بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الأول (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/الفصل الثاني: الإيالات الشامية


الفصل الثاني
الإيالات الشامية
١٨٠٤ - ۱۸۳۲

نظام الحكم: كانت الديار الشامية في مستهل القرن التاسع عشر مقسمة إلى أربع إيالات: حلب ودمشق وطرابلس وصيـدا. وكل إيالة مقسمة إلى سناجق والسناجق إلى متسلميات في غالب الأحيان. وعلى رأس كل إيالة والي يعينه السلطان لسنة واحدة بدؤها أول آذار شرقي وقت صدور «التوجيهات» بلغة ذلك العصر، وكان يحق للوالي أن يسعى لتجديد ولايته سنة فسنة. وقضت القوانين المرعية الإجراء أن يرأس كل سنجق بيك من البكوات وأن ينوب عن الوالي في كل مدينة متسلم، أمـا الريف فإنه كان مقسماً إلى زعامات وتيمارات وموزعاً على سباهيين وجبەجيين وغيرهم مدة حياتهم. وكان على هؤلاء أن يلبوا الدعوة للحرب بشروط معينة وعلى نفقتهم الخاصة وأن يقوموا بأعباء الحكم في مقاطعاتهم1.

وكان يحيط بالوالي في عاصمة الإيالة رؤساء الجند وهم قواد الفرق التي كانت تشكل حامية الإيالة. وأكثر هؤلاء من الإنكشارية. وكانوا في ذلك العهد المتأخر من تاريخهم متزوجين يقيمون مع عيالهم في أحياء معينة من البلدة كحي الفرافرة في حلب وسوق ساروجة في دمشق. وكان لكل فرقة ضباط يسمون الوجاقلية وكبيرهم الآغا أي رئيس الفرقة. ومن اجتماعهم يتألف ديوان الوالي. ولهذا الديوان سلطة واسعـة إذ ليس بمقدور الوالي أن يبرم أمراً هاماً إلا بموافقة الأعضاء رؤساء العساكر. وإذا وقع خلاف بينه وبينهم رفع للآستانة للفصل فيه. وكان لهؤلاء أن يطلبوا عزل الوالي إذا شاؤوا.

وكان لدى الوالي في غالب الأحيان أيضاً عدد من الجنود غير النظاميين «باش بوزق» يتناسب ومقدرته على الإنفاق. منهم الكردي القريب والأناضولي والأرناؤوطي البعيـد والمغربي وابن البلد. فينتظمون فرقاً بتفاهم شخصي بين كل فرد منهم وبين قائد فرقته. وهذا القائد يتولى جميع أمورهم على نفقة الوالي. وكان الوالي يوزعهم داخل إيالته حيث تقضي الحاجة. فسليمان باشا مثلاً أبقى قسماً كبيراً منهم في مرجعيون على مقربة من جبل عامل نظراً لغليان أهله آنئذٍ وإخلالهم بالأمن2.

وكان يحدق بشخص الباشا عدد من المماليك منهم التوتونجي باشي وهو رئيس الخدم الذين يقدمون التبغ والقهوجي باشي والقفتان آغاسي والإبريقدار والشمعدان آغاسي والميجو باشي وهو رئيس من يعنى بالضيوف والمهردار والدربنـدار والانختار آغاسي وهو صاحب المفاتيح والقواس باشي وباش جاویش إیج أوغلان وهو رئيس الغلمان. والحرم آغاسي والصفرجي باشي. أضف إلى هؤلاء الآغاوات أصحاب الكاركات السلحدار والجوقدار والبيرقدار. ثم أصحاب الوظائف وأهمهم الكتخدا والخزينه دار والصراف وعدد كبير من الكتاب3.

ويقول المعلم إبراهيم العورة أحد هؤلاء الكتاب في عهد سليمان باشا والي إيالة صيـدا وإيالة طرابلس أنه في السنة ١٨١١ رتب الوالي أمر المتسلمين والكتاب والصيارفة في هاتين الإيالتين فجعل مصطفى آغا متسلماً على طرابلس واللاذقية ومحمد آغا خزینه دار زاده وكيلاً عنه في اللاذقية وحسين آغا أحد مماليك الجزار أمين جمرك اللاذقية وعلي بك الأسعد حاكماً على عكار والأمير بشير الشهابي حاكماً على لبنان وأوزون علي آغا متسلماً على بيروت وأمين جمرکها وعلي آغا الصوري متسلماً على صيدا وعلي آغا أباظه متسلماً على جباع وموسى آغا شركس متسلماً على مقاطعة الشقيف وإبراهيم آغا الكردي أحد رؤساء العساكر حاكماً على مرجعيون وتبنين وهونين وساحل قانا وسليمان آغا أباظه متسلماً على صور وأحمد عبد العال وكيلاً في ساحـل عكة ونهر المفشوخ والحاج موسى أبو ريا متسلماً على الشاغور والجبل وترشيحة ومحمد آغا أحد مماليك الجزار متسلماً على شفا عمر وتوابعها وسليم آغا أبو سيف أحد مماليك الجزار متسلماً على الناصرة وعمر العدوي وكيلاً عنه على قراها. أما مزارع الناصرة فإنها كانت بالتزام الخواجة أنطون كتفاكو قنصل النمسة في عكة. وكان ساحل حيفا وعتليت بالتزام الشيخ مسعود الماضي. وجعل الوالي محمد آغا أبو نبوت حاكماً على غزة ويافة والرملة واللد فأقام في يافة وعين وكلاء عنه في سائر أنحاء منطقته. وكان له أن ينزلهم ويوليهم دون استشارة الوالي. وعين سليمان باشا كاتباً في اللاذقية عبد الله إلياس وباشكاتب في طرابلس المعلم نعمة الله غريب وكاتباً عربياً في طرابلس المعلم وهبه صدقة وكاتباً لدى علي بك الأسعد المعلم نصر الله نوفل وكاتباً في بيروت المعلم أيوب نصر الله وصرافاً فيها المعلم ميخائيل ساروفيم وكاتباً في صيدا نخلة مارون وصرافاً فيها جبور القرداحي وهلم جرا4.

وجرى في الأرجح مثل هذا عيناً في إيالتي حلب ودمشق. فسجلات المحاكم الشرعية في هاتين الإيالتين تحفظ الكثير من البيولردات الصادرة عن والي الإيالة التي تبين هذا الأمر بيد أنه ليس لدينا من آثار كتابها أو موظفيها ما خلفه لنا المعلم إبراهيم العورة عن إيالتي صيـدا وطرابلس وبالتالي فانه ليس بإمكاننا أن نعين الأسماء والوظائف في هاتين الإيالتين الداخليتين كما فعلنا لطرابلس وصيدا5.

وقضت قوانين الدولة أنئذ أن يقترح قاضي عسكر الأناضول تعيين من تتوفر فيهم الشروط اللازمة لتولي القضاء في الإيالات الشامية الأربع فتصدر بذلك فرمانات رسمية عن عاصمة السلطنة ويجلس للقضاء كل سنة وفي كل من حلب ودمشق وطرابلس والقدس «مولى خلافة» من علماء الأتراك. ويقوم هو بدوره بتعيين من ينوب عنه في سائر مدن الإيالة التي ولي القضاء فيها، وقل الأمر نفسه عن الافتاء. فإنه كان يتولى الإفتاء في كل من حلب ودمشق مُفتون أربعة من المذاهب الأربعة يجيبون عما كان يلقى إليهم من المسائل المشكوك في أحكامها. أما في طرابلس وعكة فإنه لم يكن فيها سوى مفتٍ واحد بموجب المذهب الشافعي في غالب الأحيان. ولم يكن للتقاضي رسوم معلومة ولا مرتب محدود. بل كان يجب على كل قاض أن يتقاضى عن كل دعوى ما يقدره هو من الأجر. وإذا كان متورعاً فإنه لا يطلب أجراً معيناً بل يكتفي بما يعرضه أرباب القضايا، وكان يحق لغير المسلمين أن يترافعوا في القضايا الشخصية التي تقع فيا بينهم أمام رؤساء دينهم. وإذا اختلفوا في ذلك عادوا إلى قاضي الشرع.

