الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب (1951)/الباب الأول/الفصل الثالث:الدولة الساسانية


الفصل الثالث

الدولة الساسانية

(٢٢٤ – ٣٠٢ ب.م)

تمهيد: ونظراً لترامي اطراف المملكة السلوقية من الهند الى سواحل بحر ايجه صعب ضبط شؤونها. فنهضت ولاياتها النائية واعلنت استقلالها. فاستقلت الهند اولاً بزعامة تشندراغوبته في السنة ٣١٧ قبل الميلاد اي بعد الفتح الاسكندري بعشر سنوات فقط. ثم استقلت فارس وما يليها بزعامة الامير الفرتي السكيثي أَرساس الأول في السنة ٢٥٥ قبل الميلاد. ولا نعلم الشيء الكثير عن هذه الدولة الفرتية اذ تكاد مراجعنا الاولية تنحصر في ما تبقى من نقود ملوكها. واحدث ما وصل اليه رجال الاختصاص هو ان هؤلاء الفرت كانوا ايرانيين كسائر العناصر الايرانية لا يختلفون عنها بشيء الا ببداوتهم وفروسيتهم وشجاعتهم المتناهية في الحرب. وماشى ملوك الفرت غيرهم من ملوك عصرهم في تقبل المدنية الهلينية فتكنّوا بالالقاب اليونانية واستعملوا اللغة اليونانية في سك نقودهم. فوصف مثراداتوس الاول وبعض خلفائه انفسهم بالالقاب نفسها التي تلقب بها زملاؤهم ومعاصروهم في انطاكية والاسكندرية.1 وهنا تجب الملاحظة ان الشعب والحكومة تكلموا البهلوية وكتبوا بها وبالآرامية. وامتدت سلطة ملوك الفرت من الفرات حتى الهند ومن بحر قزوين حتى المحيط الهندي. واشهر ملوك الفرت أَرساس الاول (٢٥٥–٢٤٧ ق.م) وأرساس الثاني والثالث (٢٤٧–١٩٦ ق.م) ومثراداتوس الاول (١٧٤–١٣٦ ق.م) وخسرو او ارساس الخامس والعشرون (١٠٧–١٢١ ب.م) وآخرهم ارتبان الخامس او ارساس الثلاثون (٢١٥–٢٢٦ ب.م).

قيام الدولة الساسانية: وكان نظام الحكم في الدولة الفرتية اقطاعياً في اسسه يرتكز على زعامة بعض الاسر وعلى عبودية الشعب. وكان بين هذه الاسر بنو دارياف او أَرتخشطر الذين حكموا مقاطعة فارس من اصطخر2. وكانوا محافظين مستمسكين بتقاليد فارس القديمة مؤثرين لغتها واللغة الآرامية على اليونانية كما يستدل على ذلك من نقودهم. وفي السنة ٢١٢ بعد الميلاد قام بابهاغ احد اشراف هذه المقاطعة بثورة محلية اوصلته الى الحكم فيها. وقام ابنه أردشير في السنة ٢٢٤ بعد الميلاد بثورة كبرى وواقع ارتبان الخامس آخر ملوك الفرت في الثامن والعشرين من نيسان من تلك السنة نفسها في هورميزداغان فتغلب عليه ودخل طيسفون عاصمة ملكه منتصراً. ولم يمض وقت طويل حتى دانت له مقاطعات الفرت جميعها: ميدية وسيستانة وخراسان ومرجيانة وأَرية. واعترف بسيادته الكوشان في افغانستان والبونجاب. فأَسس بذلك الدولة الساسانية نسبة الى ساسان احد الاجداد واتخذ لنفسه لقب شاهنشاه وتعريبه ملك الملوك. وكان يدعى بالآرامية ملكان ملكه. ولا تزال النقوش القائمة بالقرب من اصطخر كنقش رجب ونقش رستم تظهر لنا أردشير المؤسس يتسلم سلطته من اكبر الآلهة اهورا مزدة. ولا نزال نقرأ على نقوده الباقية هذه العبارة: «خادم مزدة».

