الروح/المسألة الثامنة عشرة/فصل الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق الأبدان
وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق أبدانها فمن وجوه:
أحدها: أن خلق أبي البشر وأصلهم كان هكذا، فإن اللّه سبحانه أرسل جبريل فقبض قبضة من الأرض ثم خمرها حتى صارت طينا، ثم صوره، ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوره، فلما دخلت الروح فيه صار لحما ودما حيا ناطقا.
ففي تفسير أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما فرغ اللّه عز وجل من خلق ما أحب، استوى على العرش، فجعل إبليس ملكا على سماء الدنيا، وكان من الخزان قبله من ملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان أهل الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا، فوقع في صدره وقال: ما أعطاني اللّه هذا إلا لمزية لي.
و في لفظ لمزية لي على الملائكة، فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع اللّه على ذلك منه، فقال اللّه للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:30] قالوا ربنا وما يكون حال الخليفة، وما يصنعون في الأرض؟ قال اللّه: تكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعهم بعضا، قالوا: ربنا ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:30] يعني من شأن إبليس، فجعل جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقال الأرض:
إني أعوذ باللّه منك أن تقبض مني، فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فبعث ملك الموت. فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ باللّه أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط، فلم يأخذ من مكان واحد، فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء. ولذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به قبل الرب عز وجل حتى عاد طينا لازبا، واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ [ص:71]﴿فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِی فَقَعُواْ لَهُۥ سَـٰجِدِينَ ٧٢﴾ [ص:72]، لخلقه اللّه بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه، فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: ﴿مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن:14] ويقول: لأمر ما خلقت! ودخل من فيه فخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكته، فلما بلغ الحين الذي يريد اللّه جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد للّه، فقال:
الحمد للّه، فقال له اللّه: يرحمك ربك.
فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، وقبل أن يبلغ الروح رجليه نهض عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء:37] وذكر باقي الحديث.
قال يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهب، حدثنا ابن زيد قال: لما خلق اللّه النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا وقالوا: ربما لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي.
ولم يكن للّه يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خلق آدم بعد ذلك، وقرأ قوله تعالى: ﴿هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِينࣱ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـࣰٔا مَّذۡكُورًا ١﴾ [الإنسان:1] قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه ليت ذلك الحين، ثم قال:
و قالت الملائكة: ويأتي علينا دهر نعصيك فيه؟ لا يرون له خلقا غيرهم، قال: لا! إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة. وذكر الحديث.
قال ابن إسحاق: فيقال واللّه أعلم: خلق اللّه آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار ولم تمسه نار، فيقال واللّه أعلم: لما انتهى الروح إلى رأسه عطس فقال: الحمد للّه ...
و ذكر الحديث.
و القرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده، فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح، ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه، ولما تعجبت من خلق النار، وقالت: لأي شيء خلقتها؟ وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث.
و لما كانت أرواح الكفار كلها تبعا لإبليس، بل كانت الأرواح الكافرة مخلوقة قبل كفره، فإن اللّه سبحانه إنما حكم عليه بالكفر بعد خلق بدن آدم وروحه، ولم يكن قبل ذلك كافرا، فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة وهو لم يكن كافرا إذ ذاك؟ وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه، فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره، إلا أن يقال: كانت كلها مؤمنة ثم ارتدت بسببه، والذي احتجوا به على تقديم خلق الأرواح يخالف ذلك.
و في حديث أبي هريرة في تخليق العالم الأخبار عن خلق أجناس العالم تأخر خلق آدم إلى يوم الجمعة، ولو كانت الأرواح مخلوقة قبل الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام، فلما لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام علم أن خلقها تابع لخلق الذرية، وأن خلق آدم وحده هو الذي وقع في تلك الأيام الستة، وأما خلق ذريته فعلى الوجه المشاهد المعاين.
و لو كان للروح وجود قبل البدن وهي حية عالمة ناطقة لكانت ذاكرة لذلك في هذا العالم شاعرة به ولو بوجه ما.
و من الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها، وهي بين ملأ من الأرواح، ثم تنتقل إلى هذا البدن ولا تشعر بحالها قبل ذلك بوجه ما.
و إذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل وتعلم ما كانت عليه هاهنا مع أنها اكتسبت بالبدن أمورا عاقتها عن كثير من كمالها، فلأن تشعر بحالها الأول وهي غير معوقة هناك بطريق الأولى، إلا أن يقال: تعلقها بالبدن واشتغالها بتدبيره منعها من شعورها بحالها الأول.
فيقال: هب أنه منعها من شعورها به على التفصيل والكمال فهل يمنعها عن أدنى شعور بوجه ما مما كانت عليه قبل تعلقها بالبدن، ومعلوم أن تعلقها بالبدن لم يمنعها عن الشعور بأول أحوالها وهي في البدن، فكيف يمنعها من الشعور بما كان قبل ذلك.
و أيضا فإنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت عالمية حية ناطقة عاقلة، فلما تعلقت بالبدن سلبت ذلك كله، ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئا فشيئا، وهذا لو كان لكان أعجب الأمور أن تكون الروح كاملة عاقلة ثم تعود ناقصة ضعيفة جاهلة، ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها، فأين في العقل والنقل والفطرة ما يدل على هذا؟ وقد قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـࣰٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٨﴾ [النحل:78] فهذه الحال التي أخرجنا عليها هي حالنا الأصلية، والعلم والعقل والمعرفة والقوة طارئ علينا، حادث فينا بعد أن لم يكن، ولم نكن نعلم قبل ذلك شيئا البتة، إذ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل به.
و أيضا فلو كانت مخلوقة قبل الأجساد وهي على ما هي الآن من طيب وخبث وكفر وإيمان وخير وشر لكان ذلك ثابتا لها قبل الأعمال، وهي إنما اكتسبت هذه الصفات والهيئات من أعمالها التي سعت في طلبها واستعانت عليها بالبدن فلم تكن لتتصف بتلك الهيئات والصفات قبل قيامها بالأبدان التي بها عملت تلك الأعمال. وإن كان قدر لها قبل إيجادها ذلك ثم خرجت إلى هذه الدار على ما قدر لها فنحن لا ننكر الكتاب والقدر السابق لها من اللّه، ولو دل دليل على أنها خلقت جملة ثم أودعت في مكان حية عالمة ناطقة ثم كل وقت تبرز إلى أبدانها شيئا فشيئا لكنا أول قائل به.
فاللّه سبحانه على كل شيء قدير ولكن لا نخبر عنه خلقا وأمرا إلا بما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ومعلوم أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يخبر عنه بذلك، وإنما أخبر بما في الحديث الصحيح: «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» 1 فالملك وحده يرسل إليه، فينفخ فيه، فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه، ولم يقل:
يرسل الملك إليه بالروح فيدخلها في بدنه، وإنما أرسل إليه الملك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه، لا أن اللّه سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمان الطويل مع الملك، ففرق بين أن يرسل إليه الملك لينفخ فيه الروح، وبين أن يرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملك، وتأمل ما دل عليه النص من هذين المعنيين وباللّه التوفيق.
هامش
- ↑ أخرجه البخاري في الأنبياء، وفي كتاب التوحيد باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (8/ 188) عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».
و أخرجه مسلم في كتاب القدر باب كيفية كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (8/ 44) عن زيد بن وهب عن عبد اللّه قال: حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالدي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فنعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل أهل الجنة فيدخلها.
و أخرجه الترمذي في كتاب القدر باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم (4/ 388) برقم 2137 - وبلفظ مقارب للفظ مسلم.