الروح/المسألة التاسعة عشرة/فصل الوجود

ملاحظات: فصل الوجود


وأما الشبهة الثانية: فهي أقوى شبههم التي بها يصولون، وعليها يعولون، وهي مبنية على أربع مقدمات:
إحداها: أن في الوجود ما لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه.
الثانية: أنه يمكن العلم به.
الثالثة: أن العلم به غير منقسم.
الرابعة: أنه يجب أن يكون محل العلم به كذلك، إذ لو كان جسما لكان منقسما.
و قد نازعهم في ذلك جمهور العقلاء وقالوا: لم تقيموا دليلا على أن في الوجود ما لا يقبل القسمة الحسية ولا الوهمية، وإنما بأيديكم دعاو ولا حقيقة لها، وإنما أثبتموه من واجب الوجود، وهو بناء على أصلكم الباطل عند جميع العقلاء من أهل الملل وغيرهم من إنكار ماهية الرب تعالى وصفاته، وأنه مجرد لا صفة له ولا ماهية، وهذا قول باينتم به العقول، وجميع الكتب المنزلة من السماء، وإجماع الرسل، ونفيتم به علم اللّه وقدرته ومشيئته وسمعه وبصره وعلوه على خلقه، ونفيتم به خلق السموات والأرض في ستة أيام، وسميتموه توحيدا، وهو أصل كل تعطيل.
قالوا: والنقطة التي استدللتم بها هي من أظهر ما يبطل دليلكم، فإنها غير منقسمة وهي حالة في الجسم المنقسم، فقد حل في المنقسم ما ليس بمنقسم.
ثم إن مثبتي الجوهر الفرد وهم جمهور المتكلمين ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون: الجوهر حال في الجسم، بل هو مركب منه، فقد حل في المنقسم ما ليس بمنقسم ولا يمكن تتميم دليلكم إلا بنفي الجوهر الفرد، فإن قلتم: النقطة عبارة عن نهاية الخط وفتاته وعدمه فهي أمر عدمي. بطل استدلالكم بها، وإن كانت أمرا وجوديا فقد حلت في المنقسم فبطل الدليل على التقديرين.
قالوا: أيضا فلم لا يكون للعلم حالا في محله لا على وجه النوع والسريان، فإن حلول كل شي ء في محله بحسبه، فحلول الحيوان في الدار نوع حلول العرض في الجسم نوع، وحلول الخط في الكتاب نوع، وحلول الدهن في السمسم نوع، وحلول الجسم في الجسم في العرض نوع، وحلول الروح في البدن نوع، وحلول العلوم والمعارف في النفس نوع.
قالوا: وأيضا فالوحدة حاصلة، فإن كانت جوهرا فقد ثبت الجوهر الفرد وبطل دليلكم، فإنه لا يتم إلا بنفيه، وإن كان عرضا وجب أن يكون لها محل، فمحلها إن كان منقسما، فقد جاز قيام غير المنقسم بالمنقسم فهو الجوهر، وبطل الدليل، فإن قلتم الوحدة أمر عدمي لا وجود لها في الخارج فكذلك ما أثبتم به وجود ما لا ينقسم كلها أمور عدمية لا وجود لها في الخارج، فإن واجب الوجود الذي أثبتموه أمر عدمي بل مستحيل الوجود.
قالوا: وأيضا فالإضافات عارضة لا أقسام مثل الفوقية والتحتية والمالكة والمملوكية، فلو انقسم الحال بانقسام محله لزم انقسام هذه، فكان يكون لحقيقة الفوقية والتحتية ربع وثمن، وهذا لا يقبله العقل.
قالوا: وأن القوة الوهمية والفكرية والجسمانية عند زعيمكم ابن سيناء فيلزم أن يحصل لها أجزاء وأبعاض، وذلك محال، لأنها لو انقسمت لكان كل واحد من أبعاضها إن كان مثلها كان الجزء مساويا للكل، وإن لم يكن مثلها لم تكن تلك الأجزاء كذلك.
و أيضا فإن الوهم لا معنى له، إلا كون هذا صديقا وهذا عدوا، وذلك لا يقبل القسمة.
قالوا: وأن الوجود أمر زائد على الماهيات عندكم فلو لزم انقسام الحال لانقسام محله انقسام ذلك الوجود بانقسام محله. وهذا الوجه لا يلزم من جعل وجود الشي ء غير ماهيته.
قالوا: وأيضا فطبائع الأعداد ماهيات مختلفة، فالمفهوم من كون العشرة عشرة مفهوم لواحد وماهية واحدة، فتلك الماهية إما أن تكون عارضة لكل واحد من تلك الآحاد وهو محال، وإما أن تنقسم بانقسام تلك الآحاد وهو محال، لأن المفهوم من كون العشرة عشرة لا يقبل القسمة. نعم العشرة تقبل القسمة لا عشريتها. قالوا: فقد قام ما لا ينقسم بالمنقسم.
قالوا: وأيضا فالكيفيات المختصة بالكميات كالاستدارة والنقوش ونحوهما عند الفلاسفة أعراض موجودة في شبه الاستدارة، إن كان عرضا فإما أن يكون بتمامه قائما، وإما أن يكون بكل واحد من الأجزاء وهو محال، وإما أن ينقسم ذلك العرض بانقسام الأجزاء ويقوم بكل جزء من أجزاء الخط جزء من أجزاء ذلك العرض وهو محال، لأن جزأه إن كان استدارة لزم أن يكون جزء الدائرة دائرة، وإن لم يكن استدارة فعند اجتماع الأجزاء إن لم يحدث أمر زائد وجب أن لا تحصل الاستدارة وإن حدث أمر زائد فإن كان منقسما عاد التقسيم وإن لم ينقسم كان الحال غير منقسم ومحله منقسما.
