تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/السوفسطائيون

السوفسطائيون المؤلف يوسف كرم
نشأة العلم والفلسفة


الفصل الخامس

السوفسطائيون

٢٢ – نشوء السوفسطائية

أ – بالرغم مما ذكرنا من عناية الفيثاغوريين بالأخلاق، والإيليين بالمبادئ العقلية والجدل، فإن الفكر اليوناني كان في هذا الدور الأول متجهًا نحو العالم الخارجي مستغرقًا فيه، أما العالم الداخلي الذي هو مصدر الأخلاق وموطنها، وأما العقل الذي هو مصدر المعرفة ومستقرها، فلم يُعْنَ بهما بالذات، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى طرأت عليه أحوال ساقته إلى الاشتغال بهذه الناحية من الفلسفة، فبذل فيها نشاطًا عظيمًا وذهب في مسائلها كل مذهب، فكانت النتيجة وضع المنطق والفلسفة الخلقية والسياسية؛ ذلك أنه بعد أن دحرت أثينا الفرس وحفظت لليونان استقلالهم وعقليتهم مضى هؤلاء يستكملون أسباب الحضارة بهمم جديدة، ونبغ فيهم العلماء والشعراء والفنانون والمؤرخون والأطباء والصناع، وقويت الديموقراطية في جميع المدن، وتعاظم التنافس بين الأفراد، فزادت أسباب النزاع أمام المحاكم الشعبية، وشاع الجدل القضائي والسياسي، فنشأت من هاتين الناحيتين الحاجة إلى تعلم الخطابة وأساليب المحاجة واستمالة الجمهور، ووجد فريق من المثقفين المجال واسعًا لاستغلال مواهبهم فانقلبوا معلمي بيان، وهؤلاء هم السوفسطائيون؛ ملئُوا النصف الثاني من القرن الخامس.

ب – وكان اسم «سوفيست» يدل في الأصل على المعلم في أي فرع كان من العلوم والصناعات، وبنوع خاص على معلم البيان، ثم لحقه التحقير سقراط وأفلاطون؛ لأن السوفسطائيين كانوا مجادلين مغالطين وكانوا متجرين بالعلم، أما الجدل فقد وقفوا عليه جهدهم كله، خرجوا من مختلف المدارس الفلسفية لا يرمون لغير تخريج تلاميذ يحذقونه، وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف، ومن كانت هذه غايته فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي، ولم يكن ليتم لهم غرضهم بغير النظر في الألفاظ ودلالاتها، والقضايا وأنواعها، والحجج وشروطها، والمغالطة وأساليبها، فخلفوا في هذه الناحية من الثقافة أثرًا حقيقًا بالذكر، أما سائر العلوم فكانوا يلمون بها إلمامًا يساعدهم على استنباط الحجج والمغالطات وعلى التظاهر بالعلم، فتناولوا بالجدل المذاهب الفلسفية المعروفة، وعارضوا بعضها ببعض، وتطرق عبثهم إلى المبادئ الخلقية والاجتماعية، فجادلوا في أن هناك حقًّا وباطلًا وخيرًا وشرًّا وعدلًا وظلمًا بالذات، وأذاعوا التشكك في الدين، فسخروا من شعائره واختلقوا على آلهته الأقاويل، ومجدوا القوة والغلبة، وكان الأمر إلى الديموقراطية تتعدد فيها القوانين وتتناسخ فيدخل على النفوس أن القانون والحق ما يريده القوي.

ج – وأما اتجارهم بالعلم فقد كان شائنًا حقًّا؛ كانوا يتنقلون بين المدن يطلبون الشباب الثري ويتقاضونه الأجور الوفيرة، وكان هذا الشباب يهرع إليهم ليتقوى بالعلم فوق ما توفر له من أسباب الغلبة كالمال والعصبية، فيستمع إلى خطبهم العلنية ودروسهم الخاصة، فأصابوا مالًا طائلًا وجاهًا عريضًا، ولكن اليونان كانوا يستقبحون أن يباع العلم ويشترى، وكانوا يفهمون المدرسة على أن التلاميذ يفدون على المعلم يقيم في مكان دائم، ولا يبذلون من المال إلا الضروري لحاجات المدرسة، فعكس السوفسطائيون الآية وتنزلوا بالعلم إلى مستوى الحرف والصنائع، فلحقتهم الزراية، لم يأخذوا بالعلم على أنه معرفة الحقيقة، ولم يكترثوا لقيمته الذاتية ولا لفطرة العقل التي تدفعه لطلب الحق، بل استعملوا العلم وسيلة لجر منفعة غريبة عن العلم، وهزءوا من العقل، فكانوا معلمين وخطباء ولم يكونوا حكماء، هذا هو الموقف الشاذ الأثيم الذي جعل اسمهم سبة على مر الأجيال.

