بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الثاني (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/الفصل الثالث عشر: معاهدة لندن


الفصل الثالث عشر
معاهدة لندن
١٥ تموز سنة ١٨٤٠

وفرضت الدول تدخلها فرضاً. وتبادلت الرأي في ظل مترنيخ في عاصمة النمسة وخولت سفراءها في الآستانة أن تتقدم من الباب العالي بمذكرة مشتركة تمنع بها الوصول إلى أي اتفاق بين السلطان وبين العزيز لم توافق هي عليه أولاً. فقدم السفراء هذه المذكرة في الثامن والعشرين من تموز سنة ١٨٣٩، ولكن ما لبثت هذه الدول أن اختلفت اختلافاً لا أمل في تلافيه بسهولة.

وأول ما بدأ الخلاف فيه مصير الأسطول العثماني. فما كاد وزير الخارجية البريطاني الفيكونت بالمرستون يسمع بانحياز الأسطول العثماني إلى جانب العزيز حتى كتب إلى البارون أدولف بوركني القائم بالأعمال الفرنسي في لندن وإلى اللورد غرانفيل السفير البريطاني في باريز يطلب موافقة الحكومة الفرنسية على برنامج أعمال بحرية مشتركة تكره العزيز على إخلاء سبيل الأسطول العثماني وإعادته إلى السلطان1. فأجاب المرشال صولت بلطف وأناقة «إن الأعمال الحربية توقفت في الشرق وأنه ليس هنالك ما يدل على العودة إليها إن براً أو بحراً وأن انحياز الأسطول في مثل هذه الظروف عمل يؤسف عليه ويجب إصلاحه ولكنه من الأعمال المخطرة التي توجب اللجوء إلى التذرع بمـا أشير علينا به. والقيام بعمل عدواني من هذا النوع ضد عمل محمد علي لا يسهل الوصول إلى الهدف الذي ترمي إليه إنكلترة وفرنسة معاً. فإذا ما حطم الأسطول المصري وحطم الباشا معـه حطمت الدولة العثمانية أيضاً. وسياستنا اليوم ومنذ بدء الأزمة تقضي بألا ندع الآستانة تطلب معونة من الخارج دون موافقتنا»2. وفي السادس والعشرين من آب أي بعد هذا بثلاثة أسابيع لمس القائم بالأعمال البريطاني في باريز السر هنري بولور أن حكومة المارشال صولت تعارض اللجوء إلى العنف في معاملة محمد علي إن في الحد من طموحه أو في إكراهه على إعادة الأسطول إلى السلطان3.

وكان القيصر نقولا الأول يبتعد عن المؤتمرات الدولية لخشية اتخاذ قرارات بسلامة الدولة العثمانية4 ففرق بين المحافظة على استقلال الدولة وبين ضمان سلامتها وأعرب عن استعداده للتعاون مع الحكومة البريطانية في الحد من مطامع العزيز وحضه على الاكتفاء بحكم مصر الوراثي وأظهر رغبته في عدم تطبيق مواد معاهدة هنگار إسكلەسى5. فلفت هذا كله نظر الوزير البريطاني وجعله يغير موقفه من القيصر وحكومته ولا سيما وأن هذه العروض جاءت في وقت كان قد بدأ الخلاف يدب فيه بين الحكومتين البريطانية والإفرنسية. وأنس القيصر بهذا فجعل رئيس حكومته الكونت شارل فون نسلرود يفيد السفير البريطاني في بطرس برج المركيز كلانريكارد في السابع والعشرين من آب أنـه نظراً لتحسن نوايا الحكومة البريطانية نحو روسية فإن القيصر يرغب في تحسين هذا التحسن إلى الدرجة القصوى وفي توثيق التفاهم السعيد بين الدولتين ولذا فان جلالته قرر إيفاد البارون دي برونرف أحد كبار المحظوظين من رجال السياسة لديه في مهمة خاصة إلى لندن6.

