الصواعق المرسلة/الفصل الثاني عشر

الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة المؤلف ابن قيم الجوزية
الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه



الفصل الثاني عشر

في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه


نكتفي من هذا الفصل بذكر مناظرة جرت بين جهمي معطل وسني مثبت حدثني بمضمونها شيخنا عبد الله بن تيمية رحمه الله أنه جمعه وبعض الجهمية مجلس فقال الشيخ قد تطابقت نصوص الكتاب والسنة والآثار على إثبات الصفات لله وتنوعت دلالتها عليها أنواعا توجب العلم الضروري بثبوتها وإرادة المتكلم اعتقاد ما دلت عليه والقرآن مملوء من ذكر الصفات والسنة ناطقة بمثل مانطق به القرآن مقررة له مصدقة له مشتملة على زيادة في الإثبات فتارة بذكر الاسم المشتمل على الصفة كالسميع البصير العليم القدير العزيز الحكيم وتارة بذكر المصدر وهو الوصف الذي اشتقت منه تلك الصفة كقوله { أنزله بعلمه } 1

وقوله { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } 2

وقوله { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } 3

وقوله { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } 4

وقوله في الحديث الصحيح حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وقوله في دعاء الاستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وقوله أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق وقول عائشة الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ونحوه وتارة يكون بذكر حكم تلك الصفة كقوله { قد سمع الله } 5

و { إنني معكما أسمع وأرى } 6

وقوله { فقدرنا فنعم القادرون } 7

وقوله { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } 8 ونظائر ذلك

ويصرح في الفوقية بلفظها الخاص وبلفظ العلو والاستواء وأنه في السماء وأنه ذو المعارج وأنه رفيع الدرجات وأنه تعرج إليه الملائكه وتنزل من عنده وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عيانا من فوقهم إلى أضعاف أضعاف ذلك مما لو جمعت النصوص والآثار فيه لم تنقص عن نصوص الأحكام وآثارها.

ومن أبين المحال وأوضح الضلال حمل ذلك كله على خلاف حقيقته وظاهره ودعوى المجاز فيه والاستعارة وأن الحق في أقوال النفاة المعطلين وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص إذ يلزم من ذلك أحد محاذير ثلاثة لا بد منها أو من بعضها وهي:

القدح في علم المتكلم بها، أو في بيانه، أو في نصحه.

وتقرير ذلك أن يقال إما أن يكون المتكلم بهذه النصوص عالما أن الحق في تأويلات النفاة المعطلين أو لا يعلم ذلك.

فإن لم يعلم ذلك والحق فيها كان ذلك قدحا في علمه وإن كان عالما أن الحق فيها فلا يخلو إما أن يكون قادرا على التعبير بعباراتهم التي هي تنزيه لله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم وأنه لا يعرف الله من لم ينزهه بها أو لا يكون قادرا على تلك العبارات فإن لم يكن قادرا على التعبير بذلك لزم القدح في فصاحته وكان ورثة الصابئة وأفراخ الفلاسفة وأوقاح المعتزلة والجهمية وتلامذة الملاحدة أفصح منه وأحسن بيانا وتعبيرا عن الحق وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه موافقوه ومخالفوه فإن مخالفيه لم يشكوا في أنه أفصح الخلق وأقدرهم على حسن التعبير بما يطابق المعنى ويخلصه من اللبس والإشكال.

وإن كان قادرا على ذلك ولم يتكلم به وتكلم دائما بخلافه وما يناقضه كان ذلك قدحا في نصحه وقد وصف الله رسله بكمال النصح والبيان فقال تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } 9

وأخبر عن رسله بأنهم أنصح الناس لأممهم فمع النصح والبيان والمعرفة التامة كيف يكون مذهب النفاة المعطلة أصحاب التحريف هو الصواب وقول أهل الإثبات أتباع القرآن والسنة باطلا هذا مضمون المناظرة فقال له الجهمي انزل بنا إلى الوطاة.

قلت له ما أراد بذلك قال أراد أنك خاطبتني من فوق وتجوهت علي بجاه لا يمكنني مقاومته فانزل بنا إلى مباحث الفضلاء وقواعد النظار أو نحو هذا من الكلام فليتدبر الناصح لنفسه الموقن بأن الله لا بد سائله عما أجاب به رسوله في هذا المقام وليتحيز بعد إلى أين شاء فلم يكن الله ليجمع بين النفاة المعطلين المحرفين وبين أنصاره وأنصار رسوله وكتابه إلا جمع امتحان وابتلاء كما جمع بين الرسل وأعدائهم في هذه الدار.

قلت وقريب من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب فإنه جمعني وإياه مجلس خلوة أفضى بيننا الكلام إلى أن جرى ذكر مسبة النصارى لرب العالمين مسبة ما سبه إياها أحد من البشر فقلت له وأنتم بإنكاركم نبوة محمد قد سببتم الرب تعالى أعظم مسبة قال وكيف ذلك قلت لأنكم تزعمون أن محمدا ملك ظالم ليس برسول صادق وأنه خرج يستعرض الناس بسيفه فيستبيح أموالهم ونساءهم وذراريهم ولا يقتصر على ذلك حتى يكذب على الله ويقول الله أمرني بهذا وأباحه لي ولم يأمره الله ولا أباح له ذلك ويقول أوحى إلي ولم يوح إليه شيء وينسخ شرائع الأنبياء من عنده ويبطل منها ما يشاء ويبقي منها ما يشاء وينسب ذلك كله إلى الله ويقتل أولياءه وأتباع رسله ويسترق نساءهم وذرياتهم فإما أن يكون الله سبحانه رائيا لذلك كله عالما به مطلعا عليه أو لا.

