بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الثاني (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/الفصل الحادي عشر: نزب
ورأى السلطان أن يستغل تسابق الروس والإنكليز لاسترضائه وأن ينتهز فرصة تغيب العزيز في السودان لصالحه فأسرع إلى تعزيز قواته على حدود بر الشام وكتب إلى حافظ باشا قائد قواته هذه يقول: لقد طغت مصر بالعصيان وجهرت بالاستقلال وذهبت جهودي أدراج الرياح فلم يبق أمامي إلا الحرب. ولديك ستون أو سبعون ألف مقاتل ومئة وعشرون مدفعاً. فعليك أن تستميل القادة وتمنيهم بالترقية وأن تتصل بسليمان باشا الفرنساوي فتستغويه وتستهويه وأن تعد الضباط العرب من رجال محمد علي بالترقية إذا مالوا إلينا والتحقوا بنا. وعليك أن تبلغ العشائر والشعوب الخاضعة لمحمد علي أنهم إذا قاموا معنا نالوا ما يرغبون ولا بد من قيام الأسطول بعشرة آلاف رجل إلى طرابلس فحالما ينطلق الجيش من مرعش إبعث برسلك إلى الدروز والمتاولة وازحف إلى حلب ومنها على دمشق فعكة فمصر1.
وكانت قوى السلطان هذه تتألف من جيوش ثلاثة أعظمها وأهمها جيش الفرات بقيادة القائد العام حافظ باشا ومقره ملاطية وجيش محمد عزت باشا ومقره أنقرة وجيش حاجي علي باشا ومقره قونية. وكان يعاون حافظاً عدد من الضباط الأوروبين وعلى رأسهم الكابيتان فون مولتكي الذي أصبح فيما بعد قائد القوات الألمانية في حرب السبعين. ولازم محمد عزت باشا ضابط ألماني آخر البارون فون فنكي والتحق بحاجي علي باشا الضابط الألماني فيشر. وكان القائد العام حافظ باشا على جانب عظيم من الورع والتقوى والفضيلة والكرم يجيـد لغات ثلاث التركية والعربية والفارسية ويتحلى بالشجاعة والدراية في الحرب. وكان محبوباً من الأهالي والجند2.
وتألف الجيش المصري الذي اشترك في حرب الفرات من ألوية مشاة خمسة وألوية فرسان أربعة وفرقة الحرس وثلاثة ألايات من المدفعية، فأصبح مجموع الجيش المحارب خمسين ألفاً وعدد مدافعه مئة واثنين وستين، وقاد فرقة الحرس الفريق عنان باشا وألوية الخيالة أحمد منكلي باشا، وقاد الجيش بأكمله إبراهيم باشا ورئيس أركان حربه سليمان باشا الفرنساوي. وكانت معنويات المصريين عالية ولا غرو فقد حاربوا معارك كثيرة وخرجوا منها ظافرين3.
وكانت القيادة الثانية منذ أواخر أيام محمد رشيد باشا سلف حافظ باشا قد بدأت تستميل رؤساء العشائر على الحدود وتستفزهم إلى الثورة. واشتهر بين هؤلاء في مطلع سنة ١٨٣٩ حاجي عمر أوغلو الذي حض عشائر كورد داغ على الثورة والسلب والنهب ومصطق بك ابن كوجوك علي بك متسلم بياس السابق الذي عاث في الناس فساداً وقتلاً قبيل الفتح المصري وتوارى في ظلام كورد داغ بعد هذا الفتح ليخرج منه بين آونة وأخرى سالباً قاتلاً. ويقول الكاتبان المعاصران الإفرنسيان كادالفان وبارو أن القيادة العثمانية فعلت مثل هذا مع الشهابي الكبير وأحفاده فحضتهم على الثورة ولكن شيئاً من هذا لم يبقى في المحفوظات الملكية المصرية أو في سائر الأصول المعروفة.
