​العاصفة​ المؤلف كيت شوبان
ترجمةد. يوسف حطيني في 1832010
ملاحظات: ترجمات ويكي مصدر


كانت أوراق الشجر هادئة جداً إلى درجة أن بيبي ظنّ أنها على وشك أن تمطر. بوبينوت الذي كان من المألوف عنه أن يتحدث، بندية تامة، مع ابنه الصغير لفت انتباه الطفل إلى غيوم داكنة اللون،كانت تقترب متدحرجة بعزم شرير من الغرب مصحوبة بزئير متوعّد متجهم. كانا في مخزن فريديمر وقررا أن ينتظرا هناك حتى تمرّ العاصفة. جلسا في المدخل، فوق برميلين صغيرين فارغين، وبدا بيبي ابن الرابعة، متيقظاً جداً.

"أمّي ستكون خائفة، نعم" قال بعينين مذعورتين.

سوف تغلق المنزل" ربما ستحصل على مساعدة سيلفي هذا المساء" أجاب بوبينوت مؤكداً.

"كلا.. لن ترى سيلفي. سيلفي كانت تساعدها أمس، قال بيبي". نهض بوبينوت وذهب عبر طاولة الحساب مشترياً علبة من الروبيان، التي كانت كاليكستا مغرمة بها. ثم عاد ليجلس على البرميل الصغير متبلّد الحس يحمل علبة الروبيان عندما اندلعت العاصفة. لقد اهتزّت المخازن الخشبية، وأظهرت أخدوداً عظيماً في المدى البعيد. ألقى بيبي يده الصغيرة على ركبة والده، ولم يكن خائفاً.

شعرت كاليكستا، في البيت، بالخوف على سلامتهم، جلست إلى جانب النافذة تعمل بصخب على ماكينة الخياطة. كانت مشغولة إلى حد بعيد ولم تكن تلاحظ اقتراب عاصفة. ولكنها شعرت بدفء شديد، وكثيراً ما توقّفت لتمسح وجهها الذي تجمع عليه العرق على شكل قطرات. حلّت سترتها البيضاء من حول عنقها.. لقد بدأت الظلمة تشتدّ، وفجأة، نهضت، وقد أدركت الموقف بسرعة وذهبت لتغلق النوافذ والأبواب. خارجاً في شرفة أمامية صغيرة نشرت ثياب الأحد التي تعود لبيبينوت لتجفّ، وأسرعت إلى الخارج لتجمعها قبل أن يسقط المطر. وحالما توقّفت في الخارج اجتاز ألسي لابالير البوابة على حصانه.. لم تره منذ زواجها، إلا على ندرة، كما إنها لم تره وحيدة منذ ذلك الوقت على الإطلاق. وقفت هناك ومعطف بوبينوت في يديها، بينما شرعت قطرات المطر الكبيرة تتساقط. ربط ألسي حصانه في ملاذ من المطر، بجانب نتوء بروز، حيث ربضت الدجاجات، وحيث تكومت المجرفة والمسحاة في الزاوية. "هل يمكن أن أنتظر على شرفتك الخارجية ريثما تمرّ العاصفة يا كاليكستا؟" سأل. "تقدّم إلى الداخل، سيد ألسي. أجفل صوته وصوتها من النشوة عندما كانت تمسك صُدرة بوبينوت، مرتقية إلى الشرفة منتزعة البناطيل، محاولة إمساك شريط جاكيت بيبي الذي كان على وشك أن تلقي به الثورة الفجائية للريح بعيداً. عبّر عن نيته في البقاء خارجاً. ولكنه كان واضحاً في الحال إمكانية بقائه في العراء. الماء يضرب على جوانب الألواح الخشبية، دخل وأغلق الباب خلفه، كان من الضروري تماماً ليضع شيئاً تحت الباب ليبقي الماء خارجاً.

أوه. ما هذا المطر!! مرت سنتان كاملتان منذ سقط مطر مثله، صرخت كاليكستا طارت عالياً قطعة من الخيش، ساعدها ألسي لتدفعها تحت الحطام.

كانت ذات بنية أكثر امتلاء مما كانت عليه حين تزوجت قبل خمس سنوات.. ولكنها لم تفقد شيئاً من حيويتها. عيناها الزرقاوان ما تزالان تحتفظان بصفائهما الرقيق. وشعرها الأصفر، الأشعث بفعل الريح والمطر مفتل بعسر أكثر مما في أي وقت، حول أذنيها وصدغيها.

المطر يضرب على السقوف الخشبية المنخفضة بقوة،مثيراً قعقعة تنذر بكسر المدخل وإغراقهم هناك، كانا في غرفة الطعام –غرفة الجلوس- المعدة للاستخدام العام. وبمحاذاتها كانت غرفة نومها، مع سرير بيبي إلى جانب سريرها، الباب مفتوح، والغرفة بسريرها الأبيض الضخم، ومصاريع أبوابها المغلقة، بدت مظلمة وغامضة.