وقام البارون دي برونوف إلى لنـدن فوصلها في الخامس عشر من أيلول سنة ١٨٣٩ مزوداً بالتعليمات التالية: أولاً في أنه يجب على الدول البحرية أن تتخلى عن عقد اتفـاق دولي لضمان سلامة الدولة العثمانية ثانياً ويجب أيضاً أن تتخلى هذه الدول عن الفكرة التي تقضي بدخول أساطيلها في بحر مرمرا في حال وصول قوات روسية لحماية الآستانة من جيش إبراهيم باشا. ثالثاً في أن القيصر يوافق على المبدأ القائل بوجوب إقفال المضايق في وجه سفن جميع الدول الحربية في السلم والحرب معاً. رابعاً وهو مستعد أيضاً أن يعلن أن معاهـدة هنگار إسكلەسى لن تجدد وأنه إذا اقتضى إرسال قوة روسية لتعاون الباب العالي فإنما يتم ذلك بموجب اتفاق الدول لا من جراء المعاهدة المذكورة7. واتصل البارون دي برونوف فور وصوله إلى لندن بالفيكونت بالمرستون فأبان له استعداد القيصر لتبني وجهة النظر البريطانية بكاملها فيما يتعلق بالدولة العثمانية ومصر للمساهمة في جميع الإجراءات التي قـد تصبح لازمة لتنفيذ وجهة النظر هذه وإنه مستعد للتعاون مع إنكلترة والنمسة وبروسية ومع فرنسة أو بدونها. وأضاف أن القيصر وإن كان يرى الفائدة من انضمام فرنسة فإنـه يفضل شخصياً إبقاءها خارج هذا التكتل. وهو يشعر بأنه جدير بالثقة ويأمل أن توليه إياها الحكومة البريطانية دون أي تحفظ فتترك له أمر الدفاع عن الآستانة وآسية الصغرى وتتولى هي ما يلزم إجراؤه في البحر المتوسط وفي الساحلين المصري والشامي8.

وعرف بالمرستون مدى تأثير هذه العروض في نفوس وزراء فرنسة فأطلعهم عليها في حينها راجياً أن يتوصل بذلك إلى تفاهم معهم حول القضية المصرية التركية، ولكنه لم ينقل إليهم رغبة القيصر في إبقاء دولتهم خارج التكتل الأوروبي. فاستدعى إليه الكونت هوارسيوس سيياستاني سفير فرنسة في لندن وأطلعه على ما تقدم وأظهر ميله إلى قبوله ورجاه أن ينقله إلى حكومته ففعل. وما أن اطلع المارشال صوات على عروض القيصر واستعداد بالمرستون لقبولها حتى اضطرب ثم كتب إلى سيباستياني يقول أنه استغرب سذاجة بالمرستون على الرغم من ثقافته وتيقظه وأنه لا يرى في العروض الروسية سوى مطامعها المعروفة ومحاولة للتفرقة بين الحكومتين9.

ورأى مجلس الوزراء البريطاني في جلسة عقدها في أول تشرين الأول من السنة نفسها أن يعدل القيصر اقتراحه فيسمح باشتراك الأسطول البريطاني في الدفاع عن الآستانة إذا قضت الظروف بذلك. فنقل بالمرستون قرار المجلس إلى المفاوض الروسي واستفاض في شرحه فأجاب البارون دي برنوف أن الرأي في ذلك هو رأي القيصر وأنه ليس عليه إلا أن ينقل ذلك إليه10.

وفي السابع والعشرين من أيلول نقل الكونت سيباستياني إلى الوزير البريطاني اقتراحاً فرنسياً جديداً قضى بتخلي العزيز عن أدنة وباحتلال كريت مدى الحياة وببقاء الباقي من أراضيه في يده بشكل وراثي. فأجاب الوزير البريطاني باقتراح آخر يتضمن قبول الحكومة البريطانية بالحكم الوراثي في مصر وإيالة عكة ما عدا حصن عكة شرط أن توافق الحكومة الفرنسية على الاشتراك في عمـل العنف إذا قضت الظروف بإكراه العزيز على قبول مقترحات الدول11. ولكن المارشال أبى أن يوافق مبيناً صعوبة التنفيـذ معتذراً أن القضية ليست في يده وحده وإنما تعود إلى العزيز في النهاية. فأصغى الكونت بالمرستون إلى الكونت سيباستياني كل الإصغاء أثناء نقل جواب المارشال. وعند الانتهاء قال له: «إني باسم مجلس الوزراء أسحب ما كنت قد وافقت عليه في اقتراحي السابق من حيث إعطاء محمد علي إيالة عكة ملكاً وراثياً12. وما أن نقل السفير الفرنسي إلى حكومته حتى قامت هذه تبرر موقفها للسفير البريطاني في باريز فأكدت أنه لو كان بإمكانها لأعادت مصر نفسها إلى السلطان وأبانت أن القضية قضية الوصول إلى ما يمكن تطبيقه لا إلى ما ترغب هي فيه. فهي لا ترى أن الوسائل اللازمة لإخراج محمد علي من بر الشام موفورة لدى الدول فليس بإمكانها هي أن تقدم قوة عسكرية لهذه الغاية كما أنه يتعذر على بروسية والنمسة القيام بالعمل نفسه وكذلك إنكلترة فإنها ليست مستعدة لإرسال جيش إلى الشرق. وهكذا فإن اللجوء إلى العنف سيؤدي إلى ظهور جيش روسي في عاصمة السلطان. وهو أمر يُضعف السلطان في معنوياته أكثر بكثير من تقوية تابعه محمد علي13. أما بالمرستون فإنه ردَّ على هذا كله بقوله أنه ليس بمقدور العزيز أن يقاوم قوة أوروبية مشتركة وإن ظهور الروس في الآستانة باسم الدول جمعاء لا يؤدي حتماً إلى امتيازات خاصة تحد من سلطة السلطان14.