وهكذا فإننا نرى إبراهيم يكتب إلى الباشماون في ربيع السنة ١٨٣٩ فيقول أن الخصم منصرف إلى إعمال أصابع التحريض والتقدم في الأراضي المصرية في آن واحد وأنه يتبع في حال الهجوم الخطة التالية: تسير فرقة من فرقه على حلب وتقوم فرقة أخرى إلى عينتـاب وتتحرك فرقة ثالثة عن طريق مرعش وتتوجه فرقة غيرها إلى كولك بوغـاز وأن علي باشا والي بغداد ومحمد باشا إينجه بيرقدار أوغلو يقومان من ماردين ويسيران بموازاة الفرات إلى أن يصلا إلى موضع يقع على طريق بغداد ويبعد عن بيرەجك أربعاً وعشرين ساعة وعن حلب وحماة والمعرة خمس عشرة ساعة. فإذا ما اجتاز علي باشا الفرات وانطلق عرب الجربة إلى نواحي حماة وحمص ودمشق أصبح شرق بر الشام من المعره إلى دمشق خراباً بلقاً4.
والواقع أن العثمانيين بدأوا يتحركون في أوائل نيسان فغادروا مراكزهم ونزلوا مهرولين إلى بيرەجك والفرات وأنشأوا الطوابي ثم اجتازوا الفرات في منطقتهم إلى ضفته اليمنى بجد ونشاط واقتربوا من عينتاب وتوجهوا في اتجاه كولك5. فكتب إبراهيم إلى مصر يطلب النجدة ويؤكد أنه سيجمع جميع ما لديه في بر الشام إذ أنه بمقدوره أن يسوس هذا القطر بأورطتين من الجنود وبنصارى جبل الدروز أي لبنان – يقول هذا فيسأل هل يهجم عليهم إذ وجد فيهم نقطة ضيفة أم ينتظر إلى أن يصلوا إلى أراضيه6.
فأجابت مصر أن حكومة روسية اتصلت بقنصلها مشددة عليه وجوب السعي لمنع وقوع الحرب وأن الجناب العالي يرى أن حركات العثمانيين على الحدود توجب عليه إما الانتظار إلى أن يصل إلى هدفه بموجب ترتيباته أو مماشاة القناصل في الأمر وإن المصلحة تقضي بالتحفظ الشديد كي لا تبدأ مصر بالحرب7. فقام إبراهيم يعمم هذا الأمر ويشدد على ضباطه بوجوب اتباعه فكتب إلى محمد كاشف في الثاني والعشرين من أيار يقول: تتحدثون من ذلك السباهي الذي أطلق عليكم البندقية ودخل الأراضي التابعة لنا ثم تستعلمون فرهاد بك هم إذا كان يجوز لكم أن تطلقوا البنادق فيما إذا أطلقها عليكم أمثال السباهي المار الذكر. اعلموا أن الموقف الآن غيره فيما مضى بحيث إذا أطلق أي واحد بندقية أولاً على شخص آخر فهؤلاء يقضون عليه. إياكم ـن تقتربوا من الحدود ويجب عليكم أن تبتعدوا منها دائماً على مسافة ساعتين وأن لا تطلقوا عليهم بنادق ما لم يأتوا هم إلى مكانكم ويطلقوها عليكم. وإن قلت إذا ضربناهم أولاً فسيكون ذلك في صالحنا بخلاف ما إذا ضربونا هم أولاً فإنه يضرنا فلا بأس لأن الموقف كما ذكرت، فيجب أن تبتعدوا عن الحدود دائماً مسافة ساعة أو ساعتين. إياكم ثم إياكم من أن تطلقوا البنادق ما لم يطلقوا هم بنادقهم أولاً وإن لم تفعلوا كما قلت فستذهب أدراج الرياح جميع الأتعاب التي قاسيتها إلى الآن، فاطلب إليك بصفـة قطعية مراعاة هذه النقطة بدقة بالغة وتعمل على ضبط جمـاح العرب8. وكتب في الآونة نفسها إلى علي خورشيد باشا حكمدار أدنة يقول: إن ما يقصده الخصم من وراء هذه الضجة هو استفزازنا. وهو يعتقد أننا إذا ما شاهدنا اقترابه من حدودنا كبر علينا ذلك وعمدنا إلى قتاله، فيقول إذ ذاك إلى الإفرنج أن الخصم بادأنا العدوان9.