واقع الحال: وانغمس آل عثمان بالملذات والتهوا عن الحكم والإدارة ونكبوا بفقدان الرجولة فسقطت هيبتهم من عيون الإنكشارية وبدأ هؤلاء يولون من أبناء عثمان من يشاؤون. ثم تلاهى هؤلاء أيضاً عن وظائفهم ففقدوا صفاتهم الحربية القديمة وأصبح همهم الوحيد ابتزاز الأموال فعمت الرشوة مصالح الحكومة بأسرها وأصبحت الوظائف تباع وتشرى. فاضطر الولاة أن يبتاعوا وظائفهم. وكان الواحد منهم لا يوفق إلى تجديد مدة ولايته دون أن يرسل إلى الآستانة ما يرضي به رؤساءه فيضطر والحالة هذه أن ينظر إلى وظيفته كوسيلة لابتزاز المال. وكانت مناصب القضاء أيضاً تباع وتشرى وتعرض في أسواق المساومة فترسو إلى من يدفع الثمن الأعلى. وكان المولى خلافة لا يعرف العربية فيتكل في نقل أقوال الخصوم على مترجم أصبح هو صاحب القول الفصل. ولم يوفق القضاء في بر الشام في ذلك العهد إلى قضاة علماء مما اضطر هؤلاء أن يعودوا إلى فتاوي العلماء للفصل في القضايا الماثلة. وكانت على هذه الفتاوى تقوم مستندات الدعاوى، الشيء الذي أكثر الإفتاء في العصر العثماني وعدد أنواعه.

أما عن الجند فحدث ولا حرج. فالإنكشاريون والسباهيون وغيرهم كانوا قد استوطنوا دمشق وحلب وغيرهما من المدن الشامية واستقروا بها فصار لهم صبغة محلية وكثرت مطامعهم ومشاكلهم ولجأوا في غالب الأحيان إلى القوة للوصول إلى ما كانت تصبو إليه نفوسهم. قال معاصر دمشقي: «إنه في كل هذه المدة لم يكن راحة لأبناء السبيل في دمشق لأن تعديات الجند كانت كثيرة وذلك لعدم خضوعها للنظام، وإذ كان أصحابها أولو السطوة لا يسألون عما يفعلون دخل في سلكها كثير من الأهالي. ثم انقسمت المدينة إلى حزبين حزب إنكشاري وحزب قبيقولي. وكانت العداوة بينها عظيمة وشديدة. حتى أنه لم يمض يوم إلا وتحدث فيه مشاجرة. وفي بعض الأحيان كانت تغلق الحوانيت ويجري الدم بين الثائرين. وأحياناً كانوا يخربون أحياء برمتها. وكانت التعديات على أهل العرض والذمة كثيرة جداً وكانت المرأة الحسناء لا تجسر أن تخرج من بيتها بدون أن يحرسها حارس قوي وإن لم يكن حارس فتلتزم أن تلبس ملابس رثة وتحني ظهرها ليظنها من يراها حيزيوناً. وكان كل صاحب مهنة يصحب أسلحته معه إلى محل عمله ليكون على استعداد حتى إذا جد شر ينضم إلى حزبه. وكان أهل الذمة بحالة يرثى لها. وكثيراً ما وقعت التعديات عليهم، وكانوا يتكيسون بأصحاب السطوة من المسلمين لصيانة أنفسهم. أما الحكومة فكانت بيد رجل يجلس بباب السرايا يسمونه تفكجي باشي فكان يقضي ويمضي حسب أمياله فمن شاء ظلم ومن شاء رحم غير مختشٍ لوم لائم. وقد قلت بضاعة المعارف لرواج بضاعة السيوف والعصي»6.

