وكذلك هؤلاء نفاة الصفات أخذوا يقولون إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم والجسم مركب في اصطلاحهم وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة وذلك تركيب

وبالغت ملاحدة الفلاسفة في نفي الصفات بنفي مسمى التركيب فقالوا التركيب خمسة أنواع وكلها يجب نفيها عن الله

الأول التركيب من الوجود والماهية فلا يكون له حقيقة سوى الوجود المطلق بشرط الاطلاق لأنه لو كان له حقيقة مغايرة لذلك لكانت موصوفة بالوجود وحينئذ فيكون الوجود الواجب لازما ومعلولا لتلك الحقيقة فيكون الواجب معلولا

الثاني التركيب من العام والخاص كتركيب النوع من الجنس والفصل وهذا يجب نفيه

الثالث التركيب من الذات والصفات وهذا يجب نفيه وهذه الثلاث تركيبات في الكيفية

الرابع التركيب في الكم وهو تركيب الجسم من أبعاضه إما من الجواهر المفردة وهو التركيب الحسي وأما من المادة والصورة وهو التركيب العقلي وهذان النوعان هما الرابع والخامس

وقد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع لكنا ننبه هنا على بعضه فنقول هذه الأمور ليست تركيبا في الحقيقة وبتقدير أن تكون تركيبا كما تدعونه فلا دليل لكم على نفيها بل الدليل يقتضي إثبات المعاني التي سميتموها تركيبا فهذه مقامات ثلاث أولها أن نقول لا دليل لكم على نفي هذه المعاني التي سميتموها تركيبا وذلك أن عمدتهم في نفي التركيب أنهم يقولون أن المركب مفتقر إلى جزئه وجزء غيره وواجب الوجود لا يكون مفتقرا إلى غيره وهذا الكلام اعتمد عليه ابن سينا وأتباعه كالرازي وغيره وبنوا عليه النفي والتعطيل وهو من أبطل الكلام وذلك بأن يقال لفظ التركيب يحتمل معان متجددة بحسب الاصطلاحات فيقال المركب لما ركبه غيره كما قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك سورة الانفطار 8 ويقال ركبت الباب في موضعه ونحو ذلك وهذا هو مفهوم المركب في اللغة

وقد يقال المركب لما كان متفرقا فجمع كجمع الأغذية والأدوية المركبة

وقد يقال المركب لما يمكن تفريق بعضه عن بعض كأعضاء الإنسان وإن لم يعهد له حال تفريق في الابتداء وقد يقال المركب لما يشار إليه كالشمس والفلك قبل أن يعلم جواز الانفكاك عنه وقد يقال المركب لما جاز أن يعلم منه شيء دون شيء كما يعلم كونه قادرا قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا وإذا كان كذلك فمعلوم أنهم إذا قالوا أن أثبات الصفات تستلزم التركيب لم يريدوا به الأول والثاني فإن أثبات الصفات لازم لله تعالى فيمتنع زوال صفات الكمال عنه ويمتنع أن يجوز عليه خلاف الصمدية كالتفرق ونحوه فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وكذلك إذا قالوا المركب مفتقر إلى أجزائه فلفظ الجزء قد يعني به ما جمع إلى غيره حتى حصلت الجملة كالواحد من العشرة وكجزء الطعام والثياب وقد يعني بالجزء ما كان بعضا لغيره وإن لم يعلم انفراده عنه أو لم يمكن انفراده عنه وقد يدخلون في هذه الحياة اللازمة للحي والعلم اللازم للعالم كما يقولون الحيوانية والناطقية جزءا الإنسان وهما نعتان لازمان له لا يمكن وجوده بدونهما وكذلك لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى علته والمصنوع إلى صانعه ويراد به افتقار الصفة إلى محلها الذي تقوم به وقد يعني به التلازم وهو استلزام الموصوف لصفات كماله

وكذلك لفظ الغير قد يراد به المباين للشيء وقد يعني به ما يعلم الشيء بدونه ولهذا لما تنازع الناس في صفات الله تعالى بل في صفة كل موصوف وبعض كل مجموع هل يقال أنه غير له أم لا فقالت طائفة صفة الموصوف وبعض الجملة ليس غيرا له لأنه لا يوجد إلا به وقال بعضهم بل هو غير له لأنه يمكن العلم به دونه كان هذا نزاعا لفظيا فامتنع السلف والأئمة أن يطلقوا على صفات الله كلامه وعلمه ونحو ذلك أنه غير له أو أنه ليس غيره ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في مناظرتهم له في المحنة وأمر المعتصم قاضيه عبدالرحمن بن إسحق أن يناظره سأله فقال ما تقول في القرآن أهو الله أم غير الله عارضه الإمام أحمد بالعلم فقال ما تقول في علم الله أهو الله أم غير الله فسكت وذلك أنه إن قال القائل لهم القرآن هو الله كان خطأ وكفرا وإن قال غير الله قالوا فما كان غير الله فهو مخلوق فعارضهم الإمام أحمد بالعلم فإن هذا التقسيم وارد عليه ولا يجوز أن يقال علم الله مخلوق ومما يبين ذلك أن النبي قال من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت عنه أنه حلف بعزة الله والحلف بعمر الله ونحو ذلك من صفاته فعلم أن الحالف بصفاته ليس حالفا بغيره ولو كانت الصفة يطلق عليها القول بأنها غيره لكان الحلف بها حلفا بغيره وإذا قال القائل الحالف بصفته حالف به لأن الصفة تستلزم الموصوف وهو المقصود باليمين قيل لهم فلهذا لم يدخل في إطلاق القول بأنها غير الله فعلمه لازم له وملزوم له وكلامه لازم له وملزوم له والصفة داخلة في مسمى الموصوف فإذا قال القائل عبدت الله وذكرت الله ونحو ذلك فاسم الله متضمن لصفاته اللازمة لذاته فإذا قيل أنها غير الله فقد يفهم منه أنها خارجة عن مسمى اسمه وهذا باطل ولهذا قد يقال أنها غير الذات ولا يقال أنها غير الله لأن لفظ الذات يشعر بمغايرته للصفة بخلاف اسم الله تعالى فإنه متضمن لصفات كماله وقولنا أنه مغاير للذات لا يتضمن جواز وجوده دون الذات فإنه ليس في الخارج ذات منفكة عن صفات ولا صفات منفكة عن ذات بل ذلك ممتنع لنفسه

ومن قال من أهل الأثبات أن له صفات زائدة على ذاته فحقيقة قوله أنها زائدة على ما أثبته المثبت من الذات حيث أقر بذات ولم يقر بصفاتها وإلا ففي الخارج ليس هناك ذات منفكة عن صفات حتى يقال أن الصفات زائدة عليها بل لفظ الذات في الأصل تأنيث ذو كقوله وأصلحوا ذات بينكم سورة الأنفال 1 وقوله عليم بذات الصدور سورة آل عمران 119 وهي تستلزم الإضافة ولكن المتكلمون قطعوه عن الإضافة وعرفوه فقالوا الذات وحقيقته التي لها صفات فحيث قيل لفظ الذات كان مستلزما للصفات ويستحيل وجود ذات منفكة عن الصفات في الخارج وفي العقل وفي اللغة ومن قدر ذاتا بلا صفات فهو تقدير محال كما يقدر سواد ليس بلون وعلم بلا عالم وعالم بلا علم ونحو ذلك من الأمور الممتنعة وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن هذه الحجة التي ينفون بها الصفات ويعتمدون على نفي مسمى التركيب هي مبنية على ألفاظ مجملة مشتركة موهمة فإذا قالوا إثبات الصفات تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه قيل لهم إن أردتم بالغير غيرا مباينا له فهذا باطل وإن أردتم ما هو داخل في مسمى اسمه كان حقيقة قولكم المركب لا يوجد إلا بوجود جزئه والمجموع لا يوجد إلا بوجود بعضه والجملة لا توجد إلا بوجود أفرادها