وحوالي الثلاثين من أيار اجتمع إبراهيم بأحمد منكلي باشا وسليمان باشا وإسماعيل عاصم بك حكمدار حلب وتداول الرأي معهم فقر قراره على القيام بسبعة أو ثمانية ألايات من الفرسان واثنتي عشرة بطارية من المدافع إلى تل الشعير في منتصف الطريق بين حلب وعينتاب ورأى أن الخصم سيتبع هذا الطريق في هجومه على كلس أو حلب وأن الحرب واقعة قريباً و«أن النصر سيمن به على المصريين إن شاء الله». ثم رأى في الوقت نفسه أنه إذا ما دحر الخصم وعاد الجيش المصري إلى حلب يتمكن العدو من تشكيل جيش آخر وإعادة الكرة ولذا فإنه طلب إلى الباشمعاون تبيان الخطة التي يجب اتباعها بعد قهر الخصم. فهل يسير في أثره حتى ملاطية ويتحول إلى اليسار حتى يبلغ قونية أم يزحف رأساً على كولك أم يبقى في مكانه بعد وقوع الهزيمة ورجا أيضاً ألا يتأخر الرد على سؤاله هذا كما حدث بعـد موقعة بيلان إذ تأخر وصول الرد أسابيع ثلاثة. وأضاف السرعسكر في خطابه هذا إلى الباشمعاون: لقد طلبتم إلينا ألا نكون البادئين في إطلاق النار. فها أن الخصم يتقدم فهل نتراجع إلى الوراء متى وصل وهل نتقهقر حتى نبلغ مصر؟ لا بد لنا من إطلاق النار متى وصل10. فأجابه الباشمعاون بما يلي: عندما يتم دور الجيش يزحف على مرعش وخربوط وملاطية وأورفة وديار بكر دون الحاجة إلى الرجوع إلى حلب أو مداومة الزحف حتى قونية. ومتى تم الاستيلاء على هذه الجهات يجب التوقف هناك دون أي تقدم إلى الأمام ويجب منع جيش الخصم المرابط على حدود أدنة من اجتياز كولك بوغاز كما أنه يجب ألا يتجاوز الجيش المصري كولك بوغاز11.
وفي اليوم الأول من حزيران سنة ١٨٣٩ اتصل بإبراهيم باشا أن طوابير خمسة من فرسان العثمانيين وصلت إلى تل باشر وطردت الفرسان المصريين منها وأن ألايات من المشاة تزحف وراء هؤلاء الفرسان فكتب السرعسكر إلى سليمان باشا في حلب يأمره بالقيام إليه بالمشاة والمدفعين. ولدى وصول هذا إليه قام السرعسكر بفرسانه إلى الحدود12. وكان مصطق بك كوجوك علي قد أطل على بياس بجمع من العشائر يحرض ويهدد باسم السلطان فخشي إبراهيم أن يستفحل أمره فيستولي على بياس وبيلان ويسري الشرر إلى أنطاكية فغيرها من المناطق في مؤخرته فأمر بإرسال ألاي المشاة الثاني بقيادة رستم بك لضربه. وكتب في الوقت نفسه إلى الشهابي الكبير بوجوب إرسال ألف من اللبنانيين إلى جبال عكار «لتأديب بعض الحماديين الذين قتلوا متسلم ثلثي عكار ونهبوا بيته واستولوا على خزينة عكار. وكتب في الوقت نفسه إلى اللواء عثمان بك في كلس يأمره بالقيام إلى طرابلس ليقود الألايين القادمين بحراً إليها فيتعاون واللبنانيين في ضرب الحماديين وأتباعهم13.