قلت: وهذا لا يلزمهم فإن لهم أن يقولوا: ينقسم بانقسام محله تبعا له كسائر الأعراض القائمة بمجالها من البياض والسواد، وأما لا ينقسم كالطول فشرط حصوله اجتماع الأجزاء والمعلق على الشرط منتف بانتفائه.
قالوا: وأن هذه الأجسام ممكنة بذواتها وذلك صفة عرضية لها خارجة عن ماهيتها، فإن لم تنقسم بانقسام محلها بطل الدليل، وإن انقسمت عاد المحذور المذكور من مساواة الجزء للكل والتسلسل.
قلت: وهذا أيضا لا يلزمهم، لأن الإمكان ليس أمر يدل على قبول الممكن للوجود والعدم، وذلك القبول من لوازم ذاته ليس صفة عارضة له، ولكن الذهن يجرد هذا القبول عن القابل فيكون عروضه للماهية بتجريد الذهن، وأما قضية مشاركة الجزء للكل فلا امتناع في ذلك كسائر الماهيات البسيطة، فإن جزأها مساو لكلها الحد والحقيقة، كالماء والتراب والهواء، وإنما الممتنع أن يساوي الجزء للكل في الكم لا في نفس الحقيقة.
و المعول في إبطال هذه الشبهة على أن العلم ليس بصورة حالة في النفس و إنما هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم، كما نقول في الأبصار أنه ليس بانطباع صورة مساوية للمبصر في القوة الباصرة، وإنما هو نسبة وإضافة بين القوة الباصرة والمبصر، وعامة شبههم التي أوردوها في هذا الفصل مبنية على انطباع صورة العلوم في القوة العالمة ثم بنوا على ذلك أن انقسام ما لا ينقسم في المنقسم محال.
و قولهم: محل العلوم الكلية لو كان جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم، لأن الحال في المنقسم منقسم لم يذكروا على صحة هذه المقدمة دليلا ولا شبهة، وإنما بأيديهم مجرد الدعوى وليست بديهية حتى تستغني عن الدليل، وهي مبينة على أن العلم بالشي ء عبارة عن حصول صور مساوية لماهية المعلوم في نفس العالم، وهذا من أبطل الباطل للوجوه التي نذكرها هناك.
و أيضا فلو سلمنا لكم ذلك كان من أظهر الأدلة على بطلان قولكم، فإن هذه الصورة إذا كانت حالة في جوهر النفس الناطقة فهي صورة جزئية حالة في نفس جزئية تقارنها سائر الأعراض الحالة في تلك النفس الجزئية، فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق لم تكن صورة مجردة بل مقرونة بلواحق وعوارض وذلك يمنع كليتها.
فإن قلتم: المراد بكونها كلية أنا إذا حذفنا عنها تلك اللواحق واعتبرناها من حيث هي كانت كلية. قلنا لكم: فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال هذه الصورة:
حالة في مادة جسمانية مخصوصة بمقدار معين وبكل معين، إلا أنا إذا حذفنا عنها ذلك واعتبرناها من حيث هي هي كانت بمنزلة تلك الصورة التي فعلنا بها ذلك، فالمعين في مقابلة المعين، والمطلق المأخوذ من حيث هو هو في مقابلة محلة المطلق؟ وهذا هو المعقول الذي شهدت به العقول الصحيحة والميزان الصحيح، فظهر أن هذه الشبهة من أفسد الشبه وأبطلها. وإنما أتى القوم من الكليات فإنها هي التي خرجت دورهم وأفسدت نظرهم ومناظرهم، فإنهم جردوا أمورا كلية لا وجود لها في الخارج ثم حكموا عليها بأحكام الموجودات وجعلوها ميزانا وأصلا للموجودات.
فإذا جردوا صور المعلومات وجعلوها كلية جردنا نحن محلها وجعلناه كليا.
و إن أخذوا جزئية معينة فمحلها كذلك، فالكلي في مقابلة الكلي والجزئي في مقابلة الجزئي.
على أنا نقول ليس في الذهن كلي وإنما في الذهن صورة معينة مشخصة منطبعة على سائر أفرادها، فإن سميت كلية بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الألفاظ وهي كلية وجزئية باعتبارين.


هامش


المسألة التاسعة عشرة
حقيقة النفس | فصل نفس المؤمن ونفس الكافر | فصل خروج نفس المؤمن | فصل حضور الملائكة عند خروج نفس المؤمن | فصل الأرواح جنود مجندة | فصل روح النائم | فصل فتح أبواب السماء لروح المؤمن | فصل | فصل الروح والجسم، والنفس والجسم | فصل النفس والجسم | فصل الوجود | فصل هل الصورة العقلية مجردة | فصل القوى العقلية والإدراكات | فصل الإدراك | فصل | فصل الخيالات | فصل حال البدن والقوة العقلية | فصل | فصل الرد على القول بأن القوة الجسمانية تتعب | فصل | فصل الرد على أن محل الإدراكات جسم | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل


الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون