السيرة الحلبية/باب تزوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبد العزى بن قصي
فهي تجتمع معه في قصي. قال الحافظ ابن حجر: وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، هذا كلامه.
وعن نفيسة بنت منية : أي وهي أخت يعلى بن منية. ففي الإمتاع منية أخت يعلى بن منية، وعليه يكون ضمير وهي راجع لمنية لا لنفيسة. قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة: أي ضابطة جلدة: أي قوية شريفة: أي مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا: أي وأحسنهم جمالا، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة. وفي لفظ: كان يقال لها سيدة قريش، لأن الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل، يقال: فلان أوسط القبيلة: أعرقها في نسبها، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل، فأرسلتني دسيسا: أي خفية إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ بكسر الكاف لأنه خطاب لنفيسة. قلت: بلى وأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضر ودخل رسول الله ﷺ في عمومته فزوّجه أحدهم: أي وهو أبو طالب على ما يأتي. وقال في خطبته: وابن أخي له في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، فقال عمرو بن أسد: هذا الفحل لا يقدع أنفه: أي بالقاف والدال المهملة: أي لا يضرب أنفه لكونه كريما، لأن غير الكريم إذا أراد ركوب الناقة الكريمة يضرب أنفه ليرتدع، بخلاف الكريم، وكون المزوّج لها عمها عمرو بن أسد قال بعضهم هو المجمع عليه. وقيل المزوّج لها أخوها عمرو بن خويلد.
وعن الزهريّ أن المزوّج لها أبوها خويلد بن أسد وكان سكران من الخمر، فألقت عليه خديجة حلة وهي ثوب فوق ثوب، لأن الأعلى يحل فوق الأسفل، وضمخته بخلوق: أي لطخته بطيب مخلوط بزعفران () فلما صحا من سكره قال: ما هذه الحلة والطيب؟ فقيل له: لأنك أنكحت محمدا خديجة وقد ابتنى بها فأنكر ذلك، ثم رضيه وأمضاه: أي لأن خديجة استشعرت من أبيها أنه يرغب عن أن يزوجها له، فصنعت له طعاما وشرابا، ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا، فلما سكر أبوها قالت له: إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه، فزوّجها، فخلقته وألبسته، لأن ذلك: أي إلباس الحلة وجعل الخلوق به كان عادتهم أن الأب يفعل به ذلك إذا زوّج بنته، فلما صحا من سكره قال: ما هذا؟ قالت له خديجة: زوجتني من محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوّج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري، فقالت له خديجة: ألا تستحيي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبرهم أنك كنت سكران؟ فلم تزل به حتى رضي: أي وهذا مما يدل على أن شرب الخمر كان عندهم مما يتنزه عنه. ويدل له أن جماعة حرّموها على أنفسهم في الجاهلية، منهم من تقدم، ومنهم من يأتي. وفي رواية أنها عرضت نفسها عليه فقالت: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فزوّجها.
أقول: قال في النور ولعل الثلاثة: أي أباها وأخاها وعمها حضروا ذلك فنسب الفعل إلى كل واحد منهم، هذا كلامه.
وفي كون المزوج لها أبوها خويلد أو كونه حضر تزويجها نظر ظاهر، لأن المحفوظ عن أهل العلم أن خويلد بن أسد مات قبل حرب الفجار المتقدم ذكرها.
قال بعضهم: وهو الذي نازع تبعا: أي حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد، وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما ردعه عن ذلك، فترك الحجر الأسود مكانه.
وعلى كون المزوّج له عمه حمزة اقتصر ابن هشام في سيرته. وذكر أن رسول الله ﷺ أصدقها عشرين بكرة.
وعبارة المحب الطبري: فلما ذكر ذلك لأعمامه خرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه ففعل، وحضره أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله القصة، والله أعلم.
قال: وعن ابن إسحاق أنها قالت له: يا محمد ألا تتزوج؟ قال: ومن؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ أنت أيمّ قريش وأنا يتيم قريش؟ قالت: اخطبني الحديث: أي وفيه إطلاق اليتيم على البالغ، وذلك بحسب ما كان، والمراد به المحتاج، وإلا فالعرف أي الشرعي واللغوي خصه بغير البالغ ممن مات أبوه الحقيقي.