وهكذا تميزت الدولة الساسانية الجديدة منذ بداية عهدها بتمسكها بالدين القومي وتعاونها مع رجاله. والدين القومي هذا هو دين مزدة او زورواستر «زرادشت» قال بنزاع دائم بين الخير والشر وبوجود فئة من الكائنات الصالحة تقاومها فئة اخرى من الكائنات الشريرة لتفسد عليها عملها. ومثّل الخير في هذا الدين شخص الهي مزدة او اهرومزدة ومعناه رب الحكمة وكان يحيط به ملائكة اعظمهم النور مثراس. ومثَّل الشر فيه اهريمان الشيطان. وكان على كل انسان ان يختار احد أَمرين اما ان يملأ نفسه من الصلاح والنور او ان يقيم في الشر والظلام. واي الامرين اختار فقد كان لا بد له من دينونة في المستقبل. وزورواستر مؤسس هذا الدين عاش حوالى السنة الف قبل الميلاد وطاف يبشر الشعب الايراني بديانته اعواماً عدة. وحافظ على احترام النار الآرية كرمز محسوس للصلاح والنور. وأَوصى بالمحافظة على ايقادها بحيث لا تنطفئ.

وانتظمت امور كهنة مزدة في عهد الدولة الساسانية، فكان بينهم الكاهن العادي «ألموغان». وكان على عدد من هؤلاء في كل مقاطعة رئيس دعي «موباذ». وكان على كل هؤلاء بدورهم رئيس اعلى اطلق عليه لقب «موباذان موباذ». وكان بين اعمال اردشير الاول مؤسس الدولة ان نقح كتاب الحكمة الالهية «الفيستة» (الزند). وجمع ابنه وخلفه شابور الاول مجمعاً دينياً نقح الشرائع الدينية واقرها واوجب العمل بها. وكان القول المأثور بين رجال الفرس آنئذٍ ان الدولة والكنيسة شقيقتان لا تنفصلان، فلا دولة بدون كنيسة ولا كنيسة بدون دولة. وأَصبح واجباً لازماً على الشاه ان يتسلم تاجه من يد زميله الكبير رئيس كنيسة الدولة الموباذان مباذ.

وعظمت شوكة الشاه الساساني ففاقت سلطة زميله الارساسي. وبقي النظام الاقطاعي سائداً في البلاد وبقي النفوذ الاعلى في يد سبع عائلات اقطاعية من الاشراف كما كان الامر في عهد الارساسيين. ولكن هذا النفوذ وذاك الاقطاع أَصبحا خاضعين خضوعاً تاماً لمشيئة الشاه. وضبطت ادارة الولايات وأَصبح حكامها المرازبة خاضعين لتفتيش متصل من قبل الحكومة المركزية. وكان يجب على الشاه الساساني الايراني النزعة ان يحكم بلاده من اصطخر المدينة الايرانية، ولكن علاقاته السياسية قضت عليه باتخاذ نقطة اقرب الى حدوده الغربية فعاد الى طيسفون العاصمة الارساسية وجعلها مقراً له وقاعدة لحكمه.

وادعى اردشير مؤسس الدولة انه متحدر من هكَّافيش صدر الاسرة المالكة الاولى وجد قورش الاول، وزعم ان له حقاً في حكم جميع آسية الغربية ومصر لانها خضعت جميعها لقورش وخلفائه. ولا نزال نقرأ حتى ساعتنا هذه في الكارنامه البهلوية والشاهنامه الفردوسية ان الساسانيين احفاد لداريوس، فلا غرو اذا رأينا هؤلاء يحاربون رومة وريثة الاسكندر وخلفاءَه ليسترجعوا ما اغتصب منهم اغتصاباً.