وأشهرهم اثنان: بروتاغوراس وغورغياس.

٢٣ – بروتاغوراس

أ – ولد في أبديرا وعرف فيلسوفها الكبير ديموقريطس، وبعد أن طاف أنحاء إيطاليا الجنوبية واليونان يلقي فيها الخطب البليغة قدم أثينا حوالي سنة ٤٥٠ ولم تطل إقامته فيها لأنه كان قد نشر كتابًا أسماه «الحقيقة» وردت في رأسه هذه العبارة: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين فإن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم أخصها غموض المسألة وقصر الحياة.» فَاتُّهِمَ بالإلحاد وحكم عليه بالإعدام وأحرقت كتبه علنًا ففر هاربًا ومات غرقًا في أثناء فراره.

ب – وقد وصلت إلينا من الكتاب المذكور عبارة أخرى هي قوله: «الإنسان مقياس الأشياء جميعًا، هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد.» وشرحها أفلاطون كما يلي، قال:1 يتبين معناها بالجمع بين رأي هرقليطس في التغير المتصل، وقول ديموقريطس إن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة فيخرج منهما «أن الأشياء هي بالنسبة إليَّ على ما تبدو لي، وهي بالنسبة إليك على ما تبدو لك، وأنت إنسان وأنا إنسان» فالمقصود بالإنسان هنا الفرد من حيث هو كذلك لا الماهية النوعية، ولما كان الأفراد يختلفون سنًّا وتكوينًا وشعورًا، وكانت الأشياء تختلف وتتغير، فإن الإحساسات تتعدد بالضرورة وتتناقض: «أليس يحدث أن هواء بعينه يرتعش منه الواحد ولا يرتعش الآخر، ويكون خفيفًا على الواحد عنيفًا على الآخر؟ فماذا عسى أن يكون في هذا الوقت الهواء في ذاته؟ هل نقول: إنه بارد أم نقول: إنه ليس باردًا؟ أم نسلم أنه بارد عند الذي يرتعش، وأنه ليس ببارد عند الآخر؟»2 «وإذن فلا يوجد شيء هو واحد في ذاته وبذاته، ولا يوجد شيء يمكن أن يسمى أو يوصف بالضبط؛ لأن كل شيء في تحول مستمر» فما نحسه هو موجود على النحو الذي نحسه وما ليس في حِسِّنَا فهو غير موجود، وعلى ذلك تبطل الحقيقة المطلقة لتحل محلها حقائق متعددة بتعدد الأشخاص وتعدد حالات الشخص الواحد، ويمتنع الخطأ؛ إذ يمتنع أن نتصور غير ما نتصور في وقت ما، والنتيجة المنطقية أن ما يصدق على المعرفة يصدق أيضًا على العمل، وأن الفرد مقياس النفع والضر والخير والشر والعدل والظلم، غير أن هذا لا يعني ترك الأمور فوضى وإنكار الحكمة والحكيم، فإن من التصورات ما بعضه «خير» من بعض، فالطبيب حكيم إذ يستخدم العقاقير لاستبدال تصورات الصحيح بتصورات المريض، والأولى «خير» من الثانية، والسوفسطائي أو تلميذه حكيم؛ إذ يحدث في السياسة مثل هذا الانقلاب، فما يسمى حقًّا في العمل هو النافع في وقت معين وظروف معينة3.

ج – ويتابع أرسطو أفلاطون في تأويل عبارة بروتاغوراس4، على أن لأفلاطون محاورة اسمها «بروتاغوراس» أقدم من «تيتياتوس» يصور فيها السوفسطائي حيًّا يرزق غير شاكٍّ لا كثيرًا ولا قليلًا بينما هو يقول عنه في المحاورة الأخرى: إنه مات من زمن طويل، ويورد «مذهبه» على أنه «رأي خاص» يختلف عما كان يعلنه للجمهور، ومما يلاحظ أيضًا أن بروتاغوراس علل توقفه عن القول بالآلهة بصعوبة المسألة من جهة، وبقصر العمر من جهة أخرى، ولم يقل: «الآلهة موجودون بالإضافة إلى من يؤمن بهم وغير موجودين بالإضافة إلى من ينكرهم»، لهذا كله يمكن الارتياب في أن يكون بروتاغوراس قد ذهب إلى هذا الحد من الشك ويبقى أن «مذهبه» يمثل النتيجة المحتومة لمذهب هرقليطس، وأن أفلاطون اتخذ اسم بروتاغوراس عنوانًا لها، وكل قصده أن يبرزها في صورة قوية.