ومن المعلوم أن القائل إذا قال الشيء لا يوجد إلابوجود نفسه كان هذا صحيحا وكذلك إذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في نفسه مما يسمى صفات وأجزاء ونحو ذلك فإذا قيل أن هذا يقتضي افتقاره إلى غيره كان من المعلوم أن هذا دون افتقاره إلى نفسه فإن نفسه إذا كانت لا توجد إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بوجود ما يدخل في نفسه أولى وإذا قيل لم يوجد إلا بنفسه لم يمنع هذا أن يكون واجبا بنفسه وإذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في مسمى نفسه كان هذا اولى أن لا يمنع كونه واجبا بنفسه لأن الافتقار إلى المجموع أعظم من الافتقار إلى الجزء ومن افتقر إلى مجموع العشرة كان افتقاره أبلغ من افتقار من افتقر إلى واحد من العشرة فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بالمجموع ولا يمنع هذا أن يكون المجموع مفتقرا إلى نفسه فلأن لا يمنع كون المجموع مفتقرا إلى فرد من أفراده أولى وأحرى

وإذا قيل جزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ممكن بنفسه قيل إن أريد بذلك أن المفتقر إلى المباين له ممكن بنفسه فليس هذا مورد كلامنا وإن أريد أن المفتقر إلى ما يدخل في نفسه ممكن بنفسه كان هذا ممنوعا بل كان معلوم الفساد بالضرورة فإن افتقاره إلى ما يدخل في نفسه ليس بأعظم من افتقاره إلى نفسه وإذا كان هو موجود بنفسه بمعنى أنه لا يفتقر إلى مباين له لم يلزم من هذا ألا تفتقر نفسه إلى نفسه فكذلك لا يلزم ألا تفتقر إلى ما يدخل في مسمى نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه فله معينان أحدهما أنه مفتقر إلى أن يفعل نفسه ونحو ذلك فهذا ممتنع لذاته فإن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه والعلم بذلك ضروري وإن أريد بذلك أن نفسه لا تكون إلا بنفسه ولا تستغني عن نفسه ويمتنع وجود نفسه بدون نفسه فهذا صحيح لا بد منه

وإذا قيل هو مفتقر إلى ما يدخل في نفسه سواء سمي صفة أو جزءا أو غير ذلك قيل أتريد به أن ذلك الجزء يكون فاعلا له أو ما يشبه هذا فهذا ممتنع باطل ولا يقوله عاقل وإن أردت بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بوجود ذلك وأنه يمتنع وجوده بدونه ونحو ذلك كان ما يقدر في هذا دون ما يقدر في نفسه وإذا كان لا توجد نفسه إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بما يدخل في نفسه بطريق الضرورة وإذا كان ذلك أمرا واجبا لا محذور فيه فهذا بطريق الأولى وإذا كان تقدير استغناء نفسه عن نفسه يوجب عدمه فكذلك تقدير وجوده بدون ما هو داخل في مسمى نفسه مما هو لازم له يوجب عدمه بالحقيقة

فهذه الأمور التي نفوها عن الوجود الواجب توجب عدمه وامتناعه ولهذا كانوا من أعظم الناس تناقضا حيث وصفوا واجب الوجود بممتنع الوجود ولهذا جعلوه وجودا مطلقا بشرط الاطلاق أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما صرح بذلك ابن سينا وأتباعه

وهم قد قرروا في منطقهم اليوناني ما هو معلوم بصريح العقل أن المطلق بشرط الاطلاق إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالإنسان المطلق بشرط الإطلاق والجسم المطلق بشرط الإطلاق والحيوان المطلق بشرط الإطلاق وهذا قصدوا به التمييز بين هذا وبين الوجود الذي هو موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم وهو العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه فإن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وقائم بنفسه وقائم بغيره ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فكان هذا الوجود يعم القسمين الواجب والممكن وهذا هو المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي فجعلوا أحد القسمين وهو الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق وكذلك جعل العدم المحض هو المميز للوجود الواجب عن الممكن يوجب كون العدم المحض فصلا أو خاصة وهذا أيضا باطل فإن الأمرين المشتركين في الوجود لا يكون المميز لأحدهما عن الآخر إلا أمرا وجوديا ولو قدر أنه عدمي لكان الواجب قد امتاز بأمر عدمي والممكن امتاز بوجودي والوجود أكمل من العدم فيكون كل ممكن مخلوق على قول ابن سينا أكمل من الموجود الواجب القديم لأنهما اشتركا في الوجود وتميز الرب بعدم الأمور الثبوتية وتميز المخلوق بأمور وجودية

وهذا الكلام عندهم هو غاية التوحيد والتحقيق والحكمة وهو غاية التعطيل والكفر والجهل والضلال وذلك أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهم يسلمون هذا ويقررونه في منطقهم ويقولون الكلي ثلاثة أنواع الكلي الطبيعي والمنطقي والعقلي فالطبيعي هو الحقيقة المطلقة كالإنسانية والحيوانية وأما المنطقي فهو ما يعرض لهذه من العموم والكلية والعقلي هو المركب منهما وهو الطبيعي بشرط كونها كلية فهذا العقلي لا يوجد إلا في الذهن وكذلك المنطقي وأما الطبيعي فيقولون أنه موجود في الخارج لكن لا يوجد إلا معينا مشخصا ويقولون أنه جزء المعين وأن الماهية في الخارج زائدة عن الوجود الثابت في الخارج ويذكرون عن أصحاب أفلاطن أنهم أثبتوا الكلي العقلي في الخارج مجردا عن الأعيان وشنعوا عليهم تشنيعا عظيما ومن قال إن الرب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ويردون على أصحاب أفلاطن الذين أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان ويقولون هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان وعند هؤلاء بتقدير ثبوت هذه الكليات في الخارج فلا بد أن تكون لها أعيان ثابتة في الخارج مجردة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق لكان كليا شاملا عاما وله أعيان ثابتة في الخارج بالضرورة ويكون متناولا للواجب والممكن كتناوله للقديم والحادث والجوهر والعرض وكتناول سائر المعاني الكلية أفرادها سواء سميت جنسا أو نوعا او فصلا أو خاصة أو عرضا عاما فيمتنع أن تكون هذه الكليات العامة هي الأعيان الموجودة الداخلة فيها ولذلك إذا قدر أن المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي موجود في الخارج فإنه لا يوجد إلا معينا والمعين ليس هو المطلق غايتهم أن يقولوا هو جزء منه أو صفة له فيلزم أن يكون رب العالمين جزءا من المخلوقات أو صفة لها

وهؤلاء غلطوا من وجهين من جهة ظنهم أن في الخارج أمورا مطلقة كلية وليس كذلك بل ما يتصوره الذهن مطلقا كليا يوجد في الخارج لكن يوجد معينا مختصا والثاني أنه لو قدر أن في الخارج مطلقا كليا فلا ريب أن كل موجود معين مشخص مختص مميز عن غيره وليس هذا هو هذا ولا وجود هذا وجود هذا فكيف يكون وجودها وجود رب العالمين فلا بد على كل تقدير من إثبات موجود واجب بنفسه مغاير لهذا المطلق سواء قيل بوجود الكليات المطلقة المفارقة للأعيان كما يقوله أصحاب أفلاطن أو قيل بأنها لا توجد إلا مقارنة ملازمة للأعيان كما يقوله أصحاب أرسطو

وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود لما قال من قال منهم أنه الوجود المطلق كابن سبعين والقونوي وأمثالهما قال من قال منهم كالقونوي أنه المطلق لا بشرط ليكون موجودا في الخارج وهذا باطل أيضا فإن الموجود المطلق لا بشرط يتناول القسمين الواجب والممكن فيكون الممكن داخلا في مسمى واجب الوجود

وهم إنما فرقوا بينهما بناء على أن وجود الممكن زائد على حقيقته وهو باطل وأن الواجب إنما يتميز بقيود سلبية والسلوب لا تكون مميزة عندهم بل لا يحصل التمييز في الموجودين إلا بأمور وجودية ولأن المطلق عند من يقول بوجوده في الخارج جزء من المعين فيكون رب العالمين جزءا من كل مخلوق ولأن الخارج لا يوجد فيه كلي ولا مطلق إلا معينا مشخصا ولكن ما هو كلي في الأذهان يكون موجودا في الأعيان لكن معينا ومشخصا وأيضا فهؤلاء الذين يقولون إن واجب الوجود مطلق أو مقيد بالأمور السلبية كابن سينا وأهل الوحدة وغيرهم هم في الحقيقة لا يثبتون له حقيقة ولا صفة ولا قدرا الموجود لا بد له من حقيقة تخصه مستلزمة لصفته وقدره فهم من أعظم الناس تعطيلا للخالق وجحودا له وإن كانوا يعتقدون أنهم يقرون به وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع

والرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل وهؤلاء ناقضوهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فإن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه حكيم عزيز غفور ودود وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا وأنه أنزل على عبده الكتاب إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وقال في النفي والتنزيه ليس كمثله شيء سورة الشورى 11 ولم يكن له كفوا أحد هل تعلم له سميا سورة مريم 65 وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فقالوا في النفي ليس بكذا ولا كذا ولا كذا فلا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا له كلام يقوم به ولا له حياة ولا علم ولا قدرة ولا غير ذلك ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه ولا داخلة ولا خارجة إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم ثم قالوا في الإثبات هو وجود مطلق أو وجود مقيد بالأمور السلبية وقالوا لا نقول موجود ولا معدوم أو قالوا هو لا موجود ولا معدوم فتارة يرفعون النقيضين وتارة يمتنعون من إثبات أحد النقيضين ثم تارة يسلكون هذا المسلك في نفي الموجود وتارة فيما يوصف به الموجود من الحياة والعلم والقدرة والكلام وسائر الصفات فنفوا الحقيقة وصاروا يعبرون عن المعاني الثبوتية بأنها تركيب كما تقدم وقد ذكرنا أن تسمية هذا تركيبا أمر اصطلحوا عليه وإلا فإثبات هذه المعاني لا يسمى في اللغة المعروفة تركيبا فإن المركب لا يعقل إلا فيما ركبه مركب وهذا المعنى ممتنع فيما هو موجود بنفسه غني عن كل ما سواه وهو الفاعل لكل ما سواه وكل ما سواه مخلوق له فإذا قدر أنه متصف بصفات متعددة لم يكن أحد ركبه ولا ركبها فيه والناس قد تنازعوا في الأجسام المخلوقة كالكواكب والفلك والهواء والماء وغير ذلك فقيل هي مركبة من الجواهر المنفردة وقيل مركبة من المادة والصورة ومنه من فرق بين الجسم الفلكي والعنصري والصواب عند محققي الطوائف أنها ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا وهذا قول أكثر أهل الطوائف أهل النظر مثل الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وطائفة من الكرامية وغيرهم

وقد تنازع الناس في الجسم هل يقبل القسمة إلى غاية محدودة هي الجوهر الفرد أو يقبل القسمة إلى غير غاية أو يقبل القسمة إلى غاية من غير إثبات الجوهر الفرد على ثلاثة أقوال

والثالث و الصواب فإن إثبات الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة باطل بوجوه كثيرة إذ ما من موجود إلا ويتميز منه شيء عن شيء وإثبات انقسامات لا تتناهى فيما هو محصور بين حاصرين ممتنع لامتناع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى وامتناع انحصاره فيه لكن الجسم كالماء يقبل انقسامات متناهية إلى أن تتصاغر أجزاؤه فإذا تصاغرت استحالت إلى جسم آخر فلا يبقى ما ينقسم ولا ينقسم إلى غير غاية بل يستحيل عند تصاغره فلا يقبل الانقسام بالفعل مع كونه في نفسه يتميز منه شيء عن شيء وليس كل ما تميز منه شيء عن شيء لزم أن يقبل الانقسام بالفعل بل قد يضعف عن ذلك ولا يقبل البقاء مع فرط تصاغر الاجزاء لكن يستحيل إذ الجسم الموجود لا بد له من قدر ما ولا بد له من صفة ما فإذا ضعفت قدره عن اتصافه بتلك الصفة انضم إلى غيره إما مع استحالة إن كان ذلك من غير جنسه وإما بدون الإستحالة إن كان من جنسه كالقطرة الصغيرة من الماء إذا صغرت جدا فلا بد أن تستحيل هواء أو ترابا أو أن تنضم إلى ماء آخر وإلا فلا تبقى القطرة الصغيرة جدا وحدها وكذلك سائر الأجزاء الصغيرة جدا من سائر الأجسام

وهذا مبسوط في موضعه ولكن نبهنا عليه هنا لأن هذه الأمور هي مبدأ الاشتباه والتنازع والاضطراب في هذه الأبواب فإذا كان ما ادعوه من التركيب الحسي في الأجسام المشهدوة باطلا فكيف في الأمرو الغائبة التي لا تعلم حقيقتها فكيف بما يدعونه من التركيب العقلي كقولهم لو كان له حقيقة لكان الوجود صفة لها فكان مركبا وكان الوجود الواجب معلولا لغيره فإنه يقال لهم بل له حقيقة تخصه يمتاز بها عن كل ما سواه بل كل موجود له حقيقة تخصه فالخالق أولى بذلك وأما قولهم يكون الوجود صفة لها فهذا إنما يقال أن لو كان الوجود مصدر وجد وجودا أو وجدته وجودا

ولا ريب أن لفظ الوجود في اللغة هو مصدر وجد يجد وجودا كما في قوله تعالى ووجد الله عنده سورة النور 39 ولكن أهل النظر والعلم إذا قالوا هذا موجود لم يريدوا أن غيره وجده يجده ولا يريدون أن غيره جعل له وجودا قائما به بل يريدون به أنه حق ثابت ليس بمعدوم ولا منتف فإذا قيل هذا الإنسان موجود لم يكن المراد أن هذا الإنسان قام به وجود يكون صفة لهذا الإنسان بل قولنا هذا الإنسان موجود أي ثابت متحقق ليس بمعدوم ولا منتف وليس وجوده في الخارج فدرا زائدا على حقيقته الموجودة في الخارج بل الحقيقة التي هي ماهيته الموجودة في الخارج هي وجوده الثابت في الخارج