وفي أثناء هذا كله كان البارون دي برونوف قد عاد إلى مركزه في شتوتغارت واتصل بحكومته مبيناً نتيجة مفاوضاته في لندن. فسُرَّ القيصر مما وصل إليه ممثله ورأى أنه إذا قبل بشروط بالمرستون انحل التحالف الفرنسي الإنكليزي وحل محله تفاهم بين الإمبراطورين الشرقيين من جهة وبين إنكلترة من جهـة وتخلص هو من التحالف الغربي المزعج. وأمر ممثله أن ينقل موافقته على مشروع بالمرستون وأن يفاوض لعقد اتفاق بهذا المعنى15. فقام برونوف إلى لندن في أوائل كانون الثاني سنة ١٨٤٠ يحمل الاقتراح التالي: أولاً تسوية الخلاف التركي المصري تسوية دولية تضمنها أوروبة. ثانياً إعطاء محمد علي مصر وبر الشام حتى قلعة عكة بشكل وراثي وإعادة الأراضي الباقية تحت حكمه إلى السلطان. ثالثاً إذا امتنع عن قبول هذه التسوية تفرض عليه فرضاً من قبل الدول. رابعاً إذا توغل إبراهيم باشا في آسية الصغرى تنزل روسية جنودها لحماية الآستانة باسم الدول وتمخر سفن الدول عبر الدردنيل إلى بحر مرمرا. خامساً ولدى الانتهاء من هذه المهمة وبعد إخضاع محمد علي يقفل الباب العالي المضايق في وجه جميع السفن الأوروبية16. فاستدعى الوزير البريطاني سفير فرنسة إليه وأطلعه على الاقتراح الروسي ثم أضاف قائلاً البارون نومان قـد وصل من ڤيينة لينقل موافقة حكومته على الاقتراح الروسي وبإمكاني أن أؤكد أن بروسية ستوافق أيضاً ولذا فإني أرجو ألا ترفض فرنسة التعاون معنا17.

وامتعض المارشال الفرنسي وخشي سوء العاقبة واحتار في أمره فصبَّ غضبه على الكونت سيباستياني ممثله في لندن ونسب إليه عطفاً خاصاً على الأتراك جعله يوافق بالمرستون في رأيه. فاستدعاه إلى باريز وعين مكانه فرانسوا غيزو الذي كان قد اشتهر بدفاعه عن الوضع الراهن في الشرق18. وأوصاه بوجوب السعي لإعطاء محمد علي حكماً وراثياً في بر الشام ومصر معاً ولجعل الحد الفاصل بينه وبين السلطان جبال طوروس لا صحراء سيناء. ولكن قضية معاش الدوك دي نيمور التي أثيرت في المجلس النيابي الفرنسي أدت إلى سقوط وزارة صولت قبل أن يتمكن غيزر من القيام بما أوكل إليه. وكان رئيس الوزارة الجديد لويس تير قد رفع صوته عالياً في المجلس النيابي في الثالث عشر من كانون الثاني مدافعاً عن التحالف الفرنسي البريطاني مبيناً أهمية المحافظة على السلم في أوروبة. فاستبشر الوزير البريطاني بوصوله إلى منصة الحكم في فرنسة وأمل به خيراً19. ولكن غيزو خشي سخط الرأي العام الفرنسي بقدر ما خشيه سلفه المارشال فلم يجرؤ على القول بإكراه العزيز واللجوء إلى العنف في معالجة مشكلته. ولذا فإنه أوصى السفير الفرنسي في لندن بوجوب المماطلة لكسب الوقت وإفساح المجال للعزيز لتسوية قضيته مع الباب العالي مباشرة ولإضجار الدول واستخراج حلٍّ منها أفضل وأقرب لصالح العزيز20.