وعني الساسانيون بالخيل عناية فائقة جاءَت في طبيعة الامور لان أواسط آسية موطن الخيل وبلاد الدروع والنصال. وأَصبح جيشهم جيش خيالة في قلبه وجناحيه. ولم يدربوا المشاة ولا نظموهم ولا سلحوهم باكثر من ترس من الجلد. وكان تكتيكهم في غالب الاحيان يقوم على حشد خيالة القلب حشداً متراصاً بقوة وعلى دفع هذا الحشد في هجومٍ متراصٍ خاطفٍ غايته غمر مراكز العدو منذ اللحظة الاولى. وكانوا يحتاطون دائماً بحفظ قوة من الفيلة في ساقة الجيش يدفعون بها الى نقاط معينة في الجبهة عند الحاجة. وكان الفارس الساساني يرتدي درعاً من الحديد او البرونز تغطي جسمه بكامله، ويُلبس حصانه مثل هذه الدرع (التجافيف). اما تركيب هذه الدروع فمن قطع مستطيلة من الفولاذ او البرونز طول الواحدة منها عشرون سنتيمتراً وعرضها خمسة. ويعلو هذه الدروع عند العنق زيق من الحديد أو البرونز يغطي العنق والرأس. ثم تعلو هذه كلها خوذة من الحديد مزينة باوشحة من الحرير الملون. وكان الفارس الساساني يستعين بقناة طولها متران وسيف طويل وقوس ونشاب وفأس فولاذية يعلقها في طرف خوذته الى وراء. وتدل بقايا بعض هؤلاء الفرسان في الصالحية عند الفرات ان حمائلهم كانت مرصعة باليشب الصيني. وكان القائد الساساني قبيل بدء القتال يذهب الى اقرب ماء فيسكب فوقه قليلًا مما يحمل من الماء المقدس ثم يرمي النبلة المباركة. وعلى الاثر يصفّ جيشه للقتال ويأمر بالنفخ في الناي الفارسي والمناداة بالعبارة البهلوية «مرد ومرد»، ومعناها «رجل لرجل». وكان يتكرر هذا القتال الفردي قبل التحام الجيشين. وكان الجيش يسمى جنداً، كل جند يتألف من عدد من الدرفشات، والدرفشة من عدد من الفشتات. وكان على رأس كل جند، جند سالار.

وقُدِّرَ لشابور الاول (٢٤١–٢٧٢) ابن أردشير الاول ان ينتصر على رومة اكثر من مرة. ففي السنة ٢٥٣ بعد الميلاد طرد تيريداتس الثاني، ملك أَرمينية وعميل رومة، من بلاده، وأَقام محله اميراً خاضعاً لسيادة فارس. ثم كسر فاليريانوس الامبراطور في السنة ٢٦٠ عند الرها وأَسره. ثم تابع الفتح فدخل انطاكية وطرسوس وقيصرية قبدوقية، ولكنه لم ينجُ من ضربة مؤلمة سددها اليه أَمير تدمر العربي أُذينة بن حيران. أَما فاليريانوس الذي اسره شابور عند الرها، فقد لقي حتفه اسيراً عند الفرس. وقام من اسر معه من الجنود باعمال عمرانية في فارس اشهرها جسر جند شابور. وظهر ماني ودعوته، وكثر اتباعه، فشغل شابور وبعض خلفائه عن محاربة رومة. وانهمكت رومة في متاعب اخرى كما اوضحنا فبقي الفرات ردحاً من الزمن وهو الحد الفاصل بين الدولتين.

ماني ودينه الجديد : هو ماني بن بابك ولد في «ماردين من اعمال بابل» في السنة ٢١٥ بعد الميلاد. وتلقى وحياً لاول مرة في الثالثة عشرة من عمره ثم في الخامسة والعشرين اي السنة ٢٤٠ بعد الميلاد. وعلّم وبشر في طيسفون اولًا وخص شابور باحدى رسائله الاولى. وقال بسببين اصليين: النور والظلام، وبظروف ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. والنور والظلام عند ماني كائنان مستقل++ان منفصلان منذ الازل. ولكن الظلام غزا النور في الماضي وأَصبح بعض النور ممتزجاً بالظلام وهذه هي حالة عالمنا في الحاضر. ثم يخلص ماني الى القول ان لا بد من تنقية النور من هذا الظلام كي يعود النور والظلام الى الانفصال التام كما بدآ. والله هو سيد عالم النور والشيطان سيد عالم الظلام. وعندما غزا الظلام النور لم يستطع سيد النور ان يستعين بالغرانيق الخمسة: الفهم والعقل والفكر والتفكر والارادة لان هذا الغزو كان مفاجئاً لها فذعرت واضطربت.