وأما إذا أريد بالحقيقة ما يتصور في الذهن وهي الماهية الذهنية كما يتصور المثلث في الذهن قبل ثبوته في الخارج فالماهية الثابتة في الأذهان مغايرة للحقيقة الموجودة في الأعيان فمن قال أن وجود كل شيء عين ماهيته كما يقوله متكلمو أهل الأثبات فقد أصاب إذا أراد أن الوجود الثابت في الخارج هو الماهية الثابتة في الخارج ومن قال ان وجود كل شيء غير ماهيته كما يقوله أبو هاشم بن الجبائي وأمثاله فقد أصابوا إن أرادوا أن الوجود الثابت في الخارج مغاير للماهية الثابتة في الذهن وأما إن أرادوا ما هو المعروف من مذهبهم أن في الخارج ماهيات ثابتة وهو المعدوم الثابت في حال عدمه وأن الوجود صفة لتلك الماهية فهذا خطأ

وأعظم خطأ من هؤلاء من فرق من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله وقالوا أن الممكن وجوده في الخارج زائد على ماهيته وأما الواجب فوجوده في الخارج عين ماهيته وإنما كان خطؤهم أعظم لأنهم أخطأوا من وجهين أحدهما إثبات حقائق في الخارج غير الموجودات الثابتة في الخارج والثاني أنهم جعلوا الوجود الواجب وجودا مطلقا ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود وأنه إنما يتميز عن غيره بأمور سلبية أو إضافية مع أنهم يقولون في منطقهم أن الأمور السلبية والإضافية لا تميز بين المشتركين في أمر كلي وجودي وإنما يقع التمييز بأمور ثبوتية

وأيضا فإذا لم يتميز الواجب إلا بأمر عدمي وكل من الممكنات يتميز بأمر وجودي كان كل من الممكنات أكمل منه وأيضا فالسلب إذا لم يتضمن أمرا ثبوتيا لم يكن صفة كمال وإنما يكون كمالا إذا تضمن أمرا ثبوتيا كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم سورة البقرة 255 وأولئك المعتزلة ومن وافقهم من المتأخرين كأبي حامد والرازي في أحد القولين وغيرهما إذا قالوا أن الوجود الواجب صفة للحقيقة ومن قد يوافقهم في هذا الأصل أحيانا فيفرق بين وجود الشيء وبين حقيقته في الخارج كما يفعله أبو الحسن بن الزاغوني ونحوه في مواضع كان قولهم مع ما فيه من الخطأ خيرا من قول هؤلاء

وأما إيراد هؤلاء عليهم أن الوجود الواجب لا يكون معلولا فيقال لهم أتريدون بذلك أن الوجود الواجب بنفسه لا يكون مفعولا ولا معلولا لعلة فاعلة أم تريدون أن الوجود لا يكون صفة للماهية الموجودة ولا يكون الوجود معلولا لعلة قابلة لا فاعلة أم تريدون غير ذلك فإن أردتم الأول فهو صحيح لكن ليس في قولنا أن الوجود الواجب صفة للماهية الواجبة ما يوجب أن يكون معلولا له علة فاعلة وإن أردتم أنه لا يكون صفة للوجود فهذا ممنوع بل الوجود صفة للواجب والوجود صفة للموجود والواجب بنفسه هو الموصوف بالوجوب لا أن الوجوب هو الواجب بنفسه والموجود بنفسه هو الموجود الواجب لا أن وجوده هو الواجب بنفسه فهذا جواب

وجواب ثان وهو أن كون الوجود أو الوجوب معلولا لعلة قابلة ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون معلولا لعلة فاعلة فالعلة القابلة كالموصوف القابل لصفته والعلة الفاعلة كالمبدع الفاعل لمصنوعه والدليل دل على أن الواجب بنفسه ووجوبه ووجوده لا يكون مفعولا ولا معلولا لفاعل لم يدل على أن الواجب لا يكون إلا صفة للواجب والوجود لا يكون صفة للموجود على قول من يقول إن وجود الشيء زائد على حقيقته فهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم على قولهم إن وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته وإن كان في قولهم خطأ فهم أقل خطأ وأكثر صوابا من أولئك الفلاسفة الذين جعلوا وجوده مطلقا أو مقيدا بالعدم فقالوا ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع من وجوه كثيرة مع ما فيه من التعطيل والجحود لرب العالمين والتكذيب لأنبيائه المرسلين واتباع غير سبيل المؤمنين

وأما النوع الثاني من التركيب وهو التركيب من خاص وعام فيقال نحن وأنتم مع جماهير الناس يقولون أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام وهذه القسمة إنما ترد على المعاني لا على مجرد الألفاظ المشتركة سواء كانت تلك المعاني متفاضلة وألفاظها هي التي يقال لها الألفاظ المشككة أو كانت متساوية وهي الأسماء المتواطئة التواطؤ الخاص فأما التواطؤ العام فتندرج فيه المشككة وإذا كان الوجود منقسما إلى هذا وهذا فلا بد أن يتميز الواجب عن غيره بما يخصه والأمور العدمية المحضة لا توجب التمييز فقد ثبت التركيب مما به الاشتراك ومما به الامتياز سواء جعلتم الوجود من الألفاظ المشككة أو من المتواطئة تواطؤا عاما أو المتواطئة تواطؤا خاصا

وأيضا فيقال قد عرف أنا إذا قلنا أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم هو المعنى العام الكلي والكلي إنما يكون كليا في الأذهان لا في الأعيان وحينئذ فليس في المخلوقات ما هو مركب مما به الاشتراك ومما به الامتياز بل كل موجود فإنه مختص بصفاته القائمة به كاختصاصه بعينه نفسه لا يشركه غيره فيها فإذا كانت المخلوقات ليست مركبة بهذا الاعتبار فالخالق أولى أن لا يكون مركبا بهذا الاعتبار ولكن أنتم غلطتم في منطقكم اليوناني فلما رأيتم الإنسان يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص عنه بالنطق والفرس يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص بالصهيل قلتم الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية وكذلك الفرس مركب من الحيوان والصاهل أو من الحيوانية والصاهلية وهكذا في سائر الأنواع وظننتم أن هذا التركيب له تأثير في الخارج وهذا غلط عظيم وقع منكم في الميزان العقلي وهو القانون الذي تزنون به المعاني العقلية الذي جعلتموه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكرة فإن الميزان إذا كان مائلا لا عادلا أخطأ الوازن في الوزن قطعا وقد بسط الغلط في غير هذا الموضع

ومن أقرب ما يعرف به ذلك أن يقال الإنسان الموجود في الخارج مركب من عرضين أو من جوهرين فقولكم الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق أتريدون به أعراضا هي صفات تقوم بالإنسان أم جواهر هي أعيان قائمة بأنفسها فإن قلتم أعراضا تبين فساد قولكم فإن الإنسان الموجود جوهر قائم بنفسه والجواهر لا تكون مركبة من الأعراض ولا تكون الأعراض سابقة عليها ولا مادة لها فإن الأعراض قائمة بالجوهر مفتقرة إليه حالة فيه وهو موضوع لها في اصطلاحكم والموضوع هو المحل المستغنى في قوامه عن الحال فيه فإذا كان الإنسان عندكم مستغنيا في قوامه عن أعراضه امتنع أن كون هي مادته وأجزاءه المقومة له وأن يكون مركبا منها

وإن قلتم بل الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق جوهران قائما بأنفسهما والإنسان مركب منهما كان هذا معلوم الفساد بالضرورة فإنا نعلم أن الإنسان هو الحيوان الناطق وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الناطق والفرس هو الحيوان الصاهل وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الصاهل ليس في الإنسان جوهر هو حيوان وجوهر هو ناطق وجوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة بل هذه أسماء للإنسان الواحد كل اسم منها يدل على صفة من صفاته فالمسمى الموصوف بها جوهر واحد لا جواهر متعددة