وكان الوزير البريطاني قد طلب في الخامس والعشرين من كانون الثاني إلى الحكومة العثمانية إيفاد ممثل إلى لندن يفاوض في أمر إبرام اتفاق دولي لحل المشكلة المصرية. فقر قرار هذه الحكومة على إيفاد سفيرها في باريز نوري لهذه الغاية. وما أن وصل نوري أفندي إلى لندن في مطلع نيسان حتى حرر رسمياً إلى ممثلي الدول في لنـدن ينبئهم بالصلاحيات المعطاة إليه لعقد اتفاق يحل المشكلة المصرية. وأضاف أن السلطان مستعد لمنح محمد علي حكماً وراثياً في مصر مقابل تنازله عن سائر الإيالات التي وجهت إلى عهدته سابقاً ومقابل إعادة الأسطول العثماني إلى مياه البوسفور21. فأجاب هؤلاء جميعهم بأنهم مستعدون للتعاون معه في تنفيذ رغائب حكوماتهم الصديقة التي تجلت في مذكرتهم المشتركة المؤرخة في السابع والعشرين من تموز سنة ١٨٣٩. أما غيزو فإنه اعترف بتسلم المذكرة الموجهة إليه وأضاف أنه سيعرضها على حكومته22.

وكان البرنس مترنيخ يخشى امتناع فرنسة التعاون مع سائر الدول فيرى أنه سوف لا يرسل قوة عسكرية إلى الشرق لإجلاء المصريين عن بر الشام أو الصمود في وجههم في محل آخر وأن بروسية أيضاً ستمتنع هي أيضاً عن إرسال مثل هذه القوة لعدم وجود أية مصلحة لها في الشرق توجب مثل هذا العمل ويرى كذلك أنه ليس لإنكلترة قوات برية يمكن إرسالها إلى الشرق وأن قوى إنكلترة والنمسة وروسية البحرية قد لا تكفي لمراقبة الأسطول الفرنسي وللقيام بأعمال حربية أخرى في آنٍ واحد. ولذا فإنه أصر على ممثله في لندن أن يتصل بالسفير الفرنسي لإيجاد حل يمكن فرنسة من الاشتراك في الاتفاقية الدولية المنتظرة23. فقام كل من ممثل النمسة البارون فيليب نومات وممثل بروسية فرايهر فون بيلوف يحثان السفير الفرنسي في لندن على إيجاد حل لتردد فرنسة وتأخرها عن التعاون مع زميلاتها وصديقاتها24. وطال أمـد التفاوض فتجاوز الشهرين أيار وحزيران وتأخرت نتانجه، وضلّ تيير من جرائه وظن أنه بامكانه أن يضغط على بالمرستون لتعديل موقفه من العزيز بواسطة النمسة وبروسية25.

ومما زاد في مماطلة الإفرنسيين تقرير سفيرهم في الآستانة عن توقع عزل محمد خسرو باشا من منصب الصدارة في السابع عشر من أيار ووقوع هذا الغزل في السابع من حزيران. فإنهم أشاروا على العزيز بوجوب اغتنام الفرصة والظهور بمظهر التوحد والعبودية للسلطان الحديث لعله يفلح في الوصول إلى حل مشكلته دون تدخل الدول. فالأميرال إدوار ده بونتوا سفير فرنسة في الآستانة كتب إلى القنصل كوشلة يتوقع عزل محمد خسرو باشا في السابع عشر من أيار ويوصي العزيز بإرسال من يقوم بفروض العبودية للسلطان ويفاوض في حل المشكلة. وما أن تيقن العزيز وقوع العزل حتى أوفد سامي بك أحد كبار رجاله إلى الآستانة في السادس عشر من حزيران يهنئ السلطان بالمولودة الجديدة «موهبة» وبتغيير الصدر الأعظم ويطلب إليه أن يأمر بعودة الأسطول إليه إما بإمارة أحمد فوزي باشا أو إمارة موطوش باشا ومثول نجـل العزيز محمد سعيد بين يديه26. ووصل سامي بك إلى الآستانة ومثل بين يدي الحضرة السلطانية فأنعم السلطان عليه بهدية ثمينة وزوده برسالة إلى العزيز يطلب فيها إعادة الأسطول بقيادة محمد سعيد بك دون أن يسمح بإجراء أية مفاوضة معه. فعاد إلى حيث أتى ووصل الإسكندرية في الثالث والعشرين من تموز27.

