تجارب الأمم/المجلد الرابع

  ►المجلد الثالث المجلد الرابع المجلد الخامس ◄  


[ تتمة تجارب العصر العباسي ]

[ تتمة خلافة هارون الرشيد ]

 

والحمد لله واهب العقل

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

وفيها قوى رافع بن الليث واشتدّت شوكته

وقد ذكرنا قبل هلاك ابن عليّ بن عيسى: ولمّا قتل ابنه، خرج من بلخ حتى أتى مرو، مخافة أن يصير إليها رافع بن الليث فيستولى عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ مالا عظيما قيل: إنّه كان ثلاثين ألف ألف درهم، ولم يعلم بها عليّ بن عيسى ولا اطّلع على ذلك إلّا جارية كانت له.

فلمّا شخص عليّ عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدّث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها فدخلوا البستان وانتهبوه وأباحوه للعامّة وبلغ الرشيد الخبر فقال:

« خرج عليّ عن بلخ عن غير أمري وخلّف مثل هذا المال وهو يزعم أنّه قد أفضى إليّ حلى نساءه فيما أنفق على محاربة رافع. » فعزله عند ذلك وولّى هرثمة بن أعين واستصفى أموال عليّ بن عيسى، فبلغت ثمانين ألف ألف. ووردت خزائنه التي أخذت على الرشيد، فكانت على ألف وخمسمائة بعير.

وكان عليّ بن عيسى قد أذلّ جبابرة أهل خراسان وأشرافهم، حتى خرج منهم مثل الحسن بن مصعب إلى مكّة واستجار بالرشيد من عليّ بن عيسى فأجاره، وأظهر مثل هذا هشام بن فرخسروا، أنّ الفالج قد أصابه حتى أمكنه لزوم منزله. وكانت كتب حمويه وردت على هارون: أنّ رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وأنّ غايتهم عزل عليّ بن عيسى الذي سامهم المكروه.

ولمّا عزم الرشيد على عزل عليّ بن عيسى دعا هرثمة بن أعين مستخليا به فقال:

« إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سرّى فيك غيرك، وقد اضطرب عليّ ثغر المشرق وأنكر أهل خراسان أمر عليّ بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمدّ ويستجيش وأنا كاتب إليه فأخبره أنّى أمدّه بك وأوجّه إليه معك من الأموال والسلاح والقوّة والعدّة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلّع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطّى فلا تفضّنّه ولا تطلعنّ فيه حتى تصير إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله، ولا تجاوزه إن شاء الله.

« وأنا موجّه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى عليّ بن عيسى بخطّى ليتعرّف ما يكون منك ومنه ومورّ عنه أمر عليّ فلا تظهرنّه عليه ولا تعلمنّه ما عزمت عليه فيه وتأهّب للمسير واظهر لخاصّتك وعامتك أنّى أوجّهك مددا لعليّ بن عيسى وعونا له. » ثم كتب إلى عليّ بن عيسى كتابا بخطّه نسخته:

« بسم الله الرحمن الرحيم يا ابن الزانية، رفعت من قدرك ونوّهت باسمك وأوطأت سادة العرب عقبك وجعلت أبناء ملوك العجم خولك، وكان من جزائي أن خالفت عهدي ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عشت في الأرض وظلمت الرعيّة وأسخطت الله عز وجل وخليفته بسوء سيرتك ورداءة طعمتك وظاهر خيانتك. وقد ولّيت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدّد وطأته عليك وعلى ولدك وكتّابك وعمّالك ولا يترك وراء ظهورهم درهما واحدا ولا حقّا لمسلم ولا معاهد إلّا أخذكم به، حتى تردّه إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمّالك، فله أن يبسط عليكم العذاب ويصبّ عليكم السياط ويحلّ بكم ما يحلّ بمن نكث وغيّر وبدّل وخالف وظلم وتعدّى وغشم، انتقاما لله بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا فلا تعرّض نفسك للّتى لا سوى لها، واخرج ممّا يلزمك طائعا أو مكرها. » وكتب عهد هرثمة بخطّه:

« هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه. أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله وموافقته وأن يجعل لكتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقف عند متشابهه ويسأل عنه أولى الفقه في دين الله وأولى العلم بكتاب الله أو يردّه إلى إمامه ليريه الله فيه رأيه ويعزم له على رشده.

« وأمره أن يستوثق من الفاسق عليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه وأن يشدّ عليهم وطأته ويحلّ بهم سطوته ويستخرج منهم كلّ مال يصحّ عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحقّ كلّ ذي حقّ، حتى يردّوه إليه، فإن ثبت قبلهم حقّ لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين فدافعوا بها أو جحدوها، أن يصبّ عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي أن تخطّاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم. فإذا خرجوا من حقّ كلّ ذي حقّ أشخصهم كما يشخص العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله.

« فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك فإني آثرت الله وديني على هواى وإرادتى فكن كذلك وعليه فليكن عملك وأمرك ودبّر في أعمال الكور التي تمرّ بها وعمّالها في صعودك بما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظنّ يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانيهم وعذرهم ثم اعمل بما يرضى الله فيك وخليفته ومن ولّاك الله أمره إن شاء الله.

« هذا عهدي وكتابي بخطّى وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكّان سماواته وكفى بالله شهيدا. وكتب أمير المؤمنين بخطّه ولم يحضره إلّا الله وملائكته. » ثم أمر أن تكتب كتب هرثمة إلى عليّ بن عيسى في معاونته وتقويته وتقوية أمره والشدّ على يديه، فكتبت وظهر الأمر بها.

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

وفيها شخص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها

وكان ذلك في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له الرشيد عهده، وشيّعه الرشيد وأوصاه بما احتاج إليه. فمضى وبعث إلى عليّ بن عيسى في الظاهر أموالا وسلاحا وخلعا وطيبا، حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من نصحاء أصحابه وأولى السنّ والتجربة منهم فدعا كلّ رجل منهم، سرّا وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره ويطووا سرّه. وولّى كلّ رجل كورة على نحو ما كانت منزلته عنده، وأمر كلّ رجل منهم بعد أن دفع إليه عهده بالمصير إلى عمله الذي ولّاه على أخفى الحالات وأسترها والتشبّه بالمجتازين في ورودهم إلى الوقت الذي سمّاه لهم. ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه وكتب لهم أسماء ولد عليّ بن عيسى وأهل بيته وكتّابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كلّ رجل منهم رقعة باسم من وكّله بحفظه إذا هو دخل عليه مرو، خوفا من أن يهربوا إذا ظهر أمره.

ثم وجّه إلى عليّ بن عيسى: إن أحبّ الأمير - أكرمه الله - أن يوجّه ثقاته لقبض ما معي من أمواله فعل فإنّه إذا تقدّمنى المال كان أروح لقلبي وأفتّ في عضد أعدائه وأجدر ألّا يشيع به الخبر. وأيضا فإني لا آمن عليه إن خلّفته وراء ظهري أن يطمع فيه بعض من شئموا نفسه أن يقتطع بعضه ويغتنم غفلتنا عند دخول المدينة.

فوجّه عليّ بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال وقال هرثمة لخزّانه:

« اشغلوهم هذه الليلة وأعلّوا عليهم بعلّة تقرب من أطماعهم وتزيل الشكّ عن قلوبهم. » ففعلوا وقال لهم الخزّان: حتى نؤامر أبا حاتم في دوابّ المال والبغال.

ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلمّا صار منها على ميلين تلقّاه عليّ بن عيسى في ولده وأهل بيته وقوّاده بأحسن لقاء وآنسه. فلمّا وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابّته فصاح به عليّ:

« والله لئن نزلت لأنزلنّ. » فثبت على سرجه ودنا كلّ واحد من صاحبه فاعتنقا وسارا وعليّ يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيأته وحال خاصّته وقوّاده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه حتى إذا صار إلى قنطرة لا يجوزها إلّا فارس. فحبس هرثمة لجام دابّته وقال لعليّ:

« سر على بركة الله. » فقال عليّ:

« لا والله لا أفعل حتى تمضى أنت. »

فقال: « إذا والله لا أمضى وأنت الأمير وأنا الوزير. » فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصار إلى منزل عليّ ورجاء الخادم ما يفارق هرثمة في ليل ولا نهار ولا ركوب ولا جلوس. فدعا عليّ بالغداء فطعما، وأكل رجاء الخادم معهما، وكان عازما ألّا يأكل معهما. فغمزه هرثمة فلمّا رفع الطعام قال له عليّ:

« قد أمرت أن يفرّغ لك قصر على الماشان فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. » فقال له هرثمة:

« إنّ معي من الأمور ما لا يحتمل تأخير المناظرة فيها. » ثم أومأ إلى رجاء وقال:

« ادفع الكتاب إليه. » فأخرج رجاء كتاب الرشيد فدفعه إليه وأبلغه رسالته. فلمّا فضّ الكتاب فنظر في أوّل حرف فيه، سقط في يده وعلم أن قد حلّ به ما يحذره. ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتّابه وعمّاله، وقد كان حصّل عنده ثقاته وجهابذته وخزّانه، ووكّل بهم - كما حكينا - قبل دخوله مرو، وكان معه رجل يصحبه وقر قيود وأغلال فلمّا استوثق منه صار إلى المسجد، الجامع فخطب وبسط من آمال الناس وأخبر أنّ أمير المؤمنين ولّاه ثغورهم لمّا انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق عليّ بن عيسى، وما أمرنى به وفي أعوانه من كلّ ما سأنتهى إليه، ومن إنصاف العامّة والخاصّة وحملهم على الحقّ، وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهر الناس السرور بذلك وانفسحت آمالهم وعظم رجاؤهم وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.

ثم انصرف ودعا بعليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه فقال:

« اكفوني مؤنكم واعفونى من الإقدام بالمكروه عليكم. » ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمّة من رجل كانت لعليّ عنده وديعة، ولأحد من ولده أو كتّابه أو عمّاله فأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلّا رجلا من أهل مرو، وكان من أبناء المجوس، فإنّه لم يزل يتلطّف للوصول إلى عليّ حتى صار إليه فأسرّ إليه وقال:

« لك عندي مال فإن احتجت إليه حملت إليك أوّلا أوّلا وصبرت للقتل إيثارا للوفاء وطلبا للجميل من الثناء، وإن استغنيت عنه، حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. » فعجب عليّ منه وقال:

« لو اصطنعت مثلك قوما ما طمع فيّ السلطان ولا الشيطان أبدا. » ثم سأل عن قيمة ما عنده. فذكر أنّه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنّه لا يدرى ما قيمة ذلك، غير أنّ ما أودعه بخطّه وأنّه محفوظ لم يشذّ منه شيء فقال له:

« دعه فإن ظهر عليه، سلّمته ونجوت بنفسك وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. » وجزاه الخير وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبرّه. وكان يضرب به المثل وبوفائه. فذكر أنّه لم يشذّ على هرثمة من مال عليّ بن عيسى إلّا ما كان أودعه هذا الرجل، وكان يقال له: العلاء بن ماهيار، فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حليّ نسائهم وحتى أنّ الرجل كان يضرب يده إلى مغابن المرأة وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظنّ أنها قد سترته.

فلمّا أحكم هذا كلّه وجّهه على بعير لا وطاء تحته، في عنقه سلسلة وفي رجليه قيود ثقال، ما يقدر معها على نهوض واعتمال. ويقال أنّه لمّا فرغ هرثمة من مطالبة عليّ بن عيسى وأولاده، أقامهم لمظالم الناس، وكان إذا برد للرجل عليه حقّ أو على أحد أولاده أو أصحابه قال:

« اخرج للرجل من حقّه وإلّا بسطت عليك العذاب، فيقول عليّ: أصلح الله الأمير أجّلنى يوما أو يومين. فيقول: ذاك إلى صاحب الحقّ، فإن شاء فعل. فيقبل على الرجل فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال: نعم قال:

فانصرف وعد إليه. فيبعث عليّ إلى العلاء بن ماهيار فيقول: صالح فلانا عني من كذا وكذا على كذا وكذا وعلى ما رأيت فيصالحه ويصلح أمره.

وذكر أنّه قام إلى هرثمة رجل فقال:

« أصلح الله الأمير إنّ هذا الفاجر أخذ مني درقة تبتية لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانه أطلب ثمنها فلم يعطني، فأقمت حولا أنتظر ركوبه، فلمّا ركب عرضت له وصحت: أيّها الأمير، أنا صاحب الدّرقة ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية. فقذف أمي ولم يعطني حقّى، فخذ لي بحقّى من ماله وقذفه أمي. » فقال: « بيّنة؟ » قال: « جماعة حضروا كلامه. » فأحضرهم فشهدوا على دعواه. فقال هرثمة:

« وجب عليك الحدّ. » قال: « ولم؟ » قال: « بقذفك أمّ هذا. » قال: « من فهّمك وعلّمك هذا؟ » قال: « هذا دين المسلمين. » قال: « فأشهد أنّ أمير المؤمنين قد قذفك غير مرّة ولا مرتين وأشهد أنّك قد قذفت بنيك ما لا أحصى، مرّة حاتما ومرّة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك، ومن يأخذ من مولاك؟ » قال: فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة فقال:

« أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذف أمّك. »

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

وفيها قدم هارون من الرقّة إلى مدينة السلام في السفن يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع واستخلف ابنه محمّدا بمدينة السلام واستخلف ابنه القاسم بالرقّة وضمّ إليه خزيمة بن خازم فأشار ذو الرئاستين على المأمون أن يطلب إلى الرشيد في أن يشخصه معه.

ذكر رأي سديد رءاه ذو الرئاستين

قال له: إنّ أمير المؤمنين شاخص لحرب رافع ولا يدرى ما يحدث به وخراسان ولايتك ومحمّد المقدم عليك وإنّ أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم وزبيدة وأموالها [ ردء له. ] فاطلب إليه يشخصك معه فسأله الأذن فأبى فقال له:

« عد إليه وقل: له أنت عليل وإنّما أردت أن أخدمك ولست أكلّفك شيئا من مؤنى. » فأذن له.

ذكر منام عجيب رءاه الرشيد

قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقّة، وكنت أوّل من يدخل عليه في كلّ غداة أتعرّف حاله في ليلته، فإن أنكر شيئا وصفه، وربّما انبسط فحدّثني بما عمله في ليلته ومقدار شربه وجلوسه، ويسألنى عن أخبار العامّة. فدخلت يوما فلم يرفع طرفه إليّ، ورأيته مفكّرا مهموما، فوقفت بين يديه مليّا. فلمّا طال ذلك أقدمت عليه فقلت:

« يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك، ما حالك؟ أعلّة فأخبرني بها فلعلّ عندي دواءها، أو حادث لا يستطاع دفعه فليس إلّا التسليم، والغمّ لا درك فيه أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك فتروّح بالمشورة. » قال: « ويحك يا جبرائيل ليس غمّى لشيء ممّا ذكرت، لكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتنى وملأت صدري. » قلت: « فرّجت عني يا أمير المؤمنين. » فدنوت وقبّلت رجله وقلت:

« أهذا الغمّ كلّه لرؤيا؟ والرؤيا إنّما تكون من خاطر تقدم أو بخارات رديئة من أطعمة وأخلاط ومن تهاويل السوداء. » قال: « فأقصّها عليك: رأيت كأنّى جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكفّ أعرفها ولا أفهم اسم صاحبها، وفي الكفّ تربة حمراء. فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه:

« هذه التربة التي تدفن فيها. » فقلت: « وأين هي؟ » قال: « بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام وانتبهت. » فقلت: « يا سيّدي هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أظنّك أخذت مضجعك ففكّرت في أمر خراسان وفي حروبها وما ورد عليك من انتقاض بعضها. » قال: « قد كان ذاك. » قلت: « فذلك الفكر ولّد هذه الرؤيا، ولا تحفل بها جعلني الله فداءك وأتبع هذا الهمّ سرورا يخرجه من قلبك لا يولّد علّة. » قال: فما برحت أطيّب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط وأمر بإعداد ما يشتهيه وتزيّد في ذلك اليوم في لهوه ومرّت الأيّام فنسي ونسينا تلك الرؤيا.

ثم رحل الرشيد وكان اتهم هرثمة بن أعين فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد بن مزيد وجماعة أمثالهم وابتدأ بهارون المرض وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع وقعة فتح فيها بخارى وأسر أخا لرافع يقال له بشير بن الليث فبعث به إلى الرشيد وقد بلغ الرشيد طوس.

قال: فأدخل إليه وهو على سرير في بستان وفي يده مرآة ينظر فيها وهو يقول:

« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » وكأنّه كان أنكر شيئا من لونه. ثم رفع رأسه إلى أخي رافع وقال:

« أما والله يا ابن اللخناء إني لأرجو ألّا يفوتني خامل يريد رافعا كما لم تفتني. » فقال له:

« يا أمير المؤمنين قد كنت لك حربا وقد أظفرك الله بي، فافعل ما يحبّ الله من الصلح والعفو، فلعلّ الله أن يليّن قلب رافع إذا علم أنّك قد مننت عليّ. » فغضب وقال:

« لو لم يبق من أجلى إلّا أن أحرّك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. » ثم دعا بقصّاب فقال له:

« لا تشحذ مديتك، اتركها على حالها وفصّل أعضاء هذا الفاسق وعجّل، لا يحضرنّ أجلى وعضوان من أعضائه في جسمه. » ففصّله حتى جعله أشلاء فقال:

« عدّوا أعضائه. » فإذا هي أربعة عشر عضوا فرفع يديه إلى السماء وقال:

« اللهم كما مكّنتنى من ثأرك وعدوّك فبلغت فيه رضاك، فمكّنى من أخيه. »

ثم أغمى عليه وتفرّق من حضره.

قال جبرائيل: فلمّا أفاق، ذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملا يقوم ويسقط فاستمعنا إليه، كلّ يقول:

« يا سيّدي ما حالك وما دهاك؟ » وليس يخطر لأحد منّا تلك الرؤيا ببال فقال:

« يا جبرائيل تذكر رؤياى بالرقّة في طوس؟ هذه طوس، وأحسبها تلك التربة. » ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال:

« جئني من تربة هذا البستان. » فمضى مسرور فأتى بالتربة في كفّه حاسرا عن ذراعه. فلمّا نظر إليه قال:

« هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه والله الكفّ بعينها وهذه والله التربة الحمراء ما حرمت شيئا. » وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بعد ثالثة، ودفن في ذلك البستان.

وتحدّث سهل بن صاعد قال: كنت عند الرشيد في اليوم الذي قبض فيه، مع خواصّه، وجعل يجود بنفسه ويقاسى كرب الموت، فدعا بملحفة فاحتبى بها، فنهضت فقال لي:

« أقعد يا سهل. » فقعدت، وجعل لا يكلّمني والملحفة تنحلّ فيعيد الاحتباء بها. فلمّا طال جلوسي نهضت فقال:

« إلى أين يا سهل؟ » فقلت: « يا أمير المؤمنين ما يتسع قلبي أن أراك تعانى، من العلّة ما تعانى فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أودع لك. » قال: فضحك ضحك صحيح، ثم قال:

« يا سهل، إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:

وإني لمن قوم كرام تزيدهم ** شماسا وصبرا شدّة الحدثان

وتوفّى ليلة الأحد غرّة جمادى الأولى، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين، وكان سنّه سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وأيّام، وكان جميلا وسيما جعدا قد وخطه الشيب.

ذكر بعض سيرة الرشيد ومستحسن أخباره

ذكر عن يحيى بن خالد أنّه ولّى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد فودّعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى. فقال الرشيد ليحيى وجعفر:

« أوصياه. » فقال له يحيى: « وفّر واعمر. » وقال له جعفر: « أنصف وانتصف. » فقال له الرشيد: « اعدل واحمل. » وحكى بعض حجبة البيت، قال: لمّا حجّ الرشيد دخل الكعبة وقام على أصابعه وقال:

« يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإنّ لكلّ مسألة منك ردّا حاضرا وجوابا عتيدا، ولكلّ صامت منك علم محيط باطن بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وآله، واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا، يا من لا تضرّه الذنوب ولا تخفى عليه العيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات، يسألونك الحاجات، إنّ من حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفّيتنى وصرت في لحدي، وتفرّق عني أهلى وولدي.

اللهم لك الحمد حمدا يفضل كلّ حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صلّ على محمّد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له حرزا، واجزه عنّا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء وتوفّنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين. » وذكر الفضل بن الربيع أنّ الرشيد أمره أن يحضر ابن السمّاك ليعظه قال: وأحضرته واستأذنته في الدخول إليه فقال:

« أدخله. » فلّما دخل قال له:

« عظني. » قال: « يا أمير المؤمنين، اتقّ الله وحده لا شريك له واعلم أنّك موقوف غدا بين يدي ربّك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما: جنّة أو نار. » فبكى هارون حتى اخضلّت لحيته.

فأقبل الفضل على ابن السمّاك فقال:

« سبحان الله وهل يتخالج أحدا شكّ أنّ أمير المؤمنين مصروف إلى الجنّة، إن شاء الله، لقيامه بحقّ الله وعدله في عباده وفعله. » قال: فلم يحفل بذلك ابن السمّاك ولم يلتفت إليه، وأقبل على الرشيد فقال:

« يا أمير المؤمنين إنّ هذا - يعنى الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتّق الله وانظر لنفسك. » قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه، وافحم الفضل فلم ينطق بحرف.

واستدعاه يوما آخر، فبينا هو عنده إذ استسقى الرشيد ماء فلمّا حمل إليه وأهوى بالاناء إلى فيه، قال له ابن السمّاك:

« على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله ، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشترى؟ » قال: « بنصف ملكي. » قال: « اشرب هنّأك الله. » فلمّا شربها قال:

« فأسألك بقرابتك من رسول الله لو منعت خروجها من بدنك بما ذا كنت تشتريها؟ » قال: « بجميع ملكي. » قال ابن السمّاك:

« إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه. »

فبكى هارون حتى أشار الفضل إلى ابن السمّاك بالانصراف، فانصرف.

وذكر بعضهم أنّهم كانوا مع الرشيد بالرقّة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النسّاك، فقال:

« يا هارون اتق الله. » فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك:

« خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف. » فلمّا رجع دعا بغذائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاصّ طعامه.

فلمّا أكل وشرب دعا به فقال:

« يا هذا أنصفنى في المخاطبة والمسألة. » قال: « ذاك أقلّ ما تحبّ. » قال: « فأخبرني أنا شرّ وأخبث أم فرعون؟ » قال: « بل فرعون. » قال، قال:

« أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. » وقال: « ما عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلهٍ غَيْرِي. » قال: « صدقت. » قال: « فأخبرني، فمن خير، أنت أم موسى بن عمران؟ » قال: « موسى بن عمران كليم الله وصفيّه اصطنعه لنفسه وائتمنه على خلقه. »

قال: « صدقت أفما تعلم أنّه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما:

فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا. فذكر المفسرون أنّه أمرهما أن يكنّياه، وهذا وهو في عتوّه وجبريّته على ما قد علمت، وأنا بهذه الحال الذي علمت، أؤدّى أكثر فرائض الله عليّ ولا أعبد أحدا سواه أقف عند أكثر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدّبت ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيّا. » فقال له الزاهد:

« أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا أستغفر الله. » قال: « غفر الله لك. » وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال:

« لا حاجة لي في المال، أنا رجل سائح. » فقال هرثمة وزجره:

« تردّ على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟ » فقال الرشيد:

« أمسك عنه. » ثم قال له:

« لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألّا يخاطب أحد الخليفة ليس من أوليائه ولا من أعدائه، إلّا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت وضعها حيث أحببت. » فأخذ من المال ألفى درهم وفرّقها على الحجّاب ومن حضر بالباب.

وحكى أنّ الرشيد قال يوما لابنه القاسم وقد دخل عليه:

« ليت للمأمون بعض لحمك هذا. » فقال: ببعض حظّه.

وقال يوما للقاسم قبل البيعة له:

« قد أوصيت بك الأمين والمأمون. » قال: « أما أنت يا أمير المؤمنين، فقد تولّيت النظر لهما، ووكّلت النظر لي إلى غيرك. » ومات هارون وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف آلاف ونيّف.

خلافة الأمين

وكتب حمّويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى سلام مولاه وخليفته ببغداد على البريد وعلى الاخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزّاه وهنّأه بالخلافة، وكان أوّل الناس فعل ذلك. ثم قدم عليه رجاء الخصّى يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وكان أنفذه صالح بن الرشيد، فانتقل محمد من قصره بالخلد إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلّى بهم، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم خيرا وبسط الأمان للأسود والأبيض، وبايعه جلّة أهل بيته وخاصّته ومواليه وقوّاده.

ثم دخل ووكّل ببيعته على من بقي منهم عمّه سليمان بن أبي جعفر.

بدء الخلاف بين الأمين والمأمون

وفي هذه السنة كان بدأ الخلاف بين الأمين والمأمون وعزم كلّ واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهم العمل به في الكتاب الذي ذكرناه أنّه كان كتب بينهما.

ذكر السبب الذي أوجب اختلافهما

كان الرشيد جدّد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القوّاد الذين معه وأشهد من معه من القوّاد وسائر الناس غيرهم أنّ جميع من معه من القوّاد والجند مضمومون إلى المأمون وأنّ جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلمّا بلغ محمدا الأمين أنّ أباه قد اشتدّت علّته وأنّه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كلّ يوم وأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها في قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر وقال:

« لا يظهرنّ أمير المؤمنين ولا أحد ممّن في عسكره على شيء من أمرك وما توجّهت فيه ولا على ما معك ولو قتلت، حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. » فلمّا قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به فسأله:

« ما أقدمك؟ » قال: « بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به. » قال: « فهل معك كتاب؟ » قال: « لا. »

فأمر بما معه، ففتّش فلم يصيبوا معه شيئا. فتهدّده بالضرب فلم يقرّ بشيء، فأمر به فحبس وقيّد. فلمّا كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرّره، فإن أقرّ وإلّا ضرب عنقه، فصار إليه يقرّره فلم يقرّ بشيء. ثم غشى على هارون فصاح النساء فأمسك الفضل عن قتله وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق وهو ضعيف قد شغل عن بكر وعن غيره لحسّ الموت، ثم غشى عليه غشية ظنّوا أنّها هي، وارتفعت الصيحة فأرسل بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله ألّا يعجلوا بأمر، ويعلمه أنّ معه أشياء يحتاجون إلى علمها.

وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم.

فلمّا توفّى هارون دعا الفضل ببكر في الوقت والساعة فسأله عمّا عنده فأنكر أن يكون عنده، شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيّا، حتى صحّ عنده موت هارون، وأدخله عليه فأخبره أنّ عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد وأنّه لا يجوز له إخراجها وهو على حاله من قيوده وحبسه.

فأطلقه الفضل فأتاهم بالكتب في قوائم المطابخ المجلّدة بجلود البقر، فدفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى الحسين الخادم بخطّه يأمره بتخلية سبيل بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده لغيبته بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد وكان مع أبيه بطوس وكان أكبر من يحضره هارون من ولده، فأتاهم في تلك الساعة فسألهم عن أبيه هارون فأعلموه.

فجزع جزعا شديدا، ثم دفعوا كتاب أخيه الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا غسله وتجهيزه وصلّى عليه ابنه صالح.

ولمّا قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القوّاد والجند وأولاد هارون فتشاوروا في اللحاق بمحمد وأحبّوه لأجل أهاليهم ومنازلهم.

وقال الفضل بن الربيع:

« لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا ندري ما يكون من أمره. » وأمر الناس الناس بالرحيل.

فوافقهم ذلك وسرّوا به وتركوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون.

فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قوّاد أبيه وكان فيهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعبّاس بن مسيّب بن زهير وهو على شرطته وأيّوب بن أبي سمير، ومعه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرئاستين عنده من أعظم الناس قدرا فشاورهم.

ذكر آراء أشير بها على المأمون في تلك الحال

فأشار عليهم أكثرهم أن يلحقهم بنفسه في ألفى فارس جريدة، فيردّهم، فعمل على ذلك وسمّى له قوما فدخل عليه ذو الرئاستين فقال له:

« إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلك هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجّه إليهم رسول فتذكّرهم البيعة، وتسألهم الوفاء وتحذّرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا. » وقال: قلت له:

« إنّ كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم وتوجّه سهل بن صاعد - وكان على قهرمته - فإنّه يأملك ويرجو أن ينال أمله فلن يألوك نصحا، وتوجّه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين. »

وكان عاقلا. فكتب كتابا ووجّههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل. قال سهل بن صاعد: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه فقال:

« إنّما أنا واحد منهم. » قال سهل: فشدّ عليّ عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى بالرمح. فأمرّه على جبيني ثم قال لي:

« قل لصاحبك والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك. هذا جوابي. » قال ذو الرئاستين: فقلت للمأمون:

« أعداء قد استرحت منهم ولكن افهم عني ما أقول لك إنّ هذه الدولة لم تكن قطّ أعزّ منها أيّام المنصور أبي جعفر، فخرج عليهم المقنّع وهو يدّعى الربوبية، وقال بعضهم طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع له بخروجه من بخراسان، ثم كفاه الله المؤونة، ثم خرج بعده يوسف البرم، وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفاه الله المؤونة، ثم خرج اشادشنس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الريّ إلى نيسابور، فكفوا المؤونة، ولكن ما أصنع أكثر عليك، أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع. » قال: « رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا. » قلت: « فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم كيف يكون اضطراب أهل بغداد، اصبر فأنا أضمن لك الخلافة. » قال: « قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به. » قال: فقلت:

« والله لأصدقنّك أنّ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمّينا من الرؤساء إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك مني برئاستهم المشهورة، ولما عندهم من القوّة على الحرب. فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى يصير إلى محبّتك وترى رأيك فيّ. » قال: « نعم. » فلقيتهم في منازلهم، وذكّرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء، فتكرّهه الكلّ وقال بعضهم:

« هذا لا يحلّ، أخرج. » وقال بعضهم:

« من يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟ » فجئت فأخبرته فقال:

« قم بالأمر. » قال: قلت:

« قد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقّهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحقّ والعمل به وإحياء السنّة وتقعد على اللبود وتردّ المظالم. » ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء وأكرمنا القوّاد وأبناء الملوك. فكنّا نقول للتميميّ:

نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ونقول لليماني: نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم، حتى استملنا قلوب الرؤساء والملوك وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذاك وسرّوا به، وقالوا:

« ابن أختنا وابن عمّ النبي . » قال: فكان شغلنا بهذا وأشباهه.

فأمّا الأمين فإنّه اشتغل باللعب وأمر ببناء حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، وأخذنا نحن في الجدّ، ورأى المأمون أن يهادي أخاه، فبعث له بهدايا وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم وإهداء طرف خراسان.

ودخلت سنة أربع وتسعين ومائة

وفي هذه السنة عزل محمد الأمين أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولّاه من عمل الشام وقنّسرين والعواصم والثغور، وولّى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام.

وفيها أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالأمرة.

وفيها تنكّر كلّ واحد من محمد الأمين وعبد الله المأمون لصاحبه وظهر الفساد بينهما.

سبب ظهور الفساد بين الأمين والمأمون

وكان السبب في ذلك أنّ الفضل بن الربيع فكّر بعد مقدمه إلى العراق ناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذ بها عليه لابنه المأمون، فعلم أنّ الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما من الدهر وهو حيّ لم يبق عليه، وكان في ظفره به عطبه. فسعى في حثّ محمد على خلعه وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأى محمد ولا عزمه. فأدخل معه في الرأي عليّ بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما، فصغّروا شأن عبد الله المأمون عند الأمين، وقال له الفضل:

« يا أمير المؤمنين اخلع عبد الله والقاسم، فإنّ البيعة كانت لك متقدّمة وإنّما أدخلا فيها بعدك. »

وعلم المأمون أنّ عزل الأمين للقاسم وأخيه وإقدامه مدينة السلام وأمره للدعاء لابنه موسى بالأمرة ومكاتبته الأمصار بذلك، تدبير عليه في خلعه.

فقطع البريد عن محمد وأسقط اسمه من الطّرز ودور الضرب.

وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار لمّا انتهى إليه حسن سياسة المأمون وسيرته في رعيّته، بعث في طلب الأمان لنفسه، وكان هرثمة يجاريه. فلمّا طلب الأمان سارع هرثمة إليه وخرج رافع فلحق بالمأمون وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعا، وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين. ثم استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فأذن له فتلقّاه الناس، وولّاه المأمون الحرس، فأنكر ذلك الأمين وكتب إلى العبّاس بن عبد الله بن مالك - وكان عامل المأمون على الريّ وهو آخر حدّه من خراسان -، يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الريّ، وأراد امتحانه. فبعث إليه بما أمره وكتم ذلك المأمون وذا الرئاستين، فبلغ ذلك المأمون فعزله.

ثم وجّه الأمين إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلا: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلّى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك وكتب معهم كتابا فبلغ الخبر بذلك ذا الرئاستين فوجّه رسولا وكتب إلى صاحب الريّ: أن استقبلهم بالعدّة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والى قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك، ففعلوا. ثم وردت الرسل مرو وقد أعدّ لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد.

ثم صاروا إلى المأمون فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه ويذكر أنّه سمّاه الناطق بالحقّ، فردّ المأمون ذلك وأباه. فقال العبّاس بن موسى بن عيسى:

« ما عليك أيّها الأمير من ذلك فهذا جدّى عيسى بن موسى قد خلع نفسه فما ضرّه ذلك ولا طاب عيشه إلّا بعد الخلع. » قال: فصاح عليه ذو الرئاستين قال:

« اسكت فإنّ جدّك كان في أيديهم أسيرا، وهذا بين شيعته وأخواله وعشيرته. » قال ذو الرئاستين: فأعجبنى ما رأيت من ذكاء العبّاس بن موسى، فخلوت به وقلت:

« يذهب عليك في فهمك وذكائك أن تأخذ بحظّك من الإمام. » قال: وسمّى المأمون في ذلك اليوم: الإمام ولم يسمّ بالخلافة، وإنّما سمّى بذلك لما جاءه من خلع محمد له. قال: فقال لي العبّاس:

« وقد سمّيتموه: الإمام. » قال: قلت:

« قد يكون إمام المسجد والقبيلة فإن وفيتم لم يضرّكم اسمه، وإن غدرتم فهو ذاك. » ثم قلت للعباس:

« لك عندي ولاية الموسم، فلا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأموال بمصر ما شئت. » قال: فما برح حتى أخذت عليه البيعة للمأمون بالخلافة. فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي.

ومضى القوم منصرفين إلى محمد فأخبروه بامتناعه. وألحّ الفضل بن الربيع وعليّ بن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون.

وبذل الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسمّاه: الناطق بالحقّ، وأحضنه عليّ بن عيسى وولّاه العراق وأسقط ذكر عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن من المنابر، ووجّه رسولا إلى مكّة فأخذ من الحجبة الكتابين اللذين كان هارون اكتتبهما وجعلهما في الكعبة، وتكلّم في ذلك الحجبة فلم يحفل بهم وخافوا على أنفسهم، ومزّق الكتابين وأبطلهما.

وكان محمد الأمين كتب إلى المأمون قبل المكاشفة يسأله أن يتجاوز ويتجافى له عن كور من كور خراسان سمّاها له وأن يوجّه العمّال من قبل محمد وأن يحتمل رجلا من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلمّا ورد على المأمون الكتاب بذلك كبر عليه واشتدّ، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن فشاورهما فأحجما وقالا:

« الأمر مخطر ولك شيعة وبطانة وأهل ولاء. وكان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته وتألّف العدوّ فيما لا اكتتام له بمشاورته. »

ذكر آراء الناس فيما شاورهم فيه المأمون

ثم أحضر المأمون الخاصّة من الرؤساء والأعلام وقرأ عليهم الكتاب فقالوا جميعا:

« أيّها الأمير، شاورت في أمر خطير معضل، فاجعل لبديهتنا حظّا من الرويّة. » قال المأمون:

« هو الحزم. » وأجّلهم ثلثا:

ثم اجتمعوا فقال أحدهم:

« إنّك أيّها الأمير قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ تعجّل مكروه أوّلهما مخافة مكروه آخرهما. » وقال آخر:

« إذا كان الأمر مخطرا فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته. » وقال آخر:

« كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيّبا عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك، فإنّك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك. » وقال آخر:

« لئن خيفت للبذل عاقبة، إنّ أشدّ منها ما يبعث الإباء من الفرقة. » وقال آخر:

« لا أرى مفارقة منزلة السلامة فلعلّى أعطى معها العافية. » فقال الحسن بن سهل:

« قد وجب حقّكم باجتهادكم وإن كنتم معذورين، فإنّ رأيي مخالف لرأيكم. » فقال له المأمون:

« فناظرهم. » قال: « لذلك ما كان الاجتماع. » وأقبل عليهم الحسن فقال:

« هل تعلمون أنّ محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ » فقالوا: « نعم ويحتمل ذاك لما يخاف من ضرر منعه. »

قال: « فهل تثقون بأن يكفّ إذا أعطيناه ما سأل، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ » قالوا: « لا، ولعلّ سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقّع. » قال: « فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهّن بما بذل من نفسه فيها. » قالوا: « ندفع بمحذور الآجل محذور العاجل. » قال: « فإنّ الحكماء قبلنا قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض في مكروه يومك ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. » فأقبل المأمون على الفضل وقال:

« ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ » قال: « هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوّتك، ليستظهر بها غدا على مخالفتك، وهل يصير الخازم إلى فضله من عاجل الدعة بخطر يتعرّض له في العاقبة؟ بل إنّما أشار الحكماء بحمل ثقل عاجل، فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. » فقال المأمون:

« بإيثار دعة العاجل صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا وأمر آخرة. » قال القوم:

« قد قلنا بمبلغ الرأي والله للأمير بالتوفيق. » فقال: « اكتب يا فضل إليه:

« قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سمّاها، ممّا أثبته الرشيد في العقد لي، وجعل أمره إليّ وما أمر رآه أمير المؤمنين مما يتجاوز، غير أنّ الذي جعل إليّ الطرف الذي أنا به كان غير ظنين في النظر لعامّته ولا جاهل بما أسند إليّ من أمره. ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة ثم، كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدوّ مخوف الشوكة وعامّة لا تتألف عن هضمة، وأجناد لا تستتبع طاعتها إلّا بالأموال وطرف من الإفضال، لكان في نظر أمير المؤمنين لعامّته وما يجب من لمّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحقّ. وإني لأعلم أنّ أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إليّ، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان، إن شاء الله. » واستشار أيضا محمد أصحابه فيما همّ به.

ذكر آراء أشير بها على محمد الأمين

قال يحيى بن سلم وقد دعاه الأمين واستشاره:

« يا أمير المؤمنين كيف بذاك مع تأكيد الرشيد بيعته وأخذه الأيمان والمواثيق في الكتب؟ » فقال محمد:

« إنّ رأى الرشيد كانت فلتة من الخطأ شبّه عليه جعفر بن يحيى بسحره، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه [ معه ] إلّا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور ولا تصلح إلّا باجتثاثه والراحة منه. » فقال: « أمّا إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره فيستكبرها الناس وتستشنعها العامّة، ولكن تستدعى الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرّق ثقاته ومن معه وترغّبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع. فإذا وهنت قوّته ولم تبق له منّة أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه وإن أبي كنت قد تناولته وقد كلّ حدّه وهيض جناحه. » قال محمد:

« فأقطع أمرا كصريمة. أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأى مصيب، فزل عن هذا الرأي إلى رأى الشيخ الموفّق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك. » فقال يحيى:

« غضب يشوبه صدق وتجلبه نصيحة، أحبّ إليّ من رضا يخلطه جهل ويحمله جهل. » وبعث الفضل إلى أحد من رضى عقله ورأيه فاستشاره، فعظّم الرجل عليه أمر البيعة للمأمون، وقبّح الغدر والنكث. فقال الفضل:

« صدقت، ولكن عبد الله أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما عقده الرشيد وأمير المؤمنين يرى اليوم لنفسه ولرعيّته ما لم يره الرشيد يومئذ. » فقال: « أفتثبت الحجّة عند عامّة الناس بهذا الحدث الذي أحدثه المأمون كما تثبت الحجّة له بمأخوذ عهده؟ » قال: « لا. » قال: « أفحدث هذا الحدث عندكم ممّا يوجب نقض عهدكم ولم يكن حدث ولا كان معلوما. » قال: « نعم. » فقال الرجل ورفع صوته:

« تالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يشاور في دفع ملك في يده بالحجّة، ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة. » قال: فأطرق الفضل مليّا ثم قال:

« صدقتني الرأي، ولكن أخبرني إن نحن أغمضنا في قالة العامّة، ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ » قال: « أصلحك الله، وهل أجنادك إلّا من عامّتك في أخذ بيعتهم وتمكّن برهان الحقّ في قلوبهم، أفليسوا وإن أعطوا ظاهر طاعتهم مع ما تأكّد من وثائق العهد في معارفهم وعليهم بباطن أمورهم. » قال: « فإن أعطونا الطاعة فما يضرّنا من ضمائرهم. » قال: « لا طاعة دون ما ثبت من البصائر. » قال: « ترغّبهم بتشريف حظوظهم؟ » قال: « إذا يصيروا إلى التثقّل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم. » قال: « فما ظنّك بأجناد عبد الله؟ » قال: « قوم على بصيرة من أمورهم لتقدّم بيعتهم. » قال: « فما ظنّك بعامّته؟ » قال: « قوم كانوا في بلوى عظيمة من تحيّف ولاتهم في أموالهم وأنفسهم صاروا به إلى الأمنة في المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكّرون بليّة لا يأمنون العودة في مثلها. » قال: « ما أراك أبقيت لنا موضع رأى في اعتزالك أجنادنا، ثم أشدّ من ذلك ما قلت به من وهنة أجنادنا وقوّة أجناده وما تسخو نفس أمير المؤمنين بترك ما يعرف من حقّه، ولا نفسي بالهدنة مع ما أقدمت عليه في أمره، وربّما أقبلت الأمور مشرقة بالمخافة، ثم تكشّفت عن الفلج والدرك في العاقبة. » وتفرّقا.