فتبين أن قولكم أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من هذا وهذا قول باطل كيفما أردتموه وإما أن قلتم أن هذا تركيب عقلي في الذهن فيقال التركيب العقلي هو بحسب ما يقدره الذهن ويفرضه ومن لم يميز بين الموجودات الثابتة في الخارج وبين المقدرات الذهنية كان عن العلم خارجا وفي تيه الجهل والجا وهذا حال كثير من هؤلاء اشتبه عليهم الصور الذهنية بالحقائق الخارجية فظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان وعامة ما تدعونه من العقليات مثل الكليات والمجردات كالعقول العشرة وكالمادة وغيرها هي أمور ذهنية لا خارجية

وهم قد جعلوا في علمهم الأعلى وفلسفتهم الأولى الذي قسموا فيه الوجود إلى جوهر وعرض وجعلوا العرض تسعة أجناس كما ذكر ذلك معلمهم الأول أرسطو وسموا هذه المقالات العشر جعلوا الجوهر جنسا تحته خمسة أنواع أحدها العقول العشرة والثاني النفوس والثالث المادة والرابع الصورة والخامس الجسم وتنازعوا في واجب الوجود هل يسمى جوهرا على قولين لهم وهذه الأربعة التي هي العقول والنفوس والمادة والصورة اللتان جعلوهما جزئي الجسم إذا حقق الأمر عليهم كانت أمورا عقلية مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان بخلاف الجسم وأعراضه فإن ذلك ثابت في الأعيان وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على منشأ غلطهم في التركيب الذي يزعمونه من الجنس والفصل أو من العرض العام والخاصة وقولهم أن هذا منتف عن واجب الوجود فإذا عرف أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة وأنه سواء جعل تركيبا أو لم يجعل تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود من الموجودات لا واجب ولا ممكن علم ضلال هؤلاء القوم الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وأما التركيب من الذات والصفات فهذا أيضا ليس بتركيب فإن الإنسان الذي لا يكون إلا حيا ناطقا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال انه مركب من هذه الذات والصفات بل لا حقيقة لذاته إلا ما هو حيوان ناطق فالخالق تعالى الذي لا يكون إلا حيا عالما قادرا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال أنه مركب من ذات وصفات وإذا قال القائل أنه يمكن تقدير الذات مجردة عن الصفات كان هذا تركيبا في ذهنه وخياله كما تقدم ومن المعلوم أن الأمور الذهنية العقلية الخيالية غير الحقائق الموجودة في الخارج وقد تقدم قولهم في تركيب الجسم من أجزائه الحسية والعقلية فقد تبين ان ما جعلوه تركيبا أخطأوا فيه لفظا ومعنى وأنه بتقدير موافقتهم على جعل ذلك تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود لا واجب ولا ممكن فظهر المقامان اللذان ذكرناهما حيث قلنا أن هذا ليس بتركيب وبتقدير أن يقال هو تركيب لا يمكن نفيه

وأما المقام الثالث فيقال إثبات معان متعددة في الموجود الواجب وغيره أمر ضروري لا بد منه وأنتم مع فرط مبالغتكم في السلب تقولون أنه موجود واجب وأنه معقول وعاقل وعقل ولذيذ وملتذ به وعاشق ومعشوق وعشق إلى أنواع أخر

وأما أهل الملل فمتفقون على أنه حي عليم قدير ومن المعلوم أن من جعل كونه حيا هو كونه عالما وكونه عالما هو كونه قادرا فهو من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكذلك من جعل الحياة هي الحي والعلم هو العالم والقدرة هي القادر فيبين العقل الصريح أن كل صفة ليست هي الأخرى ولا هي نفس الموصوف وكذلك من جعل العشق هو العاشق واللذيذ هو اللذة ونفس العقل الذي هو مصدر عقل يعقل عقلا هو العقل الذي هو العاقل القائم بنفسه فمن جعل هذا هذا كان في المكابرة والجهل والسفسطة من جنس الأول فمن جعل المعاني هي الذات القائمة بنفسها أو كل معنى هو المعنى الآخر كان من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكان أجهل من النصارى الذين يقولون أحد بالذات ثلاثة بالأقنوم ويقولون مع ذلك أن أقنوم الكلمة هو المتحد بالمسيح دون غيره وأنه إله حق من إله حق فإنهم إن جعلوا الأقنوم هو الذات الموصوفة بالصفات الثلاثة كان المسيح هو الأب وإن جعلوه صفة لم يكن المسيح إلها فإن الصفة لا تخلق ولا ترزق ولا تفارق الموصوف فالنصارى متناقضون في التوحيد حيث يلزمهم أن يجعلوا الذات هي الصفة أو المتحد هو الذات وهؤلاء أعظم تناقضا منهم وقولهم في التوحيد شر من أقوال النصارى، لكن يحيى بن عيد النصراني الفيلسوف ظن أنه إذا جعل قولهم في التثليت هو مثل تثليت الفلاسفة في قولهم بالعاقل والمعقول والعقل يكون قد انتصر بالأدلة ولم يعلم أن ما فر إليه شر مما فر منه وأن قول الفلاسفة بالعقل والعاقل والمعقول أبطل في المعقول من قول النصارى بالأب والابن وروح القدس

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لأنها أصول كلام هؤلاء الذين أضلوا من أذكياء الأمم من لا يعلمه إلا الله وهم الذين قالوا إن معجزات الانبياء عليهم السلام قوى نفسانية وبنوا ذلك على أصولهم في قدم العالم وأن مبدعه علة تامة موجبة بذاته وجعلوا من المقدمات التي استعانوا بها على ذلك نفي الصفات الذي بنوه على ما سموه التركيب فإذا عرف بطلان أصلهم كان القول بإثبات صفات الكمال لله حقا وحينئذ فلا يمكنهم أن يقولوا لا تقوم به الأفعال الاختيارية فإنهم إنما نفوا قيام ذلك بذاته لنفيهم الصفات لا لكونه قديما فإن القديم عندهم تحله الحوادث ولهذا قالوا إن الفلك قديم تحله الحوادث

ومن قال إن القديم لا تحله الحوادث من أهل الكلام كالمعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وأتباعهم فإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن ما قامت به الحوادث محدث أما المعتزلة فلأن من أصلهم أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بمحدث وأما الكلابية وأتباعهم فلأن من أصلهم أن ما يقبل الحوادث لم يخل منها وما لم يخل منها كان حادثا لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها والذين نازعوهم في ذلك من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم مثل جمهور أهل الحديث وكثير من المرجئة والشيعة والفقهاء وغيرهم مثل الهشامية وأبي معاذ التومني ومثل داود بن علي والكرامية ومثل كثير من أئمة الفلاسفة الأساطين المتقدمين والمتأخرين ينازعونهم في إحدى المقدمتين أو كليتهما فينازعونهم في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها كما ينازعهم في ذلك الهشامية والكرامية وأبو عبدالله بن الخطيب وأبو الحسن الآمدي وغيرهما فإن هؤلاء وغيرهم طعنوا في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها

وأما قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فهذا نازعهم فيه أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة وأئمة أهل الحديث والسنة وجمهورهم نازعوهم في هذه ونازعهم فيها أئمة الفلاسفة الأولين والآخرين مثل أرسطو ومن قبله فالقائلون بقدم الأفلاك من الفلاسفة يقولون أن القديم تقوم به حوادث لا أول لها وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث بل ما قارنته الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث لامتناع صدروه عن علة تامة قديمة أزلية والمشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو هو القول بحدوث العالم وإنما اشتهر القول بقدمه عنه وعن متبعيه كالفارابي وابن سينا والحفيد وأمثالهم