وكان من جملة العوائق التي أخرت انجاز المعاهدة الاختلاف الذي نشب في شهر آذار بين الحكومة البريطانية وبين حكومة نابولي حول احتكار الكبريت في صقلية. وما أن بدأ فرديناند بإعداد قوة عسكرية في صقلية للدفاع عنها حتى أمرت الحكومة البريطانية الأميرال السر روبرت ستوبفورد أن يحاصر الشاطئ ويصادر سفن نابولي ويرسلها إلى مالطة. فتوسط رئيس الوزارة الفرنسية لحل المشكلة وقبل الطرفان بذلك ولكن التسوية لم تتم قبل أوائل تموز. ومما شغل رجال السياسة عن المسألة المصرية في هذه الآونة نفسها نقل رفات نابوليون الأول من جزيرة القديسة هيلانة إلى الأنڤاليد في باريس. وكان الملك لويس فيليب شديد الرغبة في هذا الأمر ولم يقل عنه رغبة رئيس وزارته المؤرخ تيير. وكان لا بد من موافقة الحكومة البريطانية فجرت مفاوضات شغلت الحكومتين فترة من الزمن.

وفي غضون هذا كله حل شكيب أفندي محل نوري أفندي ووجه في الحادي والثلاثين من أيار مذكرة إلى ممثلي الدول أبان فيها ما تقاسيه بلاده من عدم الاستقرار وما يتوجب على ممثلي الدول من إسراع في العمل لتجنب ما لا تحمد عقباه28. ثم عزل محمـد خسرو باشا ووصل نبأ عزله في الثاني عشر من حزيران فاهتم الممثلون للأمر واستدعى الوزير البريطاني سفير فرنسة إليه وطلب منه تبيان موقف حكومته من العرض النمساوي البروسياني الأخير وذلك بشكل واضح لا يدعو إلى الشك. وتضمن هذا العرض الحكم الوراثي في مصر والحكم مدى الحياة في جزء من بر الشام، فطلب المسيو غيزو إلى الوزير البريطاني أن يمهله الجواب كي يتمكن من استشارة حكومته. ففعل. وفي السادس عشر من الشهر نفسه كتب تيير يفيد أنه ليس بإمكانه أن يعرض اقتراح نومان على العزيز لأنه سوف لا يلقى القبول ولأن حجج العزيز في الرفض سوف لا تلاقي جواباً مقنعاً29.

وهكذا عندما يئس الجميع من إمكانية التعاون مع فرنسة عقدوا اجتماعين سريين في بيت الفيكونت بالمرستون في الحادي والعشرين والثامن والعشرين من حزيران واتفقوا على أسس المعاهدة لحل المشكلة. ولما كان لا بد من عرض هـذه الأسس على مجلس الوزراء البريطاني طلب بالمرستون إلى زملائه المفاوضين أن يمهلوه لهذه الغاية فوافقوا وما أن فعـل حتى لاقى من زملائه الوزراء معارضة شديدة أساسها عــدم رغبتهم في الانفصال عن فرنسة وحلّ التحالف معها. فهدد بالمرستون بالاستقالة وأبان في رسالته إلى اللورد وليم ملبورن أن عدم التعاون مع الدول الثلاث سيؤدي حتماً إلى تقسيم الدولة العثمانية إلى دولتين مستقلتين كل الاستقلال إحداها تدور في محور روسية والأخرى تتبع فرنسة وأنه سوف يضمحل نفوذ بريطانية في الاثنتين وتضحى مصالحها التجارية30. ووافق هذا كله وصول تقارير ضافية من الكولونيل هودج في الخامس من تموز تبين تفاقم الثورة في لبنان فوافق جميع الوزراء على عقد المعاهدة موضوع البحث ما عدا اللورد هولاند واللورد كلارندن31. وفي الثامن من تموز أعلن بالمرستون إلى زملائه المفاوضين أنه نجح في إقناع زملائه الوزراء بوجوب عقد معاهدة دون فرنسة32. وفي الخامس عشر من تموز وقع ممثلو الدول الأربع معاهدة مع السلطان لنشر السلم في الشرق دون فرنسة.