ذكر الحزم والجد الذي أخذ فيه المأمون حتى بلغ به ما أراد

أذكى العيون، وأقام الحرس على رأس الحدّ، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجّهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرا ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدا ولا يبلغ أحدا قولا ولا كتابا فحصّن أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة أو أن تودع قلوبهم رهبة. ثم وضع على مراصد الطرقات ثقات من الأحراس لا يجوز عليهم إلّا من لا تدخله الظنّة في أمره ممّن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه ومنع الأشابات من جواز السبل والقطع بالمتاجر، والوغول في البلدان في هيأة الطارئة والسابلة، وفتّشت الكتب فكانت ترد من قبل محمد الرسل والجماعات، فإذا صاروا إلى حدّ الريّ وجدوا تدبيرا مؤيّدا وعقدا مستحصدا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم فحصّنوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فيجيء الإذن في حملهم، فيحملون محروسين لا خبر يصل إليهم، ولا غيرهم يتطلّع خبرا من عندهم حتى يصيروا إلى باب المأمون.

وذكر سهل بن هارون، أنّ المأمون قال يوما لذي الرئاستين:

« إنّ ولدي وأهلى ومالي الذي أفرده لي الرشيد بحضرة محمد وهو مائة ألف ألف وأنا إليها محتاج وهي قبله فما ترى في ذلك؟ » فقال له ذو الرئاستين:

« إن أنت كتبت كتاب عزمة فمنعك، صار إلى خلع عهده. فإن فعل، حملك ولو بالكره على محاربته، وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك، ولكن تكتب كتاب طالب بحقّك وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثا لعهدك، فإن أطاع فنعمة وعافية، وإن أباها لم تكن بعثت على نفسك حربا ومشاقّة. » قال: « فاكتب إليه كما ترى. » فكتب عنه:

كتاب كتبه ذو الرياستين عن المأمون إلى الأمين

« أمّا بعد فإنّ نظر أمير المؤمنين للعامّة نظر من لا يقتصر على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببرّه وصلته وإذا كان ذلك رأيه في عامّته فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك لصنوه وقسيم نسبه. وقد تعلم يا أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها وأجناد لا تزال موفية بتسرّعها وبنكث آرائها وبقلة الخراج قبلي، والأهل والولد والمال قبل أمير المؤمنين، وما للأهل - وإن كانوا في كفاية - من برّ أمير المؤمنين وكان لهم والدا - بدّ من الإشراف والنزوع إلى كنفى، وما لي بالمال من القوّة والظهير على لمّ شعثي، وقد وجّهت لحمل العيال وحمل ذلك المال فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرّقّة في حمل ذلك المال والأمر بمعونته عليه غير مخرج له فيه إلى ضيقة تقع بمخالفته، أو حامل له على رأى يكون على غير موافقته، إن شاء الله. » فكتب إليه محمد في الجواب:

جواب الأمين

« أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بما ذكرت ممّا عليه رأى أمير المؤمنين في عامّته، فضلا عمّا يوجب من حقّ ذي حرمته وخليط نفسه، ومحلّك من لهوات ثغور، وحاجتك لمحلّك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك. والمال الذي سمّى لك من مال الله عز وجل وما ينكر أمير المؤمنين حقوق أقربيه وذوي نسبه، وما ذاك بداع أمير المؤمنين إلى ترك الاستظهار لدينه وعامّته، وبه إلى ذلك الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين، وكان أولى به إجراؤه على فرائضه وردّه في مواضع حقّه، وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامّة من رعيّتك.

« وأمّا ما ذكرت من حمل أهلك فإنّ يدي المشرفة على أمرهم، وإن كنت بالمحلّ الذي أنت به من حقّ القرابة ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي عرّضتهم له بالسفر من شهم وإن أر ذلك من ذي قبل، أوجّههم إليك مع الثقة من رسلي، إن شاء الله. » ولمّا ورد الكتاب على المأمون قال:

« لطّ دون حقّنا يريد أن يوهن بالمنع قوّتنا ثم يتمكّن من الفرصة في مخالفتنا. »

كتاب المأمون إلى أعيان العسكر ببغداد

ورأى المأمون والفضل أن يختارا رجلا يكتب معه إلى أعيان العسكر ببغداد، فإن أحدث الأمين للمأمون خلعا صار إلى التلطّف، لعلم أحوال أهلها بالكتب التي معه وإن لم يفعل من ذلك كنس في خفية وأمسك عن إيصالها وكان نسخة الكتاب:

« أمّا بعد فإنّ أمر المؤمنين كأعضاء البدن تحدث العلّة في بعضها فيكون كره ذلك مؤلما لجميعها، وكذلك الحدث في المسلمين يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم، للذي يجمعهم من شريعة دينهم ويلزمهم من حرمة آخرتهم. ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم. وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلّا سيعرب عن مغبّته ويسفر عمّا استتر من وجهه. وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله، إلّا كان أولى بمعونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله وأنت - يرحمك الله - من الأمر بمرأى ومسمع، وبحيث إن قلت أذن لقولك وإن لم تجد للقول مساغا فأمسكت عن مخوف، اقتدى فيه بك، ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا من حقّك بالإحسان ولحظّ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظّين مع التعرّض لعدمهما. فاكتب إليّ برأيك وأعلم ذلك رسولي ليؤدّيه عنك، إن شاء الله. » فوافق قدوم هذا الرسول بغداد ما أمر به من الكفّ عن الدعاء للمأمون في الخطبة، وكان الرسول بمحلّ الثقة من كلّ من كتب إليه. فلمّا أوصلها كان منهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عمّا في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه. فكان نسخة كتاب أحدهم:

« أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وللحقّ برهان يدلّ على نفسه، تثبت به الحجّة على كلّ من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظّ من حظّ العاقبة لمأمول حظّ من عاجله، وأبين في الغبن إضاعة عاقبة مع التعرّض للنكبة والوقائع. ولى من العلم بمواضع حظّى ما أرجو أن يحسن معه النظر لنفسي، ويضع عني مؤونة استزادتى. » وكتب الرسول الذي توجّه بهذه الكتب إلى بغداد إلى المأمون وذي الرئاستين:

« أمّا بعد، فإني وافيت البلدة وقد أعلن خليطك بتنكيره، وقدّم علما من اعتراضه ومفارقته، وأمسك عمّا يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السرائر وبغاة العلانية، ووجدت المسرفين بالرغبة لا يحوطون غيرها ولا يبالون ما احتملوا فيها والمنازع مختلج الرأي لا يجد دافعا منه عن همّه، ولا داعيا إلى لزوم حجّة في عامّه، والملحّون بأنفسهم يحبّون تمام الحدث ليسلموا من متهدم حدثهم، والقوم على جدّ، فلا تجعلوا للتوانى في أمركم نصيبا والسلام. » فلمّا جاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها لبعض، قال لذي الرئاستين:

« أمور قد كان الرأي أخبر عن غيبها. ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحقّ ولعلّ كرها يسوق خيارا. » ثم أشخص طاهر بن الحسين، وضمّ إليه ثقات قوّاده وأجناده، فسار طاهر مغذّا لا يلوى على شيء حتى ورد الريّ، فنزلها ووكّل بأطرافه ووضع مسالحه وبثّ عيونه وطلائعه.

ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة

مبادرات من الأمين والمأمون

وفيها عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف عليه، وجعل صاحب أمره عليّ بن عيسى بن ماهان، وأسقط ما كان ضرب باسم أخيه المأمون بخراسان من الدنانير والدراهم في سنة أربع وتسعين، لأنّ المأمون أمر ألّا يثبت فيها اسم محمد، ونهى محمد عن الدعاء على المنابر كلّها في عمله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له، ثم من بعده لابنه موسى، وابنه موسى يومئذ طفل صغير وسمّاه: الناطق بالحقّ. وجميع ما فعل من ذلك كان عن رأى الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر. وبلغ المأمون ذلك، فتسمّى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك.

وعقد محمد الأمين لعليّ بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلّها:

نهاوند وهمذان وقم وإصبهان، حربها وخراجها، وضمّ إليه جماعة من القوّاد، وأمر لهم بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطاه للجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلّاة، بألفي سيف وسبعة ألف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقوّاده المقصورة بالشمّاسيّة، وصلّى الجمعة ودخل وأجلس ابنه موسى في المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرئ على جماعتهم كتاب من محمد يعلمهم رأيه فيه، وحقّه عليهم وما سبق له من البيعة مفردا، وما أحدث عبد الله من التسمّى بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع البريد، وقطع ذكره من دور الضرب والطرز، وأنّ ذلك ليس له، وحثّهم على الطاعة والتمسّك ببيعته.

وتكلّم سعيد بن الفضل الخطيب قائما، فصدّق ما في الكتاب وتكلّم بمثله. ثم تكلّم الفضل بن الربيع وهو جالس. فأبلغ في القول وأكثر، وذكر أنّه لا حقّ لأحد في الإمامة والخلافة إلّا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وقال في آخر كلامه:

« إنّ الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم يقسّم بينكم. » وانصرف الناس.

شخوص علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون

وفي هذه السنة شخص علي بن عيسى بن ماهان إلى الحرب وتوجّه إلى الريّ. فذكر الفضل بن إسحاق أنّ عليّ بن عيسى توجّه لحرب المأمون يوم الجمعة عشيّا لست بقين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين إلى معسكره بنهر بين وكان معه زهاء أربعين ألف رجل ومعه قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه، وشيّعه أمير المؤمنين محمد الأمين إلى النهروان، فعرض الجند وأقام يومه بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام عليّ بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص واعد السير حتى نزل همذان وكان كاتب من كان بها وبغيرها بالانضمام إلى عليّ بن عيسى. ثم عقد لعبد الله بن جبلة الأبناوي وهو الذي طعن رسول المأمون يوم أنفذه خلف الفضل بن الربيع إلى نيسابور، وتكلّم ما كتبناه على الدينور، وأمره بالمسير في أصحابه ووجّه معه ألفي ألف درهم إلى عليّ بن عيسى سوى ثلاثة آلاف درهم حملت إليه قبل ذلك، فسار عليّ بن عيسى من همذان إلى الريّ قبل ورد عبد الرحمن بن جبلة عليه، فسار على تعبئة، ولقيه طاهر بن الحسين في أقلّ من أربعة آلاف.

وكان استأمن إلى عليّ بن عيسى من عسكر طاهر ثلاثة أنفس يتقرّبون إليه. فسألهم، من هم ومن أيّ البلدان هم، فأخبره أحدهم أنّه كان من جند أبيه عيسى الذي قتله رافع.

قال: « فأنت من جندي؟ » فأمر به فضرب مائتي سوط واستخفّ بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر فازدادوا جدّا في محاربته ونفورا منه.

وأقبل عليّ بن عيسى في جيشه فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن عليّ، على ميسرته القاسم بن عيسى بن إدريس.

قال أحمد بن هشام، وكان إذا ذاك على شرطة طاهر: فما لبثا أن هزمونا حتى دخلوا العسكر فخرج إليهم الأتباع والساسة، فهزموهم. فقال طاهر لمّا رأى عسكر عليّ بن عيسى:

« هذا ما لا قبل لنا له، ولكن نجعلها خارجية. » فقصد قصد القلب في سبعمائة رجل من الخوارزمية انتخبهم.

مقتل علي بن عيسى بيميني طاهر

قال أحمد بن هشام: فقلت لطاهر:

« ألا تذكّر عليّ بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون، خاصّة معاشر أهل خراسان؟ »

فقال: « بلى. » فعلّقنا ذلك على رمح، وقمت بين الصفّين وقلت:

« الأمان، لا ترمونا ولا نرميكم. » فقال عليّ بن عيسى:

« لك ذلك. » فقلت: « يا عليّ بن عيسى ألا تتّقى الله، أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة علينا؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك. » فصاح عليّ بن عيسى:

« يا أهل خراسان من جاء به، فله ألف درهم. » قال: وكان معي قوم بخارية فزنّوه، فقالوا:

« نقتلك ونأخذ مالك. » وبرز من عسكر عليّ بن عيسى العباس بن الليث مولى المهدي، فشدّ عليه طاهر وجمع يديه على مقبض السيف فضربه فصرعه. وشدّ داود سياه على عليّ بن عيسى، فصرعه وهو لا يعرفه. فقال داود:

« تازى ايشان كشتم. » فعرفه رجل يعرف بطاهر الصغير بن الناجي فقال:

« أنت عليّ بن عيسى؟ » فقال: « نعم أنا عليّ بن عيسى. » وظنّ أنّه يهاب فلا يقدم عليه، فشدّ عليه فذبحه بسيفه وكانت ضربة طاهر هي الفتح فسمّى يومئذ: ذا اليمينين، لأنّه أخذ السيف بيديه جميعا.

التسليم على المأمون بالخلافة

ولمّا بشّر طاهر بن الحسين بقتل عليّ بن عيسى أعتق من كان بحضرته من غلمانه شكرا ثم جاءوا بعليّ بن عيسى وقد شدّ الأعوان يديه إلى رجليه وحمل على خشبة مدهق كما يحمل الحمار الميّت فأمر به فلفّ في لبد وألقى في بئر.

وكتب بالبشارة إلى ذي الرئاستين فسارت الخريطة، وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد ووردت عليهم يوم الأحد. ولمّا ورد الكتاب بالفتح على ذي الرئاستين فضّه فإذا فيه:

« أطال الله بقاءك وكبت أعداءك وجعل من يشنأك فداءك. كتابي إليك، ورأس عليّ بن عيسى بين يديّ، وخاتمه في اصبعى، والحمد لله ربّ العالمين. » فدخل به على المأمون حتى قرأه، فأمر بإحضار أهل بيته وقوّاده ووجوه الناس فدخلوا، فسلّموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس عليّ يوم الثلاثاء وطيف به في خراسان.

فحكى عن واحد أنّه لمّا جاء نعيّ عليّ بن عيسى إلى محمد بن زبيدة، كان في وقته ذلك على الشطّ يصيد السمك مع خادمه كوثر، فقال للذي أخبره:

« ويلك دعني فإنّ كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا بعد ما صدت شيئا. » ولمّا نهض من مجلسه ذلك، بعث إلى الفضل ومحمد فأنفذ إلى وكيل المأمون ببغداد وقيّمه في أهله وولده فأخذا منه المائة ألف الدرهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلّاته، ووجّه عبد الرحمن بن جبله الأبناوى بالعدة والقوّة فنزل همذان.

ذكر الحيلة التي احتال بها ذو الرئاستين حتى اختار محمد لحربه علي بن عيسى دون غيره

كانت كتب ذي الرئاستين ترد إلى دسيسة الذي كان الفضل بن الربيع يشاوره في أمره: إن أبي القوم إلّا عزمة الخلاف، فالطف لأن يجعلوا أمره لعليّ بن عيسى. وإنّما خصّ عليّا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه وأنّ العامّة ترى حربه.

فلمّا شاور الفضل ذلك الرجل الذي كان يشاوره قال عليّ بن عيسى:

« إن فعل فلم ترمهم بمثله في بعد صوته وسخائه ومكانه من بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم. ثم هو شيخ الدعوة. » فاجتمعوا على توجيه عليّ، فكان من أمره ما كان.

وروى أنّ الأمين لمّا عزم على خلع المأمون أشار عليه نصحاؤه أن يكاتبه ويسأله القدوم عليه، فإنّ ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته واجابته فكتب إليه:

كتاب الأمين إلى المأمون

« من عبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ردّا في أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك وما يؤمّل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله وقلّده من أمور عباده وبلاده، فكّر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك بها وإقرارك على ما صيّر إليك منها.

فرجا أمير المؤمنين ألّا يدخل عليه وكف في دينه ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إيّاك فيما يعود على المسلمين نفعه ويصل إلى عامّتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أنّ مكانك بالقرب منه أسدّ للثغور وأصلح للجنود وأدّر للفيء وأردّ على العامّة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك مغيّبا عن أمير المؤمنين وما يحبّ الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك. وقد رأى أمير المؤمنين أن يولى ابنه موسى فيما يقلّده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد أثر وأنفذ بصيرة، فإنّك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح لأهل ملّته وذمّته، والسلام. » ودفع الكتاب إلى العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن عليّ - وإلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى صالح صاحب المصلّى، وأمرهم أن يخرجوا إلى المأمون وألّا يدعوا وجها من الرفق، إلّا بلغوه وسهّلوا الأمر عليه، فيه وحمل معهم من الألطاف والهدايا والبرّ شيئا كثيرا وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة.

فتوجّهوا بكتابه، فلمّا وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد وما كان بعث معهم من الأموال والهدايا. ثم تكلّم العبّاس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

كلام العباس عند المأمون

« أيّها الأمير، إنّ أخاك قد تحمّل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر في أمور الناس عبءا جليلا، وقد صدقت نيّته في الخير فاعتوره الوزراء والأعوان والكفاة على العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه وقد فزع إليك في أموره وأمّلك للمؤازرة والمكانفة، ولسنا نستبطئك في برّه اتهاما لنظرك له، ولا نحضّك على طاعته تخوّفا لخلافك عليه وفي قدومك عليه أنس عظيم له، وصلاح لدولته وسلطانه. فأجب أيّها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته وأعنه على ما استعان بك من أمره، فإنّ في ذلك قضاء الحق وصلة الرحم وعزّ الخلافة، عزم الله على الرشد في أموره وجعل له الخيرة في عواقب رأيه. » وتكلّم عيسى بن جعفر بكلام قريب المعنى من هذا الكلام، وكذلك محمد بن عيسى بن نهيك وصالح صاحب المصلّى. فلمّا قضوا كلامهم وسكتوا، تكلّم المأمون فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

كلام المأمون

« إنّكم عرّفتمونى من حقّ أمير المؤمنين - أبقاه الله - ما لا أنكره، ودعوتموني من البرّ والإحسان والمؤازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا بالطاعة لأمير المؤمنين خليق وعلى المسارعة إلى ما سرّه ووافقه حريص، وفي الرؤية تبيان الرأي وفي إعمال الرأي يصحّ الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخّر عنه تثبّطا ومدافعة، ولا أتقدّم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوّه، شديدة شوكته، فإن أهملت أمره لم آمن دخول المكروه والضرر على الجند والرعيّة، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أحبّ من معونة أمير المؤمنين وإيثار طاعته، وانصرفوا حتى أنظر في أمري ويصحّ الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله. »

ذكر مشاورة المأمون أصحابه وما أشار به الفضل بن سهل

ولمّا انصرف القوم تعاظم المأمون ما ورد عليه وأكبره ودعا الفضل بن سهل وقال:

« ما عندك من الرأي؟ » قال: « أرى أن تتمسّك بموضعك، وألّا تمكّن من نفسك، ولا تجعل عليك سبيلا وأنت تجد من ذلك بدّا. »

قال: « وكيف يمكنني التمسّك بموضعي مع كثرة جنود محمد وعظم خزائنه وكثرة أمواله، مع ما فرّق في أهل بغداد من صلاته، وإنّما الناس مائلون مع الذهب والفضّة، منقادون لهما، لا يرغبون في وفاء بعهد ولا أمانة. » فقال الفضل:

« إذا وقعت التهمة حقّ الاحتراس. وأنا متخوّف عليك من محمد ومن شرهه إلى ما في يديك، ولأن يكون في جندك وعزّك مقيما بين ظهرانيّ أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر حددت له وناجزته وكايدته فإمّا أعطاك الله الظفر عليه وإمّا متّ محافظا متكرّما غير ملق يديك ولا ممكّن عدوّك من الاحتكام في دينك. » قال المأمون:

« لو كان أتانى ذلك وأنا في قوّة من أمري وصلاح من الأمور، لكان خطبه يسيرا والاحتيال في دفعه ممكنا ولكنّه أتانى بعد انتشار خراسان واضطراب عامرها وغامرها ومفارقة جبغويه الطاعة والتواء خاقان وتهيّؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان وامتناع ملك ابراز بنده بالضريبة وما لي بواحدة من هذه يد وأنا أعلم أنّ محمدا لم يطلب قدومى إلّا لشرّ يريده بي وما أرى إلّا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به فبالحرى أن آمن على نفسي وامتنع ممّن أراد قهري والغدر بي. »

فقال له الفضل:

« أيّها الأمير إنّ عاقبة الغدر شديدة ومغبّة الظلم والبغي غير مأمون شرّها وربّ مستذلّ قد عاد عزيزا ومقهور عاد مستطيلا وليس النصر بالكثرة وجرح الموت أيسر من جرح الذلّ والضيم فأمّا جبغويه وخاقان فاكتب إليهما وولّهما بلادهما وعدهما التقوية لهما على محاربة الملوك، وأمّا ملك كابل فابعث إليه بعض طرف خراسان وهاده وسله الموادعة تجده حريصا على ذلك، وأمّا ملك ابراز بنده فسلّم له ضريبته في هذه السنة وصيّرها صلة منك له وصلته بها. ثم اجمع إليك أطرافك واضمم إليك من شذّ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال، بالرجال فإن ظفرت فذاك، وإلّا كنت على اللحاق بخاقان قادرا. » فقال المأمون:

« أنا أعمل في هذا وغيره بما ترى. » وفرّق الكتب وأرسل إلى أولئك العصاة، فأذعنوا ورضوا وكتب إلى قوّاده وجنوده في الأطراف فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وكان يومئذ بالريّ عاملا من قبل المأمون أن يضبط ناحيته ويجمع إليه أطرافه ويكون على حذر من جيش إن طرقه أو عدوّ إن هجم عليه.

وكان الفضل نظر في النجوم وكان جيد المعرفة بأحكامها، فرأى الغلبة لعبد الله، فوطّن نفسه على محاربة محمد الأمين ومناجزته.

كتاب من المأمون إلى الأمين

فلمّا فرغ المأمون ممّا ذكرناه كتب إلى محمد:

« لعبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتاب أمير المؤمنين وإنّما أنا عامل من عمّال أمير المؤمنين وعون من أعوانه أمرنى الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر ومكايدة من كاد أهله من عدوّ أمير المؤمنين، ولعمري أنّ مقامي به أردّ على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين وإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعم الله عليه. فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرّنى على عملي ويعفيني من الشخوص إليه فعل، إن شاء الله. » ثم دعا العبّاس بن موسى بن عيسى وعيسى بن جعفر وصالحا فدفع الكتاب إليهم وأحسن صلتهم وجوائزهم وحمل إلى محمد ما تهيّأ له من الألطاف الموجودة بخراسان وسألهم أن يحسّنوا أمره عنده ويقوموا بعذره.

كلام زبيدة لعلي بن عيسى في المأمون

فلمّا يئس محمد الأمين من انقياد عبد الله له، ندب له عليّ بن عيسى في خمسين ألف فارس وراجل، ومكّنه من بيوت الأموال والسلاح. فلمّا أراد عليّ الشخوص إلى خراسان، ركب إلى باب زبيدة أمّ جعفر، فودّعها، فقالت:

« يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري فإني على عبد الله متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإنّما ابنى ملك نافس أخاه في سلطانه وعازّه على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره. فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام، فلست بنظير له، ولا تقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد ولا غلّ، ولا تمنع منه جارية ولا غلاما ولا خادما ولا تعنف عليه في السير ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقلّ على دابّتك، حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا ترادّه. » ثم دفعت إليه قيدا من فضّة وقالت:

« إذا صار في يدك فقيّده بهذا القيد. » فقال لها:

« سأقبل قولك وأعمل بطاعتك. » فلمّا ركب عليّ بن عيسى إلى معسكره بالنهروان وخرج معه محمد يشيّعه وحشدت الأسواق والصنّاع والفعلة بلغ عسكره فرسخا بفساطيطه وأبنيته وأثقاله. فذكر مشايخ أهل بغداد أنّهم لم يروا عسكرا قطّ كان أكثر رجالا وأفره كراعا وأظهر سلاحا وأتمّ عدّة وأكمل هيئة من عسكره.

فذكر أنّ منجّمه أتاه فقال:

« أصلح الله الأمير لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر فإنّ النحوس غالبة عليه. » فقال: « إنّا لا ندري فساد القمر من صلاحه، غير أنّه من نازلنا نازلناه ومن وادعنا وادعناه ومن قاتلنا لم يكن عندنا إلّا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتدّ بفساد القمر ما وطّنّا أنفسنا على صدق اللقاء. »

ثم سار عليّ بن عيسى مستهينا بمن يلقاه فإذا لقيته القوافل من خراسان سألها عن الأخبار فيقولون له: طاهر مقيم بالريّ يعرض أصحابه ويرمّ آلته فيضحك ثم يقول لأصحابه:

« وما طاهر والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلّا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان وهل مثل طاهر يتولّى الجيوش ويلقى الحروب وهل تقوى السخال على نطاح الكباش أو تصير الثعالب على لقاء الأسد. » ثم أمر أصحابه بطيّ المنازل والمسير، وقال لأصحابه:

« إنّ نهاية القوم الريّ، فلو قد صيّرناها وراء ظهورنا فتّ ذلك في أعضادهم وانتشر نظامهم وتفرّقت جماعتهم. » ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وأهدى إليها التيجان والأسورة والسيوف المحلّاة بالذهب ووعدها الصلات والجوائز وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد فأجابوه إلى ذلك وسار حتى صار في أوّل بلاد الريّ وأتاه صاحب مقدّمته فقال:

« لو كنت - أبقى الله الأمير - أذكيت العيون وبعثت الطلائع وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتّخذ خندقا كان أبلغ في الرأي وآنس للجند. » فقال: « لا، ليس مثل طاهر ومن معه استعدّ له بالمكائد والتحفّظ إنّ حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إمّا أن يتحصّن بالريّ فيبيّته أهلها فيكفونا مؤونته أو يخلّيها ويدبر راجعا أو قد قربت منه. » وأتاه يحيى بن عليّ فقال:

« أيّها الأمير اجمع عسكرك فإنّه متفرّق، واحذر البيات فإنّ العساكر لا تساس بالتواني والحروب لا تدبّر بالاغترار ولا تقل المحارب لي طاهر.

فالشرارة الخفيّة ربّما صارت ضراما والثلمة من السيل ربّما تهون بها فصارت بحرا عظيما وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لما كان يتأخّر إلى يومه هذا. » قال: « اسكت فإنّ طاهرا ليس في هذا الموضع الذي ترى وإنّما تتحفّظ الرجال إذا لقيت أقرانها وتستعدّ المناوئ لها أكفاؤها ونظراؤها. »

استشارة طاهر

واستشار طاهر أصحابه لمّا قرب منه عليّ، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الريّ ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل ومن يتولّى الحرب دونه وقالوا:

« مقامك بمدينة الريّ أرفق بك وبأصحابك وأقدر لهم على الميرة وأكنّ من البرد وأقوى لك على المماطلة والمطاولة إلى أن يأتيك مدد. » فقال طاهر:

« إنّ الرأي ليس ما رأيتم. إنّ أهل الريّ لعليّ هائبون ومن معرّته متّقون، ولست آمن إن حاصرنا أن يدعو أهلها خوفه إلى الوثوب بنا ومعاونته على قتالنا، مع أنّه لم يكن قوم قطّ زوحموا في ديارهم وتورّد عليهم إلّا وهنوا وذلّوا واجترأ عليهم عدوّهم. وما الرأي إلّا أن نصيّر مدينة الريّ وراء ظهورنا فإن أعطانا الله الظفر وإلّا عوّلنا عليها، فقاتلنا في سككها وتحصّنّا بمنعتها إلى أن يأتينا مدد من خراسان. » فقالوا: « الرأي ما رأيت. » فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من الريّ، وأتاه محمد بن العلاء فقال له:

« أيّها الأمير، إنّ جندك قد هابوا هذا الجيش وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه. فلو أقمت حتى تشامّهم أصحابك ودافعت بالقتال إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم. » فقال: « إني لا أوتى من تجربة وحزم، وإنّ أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم. فإن دافعت بالقتال وأخّرت المناجزة لم آمن أن يطّلعوا على قلّتنا وعورتنا وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة فينفضّ عني أصحابي ويخذلني أهل الحفاظ والصبر ولكن ألفّ الرجال بالرجال وألحم الخيل بالخيل واعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر، فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى فلست بأوّل من قاتل فقتل وما عند الله أجزل وأفضل. » وقال عليّ بن عيسى لأصحابه:

« بادروا القوم، فإن عددهم قليل ولو قد زحفتم إليهم لم يصبروا على حرارة السيوف ووقع السهام وطعن الرماح. » وعبّأ جنده ميمنة وميسرة وقلبا وصيّرها كثيفة عظيمة، ثم نصب عشر رايات في كلّ راية ألف رجل. وقدّم الرايات راية راية وصيّر بين كلّ راية وراية غلوة وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى فصبرت وجمّت وطال بها القتال، أن تقدّم التي تليها وتتأخّر التي قاتلت، حتى ترجع إليها أنفسها وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة.

ثم صيّر أصحاب الدروع والجواشن والخبرة أمام الرايات. ووقف في القلب في غرر أصحابه أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم، وكتّب طاهر بن الحسين كتائبه وجعلهم كراديس صفوفا، وجعل يمرّ بقائد قائد وجماعة جماعة ويقول:

« يا أولياء الله ويا أهل الوفاء، إنّكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل الغدر والنكث. إنّ هؤلاء ضيّعوا ما حفظتم ونكثوا الأيمان التي رعيتم. فلو قد غضضتم الأبصار وثبّتم الأقدام لأنجزتم لله وعده، وفتح عليكم أبواب عزّه ونصره. فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار، وادفعوا بحقّكم باطلهم. فإنّما هي ساعة حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. » وقلق قلقا شديدا وحرص حرصا عظيما وجعل يقول:

« يا أهل الوفاء والصدق والصبر، الصبر الصبر، الحفاظ الحفاظ. » فهو على ذلك حتى وثب أهل الريّ فأغلقوا أبواب المدينة فنادى طاهر:

« يا أولياء الله اشتغلوا بمن أمامكم عمّن خلفكم فإنّه لا ينجيكم إلّا الجدّ والصدق. » ثم كان من أمرهم ما حكيناه قبل.

ولمّا ورد الخبر بغداد بقتل عليّ بن عيسى كثرت الأراجيف ومشى القوّاد بعضهم إلى بعض فقالوا:

« إنّ عليّا قد قتل ولسنا نشكّ أنّ محمدا سيحتاج إلى الرجال واصطناع الصنائع وإنّما ترفع الرجال رؤوسها في وقت البأس. فليأمر كلّ رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلّنا نصيب في هذه الحرّة منه ما يصلحنا ويصلح جندنا. » فاتّفق رأيهم على ذلك وأصبحوا بباب الجسر، فكبّروا وطلبوا الأرزاق وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب في أصحابه وفي جماعة كثيرة من قوّاد العرب فتراموا بالنشّاب والحجارة واقتتلوا قتالا يسيرا، وسمع محمد الضجّة والتكبير، فأرسل من يأتيه بالخبر فأعلمه أنّ الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قال:

« فهل يطلبون شيئا غير ذلك؟ » قال: « لا. » قال: « فما أهون ما طلبوا. إرجع إلى عبد الله بن خازم فمره أن ينصرف ويواقف الناس على أن يبذل لهم أرزاقهم. » فواقفهم على أرزاق أربعة أشهر ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين وأمر للقوّاد والخواصّ بالصلات والجوائز.

توجيه عبد الرحمن إلى همدان لحرب طاهر

وفي هذه السنة وجّه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى إلى همذان لحرب طاهر، وانتخب عشرين ألف رجل من الأبناء فضمّهم إليه وحمل معه الأموال وقوّاه بالسلاح والخيل وأجازه بجوائز وولّاه ما بين حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وأمره أن يسبق طاهر إلى همذان ويخندق عليه ويجمع إليه آلة الحرب، وبسط يده وتقدّم إليه في التحفّظ والاحتراز وترك ما عمل به عليّ من الاغترار والتضجيع. فتوجّه عبد الرحمن حتى نزل همذان فضبط طرقها وحصّن سورها وأبوابها وسدّ ثلمها وحشر إليها الأسواق والصنّاع وجمع فيها الآلات والمير واستعدّ للقاء طاهر ومحاربته.

وقد كان يحيى بن عليّ بن عيسى لمّا قتل أبوه أقام بين الريّ وهمذان وكان لا يمرّ به أحد من فلّ أبيه إلّا احتبسه. وكان يرى أنّ محمدا يولّيه مكان أبيه ويوجّه إليه الخيل والرجال. وكتب إلى محمد يستمدّه ويستنجده فأجابه محمد يعلمه توجيهه عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى ويأمره بالانضمام إليه فيمن تبعه. ولمّا بلغ طاهرا خبر عبد الرحمن توجّه إليه، فلمّا قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه:

« هذا طاهر صاحبكم بالأمس، ولست آمن إن لقيته بمن معي أن يصدعنا صدعا يدخل وهنه على من خلفنا، ويعتلّ عبد الرحمن بذلك ويقلّدنى به العار والعجز عند أمير المؤمنين. فإن أنا استنجدته لم آمن أن يمسك عنا، ضنّا برجاله وإبقاء عليهم. والرأي أن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبا من عبد الرحمن فإن نحن استعنّاه قرب منّا عونه وإن احتاج إلينا أعنّاه وقاتلنا معه. » قالوا: « الرأي ما رأيت. » فانصرف نحو همذان. فلمّا قرب منها خذله أصحابه وتفرّقوا عنه وأشرف طاهر على مدينة همذان ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرجوا على تعبئة، فصادف طاهرا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثم إنّ عبد الرحمن انهزم ودخل همذان وأقام بها أيّاما حتى اندمل جراح أصحابه، وقووا ثم أمر بالاستعداد وزحف إلى طاهر. فلمّا رأى طاهر أعلامه وأوائل خيله قال لأصحابه:

« إنّ عبد الرحمن يتراءى لنا حتى نقرب منه ثم يقاتلنا، فإن هزمناه بادر إلى المدينة فدخلها وقاتلكم على خندقها وامتنع بسورها، وإن هزمنا اتسع له المجال. فهلمّوا نقف له حتى يقرب منّا ويبعد من خندقه. » فوقف طاهر مكانه وظنّ عبد الرحمن أنّ الهيبة بطّأت به عن لقائه والنفوذ إليه. فبادر قتاله فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر أصحاب طاهر فجعل عبد الرحمن يقول:

« يا معشر الأبناء يا أبناء الموت وألفاف السيوف، إنّهم العجم وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر، فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي. » وقاتل ببدنه قتالا شديدا وحمل حملات منكرات، فلا يزول أحد من أصحاب طاهر. ثم إنّ صاحبا لطاهر حمل على أصحاب عبد الرحمن فقتل صاحب علمه وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولّوا، ووضعوا فيهم السيوف حتى دخلوا همدان يقتلونهم ويأسرونهم. وأقام طاهر على باب المدينة محاصرا. فكان يخرج عبد الرحمن ويقاتل على أبواب المدينة ويرمى أصحابه من فوق السور، حتى اشتدّ بهم الحصار وتأذّى بهم أهل المدينة وتبرّموا بالحرب والقتال، وقطع طاهر عنهم المادّة من كلّ وجه.

فهلك أصحاب عبد الرحمن وتخوّفوا أن يثب بهم أهل همذان فأرسل عبد الرحمن إلى طاهر وسأله الأمان ولمن معه فآمنه طاهر ووفى له.

واعتزل عبد الرحمن في من كان معه من أصحابه وأصحاب يحيى، وطرد طاهر عمّال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال.

وفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى بأسدآباذ.

ذكر السبب في مقتله

لمّا وجّه محمد عبد الرحمن الأبناوى إلى همذان أتبعه بعبد الله وأحمد ابني الحرشي في خيل عظيمة وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن ويكونا مددا له إن احتاج إليهما. فلمّا خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان كان يرى طاهرا وأصحابه أنّه مسالم لهم راض بعهودهم.

ذكر غفلة من طاهر وإضاعة حزم

ثم اغترّهم وهم آمنون. فركب في أصحابه ولم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم فوضعوا فيهم السيوف والنشّاب فثبت لهم رجّالة طاهر بالتراس والسيوف، وجثوا على الركب فقاتلوه كأشدّ ما يكون من القتال. ولم تزل الرجّالة تدافعهم إلى أن أخذت الفرسان عدّتها وصدقوهم القتال. فاقتتلوا قتالا منكرا حتى تكسّرت السيوف وتقصّفت الرماح وهرب معظم أصحاب عبد الرحمن فترجّل هو في ناس من أصحابه فقاتل حتى قتل وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي. فدخلهم الوهن والفشل وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا. فولّوا منهزمين لا يلوون على شيء حتى صاروا إلى بغداد.

وأقبل طاهر قد خلت له البلاد يحوز بلدة بلدة وكورة كورة، حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها: شلاشان، فخندق بها وحصّن عسكره.

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

ثم إنّ محمدا ندب أسد بن يزيد بن مزيد فاشتط عليه في طلب الأموال فحبسه، وندب عمّه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.

ذكر الخبر عن حبس أسد وسببه

قال أسد بن يزيد بن مزيد: بعث إليّ الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن بن جبلة، فأتيته، فلمّا دخلت إليه وجدته قاعدا في صحن داره وفي يده رقعة قد قرأها وقد احمرّت عيناه واشتدّ غضبه وهو يقول:

« ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب، همّه بطنه وفرجه تخاتل الرعاء والكلاب ترصده، ولا يفكّر في زوال نعمة ولا يروّى في إمضاء رأى ولا مكيدة، قد ألهته كأسه وشغله قدحه، فهو يجرى في لهوه والأيّام توضع في هلاكه. » ثم وصف عبد الله وتيقّظه، وتمثّل بشعر للبعيث، ثم التفت إليّ فقال:

« أبا الحارث أنا وإيّاك نجري إلى غاية إن قصّرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنّما نحن شعب من أصل إن قوى قوينا وإن ضعف ضعفنا. إنّ هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء ويعوّل على الرؤيا، وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والخسارة فهم يعدونه الظفر ويمنّونه عقب الأيام. والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت أن نهلك بهلاكه وأنت فارس العرب وابن فارسها فزع إليك في لقاء هذا الرجل وأطمعه في ما قبلك أمران: أحدهما صدق طاعتك والآخر شدّة بأسك. وقد أمرنى بإزاحة علّتك وبسط يدك في ما أحببت، غير أنّ الإقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك وعجّل المبادرة إلى عدوّك، فإني أرجو أن يولّيك الله شرف هذا الفتح ويلمّ بك شعث هذه الخلافة والدولة. » فقلت: « أنا لطاعة أمير المؤمنين - أعزّه الله - وطاعتك مقدم، وعلى كلّ ما دخل به الوهن والذلّ على عدوّكما حريص، غير أنّ المحارب لا يعمل بالغرور ولا يفتتح أمره بالتقصير، وإنّما ملاك المحارب الجنود وملاك الجنود المال وقد ملأ أمير المؤمنين أيدى من شهده من العسكر، وتابع لهم الأرزاق والصلات، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلّعة إلى من خلفهم من إخوانهم، لم انتفع بهم في لقاء من أمامى، وقد فضّل أهل السلام على أهل الحرب وجاز بأهل الدعة والحفض منازل أهل النصب والمشقّة، والذي أسأل، أن يؤمر لي بما يقيمنى ويقيم أصحابي الذين تخرجونهم معي بما لا يتطلّعون معه إلى ما خلفهم. » قال: « وما هو؟ » قلت: « رزق سنة يطلق لأصحابي ويحمل معهم رزق سنة ويخصّ من لا خاصّة له من أهل الغناء والبلاء، واحمل ألف رجل من أصحابي الذين معي على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. » فقال: « قد اشتططت ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين. » ثم ركب وركبت معه ودخل قبلي، ثم أذن لي فدخلت فما دار بيني وبين محمد إلّا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.

فذكر بعض خاصّة محمد أنّ أسدا اقترح على محمد أن يسلّم إليه ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي، فإن أعطاني الطاعة وألقى بيده وإلّا عملت فيهما بحكمي فقال محمد:

« أنت أعرابيّ مجنون تدعو إلى الخرق والتخليط وتقترح فوق قدرك. » وأمر به فحبس.

ثم قال محمد:

« هل في بيت هذا من يقوم مقامه؟ فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدّم من طاعتهم ونصيحتهم. » قالوا: « نعم فيهم أحمد بن مزيد عمّه وهو أحسنهم طريقة وأصلحهم نيّة وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ومباشرة الحروب. » فأنفذ إليه محمد يزيدا فأقدمه عليه. قال أحمد: فلمّا دخلت بغداد بدأت بالفضل بن الربيع، فقلت أسلّم عليه وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد.