وأما قيام الأفعال الاختيارية وقيام الصفات بالله تعالى فهو قول سلف الأمة وأئمتها الذين نقوله عن الرسول وهو القول الذي جاء به التوراة والإنجيل وهو القول الذي يدل عليه صريح المعقول مطابقا لصحيح المنقول وحينئذ فنعلم بالعقل الصريح أن العالم حادث كما أخبرت به الرسل مع أن الرب لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال لم يصر قادرا بعد أن لم يكن ولا متكلما بعد أن لم يكن ولا موصوفا بأنه خالق فاعل بعد أن لم يكن بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال المتضمنة لكماله في أقواله وأفعاله وهذه الأمور مبسوطة في غير هذاالموضع

والمقصود هنا بيان ما ذكرناه من الدليل على حدوث كل ما سوى الله وأن حقيقة قولهم يستلزم أن لا يكون للحوادث محدث أصلا لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وأن كل محدث سواء سمي معلولا أو مفعولا لا بد حين وجوده من وجود جميع ما به يحدث فإذا سمي معلولا فلا بد من وجود العلة التامة عند وجوده وإذا كانت قديمة وتأثيرها موقوف على شرائط فلا بد من حصول الشروط عند حدوثه فلا يكفي وجودها قبل حدوثه كما يقولون لأن العلة التامة يجب مقارنة معلولها لها ومقارنتها لمعلولها فلا يكون المعلول موجودا إلا مع وجود العلة التامة بجميع أجزائها إذ لو كان شيء من شروطها معدوما قد وجد قبل حدوث المعلول لكانت العلة سابقة على المعلول والمعلول متأخر عنها وهذا ممتنع في العلة التامة وكذلك الفاعل القادر لا بد من وجود قدرته وإرادته وسائر ما يعتبر في فعله أن يكون موجودا عند حداث المحدث فهذان وجهان

وأما حجتهم المذكورة على قدم العالم فجوابها من وجوه أحدها أن يقال دوام الحوادث إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولهم وعلم أن الحوادث لها ابتداء وإن كان ممكنا أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مسبوقة بحوادث قبلها كما أخبرت بذلك الرسل فإن الله تعالى اخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء وعلى التقديرين فلا يلزم قدم العالم واعلم انه ليس لهم حجة صحيحة على قدم العالم أصلا بل غاية ما يقررون أنه لابد من دوام فعل الفاعل فبتقدير أن يكون فعله دائما بذاته شيئا بعد شيء يبطل قولهم وبتقدير أن يكون كل مفعول محدثا وهو مسبوق مفعول محدث يبطل قولهم

الوجه الثاني أن يقال هذا بعينه يبطل قولكم بأن المؤثر إن جاز تأخر أثره عنه أمكن حدوث العالم وتأخر الفعل عن الفاعل وإن لم يجز تأخر أثره عنه لزم عدم الحوادث أو قدمها أو حدوثها بلا محدث والكل باطل فعلم أن قولهم بمؤثر لا يتأخر عنه الأثر باطل

الوجه الثالث أن يقال ترجيح الفاعل لأحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن كان ممكنا أمكن تأخر العالم وأن القادر المختار يرجح حدوثه بلا مرجح وإن قيل إن الفاعل لا يمكنه ذلك امتنع كون الموجب بالذات يرجح شيئا على شيء بلا مرجح ومعلوم أن العالم له قدر مخصوص وصفات مخصوصة وحوادث متعاقبة كلها ممكنة فترجيحها على غيرها من الممكنات لا يكون بمجرد وجود مطلق بسيط نسبته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة

الوجه الرابع أن يقال القديم إما أن يجوز قيام الحوادث به وإما أن لايجوز فإن لم يجز بطل قولهم بقدم العالم الذي قامت به الحوادث والأفلاك قامت بها الحوادث وإن جاز قيام الحوادث به أمكن أن يقوم بالقديم الواجب بذاته حوادث لا تتناهى ويكون منها ما هو شرط في حدوث العالم كما قالوا إن حركات الأفلاك شرط في حدوث الحوادث السفلية

الوجه الخامس أن يقال مبنى حجتهم على امتناع ترجيح بلا مرجح تام وامتناع التسلسل وهم قائلون بالأمرين فإنهم يقولون بتسلسل الحوادث ويقولون أن الحوادث حدثت بلا مجرح تام وإذا قالوا نحن رددنا على من أثبت ذاتا معطلة عن الفعل فعلت بعد أن لم تكن فاعلة قيل لهم هذا قول طوائف من أهل الكلام ليس هذا القول منصوصا عن الأنبياء لا في التوارة ولا في الإنجيل ولا في القرآن ولا يلزم من بطلان هذا القول قدم العالم ومخالفة ما أخبرت به الرسل بل نقول إن كان هذا القول ممكنا بطل ردكم له وإن كان ممتنعا لم يلزم إلا دوام فعل الفاعل لا أزلية هذه الأفلاك ولا أزلية شيء بعينه من الممكنات

الوجه السادس أن يقال قولكم أشد استحالة من هذا القول فإن هؤلاء نسبوا جميع الحوادث إلى الفاعل القديم الأزلي وقالوا أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فأثبوا للحوادث فاعلا ولم يثبتوا سببا حادثا وأنتم جعلتم الحوادث تحدث بلا فاعل أصلا لأن الفاعل القديم الواجب عندكم يلزمه مفعوله الذي هو معلوله وموجبه ومقتضاه فلا يتأخر عنه فلا يجوز أن يحدث عنه شيء فإذن هذه الحوادث لم تحدث عنه فتضمن قولكم أن الحوادث لا محدث لها وهذا اعظم فسادا من قول من جعل لها محدثا أحدثها من غير سبب حادث

الوجه السابع أن يقال كل ما تذكرونه من الشبه على نفي حدوث هذا العالم يلزمكم مثله في حدوث كل حادث مثل قولكم أن الفاعل لا بد له من غرض وقولكم أن التأثير إن كان قديما لزم قدم الأثر وأمثال ذلك وإنما وقع التلبيس منكم أنكم أخذتم تحتجون على قدم الأفلاك أو مواد الأفلاك بحجج ليس فيها ما يقتضي ذلك بل إما أن تقتضي الحجة نفي الفعل والإحداث بالكلية فيعلم فسادها بالضرورة والاتفاق وإما أن تقتضي أن كل حادث مسبوق بحادث وهذا لا يدل على قدم هذا العالم بل على أن الرب لم يزل فاعلا إما أفعالا تقوم بنفسه وإما مفعولات منفصلة تحدث شيئا بعد شيء وليس في واحد من هذين ما يقتضي صحة قولكم بل كل منهما يناقض قولكم وغايتكم أن تفسدوا قول بعض أهل الكلام أو حجتهم لكن ليس في هذا تصحيح لقولكم ولا إبطال لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين

وهذه الأمور قد بسطناها في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها هنا لأنها أصل قول هؤلاء الذين ينكرون انفطار السموات وانشقاقها ويقولون إن النبوة هي من نوع قوى النفوس وأن المعجزات هي قوى نفسانية حتى يجعلونها هي سبب ما أحدثه الله من آيات الانبياء وإن كانوا مع هذا يعظمون الأنبياء ويوجبون طاعة نواميسهم ويأمرون بقتل من يخرق النواميس ويقولون أنهم وضعوا للناس قانونا من العدل به يعيش الناس في الدنيا فهم فيما يخبرون به من صفات الأنبياء يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض كما أخبر الله تعالى فيؤمنون ببعض الصفات التي اتصف بها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وببعض ما آتاهم الله من الفضائل ويكفرون ببعض والذي يثبتونه للأنبياء قد يحصل للرجل الصالح العالم والمخاطبات والمكاشفات التي يثبتونها للأنبياء تحصل لكثير من عوام الصالحين وما أثبتوه من الحق فهو حق لكن كفرهم بما كذبوا به من الحق فنقول ما وصفوا به الأنبياء من أن لهم خصائص في العلم والقدرة والسمع والبصر امتازوا بها حق لكن دعواهم أن منتهى خصائصهم ما ذكروه باطل فنحن لا ننكر أن الله تعالى يخص البنى بقوة قدسية يعلم بها ما لا يعلم غيره ولا ننكر أيضا ما يمثله الله له إما في اليقظة وإما في المنام من الأمور الصادقة المطابقة للحقائق ولا ننكر أيضا أن الله قد يجعل في النفوس قوى يحصل بها تأثير في الوجود والناس لهم في هذا الباب قولان فالسلف والفقهاء والجمهور يقولون أن الله جعل في الأعيان قوى وطبائع تحصل بها الآثار كما جعل في النار التسخين وفي الماء التبريد ونحو ذلك وطائفة من أهل الكلام ينكرون هذا كله ويقولون ليس في الأعيان قوى وطبائع تكون أسبابا للآثار لكن الله يخلق الأشياء عندها لا بها ويقولون ليس في العين قوة امتازت بها عن الأنف ولا في الخبز قوة امتاز بها عن الشراب ولا في الماء قوة امتاز بها عن الخل ولكن الله تعالى يخلق الشبع والري عند ذلك لا به وهذا القول ضعيف مخالف للشرع والعقل فإن الله تعالى قال وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة البقرة 164 وقال تعالى فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف 57 وقال وأنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة سورة النحل 60 ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه

والمقصود هنا أن كون النفوس أو غيرها من الأعيان جعل الله فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر لا في الشرع ولا في العقل ولكن دعوى المدعي أن معجزات نبينا أو غيره من الانبياء هي من هذا الباب بهتان عظيم والقائلون بهذا رأوا أنهم يمكنهم تعليل بعض الخوارق بعلل طبيعية فعللوها ثم جهالهم ظنوا هذا يطرد فطردوا وأما حذاقهم فيكذبون بالخوارق الخارجة عن القانون الطبيعي عندهم وذلك مثل كون بعض الناس يبقى مدة لا يأكل ولا يشرب فإن جماعة من الناس يبقى شهرا أو شهرين لا يأكل فأخذ ابن سينا يقول في إشاراته إذا بلغك أن عارفا مكث مدة لا يأكل ولا يشرب فاسجح بالتصديق فإن في الطبيعة عجائب وقرر ذلك بأن المريض إذ بقيت قواه الهاضمة مشغولة بمدافعة المرض بقي الطعام محفوظا مدة لا يأكل فيها ولا يشرب فالعارف إذ اشتغلت نفسه بعرفانه اجتذبت إليها القوى الهاضمة فلا تهضم الطعام

وهذا الذي قاله في هذا وأمثاله ليس بطائل فإن الناس يعلمون أن النفس إذا اشتغلت بفرح عظيم أو غضب عظيم أو اهتمام بأمر عظيم اشتغلت عن الأكل والشرب بهذا وأسبابه فهذا ونحوه ليس من معجزات الأنبياء ولا مما يختص به الأولياء

ولهذا كان ما يذكرونه من التأثير مقيدا عندهم بجريانه على القانون الطبيعي المعتاد فعندهم لا يتصور أن يفعل المؤثر في المواد إلا ما هي قابلة له فقد يقولون أن الهواء لما كان قابلا لأن ينقلب ماء امكن أن يؤثر المؤثر فيه حتى يصير الهواء ماء فينزل المطر ومعلوم أن معجزات الأنبياء خارجة عن القوانين الطبيعية مثال ذلك انقلاب العصا ثعبانا ثم ابتلاع الثعبان ما هنالك من العصي والحبال فإن هذا خارج عن قوى النفس والطبيعية لأن الخشب لا يقبل أن يصير حيوانا أصلا ولا يمكن في القوى الطبيعية أن عصا تصير حية لا بقوى نفس ولا بسحر ولا غير ذلك بل الساحر غايته أن يتصرف في الأعراض بفعل ما يحدث عنه الأمراض والقتل ونحو ذلك مما يقدر عليه سائر الآدميين فإن الإنسان يمكنه أن يضرب غيره حتى يمرضه أو يقتله فالساحر والعائن وغيرهما ممن يتصرف بقوى الأنفس يفعل في المنفصل ما يفعله القادر في المتصل فهذا من أفعال العباد المعروفة المقدروة وأما قلب الأعيان إلى ما ليس في طبعها الانقلاب إليه كمصير الخشب حيوانا حساسا متحركا بالإرادة يبلغ عصيا وحبالا ولا يتغير فليس هذا من جنس مقدور البشر لا معتادا ولا نادرا ولا يحصل بقوى نفس أصلا ولهذا لما رأى سحرة فرعون ذلك علموا أنه خارج عن طريقة السحر فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون سورة الشعراء 46 48 وهذه الحادثة الخارقة للعادة فيها إثبات الصانع وإثبات نبوة أنبيائه فإن حدوث هذا الحادث على هذا الوجه في مثل ذلك المقام يوجب علما ضروريا أنه من القادر المختار لتصديق موسى ونصره على السحرة كما قال تعالى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى سورة طه 67 69 وكذلك إخراج صالح الناقة من هضبة من الهضاب أمر خارج عن قوى النفوس وغيرها ولهذا كان أئمة هؤلاء المتفلسفة يكذبون بهذه المعجزات وربما جعلوها أمثالا فقالوا إنه ألقى عصا العلم فابتلعت حبال الجهل وعصيه ونحو ذلك كما يغلب الرجل الرجل بحجته وهذا من تأويلات القرامطة التي يعلم بالضرورة بطلانها وأنها مخالفة للمنقول بالتواتر ومخالفة لما اتفق عليه المسلمون واليهود والنصارى من نقل هذه المعجزات واعتبر هذا بأمثاله وكذلك وقوف الشمس ليوشع بن نون وانشقاق القمر لنبينا هو عندهم ممتنع لا يمكن لا بقوى نفس ولا غير ذلك لأن الفلك دائم الحركة

ومعلوم أن هذه المعجزات لا ريب فيها وانشقاق القمر قد أخبر الله به في القرآن وتواترت به الأحاديث كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود وأنس وابن عباس وغيرهم وأيضا فكان النبي يقرأ بهذه السورة في الأعياد والمجامع العامة فيسمعها المؤمن والمنافق ومن في قلبه مرض

ومن المعلوم أن ذلك لو لم يكن وقع لم يكن ذلك أما أولا فلأن من مقصوده أن الناس يصدقونه ويقرون بما جاء به لا يخبرهم دائما بشيء يعلمون كذبه فيه فإن هذا ينفرهم ويوجب تكذيبهم لا تصديقهم

وأما ثانيا فلأن المؤمنين كانوا يسألونه عن أدنى شبهة تقع في القرآن حتى نساؤه فراجعته عائشة في قوله من نوقش الحساب عذب وذكرت قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا سورة الإنشقاق 8 حتى قال لها ذلك العرض