وقبيل الفتح المصري تولى الحكم في دمشق والٍ جديد. وقد كان فيما مضى صدراً أعظم أعني محمد سليم باشا. وكان قد اشترك في القضاء على الإنكشارية في الآستانة وفي تنظيم عسكر جديد فلم يرق تعيينه للآغاوات. وما أن فرض ضريبة طفيفة وأجبر الأهالي على دفعها حتى نادى الجميع بالعصيان وكان قد أتى ببعض العساكر الجديدة فظن الإنكشاريون وغيرهم أنه سيقضي عليهم كما قضى على زملائهم في الآستانة. فتألبوا عليه وأخذوا يضربون الطبول ويطوفون في أنحاء المدينة. فدخل سليم القلعة مع فرقة من جنوده ولبث الباقون خارجها لقلة العلف فيها. واشتعلت الحرب بين الفريقين ففاز الأهالي على الوالي خارج القلعة وقتلوا أكثر رجاله والتجأ الباقون مع زعيمٍ لهم، قاضي قران، إلى أحد الجوامع القريبة من القلعة وحاصروا به. وأمر الوالي بضرب البلد بالمدافع من القلعة، ولكن الإنكشاريين والأهالي صمدوا في وجهه وأخربوا جانباً من سور القلعة، ولما نفذ ما عند الوالي من المؤونة اضطر إلى أكل الدواب فنفدت ولم ير الوالي نافذة للفرج. وكان زميله في صيدا يغـذي الإنكشاريين بدلاً من المحافظة على هيبة الحكم. ولم يكترث زميله الآخر في حلب بما جرى له فاضطر إلى التسليم وطلب التأمين فأمنوه فخرج من القلعة إلى بيت بالقرب منها. ثم هاج عليه الأهالي بتحريض من الإنكشاريين مدعين أنه عامل على مكيدة لهم. فدافع عن نفسه أشد دفاع وأخيراً نقب الإنكشاريون سقف البيت الذي كان فيه وألقوا عليـه النار فمات حرقاً وأخذوا جثته وعرضوها للناس فرجة7. ولعله من المفيد بهذه المناسبة أن نذكر أنه لم يسبق للدمشقيين أن دفعوا للدولة سوى مال الجمارك على الداخل إلى دمشق من خارج إیالتها. وكان للدولة على النصارى واليهود في دمشق مال الجزية ومال عنب الكنائس. أما المسلمون فإنهم لم يدفعوا شيئاً البتة من الضرائب.

وأدّت تعديات الإنكشارية وغيرهم من الجند في حلب إلى انقسامها إلى حزبين أيضاً حزب الإنكشاريين وحزب الأسياد، وجرى فيها مثل ما جرى في دمشق مما استلفت نظر الرحالة السويسراني داود بوركهاردت في أوائل القرن الماضي وجعله يفرد له باباً خاصاً في رحلته إلى الأراضي المقدسة.

هذا ولم يكن الملا إسماعيل صاحب الحول والطول في حماة سوى كبير الدلاتية وكان قد «قوي في المال وصار عنده عدة شراقات» بلفظ الأمير حيدر أحمد الشهابي المعاصر.