فلمّا أذن لي دخلت وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة وهو يريده على الشخوص إلى طاهر وعبد الله يشتطّ عليه في طلب المال والسلاح والإكثار من الرجال. فلمّا رآني رحّب بي وأخذ بيدي فرفعني حتى صيّرنى معه على صدر المجلس، ثم أقبل على عبد الله يمازحه ويداعبه، فتبسّم في وجهه ثم قال:

إنّا وجدنا لكم إذ رثّ حبلكم ** من آل شيبان أمّا دونكم وأبا

الأكثرون إذا عدّ الحصى عددا ** والأقربون إلينا منكم نسبا

فقال عبد الله:

« إنّهم لكذاك وإنّ فيهم لسدّ الخلل ونكء العدوّ. » ثم أقبل عليّ الفضل فقال:

« إنّ أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدّة على أهل المعصية، فأحبّ اصطناعك والتنويه بك وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك. » ثم التفت إلى خادمه وقال:

« مر بإسراج دوابّى. » فلم ألبث أن أسرجت له ومضى ومضيت معه حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره على سرير ساج، فلم يزل يدنيني حتى كدت ألاصقه، فقال:

« إنّه قد كثر عليّ تخليط ابن أخيك وطال خلافه عليّ حتى أوحشنى ذلك منه، وولّد في قلبي التهمة له وصيّرنى بسوء مذهبه وحنث طاعته إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أكن أحبّ تناوله به، وقد ووصفت لي بخير ونسبت إلى جميل، وأحببت أن أرفع قدرك وأعلى منزلتك وأقدّمك على أهل بيتك وأولّيك جهاد هذه الفئة الباغية وأعرّضك الأجر والثواب في قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحّح نيّتك وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك وتشريفك. » فقلت: « سأبذل في طاعة أمير المؤمنين - أعزه الله - مهجتي وأبلغ في جهاد عدوّه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائى وكفايتي، إن شاء الله. » فقال: « يا فضل، ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب. » وقال لي:

« اكمش على أمرك وعجّل المسير إلى عدوّك. » فخرجت، فانتخبت الرجال، فبلغت عدّة من صحّحت اسمه عشرين ألف رجل. ثم توجّهت بهم إلى حلوان.

وكان محمد وصّاه فقال:

« إيّاك والبغي، فإنّه عقال النصر ولا تقدّم رجلا إلّا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلّا بعد إعذار، وأحسن صحابة من معك وطالعنى بأخبارك في كلّ يوم ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي ولا تستبقها في ما تتخوّف رجوعها عليّ، وكن لعبد الله بن حميد أخا مصافيا، أحسن صحبته ومعاشرته ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة وكلمتكما متفقة. » ثم قال:

« سل حوائجك وعجّل السراح إلى عدوّك. » فدعا له أحمد وقال:

« يا أمير المؤمنين تكثّر الدعاء لي ولا تقبل فيّ قول باغ ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي، ولا تنقض عليّ ما استجمع من رأى، ومن عليّ بالصفح عن ابن أخي. » قال: « ذلك لك. » ثم بعث إلى أسد فحلّ قيوده وخلّى سبيله.

فخرج أحمد بن مزيد في عشرين ألف رجل [ من العرب، وعبد الله بن حميد في عشرين ألف رجل ] من الأبناء وقد وصّيا بالتوادّ والتحابّ، فتوجّها حتى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له: خانقين، وأقام طاهر بموضعه وخندق عليه.

ذكر ما احتال به طاهر عليهما حتى اختلفا

ثم إنّ طاهرا دسّ إليهما قوما، فكانوا يأتون العسكرين جميعا بالأخبار الباطلة والأراجيف الكاذبة بأنّ محمدا قد وضع العطاء لأصحابه وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا.

وتقدّم طاهر حتى نزل حلوان، فلم يلبث طاهر بعد دخوله حلوان إلّا يسيرا حتى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه والتوجّه إلى الأهواز وفتحها. فسلّم ذلك إليه وأقام هرثمة بحلوان فحصّنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها. وتوجّه طاهر إلى الأهواز.

المأمون يتسمى أمير المؤمنين

وفي هذه السنة لمّا انتهى إلى المأمون قتل عليّ بن عيسى، تسمّى بأمير المؤمنين وسلّم عليه الفضل بذلك، وصحّ عنده الخبر بقتل طاهر عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى وغلبته على عسكره، فدعا الفضل بن سهل وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى جبل سقنان والتبّت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم [ وجرجان ] عرضا وجعل له عمّاله ثلاثة آلاف وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين وسمّاه ذا الرئاستين.

الأمين يولى عبد الملك الشام

وفي هذه السنة ولّى محمد الأمين عبد الملك بن صالح بن عليّ الشام.

والسبب في ذلك

وكان السبب في ذلك أنّ طاهرا لمّا قوى واستعلى أمره وهزم قوّاد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد وقد كان عبد الملك محبوسا في حبس الرشيد، فأطلقه محمد، وكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ومحبّته، فقال:

« يا أمير المؤمنين. »

ذكر الرأي الذي أشار به عبد الملك

إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكر قد اغتمزوا بذلك، وقد بذلت سماحتك فإن أتممت على عادتك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت يدك عن العطاء أسخطتهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك ولا تبقى بيوت المال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإنّ جندك قد أرعبتهم الهزائم وأضعفتهم الحروب وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوّهم ونكولا عن لقائهم، فإن سيّرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم وهزم بقوّة نيّته ضعف نياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرّستهم الحروب وأدّبتهم الشدائد، وجلّهم منقاد لي مسارع إلى طاعتي، فإن وجّهنى أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم في عدوّه. » فقال محمد: « فإني مولّيك ومقوّمك بما سألت من مال وعدّة، فعجّل الشخوص إلى ما هناك واعمل عملا يظهر أثره واحمد بركة نظرك فيه. » فولّاه الشام واستحثّه استحثاثا شديدا ووجّه معه كثيفا من الجند.

فلمّا قدم عبد الملك الرقّة أرسل كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممّن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلّا وعده وبسط أمله. فقدموا عليه رئيس بعد رئيس وفوج بعد فوج فأجازهم وخلع على كلّ من قصده ووصله، وأتاه زواقيل الشام والأعراب من كلّ فجّ، فاجتمعوا وكثروا.

ذكر اتفاق سيء

واتّفق أنّ بعض جند خراسان نظر إلى دابّة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلّق بها وتصايحا، واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فأعان كلّ فريق منهم صاحبه وتضاربوا بالأيدى ومشى الأبناء بعضهم إلى بعض وقالوا:

« إن صبرنا لهم ركبونا بمثل هذا كلّ يوم. » واستعدّوا، وأتوا الزواقيل وهم غارّون، فوضعوا فيهم السيوف وذبحوهم في رحالهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتنادى الزواقيل، فركبوا ونشبت الحرب، وبلغ عبد الملك فأنفذ رسولا يأمرهم بالكفّ ووضع السلاح، فرموه بالحجارة وأبلغ عبد الملك من قتل من الزواقيل وأنّهم خلق كثير مطرّحون وكان مريضا فضرب بيد على يد ثم قال:

« وا ذلّاه، تستضام العرب في دورها وبلادها وتقتل هذه المقتلة. »

فغضب من كان أمسك عن الشرّ وتفاقم الأمر، فنادى الناس وقالوا:

« الهرب أهون من العطب والموت أهون من الذلّ، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل ويفوت المطلب ويعسر المهرب. » وقام رجل من كلب فقال:

شؤبوب حرب خاب من يصلاها ** قد شرّعت فرسانها قناها

فأورد الله لظى قناها ** إن غمرت كلب بها لحاها

ثم نادى:

« يا معشر كلب، إنّها الراية السوداء، والله ما ولّت ولا ذلّ ناصرها، وإنّكم لتعرفون مواقع سيوف خراسان في رقابكم، فاعتزلوا الشرّ قبل أن يعظم، وتخطّوه قبل أن يضطرم.

أيّها الناس شامكم شامكم، داركم داركم، الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري، ألا أنّى راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. » وسار معه أهل الشام وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان جمعه التجار من الأعلاف بالنار وتفرّق ذلك العسكر.

ثم اتفق موت عبد الملك بن صالح في تلك الأيّام فلم يبق لذلك الجند أثر.

خلع الأمين ومبايعة المأمون ببغداد

وفي هذه السنة خلع محمد بن هارون الأمين وأخذت البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد وحبس محمد في قصر أبي جعفر مع أمّ جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر وهي زبيدة.

ذكر السبب في ذلك

لمّا توفّى عبد الملك بن صالح بالرقّة نادى الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان في الجند، فصيّر الرجّالة في السفن والفرسان في الظهر، ووصلهم وقوّى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة وذلك في سنة ستّ وتسعين ومائة.

فلمّا وصلوا إلى بغداد تلقّاه الأبناء بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب واستقبله الرؤساء وأهل الشرف ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة.

فلمّا كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول:

« ما أنا بمغنّ ولا مضحك ولا صاحب خسارة ولا جرى له على يدي مال ولا وليت له ولاية، فلايّ شيء يريدني في هذه الساعة؟ أنصرف، فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله. » فانصرف الرسول وأصبح الحسين، فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن عليّ وباب سوق يحيى. ثم قال:

« يا معشر الأبناء، اسمعوا مني أنّ خلافة الله لا تجاوز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبّر، وأنّ محمدا يريد أن يوقع أديانكم وينكث بيعتكم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، أراد أن ينقل عزّكم، إلى غيركم وبالله لئن طالت به مدّة ليرجعنّ وبال ذلك عليكم. فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزّه قبل أن يضع عزّكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلّا ذلّ ولا يمنعه مانع إلّا قتل، وما لأحد عند الله هوادة ولا راقب على الاستخفاف بعهوده والختر بأيمانه. » ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا واجتمعت الحربية وأهل الأرباض وتسرّعت إليه خيول محمد فاقتتلوا، وأمر الحسين من كان معه من خواصّ أصحابه بالنزول فنزلوا وصدقوا القتال حتى كشفوهم.

فخلع الحسين محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء.

إخراج محمد من قصر الخلد وما جرى على أم جعفر

وقد كان العباس بن موسى الهاشمي قد دخل على محمد، فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر وحبسه هناك، وكذلك فعل بأمّ جعفر.

فأبت أن تخرج فقنّعها بالسوط وسبّها وأغلظ لها في القول، حتى [ أ ] جلست في محفّة وأدخلت مع ابنها، المدينة فلمّا أصبح الناس طلبوا من الحسين الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض فقام محمد بن أبي خالد بباب الشام فقال:

« أيّها الناس والله ما أدري بأيّ سبب تأمّر الحسين بن عليّ علينا وتولّى هذا الأمر دوننا. ما هو بأكبرنا سنّا ولا أكرمنا حسبا ولا أعظمنا غناء وفينا من لا يرضى بالدنيّة ولا ينقاد للمخادعة. وإني أوّل من نقض عهده وأنكر فعله فمن كان رأيه رأيي فليعتزل. » وقام كل رئيس قوم فتكلّم وأنكر خلع محمد وأسره.

وأقبل شيخ كبير على فرس فصاح بالناس:

« اسكتوا. » فسكتوا. فقال:

« أيّها الناس هل تعتدّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل قصّر بأحد من رؤسائكم؟ » قالوا: « لا. » قال: « فهل عزل أحدا من قوادكم عن قيادته؟ » قالوا: « لا. » قال: « فما بالكم خذلتموه حتى خلع وأسر؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به. »

الحربية يناهضون الحسين بن علي ويحررون محمدا من الأسر

ثم نهضت الحربية ونهض معهم عامّة أهل الأرباض في العدّة الحسنة، فقاتلوا الحسين بن عليّ وأصحابه قتالا عظيما شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، حتى هزموهم وأسروا الحسين بن عليّ. ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح، فأمرهم حتى أخذوا السلاح من الخزائن قدر حاجتهم وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا آخر، وأتى بالحسين بن عليّ أسيرا، فلامه محمد ووبّخه وقال:

« ألم أقدّم أباك على الناس وأولّه أعنّة الخيل؟ ألم أملأ يده من الأموال؟

ألم أشرّف أقداركم وأرفعكم على غيركم من القوّاد؟ » قال: « بلى. » قال: « فما استحققت منك أن تخلع طاعتي وتؤلّب الناس عليّ؟ » قال: « خذلان الله يا أمير المؤمنين وأنت أكرم من عفا وصفح وتفضّل. » قال: « فإنّ أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، فعليك بثأر أبيك ومن قتل من أهل بيتك، فقد ولّيتك ذلك. » ثم دعا بخلعة فخلعها عليه وحمله على مراكب وولّاه، وهنّأه الناس. ثم خرج مع نفر من خاصّته ومواليه حتى عبر الجسر ووقف حتى خفّ الناس، ثم قطع الجسر وهرب.

فنادى محمد في الناس فركبوا في طلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد في طريق نهر بين فلمّا بصر بالخيل نزل فتحرّم وصلّى ركعتين، ثم حمل عليهم حملات في كلّها يهزمهم ويقتل منهم. ثم عثر به فرسه، فسقط وابتدره الناس طعنا وضربا حتى قتلوه. فقال عليّ بن جبلة الحربي:

ألا قاتل الله الأولى كفروا به ** وفازوا برأس الهرثميّ حسين

لقد أوّدوا منه قناة صليبة ** بشطب يمانيّ ورمح ردين

رجا في خلاف الحقّ عزّا وإمرة ** فألبسه التأميل خفّ حنين

قتل محمد بن يزيد المهلبي

وفي هذه السنة رحل طاهر بن الحسين، حين قدم عليه هرثمة، من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله محمد بن يزيد بن حاتم المهلّبي.

وكان السبب في ذلك

أنّ محمد بن يزيد المهلّبي جمع جيوشا كبيرة حين توجّه إليه طاهر وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم وصيّر العمران والماء وراء ظهره. وخاف طاهر أن يعجل إلى أصحابه بجمعهم وسار بتعبئته، فجمع محمد بن يزيد أصحابه وقال:

« ما ترون، أطاول القوم وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم عليّ؟

فو الله ما أرجع إلى أمير المؤمنين أبدا ولا أنصرف عن الأهواز. » فقالوا: « الرأي أن ترجع إلى الأهواز فتحصّن بها وتغادى طاهرا اللقاء وتراوحه، وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفرض وتستجيش بمن قدرت عليه من قومك. » فقبل ما أشاروا به عليه وتابعه قومه. فرجع إلى سوق الأهواز. فحرص طاهر أن يسبقه إليها قبل أن يتحصّن بها فلم يقدر على ذلك. وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها وأسند إلى العمران وعبّأ أصحابه ودعا بالأموال فصبّت بين يديه، وقال لأصحابه: « من أراد منكم الجائزة والمنزلة فليعرّفنى أثره. » وقاتل الناس بين يديه حتى ترادّوا ورآهم محمد بن يزيد منهزمين فقال محمد بن يزيد لنفر كانوا معه من مواليه: « ما ترون؟ » قالوا: « في ما ذا؟ » قال: « أرى من معي قد انهزم، ولست آمل رجعتهم ولا آمن خذلان من بقي، وقد عزمت على النزول والقتال حتى يقضى الله ما هو قاض. فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف. » فقالوا: « والله ما أنصفناك إذا، أعتقتنا من الرقّ ورفعتنا من الضّعة وأغنيتنا بعد القلّة لننصرك وقت الشدّة ثم نخذلك على هذه الحال؟ بل نتقدّم أمامك ونموت تحت ركابك فلعن الله الدنيا بعدك. » ثم نزلوا فعرقبوا دوابّهم وحملوا على أصحاب طاهر، وكان المتولّى لقتاله قريش بن شبل، فأكثروا فيهم القتل، وانتهى بعض أصحاب قريش إلى محمد بن يزيد فطعنه بالرمح فقتله.

فحكى الهيثم بن عديّ قال: دخل ابن أبي عيينة المهلّبي على طاهر فأنشده قوله:

من آنسته البلاد لم يرم ** منها ومن أوحشته لم يقم

حتى انتهى إلى قوله:

ما ساء ظنّى إلّا لواحدة ** في الصّدر محصورة عن الكلم

فتبسّم طاهر ثم قال:

« أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك وآلمني منه ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أنّ الحتف واقع والمنايا نازلة، ولا بدّ من قطع الأواصر والتنكّر للأقارب في تأكيد الخلافة والقيام بحقّ الطاعة. »

قال: فظننّا أنّه يريد محمد بن يزيد [ بن ] حاتم.

وأقام طاهر بالأهواز حتى أنفذ عمّاله إلى كورها، وولّى اليمامة والبحرين وعمان ممّا يلي الأهواز وممّا يلي البصرة، ثم توجّه على طريق البرّ إلى واسط، فجعلت المسالح تقوّض مسلحة مسلحة وعاملا عاملا، كلّما قرب منهم طاهر تركوا أعمالهم وهربوا حتى دخل واسط، ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: أحمد بن المهلّب، نحو الكوفة وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي. فلمّا بلغه توجّه خيل طاهر إليه، خلع محمدا وكتب بطاعته وبيعته إلى طاهر. ثم كتب منصور بن المهدي وكان عاملا لمحمد على البصرة إلى طاهر بطاعته. ثم كتب إليه المطّلب بن عبيد الله - وكان بالموصل - بيعته للمأمون وخلعه محمدا، فأقرّهم طاهر على ولاياتهم وأعمالهم وكان طاهر نازلا جرجرايا ولمّا رآها قال:

« نعم موضع العسكر. » وعقد بها جسرا وخندق. فلمّا وردت عليه كتب أهل هذه المدائن بالتسليم سار منها إلى نهر صرصر، وعقد بها جسرا وأخذ أصحاب طاهر المدائن.

فحكى أنّ طاهرا لمّا توجّه إلى المدائن كان فيها خيل كثيرة لمحمد وعليهم البرمكي، قد تحصّن بها والمدد يأتيه في كلّ يوم والصلات والخلع.

فلمّا قرب طاهر منها قدّم قريش بن شبل على مقدّمته. فلمّا سمع أصحاب البرمكي طبوله أسرجوا الدوابّ، وأخذ البرمكي في تعبئة الرجال وجعل من في أوائل الناس ينضمّ إلى آخرهم، فيردّهم البرمكي ويسوّى صفوفه، فكلّما سوّى صفّا انتقض عليه. فقال:

« اللهم إنّا نعوذ بك من الخذلان. » ثم التفت إلى صاحب ساقته وقال:

« خلّ سبيل الناس فإني أرى جندا لا خير عندهم. » فركب بعضهم بعضا نحو بغداد ونزل طاهر المدائن وقدّم قريش بن شبل والعباس بن بخار أخذاه إلى درزيجان وكان نصر بن منصور بن نصر بن مالك، وأحمد بن سعيد الحرشي معسكرين بنهر ديالى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداذ وتقدّم طاهر حتى صار إلى الدّرزيجان حيال نصر وأحمد، ثم سيّر إليهما الرجال في السفن للقتال، فلم يجر بينهم كبير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر نحو ذات اليسار إلى نهر صرصر فعقد بها جسرا ونزلها.

خلع محمد في مكة والمدينة

وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى عامل مكّة والمدينة محمدا وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس، وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين. ثم خرج بنفسه.

ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك أنّ محمدا كتب إلى داود بن عيسى بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث بجند إلى الكتابين اللذين كتبهما هارون وعلّقهما في الكعبة، فأخذهما. فلمّا بلغه في هذا الوقت غلبة طاهر على البلاد وقتله من قتل، جمع الحجبة حجبة الكعبة، وأهل الشرف والفقهاء، فذكّرهم عهد الرشيد إليهم والمواثيق التي أخذها عند بيت الله الحرام عليهم حين بايع لابنيه: لنكوننّ مع المظلوم منهما على الظالم. ثم قال:

« قد رأيتم محمدا كيف بدأ بالظلم والبغي على أخويه وكيف بايع لابنه وهو طفل رضيع لم يفطم، واستخرج الكتابين من الكعبة غاصبا ظالما فحرّقهما بالنار، وقد رأيت خلعه ومبايعة عبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيّا عليه. » فقال القوم بأجمعهم:

« رأينا رأيك. » فوعدهم صلاة الظهر وأرسل إلى فجاج مكّة صائحا يصيح:

« الصلاة جامعة. » فلمّا اجتمع الناس صلّى بهم الظهر، وكان وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعده، وكان داود فصيحا جهيرا فخطب خطبة حسنة ذكّرهم فيها بالشرف والقدمة، وأنّ المسلمين وفود الله إليكم وبكم تأتمّ الناس، ثم ذكّرهم عهد الرشيد وما جرى في الكتابين، وعظّم عليهم الأمر ودعاهم إلى خلع محمد، والبيعة للمأمون، وقال:

« إني قد خلعت محمدا كما خلعت قلنسوتي هذه. - ورمى بها عن رأسه إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برد حبرة حمراء مسلسلة وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها - وقد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين، ألا فقوموا إلى البيعة. »

فصعد إليه من قرب من الوجوه والأشراف رجل رجل إلى وقت العصر، ثم نزل وصلّى بالناس وجلس ناحية وتتابع الناس عليه جماعة جماعة يقرأ كتاب البيعة ويصافحونه.

فعل ذلك أيّاما وكتب إلى ابنه سليمان بن داود وكان خليفته على المدينة يأمره أن يفعل بالمدينة كما فعل هو بمكّة، ثم رحل يريد المأمون بمرو، فمرّ على البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان حتى صار إلى المأمون بمرو، فسرّ به المأمون وتيمّن ببركة مكّة والمدينة، وكتب إليهم كتابا لطيفا يعدهم فيه الخير، وأمر أن يكتب لداود عهدان على مكّة والمدينة وأعمالهما وزيّد ولاية عكّ، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم.

وورد داود ومن معه بغداد فنزل على طاهر بن الحسين، فأكرمه وقرّبه، ووجّه معه يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وعقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وكان ضمن له يزيد بن جرير أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك اليمن حتى يخلعوا محمدا ويبايعوا المأمون، وساروا جميعا. فأقام داود على عمله بمكّة ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى البيعة للمأمون وخلع محمد وقرأ عليهم كتاب طاهر وأعلمهم عدل المأمون وإنصافه ووعدهم ومنّاهم، فأجابه أهل اليمن واستبشروا فسار فيهم يزيد بأحسن سيرة وكتب بإجابتهم وبيعتهم.

وفي هذه السنة عقد محمد نحو أربعمائة لواء لقوّاد شتّى، وأمر على جميعهم عليّ بن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين. فساروا فالتقوا بجللتا فهزمهم هرثمة وأسر عليّ بن محمد بن نهيك وبعث به هرثمة إلى المأمون وزحف هرثمة فنزل النهروان.

استئمان جماعة من أصحاب طاهر إلى محمد

واستأمن إلى محمد جماعة من أصحاب طاهر، ففرّق محمد فيهم مالا عظيما وقوّد منهم جماعة وغلّل لحاهم بالغالية فسمّوا قوّاد الغالية.

وكان سبب استئمان أصحاب طاهر ما كان يبلغهم من عطاء محمد وبذله الأموال والكسى. فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان فسرّ بهم محمد، ووعدهم ومنّاهم وأثبت أسماءهم في الثمانين، ودسّ محمد إلى أصحاب طاهر، وفرّق فيهم الجواسيس وأطمعهم، فشغبوا على طاهر، وراسل طاهر عيونه وجواسيسه ببغداد بأن يغرى أصاغرهم بأكابرهم، لأنّه فرّق في الأكابر خاصّة مال، فشغبوا على محمد.

ثم أخرج محمد المستأمنة مع خلق كثير - ومع كلّ عشرة أنفس منهم طبل - إلى طاهر، فأرعدوا وأجلبوا حتى أشرفوا على نهر صرصر فعبّى طاهر أصحابه كراديس وجعل يمرّ على كردوس كردوس فيقول:

« لا يغرنّكم كثرة من ترون، فإنّ النصر مع الصدق والفلح مع الصبر. » ثم أمرهم بالتقدّم، فصبر الفريقان ثم انهزم أهل بغداد وانتهبهم أصحاب طاهر، ثم كثر الشغب على محمد ونقب أهل السجون سجونهم وخرجوا، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعّار والشطّار، فعزّ الفاجر وذلّ المؤمن واختلّ الصالح وساءت حال الناس، إلّا من كان في عسكر طاهر، لتفقّده الأمور، وغادي القتال وراوحه حتى خربت بغداد، وتواكل الفريقان وقاتل الأخ أخاه والابن أباه واحترب الناس.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

محاصرة طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمدا ببغداد

وفي هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب محمدا ببغداد.

أمّا زهير فنزل قصرا برقّة كلواذى ونصب المجانيق والعرّادات واحتفر الخنادق، وكان إذا اشتغل الجند بحرب طاهر يرمى بالعرّادات من أقبل ومن أدبر ويعشر أموال التجار ويجتبى السفن. وآذى الناس وبلغ منهم كلّ مبلغ وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا ما نزل بهم من زهير، ثم قصده الناس بالحرب وبلغ ذلك هرثمة فأمدّه بالجند وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس.

وأمّا هرثمة فنزل نهربين وجعل عليه خندقا وحائطا، وأعدّ المجانيق والعرّادات، وأنزل طاهر عبيد الله بن الوضّاح الشماسية. وأمّا طاهر فنزل البستان الذي بباب الأنبار.

فذكر عن الحسين الخليع - وكان ينادم محمدا - أنّه قال: لمّا نزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار دخل محمدا أمر عظيم وضاق به ذرعا، وكان فرّق ما في يده من الأموال، فأمر ببيع كلّ ما في الخزائن وضرب آنية الفضّة والذهب دنانير ودراهم يفرّق في أصحابه وفي نفقاته.

واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فولّاه ناحية من الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة وأمر بحفر الخنادق وبناء الحيطان من كلّ ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمدّه بالنفقات والفعلة والفرسان والسلاح فكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، فكلّما أجابه أهل ناحية خندق عليهم ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبي إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله وأحرق منزله، وفعل ذلك قوّاده وفرسانه ورجّالته حتى أوحشت بغداد. وقال الشعراء في ذلك شيئا كثيرا لم نجد فيه ما نختاره فتركناه.

وسمّى طاهر الأرباض التي خالفته سكانها ومدينة أبي جعفر والشرقية وأسواق الكرخ والخلد وما والاها: دار النكث، وقبض ضياع من لم ينجز إليه من بنى هاشم والقوّاد والموالي وغلّاتهم، حيث كانت من عمله فذلّوا وانكسروا، وتواكلت الأجناد عن القتال إلّا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين.

وكان الأمين قد تقدّم إلى خالد بن أبي الصقر والهرش بإباحتهم النهب والاستعانة بهم على قتال طاهر. وكان محمد بن عيسى بن نهيك صاحب شرطة محمد يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بن عيسى غير مداهن في أمر محمد وكان مهيبا في الحرب وكان من يجرى مجراه من أصحاب محمد عليّ أفراهمرد، وكان موكّلا بقصر صالح وسليمان بن أبي جعفر وفي يده مجانيق وعرّادات يحفظ بها ما في يده من تلك النواحي إلى حدّ الجسور، فأمر الباعة والغوعاء والعراة باتخاذ تراس من البواري وبالرمي بالمقاليع وما أشبهها، فكانوا يقاتلون ويؤثّرون في أصحاب طاهر وهرثمة، ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب ووكّل الأمر كلّها إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش.

فأمّا الفضل بن الربيع فإنّه استتر وخفى أمره قبل أن ينتهى بهم الأمر إلى هذا بزمان كثير، فاستكلب العيّارون والعراة وسلبوا من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الذمّة والملّة، فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أنّ مثله كان في شيء من الأوقات المتقدّمه. فأمّا في المستأنف فقد جرت أمور عظام قبيحة مثل هذا وأقبح منه سنذكرها إذا بلغنا إليها إن شاء الله.

فلمّا طال ذلك على الناس وضاقت بغداد بأهلها استأمن محمد بن عيسى صاحب الشرطة وعليّ افراهمرد إلى طاهر، فضعف أمر محمد جدّا وأيقن بالهلاك وخرج من بغداد كلّ من كانت به قوّة، بعد الغرم الفادح وبعد المضايقة العظيمة والخطر الفاحش، فكان الرجل أو المرأة إذا تخلّص من أصحاب الهرش وصار إلى أصحاب طاهر، ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من حليّها وغير ذلك، وكذلك الرجل.

ولمّا صارت الحرب بين العيّارين وبين أصحاب طاهر، خرج قائد من قوّاد خراسان، ممّن كان مع طاهر بن الحسين من أهل البأس والنجدة، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فاستهان بهم واستحقرهم وقال لأصحابه:

« ما يقاتلنا إلّا من أرى؟ » قالوا: « نعم، هؤلاء هم الآفة. » قال: « أفّ لكم حين تخيمون عن هؤلاء وتنكصون عنهم وأنتم في السلاح الظاهر والعدّة، وأنتم أصحاب الشجاعة والبسالة وما عسى أن يبلغ كيد هؤلاء بلا سلاح ولا جنّة؟ » ثم أوتر قوسه وتقدّم ووضع عينه على بعضهم، فقصد نحوه وفي يده بارية مقيّرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلّما رمى بسهم استتر منه العيّار، فوقع في باريته وقريبا منه فيأخذه فيجعله في موضع من باريته قد هيّأه لذلك شبيها بالجعبة، فكلّما وقع في ترسه منهم أخذه وصاح.

« دنق. » أى ثمن النشّابة دنق قد أحرزه.

فلم يزل حال الخراساني وحال العيّار تلك، حتى أنفد الخراساني سهامه، ثم حمل على العيّار ليضربه بسيفه، فأخرج العيّار من مخلاته حجرا فجعله في مقلاعه ورماه، فما أخطأ به عينه، ثم ثنّاه سريعا فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحامله وكرّ راجعا وهو يقول:

« ما هؤلاء بإنس. » فحدّث طاهر بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إليهم. وقال بعض شعراء أهل بغداد:

خرّجت هذه الحروب رجالا ** لا لقحطانها ولا لنزار

معشرا في جواشن الصّوف يعدو ** ن إلى الحرب كالأسود الضّوارى

وعليهم مغافر الخوص تجزي ** هم عن البيض والتّراس البواري

ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ** طال عاذوا من القنا بالفرار

واحد منهم يشدّ على أل ** فين عريان ما له من إزار

ويقول الفتى إذا طعن ال ** طّعنة خذها من الفتى العيّار

في أبيات كثيرة، ووصفهم الشعراء كثيرا.

وأخذ طاهر في الهدم والحرق على من خالفه ومنع الملّاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد ووضع الرّصد عليهم فكان يحوى في كلّ يوم ناحية بعد ناحية ويخندق عليها ويقيم عليها المقاتلة. فكان أصحاب محمد ينقضون، حتى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد ويكونون أضرّ عليهم من أصحاب طاهر.

ولمّا منع طاهر الميرة من بغداد وكان يأخذ من كلّ سفينة تحمل دقيقا أو غيره مالا عظيما غلت الأسعار، وصار أمر الناس إلى القنوط واليأس من الفرج وحسد المقيم منهم من قد خرج عنها. وصار أمر محمد إلى أن أمر غلامه زرنج بتتبّع الأموال وطلبها عند من وجد، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم ويبيّتهم ليلا ويأخذ بالظنّة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة وأهلك خلقا.

ثم إنّ حاتم بن الصقر من قوّاد محمد وكان قد واعد أصحابه العراة أن يواقعوا عبيد الله بن الوضّاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولّى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا.

الخبر عن هزيمة هرثمة

وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته وليردّ العسكر إلى موضعه، فوافاه أصحاب محمد ونشّبت الحرب بينهم فأسر رجل من العراة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على العريان فقطع يده وخلّص هرثمة، فمرّ منهزما وبلغ خبره أهل عسكره فتقوّض بما فيه وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز الليل أصحاب محمد عن الطلب والنهب والأسر، فلم يتراجع أصحاب هرثمة إلّا بعد يومين وثلاثة، وقويت العراة بما صار في أيديهم. وقيلت في هذه الوقعة أشعار كثيرة.

وبلغ طاهرا هزيمة عبيد الله بن الوضّاح وهرثمة وما صار إلى العراة من سلاحهم وأموالهم، فاشتدّ عليه وقام منه وقعد، ووجّه إلى أصحابه وعبّأهم وأمر بعقد جسر فوق الشمّاسيّة وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا النهر وقاتلوهم أشدّ قتال يكون، حتى ردّوا أصحاب محمد وأزالوهم عن الشماسية وردّ إليها جند عبيد الله وهرثمة. وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه بالخيزرانية بعد ظفر العراة ألفي ألف درهم في مواضعها وقد كانت النفقة عليها عشرين ألف ألف درهم. فحرقها أصحاب طاهر وكانت السقوف مذهّبة.

وهرب عبيد الله بن خازم بن خزيمة، لأنّ محمدا اتهمه وتحامل عليه قوم من السفلة والعيّارين، فخافهم على نفسه فلحق بالمدائن ليلا في السفن بعياله وولده، وأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال وفعل ذلك بمواطأة طاهر.

وضاق على محمد أمره ونفذ ما كان عنده ولم يبق له حيلة، وطلب الناس الأرزاق فقال عند ضجره بذلك:

« وددت أنّ الله قتل الفريقين جميعا وأراحنى منهم، فما منهما إلّا عدوّ، وأمّا هؤلاء فيريدون مالي ولم يبق، وأمّا هؤلاء فيريدون نفسي. »

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

بين خزيمة وطاهر

وفيها كاتب طاهر خزيمة بن خازم يذكر له أنّ الأمر إن انقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر في نصرته لم يقصر في مكروهه. فلمّا وصل كتابه إليه شاور ثقاته فقال له أصحابه وأهل بيته:

« نرى والله إنّ هذا الرجل آخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك ولنا. » فكتب إلى طاهر بطاعته وأخبره أنّه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه على كلّ هول، وأعلمه قلّة ثقته بهرثمة ويناشده ألّا يحمله على مكروه عظيم إلّا أن يضمن له القيام دونه، ووعده بإدخال هرثمة وقطع الجسور وأنّه يتّبع هواه ويؤثر رضاه، وأنّه إن لم يضمن ذلك فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف.

فكتب طاهرا إلى هرثمة يلومه ويعجّزه ويقول:

« جمعت الأجناد وأتلفت الأموال دون أمير المؤمنين ودوني في مثل حاجتي إلى النفقات وقد توقّفت عن قوم هيّنة شوكتهم يسير أمرهم توقّف المحجم الهائب لهم، استعدّ للدخول فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور وأرجو ألّا يختلف عليك في ذلك اثنان، إن شاء الله. » فأجابه هرثمة:

« أنا عارف ببركة رأيك ويمن مشورتك فمر بما أحببت، فلن أخالفك. » قال: فكتب بذلك طاهر إلى خزيمة.

خزيمة ودعوته للمأمون

وكان كتب طاهر إلى محمد بن عليّ بن عيسى بمثل ذلك قبل، فلمّا كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة، وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن عليّ بن عيسى على جسر دجلة، فقطعاه وركّزا أعلامهما عليه وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل الجانب الشرقي ولزموا منازلهم وأسواقهم من يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتى تقدّمه قوم وعادوا إليه فحلفوا أنّه لا يرى مكروه فدخل حينئذ.

وباكر طاهر من غد ذلك اليوم وهو يوم الخميس المدينة وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتى الصراة العتيقة والحديثة واشتدّ عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه وقاتل بين يديه أصحابه حتى هزم أصحاب محمد، وفرّوا على وجوههم لا يلوى أحد على أحد حتى دخل قسرا بالسيف، وأمر مناديه بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضّاح وسوق الكرخ والأطراف قوّادا وجندا في كلّ موضع على قدر حاجته منهم، وقصد إلى مدينة أبي جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبّها في دجلة بالخيول والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورماه.

وخرج محمد بأمّه وولده إلى مدينة أبي جعفر وتفرّق عنه عامّة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق لا يلوى منهم أحد على أحد وتفرّق الغوغاء والسفلة. وتحصّن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.

فحكى طارق الخادم وكان من خاصّة محمد - وكان المأمون بعد ذلك أيضا يقدّمه - أن محمدا سأله يوما من الأيّام وهو محصور - أو قال في آخر يوم من أيّامه - أنّ أطعمه شيئا. قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا فجئت إلى حمرة العطّارة وكانت خازنة الجوهر فقلت لها:

« إنّ أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء؟ فإني لم أجد في المطبخ شيئا؟ » فقالت لجارية لها يقال لها بنان:

« أيّ شيء عندك؟ » فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل وطلب ماء يشربه فلم يجد في خزانة الشراب ماء، فأمسى وكان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتى أتى عليه.

ذكر اتفاقات عجيبة

حكى إبراهيم بن المهدي أنّه كان نازلا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب لمّا حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرّج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار في قرن الصراة في جوف الليل، ثم أرسل إليّ فصرت إليه، فقال لي:

« يا إبراهيم أما ترى طيب هذه الليلة وحسن هذا القمر وضوءه في الماء - ونحن حينئذ في شاطئ دجلة - فهل لك في الشرب؟ »

قلت: « شأنك، جعلني الله فداءك. » قال: فدعا برطل فشربه، ثم أمر فسقيت مثله.

قال: فابتدأت أغنّيه من غير أن يسألنى لعلمي بسوء خلقه، فغنّيت ما كنت أعلم أنّه يحبّه فقال لي:

« ما تقول فيمن يضرب عليك؟ » فقلت: « ما أحوجنى إلى ذلك. » فدعا بجارية متقدّمة عنده يقال لها: ضعف، فتطيّرت من اسمها ونحن في تلك الحال التي هو عليها. فلمّا صارت بين يديه قال لها:

« تغنّى. » فغنّت بشعر النابغة الجعدي:

ليب لعمري كان أكثر ناصرا ** وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم

قال: فاشتدّ عليه ما غنّت به وتطيّر منه فقال لها:

« غنّى غير هذا. » فغنّت:

أبكى فراقهم عيني فأرّقها ** إنّ التّفرّق للأحباب بكّاء

ما زال بعدو عليهم ريب دهرهم ** حتى تناءوا وريب الدّهر عدّاء

فقال لها:

« لعنك الله، أما تعرفين من الغناء شيئا سوى هذا الفنّ؟ » فقالت: « يا سيّدي ما تغنّيت إلّا بما ظننت أنّك تحبّه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلّا شيء جاءني. » ثم أخذت تغنّى:

أما وربّ الّسكون والحرك ** إنّ المنايا كثيرة الشّرك

ما اختلف الليل والنّهار ولا ** دارت نجوم السّماء في الفلك

إلّا لنقل السّلطان من ملك ** عات بسلطانه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبدا ** ليس بفان ولا بمشترك

فقال لها:

« قومي، غضب الله عليك ولعنك. » فقامت.

وكان له قدح من بلّور حسن الصنعة، وكان محمد يسمّيه: زبّ رباح، وكان موضوعا بين يديه فقامت الجارية منصرفة، فسحبت عليه رداؤها فكسرته وقالت:

« تعس وانتكس الشيطان. » فقال إبراهيم: فقال لي:

« ويحك يا إبراهيم أما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظنّ أمري إلّا وقد قرب. » فقلت: « يطيل الله بقاءك ويعزّ ملكك ويديم نعمتك ويكبت عدوّك. » فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا عن دجلة:

« قضى الأمر الّذى فيه تستفتيان. » فقال لي:

« يا إبراهيم أما سمعت؟ » قلت: « لا والله ما سمعت شيئا. وقد كنت سمعت. » قال: « تسمّع حسّنا. » قال: فدنوت من الشطّ فلم أر شيئا، ثم عاودنا الحديث فعاد الصوت:

« قضى الأمر الذي فيه تستفتيان. » فوثب من مجلسه ذلك مغتمّا، ثم ركب ورجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلّا ليلة أو ليلتان، حتى حدث ما حدث من قتله. وفي هذه السنة قتل محمد بن هارون الأمين.

مقتل محمد بن هارون الأمين ذكر ما أشير به على محمد فلم يقبله وما تأدى إليه الأمر

لمّا صار محمد إلى المدينة وقرّ فيها وعلم قوّاده أنّه ليس لهم ولا له فيها عدّة للحصار. وخافوا أن يظفر بهم دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وقوّاده فقالوا له:

« قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنّا نرجو أن يكون صوابا، إن شاء الله. » قال: « وما هو؟ » قالوا: « قد تفرّق جندك عنك وأحاط عدوّك بك من كلّ جانب وقد بقي من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارها وجيادها سوى مراكبك، فنرى أن تختار ممّن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة آلاف رجل، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا على باب من هذه الأبواب، فإنّ الليل لأهله، فنخرج ولن يثبت لنا أحد وتسير حتى تلحق بالشام والجزيرة فنفرض الفروض ونجبى الخراج وتصير في مملكة واسعة وملك جديد، فيسارع إليك الناس من كلّ أوب وينقطع الجنود في طلبك وإلى ذاك ما قد أحدث الله في مكّر الليل والنهار أمورا. » فقال لهم:

« نعمّا رأيتم. » واعتزم على ذلك وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر والى محمد بن عيسى بن نهيك والى السندي بن شاهك:

« قد بلغني عزيمة محمد وو الله لئن لم تردّوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلّا قبضتها، ثم لا تكون لي همّة إلّا نفوسكم. فإنّ هؤلاء الذين يسيرون معه صعاليك لا يخلّفون شيئا يشفقون عليه. فاعملوا على ما رسمته تسلموا، إن شاء الله. » فدخلوا على محمد وقالوا:

« نذكّرك الله في نفسك فإنّ هؤلاء صعاليك، وقد ضاق عليهم الحصار وهم يرون أن لا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر، لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجدّ، فيها ولسنا نأمن إذا برزوا وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرا أو يأخذوا رأس عدوّك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم. »

وضربوا له في ذلك الأمثال حتى فزع وغيّر عزمه ورأيه.

وكان أصحابه الذين أشاروا بما أشاروا أولا جلوسا في رواق البيت، فسمعوا جميع ما قاله سليمان وأصحابه، فهمّوا جميعا بقتل سليمان وأصحابه. ثم قالوا:

« حرب من خارج وحرب من داخل. » فأمسكوا.