وعن بعضهم قال: مررت أنا ورسول الله ﷺ على أخت خديجة فنادتني فانصرفت إليها، وقف لي رسول الله ﷺ فقالت: أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ فأخبرته، فقال: بلى لعمري، فذكرت ذلك لها، فقالت اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة، الحديث.
وفي الإمتاع بعد أن ذكر أن السفير بينهما نفيسة بنت منية، ذكر أنه قيل: كان السفير بينهما غلامها، وقيل مولاة مولدة. وقد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون كل ممن ذكر كان سفيرا.
وفي الشرف أن خديجة قالت للنبي: اذهب إلى عمك فقل له تعجل إلينا بالغداة، فلما جاءها ومعه رسول الله ﷺ قالت له: يا أبا طالب تدخل على عمي فكلمه يزوجني من ابن أخيك محمد بن عبد الله فقال أبو طالب: يا خديجة لا تستهزئي، فقالت: هذا صنع الله، فقام فذهب وجاء مع عشرة من قومه إلى عمها، الحديث: أي وفي رواية ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر. ولا مخالفة لجواز أن يكون المراد ببني هاشم أولئك العشرة، وأنهم كانوا هم المراد برؤساء مضر في ذلك الوقت.
وذكر أبو الحسين بن فارس وغيره أن أبا طالب خطب يومئذ فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معدّ: أي معدنه، وعنصر مضر: أي أصله، وجعلنا حضنة بيته: أي المتكفلين بشأنه، وسوّاس حرمه: أي القائمين بخدمته، وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا حكام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتي عشرة أوقية ونشا: أي وهو عشرون درهما والأوقية: أربعون درهما، أي وكانت الأواقي والنش من ذهب كما قال المحب الطبري: أي فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي. وقيل أصدقها عشرين بكرة، أي كما تقدم.
أقول: لا منافاة لجواز أن تكون البكرات عوضا عن الصداق المذكور. وقال بعضهم: يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها ما ذكر وزاد من عنده تلك البكرات في صداقها فكان الكل صداقا، والله أعلم.
قال: وما قيل إن عليا ضمن المهر فهو غلط، لأن عليا لم يكن ولد على جميع الأقوال في مقدار عمره، وبه يردّ قول بعضهم: وكون عليّ ضمن المهر غلط، لأن عليا كان صغيرا لم يبلغ سبع سنين: أي لأنه ولد في الكعبة وعمره ثلاثون سنة فأكثر، وسنه حين تزوج خديجة كان خمسا وعشرين سنة على ما تقدم أو زيادة بشهرين وعشرة أيام. وقيل خمسة عشر يوما على ما يأتي قيل الذي ولد في الكعبة حكيم بن حزام.
قال بعضهم: لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة، لكن في النور: حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره. وأما ما روي أن عليا ولد فيها فضعيف عند العلماء.
قال النووي: وعند ذلك قال عمها عمرو بن أسد: هو الفحل لا يقدع أنفه وأنكحها منه. وقيل قائل ذلك ورقة بن نوفل: أي فإنه بعد أن خطب أبو طالب بما تقدم خطب ورقة، فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا ينكر العرب فضلكم، ولا يردّ أحد من الناس فخركم وشرفكم ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليّ معاشر قريش إني قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله وذكر المهر، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا عليّ معاشر قريش إني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وأولم عليها: نحر جزورا، وقيل جزورين، وأطعم الناس، وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وفرح أبو طالب فرحا شديدا، وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الغموم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله.
أقول: ولا ينافي هذا ما تقدم من قوله: فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا خديجة حلة، لجواز أن يكون ذلك كان عند العقد، وهذا عند إرادة الدخول. ولا ينافي ذلك ما تقدم من قوله، وقد ابتنى بها، لأن تلك الرواية غير صحيحة، ولا ينافي كون المزوّج له عمه أبو طالب ما تقدم أن المزوج له عمه حمزة، لجواز أن يكون حضر مع أبي طالب فنسب التزويج إليه أيضا، والله أعلم.