ولنا في سيرة مصطفى آغا بربر دليل آخر على ما ذهبنا إليه. ولد مصطفى ابن يوسف القرق في طرابلس سنة ١٧٦٧ فتلقب بربراً وكان له أخ يقال له محمد عزرائيل! وتوفي أبوهما وهما قاصران فأخذتهما والدتها وسكنت بها قرية برسا من الكورة السفلى بالقرب من طرابلس. ولما شب مصطفى خدم الأمير علي الأيوبي في الكورة ثم الشيخ رعد صاحب الضنية وتردد على المشايخ بني زخريا في القويطع. ثم خدم الأمير يوسف الشهابي حتى السنة ١٧٨٨. وبعد هذا عاد إلى طرابلس وانخرط في وجاق الإنكشارية تحت رئاسة زعيمهم مصطفى آغا الدلبة. وكان بين كبيرهم هذا وبين إبراهيم آغا سلطان زعيم الإنكشارية السابق نفور لأنه أتى بفئة من الأرناؤوط كانت تضر بالبلد. فهاج الأهلون وثاروا وكان مصطفى آغا قد احتشد بعضاً من الشبان فقاتل بهم، ثم سار بزمرته إلى عكة وأقام بخدمة الجزار فأقامه في بيروت. ولما علم أن عبدالله باشا العظم تولى طرابلس وأكثر فيها الجور والاعتساف استأذن وجاء إليها فطرد عبدالله باشا منها وعقد العهود مع بعض الشبان وبعث بأحدهم محمد آغا القندقجي لينام في القلعة عند المحافظين فذهب وربط حبلاً بمدفع ودلاه من شراقة القلعة. وكان بربر وجماعته قد كمنوا إلى جوانبها فأتوا الحبل ولما صاروا كلهم في أعلى القلعة هجموا على المحافظين وقتلوهم وأخذوا يطلقون المدافع علامة على قتلهم. وتولى بربر القلعة. فهرب إبراهيم آغا سلطان واستقل مصطفى آغا الدلبة وما زال إلى أن توفي فصار بربر هو الحاكم بأمره، وفي غضون ذلك أنعمت الدولة بولاية طرابلس على أحمد باشا الجزار والي صيدا فأرسل الجزار أمراً بتوجيه منصب قائمقامية طرابلس لعهدة بربر آغـا. وسنة ١٨٠٨ أحيلت ولاية طرابلس إلى عهدة كنج يوسف باشا فصدر أمره إلى برب أن يسلم القلعة لعسكر الدولة ويستمر حاكماً في المدينة فأبى بربر واغتاظ الباشا وجاء بالجيوش فحل في ظاهر البلدة. ونادى بربر بأهل البلد بأنه سيحصر في القلعة وأن الباشا ينتقم فهربوا إلى الجبل ودخل الباشا البلدة ونهبها وهدم بعض الدور ثم حصر القلعة أحد عشر شهراً حتى نفد الزاد وانهدم بعض سور القلعة نفر بربر منها وسار إلى صيدا فاستقبله واليها بالإكرام. ثم ورد الفرمان العالي بقتل كنج يوسف لأنه أضر بطرابلس وتقررت الولاية على سليمان باشا والي صيدا فهرب كنج إلى مصر وأنعم سليمان على بربر بقيمقامية طرابلس فعاد إليها8.

ومع إن سليمان باشا الكرجي والي صيدا وخلف الجزار فيها كان «عادلاً حليماً رفوقاً» فإنه لم يفلح في إصلاح الحال لتكاثر الفساد وقلة الصالحين بين موظفيه. قال مؤرخه وأحد الكتاب لديه المعلم إبراهيم عورة: كان عند الوالي عبد اسمه سعيد وقد اشتراه الباشا صغيراً ولما كبر ألبسه قاووقاً وجعله إيجوسي خادم الدار وكان يأكل من المطبخ ويأخذ بدلتين في السنة نظير باقي المماليك. ولما أعتقه سيده وصار آغـا واستغنى بالمعاش ازداد شقاوة وارتكب جميع أنواع الكبائر من سكر وزنى وفسق. وكان يأخذ ما يريد من الدكاكين وإذا اعترضه أحد ضربه إمـا بيده أو بالعصا أو بالسيف. وأخيراً تقدم عدد من أصحاب الدكاكين بالشكوى ولمـا مثلوا أمام الباشا غضب عليهم من أجل سعيد وقال: «تخيبوا يا أرذال. أنا مالي سوى هذا العبد أما تستحوا تشتكوا عليه!». وكان كتخدا بك علي باشا أعظم من الباشا يخيف الخلق ويرهقهم، والثالث بعد الوزير كان المعلم حاييم اليهودي الذي قبض على زمام الأمور وفعل كيفما شاء. ومن يقول أن حكم اليهودي أمر هين. والرابع بعد الوزير كان عبدالله باشا ابن الكتخدا والخامس حسن آغـا الخزينة دار صهر عبدالله باشا والسادس عبدالله آغا حرم آغاسي والسابع السكبان باشي ضابط البلدة والثامن الأوضەباشي والتاسع حسن آغا قرنباس أوغلو الجوقدار فهذا جعل نفسه وزيراً ثانياً والذي لا يرشيه أو لا يهابه يقع في بلاء عظيم، والعاشر الطوبجي باشي وهذا أيضاً جعل من نفسه وزيراً آخر بل أعظم من ذلك إذ أنه كان يقول أنه بإمكانه أن يعزل الوزير والحادي عشر ضباط الأبراج والثاني عشر سليم أبو سيف أحد مماليك الجزار وكان بالعنفوان والجبر والكبرياء لا نظير له يفعل كما يشاء دون معارضة. والثالث عشر زكور آغا المحتسب وناظر الأملاك فهذا كان عكا بتمامهـا! والرابع عشر أيوب سلامة الكمركجي وهذا كان لا مثيل له بالسفاهة والتعدي والرداوة والخامس عشر كان عبد الحليم شيخ الحزينة وأولاده وهو ناظر مصالح الفلاحين وكان لا يشبه أحداً بساير تصرفاته. والسادس عشر مسعود الماضي وكان ذا نفوذ وكرامة لدى علي باشا الكتخدا وقد اشتهر بمكره ونفاقه، والسابع عشر الشيخ محمد أبو الهدى وكانت أحواله غريبة ولا يجسر أحد أن يتكلم شيئاً عنه فهو القاضي وأستاذ علي باشا وابنه عبدالله باشا9.