قذف ألسي نفسه داخل الكرسي الهزاز وبدأت كاليكستا ترفع قطع القماش القطنية التي خاطتها بعصبية عن الأرض. "إذا تواصل هذا، يا الله.. إذا لم توقفها السدود" صرخت بقوة.

ماذا عليك أن تفعل فيما يتعلّق بالسدود؟ لديّ ما يكفي لأعمله! بوبينوت موجود مع بيبي خارجاً في تلك العاصفة، لو أنه فقط لم يغادر مخزن فريديمرز. "دعينا نأمل يا كاليكستا أن حنكة بوبينوت قادته ليكون خارج الإعصار.

ذهبت ووقفت أمام النافذة، وسيماء قلق عظيم على وجهها.. مسحت الإطار الذي كان مغشى بالرطوبة. الجوّ حارٌ خانقٌ، نهض ألسي ولحق بها إلى النافذة، ناظراً من فوق كتفيها. كان المطر يأتي نازلاً من الأسطح مخفياً منظر الأكواخ البعيدة مغشّياً الغابات البعيدة في السديم الرمادي. ضربت الصاعقة شجرة زنزلخت طويلة في طرف الحقل. فملأت الفضاء كلّه بسطوع مبهر يغشي البصر وراح هزيم الرعد يقتحم المكان الذي كانا فيه.

وضعت كاليكستا يديها على عينيها، صارخةً مترنحة إلى الوراء بينما طوقتها ذراع ألسي، وللحظة جذبها قريبة نحوه، بنوبات قوية.

"بونتيه". صرخت. محررة نفسها من ذراعيه اللتين تطوقانها، متراجعة عن النافذة. سيُقتلع البيت بعد قليل. لو أنني عرفت فقط أين كان بيبي.!" لم تكن تتمالك نفسها. أمسك إلسي كتفيها ونظر إلى وجهها.. ملمسُ جسدها الدافئ النابض بسرعة إذ جذبها نحوه داخل ذراعيه برعونة، أيقظ كلّ أوقات الهيام القديم والرغبة إلى جسدها. "كاليكستا" قال، "لا ترتعبي". لن يحدث شيء. البيت أخفض بكثير من أن يكون هدفاً سهلاً للعاصفة. مع الأشجار الطويلة جداً التي تلتفّ حوله، تشجعي، ألن تهدئي؟ يقول، أليس كذلك؟ دفع شعرها إلى الخلف عن وجهها الذي كان دافئاً ومتوتّراً. وكانت شفتاها حمراوين ورطبتين مثل بذور الرمان. أما عنقها الأبيض، والنظرة الخاطفة إلى صدرها الممتلئ المكتنز، فقد جعلته يضطرب بقوّة. عندما نظرت نحو الأعلى إليه الخوف في عينيه الزرقاوين البراقتين أتاح الفرصة لومضة ناعسة أظهرت بلا وعي رغبة حسيّة. نظر، نازلاً، في عينيها ولم يكن هناك ما يفعله سوى أن يجمع شفتيها في قبلة. هذه الحالة ذكرته بعيد رفع مريم العذراء بعد موتها إلى السماء.

"هل تذكرين – في ذلك العيد، كاليكستا؟" سأل بصوت خفيض مفعم بالرغبة. أوه.. لقد تذكّرتْ.. في ذلك العيد قبّلها وقبّلها وقبّلها، حتى فقد صوابه تقريباً، ولكي يحتفظ بها لجأ إلى حركة سريعة متهورة. على الرغم من أنها لم تكن حمامة نقية هذه الأيام فقد كانت ما تزال غير مبتذلة: امرأة عاطفية جداً عاجزة عن الدفاع عن نفسها، في مواجهة احترامه لنفسه منعه من أن يحظى بها. الآن، تماماً، الآن شفتاها بدتا حرّتين جاهزتين ليتم تذوقهما، بالإضافة إلى جسمها الممتلئ، وعنقها الأبيض، وصدرها الأكثر بياضاً. لم تبالِ بهدير السيول، حتى إن زئير عناصر الطبيعة أضحكتها وهي تستلقي بين ذراعيه. كانت مستثارة في تلك الحجرة الغامضة المعتمة، في مثل بياض الأريكة التي استلقت عليها. بشرتها المكتنزة المرنة التي كانت تعرف طعم البكورية للمرة الأولى، كانت تشبه زنبقة/ سوسنة صفراء/ كريم أغرتها الشمس لتقدم عبيرها وشذاها للحياة السرمدية للعالم. رغبتها القوية الفياضة، دون موارية أو تحفّظ، كانت تشبه بريقاً أبيض تغلغل وخلقَ استجابة في أعماق طبيعته الحسيّة التي لم تكن قد استُنفرت بعد. عندما لامس نهديها نفرا في نشوة راعشة، مغريين شفتيه، كان فمها ينبوع بهجة. وعندما امتلكها، ظهرا منتشيين مع بعضهما على الحدود المطلقة لغموض الحياة.