ثم أشار عليه هؤلاء وقالوا:

« قد بذل لك الأمان فاقبله، فإنّما غايتك اليوم السلامة واللهو، وليس يمنعك أخوك من ذلك وسينزلك حيث تحبّ ويفردك مع من تحبّ وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه. » فركن إلى ذلك وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة دون طاهر، وكان استشعر خوفا من طاهر. وكان جماعة من أصحابه يكرهون هرثمة، لأنّهم كانوا من أصحابه وقد عرفهم وعرفوه وخافوا أن يجفوهم ولا يجعل لهم مراتب.

فدخلوا على محمد فقالوا:

« أمّا إذ أبيت ما أشرنا به وهو الصواب وقبلت رأى هؤلاء وهو الخطأ، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة. » فقال لهم محمد:

« ويحكم إني أكره طاهرا وذلك أنّى رأيت في منامي كأنّى قائم على حائط من آجر شاهق في السماء عريض الأساس وثيق لم أر حائطا يشبهه في الطول والعرض والوثاقة وعليّ سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفّى، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، بيده بيل يضرب به أصل الحائط فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت وندرت قلنسوتي عن رأسى وأنا أتطيّر منه وأكره الخروج إليه، وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد وأنا به أشدّ ثقة. » فلمّا همّ محمد بالخروج إلى هرثمة وسعى له بذلك وأجابه هرثمة إلى ما أراد، اشتدّ ذلك على طاهر وأبي أن يرفّه عنه ويدعه يخرج وقال:

« هو في حيّزى والجانب الذي أنا فيه وأنا أخرجته بالحرب والحصار حتى طلب الأمان فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني فيكون الفتح له. » فلمّا رأى هرثمة والقوّاد ذلك اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم، فصار إليهم طاهر في خاصّة قوّاده وحضر محمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك وأداروا الرأي بينهم. فأخبروا طاهرا أنّه لا يخرج إليه أبدا وأنّه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يجرى في أمره ما جرى مثله أيّام الحسين بن عليّ بن عيسى بن ماهان وقالوا له:

« يخرج ببدنه إلى هرثمة إذ كان يأنس به ويثق بناحيته ويدفع الخاتم والقضيب والبردة وذلك هو الخلافة إليك، فلا تفسد هذا الأمر واغتنمه. » فأجاب طاهر إلى ذلك ورضى.

ولمّا تهيّأ محمد للخروج خرج إلى صحن القصر فقعد على كرسيّ وقام خدمه بين يديه بالأعمدة. وجاءه خادم فقال:

« يا سيّدي، أبو حاتم يقرأ عليك السلام - يعنى هرثمة - ويقول لك: يا سيّدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني رأيت ألّا تخرج الليلة فإني قد رأيت - وفي دجلة وعلى الشطّ - أمر قد رابنى وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك ونفسي، ولكن أقم بمكانك حتى أرجع فاستعدّ، ثم آتيك القابلة، فأخرجك، فإن حوربت دونك حاربت ومعي عدّتى. » قال: فقال له محمد:

« إرجع إليه فقال له: لا تبرح، فإني خارج إليك الساعة لا محالة. » قال: وقلق:

« إنّه قد تفرّق عني الناس ومن على بابى من الموالي والحرس ولا آمن إن أصبحت وانتهى خبري إلى طاهر أن يدخل عليّ فيأخذنى. » ثم دعا بفرس له أدهم أغرّ محجّل كان يسمّيه: الزهيرى، ودعا بابنيه فضمّهما إليه وشمّهما وقال:

« أستودعكما الله. » ودمعت عيناه، فجعل يمسح دموعه بكمّه، ثم قام فوثب على الفرس وخرجنا بين يديه إلى باب القصر حتى ركبنا دوابّنا وبين يديه شمعة واحدة حتى خرجنا إلى المشرعة، فإذا حرّاقة هرثمة، فنزل في الحرّاقة.

ورجعنا إلى المدينة فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق وسمعنا الواعية فصعدنا القبّة التي على الباب نتسمّع الصوت.

فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم أنّه قال: كنت مع هرثمة مع قوّاده في الحرّاقة. فلمّا دخل محمد الحرّاقة قمنا على أرجلنا إعظاما له وجثا هرثمة على ركبتيه وقال:

« يا سيّدي لا أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي. » ثم احتضنه وصيّره في حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه ويقول:

« سيّدي ومولاي وابن سيّدي ومولاي. » وجعل محمد يتصفّح وجوهنا ونظر إلى عبيد الله بن الوضّاح فقال:

« أيّهم أنت؟ » قال: « أنا عبيد الله بن الوضّاح. »

قال: « نعم جزاك الله خيرا فما أشكرنى لما كان منك في أمر الثلج ولو قد لقيت أخي - أبقاه الله - لم أدع شكرك عنده. » قال: فبينا نحن كذلك، وقد أمر هرثمة بالحرّاقة أن تدفع، إذ شدّ علينا أصحاب طاهر في الزواريق وعطعطوا وتعلّقوا بالسكّان وبعض يقطع السكّان وبعض ينقب الحرّاقة وبعض يرمى بالنشّاب فنقبت الحرّاقة سريعا ودخلها الماء وغرقت وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا كلّنا فتعلّق الملّاح بشعر هرثمة فأخرجه وخرج كلّ واحد منّا على حياله لقربنا من الشطّ ورأيت محمدا في تلك الحال وقد شقّ عنه ثيابه ورمى بنفسه إلى الماء. فأمّا أنا فتعلّق بي رجل من أصحاب طاهر ومضى بي إلى رجل قاعد على كرسيّ على شطّ دجلة وبين يديه نار توقد. فقال له بالفارسية:

« هذا رجل أخرج من الماء ممّن غرق من أهل الحرّاقة. » فقال لي:

« ممّن أنت؟ » قلت: « من أصحاب هرثمة أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين. » قال: « كذبت فاصدقني. » قلت: « قد صدقتك. » قال: « فما فعل المخلوع؟ » قلت: « رأيته حين شقّ عنه ثيابه وقذف بنفسه في الماء. » قال: « قدّموا دابّتى. » فقدّموا دابّته فركب وأمر بي أن أجنب، فجعل في عنقي حبل وجنبت وأخذ في درب الزبيدية. ولمّا عدوت ساعة انبهرت فلم أقدر على العدو فقمت. فقال الذي خلفي:

« قد قام هذا الرجل وليس يعدو. » قال: « انزل فخذ رأسه. » قلت: « جعلت فداك، ولم تقتلني وأنا رجل لله عليّ نعمة ولا أقدر على العدو وأنا أفدى نفسي بعشرة آلاف درهم. » فلمّا سمع ذكر العشرة آلاف قال للرجل الذي أمره بقتلى:

« أمسك. » ثم قال:

« وكيف لي بالعشرة آلاف؟ » قلت: « تحبسني عندك حتى نصبح، ثم تدفع إليّ رسولا أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي. » قال: « قد أنصفت. » وأمر بحملي فحملت ردفا، فمضى بي إلى دار صاحبه دار أبي صالح الكاتب وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتفهّم مني خبر محمد ووقوعه إلى الماء ومضى إلى طاهر ليخبره وإذا هو إبراهيم البلخي. قال: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بواري ووسادتان وفي زاوية من زواياه حصر مدرّجة قال: فقعدت في البيت وصيّروا فيه سراجا وتوثّقوا من الباب وقعدوا يتحدّثون. فلمّا ذهب من الليل ساعة إذا نحن بحركة الخيل، فدقّوا الباب ففتح لهم وهم يقولون:

« بسّر زبيدة. » قال: « فأدخل إليّ رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثّم بها وعلى كتفيه خرقة خلقة. فصيّروه معي وتقدّموا إلى من في الدار بحفظه وخلّفوا معهم قوما آخرين منهم أيضا. قال: فلمّا استقرّ في البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي، وجعل ينظر إليّ. ثم قال:

« أيّهم أنت؟ » قلت: « أنا مولاك يا سيّدي. » قال: « وأيّ الموالي؟ » قلت: « أحمد بن سلام صاحب المظالم. » قال: « أعرفك بغير هذا، كنت تأتينى وتلطفنى كثيرا، لست مولاي، ولكنّك أخي. » ثم قال: « يا أحمد. » قلت: « لبّيك يا سيّدي. » قال: « أدن مني وضمّنى إليك، فإني أجد وحشة شديدة. » قال: « فضممته إليّ، فإذا قلبه يخفق حتى يكاد يخرج من صدره، فلم أزل أضمّه إليّ وأسكّنه. » قال: ثم قال لي:

« يا أحمد ما فعل أخي؟ » قلت: « هو حيّ. » قال: « قبّح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته. » قال: قلت: « يا سبحان الله! ففي أيّ شيء دفعنا إذا، بل قبّح الله وزراءك. » قال: « لا تقل لوزرائى إلّا خيرا، فما لهم ذنب ولست بأوّل من طلب أمرا فلم يقدر عليه. »

ثم قال لي: « يا أحمد ما تراهم يصنعون بي، تراهم يقتلوني أو يفون لي بأمانهم؟ » قال: قلت: « بل يفون لك يا سيّدي. » قال: وجعل يضمّ على نفسه الخرقة التي على كتفيه ويضمّها ويمسكها بعضديه يمنة ويسرة. قال: ونزعت مبطّنة كانت عليّ وقلت يا سيّدي:

« ألق هذه عليك. » قال: « ويحك دعني، فهذا من الله لي في هذا الموضع خير. » قال: وبينا نحن كذلك إذ دقّ باب الدار ففتح فدخل علينا رجل عليه سلاحه فتطلّع في وجهه مستثبتا له، فلمّا أثبته معرفة انصرف وأغلق الباب وإذا هو محمد بن حميد الطاهري. قال: فعلمت أنّ الرجل مقتول. قال:

وكان بقي عليّ من صلاتي الوتر فخفت أن أقتل معه ولم أوتر. قال: فقمت أوتر. فقال لي:

« يا أحمد لا تباعدني وصلّ إلى جانبي فإني أجد وحشة شديدة. » قال: فاقتربت منه. فلمّا انتصف الليل أو قارب سمعت حركة الخيل، ودقّ الباب ففتح فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسلّلة، فلمّا رآهم قام قائما وجعل يقول:

« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما من حيلة أما من مغيث، أما من أحد من الأبناء؟ » قال: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول وجعل بعضهم يقول لبعض « تقدّم » ويدفع بعضهم بعضا. قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرّجة في زاوية البيت، وقام محمد فأخذ بيده وسادة وجعل يقول:

« ويحكم إني ابن عمّ رسول الله أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون الله الله في دمى. » قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له: حميرويه غلام لقريش الدندانى مولى طاهر، فضربه على مقدم رأسه وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده، فصاح بالفارسية:

« قتلني، قتلني. » قال: فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر، فتركوا جثّته. ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثّته فأدرجوها في جلّ وحملوها. قال: فأصبحت فقيل:

« هات العشرة آلاف درهم. » قال: فبعثت إلى وكيلي فأتانى فأمرته فأتانى بها فدفعتها إليه.

ولمّا أصبح طاهر نصب رأس محمد على البرج برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار، وفتح باب الأنبار وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم. وأقبل طاهر يقول:

« هذا رأس المخلوع. » وذكر محمد بن عيسى أنّه قال: رأى المخلوع على ثوبه قمّلة، فقال:

« ما هذا؟ » قالوا: « شيء يكون في ثياب الناس. » فقال: « أعوذ بالله من زوال النعمة. » فقتل من يومه.

وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع الرداء والقضيب والمصلّى وهو من سعف مبطّن مع محمد بن مصعب ابن عمّه فأمر له المأمون بألف ألف درهم. قال: فرأيت ذا الرئاستين وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون. قال: فلمّا رآه سجد.

وكتب طاهر إلى إبراهيم بن المهدي بعد قتل المخلوع:

« أمّا بعد، فإنّه عزيز عليّ أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير ولكنّه بلغني أنّك تميل بالرأي وتصغى بالهوى إلى الناكث المخلوع.

فإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته. »

وثوب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين

وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيّب أيّاما حتى أصلح أمرهم.

ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما استعمله طاهر من الحزم قبله

إنّ أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيّام طلبوا أرزاقهم ووثبوا به ولم يكن في يده مال فضاق به أمره، وظنّ أنّ ذلك بمواطأة أهل الأرباض إيّاهم وأنّهم معهم عليه ولم يكن تحرّك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدّت شوكتهم وخشي طاهر على نفسه فهرب من البستان وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عاقرقوف.

وكان ممّا قدّم الحزم فيه أن حفظ أبواب المدينة وباب القصر لمّا فرغ من قتل محمد وحوّل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد إلى قصر الخلد ليلا ثم حملهم في حرّاقة همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمّهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.

فلمّا وثب الجند بطاهر وطلبوا الأرزاق أحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح ونادوا:

« موسى يا منصور. » وبقوا كذلك يومهم ومن الغد، فتبيّن صواب رأى طاهر في إخراج موسى وعبد الله. وكان طاهر انحاز ومن معه من القوّاد وتعبّأ لقتالهم ومحاربتهم.

فلمّا بلغ ذلك الوجوه والقوّاد ممّن شغّب صاروا إليه واعتذروا وأحالوا على سفهاء الجند وأحداثهم وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضى وضمنوا له ألّا يعودوا لمكروهه ما أقام معهم.

وأتاه مشايخ الأرباض فحلفوا له بالمغلّظة من الأيمان أنّه لم يتحرّك في هذه الأيّام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم ولا أرادوه.

وضمنوا له أن يقوم له كلّ إنسان منهم في ناحيته بما يجب عليه حتى لا يأتيه من ناحيته أمر يكرهه.

وأتاه عميرة أبو شيخ بن عميرة الأسدى في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ذلك وأعلموه حسن رأى من خلفهم من الأبناء فطابت نفسه إلّا أنّه قال:

« والله ما اعتزلت عنهم إلّا لوضع السيف فيهم. وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودنّ إلى رأيي فيكم ولأخرجنّ إلى مكروهكم. » فكسرهم بذلك وأمر لهم برزق أربعة أشهر وانصرف إلى معسكره بالبستان ودعا بوجوه أصحابه وفيهم سعيد بن مالك وقال:

« أنّه لا مال عندي وقد أطلقت للقوم أرزاقهم، فما الوجه؟ » فقال سعيد:

« أنا أحمل عشرين ألف دينار. » فطابت نفسه وحمل غيره حتى أرضى أصحابه وقال لسعيد:

« إني أقبلها على أن تكون دينا عليّ. » فقال: « بل هي هدية وقليله لغلامك وفيما أوجب الله من حقّك. » وسكن الجند.

وكانت خلافة محمد المخلوع نحو خمس سنين ينقص شهرين، وكان عمره كلّه ثمانيا وعشرين سنة، وكان سبطا أنزع أبيض أقنى جميلا طويلا أبعد ما بين المنكبين صغير العينين.

وذكر الموصلي أنّ طاهرا لمّا بعث برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرئاستين وقال:

« سلّ عليها سيوف الناس وألسنتهم أمرناه أن يبعث به أسيرا فبعث به عقيرا. » فقال له المأمون:

« أنّه قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه. » وكتب الناس فأطالوا وجاء أحمد بن يوسف بشبر قرطاس فيه:

« أمّا بعد فإنّ المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرّق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة بمفارقته عصم الدين وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. يقول الله عز وجل حين اقتصّ نبأ ابن نوح: إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ولا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع وردّاه رداء نكثه وأحصد لأمير المؤمنين أمره وأنجز له وعده وما ينتظر من صادق أمره حين ردّ به الألفة بعد فرقتها وجمع الأمّة بعد شتاتها وأحيى به الأعلام من الإسلام بعد دروسها. »

خلافة المأمون

وفي هذه السنة ولّى المأمون كلّ ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.

وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما في يده من الأعمال في البلدان كلّها إلى خلفاء الحسن بن سهل وأن يشخص عن ذلك إلى الرقّة وجعل إليه حرب نصر بن شبث وولّاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وقدم عليّ بن أبي سعيد العراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها. فدافع طاهر عليّا بتسليم الخراج إليه حتى وفّى الجند أرزاقهم. فلمّا وفّاهم سلّم إليه العمل.

وكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.

ودخلت سنة تسع وتسعين ومائة

وفيها قدم الحسن بن سهل العراق من عند المأمون واليه الحرب والخراج، وفرّق عمّاله في الكور والبلدان.

خروج ابن طباطبا في الكوفة دعوة إلى الرضا من آل محمد (ص) والعمل بالكتاب والسنة

وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام يدعو إلى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنّة وهو الذي يقال له: ابن طباطبا، وكان القيّم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا واسمه السرى بن منصور.

ذكر السبب في خروجه

كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عمّا كان إليه من أعمال البلدان التي افتتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل. وذلك أنّ الناس بالعراق تحدّثوا بينهم أنّ الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنّه قد أنزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قوّاده ومن الخاصّة والعامّة، وأنّه يبرم الأمور على هواه ويستبدّ بالرأي دونه. فغضب لذلك من بالعراق من بنى هاشم ووجوه الناس وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون واجترأوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار. فكان أوّل من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.

وكان سبب خروجه أنّ أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخّره بها. فغضب أبو السرايا ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا واجتمع إلى ابن طباطبا الناس. فوجّه الحسن بن سهل زهير بن المسيّب في أصحابه إلى الكوفة في عشرة آلاف فارس وراجل، فتهيأوا للخروج إليه، فلم تكن بهم قوّة على الخروج. فأقاموا حتى بلغ زهير قرية شاهي، ثم واقعهم ابن طباطبا فهزمهم واستباح عسكرهم وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودوابّ وغير ذلك.

فلمّا كان من غد ظفره بزهير واستباحته عسكره، مات فجأة، فتحدّث الناس أنّ أبا السرايا سمّه وأنّه إنّما فعل ذلك لأنّ ابن طباطبا لمّا أحرز ما في عسكر زهير بن المسيّب من المال والسلاح والكراع، منعه أبا السرايا وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين فعلم أبو السرايا أنّه لا أمر له فسمّه.

فلمّا مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلاما أمرد حدثا وهو محمد بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عليهم السلام. فكان أبو السرايا هو الذي ينفّذ الأمور.

وكان الحسن بن سهل قد وجّه عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذيّ إلى النّيل حين وجّه زهيرا إلى الكوفة. فلمّا هزم أبو السرايا زهيرا خرج عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل حتى بلغ الجامع وزهير مقيم بالقصر، فتوجّه أبو السرايا إلى عبدوس فواقعه بالجامع فقتله وأسر هارون بن أبي خالد واستباح عسكره وكان في أربعة آلاف، فلم يفلت منهم أحد كانوا بين قتيل وأسير.

وانتشر الطالبيّون وانحاز زهير إلى نهر الملك وأقبل أبو السرايا حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه وكانت طلائعه تأتى كوثى. ثم وجّه أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط فدخلوها، وكان بواسط وأعمالها عبد الله بن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبا من واسط فهزموه فانصرف راجعا إلى بغداد وقتل أصحابه وأسروا.

فلمّا رأى الحسن بن سهل أنّ أبا السرايا يهزم عساكره ولا يتوجّه إلى بلدة إلّا افتتحها ولم يجد في قوّاده من يكفيه حربه، تذكّر هرثمة. وكان هرثمة لمّا قدم الحسن بن سهل العراق واليا من قبل المأمون سلّم إليه ما كان بيده من الأعمال وتوجّه نحو خراسان مغاضبا، فبلغ حلوان وبعث إليه الحسن السندي وصالحا صاحب المصلّى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا فامتنع وأبي وقال:

« تذكروننا عند البلاء. » فانصرف رسل الحسن إليه بإباءه وتمنّعه فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة ورسائل تشبه الكتب، فأجاب وانصرف إلى بغداد فقدمها في شعبان وتهيّأ للخروج.

وأمر الحسن عليّ بن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة وتهيئوا لذلك وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجّه إلى المدائن فدخلها أصحابه في شهر رمضان وتقدّم هو بنفسه حتى نزل صرصر.

وكان هرثمة أنفذ منصور بن المهدي إلى الياسرية فخرج وعسكر بها. فلمّا قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور ثم شخص إلى نهر صرصر بإزاء أبي السرايا والنهر بينهما. وتوجّه عليّ بن سعيد من طريق كلواذى إلى المدائن فقاتل أصحاب أبي السرايا وهزمهم وأخذ المدائن وبلغ أبا السرايا فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وأصبح هرثمة فجدّ في طلبه فوجد جماعة كبيرة فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل ثم صار إلى قصر ابن هبيرة فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير وانحاز أبو السرايا إلى الكوفة.

فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيّين على دور بنى العبّاس ومواليهم وأتباعهم فانتهبوها وهدموها وحرّقوها وخرّبوا ضياعهم وأخرجوهم من الكوفة وعملوا في ذلك عملا قبيحا جدّا واستخرجوا الودائع التي كانت عند الناس.

وتوجّه عليّ بن أبي سعيد بعد أخذه المدائن إلى واسط فأخذها ثم توجّه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع.

ثم دخلت سنة مائتين

هروب أبي السرايا من الكوفة ومقتله

وفيها هرب أبو السرايا من الكوفة ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدي فآمنوا أهلها ولم يعرضوا لأحد. ثم إنّ أبا السرايا عبر دجلة أسفل واسط. فأتى عبدسيّ فوجد بها مالا كان حمل من الأهواز فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس فنزلها وأقام بها أربعة أيّام وجعل يعطى الفارس ألفا والراجل خمسمائة.

فلمّا كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن عليّ الباذغيسى المعروف بالمأمونى فأرسل إليهم:

« اذهبوا حيث شئتم فإنّه لا حاجة لي في قتالكم، إذا أنتم خرجتم من عملي فلست أتبعكم. » فأبى أبو السرايا إلّا قتاله فقاتلهم فهزمهم الحسن واستباح عسكرهم وجرح أبو السرايا جراحة شديدة فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، فأخذوا ناحية الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين، فلمّا انتهوا إلى جلولاء عثر بهم فأتاهم حمّاد فأخذهم فجاء بهم إلى الحسن بن سهل وكان مقيما بالنهروان حين طردته الحربية فضرب عنق أبي السرايا، وكان الذي تولّى ضرب رقبته هارون بن محمد بن أبي خالد الذي كان أسيرا في يده. فلم ير أحد عند القتل أشدّ جزعا من أبي السرايا كان يضرب بيديه ورجليه ويصيح أشدّ ما يكون من الصياح حتى جعل في رأسه حبل وفي يديه حبل وفي رجليه حبل وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح حتى ضربت عنقه. ثم بعث برأسه فطيف به وبعث بجسده إلى بغداد فصلب على الجسرين في كلّ جسر نصف.

وكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر.

وتوجّه عليّ بن أبي سعيد إلى البصرة فافتتحها، وكان الذي بها من الطالبيّين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام وهو الذي يقال له: زيد النار، وإنّما سمّى بذلك لكثرة ما حرّق من الدور بالبصرة. وكان إذا أتى برجل من المسوّدة كانت عقوبته أن يحرقه بالنار، فأسره عليّ بن أبي سعيد مع جماعة من قوّاده وبعث بهم إلى الحسن بن سهل.

خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر (ع) باليمن

وفي هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام باليمن.

ذكر السبب في خروجه

كان سببه أنّ أبا السرايا لمّا تغلّب على الكوفة وتجاسر الناس على الحسن بن سهل، حدّث هذا أيضا نفسه باليمن وكان بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى. فلمّا سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وأهل بيته إليه كره قتالهم وخرج بجميع من في عسكره من الخيل والرجل فخلّى لإبراهيم اليمن. فدخل إبراهيم بلاد اليمن وقتل خلقا كثيرا وسبى وأخذ أموالا عظيمة من الناس فسمّى إبراهيم الجزّار.

جلوس الأفطس

وفي هذه السنة جلس حسين بن حسن الأفطس وكان خرج من قبل أبي السرايا. فجلس على نمرقة مثنّية خلف المقام فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجرّدت منها حتى لم يبق عليها شيء وبقيت حجارة. ثم كساها ثوبين من قزّ رقيق وجّه بهما أبو السرايا مكتوب عليهما:

« ممّا أمر به الأصفر بن الأصفر ابن السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس لتطهّر من كسوتهم وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة. » ثم أمر الحسين بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسّمت بين أصحابه من العلويّين وأتباعهم، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلّا هجم عليه في داره فأخذه. وإن لم يجد عنده شيئا أخذه فحبسه وعاقبه حتى يفتدى بقدر طوله حتى أفقر خلقا وهرب كثير من أهل النعم فتعقّبهم بهدم دورهم، حتى صار أصحابه إلى أخذ الحرم وأخذ أبناء الناس وتهتّكوا وجعلوا يحكّون الذهب الرقيق الذي في أسافل رؤوس أساطين المسجد الحرام، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهبا، وقلعوا الحديد الذي على شبّاك كوى المسجد الحرام وقلعوا شبّاك زمزم وباعوها، فتغيّر لهم الناس ولعنوهم.

اجتماع الحسين وأصحابه إلى محمد بن جعفر لمبايعته بالخلافة

وبلغهم أنّ أبا السرايا قتل، وطرد من كور العراق كلّها الطالبيّون، وأنّ الولاية رجعت بها لولد العباس. فعلم حسين أنّه لا ثبات له ولا لأصحابه لسوء السيرة التي ظهرت منهم. فاجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد الصادق وكان شيخا ودعا يروى العلم عن أبيه جعفر بن محمد  ، وينتابه الناس فيكتبون عنه، وكان له سمت وزهد، وفارق ما كان عليه أهل بيته، فكان محبّبا في الناس. فلمّا اجتمع إليه حسين وأصحابه قالوا له:

« قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فليس يختلف عليك اثنان. » فأبى إباء شديدا. فلم يزل به ابنه عليّ وحسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه فأجابهم. فأقاموه يوم الجمعة فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكّة والمجاورين، فبايعوه وسمّوه: أمير المؤمنين. فأقام شهورا ليس له من الأمر إلّا اسمه، وابنه عليّ وحسين وجماعة معهما أسوأ ما كانوا سيرة.

فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش ولها زوج، وكانت ذات جمال بارع. فانتزعها وأخاف زوجها حتى توارى، واغتصبها نفسها بعد أن كسر عليها بابها وحملت حملا إلى حسين.

ووثب عليّ بن محمد وهو ابن أمير المؤمنين محمد بن جعفر على غلام من قريش، ابن قاض بمكّة يقال له: إسحاق بن محمد، كان جميلا بارعا في الجمال. فاقتحم عليه بنفسه نهارا جهارا في داره على الصفا مشرفا على المسعى، حتى حمله على فرسه في السرج، وركب عليّ على عجز الفرس، وخرج به يشقّ السوق. فلمّا رآه أهل مكّة ومن بها من المجاورين خرجوا، فاجتمعوا في المسجد الحرام وغلّقت الدكاكين ومال معهم أهل الطواف بالكعبة، حتى أتوا أباه محمد بن جعفر فقالوا:

« لنخلعنّك ولنقتلنّك أو تردّ إلينا هذا الغلام الذي أخذه ابنك جهرة. » فأغلق بابه وكلّمهم من شبّاك الشارع في المسجد وقال:

« والله ما علمت، فأمهلونى. » ثم أرسل إلى حسين بن حسن الأفطس وسأله أن يركب إلى ابنه فيستنقذ الغلام من يده. فأبى ذلك حسين وقال:

« والله إنّك لتعلم أنّى لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلنى في أصحابه. » فلمّا رأى محمد بن جعفر ذلك، قال لأهل مكّة:

« آمنونى حتى أركب إليه وآخذ الغلام. » فآمنوه فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلّمه إلى أهله.

فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى أقبل إسحاق بن موسى العباسي إليهم، فاجتمع العلويّون إلى محمد بن جعفر وقالوا:

« هذا إسحاق بن موسى مقبلا إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقا وتبرز شخصك ليراك الناس فيتحاربوا معك. » وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب ففرضوا لهم وخندقوا بأعلى مكّة.

فورد إسحاق وقاتلهم أيّاما ثم كره إسحاق الحرب وخرج يريد العراق. فلقيه ورقاء بن جميل ومن كان معه من أصحاب الجلودي فقالوا لإسحاق:

« إرجع معنا إلى مكّة ونحن نكفيك القتال. » فرجع معهم واجتمع إلى محمد من كان معه، فتقاتلوا عند بئر ميمون يوما ثم عاودهم بعد ذلك بيوم، فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن جعفر. فبعث محمد بن جعفر رجالا من قريش فيهم قاضى مكّة يسألون لهم الأمان حتى يخرجوا من مكّة ويذهبوا حيث شاءوا. فأجابهم إسحاق وورقاء إلى ذلك وأجّلوهم ثلاثة أيّام. ثم دخل إسحاق وورقاء مكّة وتفرّق الطالبيّون وأخذ كلّ قوم ناحيته.

وفي هذه السنة شخص هرثمة من معسكره إلى المأمون بمرو

ذكر خروج هرثمة ومراغمته للحسن والفضل وما آل إليه أمره

لمّا فرغ هرثمة من أمر أبي السرايا ومحمد بن محمد العلوي ودخل الكوفة، أقام في معسكره أيّاما. ثم أتى نهر صرصر والناس يظنّون أنّه يأتى الحسن بن سهل بالمدائن. فلمّا بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم أتى البردان ثم أتى النهروان. ثم سار حتى أتى خراسان فاستقبلته كتب من المأمون في غير منزل أن يرجع فيلي الشام والحجاز. فأبى وقال:

« لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين. » إدلالا منه عليه لما كان يعرف من نصيحته له ولآباءه وأراد أن يعرّف المأمون ما يدبّر عليه الفضل بن سهل وما يكتم عنه من الأخبار، وألّا يدعه حتى يردّه إلى بغداد دار خلافة آباءه وملكهم، ليتوسّط سلطانه ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل ما يريد فقال للمأمون:

« إنّ هرثمة قد أنغل عليك العباد والبلاد، وظاهر عليك عدوّك، وعادى وليّك، ولقد دسّ أبا السرايا وإنّما هو بعض خوله، حتى عمل ما عمل. ولو شاء هرثمة ألّا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله. » وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدّة كتب أن يرجع فيلي الشام والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيا مشاقّا يظهر القول الغليظ ويتوعّد بالأمر الجليل وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب المأمون عليه. وأبطأ هرثمة في المسير. فلم يصل إلى خراسان إلّا في شهور.

فلمّا بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون. فسمعها فقال:

« ما هذا؟ » قالوا: « هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق. » وظنّ هرثمة أنّ قوله هو المقبول فأمر بإدخاله فلمّا دخل كان قد أشرب قلب المأمون ما أشرب فقال له:

« يا هرثمة مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خلع وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك ولو أردت أن تأخذهم جميعا لفعلت، ولكنّك أرخيت خناقهم وأجررت لهم رسنهم. » فذهب هرثمة ليتكلّم ويعتذر ويدفع عن نفسه ما قرف به، فلم يقبل ذلك منه وأمر به فوجئ على أنفه وديس في بطنه وسحب من بين يديه.

وكان تقدّم الفضل بن سهل إلى الأعوان في الغلظة عليه والتشديد، حتى حبس. ثم دسّ إليه، بعد أن أذلّه من قتله. وقالوا مات.

هياج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل

وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل.

ذكر السبب في ذلك

لمّا خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا:

« لا نرضى حتى نطرد الحسن بن سهل وعمّاله عن بغداد. » وكان من عمّاله بها محمد بن أبي خالد، وأسد بن أبي الأسد. فأخرجوهم وطردوا أسبابهم، وصيّروا إسحاق بن موسى بن المهدي خليفة للمأمون ببغداد، فاجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به.

وكان الحسن بن سهل مقيما بالمدائن منذ شخص هرثمة إلى خراسان وإلى أن اتصل بأهل بغداد خبر هرثمة وما صنع به المأمون. فلمّا علم الحسن بن سهل أنّ أهل بغداد قد وقفوا على ذلك أرسل إلى عليّ بن هشام، وهو والى بغداد من قبله أن:

« امطل جند الحربية والبغداديين أرزاقهم ومنّهم ولا تعطهم. » فلمّا وثب أهل بغداد بأصحابه دسّ إلى قوم من قوّادهم أن يشغّبوا على إسحاق بن موسى. فشغّبوا، فحوّل الحربية لإسحاق إليهم وأنزلوه على دجيل، وبعث الحسن بن سهل عليّ بن هشام من الجانب الآخر وجاء هو ومحمد بن أبي خالد وقوّادهم ليلا حتى دخلوا بغداد، فقاتل الحربية ثلاثة أيّام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرجاء.

ثم إنّه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة فسألوه أن يعجّل لهم خمسين درهما لكلّ رجل لينفقوها في شهر رمضان. فأجابهم إلى ذلك ثم دافعهم بها ولم يف لهم بإعطاء الخمسين، فشدّوا على عليّ بن هشام فطردوه.

وكان المتولّى ذلك والقيّم بأمر الحربية محمد بن أبي خالد وذلك أنّ عليّ بن هشام كان يستخفّ به ويضع من مقداره. ووقع بين محمد بن أبي خالد وأزهر بن زهير بن المسيّب كلام فقنّعه أزهر بالسوط. فغضب محمد وتحوّل إلى الحربية واجتمع إليه الناس فلم يقربهم عليّ بن هشام حتى أخرجوه من بغداد.

وفي هذه السنة تقدّم المأمون بإحصاء ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى.

ودخلت سنة إحدى ومائتين

مراودة أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة

وفيها راود أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة فامتنع من ذلك عليهم فراوده على الإمرة عليهم على أن يدعو للمأمون بالخلافة فأجابهم إلى ذلك.

ذكر السبب في ذلك

لمّا أخرج أهل بغداد عليّ بن هشام منها واتصل الخبر بالحسن بن سهل وكان بالمدائن انهزم حتى صار إلى واسط، فتبعه محمد بن أبي خالد مخالفا له، وقد تولّى القيام بأمر الناس، وولّى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب الغربي، ونصر بن حمزة بن مالك الجانب الشرقي. وكانفه ببغداد منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع، وقد كان الفضل بن الربيع مختفيا قبل قتل المخلوع. فلمّا رأى محمد بن أبي خالد قد بلغ واسطا بعث إليه يطلب منه الأمان فأعطاه إيّاه.

وظهر وقدم على محمد بن أبي خالد ابنه عيسى من عند طاهر بن عيسى فاجتمع مع أبيه على قتال الحسن فتعبّأ محمد بن أبي خالد للقتال وتقدّم هو وابنه عيسى مع أصحابهما حتى صاروا على ميلين من واسط.

فوجّه إليهم الحسن أصحابه وقوّاده فاقتتلوا قتالا شديدا عند أبيات واسط.

فلمّا كان بعد العصر هبّت ريح شديدة وغبرة حتى اختلط القوم بعضهم ببعض فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن أبي خالد فثبت، فأصابته جراحات شديدة في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فقتل أصحاب الحسن منهم وسلبوا حتى بلغوا فم الصلح وقلعت الريح ما كان معهم من سفن فيها متاع وسلاح، حتى أدخلها واسطا فأخذها أصحاب الحسن وتبعوه، ولم يزل يقاتلهم في كلّ منزل بالنهار، ثم يرتحل بالليل حتى بلغ جرجرايا فاشتدّت به الجراحات. فأمر قوّاده أن يقيموا في عسكره، وحمله ابنه المعروف بأبي زنبيل حتى أدخله بغداد ومات محمد من ليلته ودفن في داره سرّا.

وكان زهير بن المسيّب محبوسا عند جعفر بن محمد بن أبي خالد فلمّا قدم أبو زنبيل مضى إلى خزيمة بن خازم فأعلمه خبر أبيه وأوصل إليه كتابا عن أخيه عيسى. فبعث خزيمة إلى بنى هاشم والقوّاد فأعلمهم الخبر وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد بن أبي خالد إليه وأنّه يكفيهم الحرب، فرضوا به.

وصار عيسى مكان أبيه وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيّب، فأخرجه من محبسه وضرب عنقه ونصب رأسه على رمح وأخذوا جسده، فشدّوا في رجله حبلا وطافوا به على دوره ودور أهل بيته، ثم أداروا به في الكرخ وردّوه إلى باب الشام، ولمّا جنّ عليهم الليل رموه في دجلة.

ورجع أبو زنبيل إلى أخيه عيسى، فوجّهه عيسى إلى فم الصراة، وبلغ الحسن بن سهل موت محمد بن أبي خالد، فخرج من واسط ووجّه حميد بن عبد الحميد الطوسي وسعيد بن الساجور وغيره من القوّاد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه فانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، ثم رجعوا إلى هارون فقاتلوه وهزموه مع أخيه أبي زنبيل، فخرجا هاربين إلى المدائن وبلغ الخبر بنى هاشم وقوّاد بغداد، فجدّوا في الخلاف على الحسن بن سهل وقالوا:

« لا نرضى بالمجوسي بن المجوسي بن سهل حتى نطرده ويرجع إلى خراسان ونخلع المأمون. » وتراضوا أيّاما.

ثم أرادوا منصور بن المهدي على أن يعقدوا له الخلافة فأبى عليهم. فما زالوا به حتى صيّروه أميرا وخليفة للمأمون بالعراق. وقوى أمر عيسى بمن ذكرنا وكثر جنده فأمره باحصائهم فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا بين فارس وراجل. فأعطى الفارس أربعين درهما والراجل عشرين درهما.

نكير المطوعة على الفساق ببغداد

وفي هذه السنة تجرّدت المطوّعة للنكير على الفسّاق ببغداد ورئيسهم خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان.

ذكر السبب الذي فعلت المطوعة له ذلك

كان فسّاق الحربية والشطّار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق.

فكانوا يأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم، فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكابرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغيره لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأنّ السلطان كان يعتزّ بهم فكان لا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارّة في الطرق والسفن، ويخفرون البساتين، وكان الناس منهم في بلاء عظيم. وخرجوا يوما إلى قطربّل، فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضّة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، فأدخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية.

فلمّا رأى الناس ذلك وظهور البغي والفسق والنهب، وأنّ السلطان لا يغيّره، مشى بعضهم إلى بعض وقام صلحاء كلّ ربض ودرب، فمشى بينهم أماثلهم وقالوا:

« يا قوم إنّما في كلّ درب فاسق واثنان إلى عشرة، وعددكم بعد أكثر.

فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا لقمعتم هؤلاء الفسّاق واحتشموكم. » فقام رجل من طريق الأنبار يعرف بالدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلّته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك.

فشدّ على من يليه من الفسّاق والشطّار، فمنعهم ممّا كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه فقاتلهم وهزمهم وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم.

قيام سهل بن سلامة

ثم قام بعده رجل آخر يقال له: سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان، وتكنّى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيه محمد وعلّق مصحفا في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل محلّته فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع، وجعل ديوانا يثبت فيه اسم من أتاه يبايعه على ذلك وقتال من خالفه كائنا من كان، فأتاه خلق كثير فبايعوه. ثم إنّه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ومنع كلّ من يخفر ويجبى المارّة وقال:

« لا خفارة في الإسلام. » والخفارة أنّ الرجل منهم كان يأتى إلى من له دار أو بستان أو تجارة فيقول:

« أنت في خفرتى لا يتعرّض أحد لمالك، أدفع من أرادك بسوء ولى في عنقك كلّ شهر كذا وكذا درهما. » فيعطيه.

وقوى على ذلك فقمع أهل الشرّ وكان يخالفه الدريوش في أنّه كان لا يغيّر على السلطان شيئا ولا يخالفه ولا يقاتله ويقول:

« أنا لا أرى مخالفة أمر السلطان بشيء. » وقال سهل بن سلامة:

« أنا أرى قتال كلّ من خالف الكتاب والسنّة كائنا من كان. » فلمّا فشا ذلك وقوى، ضعف أمر منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد لأنّ معظم أصحابهم الشطّار ومن لا خير فيه، فكسرهم ذلك.

ودخل منصور بن المهدي بغداد فكاتب الحسن بن سهل وسأله الأمان له ولأهل بيته على أن يعطى الحسن جنده وسائر أهل بغداد من المرتزقة رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة. فأجابه الحسن إلى ذلك. وارتحل الحسن من معسكره فدخل بغداد وتقوّضت تلك العساكر وأشرك بين عيسى ويحيى بن عبد الله ابن عم الحسن بن سهل في ولاية السواد وأعمال بغداد.

وكان أهل عسكر المهدي مخالفين لعيسى. فوثب المطّلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل. فامتنع عليه سهل بن سلامة وقال:

« ليس على هذا بايعتني. » وتحوّل منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع وكانوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنّة، فنزلوا بالحربية هربا من المطّلب، وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن وبعث الى المطّلب، فأبى أن يجيبه فقاتله سهل أيّاما قتالا شديدا ثم اصطلح عيسى والمطلب، فدسّ عيسى إلى سهل من اغتاله وضربه بالسيف ضربة لم يعمل كبير عمل.

فلمّا اغتيل سهل رجع إلى منزله وقام عيسى بأمر الناس فكفّوا عن القتال.

ثم بعث عيسى إلى سهل بن سلامة، فاعتذر إليه ممّا صنع وبايعه، وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّه عونه على ذلك، فعاد سهل إلى ما كان عليه.

المأمون يجعل علي بن موسى (ع) ولي عهد المسلمين

وفي هذه السنة جعل المأمون عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب وليّ عهد المسلمين، والخليفة من بعده، وسمّاه: الرضا من آل محمد، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.

ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما آل إليه الأمر

بينا عيسى بن محمد بن أبي خالد يعرض أصحابه منصرفه من معسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل، يعلمه أنّ أمير المؤمنين المأمون قد جعل عليّ بن موسى وليّ عهده من بعده، وأنّه نظر في بنى العباس وبنى عليّ فلم يجد أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه: الرضا من آل محمد، وأمره بطرح السواد، ولبس ثياب الخضرة، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند وبنى هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم ويأخذ أهل بغداد بذلك.

فلمّا أتى عيسى ذلك دعا أهل بغداد إلى ذلك، على أن يعجّل لهم رزق شهر، والباقي إذا أدركت الغلّة.

فقال بعضهم:

« نبايع ونلبس الخضرة. » وقال بعضهم:

« لا نبايع ولا نخرج هذا الأمر من ولد العبّاس، وإنّما هذا دسيس من قبل الفضل بن سهل. » وغضب بنو العبّاس، ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا:

« نولّى بعضنا ونخلع المأمون. » وكان المتكلّم في هذا والساعي له منصور وإبراهيم ابنا المهدي.

أهل بغداد يبايعون إبراهيم بن المهدي بالخلافة

وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلعوا المأمون.

ذكر السبب في ذلك

قد ذكرنا ما أنكره العباسيون ببغداد على المأمون حتى أخرجوا الحسن بن سهل عن بغداد. فلمّا ورد أمره بالبيعة لعليّ بن موسى ولبس الخضرة وأخذ الناس به، أرادوا أن يبايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة ويخلعوا المأمون، وبذلوا للجند عشرة دنانير لكلّ واحد منهم. فاضطرب الناس وقبل بعضهم ورضى وأبي قوم وامتنعوا، فاجتمعوا وأمروا رجلا يقول يوم الجمعة حين يؤذّن المؤذّن:

« إنّا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده إبراهيم يكون خليفته والنائب عنه. » ودسّوا قوما آخرين يقولون:

« إذا قام هذا الرجل وقال ما عنده لا نرضى إلّا أن تبايعوا لإبراهيم بالخلافة وتخلعوا المأمون، أتريدون أن تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم؟ » فقال يوم الجمعة هذا الرجل ما وصّوه به، وقام الآخرون فقالوا ما وصّوا به، وماج الناس، فلم يصلّ تلك الجمعة ولا خطب أحد وإنّما صلّى الناس بعد ما حسّوا الفوت أربع ركعات وانصرفوا.

تحرك بابك الخرمى في الجاويذانية

وفي هذه السنة تحرّك بابك الخرّمى في الجاويذانية أصحاب جاويذان بن سهل صاحب البذّ، وادّعى أنّ روح جاويذان دخل فيه، وأخذ في العيث والفساد.

ودخلت سنة اثنتين ومائتين

فلمّا كان يوم الجمعة لخمس خلون من المحرّم أظهروا أمر إبراهيم، وصعد إبراهيم المنبر، فكان أوّل من بايعه عبيد الله بن العباس بن محمد، ثم منصور بن المهدي، ثم سائر بنى هاشم وكان المتولّى لأخذ البيعة المطّلب بن عبد الله بن مالك وقام في ذلك السندي وصالح صاحب المصلّى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي - إلّا أنّ هؤلاء كانوا الرؤساء - غضبا منهم على المأمون حين أراد الخروج، وإخراج ولد العباس من الخلافة، ولتركه لباس آباءه.

ولمّا فرغ من ذلك وعد الجند أن يعطيهم أرزاقهم لستّة أشهر فدافعهم بها.

فلمّا رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطى كلّ رجل منهم مائتي درهم وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة ما لهم حنطة وشعيرا، فخرجوا في قبضها، فلم يمرّوا بشيء إلّا انتهبوه، وأخذوا النصيبين جميعا.

وخرج على إبراهيم بن المهدي، مهدى بن علوان الحروريّ فحكّم وظهر ببزرج سابور، وغلب على الراذانين ونهر بوق. فوجّه إبراهيم إليه أبا إسحاق ابن الرشيد في جماعة من القوّاد كثيرين، وكان مع أبي إسحاق غلمان له أتراك، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق فحامى عنه غلام تركيّ، وقال له:

« يا مولاي، مرا بشناس. » فسمّاه يومئذ: أشناس.

إنفاذ العباس بن موسى بن جعفر إلى الكوفة

وأنفذ الحسن بن سهل العباس بن موسى بن جعفر، وهو أخو عليّ بن موسى الرضا، إلى الكوفة وأمره بلباس الخضرة، وأن يدعو أوّلا للمأمون ومن بعده لأخيه عليّ بن موسى، وأعانه بمائة ألف درهم وقال له:

« قاتل عن أخيك، فإنّ أهل الكوفة يجيبونك وأنا معك. » وكانت الكتب نفذت من جهة إبراهيم بن المهدي إلى الكوفة بتقلّده الأمر وقيامه بإمرة المؤمنين وخلع المأمون، ونفذت الكتب من جهة الحسن بن سهل بما رآه المأمون وكثر الخلاف. وكانت لهم أخبار لا يليق ذكرها بهذا الكتاب إذ كانت فتنا لا تجربة فيها وحروبا يقتل فيها بعض الناس بعضا من غير تدبير لطيف ولا مكر بديع، وإنّما كانت مصالتات بالسيوف، فمرّة يكون لهؤلاء ومرّة لهؤلاء.

فلمّا بلغ خبر العباس بن موسى بن جعفر العلوي أهل الكوفة، أجابه قوم كثيرون وقال قوم آخرون:

« إن كنت إنّما تدعو إلى المأمون ثم من بعده إلى أخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك أو إلى نفسك أجبناك. » فقال: « إنّما أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي. » فقعد عنه المستبصرون في التشيّع. وكان يظهر أنّ حميدا يأتيه ويعينه ويقويّه، وأنّ الحسن بن سهل يوجّه إليه قوما مددا له، فلم يأته منهم أحد، وتوجّه إليه أصحاب إبراهيم بن المهدي فهمزموه.

وكان كلّ فريق من أصحاب الخضرة والسواد ينهبون ويحرقون.

ثم أمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر جماعة أن يسيروا ممّا يلي جوخى حتى عسكروا قرب واسط ممّا يلي الصيّادة وعليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، فتحصّن منهم الحسن بن سهل، فكان لا يخرج إليهم. ثم تهيّأ بعد أيّام الحسن للقتال فظنّ الناس أنّ ذلك لنظره في النجوم. ثم اختار يوما فخرجوا إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الظهر، ووقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه فانهزموا، فأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودوابّ ومتاع وغير ذلك.

ظفر إبراهيم بسهل المطوعى

وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوّعى فحبسه وعاقبه.

وكان السبب في ذلك

أنّ عيسى لمّا انهزم، أقبل هو وإخوته وأصحابه نحو سهل بن سلامة، لأنّه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم ويسمّيهم الفسّاق، ليس لهم عنده اسم غيره.

وكان أصحابه - الذين بايعوه على الكتاب والسنّة وألّا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - وقد عمل كلّ رجل منهم على باب داره برجا بجصّ وآجر، وقد نصب عليه السلاح والمصاحف حتى بلغوا من الحربية إلى باب الشام سوى من أجابه من الكرخ وسائر الناس. فلمّا قصده عيسى لم يمكنه الوصول إليه. فأعطى أصحاب الدروب التي تقرب منه، الألف درهم والألفى درهم، على أن يتنحّوا له عن الدروب. فأجابوه إلى ذلك وكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمان ونحو ذلك.

فلمّا كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيّئوا له من كلّ وجه وخذله أهل الدروب حتى وصلوا إلى مسجده ومنزله. فلمّا رآهم قد وصلوا إليه اختفى منهم وألقى سلاحه واختلط بالنظارة ودخل بين النساء. فدخلوا منزله فلم يظفروا به وأذكوا عليه العيون. فلمّا كان في الليل أخذوه في بعض الأزقّة فأتوا به إسحاق بن موسى الهادي وهو وليّ عهد عمّه إبراهيم وهو بمدينة السلام، فكلّمه وحاجّه وجمع بينه وبين أصحابه وقال له:

« حرّضت علينا الناس وعبت أمرنا. »

فقال له:

« إنّما كانت دعوتي عباسية، وإنّما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنّة، وأنا على ما كنت عليه، أدعوكم إليه الساعة. » فقالوا: « لا نقبل ما تقول، اخرج إلى الناس وقل لهم إنّ ما كنت أدعوكم إليه باطل. » فقال: « نعم. » فأخرج إلى الناس فقال:

« يا معشر الناس قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنّة وأنا أدعوكم إليه الساعة. » فلمّا قال لهم هذا وجئوا في عنقه وضربوا وجهه. فقال لهم:

« يا معشر الحربية، المغرور من غررتموه؟ » فأخذ وأدخل إلى إسحاق فقيّده، ثم أخرجوه إلى إبراهيم بن المهدي بالمدائن فحبسه مع قوم من أصحابه. وأشاعوا أنّ عيسى قتله تخوّفا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه. وكان بين خروجه وبين أخذه اثنا عشر شهرا.

شخوص المأمون من مرو إلى العراق

وفي هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق.

والسبب في ذلك أنّ عليّ بن موسى بن جعفر الرضا أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه محمد، وبما كان الفضل بن سهل يستره عنه من أخبار الناس، وأنّ أهل بيته قد نقموا عليه أشياء، وأنّهم يقولون إنّه مسحور مجنون، وأنّهم لمّا رأوا ذلك بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة.

فقال له المأمون:

« إنّهم ما بايعوه بالخلافة وإنّما صيّروه أميرا يقوم بأمرهم على ما كان أخبره به الفضل. » فأعلمه أنّ الفضل قد كذبه وغشّه، وأنّ الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن، وأنّ الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتي من بعدك. » فقال: « ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ » فقال له:

« يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدّة من وجوه أهل العسكر. » فقال له:

« أدخلهم عليّ حتى أسائلهم عمّا ذكرت. » فأدخلهم عليّ وهم هؤلاء وجماعة آخرون فيهم عليّ بن أبي سعيد وهو ابن أخت الفضل، فسألهم المأمون عمّا أخبره به عليّ بن موسى الرضا، فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل ألّا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم وكتب لكلّ رجل منهم كتابا بخطّه ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن وبيّنوا ذلك له وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليهم وقوّاده في أشياء كثيرة، وبما موّه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأنّ هرثمة إنّما جاء لنصحه وليبيّن له ما يعمل عليه وأنّه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة من يده ومن أهل بيته، وأنّ الفضل دسّ إلى هرثمة من قتله حين أراد نصحه، وأنّ طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى وافتتح له ما افتتح وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطّأ له الأمر أخرج من ذلك كلّه وصيّر في زاوية من الأرض بالرقّة وقد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره وشغب عليه جنده، ولو أنّه كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ عليه من الحسن بن سهل، وأنّ الدنيا قد تفتّقت من أقطارها، وأنّ طاهر بن الحسين قد تنوسى في هذه السنين منذ قتل محمد، فهو بالرقّة لا يستعان به في شيء من هذه الحروب، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد وقالوا:

« إنّ بنى هاشم والموالي والقوّاد لو قد رأوا عزّتك سكنوا وبخعوا بالطاعة لك. » فلمّا تحقّق ذلك عنده أمر بالرحيل إلى بغداد. فلمّا أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض أمرهم فتعنّتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضا ونتف لحى بعض.

فعاوده عليّ بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم.

فقال له:

« إني أدارى أمري وسأبلغ ما فيه الصلاح بمشيئة الله. »

قتل الفضل بن سهل في الحمام بضرب السيوف

ثم ارتحل من مرو. فلمّا أتى سرخس شدّ قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمّام فضربوه بالسيوف حتى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين.

وكان الذين قتلوه أربعة نفر من حشم المأمون: غالب بن الأسود الشّعوذى، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفّق الصقلبى - وقتل الفضل وله ستّون سنة - وهربوا.

فبعث المأمون في طلبهم وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار فجيء بهم، فساءلهم المأمون فقال بعضهم:

« إنّ عليّ بن أبي سعيد بن أخت الفضل دسّهم. » ومنهم من أنكر.

وقد حكى أنّ منهم من قال:

« أنت أمرتنا بقتله. » فأمر المأمون بهم، فضربت أعناقهم.

ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعليّ ومونس وغيرهم ممّن كانوا سعوا بالفضل إليه، فساءلهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك. فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنّه قد صيّره مكانه.

ورحل المأمون من سرخس نحو العراق وقد كان المطّلب بن عبد الله بن مالك يدعو في السرّ إلى المأمون وإلى خلع إبراهيم على أنّ منصور بن المهدي خليفة المأمون. فأجابه منصور وخزيمة وجماعة من القوّاد، وكاتب المطّلب حميدا وعليّ بن هشام أن يتقدّما فنزل حميد صرصر وعليّ النهروان، وتحقّق عند إبراهيم الخبر، فخرج من المدائن إلى نحو بغداد وطلب المطّلب وأصحابه، فامتنع المطّلب فنادى:

« من أراد النهب فليأت دار المطّلب. » فانتهبوا داره ودور أهل بيته ولم يظفر به.

وندم إبراهيم حيث صنع بالمطّلب ما صنع ثم لم يظفر به. وبلغ الخبر حميدا وابن هشام. فأمّا حميد فبعث من جهته من أخذ المدائن وقطع الجسر ونزلها. وأمّا عليّ بن هشام فبعث من جهته من أتى نهر ديالى وقطع الجسر.

زواجات ثلاثة

وفي هذه السنة تزوّج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وزوّج عليّ بن موسى الرضا ابنته أمّ حبيب، وزوّج محمد بن عليّ بن موسى ابنته أمّ الفضل.

ودخلت سنة ثلاث ومائتين

وفي هذه السنة مات عليّ بن موسى الرضا وذلك بطوس

ذكر الخبر عن ذلك

لمّا صار إليها المأمون أقام عند قبر أبيه أيّاما، ثم إنّ عليّ بن موسى - على ما حكى - أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة، فأمر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد.

وكتب إلى الحسن بن سهل بذلك وإلى وجوه بنى العبّاس والموالي ويعرّفهم أنّهم إنّما نقموا بيعته له من بعده ويسألهم الدخول في طاعته. ورحل المأمون إلى بغداد، فلمّا صار إلى الريّ أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم.

غلبة السوداء على الحسن بن سهل

وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل حتى شدّ في الحديد وحبس. وكتب بذلك قوّاد الحسن إلى المأمون فأتاهم الجواب: أن يكون على عسكره دينار بن عبد الله ويعلمهم أنّه قادم على إثر كتابه.

ضرب إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد

وفي هذه السنة ضرب إبراهيم بن المهدي، عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسه.

ذكر السبب في ذلك

كان عيسى بن محمد يكاتب حميدا والحسن ويظهر لإبراهيم طاعة ونصيحة، وكلّما قال له إبراهيم: تهيّأ لقتال حميد، تعلّل عليه بأرزاق الجند وأشباه ذلك، حتى واقف الحسن وحميدا على أن يسلّم إبراهيم إليهم يوم الجمعة انسلاخ شوّال. وسعى بعيسى بعض أهله إلى إبراهيم وكان عيسى سأل إبراهيم أن يصلّى الجمعة بالمدينة فأجابه إلى ذلك، فلمّا تكلّم عيسى بما بلغه وسعى إليه حذر وبعث إلى عيسى يسأله أن يصير إليه ليناظره في بعض أموره. فلمّا صار إليه عاتبه ساعة فأخذ عيسى ينكر بعض ما يقول.

فلمّا واقفه على أشياء وعلامات أمر به فضرب وحبسه، وأخذ أمّ ولد له وصبيانا صغارا فحبسهم، وطلب خليفة له يقال له العبّاس فاختفى.

فلمّا عرف أهل بيت عيسى وإخوته وأصحابه خبره مشى بعضهم إلى بعض وحرّضوا الناس على إبراهيم فاجتمعوا، وكان رأسهم العبّاس خليفته، فشدّوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه وقطعوا الجسر وطردوا كلّ عامل لإبراهيم في الكرخ وغيره في الجانب الغربي.

وكتب العبّاس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم حتى يسلّموا إليه بغداد.

فجاء حميد حتى نزل نهر صرصر طريق الكوفة وخرج إليه قوّاد أهل بغداد، فوعدهم ومنّاهم فقبلوا ذلك منه، ووعدهم أن يضع لهم العطاء في الياسرية على أن يصلّوا يوم الجمعة فيدعوا للمأمون، ويخلعوا إبراهيم.

فأجابوه إلى ذلك.

فبلغ ذلك إبراهيم فأخرج عيسى من الحبس وسأله أن يكفيه أمر هذا الجانب وأخذ منه كفلاء، فعبر إليهم عيسى واخوته مع قوّاد الجانب الشرقي وعرض عليهم العطاء، فشتموه وقالوا:

« لا نرضى إبراهيم. »

احتيال من عيسى

ثم تكاثر الناس على عيسى، فانصرف بأصحابه نحو باب خراسان، ثم رجع عيسى كأنّه يريد قتالهم واحتال حتى صار في أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قوّاده فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه، فاغتمّ وقلق، وقد كان المطّلب مستترا فظهر ليلحق بحميد فغمز به فأخذ وحمل إلى إبراهيم فحبسه. ثم عرف إبراهيم انخراق الأمر فأطلقه وأطلق سهل بن سلامة وكان عند الناس أنّه مقتول. فلمّا دخل حميد بغداد أخرجه إبراهيم.

وكان يدعو في مسجد الرصافة كما كان يدعو. فإذا كان الليل ردّه إلى حبسه. فلمّا كان بعد أيّام خلّى سبيله فذهب واستتر.

وكثر العيث ببغداد وظهر الشطّار والعيّارون، واختفى الفضل بن الربيع، وأخذ القوّاد وبنو هاشم يلحقون بحميد واحدا واحدا، فسقط في يد إبراهيم وشقّ عليه مداواة أمره.

ذكر الخبر عن هرب إبراهيم بن المهدي واستتاره

وأخذ إبراهيم يدارى أصحابه يوم الثلاثاء لاثنتي عشر ليلة بقيت من ذي الحجّة سنة ثلاث ومائتين. فلمّا جنّ به الليل هرب واستتر، وبعث المطّلب إلى حميد:

« إني قد أحدقت بدار إبراهيم. » وكتب إلى عليّ بن هشام بمثل ذلك. فأقبلوا إلى دار إبراهيم فطلبوه فيها فلم يجدوه. ولم يزل إبراهيم متواريا حتى قدم المأمون، وكان من أمره ما كان.

وكانت أيّام إبراهيم كلّها سنة وأحد عشر شهرا واثنى عشر يوما.

وغلب عليّ بن هشام على شرقيّ بغداد وحميد بن عبد الحميد على غربيّها.

ودخلت سنة أربع ومائتين

قدوم المأمون العراق والرجوع إلى لبس السواد

وفيها قدم المأمون العراق وانقطعت مادّة الفتن ببغداد.

ذكر الخبر عن ذلك

لمّا صار المأمون إلى النهروان أقام ثمانية أيّام، وخرج إليه أهل بيته وقوّاده ووجوه الناس، وكان كتب إلى طاهر وهو بالرقّة أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها ثم. دخل مدينة السلام ولباسه ولباس أصحابه: أقبيتهم وقلانسهم وطرزهم وأعلامهم كلّها، الخضرة وطاهر معه، فلم يكن يدخل إليه أحد من القوّاد والناس كافّة إلّا في ثياب خضر مدّة، ثم تكلّم في ذلك بنو العبّاس خاصّة وخاطبوا طاهر بن الحسين وكاتبه أيضا قوّاد خراسان. وكان المأمون أمر طاهر أن يسأله حوائجه. فكان أوّل حاجة سأله أن يرجع إلى لبس السواد وزيّ دولة الآباء.

فلمّا رأى المأمون طاعة الناس له في لبس الخضرة مع كراهتهم لها جمع الناس. ثم دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهرا. ثم دعا لقوّاده بخلع السواد، وطرح الناس الخضرة.

ودخلت سنة خمس ومائتين

ولاية طاهر بن الحسين

وفيها ولّى المأمون طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق.

ذكر السبب في ذلك

كان المأمون ولّاه الحربة والشّرط وجانبي بغداد ومعاون السواد. فاتفق أنّ محمد بن أبي العباس ناظر عليّ بن الهيثم بين يدي المأمون في التشيّع ودار الكلام بينهما إلى أن قال محمد لعليّ: « يا نبطيّ، ما أنت والكلام؟ » وكان المأمون متّكئا، فجلس وقال: « الشتم عيّ والبذاء لؤم. وقد أبحنا الكلام، فمن قال الحقّ حمدناه ومن جهل وقفناه. فاجعلا بينكما أصلا ترجعان إليه. » فعادا إلى المناظرة وعاد محمد لعليّ بالسفه. فقال عليّ:

« لو لا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته وما نهى عنه آنفا، لعرّقت جبينك. وكفاك من جهلك غسلك المنبر بالمدينة. » فجلس المأمون وكان متّكئا فقال:

« وما غسلك المنبر، ألتقصير مني في أمرك أم لتقصير المنصور في أمر أبيك؟ لو لا أنّ الخليفة إذا وهب استحى أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك. قم، وإيّاك ما عدت. » فخرج محمد بن أبي العبّاس ومضى إلى طاهر وهو زوج أخته، فقال له:

« كان من قصّتى كيت وكيت. » وكان يحجب المأمون على الشراب فتح الخادم وحسين يسقيه. فركب طاهر إلى الدار ودخل فتح يستأذن له، فقال المأمون:

« إنّه ليس من أوقاته ولكن ائذن له. » فدخل طاهر فسلّم، فردّ   وقال:

« اسقوه رطلا. » فأخذه في يده اليمنى وقال له:

« اجلس. » فجلس وشربه، ثم شرب المأمون وقال:

« اسقوه الثاني. »

ففعل كفعله الأوّل، ثم نهض. فقال له المأمون:

« اجلس. » فقال: « يا أمير المؤمنين ليس لصاحب الشرط أن يجلس بين يدي سيّده. » قال المأمون:

« ذاك في مجلس العامة، فأمّا في مجلس الخاصّة فطلق. » قال: وبكى المأمون وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر:

« يا أمير المؤمنين لا تبك عيناك. فو الله لقد دانت لك البلاد وأذعن لك العباد وصرت إلى المحبّة في كلّ أمرك. » فقال: « أبكى لأمر ذكره ذلّ وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن.

فتكلّم بحاجتك التي جئت لها. » قال: « يا أمير المؤمنين، محمد بن أبي العبّاس أخطأ، فأقله عثرته وارض عنه. » قال: « قد رضيت عنه وأمرت بصلته، ورددت عليه منزلته. ولو لا أنّه ليس من أهل الأنس لأحضرته. » قال: وانصرف طاهر ثم دعا طاهر بهارون بن جبعويه فقال:

« إنّ أهل خراسان يتعصّب بعضهم لبعض وإنّ لي إليك حاجة. خذ معك ثلاثمائة ألف درهم فأعط الحسين الخادم مائتي ألف درهم وأعط كاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون: لم بكى؟ » قال: ففعل ذلك. فلمّا تغدّى المأمون قال:

« يا حسين اسقني. »

قال: « لا والله لا سقيتك، أو تقول لي لم بكيت حين دخل عليك طاهر. » قال: « يا حسين وكيف عنيت بهذا حتى سألتنى عنه؟ » قال: « لغمّى بذلك. » قال: « يا حسين، أمر إن خرج من رأسك قتلتك. » قال: « يا سيّدي ومتى أخرجت لك سرّا؟ » قال: « إني ذكرت محمدا أخي وما ناله من الذّلة، فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا مني ما يكره. » فأخبر حسين طاهرا بذلك. فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد فقال له:

« إنّ الثناء مني ليس برخيص، وإنّ المعروف عندي ليس بضائع، فغيّبنى عن عينه. » فقال له:

« سأفعل، فبكّر عليّ غدا. » وركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلمّا دخل إليه قال له:

« ما بتّ البارحة. » فقال له:

« ولم ويحك؟ » قال: « لأنّك ولّيت خراسان غسّان وهو ومن معه أكلة رأس، وأخاف أن تخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه. » قال: « لقد فكّرت في ذلك، فمن ترى؟ » قال: « طاهر بن الحسين. » قال: « ويلك يا أحمد، هو والله خالع. »

قال: « أنا الضامن له. » قال: « فأنفذه. » قال: فدعا طاهرا من ساعته فعقد له وشخص من ساعته. فنزل في بستان جليل يحمل إليه في كلّ يوم ما أقام فيه مائة ألف. فأقام شهرا ثم شخص إلى خراسان.

وكان طاهر استخلف ابنه بالرقّة على قتال نصر بن شبث.

ذكر نادرة لكاتب صارت سببا لصلاح حاله وحال الكتاب ببغداد

تحدّث محمد بن خالد بن رودى المدائني الكاتب قال:

كان مخلد يلقّب بلبد لطول عمره فحدّثني أنّ المأمون أوّل ما قدم العراق حظر أن يقلّد الأعمال إلّا الشيعة الذين قدموا معه من خراسان. فطالت عطلة كتّاب السواد وعمّاله وكانوا يحضرون داره في كلّ يوم حتى ساءت حال أكثرهم. فخرج يوما بعض مشايخ الشيعة وكان مغفّلا، فتأمّل وجوههم فلم ير فيهم أسنّ من مخلد، فجلس إليه ثم قال له:

« إنّ أمير المؤمنين قد أمرنى أن أتخيّر ناحية من نواحي الخراج صالحة المرفق ليوقّع بتقليدى إيّاه، فاختر لي أنت ناحية. »

فقال: « إني لا أعرف لك عملا أولى من مرتدات البحر وصدقات الوحش وخراج وبار. » فقال: « اكتبه لي بخطّك. » فكتب ذلك له بخطّه، فذهب الشيعي حتى عرض الرقعة على المأمون وسأله تقليده ذلك العمل. فقال له:

« من كتب لك هذه الرقعة؟ » قال: « شيخ من الكتّاب يحضر الدار كلّ يوم. » قال: « هلمّه. » فلمّا أدخل، قال له المأمون:

« ما هذا يا جاهل، قد بلغ بك الفراغ إلى مثل هذا؟ » فقال: « يا أمير المؤمنين أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما تحصّل استخراجه وصار في أيديهم. فأمّا شروط الخراج، حكمه، وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إنفاقه، وما يجب الاحتساب، به فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب الارتفاع، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا فمر بأن يضمّ إلى كلّ رجل منهم رجل منّا، فيكون الشيعي يحفظ الأموال ونحن نجمعه. » فاستصاب المأمون كلامه، وأمر بتقليد عمّال السواد وكتّابهم، وأن يضمّ إلى كلّ واحد منهم واحد من الشيعة. وضمّ مخلد إلى ذلك الشيخ، فقلّده ناحية جليلة.

وفيها ولّى المأمون عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان لمحاربة بابك.

ودخلت سنة ست ومائتين

وفيها ولّى المأمون عبد الله بن طاهر الجزيرة إلى مصر

ذكر السبب في ذلك

كان يحيى بن معاذ بالجزيرة فمات في هذه السنة، فدعا المأمون عبد الله بن طاهر فقال:

« يا عبد الله، إني أستخير الله عز وجل منذ شهر وأرجو أن يخير الله لي.

إنّ الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، وقد رأيتك فوق ما وصفك أبوك. وقد مات يحيى بن معاذ واستخلف ابنه وليس بشيء. وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث. » فقال: « السمع والطاعة لأمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخير وللمسلمين. » فعقد له وأمر أن يقطع حبال القصّارين عن طريقه، وتنحّى عن الطرقات المظالّ لئلّا يكون في طريقه ما يردّ لواءه، ثم عقد له لواء مكتوب عليه بصفرة ما يكتب على الألوية. وزاد فيه: « المأمون يا منصور. » فركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع فأكرمه عبد الله وقال له:

« قد تقدّم أبي وأخوك إليّ ألّا أقطع أمرا دونك. وأحتاج أن أستطلع رأيك واستضئ بمشورتك. » فأقام عنده إلى الليل وسأله المبيت فأبى واعتذر. فمشى معه عبد الله إلى صحن داره وودّعه.

وفي هذه السنة ولّى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم أمر الجسر وجعله خليفته على ما كان أبوه طاهر استخلفه فيه من الشرط وأعمال بغداد وشخص هو إلى الرقّة لحرب نصر بن شبث.

ودخلت سنة سبع ومائتين

وفاة ذي اليمينين

وفيها كانت وفاة ذي اليمينين طاهر من حمّى وحرارة أصابته. وذكر أنّه وجد في فراشه ميتا. فحكى خواصّه وعمّه عليّ بن مصعب أنّهم صاروا إليه يعودونه، فسألوا الخادم عن خبره وكان يغلّس بصلاة الصبح، فقال الخادم:

« هو نائم لم ينتبه. » فانتظروه ساعة، فلمّا تأخّر قالوا للخادم:

« أيقظه. » قال:

« لا أجسر. » فقالوا له:

« طرّق لنا لندخل إليه. » فدخلوا فوجدوه ملتفّا في دوّاج قد أدخله تحته وشدّه عليه من عند رأسه ورجليه، فحرّكوه فلم يتحرّك، فكشفوا عن وجهه فوجدوه قد مات، ولم يعلم أحد الوقت الذي توفّى فيه.

وذكر أبو سعده كلثوم بن ثابت قال: كنت على بريد خراسان ومجلسي يوم الجمعة في أصل المنبر، فلمّا كانت سنة سبع ومائتين بعد ولاية طاهر بن الحسين بسنتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر فخطب، فلمّا بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له وقال:

« اللهم أصلح أمّة محمد بما أصلحت به أولياءك واكفها مؤونة من بغى لها السوء وأرادها بمكروه بلمّ الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين. » قال: فقلت في نفسي: أنا أوّل مقتول لأنّى لا أكتم الخبر. فانصرفت واغتسلت ووصّيت وائتزرت بإزار ولبست قميصا وارتديت رداء وطرحت السواد وكتبت إلى المأمون.

قال: فلمّا صلّى العصر دعاني، وحدث حادث في جفن عينه وفي ماقه فسقط ميتا. فخرج طلحة بن طاهر فقال:

« ردّوه ردّوه ».

وقد خرجت فردّونى وقال:

« هل كتبت بما كان؟ » قلت: « نعم. » قال: « فاكتب بوفاته. » فأعطاني مالا وثيابا. فكتبت بوفاته وقد قام طلحة بالجيش.

قال: فوردت الخريطة على المأمون بخلعه. فدعا ابن أبي خالد فقال:

« اشخص الآن فأت به كما زعمت وضمنت. » قال: « أبيت ليلتي؟ » قال: « لا لعمري ولا تبيت إلّا على الظهر. » فلم يزل يناشده حتى أذن له في المبيت، ووافت الخريطة بموته ليلا، فأمر بمكاتبة طلحة وأقامه مقامه فبقى طلحة واليا على خراسان في أيّام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر ثم توفّى وولّى عبد الله خراسان.

وذكر بعض خواصّ المأمون قال: شهدت مجلسا للمأمون وقد أتاه نعى طاهر فقال:

« لليدين وللفم. الحمد لله الذي قدّمه وأخّرنا. » ثم وجّه المأمون أحمد بن أبي خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر فافتتح أسروشنة، وأسر كاووس وابنه وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لأحمد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفي درهم ووهب لإبراهيم بن العبّاس كاتب أحمد خمسمائة ألف درهم.

ودخلت سنة ثمان ومائتين

ولم يحدث فيها حدث ينسخ في هذا الكتاب.

ودخلت سنة تسع ومائتين

وفيها حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث وضيّق عليه حتى طلب الأمان.

ويقال: إنّ ثمامة حكى أنّ المأمون سأله أن يحمل إليه رجلا له عقل وبيان يحمّله رسالة إلى نصر بن شبث. قال: فحملت إليه رجلا من بنى عامر يقال له جعفر بن محمد فقال: أحضرنى المأمون بين يديه فكلّمنى بكلام كثير، ثم أمرنى أن أبلغه نصرا. قال: فأتيت نصرا وهو بسروج بموضع يقال له كفرغزون فأبلغته رسالته فأذعن وشرط شروطا منها أن لا يطأ له بساطا. قال: فأتيت المأمون فأخبرته فقال:

« لا أجيبه إلى هذا أبدا ولو أفضيت إلى بيع ما عليّ حتى يطأ بساطي وما باله ينفر مني. » قال: قلت:

« لجرمه وما تقدّم منه. » قال: « أتراه أعظم جرما عندي من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن أبي خالد أتدرى ما صنع بي الفضل؟ أخذ قوّادى وأموالى وجنودي وسلاحي وجميع مالي ممّا أوصى به لي أبي فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيدا وأسلمنى وأفسد عليّ أخي حتى كان من أمره ما كان. أتدرى ما صنع بي عيسى بن أبي خالد؟ طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي وذهب بخراجى وفيئى وأخرب عليّ دياري وأقعد إبراهيم خليفة بإزائى ودعاه باسمى. » قال: قلت:

« يا أمير المؤمنين تأذن لي في الكلام فأتكلّم؟ » قال: « تكلّم. » قال: قلت:

« الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم وحال سلفه حالهم يرجع إليه بضروب كلّها تردّك إليه وعيسى بن أبي خالد رجل من أهل دولتك وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم، وهذا رجل لم تكن له يد قطّ فتحتمل عليها ولا لمن مضى من سلفه، إنّما كانوا جند بني أمية. » قال: « إنّ ذلك لكما تقول، فكيف بالحنق والغيظ. لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي. » قال: « فأتيت نصرا فأخبرته بذلك. قال: فصاح بالخيل صيحة فجالت عليه ثم قال:

« ويلي عليه هو؟ لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه - يعنى الزطّ - يقوى على حلبة العرب؟ » فذكر أنّ عبد الله بن طاهر لمّا جادّه القتال بلغ منه حتى طلب الأمان فأعطاه وبعث به إلى المأمون.

ودخلت سنة عشرة ومائتين

وفيها أخذ إبراهيم بن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر وهو متنقّب بين امرأتين في زيّ امرأة أخذه حارس أسود ليلا فقال:

« من أنتنّ وأين تردن في هذا الوقت؟ » فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان في إصبعه له قدر عظيم، وقال:

« خلّنا ولا عليك أن تعلم من نحن. » فلمّا نظر الحارس إلى الخاتم استراب وقال في نفسه: هذا خاتم رجل له شأن فرفعن إلى صاحب المسلحة، فأمرهنّ أن يسفرن. فتمنّع إبراهيم فجبذه فبدت لحيته. فرفعه إلى صاحب الجسر، فرفعه فذهب به إلى باب المأمون فأعلم به فأمر بالاحتفاظ به في الدار. فلمّا كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقوّاد والجند وصيّروا المقنعة التي كان متنقّبا بها في عنقه والملحفة في صدره ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ، فلمّا كان يوم الخميس حوّل إلى منزل أحمد بن أبي خالد فحبس عنده.

بناء المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل

وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في شهر رمضان. وكان الحسن بالصّلح، فشخص المأمون إلى الصّلح، وأمر بحمل إبراهيم بن المهدي خلفه. وكان العبّاس بن المأمون قد تقدّم أباه على الظهر ووافى المأمون وقت العشاء فأفطر هو والحسن والعبّاس ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتى فرغوا من الإفطار، فدعا المأمون بشراب فأتى بجام ذهب فصبّ فيه وشرب ومدّ يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن فغمزه دينار بن عبد الله، فقال الحسن:

« يا أمير المؤمنين أشربه بإذنك. » فقال له:

« لو لا أمري لم أمدّ يدي إليك بها. » فأخذ الجام فشربه فلمّا كان في الليلة دخل على بوران. فلمّا جلس المأمون معها نثرت عليها جدّتها ألف درّة كانت في صينيّة ذهب وكان تحتها حصير ذهب معمول على السامان. فقال المأمون:

« قاتل الله أبا نواس كأنّه حاضر هذا المنظر في قوله:

« حصباء درّ على أرض من الذهب. » ثم أمر المأمون أن يجمع وسألها عن عدد الدرّ كم كان فقالت:

« ألف حبّة. » فأمر بعدّها فنقصت عشرا فقال:

« من أخذها فليردّها. »

فقال حسين رخلة:

« يا أمير المؤمنين إنّما نثر لنأخذه وإلّا فالعقد أولى به. » قال: « ردّها فإني أخلفها عليك. » فردّت. فجمعها المأمون في الآنية كما كانت، ووضع في حجرها، وقال:

« هذه نحلتك وسلى حوائجك. » فأمسكت، فقالت جدّتها:

« كلّمى سيّدك وسليه حوائجك، فقد أمرك. » فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي. فقال:

« قد فعلت. » وسألته الإذن لأمّ جعفر في الحجّ، فأذن لها. وألبستها أمّ جعفر البدنة الأموية. وابتنى بها من ليلته وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منّا في تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال:

« هذا سرف. » فلمّا كان من الغد دعا إبراهيم بن المهدي، فجاء يمشى من شاطئ دجلة.

فلمّا دخل على المأمون قال:

« هيه يا إبراهيم. » فقال: « يا أمير المؤمنين، وليّ الثأر محكّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذنب كما جعل كلّ ذي ذنب. دونك فإن تعاقب فبحقّك وإن تعف فبفضلك. »

قال: « بل أعفو يا إبراهيم. » فكبّر وسجد وقال إبراهيم يمدح المأمون:

يا خير من حملت يمانية به ** بعد الرّسول لآيس ولطامع

عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ** فالصّاب يمزج بالسّمام النّاقع

ملئت قلوب النّاس منك مخافة ** وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع

بأبي وأمي فدية وبنيهما ** من كلّ معضلة وذنب واقع

ما ألين الكنف الّذى بوّأتنى ** وطنا وأمرع ريعه للرّائع

نفسي فداؤك إذ تضلّ معاذرى ** وألوذ منك بفضل حلم واسع

أملا لفضلك والفواضل شيمة ** رفعت بناءك بالمحلّ اليافع

فعفوت عمّن لم يكن عن مثله ** عفو ولم يشفع إليك بشافع

إلّا العلوّ عن العقوبة بعد ما ** ظفرت يداك بمستكين خاضع

فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ** وعويل عانسة كقوس النّازع

الله يعلم ما أقول فإنّها ** جهد الأليّة من حنيف راكع

ما إن عصيتك والغواة تمدّنى ** أسبابها إلّا بنيّة طائع

حتى إذا علقت حبائل شقوتي ** بردى إلى حفر المهالك هائع

لم أدر أنّ لجرم مثلي غافرا ** فوقفت أنظر أيّ حتف صارعى

ردّ الحيوة عليّ بعد ذهابها ** ورع الإمام القادر المتواضع

أحياك من ولّاك أطول مدّة ** ورمى عدوّك في الوتين بقاطع

إنّ الّذى قسم الخلافة حازها ** في صلب آدم للإمام السّابع

جمع القلوب عليك جامع أمرها ** وحوى رداؤك كلّ خير جامع

فقال المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة:

« أقول ما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. » فأمّا الحسن بن سهل فإنّه أضاف المأمون وجميع من معه وخلع على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ ما لزمه عليهم خمسين ألف ألف درهم سوى ما نثره.

وكان كتب رقاعا فيها أسماء ضياعه ونثرها على القوّاد وبنى هاشم فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلّمها.

افتتاح مصر

وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن طاهر مصر واستأمن إليه عبيد الله بن السرى بن الحكم.

ذكر الخبر عن ذلك

لمّا فرغ عبد الله بن طاهر من نصر بن شبث ذهب إلى مصر، فلمّا قرب منها وصار على مرحلة قدّم قائدا من قوّاده ليرتاد لمعسكره موضعا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السريّ على نفسه خندقا. فاتصل الخبر بابن السريّ عن مسير القائد إلى ما قرب منها فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان يطلب موضع العسكر، فأبرد القائد إلى عبد الله بريدا بخبره وخبر خروج ابن السريّ إليه، فحمل عبد الله رجاله على البغال على كلّ بغل رجلين بآلاتهما وجنبوا الخيل وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السرى وأصحابه، فلم يكن من أصحاب عبد الله إلّا حملة واحدة حتى انهزم ابن السريّ وأصحابه وتساقطت عامّة أصحاب ابن السريّ في الخندق. فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق أكثر ممّن قتله الجند. وانهزم ابن السرى فدخل الفسطاط وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب وحاصره عبد الله بن طاهر، فلم يعاوده ابن السريّ الحرب حتى خرج إليه في الأمان.

فحكى ابن ذي القلمين قال: بعث ابن السريّ إلى عبد الله بن طاهر لمّا ورد مصر، ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة، مع كلّ واحد منهم ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم إليه ليلا. قال: فردّهم عليه عبد الله وكتب إليه:

« لو قبلت هديّتك نهارا لقبلتها ليلا - بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ. » قال: فحينئذ طلب الأمان وخرج إليه.

خلع أهل قم السلطان وما كان من عاقبته

وفي هذه السنة خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج.

ذكر سبب ذلك

كان المأمون وقت اجتيازه بالريّ حطّ عن أهلها من الخراج على ما ذكرت، فطمع أهل قم في مثل ذلك وكان خراجهم ألفي ألف درهم، فكانوا يستكثرونها. فرفعوا إلى المأمون يشكون ثقل الخراج ويسألونه الحطّ فلم يجبهم المأمون، فامتنعوا ولم يؤدّوا شيئا، فوجّه المأمون إليهم عليّ بن هشام ثم أمدّه بعجيف فحاربهم فظفر بهم وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم وجباها سبعة آلاف ألف، بعد ما كانوا يتظلّمون من ألفي ألف درهم.

ودخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

المأمون يدس رجلا إلى عبد الله بن طاهر

وفيها قال بعض إخوة المأمون للمأمون:

« يا أمير المؤمنين، إنّ عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب وكذا كان أبوه قبله. » قال: فدفع المأمون ذلك وأنكره.