ومما رواه هذا الشاهد عن الموظفين خارج عكة أن متسلم بيروت وأمين جمرکها أوزون آغا كان يطمع بالوزارة وينفق إنفاق الوزراء ثم يطلب المال اللازم لذلك من سكان البلد وأن إبراهيم آغا الكردي الذي كان يقيم في مرجعيون بعساكره كان يفعل ما يشاء ويعتبر منطقة نفوذه الإداري ملكاً له ولأولاده وسائر الأكراد. ومما يقوله أن مصطفى كان شرساً للغاية وأنه تناسى الوالي والسلطان. وهو يقول عن الباقين أنهم تساووا في الشراسة والعتوّ وفي عدم التفريق بين الظلم والعدل10.


  1. VON HAMMER, Geschichte..., p 57,476.
    VON HAMMER, Staatsverfassung..., p 337.
    D'OHSSON, Tableau Général..., VII, 372.
    محمد علي باشا إلى محمد شريف باشا: المحفوظات الملكية المصرية، ج ۳، ص ۱٥۹
  2. تاريخ سليمان باشا لإبراهيم الدورة ص ۱٥۷
  3. تاريخ سليمان باشا للمؤلف نفسه ص ١٥٨-١٦٤
  4. المؤلف نفسه ص ١٥٦-۱۰۸ و١٦٥-١٦٦
  5. تجد في كتابنا الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا وفي الجزء الأول منه ما يكفي لإثبات ما ذهبنا إليه أعلاه ولكن للسنة ۱٨٣١-۱۸۳۲
  6. الروضة الغناء في دمشق الفيحاء لنعمان القساطلي ص ۸٦-۸۷
  7. الروضة الغناء أيضاً ص ۸۷ – ۸۸. مذكرات تاريخية للخوري قسطنطين الباشا ص ٥ و٧ و۲۲ – ۳٥ و۳۸. الجواب على اقتراح الأحباب - مخطوط للدكتور مخائيل مشاقة ص ۲٥۲ – ۲٥۳ نسخة جامعة بيروت الأميركية. كتابنا مصطلح التاريخ ص ١٤٦ - ١٥٥. كتابنا المحفوظات الملكية المصرية ج ۲ ص ١٥ رقم ١١٣٥
  8. عن رواية إلياس صدقه كما نقلها جرجي بني في كتابه تاريخ سورية ص ٤١٢-٤١٦
  9. تاريخ سليمان باشا لإبراهيم عورة ص ٤٧٦-٤٧٩
  10. المؤلف نفسه ص ٤٧٩ - ٤٨٠