وحوالي العاشر من حزيران كتب إبراهيم باشا إلى حافظ باشا قائد الجيوش العثمانيـة يقول: بما أن الدول العظمى لا توافق على اصطدامنا الذي أصبح محتمل الوقوع فتظل تكتب إلى قناصلها العامين في الإسكندرية مؤكدة لهم بأن مولانا وولي نعمتنا حضرة صاحب الجلالة السلطان لا يجيز ذلك وبما أنكم على الرغم من هذا قد سقتم على فرساننـا في بولانق قوة عسكرية لضربهم وأرسلتم إلى بياس مصطق بك على رأس جماعة من فرسان العشائر وأوفدتم حاجي عمر أوغلو إلى جبل الأكراد وسيرتم على فرساننا الهناديين فرساناً نظاميين وغير نظاميين وسلمتم قرى عينتاب وأخرجتموها عن طاعتنا واستوليتم على عينتاب ووصلتم دولتكم بالأمس بإلايات الفرسان إلى موضع قريب جداً من معسكر جيشنا وأطلقتم المدافع على فرساننـا الهناديين وبما أنه لم يقع من جانبنا أي استفزاز فإننا نؤكد لكم أننا لسنا بخائفين. وإن كان لدى دولتكم أمر بإعلان الحرب تفضلوا نتقاتل. وإلا فإن كنتم تريدون أن تدهشونا بهذه المناوشات فليس هنا من يندهش منها. وخلاصة القول أن الرجولة تظهر في ميـدان القتال، وقد حررنا هذه الورقة وأرسلناها إلى عالي مقامكم مع خادمكم محمد حاذق بك لتتفضلوا وتشعرونا بمرامكم. فرد عليه حافظ باشا برسالة مماثلة حملها إلى المعسكر المصري أحمد بك. وخلاصة هذا الرد أن الولاء للسلطات بالأفعال لا بالأقوال وأن السبـاهيين الذين أوفدوا لقتال الهنادي إنما فعلوا ذلك مدافعين عن الحدود العثمانية إذ سبق للهناديين أن اقتربوا جداً من بيرەجك بداعي التجسس واعتدوا على قرى أورفة ونهبوا مطحنة معينـة إلى أن يقول «وقد حدث أن فقد بعض هؤلاء السباهيين خيولهم وأخـذوا يبحثون عنها فوصلوا إلى موضع تابع لعينتاب وبيرەجك وكان هناك ثلاث مئة من الفرسان الهناديين فخرج من بينهم قوة مؤلفة من نحو ثلاثين فارساً وأخذوا سلاح أحـد السباهيين وبتروا عنقه. ولا شك أن دولتكم لا تجدون إلى إنكار هذه الحادثة سبيلاً. ولست أراني في حاجة إلى بسط مبلغ منافاتها لروح العبودية التي تدعونها. وأياً كان الأمر فإني أخطركم مخلصاً بإنكم إذا أيدتم أقوالكم بالأفعال كما يأمر الشرع الشريف بلغتم في ظل مولانا السلطان درجة تحسدون عليها بين الأقران»14.
وما أن وصل هذا كله إلى مسامع العزيز حتى أمر بضرب حافظ باشا وإخراجه بالقوة من الأراضي المصرية. ففي السادس عشر من حزيران كتب حسين باشا إلى إبراهيم باشا يقول «إن الجناب العالي يأمر بضرب العدو ورده على أعقابه نظراً لتوغله في الأراضي المصرية وإن أدى ذلك إلى مقاتلة جيشه الكبير في نزب». ثم أردف هذا بكتاب آخر في التاريخ نفسه يقول: «لقد وصل مندوب من قبل المارشال صولت وهو يرغب في مقابلة السرعسكر باشا. ولكن الجناب العالي سيعيقه عن السفر إلى برالشام إلى أن يتسنى للسرعسكر ضرب العدو ضربة قاضية ومجابهة الدول بالأمر الواقع. فتقدموا حالاً واستعجلوا في ضرب العدو»15.
وتحرك الجيش إلى توزل وعبر نهر ساجور وانتقل منها إلى مزار فوصلها في الساعـة العاشرة صباحاً وضرب الطليعة العثمانية فيها – ألايين من المشاة وخمسة مدافع وخمس مئـة جندي غير نظامي - فانسحبت إلى نزب وأصبح المصريون على بعد ساعتين عن العثمانيين. وقام سليمان باشا يستكشف الأراضي إذ لم تك هناك خارطات تفصيلية دقيقة كما هي الحال هذه الأيام. وأدرك إبراهيم أن اقتحام مراكز العدو مجابهة أمر عسير فرأى أن يدور حول ميسرة الترك ليزحزحهم من مراكزهم المحصنة وشرع ينفذ هذه الخطة. وأشار فون مولتكه وزملاؤه الألمان على حافظ باشا بوجوب مهاجمة المصريين أثناء حركة الالتفاف هذه وقبل أن ترسخ أقدامهم في مواقعهم الجديدة، ولكن زملاءهم الأتراك أبوا أن يغادروا استحكاماتهم ويغامروا في قتال في العراء وفي سهل مكشوف. وأكمل المصريون حركة التفافهم هذه واحتلوا أكمة عالية تكشف مراكز العدو ونصبوا مدافعهم عليها. ثم أصلوا ميسرة الترك ناراً حامية وهجموا عليها فتلقى الأتراك الهجوم بثبات وشجاعة واستمرت نار الحرب وحمي وطيسها ونفدت ذخيرة المدفعية المصرية فتقلقل المشاة، من الجناح الأيمن المصري وارتدوا إلى الوراء. فصدر الأمر إلى الفرسان بالهجوم فأقدموا ولكنهم اضطروا إلى التراجع. ولكن إبراهيم تمكن بعد وصول المدد بالعتاد من وقف هذا التقهقر. وما فتئ حتى بدأت كفة المعركة تميل إليه. فاستغل سليمان باشا هذا التطور وعمّ القتال الجبهة بأسرهـا وأصيب الفريق خالد باشا برصاصة قاتلة فلجأ الترك إلى الفرار تاركين كل شيء وراءهم بما في ذلـك خيمة حافظ باشا وأوراقه وأوسمته، واستولى المصريون على عشرين ألف بندقية ومئة وأربعين مدفعاً. وخسر العثمانيون أربعة آلاف وخمس مئة قتيل وجريح وحوالي الخمسة عشر ألف أسير، وبلغت خسائر المصريين ثلاثة آلاف رجل بين قتيل وجريح16.