ثم عاد لمثل هذا القول، فدسّ إليه رجلا وقال له:

« امض في هيئة القرّاء والنسّاك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا واذكر مناقبه وعلمه وفضائله ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر ثم ائته فادعه ورغّبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيّته بحثا شافيا، وأتنى بما تسمع منه. » قال: ففعل الرجل ما قال له وأمره به، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر وقد ركب إلى عبيد الله بن السريّ بعد صلحه وأمانه. فلمّا انصرف قام إليه الرجل فأخرج من كمّه رقعة فدفعها إليه فأخذها بيده. قال: فما هو إلّا أن دخل خرج الحاجب، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره وقد مدّد رجليه وخفّاه فيهما. فقال له:

« قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك. » قال: « ولى أمانك ذمّة من الله معك؟ » قال: « لك ذلك. » فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم وأخبره بفضائله وعلمه وزهده.

فقال له عبد الله:

« أتنصفني؟ » قال: « نعم. » قال: « هل يجب شكر الله على العباد؟ » قال: « نعم. » قال: « فهل يجب شكر بعضهم على بعض عند الإحسان والمنّة والتفضل؟ » قال: « نعم. » قال: « فتجيء إليّ وأنا على هذه الحال التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وخاتم في المغرب كذلك، وفيما بينهما أمير مطاع وقولي مقبول. ثم ما ألتفت يميني ولا شمالي ولا ورائي ولا قدّامى إلّا رأيت نعمة لرجل أنعمها عليّ ومنّة ختم بها رقبتي ويدا لائحة بيضاء ابتدأنى بها كرما وتفضّلا فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان وتقول: اغدر بمن كان أوّلا لهذا وآخرا واسع في إزالة خيط رقبته وسفك دمه، تراك لو دعوتني إلى الجنّة عيانا من حيث أعلم، أكان الله عز وجل يحبّ أن أغدر به وأكفر إحسانه ومنّته وأنكث بيعته؟ » فسكت الرجل. فقال له عبد الله:

« أما إنّه قد بلغني أمرك وبالله ما أخاف عليك إلّا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإنّ السلطان الأعظم إن بلغه أمرك كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. » فعاد الرجل إلى المأمون فأخبره الخبر. فاستبشر فقال:

« ذلك غرس يدي وإلف أدبى. » ولم يظهر من حديثه هذا شيء لأحد إلّا بعد موت المأمون.

وكتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر كتابا بخطّه. فكان في أسفله هذه الأبيات:

أخي أنت ومولاي ** ومن أشكر نعماه

فما أحببت من أمر ** فإني الدّهر أهواه

وما تكره من شيء ** فإني لست أرضاه

لك الله على ذاك ** لك الله لك الله

المأمون واظهار القول بخلق القرآن وبفضل علي بن أبي طالب (ع)

وفي هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر مدينة السلام من المغرب وتلقّاه العبّاس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر طبقات الناس وقدم معه بالمتغلّبين على الشام.

وفيها أمر المأمون مناديا فنادى:

« برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير. »

وأظهر القول بخلق القرآن وبفضل عليّ بن أبي طالب.

ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين

وفيها مات طلحة بن طاهر بن الحسين بخراسان.

وفيها ولّى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر وولّى ابنه العبّاس بن المأمون الجزيرة وأمر لكلّ واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار. فقيل إنّه لم يفرّق في ساعة من يوم من المال مثل ذلك.

ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين

وفيها استفحل أمر بابك وقتل محمد بن حميد وفضّ عسكره وقتل أكثر من كان معه.

وفيها بعث المأمون إلى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيّرانه بين خراسان والجبال وإرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.

فاختار خراسان وشخص إليها.

ودخلت سنة خمس عشرة ومائتين

وفيها شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم في المحرّم. فافتتح بها حصونا وعاد إلى دمشق.

ودخلت سنة ستّ عشرة ومائتين

فكرّ المأمون إلى أرض الروم، وكان سبب ذلك ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قوما من أهل طرسوس والمصّيصة وكانوا نحو ألفى رجل، فشخص المأمون حتى دخل بلاد الروم. فما نزل على حصن إلّا خرج إليه أهله على صلح حتى افتتح ثلاثين حصنا، ثم أغار على طوانة وسبى وقتل وأحرق. ثم ارتحل إلى دمشق.

ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين

وعاد المأمون إلى أرض الروم. وكان سبب ذلك كتاب ورد عليه من ملك الروم يسأله الموادعة، وبدأ فيه بنفسه. فغزا المأمون هذه الغزوة بحنق، وأنزل ابنه بطوانه من أرض الروم، ووجّه معه الفعلة وابتدأ بها في بناء عظيم وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كلّ باب حصنا، وكتب إلى أخيه أبي إسحاق أن يفرض على جند دمشق وما والاها أربعة آلاف رجل وأنّه يجرى على الفارس مائة درهم وعلى الراجل أربعين درهما وفرض على مصر وغيرها من البلدان.

وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم وهو خليفته ببغداد، ففرض على أهل بغداد فرضا.

المأمون يختبر الآراء في التشبيه وخلق القرآن

وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين والفقهاء، فمن لم يقبل منهم بنفي التشبيه وبخلق القرآن يشخصهم إليه مقيّدين.

وكتب في ذلك كتابا بليغا فيه آيات منتزعة من القرآن وتهديد كثير مع رفق في مواقع، وطعن على أصحاب الحديث الذين لا يتفقّهون ولا يعقلون، فأشخص إليه جماعة فيهم محمد بن سعد كاتب الواقدي ومستملى يزيد بن هارون ويحيى بن معين وزهير بن حرب وعدّه يجرون مجراهم، فامتحنهم وسألهم عن القرآن فأجابوا جميعا:

« إنّ القرآن مخلوق. » وامتحن إسحاق بن إبراهيم جماعة فيهم بشر بن الوليد وقال له:

« ما تقول في القرآن؟ » قال: « أقول إنّه كلام الله. » قال: « لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ » قال: « الله خالق كلّ شيء. » قال: « فالقرآن شيء؟ » [ قال: نعم، هو شيء. ] قال: « فهو مخلوق. » قال: « ليس بخالق؟ » قال: « فهو مخلوق. » قال: « ما أحسن غير هذا. » ثم كلّم جماعة من وجوه الفقهاء والقضاة فقالوا قريبا من قول بشر.

فكتب مقالات القوم رجل رجل إلى المأمون.

فكتب المأمون في الجواب يستجهل واحدا واحدا ويحاجّه ويشتم كلّ واحد بما يعرفه فيه ويأمر في آخر الكتاب بأنّ:

« من لم يرجع عن شركه يسفك دمه. أمّا بشر بن الوليد فابعث إليّ برأسه وكذلك إبراهيم بن الحسن، وأمّا الباقون فاحملهم في قيود وأغلال لينفذ فيهم أمري. » فأجاب القوم كلّهم:

« إنّ القرآن مخلوق. » إلّا نفسان: أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشدّا في الحديد ووجّها إلى طرسوس.

ثم بلغ المأمون أنّ بشر بن الوليد والجماعة تأوّلوا قوله - عز وجل -: « إلّا من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان » فكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أن:

« قد فهم أمير المؤمنين ما كتب به صاحب الخبر أنّ بشر تأول الآية التي ذكرت وقد أخطأ التأويل، إنّما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقدا الإيمان مظهرا الشرك، فأمّا من كان معتقدا الشرك مظهرا الإيمان فليس هذه له. » فأشخص القوم جميعا إلى طرسوس وأخذ عليهم الكفلاء، فأشخص نحوا من عشرين مع بشر بن الوليد من وجوه الفقهاء والقضاة وأصحاب الحديث. فلمّا بلغوا الرقّة أتاهم وفاة المأمون فردّوا إلى مدينة السلام، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم.

كتاب المأمون إلى عماله في البلدان

وفي هذه السنة نفذت الكتب من المأمون إلى عمّاله في البلدان:

« من عبد الله، عبد الله المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين إلى الرشيد. » وقيل: إنّ ذلك لم يكتبه المأمون وإنّما مرض بالبذندون وهو نهر بأرض الروم، فلمّا أفاق أمر بأن يكتب إلى العبّاس ابنه وعبد الله بن طاهر وإلى إسحاق أنّه إن حدث به حدث الموت في مرضه فالخليفة من بعده أبو إسحاق ابن الرشيد. فكتب بذلك محمد بن يزداذ وختم الكتب وأنفذها.

فكتب أبو إسحاق إلى عمّاله:

« من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة بعد أمير المؤمنين، أمرهم بحسن السيرة وتخفيف المؤونة. وكتب إلى جمع من في أعماله من أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك.

فلمّا كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين صلّى إسحاق بن يحيى بن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين:

« اللهم وأصلح الأمير أخا أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق ابن الرشيد أمير المؤمنين. » وفي سنة ثماني عشرة ومائتين توفّى المأمون بالبذندون.

وفات المأمون ذكر سبب وفاته

حكى سعيد العلّاف القارئ قال: أرسل إليّ المأمون وهو ببلاد الروم وكان دخلها من طرسوس، فحملت إليه وهو بالبذندون، وكان يستقرينى فدعاني يوما فجئته فوجدته جالسا على شاطئ البذندون وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه. فأمرنى فجلست نجوة منه فإذا هو وأبو إسحاق مدلّيان أرجلهما في البذندون. فقال:

« يا سعيد دلّ رجلك في الماء وذقه، هل رأيت قطّ ماء أشدّ بردا ولا أعذب وأصفى صفاء منه؟ » ففعلت وقلت:

« يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قطّ. » قال: « أيّ شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ » فقلت: « أمير المؤمنين أعلم. » فقال: « رطب الآزاذ. » فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له:

« اذهب فانظر هل في هذه الألطاف رطب، فإن كان فيها الرطب فانظر فإن كان آزاذا فأت به. » فجاء يسعى بسلّتين فيهما رطب آزاذ كأنّما جنى من النخل تلك الساعة، فأظهر شكر الله عز وجل، وكثر تعجبنا منه، فقال:

« ادن فكل. » فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلّا وهو محموم فكانت منيّة المأمون من تلك العلّة ولم يزل المعتصم عليلا حتى دخل العراق ولم أزل عليلا حتى كان قريبا.

ولمّا اشتدّت بالمأمون علّته بعث إلى ابنه العبّاس وهو يظنّ أن لن يأتيه لشدّة مرضه، فأتاه وأقام عند أبيه وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق، ثم أعاد الوصيّة بحضرة العبّاس والقضاة والفقهاء والقوّاد.

ولمّا توفّى حمله ابنه العبّاس وأخوه أبو إسحاق إلى طرسوس، فدفناه في دار خاقان خادم الرشيد وصلّى عليه أخوه أبو إسحاق.

فكانت خلافته عشرين سنة وستّة أشهر سوى سنتين، كان دعى له فيهما بمكّة وأخوه الأمين محمد ابن الرشيد محصور ببغداد.

وكان ولد للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة. وكان ربعة، أبيض، جميلا.

وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أقنى، أعين، طويل اللحية رقيقها، أشيب بخدّه خال أسود.

من سيرة المأمون

فأمّا سيرته فمشهورة لا تخفى على أحد جوده وعطاؤه وسماحة أخلاقه وحلمه ولكنّا نحكى بعض ذلك:

حكى عن العيشى صاحب إسحاق بن إبراهيم أنّه قال:

كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قلّ المال عنده حتى أضاق وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال:

« يا أمير المؤمنين كأنّك بالمال قد وافاك بعد جمعة. » قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما كان يتولّاه أبو إسحاق. قال: فلمّا ورد عليه ذلك المال قال المأمون ليحيى بن أكثم:

« اخرج بنا ننظر إلى هذا المال. » قال: فخرجا ووقفا ينظرانه وقد كان هيّئ بأحسن هيأة وحلّيت أباعره وألبست الأحلاس التي وشّيت والجلال المصبّغة وقلّدت العهن وعلّيت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رؤوسها. قال:

فنظر المأمون إلى شيء حسن واستكثره وعظم في عينه واستشرفه الناس ينظرون إليه ويعجبون منه فقال المأمون ليحيى:

« يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم وننصرف نحن بهذه الأموال قد ملكناها دونهم؟ إنّا إذا للئام. » ثم دعا محمد بن يزداذ. فقال:

« وقّع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها ولآل فلان بمثلثها خمسمائة ألف. » قال: « فو الله إن زال كذلك، حتى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف، ورجله في الركاب. » ثم قال:

« ادفع الباقي إلى المعلي بن أيّوب يعط جندنا. » قال العيشى: فجئت حتى قمت نصب عينه وحدّقت نحوه فلم أردّ طرفي عن عينه لا يلحظنى إلّا رآني بتلك الحال فقال:

« يا محمد، وقّع لهذا بخمسين ألف من الستّة الآلاف الألف لا يختلس ناظري. » فلم يأت عليّ ليلتان حتى أخذت المال.

وللمأمون شعر كثير فمن مشهور شعره.

بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ** وأغفلتنى حتى أسات بك الظّنّا

فناجيت من أهوى وكنت مباعدا ** فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى

أرى أثرا منه بعينك بيّنا ** لقد سرقت عيناك من عينه حسنا

فيا ليتنى كنت الرّسول وكنتنى ** فكنت الّذى تقصى وكنت الّذى أدنى

خلافة أبي إسحاق المعتصم

وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة لاثنتى عشرة ليلة خلت أو بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. وفيها شغب الناس على المعتصم، وطلبوا العبّاس، ونادوه باسم الخلافة فأرسل أبو إسحاق المعتصم إلى العبّاس فأحضره وبايعه ثم خرج إلى الجند وقال:

« ما هذا الخبّ البارد؟ قد بايعت عمّى وسلّمت الخلافة إليكم. » فسكن الجند.

وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك ممّا قدر على حمله، وإحراق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك الموضع من الناس إلى بلادهم.

وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد ومعه العبّاس بن المأمون، فقدمها يوم السبت مستهلّ شهر رمضان.

توجيه المعتصم عساكر لقتال الخرمية

وفيها دخل جماعة من أهل الجبال كثيرة من همذان وإصبهان وماسبذان ومهرجانفذق وغيرها في دين الخرّمية. ثم تراسلوا وتجمّعوا في أعمال همذان. فوجّه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجّهه مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال. فشخص إليهم فقاتلوه وهزمهم وقتل هناك ستين ألفا منهم وهرب باقيهم إلى بلاد الروم وكتب بالفتح إلى المعتصم.

ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين

ظهور محمد بن القاسم بالطالقان من خراسان

وفيها ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد (ص) فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قوّاد لعبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها كان آخرها عليه، فانهزم هو وأصحابه ومضى هاربا يريد بعض كور خراسان كان أهلها كاتبوه، فلمّا صار بنسإ كان بها والد لبعض من معه فمضى الرجل الذي كان له والد هناك ليسلّم على والده، فلمّا تلاقوا سأله عن الخبر. فأخبره أنّهم يقصدون كورة كذا. فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم. فبذل له العامل على دلالته عليه مالا وجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه واستوثق منه وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله إلى المعتصم فحبس بسرّ من رأى ووكّل به قوم يحفظونه.

فلمّا كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة له هرب من الحبس وافتقد، فجعل لمن يدلّ عليه مائة ألف درهم، ونادى المنادى، فما عرف له خبر إلى اليوم.

توجيه عجيف لحرب الزط

وفيها وجّه المعتصم عجيف بن عنبسة لحرب الزط الذين كانوا عاثوا في طريق البصرة، وكانوا تغلّبوا على تلك الناحية. فقطعوا الطرق واحتملوا غلّات البيادر بكسكر وما يليها من البصرة وأكثروا الفساد.

فرتّب المعتصم الخيل في سكك البصرة وبغداد من البرد تركض إليه بالأخبار فكان الخبر يخرج من عند عجيف فيصير إلى المعتصم من يومه، وولّى النفقة على عجيف من قبل إبراهيم البختري كاتبا.

فصار عجيف في خمسة آلاف رجل إلى الصافية وهي قرية أسفل واسط فسدّ نهرا بها يحمل من دجلة ثم صار إلى بردودا فسدّ أنهارا أخر وحصرهم من كلّ وجه، ثم قصدهم فأسر منهم جماعة وقتل جماعة. فضرب أعناق الأسرى وبعث برؤوسهم ورؤوس القتلى إلى المعتصم.

ثم أقام عجيف بإزاء الزطّ خمسة عشر يوما وظفر بخلق كثير منهم فأنفذهم ثم جاهده الباقون فمكث يقاتلهم بعد ذلك تسعة أشهر.

ودخلت سنة عشرين ومائتين

وفيها دخل عجيف بالزطّ بغداد بعد أن قهرهم حتى طلبوا منه الأمان، فآمنهم على دماءهم وأموالهم، فكانت عدّتهم سبعة وعشرين ألفا بين رجل وامرأة وصبيّ فجعلهم في السفن وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية وأعطى أصحابه دينارين دينارين جائزة، ثم عبّأهم في زواريقهم على هيأتهم في الحرب معهم البوقات حتى دخل بغداد بهم والمعتصم ببغداد في سفينة يقال لها: الزوّ، حتى مرّ به الزطّ على تعبئتهم ينفخون في البوقات. فكان أوّلهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقيموا في سفنهم ثلاثة أيّام. ثم دفعوا إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الروم فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد.

عقد المعتصم للأفشين حرب بابك

وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال وحرب بابك. وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. فعسكر بمصلّى بغداد، ثم صار إلى برزند

ذكر بابك ومخرجه

كان ظهور بابك في سنة إحدى ومائتين وكان من قرية يقال لها: البذّ، وهزم جيوش السلطان وقتل من قوّاده جماعة.

فلمّا أفضى الأمر إلى المعتصم وجّه المعتصم أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل وأمره أن يبنى الحصون التي خرّبها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويقيم مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل. فتوجّه أبو سعيد لذلك وبنى الحصون التي خرّبها بابك.

ثم وجّه بابك سريّة إلى بعض غاراته وعليها أمير من قبله يقال له:

معاوية، فعرض له أبو سعيد فاستنقذ ما كان حواه وقتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة، فهذه أوّل هزيمة كانت على أصحاب بابك.

ووجّه أبو سعيد الرؤوس والأسرى إلى المعتصم بالله، ولمّا صار الأفشين إلى برزند عسكر بها ورمّ الحصون فيما بين برزند وأردبيل وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خشّ، فاحتفر فيه خندقا وأنزل الهيثم الغنوي القائد في ربستاق يقال له: أرشق، فرمّ حصنه واحتفر حوله خندقا وأنزل علّويه الأعور من قوّاد الأبناء في حصن ممّا يلي أردبيل يسمّى: حصن النهر، فكانت السابلة والقوافل تخرج فتسلّمها بذرقة من واحد من هؤلاء إلى آخر حتى يتأدّوا إلى مأمنهم وكان كلّما ظفر واحد من هؤلاء القوّاد بجاسوس وجّهوا به إلى الأفشين. فكان الأفشين لا يقتلهم ولا يضربهم ولكن يهب لهم، ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم فيضعفه لهم ويقول للجاسوس:

« كن جاسوسا لنا. »

بابك وأفشين وما كان من أمرهما بأرشق

وفيها كانت الوقعة بين بابك والأفشين بأرشق، قتل فيها من أصحاب بابك خلق كثير وهرب بابك إلى موقان ثم شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذّ.

ذكر السبب في ذلك

كان المعتصم وجّه مع بغا الكبير بمال إلى الأفشين عطاء لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال أردبيل، فلمّا نزلها بلغ بابك خبره فتهيّأ ليقطع عليه قبل وصوله إلى الأفشين. فقدم جاسوس على الأفشين فأخبره أنّ بغا الكبير قد قدم بمال وأنّ بابك وأصحابه قد تهيّئوا ليقطعوه قبل وصوله إليك.

وكان هذا الجاسوس ورد على أبي سعيد أوّلا فوجّه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيّأ بابك كمينا في مواضع للمال فكتب الأفشين إلى أبي سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحّة خبر بابك. فمضى أبو سعيد متنكرا مع جماعة حتى نظروا إلى النيران في المواضع التي وصفها الجاسوس.

فكتب الأفشين إلى بغا أن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحّة خبر الجاسوس. فكتب الأفشين إلى بغا يظهر أنّه يريد الرحيل ويشدّ المال على الإبل ويقطّرها ويسير متوجّها من أردبيل كأنّه يريد برزند، فإذا صار إلى مسلحة النهر أو سار شبيها بفرسخين احتبس القطار حتى يجوز من صحب المال من قافلة وغيرها إلى برزند، فإذا جاوزت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل.

ففعل ذلك بغا وسارت القافلة حتى نزلت النهر وانصرف جواسيس بابك إليه يعلمونه أنّ المال قد حمل وعاينوه محمولا. ورجع بغا بالمال إلى أردبيل وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا من برزند، فوافى خشّ مع غروب الشمس، فنزل معسكرا خارج خندق أبي سعيد. فلمّا أصبح ركب في سرّ لم يضرب طبلا ولا نشر علما، وأمر أن تلفّ الأعلام وأمر الناس بالسكوت. وجدّ في السير ورحلت القافلة التي كانت توجّهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي.

ورحل الأفشين من خشّ يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر وتعبّأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر وهو يظنّ أنّ المال موافيه، وخرج صاحب النهر يبذرق من عنده وهو علّوية الذي قلنا إنّه كان هناك، فأخذ يسير نحو الهيثم على رسمه.

فخرجت عليه خيل بابك وهم لا يشكّون أنّ المال معه فقاتلهم صاحب النهر علّوية وأصحابه فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وعلموا أنّ المال قد فاتهم، فأخذوا علمه ولباس أهل النهر ودراريعهم وخفاتينهم ولبسوها وتنكّروا ليأخذوا أيضا الهيثم ومن معه ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنّهم أصحاب النهر. فلمّا جاءوا ولم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر وقفوا في غير موضعه، وجاء الهيثم فوقف في موقفه فأنكر ما رأى فوجّه ابن عمّ له وقال:

« اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: أيّ شيء وقوفك؟ »

فجاء ابن عمّ هيثم. فلمّا رأى القوم ودنا منهم أنكرهم، فرجع إلى الهيثم.

فقال له:

« إنّ هؤلاء القوم لست أعرفهم. » فقال له الهيثم:

« أخزاك الله ما أجبنك. » ووجّه خمسة من الفرسان، فلمّا قربوا من القوم خرج من الخرّمية رجلان فتلقّوهم فأنكروهما وأعلموهما أنّهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضا فقالوا:

« إنّ الكافر قد قتل علّوية وأصحابه وأخذوا أعلامهم ولباسهم. » فانصرف الهيثم وأتى القافلة التي كانت معه، فأمرهم أن يركضوا ويرجعوا لئلّا يؤخذوا، ووقف هو في أصحابه يسير بهم قليلا قليلا ويقف قليلا ليشتغل الخرّمية عن القافلة وصار شبيها بالحامية لهم، حتى وصلت القافلة إلى حصنه الذي كان فيه يكون الهيثم وهو أرشق، وقال لأصحابه:

« من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما وله عشرة آلاف درهم وفرس بدل فرسه إن نفق؟ » فتوجّه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن وخرج بابك فيمن معه ونزل بالحصن، ووضع له كرسيّ وجلس على شرف بحيال الحصن وأرسل إلى الهيثم من يحاربه. وكان مع الهيثم في الحصن ستمائة راجل وأربعمائة فارس وله خندق حصين. فقاتله وقعد بابك فيمن معه ووضع بين يديه الخمر مع أصحاب له يسربونها والحرب مشتبكة.

ولقي الفارسان الأفشين على أقلّ من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدّمته:

« اضربوا بالطبل وانشروا الأعلام واركضوا نحو هذين الفارسين اللذين يركضان إلينا وصيحوا بهما: لبّيك، لبّيك. » فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين يكسّر بعضهم بعضا حتى لحقوا بابك وهو جالس. فلم يتدارك أن يتحرّك ويركب حتى وافته الخيل والناس واشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجّالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير ودخل موقان وقد تقطّع عنه أصحابه. وأقام الأفشين في ذلك الموضع وبات ليلته ثم رجع إلى معسكره ببرزند.

وأقام بابك بموقان [ أيّاما ] ثم بعث إلى البذّ، فجاءه في الليل عسكر فيهم رجّالة فرحل من موقان حتى دخل البذّ، فلمّا كانت بعد أيّام مرّت قافلة من خشّ إلى برزند من قبل أبي سعيد ومعها صاحب لهم ومعهم ميرة ومتاع يحمل إلى معسكر الأفشين، فخرج عليهم إصبهبذ بابك فأخذ القافلة وقتل من كان فيها من أهل القافلة وانتهب جميع ما فيها فقحط عسكر الأفشين.

فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه فإنّ الناس قد قحطوا وأضاقوا. فوجّه إليه صاحب المراغة بقافلة فيها قريب من ألف ثور سوى الحمير والدوابّ تحمل الميرة ومعها جند يبذرقونها. فخرجت عليهم أيضا سريّة لبابك فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها وأصاب الناس ضيق شديد فكتب الأفشين إلى صاحب الشيروار أن يحمل إليه طعاما، فحمل إليه طعاما كثيرا وأغاث الناس في تلك السنة وقدم بغا على الأفشين بمال ورجال.

خروج المعتصم إلى القاطول وابتداؤه ببناء سر من رأى

وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول وابتدأ ببناء سرّ من رأى وذلك في ذي القعدة منها.

ذكر السبب في ذلك

كان سبب خروجه إلى القاطول أنّ غلمانه الأتراك كانوا عجما قد اصطنعهم ورأى فيهم نجابة، وكان لا يزال يجد الواحد بعد الواحد قتيلا في الأرباض. وذلك أنهم كانوا يركبون الدوابّ فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها فيصدمون الرجل والمرأة ويطأون الصبيّ، فيأخذهم الأبناء فينكّسونهم عن دوابّهم ويجرحون بعضهم فربّما هلك. فتأذّى الأتراك بهم وتأذّت العامّة بالأتراك حتى شكت الأتراك إلى المعتصم.

فحكى أنّ المعتصم كان ركب يوم عيد إلى المصلّى، فلمّا انصرف وصار في مربعة الحرشي، قام إليه شيخ فقال:

« يا با إسحاق. » فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم بالكفّ عنه فقال الشيخ:

« مالك لا جزاك الله عن الجوار خيرا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا فأيتمت بهم صبياننا وأرملت بهم نساءنا وقتلت بهم رجالنا. » والمعتصم يسمع ذلك كلّه، ثم دخل داره.

فلم ير راكبا إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم.

فلمّا كان العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلّى بالناس العيد، ثم لم يرجع إلى داره ببغداد. ولكنّه صرف وجه دابّته إلى القاطول.

وحكى أنّه قام أيضا إلى المعتصم يوما رجل من العامّة فقال:

« يا با إسحاق، اخرج عن مدينتنا وإلّا حاربناك بما لا تقوم له. » فتقدّم بأخذ الرجل وحمله إليه. فلمّا صار بين يديه قال:

« ويلك بمن تحاربنى وما هذا الذي لا أقوم له؟ » قال: « نحاربك بأصابعنا إذا هدأت الأصوات بالليل» - يعنى الدعاء.

فسكت عن الرجل ولم يعرض له.

ثم خرج فبنى سرّ من رأى.

وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه.

ذكر الخبر عن غضبه عليه وحبسه له وسبب اتصاله به ونفاقه عليه

كان الفضل هذا رجلا من أهل البردان حسن الحظّ، فاتصل بكاتب للمعتصم يقال له يحيى الجرمقانى. فمات يحيى وصار الفضل في موضعه وذلك قبل خلافة المعتصم، ثم خرج معه إلى عسكر المأمون وصار معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر وكثرت ذخائره وكنوزه. ثم قدم الفضل قبل المأمون بغداد ينفذ أمور المعتصم ويكتب عنه وعلى لسانه ما أحبّ، حتى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة والدواوين كلّها تحت يديه فتضاعفت كنوزه.

فكان المعتصم يأمر بإطلاق الشيء لندمائه ومغنّيه، فلا ينفذ الفضل، وربّما رادّه في الشيء إدلالا عليه وأنسا به، وكان قد نزل منه وحلّ من قلبه المحلّ الذي لا يحدّث أحد نفسه بملاحظته فضلا عن منازعته ولا في الاعتراض عليه إذا أراد شيئا أو حلم به، فكانت هذه المنزلة تحمله على الدالّة حتى كان يخالفه ويمنعه بعض أمره وبعض المال الذي يصرفه في مهمّه.

فحكى عن أحمد بن أبي دؤاد أنّه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم فكثيرا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان:

« احمل إليّ كذا من الدراهم. » فيقول: « ما عندي. » فيقول: « فاحتلها من وجه، فليس منها بدّ. » فيقول: « ومن أين أحتالها ومن أين وجهها ومن يعطيني هذا القدر؟ » فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه فلمّا كثر هذا من فعله ركبت يوما إليه فقلت له مستخليا به:

« يا أبا العبّاس إني أعرف أخلاقك، وعلى ذاك ما أدع نصيحتك وأداء ما يجب عليّ من حقّك. وقد أراك كثيرا ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه وتقدح في قلبه والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيّما إذا كثر ذلك وغلظ. » قال: « وما ذاك يا با عبد الله؟ » قلت: « أسمعه كثيرا، كثيرا ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول من يعطيني هذا وهذا ما لا تحتمله الملوك. » قال: « فما أصنع إذا طلب مني ما ليس عندي؟ » قلت: « تصنع أن تقول: أحتال يا أمير المؤمنين في ذلك فتدفع عنك أيّاما ثم تحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه الباقي. » قال: « نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به. » قال: فو الله لكأنّى كنت أغريه بالمنع. فكان إذا عاود مثل ذلك القول عاد إلى مثل ما يكره من الجواب.

وكان مع المعتصم رجل مضحك يستخفّ روحه وكان قديم الصحبة له يقال له: إبراهيم الهفتيّ، فأمر له بمال وتقدّم إلى الفضل بن مروان في إعطائه فلم يعطه الفضل شيئا. فبينا الهفتيّ يوما يتمشّى مع المعتصم في بستان داره التي بنيت له ببغداد، وقد نقل إليه أنواع من الرياحين والغروس، وكان الهفتيّ يصحب المعتصم قبل أن تفضى إليه الخلافة، فيقول له فيما يداعبه:

« والله لا أفلحت. » وكان الهفتى مربوعا ذا كدنة والمعتصم رجلا معرّقا خفيف اللحم فجعل المعتصم يسبق الهفتيّ في المشي فإذا تقدّمه ولم ير الهفتيّ معه التفت إليه فقال له:

« ما لك لا تمشى؟ » يستعجله.

فلمّا كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتى قال له الهفتيّ مداعبا له:

« أصلحك الله، كنت أرانى أماشى خليفة ولم أكن أرانى أماشى فيجا والله لا أفلحت. » فضحك المعتصم وقال:

« ويلك وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة؟ » فقال له الهفتى:

« أتحسب أنّك قد أفلحت الآن؟ إنّما لك من الخلافة الاسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك. وإنّما الخليفة الفضل بن مروان الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته. » قال المعتصم:

« وأيّ أمر لي لم ينفذ؟ » فقال: « أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت ممّا أمرت به منذ ذاك حبّة. » وكان هذا أوّل ما حرّك المعتصم في القبض على الفضل بن مروان.

وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يتولّى ما كان أبوه يتولّاه للمأمون من عمل الفساطيط وآلة الجمّازات ويكتب عليها ممّا جرى على يدي محمد بن عبد الملك. وكان يلبس إذا حضر الدار الدرّاعة السوداء والسيف بالحمائل.

فدعاه الفضل يوما وقال له:

« ما هذا الزيّ إنّما أنت تاجر فما لك والسواد والسيف؟ » فترك ذلك محمد. وأخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني فأحسن دليل إليه ولم يزرأه شيئا. وعرض عليه محمد هدايا فأبى دليل أن يقبل منها شيئا. ثم غضب المعتصم على الفضل بن مروان وأهل بيته وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم وصيّر محمد بن عبد الملك مكانه.

فلمّا صار محمد بن عبد الملك وزيرا استدعى الفضل يوما وقد دخل دار السلطان بسواد وسيف وهو إذ ذاك مغضوب عليه يحاسب، فقال:

« ما هذا الزيّ؟ الزم منزلك، فإن احتيج إليك استدعيت. »

ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

وقعة كانت بين بغا وبابك

وفي هذه السنة كانت بين بغا الكبير وبابك وقعة بناحية هشتاذ سر فهزم بغا واستبيح عسكره.

ذكر الخبر عن ذلك

كان بغا قدم بالمال الذي مضى ذكره ففرّقه الأفشين على أصحابه وتجهّز بعد النيروز عند زوال البرد ومكروه الثلج، ووجّه بغا في عسكر ليدور حول هشتاذ سر وينزل في خندق محمد بن حميد ويحكمه ويخفره، ووجّه أبا سعيد من وجه آخر ورحل الأفشين من برزند، فتجهّز بغا من غير مواقفة الأفشين وسار حتى نزل قرية البذّ في وسطها وأقام بها يوما واحدا واحتاج إلى الميرة والأعلاف، فوجّه ألف رجل في علّافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك فاستباح العلّافة وقتل البعض وأسر البعض ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك ويسأله المدد فقال الأفشين:

« ما عمل شيئا وأقدم بغير أمرنا. » ثم وجّه إليه أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وصاحب شرطة الحسن وقرابة للفضل بن سهل. ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنّه يغزو بابك في يوم سمّاه له ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه ليحاربه من كلا الوجهين. فخرج الأفشين في ذلك اليوم يريد بابك وخرج بغا، فعسكر على دعوة فهاجت ريح شديدة ومطر شديد فلم يكن للناس صبر على البرد وشدّة الريح فانصرف بغا إلى عسكره وواقعهم الأفشين من الغد وبغا غير حاضر، فهزمه الأفشين وأخذ عسكره وخيمته، ونزل الأفشين في معسكر بابك.

ثم تجهّز بغا من الغد وصعد هشتاذ سر، فوجد العسكر الذي كان مقيما بإزائه قد انصرف إلى بابك فترك بغا في موضعه وأصاب قماشا وخرثيّا قد تركوه، ثم انحدر من هشتاذ سر يريد البذّ وكان على مقدّمته داود سياه فبعث إليه:

« إنّا قد توسّطنا الموضع الذي تعرفه يعنى الذي كنا فيه في المرّة الاولى وهذا وقت المساء وقد تعب الرجّالة، فانظر جبلا حصينا يسع معسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه. » فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى قلّة جبل فأشرف فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال فقال:

« هذا موضعنا. » فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل لأخذ ماء ولا سقى دابّة من شدّة البرد وكثرة الثلج وكأنهم كانوا في نهارهم ذلك في ليل من الضباب المتراكم وشدّة الظلمة. فلمّا كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:

« قد فنى ما معنا من الزاد وأضرّ بنا البرد فانزل على أية حال كانت، إمّا راجعين وإمّا نحو الكافر. »

تبييت بابك الأفشين

وقد كان في يوم الضباب بيّت بابك الأفشين ونقض عسكره وانهزم الأفشين وانصرف إلى معسكره فضرب بغا بالطبل وانحدر يريد البذّ. فلمّا صار إلى بطن الوادي نظر إلى السماء منجلية والدنيا طيّبة غير رأس الجبل الذي كان عليه. فعبّأ بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدّمة وتقدّم يريد البذّ وهو لا يشكّ أنّ الأفشين في موضع معسكره فمضى حتى صار لزق جبل البذّ ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذّ إلّا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدّمته غلام لابن البعيث، وكان ابن البعيث هذا ذا نكاية في بابك وأصحابه وكان للغلام قرابة بالبذّ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام فقال له:

« فلان؟ » قال: « نعم. » قال: « من هذا هاهنا؟ » فسمّى له من معه من أهل بيته فقال:

« ادن مني حتى أكلّمك. » فدنا منه الغلام فقال له:

« ارجع وقل لمن تعنى به يتنحّى فإنّا قد بيّتنا الأفشين وهزمناه، ونحن قد تهيّأنا لكم في عسكرين، فعجّل الانصراف لعلّك أن تنفلت. »

فرجع الغلام فأخبر صاحبه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا يشاور أصحابه، فقال بعضهم:

« هذا باطل وهذه خدعة، ليس من هذا شيء. » وقال بعض الكوهانيّين:

« إنّ هذا جبل أعرفه. من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. » فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممّن نشط، فأشرفوا على الموضع فلم يروا فيه أحدا، فيقن أنّه مضى وتقرّر رأيه على أن ينصرف في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر داود سياه بالانصراف، فجدّ في السير ولم يعد في الطريق الذي دخل منه مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي دخل منه في المرّة الأولى يدور حول هشتاذ سر وليس فيه مضيق إلّا في موضع واحد. فسار بالناس وبعث الرجّالة فرموا بأسلحتهم وطرحوا الرماح في الطريق ودخلتهم وحشة شديدة ورعب عظيم وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة من القوّاد في الساقة، وظهرت طلائع بابك ونزل بغا فتوضّأ وصلّى ووقف في وجوههم وتخوّف بغا على عسكره أن يوافقه الطلائع من ناحية ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق قوم آخرون فشاور من حضره وقال:

« لست آمن أن يكون هؤلاء الذين بإزائنا مشغلة يحبسوننا عن المسير ويسبقوننا إلى المضايق قوم آخرون. » فأشار الفضل بن كاوس أن يوجّه إلى داود سياه وهو على المقدّمة أن يسرع السير ولا ينزل حتى يجاوز المضيق ولو في نصف الليل. فأمّا نحن فنقف هاهنا ونماطلهم حتى تجيء الظلمة، فإنّ هؤلاء لا يعرفون حينئذ لنا موضعا، فإن أخذ علينا المضيق تخلّصنا بأفراسنا من طريق هشتاذ سر أو من طريق آخر.

وأشار غيره على بغا فقال:

« إنّ العسكر قد تقطّع وليس يدرك أوّله آخره والناس قد رموا بسلاحهم وقد بقي المال والسلاح على البغال وليس معه أحد ولا نأمن أن يخرج علينا من يأخذ المال والسلاح والأسير الذي معنا» - وكان معهم ابن جويدان أسيرا.

فلمّا ذكر ذلك لبغا أشفق منه ووجّه إلى داود سياه: « حيثما رأيت جبلا حصينا فعسكر عليه. » فعدل داود إلى جبل مؤرّب لم يكن للناس فيه موضع للجلوس من شدّة نصوبه، فعسكر عليه وضرب لبغا مضرب على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط ليس فيه مسلك، فنزل فيه وأنزل الناس وقد كلّوا وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة يتحارسون من ناحية المصعد وجاءهم العدوّ من الناحية الأخرى، فعلّقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوه وبيّتوا العسكر وخرج بغا راجلا حتى نجا وخرج الفضل بن كاوس ونجا وقتل ابن جوشن وقرابة الفضل بن سهل وجماعة غيرهم، ووجد بغا بعد خروجه من العسكر دابّة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتاذ سر حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد وخندقه، فوافاه في جوف الليل وأخذ الخرّمية المال والعسكر والسلاح والأسير ولم يتبعوا الناس ومرّ الناس متقطعين حتى وافوا بغا.

وأقام بغا خمسة عشر يوما في خندق محمد بن حميد حتى أتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة. وانصرف الفضل أخو الأفشين وجمع من كان في عسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرّق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.

ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين

وفيها وجّه المعتصم بالله إلى الأفشين جعفر بن دينار الخيّاط مددا له، ثم أتبعه بإيتاخ ووجّه معه ثلاثين ألف ألف درهم للجند والنفقات. فلمّا جاء الربيع ووصل إلى الأفشين ما وجّه من المال والمدد فوافاه ذلك كلّه وهو ببرزند سلّم إليه إيتاخ المال والرجال وانصرف وأقام جعفر الخيّاط إلى أن حضر الوقت الذي يمكن فيه الغزو وطاب الزمان.

فتح البذ مدينة بابك واستباحتها

وفي هذه السنة فتحت البذّ مدينة بابك ودخلها المسلمون واستباحوها.

ذكر الخبر عن ذلك وسببه

لمّا عزم الأفشين على الدنوّ من البذّ جعل يزحف قليلا قليلا على خلاف زحفه قبل ذلك إلى المنازل التي كان ينزلها وكان يتقدّم الأميال الأربعة فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إليه ولا يحفر خندقا ولكنّه يقيم معسكرا في الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس، تقف على ظهور الخيل كما يدور العسكر بالليل، فبعض القوم معسكر وبعض وقوف على ظهور دوابّهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار، مخافة البيات، كي إن دهمهم أمر كان الناس على تعبئة والرجّالة في العسكر، فضجّ الناس من التعب وقالوا:

« كم نقعد هاهنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء وبيننا وبين العدوّ أربعة فراسخ ونحن نفعل فعال من يرى العدوّ بإزائه؟ قد استحيينا من الناس والجواسيس الذين يمرّون بنا، وبين العدوّ وبيننا أربعة فراسخ ونحن قد متنا من الفزع، اقدم بنا فإمّا لنا وإمّا علينا. » فقال: « أنا والله أعلم أنّ ما تقولون حقّ، ولكن أمير المؤمنين أمرنى بهذا ولا أجد بدّا منه. » فلم يلبث أن ورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرّى بدرّاجة الليل، فانحدر في خاصّته حتى نزل روذ الروذ وتقدّم حتى شارف الموضع الذي واقعه عليه بابك في العام الماضي، فنظر إليه فإذا عليه كردوس من الخرّمية فلم يحاربوه ولم يحاربهم فقال بعض العلوج: « ما لكم تجيئون وتفرّون، أما تستحيون؟ » فأمر الأفشين ألّا يجيبوهم ولا يبرز إليهم أحد، فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر ثم رجع إلى عسكره فلم يزل على ذلك أيّاما وكان يأمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم ولا يحرّكهم ولا يهيجهم وأمر الفعلة وكانوا يسمّون الكلغريّة أن يحملوا شكاء الماء والكعك.