٢٤ – غورغياس

أ – ولد في لونثيوم من أعمال صقلية، وأخذ العلم عن أنبادوقليس واشتغل بالطبيعيات مثله، وعني باللغة والبيان؛ فكان أفصح أهل زمانه وأبلغهم، قدم أثينا سنة ٤٢٧ يستنصرها باسم مدينته على أهل سراقوصة، فخلب ألباب الأثينيين ببلاغته، ويصوره أفلاطون في الحوار المعنون باسمه مفاخرًا بمقدرته على الإجابة عن أي سؤال يلقى عليه، مات في تساليا، وقد قاربت سنه المائة أو جاوزتها وعظم صيته وضخمت ثروته.

ب – وضع كتابًا «في اللاوجود» قصد به إلى التمثيل لفنه والإعلان عن مقدرته بالرد على الإيليين والتفوق عليهم في الجدل، وتتلخص أقواله في قضايا ثلاث؛ الأولى: لا يوجد شيء. الثانية: إذا كان هناك شيء فالإنسان قاصر عن إدراكه. الثالثة: إذا فرضنا أن إنسانًا أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره من الناس. أما عن الأولى فيقول: اللاوجود غير موجود من حيث إنه لا وجود، والوجود غير موجود كذلك؛ فإن هذا الوجود إما أن يكون قديمًا أو حادثًا، فإن كان قديمًا فهذا يعني أنه ليس له مبدأ وأنه لا متناهٍ ولكنه محوي بالضرورة في مكان، فيلزم أن مكانه مغاير له وأعظم منه، وهذا يناقض كونه لا متناهيًا وإذن فليس الوجود قديمًا، أما إن كان حادثًا فإما أن يكون قد حدث بفعل شيء موجود أو بفعل شيء غير موجود، ففي الفرض الأول لا يصح أن يقال: إنه حدث؛ لأنه كان موجودًا في الشيء الذي أحدثه فهو إذن قديم، وفي الفرض الثاني الامتناع واضح. وأما عن القضية الثانية فإنه يقول: لكي نعرف وجود الأشياء يجب أن يكون بين تصوراتنا وبين الأشياء علاقة ضرورية هي علاقة المعلوم بالعلم؛ أي أنْ يكون الفكر مطابقًا للوجود وأن يوجد الوجود على ما نتصوره، ولكن هذا باطل فكثيرًا ما تخدعنا حواسنا وكثيرًا ما تركب المخيلة صورًا لا حقيقة لها. وأما عن القضية الثالثة فترجع حجته إلى أن وسيلة التفاهم بين الناس هي اللغة، ولكن ألفاظ اللغة إشارات وضعية؛ أي رموز، وليست مماثلة للأشياء المفروض علمها، فكما أن ما هو مدرك بالبصر ليس مدركًا بالسمع والعكس بالعكس، فإن ما هو موجود خارجًا عنا مغاير للألفاظ، فنحن ننقل للناس ألفاظنا ولا ننقل لهم الأشياء، فاللغة والوجود دائرتان متخارجتان5.

ج – هذا مثال من عبث السوفسطائيين، ومهما يُقَلْ من أنهم أخرجوا الثقافة من المدارس الفلسفية ونشروها في الجمهور وأنهم مهدوا للمنطق وللأخلاق؛ فقد كادوا يقضون على الفلسفة لولا أن أقام الله سقراط ينتشلها من هذه الورطة المهلكة.


  1. في محاورة «تيتياتوس» ص١٥٢.
  2. لهذا دعا الإسلاميون مذهبه بالعندية: رأي كل فرد حق «عنده» وبالقياس إليه.
  3. محاورة «تيتياتوس» ص١٦٦–١٦٨.
  4. ما بعد الطبيعة م٤ ف٥.
  5. انظر الكتاب المنسوب إلى أرسطو: «في مليسوس وأكسانوفان وغورغياس» ف٥ و٦. ويسمي الإسلاميون موقفه بالعنادية: ما من قضية إلا ولها معارضة بمثلها قوة.