وكتب إبراهيم إلى مصر يفيد أن القتال بدأ بين الجيشين حوالي الساعة الواحدة من يوم الإثنين في الثالث عشر من ربيع الآخر (٢٦ حزيران سنة ١٨٣٩) وأنه دام ساعتين فقط وأن الخصم ولى الأدبار لا يلوي على شيء في الساعة الثالثة. وأن الجناح الأيمن كان بقيادة سليمان باشا والأيسر بقيادة عثمان باشا والقلب بزعامة وكيل باشا (أي أحمد منكلي باشا) وأن كلاً من هؤلاء سيرفع تقريره مختوماً بخاتمه. وأنه لم يخسر من كبار الرجال سوی إبراهیم بك. ثم يرجو ألا يكون موقف السلطة المصرية موقفها بعد حمص وقونية: «فإذا كان لكم كلام في هذا الأمر أرجو الإفادة الآن لا بعد سنتين»17.
وقسم إبراهيم جيشه بعد نزب إلى قسمين نظامي وغير نظامي فأمر الأول بالتقدم نحو قونية والثاني بالسير على أورفة وخربوط وأكد المسيو كابي مندوب الحكومة الفرنسية أن عدم وجود المؤن في نواحي الفرات اضطره إلى اجتياز الحدود وإلى الدخول في بلاد العـدو وأمر بتشكيل جيش من أسرى العثمانيين لإرساله إلى الحجـاز18. فخشي العزيز شطر القوات المصرية وتوغلها في بلاد العدو وكتب إلى ابنه بوصول مندوب إفرنسي جديد إلى الإسكندرية يطالب بعدم التقدم وبوصول مندوب تركي جديد عاكف أفندي ولذا فإنه يوجب سحب القوات المصرية إلى ضفة الفرات الغربية19.
وتوفي السلطان محمود الثاني قبل أن تصل أخبار الهزيمة هذه إلى آذانه وتولى ابنه عبدالمجيد بعده ولم يبلغ السادسة عشرة. فعاد محمد خسرو باشا إلى الحكم. وخاف قائد الأسطول العثماني أحمد فوزي باشا مغبة حكم خسرو باشا وخليل باشا وعظمت وساوسه. فزين له وكيله عثمان باشا أن يلتجئ إلى محمد علي باشا خصم خسرو باشا القديم ويسلمه الأسطول فينال مكافأة وحسن الجزاء. فأصغى فوزي باشا لهذه المشورة وكتب إلى العزيز يبين أن الخضوع لخسرو وأمثاله مضر بمصلحة الأمة وأنه سينتظر الجواب على رسالته هذه في مياه رودوس. فأجابه العزيز بأن أهمية الموضوع وخطورة الموقف تقضيان أن يتبادلا الأراء شفاهاً. وطلب إليه أن يأتي بالأسطول إلى مياه الإسكندرية للبحث في الموضوع20. والتقى الأسطول الثاني وهو لا يزال في بحر إيجة بقطع من الأسطول الفرنسي بقيادة الأميرال لالاند وذلك في الخامس من تموز سنة ١٨٣٩. فاتصل أحمد فوزي باشا بزميله الإفرنسي وأطلعه على ما أضمره وعزم على تنفيذه ورجاه ألا يعترضه في ذلك. فأجابه الأميرال لالاند أنه ليس في التعليمات التي تلقاها من حكومته ما يخوله هذا الاعتراض21. ولدى وصول أحمد فوزي باشا إلى رودوس أوفد وكيله إلى مصر ليخبر العزيز بما عزم عليه. فابتهج العزيز ابتهاجاً عظيماً وأنفذ معتمداً على السفينة البخارية النيل يبلغ القبودان باشا سروره. ثم أقلعت الدننمة الثانية من رودوس بقيادة القبودان باشا إلى مصر فبلغت مياه الإسكندرية في الرابع