أبقى الوثار فوقها، حابساً أنفاسه، دائخاً، واهناً، وكانت ضربات قلبه تشبه مطرقة فوقها. وإحدى يديها تحضن رأسه، وشفتاها تلمسان جبينه برفق، واليد الأخرى تجدّف بتناغم لطيف على كتفيه بارزَي العضلات.

هزيم الرعد كان بعيداً، في طريقه إلى الزوال. والمطر يضرب بنعومة على السقوف الخشبية مغرياً كليهما بالنعاس والنوم. ولكنهما تحديا الإذعان لذلك.

انقطع المطر.. وكانت الشمس تلف العالم المتلألئ الأخضر في قصر من الجمال. كاليكستا، راقبت ألسي من يركب حصانه بعيداً، التفت إليها وابتسم بوجه باسم، ورفعت ذقنها على نحو جميل في الهواء وضحكت بصوت مرتفع.

بوبينوت وبيبي مشيا مجهدين إلى البيت، وتوقفا خارجه عند الحوض ليجعلا نفسيهما حسني الطلعة.

"أوه، بيبي، ماذا ستقول أمك.. يجب عليك أن تخجل.. أكان يجب أن تلبس هذا البنطال الجيد. انظر إليه.. إلى ذلك الطين على ياقتك. كيف أوصلت ذلك الطين إلى ياقتك، يا بيبي؟ لم أرَ مثل هذا الولد" كان بيبي مذعناً مثيراً للشفقة. كان بوبينوت يجسّد القلق الخطير عندما عمل على إزالة آثار الرحلة التي قطعها مع ابنه سيراً على الأقدام فوق الطرق الشاقة عبر الحقول الرطبة. لقد كشط الطين عن ساقي بيبي وقدميه العاريتين بواسطة عصا، وأزال بحرص كلّ الآثار عن حذائه الثقيل. بعدئذ استعدّ للأسوأ- للقاء ربة المنزل الكثيرة الشكوك، دخلا باحتراس الباب الأسود.

كانت كاليكستا تعد طعام العشاء. كانت تجلس إلى الطاولة وتحمّص القهوة على الموقد. وثبت واقفة عندما دخلا. "أوه يا بوبينوت.. ها قد عدت! أوه! ولكني كنت مضطربة. أين كنت في أثناء المطر؟ وأين كان بيبي؟ ألم يتبلّل؟ ألم يصبه الأذى؟ حضنت بيبي وكانت تقبله، مسرفة في التعبير عن عاطفتها. تفسير بوبينوت واعتذاره اللذين كان قد أعدّهما طول الطريق ماتا على شفتيه حالما لمسته كاليكستا لترى إذا كان جافاً، وبدت لا تعبّر عن شيء باستثناء سعادتها لعودتهما سالمين.

"لقد أحضرت بعض الروبيان يا كاليكستا" اقترحَ بوبينوت، ساحباً العلبة من جيبه الجانبي المتّسع ووضعها على الطاولة. "روبيان! أوه، أنت تجيد كل شيء يا بوبينوت" وأعطته قبلة مدوّية على وجنته التي رددت الصدى. "ترنيمة موسيقية.. يجب أن نتمتع بأكله الليلة.. إم- إم!"

بوبينوت وبيبي بدأا بالاسترخاء وإمتاع نفسيهما، وعندما جلس الثلاثة إلى الطاولة ضحكوا كثيراً، وبصوت عال جداً، ربما سمعه كل شخص بعيد في لاباليري.

كتب ألسي لاباليري إلى زوجته كلاريس تلك الليلة. كانت رسالة حب، مليئة بالعذوبة والرقة، أخبرها ألا تستعجل العودة، إذا كانت قد أحبت البقاء مع أطفالها شهراً آخر في بيلوكسي. كان يتدبر أمره بخبث، وفكّر أنه اشتاق إليهم، ولكنه كان مستعدّاً أن يعيش بعيداً لفترة أطول – مدركاً أن صحتهم وسعادتهم كانتا أول الأشياء لتؤخذ بعين النظر.

أما بالنسبة لكلاريس، فقد كانت مفتونة باستقبال رسالة زوجها. كانت أمورها مع أطفالها تسير بشكل جيد. حياتها كانت منسجمة مع كثير من صديقاتها القديمات من معارفها اللواتي كنّ من ذوات الشأن. عبير الحرية الأول منذ زواجها ظهر في استعادة حريتها السعيدة في أيام صباها. لقد كرست نفسها لزوجها، وكانت حياتهم الحميمية الزوجية أكبر من أن تضيع لفترة؟

وهكذا مرت العاصفة وكان كل واحد منهم سعيداً.