالى قد يسر للمسلمين من العلم والبيان مع العمل الصالح والايمان ما برزوا به على كل نوع من انواع جنس الانسان والحمد لله رب العالمين

العلم الالهي عندهم ليس له معلوم في الخارج

واما العلم الالهي الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج فقد تبين لك انه ليس له معلوم في الخارج وانما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية الا في الذهن وليس في هذا من كمال النفس شيء

وان عرفوا واجب الوجود بخصوصه فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان ف برهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه لا واجب الوجود ولا غيره وانما يدل على امر كلي و الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه و واجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه ومن لم يتصور ما يمتنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله

ومن لم يثبت للرب الا معرفة الكليات كما يزعمه ابن سينا وامثاله وظن ذلك كمالات للرب وكذلك يظن كمالا للنفس بطريق الاولى لا سيما اذا قال ان النفس لا تدرك الا الكليات وانما يدرك الجزئيات البدن فهذا في غاية الجهل

وهذه الكليات التي لا يعرف بها الجزئيات الموجودة لا كمال فيها البتة والنفس انما تحب معرفة الكليات لتحيط بها بمعرفة الجزئيات فاذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك


الرد على المنطقيين
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19