عشر من الشهر نفسه. وكان الأسطول المصري خارج البوغاز يجري بعض التمارين البحرية بقيادة مصطفى مطوش باشا فدخل الأسطولان إلى الميناء معاً وعدد سفنها خمسون سفينة حربية تقل نحو ثلاثين ألف مقاتل وعليها نحو ثلاثة آلاف مدفع، وخرج القبودان باشا من سفينته في الخامس عشر متجهاً نحو البر فحيته مدافع الأسطول المصري بتسع عشرة طلقة وذهب تواً إلى سراي رأس التين يحيط به رهط من كبار الضباط. ولدى وصوله سلم سيفه إلى حبيب أفندي المعاون ودخل على العزيز فرحب به أجمل ترحيب، وبعد القهوة والشبوق أمر العزيز بانصراف الحضور وخلا بضيفه خلواً طويلاً22.
وتعاقبت الكوارث فأصابت الباب العالي ثلاث مرات في ثلاثة أسابيع: هزيمة نزب ووفاة محمود وخيانة القبودان. فأصدر السلطان الحدث عفواً «لوقاية عباد الله والابتعاد عن سفك دماء المسلمين» وأعلن استعداده للتعامل مع العزيز على أساس «مضى ما مضى» وأنعم عليه بوسام «ساطع» كالوسام الذي يحمله جميع الوزراء العظام و«بالقطر المصري على أن يتوارثه أبناؤه من بعده شرط أن يقوم بجميع واجبات التبعية وفرائض العبودية وأوفد عاكف أفندي کاتب دار شورى الباب العالي ليشرح للعزيز فحوى الإرادة السنية ويزف إليه بشرى صدورها ويبسط مبلغ الحاجة إلى الاتحاد في سبيل جمع كلمة المسلمين وعدم تفرقهم نظراً للظروف الدقيقة التي تحيط بالدولة العلية وليدلي بالأسس التي يقوم عليه الاتحاد والاتفاق بين الطرفين23.
وقام عاكف أفندي كما مرّ بك ووصل إلى مصر وأطلع العزيز على المهمة الموكولة إليه فكتب العزيز إلى محمد خسرو باشا يحيطه علماً بالسفر السلطاني وبعقد النية على توجيه إيالة مصر إليه بشكل وراثي فيشكر له نواياه الحسنة ويفيد أنه اتخذ تدابير مماثلة للوصول إلى الصلح ولكنه يستمسك في الوقت نفسة بالإيالات الشامية. وكتب إلى خليل باشا في الوقت نفسه يؤكد أن محمد خسرو باشا لا يزال على ضلاله القديم وأنه لا يمكنه أن يتفاهم معه. ثم كتب إلى والدة السلطان يؤكد عبوديته وولاءه وإخلاصه ويشير إلى مفاسد خسرو باشا مبيناً أغراضه الشخصية راجياً السعي لإبعاده خدمة للدين والدولة24. وكتب أيضاً إلى شيخ الإسلام يأسف لوفاة السلطان محمود ويبتهج لجلوس السلطان عبد المجيد ثم يلقي نظرة عامة على علاقاته بالباب العالي فيجعل محمد خسرو باشا مسؤولاً عمـا مضى ويطلب رفته من الوظيفة ويقول أنه أرسل نسخاً عن كتابه هذا إلى جميع الوزراء في الآستانة والرومللي وبر الأناضول كما أنه أرسل كتابين بالمعنى نفسه إلى والدة السلطان وأسما سلطان وأنه أجاب عاكف أفندي لدى اجتماعه بـه بالمعنى نفسه. وكتب العزيز في الوقت نفسه (٢٥ تموز) إلى ابنه إبراهيم ينبئه بما اتخذه من وسائل «لبث الدعاية في عاصمة السلطنة وفي الولايات ضد محمد خسرو باشا»25.