فإن قلتم إن ذلك بغير علمه واطلاعه نسبتموه إلى الجهل والغباوة وذلك من أقبح السب وإن كان عالما به رائيا له مشاهدا لما يفعله فإما أن يقدر على الأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا.

فإن قلتم إنه غير قادر على منعه والأخذ على يده نسبتموه إلى العجز والضعف وإن قلتم بل هو قادر على منعه ولم يفعل نسبتموه إلى السفه والظلم والجور هذا وهو من حين ظهر إلى أن توفاه ربه يجيب دعواته ويقضي حاجاته ولا يسأله حاجة إلا قضاها له ولا يدعوه بدعوة إلا أجابها له ولا يقوم له عدو إلا ظفر به ولا تقوم له راية إلا نصرها ولا لواء إلا رفعه ولا من يناوئه ويعاديه إلا بتره ووضعه فكان أمره منحين ظهر إلى أن توفي يزداد على الأيام والليالي ظهورا وعلوا ورفعة وأمر مخالفيه لا يزداد إلا سفولا واضمحلالا.

ومحبته في قلوب الخلق تزيد على ممر الأوقات وربه تعالى يؤيده بأنواع التأييد ويرفع ذكره غاية الرفع هذا وهو عندكم من أعظم أعدائه وأشدهم ضررا على الناس فأي قدح في رب العالمين وأي مسبة له وأي طعن فيه أعظم من ذلك.

فأخذ الكلام منه مأخذا ظهر عليه وقال حاش لله أن نقول فيه هذه المقالة بل هو نبي صادق كل من اتبعه فهو سعيد وكل منصف منا يقر بذلك ويقول أتباعه سعداء في الدارين قلت له فما يمنعك من الظفر بهذه السعادة فقال وأتباع كل نبي من الأنبياء كذلك فأتباع موسى أيضا سعداء.

قلت له فإذا أقررت أنه نبي صادق فقد كفر من لم يتبعه واستباح دمه وماله وحكم له بالنار فإن صدقته في هذا وجب عليك اتباعه وإن كذبته فيه لم يكن نبيا فكيف يكون أتباعه سعداء فلم يحر جوابا وقال حدثنا في غير هذا فانظر هذه الموازنة والمشابهة بين مالزم الجهمية النفاة من القدح والطعن في المتكلم بنصوص الصفات وما لزم منكري نبوة محمد من الطعن والقدح في الرب تعالى.

إذا ضممت هذا إلى ما يلزمهم من الطعن في كلامه وأمره واشتماله على ما ظاهره كفر وضلال وباطل ومحال علمت حقيقة الحال وتبين لك الهدى من الضلال والله المستعان.


هامش

  1. [ النساء166]
  2. [ الذاريات58]
  3. [ الأعراف144]
  4. [ ص82]
  5. [ المجادلة1]
  6. [ طه46]
  7. [ المرسلات23]
  8. [ البقرة187]
  9. [ إبراهيم4]
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية
المقدمة | الفصل الأول في معرفة حقيقة التأويل ومسماه لغة واصطلاحا | الفصل الثاني وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل | الفصل الثالث في أن التأويل إخبار عن مراد المتكلم لا إنشاء | الفصل الرابع في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب | الفصل الخامس في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنع وقوعه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما | الفصل السادس في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ | الفصل السابع في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه | الفصل الثامن في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل | الفصل التاسع في الوظائف الواجبة على المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها | الفصل العاشر في أن التأويل شر من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها | الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى وأن القصدين متنافيان وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى | الفصل الثاني عشر في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه | الفصل الثالث عشر في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره | الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال | الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل | الفصل السادس عشر في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله | الفصل السابع عشر في أن التأويل يفسد العلوم كلها إن سلط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أمة من الأمم أن تعيش عليه | الفصل الثامن عشر في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل وأصحاب تخييل وأصحاب تجهيل وأصحاب تمثيل وأصحاب سواء السبيل | الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علمه الله الإنسان وفطره على قبوله | الفصل العشرون في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا | الفصل الحادي والعشرون في الأسباب الجالبة للتأويل | الفصل الثاني والعشرون في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم | الفصل الثالث والعشرون في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصل واحد وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسنة رسوله | الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان | الطاغوت الأول | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | المكملة | الطاغوت الثاني | العشر الأولى | العشر الثانية | العشر الثالثة | العشر الرابعة | العشر الخامسة | العشر السادسة | العشر السابعة | العشر الثامنة | العشر التاسعة | العشر العاشرة | العشر الحادية عشرة | العشر الثانية عشرة | العشر الثالثة عشر | العشر الرابعة عشر | العشر الخامسة عشر | العشر السادسة عشر | العشر السابعة عشر | العشر الثامنة عشر | العشر التاسعة عشر | العشر العشرون | العشر الحادية والعشرون | العشر الثانية والعشرون | العشر الثالثة والعشرون | العشر الرابعة والعشرون | وجوه آخيرة