وراجعته حفصة في قوله لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة وذكرت قوله تعالى وإن منكم إلا واردها سورة مريم 71 حتى أجابها بقوله ألم تسمعي قوله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا سورة مريم 72

وراجعه عمر بقوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين سورة الفتح 27 عام الحديبية لما صالح المشركين على الرجوع ذلك العام حتى قال له أبو بكر كما قال له النبي أقال لك أن تدخله هذا العام قال لا قال فإنك داخله ومطوف به

وأمثال ذلك كثيرة فكيف يقرأ عليهم دائما ما فيه الخبر بانشقاق القمر ولا يرد على ذلك مؤمن ولا كافر ولا منافق مع أن ابن الربعري وغيره من المشركين تعلقوا بالقياس الفاسد في قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون سورة الأنبياء 98 فقاس المسيح على الأصنام بكونه معبودا وهذا معبود وهذا من جهله بالقياس فإن الفرق ثابت بأن هؤلاء أحيانا ناطقون وهم صالحون يتألمون بالنار فلا يعذبون لأجل كفر غيرهم بخلاف الحجارة التي تلقى في النار إهانة لها ولمن عبدها

قال الله تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ماضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون سورة الزخرف 57 58 فلو لم يكن انشقاق القمر معلوما معروفا عندهم لعظم في إنكاره القيل والقال وكثرة الاعتراض وكثرة السؤال وصار في ذلك من المراء والجدال ما لا يخفى على أدنى الرجال

وكذلك القرآن فإن القرآن فيه من الأخبار عن الأمم الماضية كقصة آدم وإبليس ونوح وقومه ومخاطبته لهم وقصة عاد وثمود وفرعون وما جرى من الأمم وقومهم من المخاطبات في الأمور الجزئية مما لا يمكن أن تعلم بالحدس وقوى النفس التي تنال بواسطة العلم بالحد الأوسط وكذلك الخبر عن الأمور المستقبلة المفصلة فإن هذه كلها لا يمكن في الجبلة أن تعلم إلا بمخبر يخبر بها الإنسان وأما علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس ولهذا يقول سبحانه وتعالى وما كنت بجاب الطور إذ نادينا سورة القصص 46 وما كنت بجانب الغربي سورة القصص 44 وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم سورة يوسف 102 وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم سورة آل عمران 44 وفي الجملة فهؤلاء يدعون ما ذكره ابن سينا في إشاراته من أن خوارق العادات في العالم ثلاثة أنواع لأنها إما أن تكون بأسباب فلكية كتمزيج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية وهذا هو الطلسمات وإما أن تكون بأسباب طبيعة سفلية كخواص الأجسام وهي النيرنجيات وإما أن تكون بأسباب نفسانية ويزعمون أن المعجزات التي للأنبياء والكرامات التي للأولياء وانواعا من السحر والكهانة هو من هذا الباب ويقولون الفرق بين النبي والساحر أن النبي نفسه زكية تأمر بالخير والساحر نفسه خبيثة تأمر بالشر فهما يفترقان عندهم فيما يأمر به كل منهما لا في نفس الأسباب الخارقة وقد قدمنا أن من أهل الكلام والنظر من ينكر أن تكون في شيء من الأنفس وغيرها من الأجسام الحيوان وغير الحيوان قوى أو طبائع أو أن يكون لها تأثير بل يجعلون ذلك كله من باب المقارنة العادية المحضة وهذا قول جمهور الأشعرية ومن يوافقهم من أهل الظاهر وأهل القياس من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهؤلاء قد يغلون حتى يقولوا إن قدرة الحيوان لا تأثير لها في أفعاله الاختيارية لا للإنسان ولا لغير الإنسان وينكرون أيضا أن يكون الله يفعل شيئا لشيء فينكرون الأسباب والحكم في خلقه وأمره وكثير منهم ينكر القياس ومن أقر منهم لم يجعل علل الشرع إلا مجرد علامات وأكثرهم يتناقضون في هذا الأصل فإذا تكلموا في تفاصيل الفقه والطب وحكمة الله تكلموا بموجب فطرتهم وإيمانهم على طريقة الجمهور الذين يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب المتقدمة على الحوادث والحكم المتأخرة عن الحوادث وإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة في أصول الدين في مسائل القدر والتعديل والتجوير وتعليل أفعال الله تعالى وأسباب الحوادث تكلموا على هذه الطريقة التي هي في الأصل طريقة المجبرة كجهم بن صفوان وأمثاله ويجعلون نفس المشيئة مقتضية لترجيح أحد المثلين على الآخر بلا سبب يقتضي الترجيح غير الإرادة وادعوا أنها كما انها تقتضي جنس التخصيص فإنها تقتضي التخصيص المعين إذ التخصيص ببعض الحوادث دون بعض لا يقع بنفس العلم ولا بنفس القدرة فلا بد له من مخصص وذلك هو الإرادة لكن المعقول من ذلك أن جنس الإرادة يخصص جنس المحدثات وأما كون هذا المعين مراده من هذا فلا تقتضيه نفس جنس الإرادة إلا أن كون المراد مختصا بسبب يقتضي أن يراد دون غيره وأن يكون من المريد سبب يوجب أن يريد ذاك دون غيره فادعى هؤلاء أن نفس الإرادة تخصص مثلا عن مثل من غير سبب معين وذاك لا في المريد ولا في المراد مع أن نسبتها إلى جميع المرادات نسبة واحدة

وقال جمهور العقلاء هذا مما يعلم فساده بالضرورة فإن الإرادة إذا استوت نسبتها إلى جميع المرادات وأوقاتها وصفاتها وأشكالها كان ترجيح الإرادة لمثل على مثل ترجيحا من غير مرجح فإن جاز هذا جاز أن يقال الفاعل القادر يخصص مثلا على مثل بلا إرادة وحينئذ فلا إرادة كما تقوله معتزلة البغداديين وإن جاز هذا لزم ترجيح أحد المثالين على الآخر بلا مرجح أصلا فإذا كان نسبة الوجود والعدم إلى حقيقة الممكن نسبة واحدة جاز ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح فيلزم جواز وجود الممكنات والمحدثات بلا مبدع فاعل

فقال هؤلاء نحن نفرق بين ترجيح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وبين ترجيح الموجب بلا مرجح وهذا الفرق هو أصل قول المعتزلة وقول الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من حيث يجعلون الموجب للترجيح إرادة نسبتها إلى المثلين سواء ولكن هؤلاء يجعلون المرجح هو إرادة القادر المختار وأولئك يجعلون المرجح هو نفس القادر المختار ثم البصريون منهم يقولون يحدث بنفسه الإرادة لا في محل والبغداديون منهم يقولون بنفي هذه الإرادة ويقولون لا تزيد الإرادة على فعل المفعول والأمر بالمأمورات

وأهل الكتاب من اليهود السامرة وغيرهم الموافقون للمعتزلة هم على هذين القولين وأبو عبدالله بن الخطيب ونحوه متناقضون في هذا الباب فإذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر والجبر سلكوا مسلك من يقول أن الممكن لا يرجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام مستلزم لأمر لا فرق في ذلك بين القادر والموجب فإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وطالبهم الدهرية بسبب حدوث العالم سلكوا مسلك المعتزلة فقالوا القادر المختار يرجح أحد طرفي المقدور على الآخر بلا مرجح أو قالوا الإرادة القديمة هي المرجح كما يقول ذلك الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية


الصفدية لابن تيمية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16