ورأى محمد خسرو باشا في انحياز القبودان باشا إلى جانب العزير خيانة كبرى فكتب إلى ضباط الأسطول يحرضهم ويثيرهم على رئيسهم كما كتب إلى العزيز بوجوب إعادة الأسطول إلى الآستانة، فأجابه العزيز أنه لا يرى في انحياز الأسطول ومجيئه إلى الإسكندرية خيانة أو إعانة بل دليلاً ساطعاً على قلة ثقة رجال الدولة المخلصين في خسرو باشا وعلى إلحاحهم في عدم التعاون معه26.
ووصلت أخبار هذه الكوارث إلى عواصم أوروبة فاستولى على حكوماتهـا شيء من القلق وأبدت الاهتمام اللازم بالأمر. وكان ديساج أخصائي الخارجية الفرنسية في أمور الشرق قد كتب في الثامن والعشرين من أيار سنة ١٨٣٩ إلى كوشله قنصل فرنسة العـام في الإسكندرية يؤكد وجوب الاستمساك بمبدأ سلامة الدولة العثمانية لدفع الخطر الروسي عن المضايق والخطر البريطاني عن مصر وبالتالي وجوب بقاء مصر جزءاً من الدولة العثمانيـة ووجوب اعتدال العزيز في مطالبه. وأبان ديساج في رسالته هذه أن فرنسه وبريطانية والنمسة تستهدف أن تجعل من حل المسألة المصرية الماثلة قاعدة أساسية لحل المسألة الشرقية بكاملها27. ومن هنا تدخل فرنسة المتفرد في شهر حزيران وإيفاد كل من الكابيتان ستولة والكابيتان كالبي إلى الآستانة والإسكندرية لتدارك الخطر ومن هنا أيضاً سكوت حكومتي بريطانية والنمسة عن هذا التدخل. ثم جاءت الكوارث تترى فقابلها الفيكونت بالمرستون بهدوء ورباطة جأش وقال إلى القائم بأعمال السفارة الفرنسية في لندن «ليس هنالك ما يدعو إلى تعديل الخطط المرسومة». لكنه خشي في الوقت نفسه أنه إذا سكت عن مطامع العزيز في بر الشام ووافق على بقاء هذا القطر في عهدته فإنه لدى وفاته ستتدخل فرنسة لإبقائه في قبضة إبراهيم من بعده ويكون بذلك قد مهد السبيل لتجزئة الإمبراطورية العثمانية28. ولمس الداهية النمساوي البرنس مترنيخ هذا الظن المتبادل بين لندن وباريز منذ اللحظة الأولى فنطق بما يلي: «هنا سر هذه المعضلة بريطانية ترغب في الحد من قوة الباشا وفرنسة ترمي إلى المحافظة على هذه القوة إن لم نقل إنماءها»29. وكان قد فهم القيصر الروسي كل الفهم وأدرك أنه مخلص في محافظته على سلامة الدولة العثمانية فصاغ مذكرته الشهيرة التي حازت القبول في جميع عواصم أوروبة وقضت بتدخل الدول مجتمعين لحل الأزمة الطارئة30.
وكان الباب العالي قد استرخى وقبل بالرضوخ لمطالب العزيز والوصول إلى تفاهم مباشر معه وأزمع على إيفاد مفيد بك إلى القاهرة في السابع والعشرين من تموز السنة نفسها للتأكيد بأن مهمة عاكف أفندي آغا انحصرت في إعلان الجلوس السلطاني وإن ما فاوض به عاكف أفندي لم يكن نهائياً البتة31. وفي صباح هذا اليوم نفسه وفي الساعة الخامسة وفد على محمد خسرو باشا معتمد بونسوبي الخاص الجنرال غرازانوفسكي ينقل إليه اتفاق الدول الخمس على التدخل في المسألة المصرية وينذره بسوء العاقبة إن هو رفض هذا التدخل. وفي اليوم التالي أي في الثامن والعشرين من تموز قدم سفراء الدول الخمس إلى الباب العـالي مذكرة مشتركة يطلبون بها عدم إبرام أي أمر في شأن المسألة المصرية إلا باطلاعهم وموافقتهم. وفي السادس من آب أعلن معتمدو الدول في الإسكندرية نص المذكرة نفسها إلى العزيز أيضاً. وكان هو قد أخذ علماً بها مسبقاً عن طريق القنصلية الفرنسية32.