فخلق سيد النور ام الحياة التي ولدت الانسان وسلَّحه بالعناصر الخمسة: النور والرياح والنار والماء والهواء ليستعين بها في محاربة الظلام. هذا بعض ما قاله ماني عن الماضي. فاما في الحاضر فان قوى النور بحسب عقيدته قد ارسلت النبيين بوذا وزورواستر ثم يسوع وهو أَهم الجميع. والعالم عنده ينتهي في المستقبل بثوران هائل وسقوط عظيم. فيصعد الصالحون في الفضاء الى اعلى، والاشرار يهبطون الى ظلام دائم. ويرى رجال الاختصاص الذين وفقوا الى درس ما بقي من رسائل ماني في تركستان وفي كتاب الفهرست لابن النديم وفي اوراق البردي في مصر ان المانوية تفرعت عن المسيحية لا الوثنية وخصوصاً لان ماني اعترف بصحة الاناجيل الاربعة ورسائل بولس الرسول، وقال انه البارقليس المنتظر.

وانتظم المانويون في «كنيسة» واحدة مؤلفة من طبقتين المنتقين المصطفين والمستمعين. وكان على رأسها بادئ ذي بدء رسل اثنا عشر ثم تلاميذ ستون ثم اساقفة وكهنة وشمامسة ورهبان. وكانوا يجتمعون في كل احد للصلاة والترتيل وقراءَة الاسفار. وقد انتشرت تعاليم ماني في بابل اولًا ثم في سورية وفلسطين والعربية ومصر وافريقية الشمالية. وكان بين الذين آمنوا بها القديس اوغوسطينوس الشهير فانه واظب على درسها والعمل بها تسع سنوات متواليات. وانتشرت المانوية في فارس واواسط آسيا. وسكت عنها شابور الاول لرحابة صدره واتساع افقه. ولكن كهنة مزدة قاوموا هذه التعاليم مقاومة شديدة فاضطر ماني ان يغادر فارس الى الكشمير فتركستان فالصين.

وتوفي شابور الاول في السنة ٢٧٢ وتوفي ابنه وخلفه هورمزد الاول في السنة ٢٧٣ وتولى العرش بعدهما بهرام الاول فظن المانويون ان سيتاح لمعلمهم ان يعود الى وطنه ويعيش بامان وحرية. ولكنه اعتقل وحوكم وصلب وسلخ جلده وحشي قشاً في السنة ٢٧٥ بعد الميلاد.

بهرام الثاني : (٢٧٦–٢٩٣ب.م) وأَهم اخباره انه كان شجاعاً نشيطاً فحارب رومة في عهد كاروس الامبراطور ولكنه غلب على امره فتراجع امام الرومان حتى طيسفون. وتوفي كاروس فجأة فتقهقر الرومان بدورهم ولكن بهرام لم يستطع استغلال الموقف لاندلاع ثورة في ولاياته الشرقية اشعلها اخوه هورمزد. فصالح الرومان في السنة ٢٨٣ على ان يستولوا على ارمينية وما بين النهرين وهبّ الى خراسان ينازل أخاه فأخضعه وعين ابنه ولي عهده بهرام والياً محله ومنحه لقب «ساغان شاه». وكانت قد جرت العادة فيما يظهر ان يلقب ولي العهد ملكاً على آخر ما افتتح من الممالك او على أَهمِ الولايات.

بهرام الثالث ونرسي الاول : (٢٩٣–٣٠٢ب.م) وتولى العرش بعد بهرام الثاني ابنه بِهرام الثالث ولم يطل ملكه فيما يظهر اكثر من اربعة اشهر. فأن نرسي عمه الاكبر وابن جده شابور الاول اغتصب الملك اغتصاباً. ودخل نرسي في حرب ضد رومة فاحتل ارمينية وتوغل في سورية الشمالية ولكن ديوقليتيانوس الامبراطور أمدّ غلاريوس القيصر بالسلاح والرجال فانتصر على نرسي انتصاراً باهراً في ارمينية وأَسر حرم الشاه واولاده ثم تابع الزحف حتى استولى على طيسفون العاصمة في السنة ٢٩٦ بعد الميلاد. وارسل نرسي معتمداً من قبله ابهربان يفاوض الرومانيين في انطاكية. وأَرسل ديوقليتيانوس السكرتير الامبراطوري سيقوريوس بروبوس3 يفاوض ويوقع. فتم الاتفاق على الاعتراف بسلطة الشاه في ما بين النهرين وبحماية رومة على ارمينية. وجعلت نصيبين مركزاً للعلاقات التجارية بين الامبراطوريتين.


  1. Philhellene, epiphane, evergete, dikaios.
  2. Persepolis.
  3. Sicorias Probus.