والسبب في ذلك: أي في عرض خديجة نفسها عليه أيضا مع ما أراد الله تعالى بها من الخير، ما ذكره ابن إسحاق. قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يوما فيه، فجاءهن يهودي وقال أيا معشر نساء قريش إنه يوشك فيكنّ نبي قرُب وجوده، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشا له فلتفعل، فحصبته النساء: أي رمينه بالحصباء، وقبحنه وأغلظن له، وأغضت خديجة على قوله، ووقع ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي: أي وما قاله لها ورقة لما حدثته بما حدثها به ميسرة مما تقدم قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقا ما ذاك إلا هذا.
وذكر الفاكهي عن أنس أن النبي ﷺ كان عند أبي طالب، فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة: أي ولعله بعد أن طلبت منه الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها، فأذن له وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة، فقال: انظري ما تقول له خديجة، فخرجت خلفه، فلما جاء إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي أنت وأمي، والله ما أفعل هذا الشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي سيبعثك لي، فقال لها والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن كان غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا، فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك، وكان تزويجه بخديجة بعد مجيئه من الشام بشهرين أو خمسة عشر يوما، وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة على ما هو الصحيح الذي عليه الجمهور كما تقدم. زاد بعضهم على الخمسة والعشرين سنة شهرين وعشرة أيام، وقد أشار إلى ما تقدم صاحب الهمزية بقوله:
ورأته خديجة والتقى والزهـ ** ـد فيه سجية والحياء
وأتاها أن الغمامة والسر ** ح أظلته منهما أفياء
وأحاديث أن وعد رسول الله ** بالبعث حان منه الوفاء
فدعته إلى الزواج وما أحـ ** ـسن ما يبلغ المنى الأذكياء
أي وعلمته خديجة ، ذات الشرف الطاهر، والمال الوافر الظاهر، والحسب الفاخر، والحال أن التقى والزهد والحياء فيه سجية وطبيعة، وأتاها الخبر بأن الغمامة والشجر أظلته: أفياء: أي أظلال حالة كون تلك الأفياء من الغمامة والشجر.
وفيه أن هذا يدل على أن الملكين هما الغمامة.
قال بعضهم: وتظليل الغمامة له كان قبل النبوة تأسيسا لها، وانقطع ذلك بعد النبوة، وأتى خديجة الأحاديث والأخبار من بعض الأحبار بأن وعد الله لرسوله بالبعث والإرسال إلى الخلق قرب الوفاء به منه تعالى لرسوله، فبسبب ذلك خطبته إلى أن يتزوج بها وعرضت نفسها عليه. وما أحسن بلوغ الأذكياء ما يتمنونه.
وتزوجها رسول الله ﷺ وهي يومئذ بنت أربعين سنة. قال: وقيل خمس وأربعين سنة، وقيل ثلاثين، وقيل ثمان وعشرين اهـ: أي وقيل خمس وثلاثين وقيل خمس وعشرين.
وتزوجت قبله برجلين. أولهما عتيق بن عابد: أي بالموحدة والمهملة، وقيل بالمثناة تحت والمعجمة ( ) فولدت له بنتا اسمها هند، وهي أم محمد بن صيفي المخزومي. وثانيهما أبو هالة، واسمه هند، فولدت له ولدا اسمه هالة، وولدا اسمه هند أيضا فهو هند بن هند: أي وكان يقول: أنا أكرم الناس أبا وأما وأخا وأختا، أبي رسول الله ﷺ لأنه زوج أمه، وأمي خديجة، وأخي القاسم، وأختي فاطمة، قتل هند هذا مع عليّ يوم الجمل .
وفي كلام السهيلي أنه مات بالطاعون بالبصرة، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفا فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته، فلم يوجد من يحملها، فصاحت نادبته: واهنداه بن هنداه، واربيب رسول الله، فلم تبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاما لربيب رسول الله ﷺ هذا.
هذا وفي المواهب أنها كانت تحت أبي هالة أولا، ثم كانت تحت عتيق ثانيا، وستأتي بقية ترجمتها في أزواجه.