- ↑ تعرف عن الأصل الذي وجد في خيمة حافظ باشا بعد نزب: مجموعة إدوار دريو ج ١ ص ٩٢ - ٩٤
- ↑ تاريخ مصر العسكري للجنرال ويغان ج ۲ ص ۹۱-۹۲
- ↑ التاريخ الحربي لعصر محمد علي الكبير للقائممقام عبد الرحمن زكي بك ص ٤٥٦-٤٦١ المسألة الشرقية لكدالفان وبارو ج ۱ ص ۱۲۸-۳۰
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا: المحفوظات ج ٤ ص ٤١-٤٢ و۸۱
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۳۳ و۳۹
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا: المحفوظات ج ۱ ص ۳۰ و۳۹
- ↑ المعية السنية إلى إبراهيم باشا ١٠ أيار سنة ١٨٣٩: المحفوظات أيضاً ج ٤ ص ٥۳
- ↑ المحفوظات كذلك ج ٤ ص ٧٣-٧٤
- ↑ المحفوظات أيضاً ج ٤ ص ٧٦
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا – ۳۰ أيار سنة ١٩٣٩: المحفوظات ج٤ ص ٩٤
- ↑ حسين باشا إلى إبراهيم باشا: المحفوظات ج ٤ ص ٩٦
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۹۷ و۱۰۱
- ↑ إبراهيم باشا إلى الأمير بشير الشهابي - ٥ حزيران سنة ١٨٣٩: المحفوظات ج ٤ ص ۱۱۰ اطلب رسالة مصطق بك إلى أعيان بيلان: المرجع نفسه ص ۱۲۰
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا: المحفوظات ج ٤ ص ١١٦ و۱۱۸-۱۱۹
- ↑ حسين باشا إلى إبراهيم باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۱۲۱-۱۲۲
- ↑ تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي بك ج ۳ ص ۳۰۰ – ٣٠٦ التاريخ الحربي لعصر محمد علي الكبير للقائممقام عبد الرحمن زكي بك ص ٤٦٠-٤٨١ تاريخ محمد علي العسكري للجنرال ويغان ج ۲ ص ۱۰۲-۱۱۸
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا – عن مزار ٢٦ حزيران - المحفوظات ج ٤ ص ١٢۳-١٢٤
- ↑ إبراهيم باشا إلى حسين باشا: المحفوظات ج ٤ ص ١٢٤ و۱۲٥
- ↑ محمد علي باشا إلى إبراهيم باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۱۲۹ و۱۲۷ و۱۲۸
- ↑ محمد علي باشا إلى قبودان أحمد باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۱۲۷
- ↑ الأميرال لالاند إلى وزير البحرية: مجموعة أدوار دريو عن مصر وأوروبة ج١ ص١٣٦-١٤١
- ↑ القنصل كوشله إلى المارشال صولت – ۱۰ تموز سنة ١٨٣٩: المرجع نفسه ص ١٤٩ - ١٥٢
- ↑ إبراهيم باشا إلى محمد علي باشا: المحفوظات ج ٤ ص ۱۳۰-۱۳۱
- ↑ ۱۸ تموز سنة ١٨٣٩: المحفوظات ج ٤ ص ۱۲۸ و۱۲۹-۱۳۰
- ↑ المحفوظات ج ٤ ص ١٦٦
- ↑ محمد علي باشا إلى محمد خسرو باشا: المحفوظات ج ٤ ص ١٦٧-١٦٨
- ↑ تيير ومحمد علي لفرانسوا شازلرو: ص ١٥-۱۹
- ↑ إنكلترة والقرم للدكتور هارولد تمبرلي ص ١٠٦-۱۰۷
- ↑ المرجع نفسه ص ١٠٦
- ↑ تيير ومحمد علي: المؤلف نفسه ص ۲۱
- ↑ محمد علي باشا إلى أبراهيم باشا: المحفوظات الملكية المصرية ج ٤ ص ۱۷۸
- ↑ إنكلترة والقرم – المؤلف نفسه: ص ۱۰۸-۱۰۹