وجاءت المعاهدة هـذه في ديباجة سبعة بنود. ونصت الدياجة أن أصحاب الجلالة ملكة بريطانية وإمبراطور النمسة وملك بروسية وقيصر روسية نظراً لسلوك محمد علي العدائي والخطر الذي أحاق بالدولة العثمانية ومراعاة للود الذي يربط بينهم وبين السلطان ورغبة في السلم وفي صيانة الدولة العثمانية واتباعاً لنص المذكرة المشتركة التي قدمت للباب العالي في السابع والعشرين من تموز سنة ١٨٣٩ ومنعاً لإهراق الدماء في بر الشام فقـد اتفق أصحاب الجلالة وعظمة السلطان على عقد المعاهدة الآتية: وتبع هذه المعاهدة ملحق اعتمد جزءاً منها. وإليك خلاصة شروط المساعدة والملحق:

أولاً: يخول محمد علي وخلفاؤه حكم مصر الوراثي. ويكون له مدة حياته حكم المنطقة الجنوبية من بر الشام المعروفة بولاية عكة بما فيها مدينة عكة نفسها وقلعتها33 شرط أن يقبل ذلك في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تبليغه هـذا القرار وأن يشفع قبوله بإخلاء جزيرة كريت وبلاد العرب وأدنة وأن يعيد إلى السلطان أسطوله.
ثانياً: إذا لم يقبل محمد علي هذا القرار في مدة عشرة أيام يحرم الحكم على ولاية عكة ويمهل عشرة أيام أخرى لقبول الحكم الوراثي لمصر وسحب جنوده من جميع الأراضي العثمانية وإرجاع الأسطول العثماني فإذا انقضت هذه المهلة دون قبول هذه الشروط كان السلطان في حلٍ من حرمانه ولاية مصر.
ثالثاً: يدفع محمد علي جزية سنوية للباب العالي بنسبة البلاد التي تعهد إليه إدارتها.
رابعاً: تسري في مصر وولاية عكة المعاهدات التي أبرمتها السلطنة العثمانية وقوانينها ويتولى محمد علي وخلفاؤه جباية الضرائب باسم السلطان على أن يؤدوا الجزية ويتولوا الإنفاق على الإدارة العسكرية والمدنية في البلاد التي يحكمونها.
خامساً: تعد قوات مصر البرية والبحرية جزءاً من قوات السلطنة العثمانية ومعدة لخدمتها.
سادساً: يتكفل الحلفاء في حالة رفض محمد علي لهذه الشروط أن يلجأوا إلى وسائل القوة لتنفيذها. وتتعهد إنكلترة والنمسة في خلال ذلك أن تتخذا باسم الحلفاء وبناء على طلب السلطان كل الوسائل لقطع المواصلات بين مصر وبر الشام ولمنع وصول المـدد من إحداها إلى الأخرى ولتعضيد الرعايا العثمانيين الذين يريدون خلع طاعـة الحكومة المصرية والرجوع إلى الحكم العثماني وإمدادهم بكل ما لديها من المساعدات.
سابعاً: إذا لم يذعن محمد علي للشروط المتقدمة وجرد قواته البرية والبحرية على الآستانة يتعهد الحلفاء بأن يتخذوا بناء على طلب السلطان كل الوسائل لحماية عرشه وجعل الآستانة والمضايق في مأمن من كل اعتداء34.

  1. الكتاب الأزرق البريطاني: المجلد الأول ص ۲۳۳ و٢٣٤ و۲۳۸ – ۲٣۹ و٢٤٠ و۲٥٥-۲٥٦
  2. المارشال صولت إلى بوركي – ٦ آب سنة ١٨٣٩- مذكرات غيزو ج٤ ص ٥۳۲-٥٣٥
  3. الكتاب الأزرق البريطاني ج١ ص ٣۲۱
  4. القائم بالأعمال البريطاني في برلين إلى بالمرستون – ۲۰ نموز سنة ١٨٣٩ - الكتاب الأزرق البريطاني ج ١ ص ٢٣٦-۲۳۷
  5. الكتاب الأزرق البريطاني ج ١ ص ۲۹۹-۳۰۰ و۳۷٥
  6. کلانريكارد إلى بالمرستون: الكتاب الأزرق البريطاني ج١ ص ۳۷٥
  7. البوسفور والدردنيل لسرجيوس غوريانوف ص ٦٣ و٦٧
  8. حياة بالمرستون للسير هنري بولور ج۲ ص ۳۰۰ من بالمرستون إلى بولور في ٢٦ أيلول سنة ١٨٣٩
  9. صولت إلى سيباستياني – ٢٦ أيلول - الكتاب الأزرق البريطاني ج١ ص ٤٠٦-٤٠٨
  10. برونوف إلى نسلرود – ٨ تشرين الأول - الكتاب الأزرق البريطاني ج١ ص ٤٤٢ - ٤٤٦
  11. سيباستياني إلى صولت – ٢ تشرين الأول – مذكرات غيزو ج ٤ ص ٥٥٤
  12. سيباستياني إلى صولت – ۱۸ تشرين الأول – مذكرات غيزو ج ٤ ص ٣٦٦-٣٦٧
  13. غرانفيل إلى بالمرستون – ۲۰ تشرين الأول - الكتاب الأزرق البريطاني ج١ ص ٤٥٧
  14. المجموعة نفسها ج۱ ص ٤٩٠-٤٩١
  15. کلانس بكارد إلى بالمرستون - ۲۲ تشرين الثاني - ونسلرود إلى كيسيليف بالتاريخ نفسه: المجموعة نفسها ج۱ ص ٥۰۲ و ٥٠٤-٥٠٥
  16. المجموعة نفسها أيضاً ج۱ ص ٥۲۹-٥۳۱ راجع أيضاً مذكرات غيزو ج٤ ص ٥٥۹-٥٦۱
  17. إنكلترة ومملكة أورليان للماجور جون هول ص ۲٥۸
  18. مذكرات غيزو ج٤ ص ۳۷۰
  19. بالمرستون إلى بوفايل -۱۳ آذار سنة ١٨٤٠- الكتاب الأزرق البريطاني ج ١ ص ٦٠٠-٦٠٣
  20. مذكرات غيزو ج٥ ص ٦٤
  21. نوري أفندي إلى بالمرستون-٧ نيسان سنة ١٨٤٠-الكتاب الأزرق البريطاني ج ١ ص ١٢٤-٦٢٥
  22. المجموعة نفسها ج١ ص ٦٢٧
  23. مذكراته الألمانية ج٦ ص ٤٢٩-٤٣٩
  24. مذكرات غيزو ج٥ ص ۷۸ و۸۱-۸۲ و۸۲-۸۳
  25. تيير ومحمد علي لفرانسوا شارل رو ص ٥٥-٥۹
  26. ده بونتوا إلى كوشلة و كوشلة إلى تيير: مجموعة إدوار دريو مصر وأوروبة ج ۲ ص ۲۹۳-۲۹۷ و۳۱۱-۳۱۳ و۳۱۳-۳۱٥
  27. كوشلة إلى تيير - ٦٣ تموز - مجموعة إدوار دريو مصر وأوروبة ج٣ ص ٥٥
  28. شكيب أفندي إلى بالمرستون: الكتاب الأزرق البريطاني ج١ ص ٦٥٨-٦٦٠
  29. إنكلترا والمملكة الأورليانية للماجور جون هول ص ٢٦٧-٢٦٨
  30. حياة بالمرستون للسر هنري بولور ج۲ ص ٣٥٩-٣٦٠ و٣٦١-٣٦٣
  31. حياه اللورد جون رسل لسبنسر وولبول ج١ ص ٣٦٢
  32. المسألة الشرقية لهازن كليغر ص ١٦١-١٦٢
  33. وحددت هذه المنطقة في ملحق المساعدة كما يأتي: يبدأ الحـد من رأس الناقورة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في مصب نهر السيسبان في شمال بحيرة طبرية ثم يتبع الشاطئ الغربي لهذه البحيرة فالضفة اليمنى لنهر الأردن فالشاطئ الغربي لبحر الميت ومن نهايته يمتد على خط مستقيم إلى رأس خليج العقبة. ثم يتبع الشاطئ الغربي لخليج العقبة ثم الشاطئ الشرقي لخليج السويس حتى مدينة السويس ذاتها
  34. راجع مجموعة دريو مصر وأوروبة ج٣ ص ٢٤٨ – ۲٥۷ وتاريخ الحركة القومية في مصر لعبد الرحمن الرافعي بك ج۳ ص ۳۱۷-۳۱۸