فلمّا صاروا إلى روذ الروذ أمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الفعلة أن ينقلوا الحجارة ويحصّنوا الطرق التي تسلك إلى تلك الأجبال، وكانت ثلاثة أجبال حصينة كان اختارها ففعل ذلك فصارت شبه الحصون، ثم أمر فاحتفر على طريق وراء تلك الحجارة على المصعد خندقا، ولم يترك إليها إلّا مسلكا واحدا، ثم أمر أبا سعيد بالانصراف.

فلمّا كان الثامن من الشهر وعلم أنّ ضوء القمر قد أمتع. دفع إلى الرجّالة الكعك والسويق ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير ووكّل بمعسكره من يحفظه، وانحدر وأمر الرجّالة بالصعود إلى رؤوس تلك الجبال، وأن يحملوا معهم ما يحتاجون إليه من الماء والزاد، ووجّه أبا سعيد ليواقف القوم على عادته وأمر الناس بالدخول في السلاح وألّا يأخذ الفرسان سروج دوابّهم. ثم خطّ الخندق وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكّل بهم من يستحثّهم، وكان يأمر بالعشيّ أن يتحارسوا ولا يناموا ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، ويأمر الفرسان أن يصيروا كراديس بين كلّ كردوس وكردوس مقدار رمية سهم، وتقدّم إلى جميع الكراديس:

« ألّا يلتفتن واحد منكم إلى الآخر وليحفظ كلّ رجل منكم ما يليه. فإن سمعتم هدّة فلا يلتفتنّ أحد منكم إلى أحد فكلّ كردوس قائم بما إليه، ونحن لا نمدّه بأحد. »

ملاطفة بين بابك وأفشين في تلك الحال

فلم تزل الكراديس وقوفا على ظهور دوابّهم إلى الصباح والرجّالة فوق رؤوس الجبال يتحارسون، فلبثوا كذلك عشرة أيّام حتى فرغوا من حفر الخندق، ودخله اليوم العاشر وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق فينقلوه. وأتاه رسول بابك معه قثّاء وبطّيخ وخيار يعلمه أنّه في أيّامه هذه في جفاء، إنّما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنّه إن أحبّ أن يلطفه بذلك فعل.

فقال الأفشين للرسول:

« قد عرفت أيّ شيء أراد أخي بهذا. إنّما أراد أن ينظر إلى العسكر، وأنا أقبل برّه وأعطى شهوته. فقد صدق، أنا في جفاء. » وقال للرسول:

« أمّا أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتى ترى معسكرنا وترى ما وراءنا. » فأمر بحمله على دابّة، وأن يصعد به، حتى يرى الخندق، وينظر إلى خندق كلان روذ. وخندق برزند ويتأمّل الخنادق الثلاثة ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه.

ففعل به ذلك. ثم أطلقه ووصله وقال:

« اذهب واقرأه مني السلام. » ثم إنّ الأفشين كان في كلّ أسبوع يضرب الطبول نصف الليل ويخرج بالشمع والنفّاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كلّ إنسان كردوسه من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة. فيخرج الناس فيقفون في مواقفهم.

وكان الأفشين يحمل أعلاما سوداء كبارا على البغال وكان اثنى عشر علما وكانت أعلامه الصغار نحو خمسمائة علم وكانت طبوله الكبار اثنين وعشرين طبلا، فيقف أصحابه على مراتبهم حتى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه فيؤذّن المؤذّن بين يديه ويصلّى الناس بغلس، ثم يأمر بضرب الطبول ويسير زحفا، وكانت علامة السير ضرب الطبول، فإن أراد أن يقف أمسك عن ضربها فيقف الناس من كلّ ناحية في جبل أو واد.

وكان يسير هذه الستة الأميال التي بين معسكره وهو روذ الروذ وبين البذّ ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر، فإذا أراد أن يصعد إلى الموضع الذي كانت الحرب عليها في العام الماضي خلّف بخارا خذاه على رأس العقبة مع ألف وستمائة رجل يحفظون الطريق، لا يخرج أحد من الخرّمية، فيأخذ عليهم الطريق.

وكان بابك إذا أحسّ بعساكر الأفشين أنّها قد تحرّكت من الخندق تريده فرّق أصحابه كمنا، ولم يبق معه إلّا نفير يسير، ولم تكن تعرف المواضع التي يكمنون فيها. وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع أشرف على قصر بابك وجلس على كرسيّ، وفرّق الرجّالة في طلب الكمناء ووقف الفرسان على ظهور دوابّهم إلى بعد الظهر، والخرّمية بين يدي بابك يشربون الشراب ويزمرون بالسّرنايات ويضربون بالطبول، حتى إذا صلّى الأفشين انحدر إلى خندقه بروذ الروذ.

ونفخ أصحاب بابك في بوقاتهم وضربوا بصنوجهم استهزاء ولا يبرح بخاراخذاه حتى يجوزه الناس جميعا، ثم ينصرف في آثارهم حتى إذا كان في بعض الأيّام ضجرت الخرّمية من التفتيش وانصرف الأفشين كعادته وانصرفت الكراديس. فلمّا انتهى إلى جعفر الخيّاط نوبة العبور فتح الخرّمية خندقهم وخرج منهم عدّة فحملوا على من بقي من أصحاب جعفر الخيّاط، وارتفعت الضجّة في العسكر ورجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه وحمل على أولئك الفرسان حتى ردّهم إلى باب البذّ. ثم وقعت الضجّة في العسكر فرجع الأفشين وجعفر من ذلك الجانب يقاتل في أصحابه وقد جرح من أصحابه عدّة ومن أصحاب بابك عدّة من الفرسان مع فرسان ليس بينهم رجّالة، فرجع الأفشين حتى طرح الكرسيّ له على النطع في موضعه الذي كان يجلس فيه وهو يتلظّى على جعفر ويقول:

« قد أفسد تعبئتي وما أريد. » وكان مع أبي دلف في كردوسه قوم من المطوّعة من البصرة وغيرها. فلمّا ارتفعت الضجّة ونظروا إلى جعفر يحارب انحدر أولئك المطوّعة بغير أمر الأفشين وعبروا إلى الجانب الآخر من الوادي حتى صاروا إلى حائط البذّ فتعلّقوا به وأثّروا فيه آثارا، وكادوا يصعدونه فيدخلون البذّ.

ووجّه جعفر إلى الأفشين أن:

« أمدّنى بخمسمائة راجل من الناشبة، فإني أدخل البذّ إن شاء الله، فقد عرفت القوم وعلمت مأتاهم. » فبعث إليه الأفشين:

« قد أفسدت عليّ أمري كلّه، فتخلّص قليلا وخلّص أصحابك وانصرف. » وارتفعت الضجّة من جهة المطوّعة حتى تعلّقوا بالبذّ وظنّ الكمناء من أصحاب بابك أنّها الحرب قد اشتبكت، فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب آخرون وراء الركوة التي كان الأفشين عليها يقعد، فتحرّكت الخرّمية والناس وقوف على رؤوسهم لم يزل منهم أحد. فقال الأفشين:

« الحمد لله الذي بيّن لنا مواضع هؤلاء. » ثم انصرف جعفر وأصحابه والمطوّعة، فجاء جعفر فقال للأفشين:

« إنّما وجّهنى أمير المؤمنين للحرب التي ترى لا للقعود هاهنا، وأراك تقعد بي في أوقات حاجاتي. قد كان يكفيني خمسمائة رجل حتى أدخل البذّ أو جوف داره لأنّى قد رأيت من بين يديّ. » فقال الأفشين:

« لا تنظر إلى من بين يديك ولكن انظر إلى من خلفك وما قد وثبوا ببخاراخذاه وأصحابه. » فذهب جعفر يتكلّم، فقال له الفضل بن كاوس:

« لو كان الأمر إليك ما كنت تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف حتى تقول كنت. » قال له جعفر:

« هذه الحرب وها أنا واقف لمن جاء. » فقال له الفضل:

« لو لا مجلس الأمير لعرّفتك نفسك الساعة. » فصاح بهما الأفشين فأمسكا وأمر أبا دلف أن يردّ المطوّعة عن السور.

فقال أبو دلف للمطوّعة:

« انصرفوا. » فجاء رجل منهم ومعه صخرة فقال:

« أتردّنا وهذا الحجر من السور أخذته؟ ولو أخذ معي كلّ واحد مثله لأزلنا السور عن موضعه. » فقال له:

« إذا انصرفت الساعة تدرى على من طريقك» - يعنى العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من ورائه.

ثم قال الأفشين لأبي سعيد في وجه جعفر:

« أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين. ليس كلّ من خفّ رأسه فيقول، يفي بما يقول. إنّ الوقوف في الموضع الذي نحتاج إليه خير من المحاربة في الموضع الذي لا نحتاج إليه. لو وثب هؤلاء الذين تحتك - وأشار إلى الكمين - كنت تدرى هؤلاء المطوّعة الذين هم في القمص أيّ شيء كان يكون حالهم، فالحمد لله الذي سلّمهم، قف ها هنا فلا تبرح حتى لا يبقى هاهنا أحد. » وانصرف الأفشين وكان من سنّته أن ينصرف على تعبئة كردوس بعد كردوس ويكون آخرهم. وأقام الأفشين في خندقه بروذ الروذ أيّاما. فشكا إليه المطوّعة الضيق في العلوفة والزاد، فقال لهم:

« من صبر فليصبر ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام، فإنّ معي من جند أمير المؤمنين ومن هو في أرزاقه من يقيم معي في الحرّ والبرد، ولست أبرح من هاهنا حتى يسقط الثلج. » فانصرف المطوّعة وهم يقولون:

« لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذّ، ولكنّه يشتهى المماطلة. »

أفشين والرؤيا التي رءاها بعض المطوعة

فبلغه ذلك وما أكثر فيه المطوّعة وتناولوه بألسنتهم حتى قال بعضهم:

« رأيت في المنام رسول الله فقال لي: قل للأفشين إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت في أمره، وإلّا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة. » فتحدّث الناس بذلك في العسكر حتى صار جلّ حديثهم به علانية كأنّه مستور.

فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوّعة فأحضرهم وقال لهم:

« أحبّ أن تروني هذا الرجل. » فأتوه به، فانحشر معه الناس فقرّبه وأدناه ثم قال:

« قصّ عليّ رؤياك ولا تحتشم. فإنّك إنّما تؤدّى. » قال: « رأيت كذا وكذا. » فقال: « الله يعلم بنيّتى وما أريده للمسلمين وبهؤلاء الخلق، وإنّ الله عز وجل لو أراد أن يأمر الجبال برجم أحد لرجم الكافر وكفانا مؤونته، فكيف يرجمنى حتى أكفيه مؤونته، كان يرجمه ولا يحتاج أن أقاتله، وأنا أعلم أنّ الله مطّلع على قلبي وما أريد بكم يا مساكين. » فقال رجل من المطوّعة من الوجوه:

« أيّها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن حضرت، فإنّما قصدنا ثواب الله ووجهه، ولو أردنا الحياة لقعدنا في منازلنا، فدعنا وحدنا حتى نتقدّم بعد أن يكون بأذنك، فلعلّ الله أن يفتح علينا. » فقال الأفشين:

« أرى نيّاتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وقد نشطتم ونشط أصحابي وقد حدث لي الساعة رأى في ذلك وهو خير إن شاء الله، اعزموا على بركة الله أيّ يوم شئتم حتى نناهضه، لا حول ولا قوّة إلّا بالله. » فخرج القوم مستبشرين، فمن كان أراد الانصراف أقام ومن كان خرج ثم سمع بذلك رجع.

ووعد الناس ليوم، وتقدّم إلى الناس بأخذ الأهبة ثم خرج وأخرج المحامل على البغال لمن لعلّه يجرح، وأخرج المتطبّبين، وزحف الناس، حتى صعد إلى المكان الذي كان يجلس فيه وطرح له النطع ووضع عليه الكرسيّ كما كان يفعل وقال لأبي دلف:

« قل لأصحابك أيّ ناحية هي أسهل عليهم فليقتصروا عليها. » وقال لجعفر:

« العسكر كلّه بين يديك والناشبة والنفّاطون أمامك، فخذ حاجتك واعزم على بركة الله، ادن من أيّ موضع شئت. » قال: « أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه. » قال: « امض. » ثم دعا أبا سعيد فقال له:

« قف بين يديّ أنت وجميع أصحابك ولا يبرحنّ منكم أحد. » ودعا أحمد بن الخليل فقال له:

« قف أنت أيضا وجميع أصحابك ها هنا ودعوا جعفرا يعبر ومن معه من الرجال، فإن أراد رجالا وفرسانا أمددناه. »

توجه أبي دلف نحو حائط البذ

فتوجّه أبو دلف مع المطوّعة نحو حائط البذّ وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم وحمل جعفر حملة حتى ضرب باب البذّ كما فعل تلك الدفعة ووقف على الباب وواقفه الخرّمية ساعة، فوجّه الأفشين برجل معه بدرة دنانير وقال:

« قل لأصحاب جعفر: من تقدّم حثوت له ملء كفّى. » ودفع بدرة أخرى دنانير إلى آخر، وقال:

« اذهب إلى موضع المطوّعة وقل مثل ذلك. » وبعث بأطواق وأسورة مع البدرتين، واشتبكت الحرب، ثم فتح الخرّمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحّوهم عن الباب وشدّوا على المطوّعة من الناحية الأخرى فرموهم عن السور، وأخذوا علمين لهم وشدخوهم بالصخر حتى أثّروا فيهم ورقّوا عن الحرب. وصاح جعفر بأصحابه فبدر منهم نحو مائة رجل فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم وواقفوهم متحاجزين لا هؤلاء يقدمون ولا هؤلاء، حتى صلى الناس الظهر يختلف بينهم النشّاب والحجارة.

فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ في الناس، فوجّه إلى جعفر بكردوس فقال جعفر:

« لست أوتى من قلّة الرجال، معي رجال ولكن لست أرى للحرب موضعا وقد انقطعت الحرب. » فبعث إليه:

« انصرف على بركة الله. » فانصرف جعفر وتقدّم الأفشين بحمل الجرحى ومن به وهن من الحجارة في المحامل التي على البغال وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ ويئس الناس من الفتح في تلك السنة وانصرف أكثر المطوّعة.

ثم إنّ الأفشين تجهّز بعد جمعتين فلمّا كان في الليل بعث الرجّالة الناشبة وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كلّ واحد منهم شكوة وكعكا، ودفع إليهم أعلاما سودا وقال:

« سيروا حتى تصيروا خلف التلّ الذي عليه آذين» - وهو صاحب جيش بابك.

وأرسل مهم الأدلّاء وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد حتى يروا أعلام الأفشين عند صلاة الغداة، فحينئذ فركّبوا الأعلام على الرماح واضربوا بالطبول وانحدروا من فوق الجبل وارموا بالنشّاب والصخر على الخرّمية وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره.

ففعلوا ذلك ووافوا رأس الجبل عند السحر وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي.

فلمّا كان السحر وجّه الأفشين إلى القوّاد أن:

« اركبوا في السلاح. » فركبوا، وأخرج النفّاطين والشمع وضرب بالطبل حتى وافى الموضع الذي كان يقف عليه وبسط النطع ووضع الكرسيّ لعادته، وكان بخاراخذه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كلّ يوم فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخاراخذاه في المقدّمة مع أبي سعيد وجعفر الخيّاط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة وأمرهم أن يدنوا من التلّ الذي عليه آذين فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم. فمضوا جميعا حتى صاروا كالحلقة حول التلّ وارتفعت الضجّة وتحرّك الكمين واشتبكت الحرب.

فلمّا سمع الرجّالة الناشبة الذين تقدّموا صوت الطبول ورأوا الأعلام وركّبوا أعلامهم وانحدروا على أصحاب آذين وحمل جعفر الخيّاط وأصحابه حتى صعدوا إليهم ثم حملوا حملة منكرة، قلبوه وأصحابه في الوادي.

وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلا عليها صخرة. فلمّا حمل الناس دفع العجل على الناس، فأفرج الناس عنها حتى تدحرجت ثم حمل الناس من كلّ وجه.

بابك يريد الأمان

فلمّا نظر الناس إلى ذلك كبّروا ونظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، فخرج من طرف البذّ من باب يلي الأفشين يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل، فأقبل بابك يسأل عن الأفشين فقال لهم المطوّعة وأصحاب أبي دلف:

« من هذا؟ » فقالوا: « بابك، يريد الأفشين. » فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه ذلك. فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك. فنظر إليه، ثم عاد إليه فقال:

« نعم هو بابك. » فركب إليه الأفشين، فدنا منه حيث يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له:

« أريد الأمان من أمير المؤمنين. » فقال له الأفشين:

« قد عرضت عليك هذا وهو لك مبذول متى شئت. »

فقال: « قد شئت الآن على أن تؤجّلنى أجلا أحمل فيه عيالي وأتجهّز. » قال له الأفشين:

« قد والله نصحتك غير مرّة وأنا أنصحك الساعة: خروجك اليوم في الأمان خير من غد. » قال: « قد قبلت أيّها الأمير. » قال له الأفشين:

« فابعث بالرهائن التي كنت سألتك. » قال: « نعم. أمّا فلان وفلان فهم على ذلك الجبل، فمر أصحابك بالتوقّف عنهم. » فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس. فقيل له:

« من يردّ الناس؟ إنّ أعلام الفراغنة قد دخلت البذّ وصعدوا بها إلى القصور. » فصاح الأفشين بالناس ودخل ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق القصور وقد كان بابك كمّن في قصوره وهي أربعة، ستمائة راجل. فوافاهم الناس فصعدوا فوق القصور بالأعلام وامتلأ شارع البذّ وميدانها من الناس وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور وخرجوا يقاتلون الناس، ومرّ بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتاذ سر واشتغل الأفشين وقوّاده بالحرب على أبواب القصور وأحضروا النفّاطين فصبّوا عليهم النفط والناس والنار يهدمون القصور حتى قتلوهم عن آخرهم.

وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاتهم وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا، وكان عامّة الخرّمية في البيوت فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.

فذكر الناس أنّ بابك وأصحابه حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادي الذي يلي هشتاذ سر، فلمّا كان من الغد خرج الأفشين حتى دخل البذّ فوقف في القرية وأصعد الكلغريّة فهدموا القصور وحرّقوها. فعل ذلك ثلاثة أيّام حتى أحرق خزائنه وقصوره ولم يدع بيتا واحدا. ثم رجع وقد علم أنّ بابك قد أفلت في بعض أصحابه. فكتب إلى ملوك أرمينية وأصحاب الأطراف يقول:

« إنّ بابك قد هرب في عدّة معه وهو مارّ بكم فلا يفوتنّكم. » وجاءت الجواسيس إلى الأفشين فأخبروه بموضعه في الوادي وكان واديا معشبا كثير الشجر طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه ولا يرى من يستخفى فيه، إنّما هو غيضة ملتفّة الأشجار والأنهار فوجّه الأفشين إلى كلّ موضع يعلم أنّ منه طريقا ينحدر إلى تلك الغيضة، إذ يمكن بابك أن يخرج منه عسكرا، وكان يوجّه إلى كلّ عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت عدّة هذه العساكر خمسة عشر عسكرا.

أمان مختوم بالذهب من المعتصم لبابك

وكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالله مختوما بالذهب فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين ممّن كان استأمن إليه من أصحاب بابك وبالأسرى وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال لهم:

« هذا ما لم أكن أطمع له فيه، أن يكتب له أمير المؤمنين وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه ويذهب به إليه؟ » فلم يجسر على ذلك أحد منهم وقالوا:

« أيّها الأمير ما فينا من يجترئ أن يلقاه بهذا. » فقال الأفشين:

« ويحكم، إنّه يفرح بهذا. » قالوا: « أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك. » قال: « فلا بدّ من أن تهبوا لي أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه. » فقام رجلان منهم فقالا:

« اضمن لنا أنّك تجرى على عيالاتنا. » فضمن لهما. وأخذا الكتاب وتوجّها، فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك يعلمه الخبر ويسأله أن يصير إلى الأمان. فدفعا إليه الكتاب عن ابنه فقرأ الكتاب ابنه وقال:

« أيّ شيء صنعتم؟ » قال: « أسر عيالاتنا ولم نعرف موضعك فنأتيك. » فقال للذي كان معه الكتاب:

« أمّا هذا فلا أعرفه، ولكن أنت يا ابن الفاعلة كيف اجترأت أن تجيئني من عند ابن الفاعلة؟ » - يعنى ابنه.

فأخذه وشدّ الكتاب على صدره مختوما لم يفضّه وضرب عنقه.

ثم قال للآخر:

« اذهب أنت فقل لابني: يا بن الزانية قد تحقّقت الساعة أنّك لست لي بابن، وأنّ أمّك جاءت بك من عهر، لو عشت يوما واحدا وأنت رئيس هذه الدعوة، كان خيرا لك من أن تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل، ولكنّك من جنس لا خير فيه. » وردّ الرجل مع أدلّاء حتى دلّوه ورجعوا إلى بابك.

فناء زاد بابك

ثم إنّ بابك فنى زاده وخرج ممّا يلي طريقا فيه جبل لا يقيم عليه عسكر لبعده من الماء، وكان الناس قد أقاموا هناك فارسين وكوهيّين يحرسون الطريق بنوبة، فلمّا خرج بابك وأصحابه وكان معه أخواه عبد الله ومعاوية وامرأة له وساروا يريدون أرمينية، نظر إليهم الفارسان والكوهيّان، فتوجّهوا إلى العسكر وعليه أبو الساج، فأعلموه أنّهم رأوا فرسانا خرجوا من الغيضة ومرّوا لا ندري من هم. فركب الناس وساروا فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدّون عليها. فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه. فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له. فوجّه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر ومرّ بابك حتى دخل جبال أرمينية يسير متكمّنا في الجبال فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم وأوصوا مسالحهم: [ أن ] لا يجتاز عليهم أحد إلّا أخذوه حتى يعرفوه. وكان أصحاب المسالح كلّهم متحفّظين.

بابك والحراث وما فعل ابن سنباط

وأصاب بابك الجوع فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له في بعض الأودية. فقال لغلام له:

« انزل إلى هذا الحرّاث وخذ معك دراهم ودنانير، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه. » وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته. فنزل الغلام إلى الحرّاث يخاطبه، فنظر إليه شريكه من بعيد فوقف بالبعد يفرق أن يجيء إلى شريكه. فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئا، فجاء الحرّاث فأخذ الخبز فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر ويظنّ أنّه إنّما اغتصبه خبزه. فعدا إلى صاحب المسلحة فأعلمه أنّ رجلا عليه سيف وسلاح جاءهم وأخذ خبز شريكه من الوادي.

فركب صاحب المسلحة وكان في جبال ابن سنباط، ووجّه إلى سهل بن سنباط بالخبر. فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحرّاث والغلام عنده فقال:

« ما هذا؟ » قال الحرّاث:

« هذا رجل مرّ بي فطلب خبزا فأعطيته. » فقال للغلام:

« أين مولاك؟ » قال: « هاهنا. » فأومأ إليه، فاتّبعه فأدركه وهو نازل. فلمّا رأى وجهه عرفه، فترجّل له ابن سنباط عن دابّته ودنا منه فقبّل يده ثم قال:

« يا سيّدي إلى أين؟ » قال: « أريد بلاد الروم - أو موضعا سمّاه. » فقال له:

« لا تجد أحدا أعرف بحقّك ولا أحقّ أن تكون عنده مني. أنت تعرف موضعي، ليس بيني وبين السلطان عمل ولا يدخل عليّ أحد من أصحاب السلطان، وأنت عارف بقصتي وبلدي وكلّ من ها هنا من البطارقة، إنّما هم أهل بيتك قد صار لك منهم أولاد. » وذلك أنّ بابك كان إذا علم أنّ عند أحد البطارقة بنتا أو أختا جميلة وجّه يطلبها، فإن بعث بها وإلّا بيّته وأخذها وأخذ جميع ما له من متاع وغيره.

ثم قال له ابن سنباط:

« صر عندي في حصني فإنّما هو منزلك وأنا عبدك فكن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك. » وكان بابك قد أصابه الضرّ والجهد فركن إلى كلام سهل بن سنباط وقال له:

« ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، لعلّه أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكني أقيم عندك وتوجّه عبد الله أخي إلى ناحية ابن اصطفانوس، لأنّه ليس لنا خلف يقوم بدعوتنا. » فقال له ابن سنباط:

« ولدك كثير. » قال: « ليس فيهم خير. »

ابن سنباط يكتب الخبر إلى الأفشين وما كان بعد ذلك

وكان يثق بابن اصطفانوس. فلمّا أصبح عبد الله مضى إلى حصن اصطفانوس وأقام بابك عند ابن سنباط. فكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أنّ بابك عنده في حصنه. فكتب إليه:

« إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين - أعزّه الله - الذي تحبّ. » وكتب يجزّيه خيرا.

ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصّته ممّن يثق به ووجّه به إلى ابن سنباط، وكتب إليه يعلمه أنّه وجّه إليه برجل من خاصّته يحبّ أن يرى بابك ليحكى للأفشين ذلك. فكبره ابن سنباط ذلك إشفاقا من أن يوحش ذلك بابك. فقال للرجل:

« ليس يمكنك أن تراه إلّا في الوقت الذي يكون منكبّا على طعامه يتغدّى. فإذا رأيتنا قد دعونا بالطعام فالبس ثياب الطبّاخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنّك تقدّم الطعام أو تتناول شيئا، فإنّه يكون متّكئا على الطعام فتفقّد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك. » ففعل به ذلك في وقت الطعام فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره وقال:

« من هذا الرجل؟ » فقال له ابن سنباط:

« هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان، نصراني. » فقال له بابك:

« منذ كم أنت هاهنا؟ »

قال: « منذ كذا وكذا سنة. » قال: « وكيف أقمت ها هنا؟ » قال: « تزوّجت ها هنا. » فقال له:

« صدقت، إذا قيل للرجل من أين أنت، قال: من حيث امرأتى. » ثم رجع إلى الأفشين فأخبره ووصف له بابك:

ووجّه الأفشين أبا سعيد وبو زبازه إلى ابن سنباط وكتب إليه معهما وأمرهما إذا صار إلى بعض الطريق قدّما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج. وأمرهما إلّا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما.

ففعلا ذلك فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع قد سمّاه ووصفه لهما إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين في الموضع الذي وصفه لهما، ووجّه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد حتى تحرّك بابك للخروج إلى الصيد فقال له:

« ها هنا واد طيّب وأنت مغموم في جوف هذا الحصن، فلو خرجت، ومعنا باز وباشق وما تحتاج إليه فنتفرّج إلى وقت الغداء بالصيد. » فقال له بابك:

« إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداء. » وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زبازه يعلمهما ما عزم عليه ويأمرهما أن يوافياه: واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر، وأن يسيرا متكمّنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي فانحدرا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.

فلمّا ركب ابن سنباط وبابك وجّه ابن سنباط رسولا إلى هذا ورسولا إلى هذا وأراد أن يشبّه على بابك ويقول:

« هذه خيل قد جاءتنا فأخذتنا ولم يحبّ أن يدفعه إليهما من منزله. » فأشرفا على الوادي فإذا هما ببابك وابن سنباط وكان على بابك درّاعة بيضاء. فانحدرا وأصحابهما عليه هذا من ها هنا وهذا من ها هنا. فأخذاهما ومعهما البواشيق. فلمّا نظر بابك إلى العساكر قد أحدقت به وقف ينظر إليهم.

فقالا له:

« انزل. » فقال: « ومن أنتما؟ » قال أحدهما:

« أنا أبو سعيد. » وقال الآخر:

« أنا بو زبازه. » فقال: « نعم. » وثنّى رجله فنزل - وكان ابن سنباط ينظر إليه - فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه وقال:

« إنّما بعتني من اليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال مني وطلبته لأعطيتك أكثر ممّا يعطيك هؤلاء. »

بابك يحمل إلى الأفشين

ثم أركبوه وحملوه وجاءوا به إلى الأفشين. فجلس له الأفشين ببرزند في خيمة بين يديها فازة، فاصطفّ الناس له صفّين، فأمر الأفشين ألّا يتركوا غريبا من الصفّين فرقا أن يجرحه إنسان أو يقتله ممّن قتل أولياءه أو صنع به داهية.

وقد كان صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان ذكروا أنّ بابك كان أسرهم وأنّهم أحرار من العرب والدهاقين. فأمر الأفشين بإفرادهم في حظيرة وأجرى عليهم أقواتهم وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم وكل من جاءه فعرف امرأة أو صبيّا أو صبيّة وأقام شاهدين يعرفان أنّها حرمة له أو قرابة دفعها إليه. فكان قد ذهب خلق كثير وبقي ناس كثير منهم ينتظرون أن تجيء أولياؤهم.

فلمّا كان ذلك اليوم وصار بين بابك وبين الأفشين قدر نصف ميل أنزل بابك، فمشى بين الصفّين في درّاعته وعمامته وخفّيه حتى وقف بين يدي الأفشين. فنظر إليه الأفشين ثم قال:

« انزلوا به إلى العسكر. » فنزلوا به راكبا.

فلمّا نظر النساء والصبيان الذين كانوا أفردهم الأفشين في حظيرة لطموا وجوههم وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم.

فوجّه الأفشين إليهم:

« أنتم بالأمس تقولون أسرنا وأنتم اليوم تبكون عليه، لعنكم الله. » قالوا: « إنّه كان محسنا إلينا. » فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكّل به جماعة من ثقاته. وكان عبد الله أخو بابك مقيما عند عيسى بن اصطفانوس، فأعلم الأفشين بمكانه فكتب إليه يأمره أن يوجّه بعبد الله. فوجّه به عيسى بن اصطفانوس إلى الأفشين.

فلمّا صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد ووكّل بهما قوما يحفظونهما. وكتب إليه المعتصم يأمره بالقدوم بهما عليه.

فلمّا أراد أن يصير إلى العراق وجّه إلى بابك:

« أنظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان. » قال: « أشتهى أن أنظر إلى مدينتي. » فوجّهه مع قوم في ليلة مقمرة إلى البذّ حتى دار فيه ونظر إلى البيوت والقتلى فيه إلى وقت الصبح ثم ردّ. فيظنّ أنّه تأمّل مواضع كنوزه.

ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

قدوم الأفشين ببابك على المعتصم وما فعل المعتصم به

فقدم فيها الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه سرّ من رأى. وكان المعتصم يوجّه إلى الأفشين كلّ يوم منذ فصل من برزند إلى أن وافى سرّ من رأى فرسا وخلعة، وكان المعتصم لعنايته بأمر بابك وفساد الطريق بالثلج وغيره رتّب بين سرّ من رأى وبين عقبة حلوان خيلا مضمّرة على رأس كلّ فرسخ فرسا معه مجر، وكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤدّيه واحد إلى واحد يدا بيد.

وأمّا ما وراء حلوان إلى أذربيجان فقد رتّب فيه دوابّ المرج فكانت تركض يوما أو يومين ثم تبدّل. وكان لهم ديادبة على رؤوس الجبال بالليل والنهار ينعرون إذا جاءهم الخبر. فإذا سمع الذي يليه تعبّأ واستعدّ فلا يبلغ إليه صاحبه حتى يقف له على الطريق فيأخذ منه الخريطة ويركض بها.

فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سرّ من رأى في أربعة أيّام وأقلّ.

فلمّا صار الأفشين ببابك إلى سرّ من رأي لم يصبر المعتصم أن يحمل إليه حتى ذهب متنكّرا فرءاه وتأمّله وبابك لا يعرفه. ثم قعد له المعتصم من الغد واصطفّ له الناس بين باب العامّة إلى المطيرة وبها أنزل بابك.

وأراد المعتصم أن يشهّره فاستشار:

« على أيّ شيء يحمل ويشهر؟ » فقيل: « يا أمير المؤمنين لا شيء أشهر من الفيل. » فأمر بتهيئة الفيل فخضب وحمل عليه بابك في قباء ديباج وقلنسوة سمّور مدوّرة هو وحده. فقال محمد بن عبد الملك الزيّات:

قد خضب الفيل كعاداته ** لحمل شيطان خراسان

والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلّا لذي شأن من الشأن

فاستشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامّة، ثم أدخل به على المعتصم وأحضر جزّار لقطع أعضائه، ثم أمر أن يحضر سيّافه، وكان اسمه نوذ، فخرج الحاجب من باب العامّة فقال: « نوذ، نوذ. » وارتفعت الضجّة: « نوذ، نوذ. » حتى حضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط، فأمر أن يشقّ بطنه، ثم حزّ رأسه. ووجّه به إلى خراسان وصلب بدنه بسرّ من رأى. فموضع خشبته مشهور إلى الآن.

أخو بابك يحمل إلى بغداد

وحمل أخوه إلى بغداد فعمل به ما عمل ببابك. ويقال إنّه لمّا صار إلى البردان أنزل على ابن شروين في قصره، وابن شروين ملك طبرستان، فحمد الله أخو بابك وقال:

« أنا أشكر الله حيث وفّق لي رجلا من الدهاقين يتولّى قتلى. » قال: « إنّما يتولّى قتلك هذا. » وأشار إلى نوذ، وكان حاضرا وقد حمل معه.

فقال: « أنت صاحبي وإنّما هذا علج فأخبرني أمرت أن تطعمني شيئا أم لا؟ » قال: « قل ما شئت. » قال: « اضرب لي فالوذجة. » فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل فأكل منها حتى تملّأ ثم قال:

« يا با فلان ستعلم غدا أنّى دهقان إن شاء الله. » ثم قال: « تقدر أن تسقيني نبيذا؟ » قال: « نعم ولا تكثر. » قال: « فإنى لا أكثر. » قال: فأحضر أربعة أرطال خمرا، فشربها على مهل إلى قريب الصبح. ثم وافى به من الغد مدينة السلام وأحضر رأس الجسر. فأمر إسحاق بن إبراهيم بن مصعب بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلّم ولم يضطرب، ثم أمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي.

واستخرج الأفشين لسهل بن سنباط من المعتصم ألف ألف درهم ومنطقة مغرقة بالذهب والجوهر وتاج البطرقة وكان هذا سبب بطرقة سهل بن سنباط. وأخذ الأفشين لمعاوية أخي بابك مائة ألف درهم.

تتويج المعتصم الأفشين بعد قتل بابك

وتوّج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر ووصله بعشرين ألف ألف درهم: عشرة آلاف له وعشرة آلاف يفرّقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل إليه الشعراء يمدحونه وأمر لهم بصلات. فممّا مدح به قول أبي تمام الطائي:

بذّ الجلاد البذّ فهو دفين ** ما إن به إلّا الوحوش قطين

قد كان عذرة سؤدد فافتضّها ** بالسّيف فحل المشرق الأفشين

هطلت عليها من جماجم أهلها ** ديم إمارتها طلى وشؤون

إيقاع ملك الروم بأهل زبطرة

وفي هذه السنة أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل زبطرة فأسرهم وخرّب بلدهم ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى حصون كثيرة فسبا من المسلمات خلقا كثيرا ومثّل بمن صار في يده من المسلمين فسمل أعينهم وقطع آنفهم وآذانهم.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ بابك لمّا ضاق به الأمر وأشرف على الهلاك وأحسّ فيمن صحبه بالضعف، كتب إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل يعلمه:

أنّ ملك العرب قد وجّه عساكره ومقاتلته إليّ وشغلهم بي، حتى وجّه خيّاطه - يعنى جعفر بن دينار - ووجّه طبّاخه - يعنى ايتاخ - ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنّه ليس في وجهه أحد يمنعك.

منه، طمعا منه في أنّ ملك الروم إن تحرّك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بازائه من جيوشه إلى ملك الروم.

فخرج ملك الروم في مائة ألف وأكثر، فيهم من الجند نيّف وسبعون ألفا والباقون حشر وأتباع، وأخرج معه المحمّرة الذين كانوا أخرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وكان الملك صيّرهم مقاتلته. فلمّا دخل ملك الروم زبطرة وقتل أهلها وسبى الذراريّ والنساء بلغ النفير سرّ من رأى، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة إلّا من لم يجد سلاحا ولا دابّة، واستعظم المعتصم ذلك، فلمّا انتهى إليه الخبر قال: « لبّيك لبّيك. » وذلك أنّه بلغه أنّ امرأة من السبي قالت:

« وا معتصماه. » وصاح في قصره النفير. ثم ركب دابّته وسمّط خلفه شكالا وسكّة حديد وحقيبة، ولم يستقم له أن يخرج إلّا بعد التعبئة فأحضر ثلاثمائة ونيّفا وعشرين من القضاة والعدول فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده وثلثا لله وثلثا لمواليه، ثم عسكر بغربيّ دجلة ووجّه عجيف بن عنبسة وعمر الفرغاني وجماعة أمثالهما من القوّاد إلى زبطرة إغاثة لأهلها فلحقوا وقد انصرف ملك الروم وفعل ما فعل. فلمّا ظفر المعتصم ببابك قال:

« أيّ بلاد الروم أمنع وأحصن؟ » فقيل: « عموريّة، لم يعرض لها أحد من المسلمين وهي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينية. »

شخوص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم

فشخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم فتجهّز جهازا لم يتجهّز مثله قطّ خليفة من السلاح والعدد والآلات وحياض الأدم والروايا والقرب والبغال وآلة الحديد وآلة النار والنفط، وجعل على مقدّمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته ايتاخ وعلى ميسرته جعفر بن دينار وعلى القلب عجيب بن عنبسة، وبعث الأفشين حيدر بن كاووس إلى سروج وأمره بالتزوّد منها وسمّى له يوما أمره فيه بدخول درب الحدث وقدّر لعسكره وعسكر أشناس يوما يدخل فيه الأفشين بقدر ما بين المسافتين، ورأى أن تجتمع عساكره بأنقرة، فإذا فتحها الله صار إلى عمرويّة. فقدم أشناس من درب طرسوس وتبعه وصيفه وجمع مقدمات العسكر.

فلمّا صار أشناس بمرج الأسقف ورد عليه كتاب المعتصم يأمره بالمقام ويعلمه أنّ الجواسيس أتته بأنّ الملك يريد أن يقف على المخاضة ويكبسهم، وأعلمه أيضا أنّه ينتظر ساقته لأنّ فيها الأثقال والمجانيق والزاد.

فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيّام حتى ورد كتاب المعتصم يأمره أن يوجّه قائدا في سريّة يلتمسون رجلا من الروم يسألونه عن خبر الملك ومن

معه. فوجّه أشناس عمر الفرغاني في مائتي رجل فرسانا، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرّة وطافوا يلتمسون رجلا حول الحصن فنذر بهم صاحب قرّة، فخرج في جميع من معه بأنقرة وكمّن في الجبل الذي بين قرّة ودرّة، وعلم عمر الفرغاني بما صنع. فتقدّم إلى درّه فتكمّن بها ليلته.

فلمّا انفجر عمود الصبح صيّر عسكره ثلاثة كراديس وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك وواعدهم إلى موضع عرفه الأدلّاء ووجّه مع كلّ كردوس دليلين ومضوا فتفرّقوا في ثلاثة وجوه فأخذوا عدّة من عسكر الملك ومن الضواحي، وأخذ عمر فارسا من فرسان أنقرة فسأله عن الخبر، فأخبره أنّ الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللامس بأربعة فراسخ وهو نهر قريب من طرسوس على نحو فرسخ منها عليه يقع الفداء.

وذكروا أنّ الملك بلغه دخول عسكر كثير بلاده فرحل إليه واستخلف على عسكره هناك ابن عمّ له ينتظر ورود الملك - يعنى المعتصم - ليواقعه فكان ذلك العسكر الذي توسّط بلاد الروم عسكر الأفشين. فوجّه أشناس بذلك الرجل إلى المعتصم فأخبره بجميع ذلك.

وبادر المعتصم من عسكره بقوم من الأدلّاء وضمن لكلّ رجل منهم عشرة آلاف درهم على أن يوافوا بكتابه الأفشين. وأعلمه أنّ أمير المؤمنين مقيم فليقم، وأشفق أن يواقعه ملك الروم. وكتب إلى أشناس يأمره أن يوجّه من قبله رسولا مع الأدلّاء العارفين بالطرق والجبال والمتشبّهة بالروم، وبذل لكلّ واحد منهم عشرة آلاف ويكتب إلى الأفشين: « أنّ ملك الروم قد أقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه أمر أمير المؤمنين. »

فتوجّهت الرسل نحو الأفشين فلم يلحقه أحد منهم: لأنّه كان وغل في بلاد الروم وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة. فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدّم فتقدّم والمعتصم وراءه بينهما مرحلة ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليه خبر من الأفشين حتى صاروا بأنقرة على ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف.

أشناس والشيخ

وكان أشناس قد أسر عدّة أسرا في طريقه فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير فقال الشيخ:

« ما تنتفع بقتلى وأنت في عسكرك في هذا الضيق من الماء والزاد والعلف وأنا أدلّك على قوم بالقرب، قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب ومعهم من الميرة والطعام شيء كثير. » فوعده أشناس أن يطلقه إن فعل ذلك. فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمر الناس دوابّهم حتى شبعت وتعشّى الناس وشربوا حتى رووا.

ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ولا يخرجهم منه. فقال الأدلّاء:

« هذا الرجل يدور بنا. » فسأله عمّا قال الأدلّاء. فقال الشيخ:

« صدقوا ولكنّ القوم الذين نريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم تر أحدا قتلتني. فأنا أدوّر بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم فأريتك إيّاهم. » فقال له:

« ويحك فأنزلنا في الجبل حتى نستريح. » فقال: « رأيك. » فنزلنا على الصخر وأمسكنا لجم دوابّنا حتى الفجر. فلمّا طلع الفجر قال:

« وجّهوا رجلين يصعدان هذا الجبل فيبصران ما فوقه ويأخذان من أدركا فيه. » فصعد أربعة فأصابوا رجلا وامرأة فأنزلوهما وسائلهما العلج عن أهل أنقرة: « أين باتوا. » فسمّيا الموضع. فقال الشيخ:

« خلّوا عن هذين فإنّا قد أعطيناهما الأمان حتى دلّونا. » فخلّى عنهما وسار بهم العلج إلى الموضع. فأشرف بهم على عسكر أهل أنقرة. فلمّا رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان فدخلوا الملّاحة ووقفوا على طرفها يقاتلون وأخذوا منهم عدّة أسرى وأصابوا في الأسرى قوما بهم جراحات فسألوهم عنها فقالوا:

« كنّا مع الملك في وقعة الأفشين. » فقالوا لهم:

« فحدّثونا بالقصّة. » فأخبروا أنّ الملك كان معسكرا بلامس حتى جاءه رسول فأخبره أنّ عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الارمنياق فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته وأمره بالقيام في موضعه، فإن ورد عليه مقدّمة ملك الروم واقعه، إلى أن يذهب هو فيواقع هذا العسكر - يعنى عسكر الأفشين.

فقال أميرهم:

« نعم وكنت ممّن سار مع الملك فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجّالتهم كلّهم وتقطّعت عساكرنا في طلبهم. فلمّا كان الظهر رجع فرسانهم فقاتلونا قتالا شديدا حتى اختلطوا بنا فلم ندر أين الملك ولم نزل كذلك إلى العصر، ثم رجعنا إلى موضع معسكر الملك باللّامس فلم نصادفه، ووجدنا العسكر قد انتقض وانصرف الناس عن قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا ليلتنا.

فلمّا كان الغد فإذا الملك في جماعة يسيرة فوجد عسكره قد اختلّ فطلب الذي كان استخلفه وضرب عنقه وكتب إلى المدن والحصون: لا يأخذوا رجلا [ ممن انصرف ] من عسكر الملك إلّا ضربوه بالسياط حتى يرجع إلى موضع سمّاه لهم الملك. حتى إذا اجتمع الناس ناهض ملك العرب وأنفذ الملك خصيّا له إلى عمّوريّة إلى أن يلحقه بها. »

لحوق أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين بأنقرة

فانصرف المسلمون بما أخذوا وتركوا السبيّ والمقاتلة يريدون عسكر أشناس وساقوا في طريقهم غنما وبقرا كثيرا، وأطلقوا ذلك الشيخ الأسير، وسار أشناس بالأسرى حتى لحق بأنقرة فمكث أشناس يوما واحدا ثم لحقه المعتصم من غد فأخبره بجميع ما ذكره الأسير فسرّ المعتصم. فلمّا كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة وأنّه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.

ثم ورد الأفشين فأقاموا أيّاما ثم ساروا إلى عمّوريّة وقد صيّر المعتصم العسكر ثلاثة عساكر وبين عسكر وعسكر فرسخان، فساروا يخرّبون ويسبون ما بين أنقرة إلى عمّوريّة وبينهما سبع مراحل. ثم توافت العساكر بعمّوريّة فكان أوّل من وردها أشناس فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش. ولمّا كان من الغد جاء المعتصم فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث فقسّمها أمير المؤمنين بين القوّاد كما يدور وصيّر إلى كلّ واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم.

وتحصّن أهل عمّوريّة وتحرّزوا، وكان بعموّريّة رجل من المسلمين أسره قديما أهل عمّوريّة فتنصّر وتزوّج فيهم فحبس نفسه عند دخولهم الحصن.

فلمّا رأى أمير المؤمنين ظهر وجاء إلى المعتصم فأعلمه أنّ موضعا من المدينة حمل عليه الوادي من سيل عظيم فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمّوريّة أن يبنى ذلك الموضع فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من قسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوّف الوالي أن يمرّ الملك على الناحية فيمرّ بالسور فلا يراه بنى فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا وصيّر وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان.

فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف فأمر المعتصم بضرب مضربه في ذلك الموضع ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع.

فلمّا رأى أهل عمّورية انفراج السور علّقوا عليه الخشب الكبار المضمومة بعضها إلى بعض فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسّر، فعلّقوا فوق الخشب البراذع.

فلمّا ألحّت المجانيق على ذلك الموضع لم ينفع فيها شيء وتصدّع السور.

فكتب ياطس والخصيّ إلى ملك الروم كتابا يعلمانه أمر السور ووجّها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي فعبرا الخندق ووقعا إلى ناحية عمر الفرغاني، فوجّه بهما إلى أشناس. فحين سألوهما:

« من أنتما؟ » لم يعرفا أحدا من القوّاد بالعسكر يسمّيانه لهم. ففتّشا فوجد معهما الكتاب. فقرئ وإذا فيه:

« إنّ العسكر قد أحاط بالمدينة وأنّه قد عزم على أن يركب ويحمل خاصّة أصحابه على الدوابّ التي في الحصن ويفتح الأبواب ليلا غفلة ويخرج عن العسكر، كائنا فيه ما كان أفلت من أفلت وأصيب من أصيب، حتى يصير إلى الملك. » فلمّا قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلّم بالعربية وللغلام الرومي بيده فأسلما وخلع عليهما وأمر بهما حين طلعت الشمس فأدارهما حول عمّوريّة فقالا:

« ياطس يكون في هذا القصر. » - يعنون البرج. » فوقفا بحذاءه طويلا وعليهما الخلع وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم ومعهما الكتاب حتى عرف خبرهما جميع الروم وسمعا شتمهم إيّاهما ثم نحّوهما.

ثم أمر المعتصم بحراسة الأبواب نوائب يحصرها الفرسان يبيتون على دوابّهم في السلاح لئلّا يفتح الباب ليلا فيخرج إنسان. فلم يزالوا كذلك حتى انهدم ما بين برجين في الموضع الذي وصف للمعتصم ممّا لم يحكم عمله، فسمع أهل العسكر الوجبة، فارتاعوا وظنّوا العدوّ قد احتال بحيلة وخرج، حتى أرسل المعتصم من طاف على العسكر يعلمهم أنّ ذلك صوت السور قد سقط فطيبوا نفسا.

تدبير حربي فاشل

وكان المعتصم اتّخذ مجانيق كبارا وجعلها على كراسيّ تحتها عجل وعملها كأوثق ما تكون، ثم فرّق غنما مما استاقه على أهل العسكر ليأكلوا لحمها ويحشوا جلدها ترابا ثم أتى بالجلود مملوءة ترابا فطرحت في الخندق، وعمل دبّابات كبارا تسع كلّ دبّابة عشرة رجال على أن يدحرجوها على تلك الجلود حتى يمتلئ الخندق. فلمّا طرحت الجلود وقعت مختلفة فلم يمكن تسويتها خوفا من حجارة المنجنيق، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدّمت دبّابة فدحرجوها. فلمّا صارت من الخندق في نصفه تعلّقت بتلك الجلود وبقي القوم فيها فما تخلّصوا إلّا بعد جهد، ثم مكثت تلك العجلة مقيمة باقية هناك لا يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمّورية وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم حتى أحرقت. فلمّا كان من الغد قاتلهم على الثلمة وكان المعتصم واقفا على دابّته بإزاء الثلمة وأشناس والأفشين وقوف رجّالة.

ذكر اتفاق سيء من كلام سبق

فقال المعتصم:

« ما كان أحسن الحرب اليوم؟ » فقال عمر الفرغاني:

« الحرب اليوم أجود منها أمس. » فسمعها أشناس وأمسك. فلمّا انصرف المعتصم وانصرف أشناس وقرب من مضاربه ترجّل له القوّاد على عادتهم وفيهم عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام فلمّا مشوا بين يديه قال لهم أشناس:

« يا أولاد الزنا، أيّ شيء تمشون بين يديّ؟ كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث كان يقاتل غيركم. انصرفوا إلى مضاربكم. » فلمّا انصرفا قال أحدهما لصاحبه:

« أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة - يعنى أشناس - ما صنع بنا اليوم، أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه؟ » فقال عمر الفرغاني لأحمد بن الخليل:

« سيكفيك الله أمره عن قريب. » فأوهم أحمد أنّ عنده خبرا، فالحّ عليه أحمد يسأله فأخبره بما هم فيه، وقال العباس بن المأمون:

« قد تمّ أمره وسيبايع له طاهر أو نقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب. » ثم قال:

« وأنا أشير عليك أن يأتى العباس فتقدّم فتكون في عداد من قد مال إليه. » فقال له أحمد:

« هذا أمر لا أحسبه يتمّ. » فقال عمر:

« قد تمّ وفرغ منه. » وأرشده إلى الحارث السمرقندي، وكان المتولّى لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم، فقال له عمر:

« أنا أجمع بينك وبين الحارث. » فقال أحمد:

« إن كان هذا الأمر يتمّ فيما بيننا وبين عشرة أيّام فأنا معكم، وإن تجاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل. » فذهب الحارث فأعلم العباس أنّ عمر قد أدخل أحمد بن الخليل بيننا.

فقال:

« ما كنت أحبّ أن يطّلع الخليلي على شيء ممّا نحن فيه، فأمسكوا عنه ودعوه. بهما، » فتركوه.

فلمّا كان الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين. ثم أحسّ ايتاخ والمغاربة والأتراك، والقيّم بذلك ايتاخ، فاتسع لهم الموضع المنثلم وكثرت الجراحات في الروم وكان القائد الموكّل بالموضع الذي انثلم يقال له: وندوا، وتفسيره بالعربية ثور. فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه وكثر القتلى فيهم. فاستمدّ ياطس فلم يمدّه هو ولا غيره وقال كلّ واحد:

« نحن نحفظ ما يلينا، فاحفظ أنت ما يليك. » فقال:

« يا قوم إنّ الحرب إنّما هي اليوم عليّ وعلى أصحابي ولم يبق معي أحد إلّا وقد جرح، فصيّروا أصحابكم على الثلمة يرمون، وإلّا افتضحتم وذهبت المدينة. » فلم يلتفتوا إليه فاعتزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين ويسألوه الأمان على الذريّة حتى يسلّموا إليه الحصن بما فيه من السلاح والأثاث وغير ذلك. فلمّا أصبح أمر أصحابه ألّا يحاربوا حتى يخرج ويعود إليهم فخرج بأمان حتى صار إلى العسكر وحمل إلى المعتصم فصار بين يديه وقد أمسك الروم عن المحاربة أعنى أصحاب وندوا والناس يتقدّمون إلى الثلمة ووندوا جالس بين يدي المعتصم.

فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه وقاتل حتى صار الناس معهم على حرب الثلمة وعبد الوهّاب بن علي بين يدي المعتصم فأومأ إلى الناس بيده أن: ادخلوا.

فدخل الناس المدينة. فالتفت وندوا وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم:

« ما لك؟ » قال: « جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي فغدرت بي. » فقال المعتصم:

« كلّ شيء تريد أن تقوله فهو لك عليّ. قل ما شئت، فلست أخالفك. » قال: « كيف لا تخالفني وقد دخلوا المدينة؟ » فقال المعتصم:

« احتكم وقل ما شئت فانّى أعطيكه. »

وصار خلق من الروم إلى كنيسة لهم عظيمة، فقاتلوا هناك قتالا شديدا.

فأحرق المسلمون الكنيسة فاحترقوا عن آخرهم وبقي ياطس في برجه حوله بقية الروم وأصحابه وقد أخذتهم السيوف. فجاء المعتصم حتى وقف حذاء ياطس فكان ممّا يلي أشناس، فصاحوا:

« يا ياطس هذا أمير المؤمنين واقف. » فصاح الروميّ من فوق البرج:

« ليس ياطس ها هنا. » قالوا: « بلى، فلينزل إلى أمير المؤمنين. » قالوا « لا، ما هو ها هنا. » فمرّ المعتصم مغضبا، فصاح الروم:

« هذا ياطس، هذا ياطس. » فنصبت بعض تلك السلاليم المعمولة حتى صعد عليه الحسن الروميّ وهو غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف فكلّمه ياطس وقال له:

« هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه. » فنزل الحسن فأخبر المعتصم أنّه رءاه وكلّمه. فقال المعتصم:

« فاصعد إليه وقل له فلينزل. » فصعد الحسن ثانية فخرج ياطس من البرج متقلّدا سيفا حتى وقف على البرج قائما والمعتصم ينظر إليه فخلع سيفه من عنقه فدفعه إلى الحسن ثم نزل فوقف بين يديّ المعتصم فقنّعه سوطا وانصرف إلى مضربه فقال:

« هاتوه. » فمشى قليلا ثم جاءه رسول يقول:

« احملوه. » فحمل إلى مضرب أمير المؤمنين. ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كلّ وجه فأمر المعتصم أن يميّز الأسرى فيعزل منهم أهل الشرف في ناحية، ثم أمر بالمقاسم أن ينادى عليها كلّ صاحب عسكر في ناحيته ووكّل مع كلّ قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن أبي دؤاد يحصى عليه فبعث المقاسم في خمسة أيّام يبيع منها ما استباع وأمر بالباقي فضرب بالنار.

ولمّا همّ المعتصم بالرحيل وثب الناس على مغنم ايتاخ الذي كان يبيعه وهو اليوم الذي عجيف وعد فيه الناس أن يثب بالمعتصم، فركض المعتصم بنفسه ركضا وسلّ سيفه فتنحّى الناس من بين يديه وكفّوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه وأمر من الغد أن لا ينادى على الشيء إلّا ثلاثة أصوات وإلّا بيع العلق. فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة وعلى المتاع الكبير جملة واحدة.

وكان ملك الروم قد وجّه رسولا في أوّل ما نزل المعتصم عمّوريّة، فأنزله المعتصم على ثلاثة أميال حتى فتح عمّورية. فلمّا فتحها أذن له في الانصراف ولم يصل إليه.

حبس العباس بن المأمون

وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ عجيف بن عنبسة حين وجّهه المعتصم إلى بلاد الروم مع عمر الفرغاني لم يطلق يده في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله وحقد عجيف ذلك، فقال للعباس بن المأمون:

« ما كان أضعف همّتك عند وفاة أبيك المأمون حين بايعت أبا إسحاق؟ » ويذمّه على تفريطه، وشجّعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك.

وكان الحارث السمرقندي أديبا له عقل ومداراة وكان العباس يأنس به فصيّره واسطة بينه وبين القوّاد، فلم يزل يدور في العسكر حتى بايعه جماعة من القوّاد والخواصّ، وسمّى لكلّ واحد من قوّاد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممّن بايعه وقال:

« إذا أمرنا فليثب كلّ رجل منكم على من ضمنّاه أن يقتله. » فوكّل من خاصّة الأفشين بالأفشين ومن خاصّة أشناس بأشناس وخاصّة المعتصم بالمعتصم، فضمنوا ذلك جميعا. فلمّا أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلّة من الناس وقد تقطّعت عنه العساكر، فيقتله ويأمر الناس بالقفول إلى بغداد فإنّ الناس يفرحون بانصرافهم، فأبى العباس عليه وقال:

« لا أفسد هذه الغزاة. » فلمّا فتحوا عمّورية قال عجيف للعباس: « يا نائم كم تنام؟ قد فتحت عمّورية والرجل ممكن، دسّ قوما ينتهبون هذا الخرثيّ، فإنّه إذا بلغه ذلك ركب من ساعته، فتأمر من يقتله هناك. » فأبى عليه العباس وقال:

« أنتظر حتى أصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا. » وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع فانتهب الخرثيّ في عسكر ايتاخ وركب المعتصم وجاء ركضا فسكن الناس ولم يطلق العباس لأحد من أولئك الناس أن يتحرّكوا.

ذكر سوء تحفظ في القول عاد بهلكة

كان عمر الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وكان له قرابة غلام أمرد في خاصّة المعتصم. فجاء الغلام إلى أولاد عمر يشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم أنّ أمير المؤمنين ركب مستعجلا وأنّه كان يعدو بين يديه وقال:

« إنّ أمير المؤمنين غضب فأمرنى أن أسلّ سيفي. » وقال: « لا يستقبلك أحد إلّا ضربته. » فسمع عمر ذلك من الغلام فأشفق عليه أن يصاب فقال له:

« يا بنيّ أنت أحمق أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة فلا تبرح من خيمتك، فإنّك غلام غرّ. » وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر ووجّه الأفشين صاحبا له في خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له وأن يوافيه في بعض الطريق، وكان عسكر الأفشين على حدة من عسكر المعتصم بينهما قدر ميلين. فتوجّه صاحب الأفشين حتى أغار وسبى وغنم وأتى عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم.

واعتلّ أشناس فركب المعتصم يعوده ولم يكن الأفشين لحقه بعد. فلمّا عاده وانصرف تلقّاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:

« امض إلى أبي جعفر. » وكان عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجّها إلى ناحية الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس، فترجّلا له وسلّما عليه وراءهما حاجب أشناس من بعيد. فلمّا دخل الأفشين إلى أشناس وخرج توجّها إلى عسكر الأفشين لشراء السبي ولم يكن السبي أخرج بعد ووقفا ناحية ينتظران أن ينادى على السبي فيشتريا، ودخل حاجب أشناس على أشناس فقال له:

« رأيت عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فلقيا الأفشين وهما يريدان عسكره فترجّلا له وسلّما عليه وتوجّها إلى عسكره. فدعا أشناس محمد بن سعيد وقال له:

« اذهب فانظر هل ترى هناك عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل، وانظر عند من نزلا وأيّ شيء قصّتهما. » فجاء محمد بن سعيد فأصابهما واقفين على ظهور دوابّهما فقال:

« ما وقّفكما هاهنا؟ » قالا: « وقفنا ننتظر سبى ابن الأقطع فنشتري بعضه. » فقال لهما محمد بن سعيد:

« وكّلا وكيلا يشترى لكما. »

فقالا: « لا نحبّ أن نشتري إلّا ما نراه. » فرجع محمد فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه:

« قل لهؤلاء: الزموا عسكركم خير لكم - يعنى عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل - لا تدوروا ها هنا وها هنا. » فذهب الحاجب إليهما فأعلمهما واغتمّا لذلك واتّفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر فيستعفيا من أشناس فصار إلى صاحب الخبر فقالا:

« نحن عبيد أمير المؤمنين يضمّنا إلى من شاء، فإنّ هذا الرجل يستخفّ بنا، قد شتمنا وتوعّدنا ونحن نخاف أن يقدم علينا. » فأنهى صاحب الخبر ذاك إلى المعتصم من يومه ذلك، واتفق الرحيل من الغد وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها وسار أشناس والأفشين وجميع القوّاد في عسكر أمير المؤمنين ووكّلوا حلفاءهم بعساكرهم. فلمّا ذهب أشناس إلى المعتصم قال له:

« أحسن أدب عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فإنّهما قد حمّقا أنفسهما. » فجاء أشناس ركضا إلى معسكره فسأل عن عمر وأحمد بن الخليل فأصاب عمر وكان ابن الخليل قد مضى فأحضر عمر الفرغاني وقال:

« هاتوا سياطا. » فمكث طويلا مجرّدا ليس يؤتى بالسياط فتقدّم عمّه إلى أشناس وكلّمه فيه وكان عمّه أعجميّا فقال:

« احملوه وألبسوه قباطاق واحملوه على بغل في قبة. » وساروا به وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض فقال:

« احبسوا هذا معه. » فأنزل عن دابّته وصيّر عديله فبقيا كذلك يسار بهما على كرامة وأثقالهما وغلمانهما في العسكر لم يحرّك لهما شيء حتى سمع الغلام الفرغاني قرابة عمر بحبس عمر، فذكر للمعتصم ما دار بينه وبين عمر من الكلام في تلك الليلة وقوله: إذا سمعت صوتا مثل هذا فالزم خيمتك.

فقال المعتصم لبغا:

« لا ترحل غدا حتى يجيء أشناس فتأخذ منه عمر وتلحقني به. » وكان هذا بالصفصاف. ففعل بغا ذلك ومضى بعمر إلى المعتصم. فلمّا أفرد أحمد بن الخليل قلق وأنفذ غلاما له ليتبع عمر وينظر ما يصنع به.

فرجع الغلام فأخبره أنّه دخل على أمير المؤمنين. فمكث ساعة ثم دفع إلى ايتاخ وكان سائله أمير المؤمنين عن الكلام الذي قاله الغلام قرابته فأنكر وقال:

« هذا الغلام كان سكران ولم يفهم وما قلت شيئا ممّا ذكر. » وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البذندون فأقام أشناس هناك ثلاثة أيّام ينتظر أن تتخلّص عساكر أمير المؤمنين، لأنّه كان على الساقة.

فكتب أحمد بن الخليل رقعة إلى أشناس يعلمه أنّ لأمير المؤمنين عنده نصيحة. فبعث إليه أشناس بأحمد بن الخصيب وأبي سعيد محمد بن يوسف يسألانه عن النصيحة فذكر أنّه لا يخبر بها إلّا أمير المؤمنين. فرجعا فأخبرا أشناس بذلك فقال:

« ارجعا فاحلفا له أنّى حلفت بحياة أمير المؤمنين إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت. » فرجعا فأخبراه بذلك فأخرج جميع من كان يحفظه وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمر الفرغاني من أمر العباس وشرح لهما جميع ما كان عنده من خبر الحارث السمرقندي. فانصرفا إلى أشناس وأخبراه بذلك فبعث أشناس في طلب الحدادين فجاءوا بهم فدفع إليهم حديدا وقال:

« اعملوا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل وعجّلوه لي الساعة. » ففعلوا ذلك. فلمّا كان وقت العتمة ذهب حاجب أشناس إلى خيمة الحارث السمرقندي فأخرجه منها وجاء به إلى أشناس فقيّده وأمر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين فحمله إليه. واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة فجاء أشناس إلى موضع معسكره فتلقّاه الحارث ومعه رجل من قبل المعتصم وعليه خلع، فقال له أشناس:

« مه؟ » قال: « القيد الذي كان في رجلي [ صار ] في رجل العباس. » وكان المعتصم سأل الحارث عن أمره فأخذ عهده إن صدقه ونصحه أطلقه، ثم أقرّ له بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القوّاد، فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه ولم يصدّق على أولئك القوّاد لكثرتهم وكثرة من سمّى منهم. وتحيّر المعتصم فدعا به حين خرج من الدرب فأطلقه ومنّاه وأوهمه أنّه قد صفح عنه وتغدّى معه وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل فنادمه [ على ] الشراب وسقاه حتى أسكره واستحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا. فشرح له قصّته وسمّى له جميع من كان دبّ في أمره فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك فسأله عن الأسباب، فقصّ عليه مثل ما قصّ العباس.

ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس.

ثم قال للحارث:

« قد رضتك على أن تكذب فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل. » ثم دفع العباس إلى الأفشين وتتبّع المعتصم أولئك القوّاد فأخذوا جميعا.

فأمّا أحمد بن الخليل فأمر أن يحمل على بغل بأكاف بلا وطاء ويطرح في الشمس إذا نزل ويطعم في كلّ يوم رغيفا واحدا.

وأمّا عجيف بن عنبسة فدفع مع جماعة من القوّاد إلى ايتاخ ودفع أحمد بن الخليل إلى أشناس وأخذ الشاه بن سهل فأحضره المعتصم والعباس بين يديه، فقال له:

« يا ابن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر. » فقال الشاه:

« ابن الزانية هذا الذي بين يديك - يعنى العباس - لو تركني هذا كنت أنت يا هذا لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول ما تقول. » فأمر به المعتصم فضربت عنقه ودفع عجيف إلى ايتاخ فعلّق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.

وأمّا العباس فكان في يد الأفشين، فلمّا نزل المعتصم منبج وكان العباس جائعا فسأل عن الطعام فقدّم إليه طعام كثير فأكل فلمّا طلب الماء منع وأدرج في مسح فمات.

وأمّا عمر الفرغاني فإنّه لمّا نزل المعتصم بنصيبين في بستان دعا صاحب البستان فقال له:

« احفر بئرا في موضع أومأ إليه. » ثم دعا بعمر وقد تناول أقداحا. فلمّا مثل بين يديه جرّد وضرب بالسياط. فلمّا انتهى حفّار البئر ممّا أمره به أمر المعتصم أن يضرب وجه عمر بالخشب. فلم يزل يضرب حتى سقط أنفه وأسنانه ثم قال:

« جرّوه إلى البئر فاطرحوه فيها. » فلم يتكلّم عمر ولم ينطق بحرف حتى طرح في البئر وطمّت عليه.

وأمّا عجيف فإنّه مات في المحمل بباعيناثا فطرح عند صاحب المسلحة فدفن هناك. وذكر أن عجيفا كان في يد محمد بن إبراهيم بن مصعب فسأله المعتصم عنه فقال:

« يا محمد لم يمت عجيف يا با صالح؟ » قال: « يا سيدي اليوم يموت. » فمات ذلك اليوم. وأمّا التركيّ الذي ضمن للعباس قتل أشناس فإنّه كان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه، فأمر أشناس بحبسه قبله في بيت مظلم وسدّ عليه الباب وكان يلقى إليه كلّ يوم رغيف وكوز ماء. فأتاه ابنه في بعض أيّامه، فكلّمه من وراء الحائط فقال له:

« يا بنيّ لو كنت تقدر على سكّين كنت أقدر أن أتخلّص من موضعي هذا. » فلم يزل ابنه يتلطّف للموكّلين حتى فتح له بمقدار دون الدرهم ضوء فطرح إليه من هناك سكّينا فقتل بها نفسه.

وأمّا أحمد بن الخليل فانّه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد فحفر له بئرا وأطبق عليه وفتح فيها كوّة ليرمى إليه منها الخبز والماء فقال له المعتصم:

« ما حال أحمد بن الخليل؟ » فأخبره بحاله. فقال المعتصم:

« أحسبه قد سمن على هذه الحال. » فنقل إلى غيره فسمّه حتى مات.

وقتل باقى القوّاد إلّا هرثمة بن النصر الختّلى فانّه كان يحمل في الحديد من المراغة لأنّه كان هناك. فتكلّم فيه الأفشين واستوهبه من المعتصم فوهبه له وولّاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فوصل إلى الدينور عند العشاء مقيّدا مغلولا فطرح في خان فوافاه الكتاب في بعض الليل وأصبح هو والى الدينور. وقتل من الأتراك والفراغنة وغيرهم ممّن لم يحفظ اسمه خلق كثير وورد المعتصم سرّ من رأى سالما بأحسن حال.

ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

وفيها أظهر مازيار بن قارن الخلاف على المعتصم بطبرستان

ذكر السبب في ذلك

كان مازيار منافرا لآل طاهر لا يحمل الخراج إليهم وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إليهم فلا يحمل ويقول:

« أحمله إلى أمير المؤمنين. » فكان المعتصم يأمر بالمال إذا بلغ همذان أن يستوفيه عامله، ثم يسلّمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليردّه إلى خراسان. ولمّا ظفر الأفشين ببابك ونزل من المعتصم المنزلة التي لا يتقدّمه فيها أحد وبلغه منافرة مازيار آل طاهر طمع في ولاية خراسان ورجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر.

فدسّ الكتب إلى مازيار يعلمه ميله إليه بالدهقنة ويظهر مودّته ويقول أنّه قد وعد بولاية خراسان.

فدعا ذلك مازيار إلى الاستمرار في عداوة آل طاهر وترك حمل الخراج إليه، وما شكّ الأفشين، إن كاشف وخالف، سيطاول عبد الله بن طاهر حتى يحتاج المعتصم أن يوجّهه وغيره إليه ولم يزل يكاتب مازيار ويبعثه على محاربة عبد الله بن طاهر ويهوّن أمره عنده حتى خالف وأخذ رهائن أكابر أهل ناحيته وأمر الأكرة بانتهاب أموال أرباب الضياع وغلّاتهم والأفشين في كلّ ذلك يكاتبه ويعرض عليه النصرة.

وأخذ مازيار الناس بالخراج فجبى جميع الخراج في شهرين وكان يجبى كلّ سنة الثلث في أربعة أشهر. وهرب رجل ممّن أخذت رهينته.

فجمع أبو صالح سرخاستان خليفة المازيار الناس بسارية وقال:

« كيف يثق بكم الملك وهذا فلان ممّن حلف وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج فأنتم لا تفون ولا تكرهون الحنث فكيف يرجع لكم الملك إلى ما تحبّون؟ »

فقال بعضهم:

« نقتل الرهينة حتى لا يعود غيره إلى الهرب. » فقال: « أو تفعلون؟ » قالوا: « نعم. » فكتب أبو صالح إلى صاحب الرهائن يأمره أن يوجّه بابن الهارب. فلمّا حمل إلى سارية ندم الناس على ما قالوا وجعلوا يرجعون على من أشار بذلك باللوم، فجمعهم أبو صالح وقال:

« قد ضمنتم لي قتل الرهينة وها هو قد حضر فاقتلوه. » فقال بعضهم:

« أصلح الله الأمير، إنّك أجّلت من خرج عن البلد شهرين وهذا الرهينة قبلك فنسألك أن تؤجّله شهرين فإن رجع أبوه وإلّا أمضيت فيه رأيك. » فغضب ودعا بصاحب حرسه فأمر بصلب الغلام. فسأله الغلام أن يأذن له حتى يصلّى ركعتين. فأذن له فطوّل في صلاته وهو يرعد وقد مدّ له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته ومدّوه حتى اختنق ومات.

ثم أمر أهل سارية أن يخرجوا إلى آمل وتقدّم إلى أصحاب المسالح في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب فأحضروا ومضى معهم إلى آمل وقال لهم:

« إني أريد أن أشهدكم على أهل آمل وأشهد أهل آمل عليكم وأردّ ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما أخذناه منكم. » فلمّا وافوا آمل ميّز أهل سارية ناحية ناحية ووكّل بهم وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف عليه منهم أحد، ثم عرضهم على الأسماء حتى اجتمعوا، وتقدّم إلى أصحاب السلاح حتى أخدقوا بهم ووكّل بكلّ رجل رجلين وساقهم مكتّفين حتى وافى بهم جبلا يعرف بهرمزديار وكبّلهم بالحديد وبلغت عدّتهم عشرين ألفا فحبسهم هناك، وفعل مثل ذلك بوجوه العرب والأبناء وكبّلهم وحبسهم ووكّل بهم.

فلمّا تمكّن مازيار واستوى أمره وحبس كلّ من يخشى غائلته وأمن جميع أصحابه وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل فخرّبه بالطبول والمزامير ثم سار إلى ساريه ففعل بها مثل ذلك ثم فعل بطميش - وهي على حدّ جرجان من عمل طبرستان - مثل ذلك وعمل سورا من طميش إلى البحر مقدار ثلاثة أميال. وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك لأنّ الترك كانت تغير على أهل طبرستان في أيّامها.

ونزل سرخاستان معسكرا بطميش وصيّر حولها خندقا وثيقا وأبراجا للحرس وصيّر عليها بابا وثيقا ووكّل به الثقات. ففزع أهل جرجان فهرب منهم قوم إلى نيسابور. وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر عامل المعتصم على خراسان، فوجّه إليه عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب مع جيش كثيف لحفظ جرجان وأمره أن يعسكر على الخندق. فنزل الحسن بن الحسين على الخندق معسكرا وصار بينه وبين سرخاستان عرض الخندق، ثم بعث إليه عبد الله بن طاهر حيّان بن جبلة في أربعة آلاف فارس إلى قومس فعسكر على حدّ جبال شروين.

ووجّه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف وضمّ إليه الحسن بن قارن الطبري العابد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجّه منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الريّ ليدخل طبرستان من ناحية الريّ ووجّه أبا الساج إلى اللّار ودنباوند فأحدقت الخيل بمازيار من كلّ جانب فبعث مازيار إلى أهل المدن المحبّسين عنده:

« إنّ الخيل قد زحفت إليّ من كلّ جانب وإنّما حبستكم ليبعث أميركم فيسأل فيكم - يعنى المعتصم - فلم يكترث بكم وأنتم عشرون ألفا ولست أتقدّم إلى حربه وأنتم ورائي، فأدّوا إليّ خراج سنتين وأخلّى سبيلكم، ومن كان منكم شابّا قويّا قدّمته للقتال. فمن وفي رددت عليه ماله ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا ضعيفا صيّرته من الحفظة والحرّاس والبوّابين.

ثم إنّ سرخاستان جمع من أبناء القوّاد وغيرهم من أهل آمل ممّن فيه قوّة وشجاعة مائتين وستين فتى ممّن يخاف ناحيته وأظهر أنّه يريد مناظرتهم وبعث إلى الأكرة الدهاقين. قال لهم:

« إنّ هؤلاء هواهم مع العرب ولست آمن غدرهم وهم أهل الظنّة قد جمعتم فاقتلوهم لتأمنوا ولا يكون في عسكركم من يخالفكم. » ثم كتّفهم ودفعهم إلى الأكرة الدهاقين. فصاروا بهم إلى قناة هناك قد خربت فقتلوهم ورموا بهم في آبار القناة. ثم عطف سرخاستان إلى المحبّسين من أهل المدن فطالبهم بمال المواقفة فقالوا:

« إنّ صاحبك لم يبق لنا مالا ولا ذخيرة ولو علم أنّ وراءنا درهما واحدا لاستخرجه ولكنّا نعطى ضياعنا وأملاكنا بقيمة ما تطلب. » فقال لهم:

« الضياع للملك ولا حقّ لكم فيها فاحتالوا للملك. » فلم يجد عندهم شيئا. فقال لأولئك الأكرة الذين قتلوا من قتلوا:

« إني قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم إلّا ما كان من جارية جميلة من بناتهم فإنّها تصير للملك. » وقال لهم:

« صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع أوّلا ثم حوزوا ما وهبت لكم من منازلهم وحرمهم. » فجبن القوم ولم يقدموا على عشرين ألفا، فلم يقبلوا منه.

وكان الموكّلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدّثون ليلا مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب حتى استأنس بعضهم ببعض وتآمروا على تسليم السور فسلّموه، ورحل أصحاب الحسن بن الحسين من موضعهم إلى عسكر سرخاستان على غفلة من غير أن يعلم بذلك صاحبهم.

فنظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا يدخلون من الحائط. وبلغ الحسن بن الحسين ذلك فأشفق أن تكون حيلة فجعل يصيح ويمنع من الدخول وهم لا يقبلون حتى نصبوا أعلامهم على السور في معسكر سرخاستان.

وانتهى الخبر إلى سرخاستان وهو في الحمّام وسمع الضجيج فلم تكن له همّة إلّا الهرب فخرج هاربا في غلالة ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر ومضى قوم في الطلب.

فتحدّث زرارة بن يوسف قال: بينا أنا في الطريق إذ صرت في موضع يسرة الطريق فوجلت منه ثم اقتحمته بالرمح ولم أر أحدا ولكنى صحت:

« من أنت ويلك. » فإذا رجل يصيح:

« زينهار. » يعنى: الأمان. فأخرجته وإذا هو شيخ جسيم فقلت:

« من أنت؟ » فقال: « أنا شهريار. » وإذا به أخو سرخاستان صاحب العسكر.

فحملته إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه.

وأمّا سرخاستان فإنّه مضى على وجهه وكان عليلا فلمّا جهده العطش نزل عند غيضة واستلقى وصاح بعض أصحابه ممّن تبعه:

« يا فلان اسقني ماء فقد جهدنى العطش. » فقال: « ليس معي ما أغرف به من هذا الموضع. » فقال له سرخاستان:

« خذ رأس جعبتى فاسقني به. » فنظر الرجل إلى أصحابه وقال لهم:

« هذا الشيطان قد أهلكنا. فلم لا نتقرّب به إلى السلطان ونأخذ لأنفسنا أمانا؟ » فأجابوه إلى ذلك ووثبوا عليه وشدّوه كتافا فقال لهم:

« خذوا منى مائة ألف واتركوني فإنّ العرب لا تعطيكم شيئا. » قالوا: « أحضرها. »

قال: « هاتوا ميزانا. » فقالوا: « من أين لنا ها هنا ميزان؟ » قال: « فمن أين لي هاهنا ما أعطيكم. ولكن صيروا معي إلى المنزل وأعطيكم العهود والمواثيق أنّى أفي لكم بذلك. » فصاروا به إلى الحسن بن الحسين واستقبلهم خيل الحسن بن الحسين.

فضربوا رؤوسهم وأخذوا سرخاستان منهم فهمّتهم أنفسهم، ومضى به أصحاب الحسن إلى الحسن فدعا بوجوه أصحابه وسألهم:

« هل هذا سرخاستان؟ » قالوا:

« نعم هو هو. » فأمر به فضربت عنقه.

وكاتب حيّان بن جبلة من ناحية طميش قارن بن شهريار ورغّبه في الطاعة وضمن له أن يملّكه على جبال أبيه وجدّه وكان قارن هذا ابن أخي مازيار وقد قوّده مع أخيه عبد الله بن قارن وضمّ إليه عدّة من ثقات قوّاده وقراباته، فلمّا استماله حيّان اطمأنّ إليه وضمن له قارن أن يسلّم إليه الجبال أو مدينة ساريه إلى حدّ جرجان على أن يملّكه على مملكة أبيه وجدّه إذا وفي له بالضمان، وكتب بذلك حيّان إلى عبد الله بن طاهر فسجّل له عبد الله بن طاهر بكلّ ما سأل، وكتب إلى حيّان يأمره بالتوقّف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدلّ به على الوفاء لئلّا يكون منه مكر، وكتب حيّان إلى قارن بذلك.

فدعا قارن بعمّه عبد الله بن قارن أخي مازيار ودعا جميع قوّاده إلى طعامه. فلمّا أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنّوا أحدق بهم أصحابه في السلاح، وكتفهم ووجّه بهم إلى حيّان بن جبلة. فلمّا صاروا إليه استوثق منهم وركب حيّان في جمعه حتى دخل جبال قارن وبلغ مازيار الخبر، فاغتمّ وقلق وقال له أخوه كوهيار:

« في حبسك عشرون ألفا من المسلمين ما بين إسكاف وخيّاط وقد شغلت نفسك بهم، وإنّما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقراباتك. فما تصنع بهؤلاء المحبّسين عندك. » فأمر بأن يخلّى جميع من في محبسه. ثم دعا بكتّابه وخلفاءه وصاحب خراجه وصاحب شرطه وقال لهم:

« إنّ حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل وقد دخلت العرب إليه، وأكره أن أسومكم فاذهبوا إلى منازلكم وخذوا الأمان لأنفسكم. » وواصلهم وأذن لهم في الانصراف.

ولمّا بلغ قوهيار أخا مازيار دخول حيّان ساريه، أطلق محمد بن موسى عامل طبرستان من حبسه وحمله على بغل ومركب ووجّهه إلى حيّان ليأخذ له الأمان ويجعل له جبال أبيه وجدّه، على أن يسلّم إليه مازيار ويوثق له بذلك. وضمّ إليه أحمد بن الصقير وهو من مشايخ الناحية ووجوهها. فلمّا سار محمد بن موسى إلى حيّان وأخبره وسأله قوهيار قال له حيّان:

« من هذا؟ » - يعنى أحمد.

قال: « هذا شيخ هذه البلاد يعرفه الخلفاء ويعرفه الأمير عبد الله بن طاهر. »

ورأى حيّان تحت أحمد برذونا ضخما نبيلا، فبعث إليه يسأله أن يقوده إليه ليراه، فبعث به، فلمّا تأمّله وجده مشطّب اليدين فزهد فيه وقال لرسول أحمد:

« هذا لمازيار ومال مازيار لأمير المؤمنين. » فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب من فعل حيّان به ذلك، وكتب إلى قوهيار:

« ويحك لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عمّ الأمير عبد الله بن طاهر وتدخل في أمان هذا العبد الحائك وتدفع إليه أخاك وتضع من قدرك ويحقد عليك الحسن بن الحسين بتركك إيّاه وميلك إلى عبد من عبيده. » فكتب إليه قوهيار:

« قد غلطت في أوّل الأمر وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد ولا آمن إن خالفته أن يناهضنى ويحاربني ويستبيح منازلي وأموالى وإن قاتلته وقتلت من أصحابه وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء ويبطل ما نحن فيه. » فكتب إليه أحمد:

« إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنّه عرضت لك علّة منعتك من الحركة وأنّك تتعالج ثلاثة أيّام فإن عوفيت وإلّا صرت في محمل وسنحمله نحن على قبول ذلك منك. » ثم إنّ أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميش ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميش فكتب إليه أن:

« اركب إلينا لندفع إليك قارن والجبل وإلّا فاتك فلا تقيم. » فلمّا وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته وسار مسير ثلاث ليال في ليلة حتى انتهى إلى ساريه. ولمّا أصبح سار إلى خرّماباذ وهو يوم موعد قوهيار، وسمع حيّان وقع طبول الحسن فركب وتلقّاه على رأس فرسخ. فقال له الحسن:

« ما تصنع ها هنا ولم توجّه إلى هذا الموضع وقد فتحت جبال شروين وتركتها وراءك فما يؤمنك أن يغدر بك القوم جميع ما عملت عليك، ارجع إلى الجبل وأشرف على القوم إشرافا لا يمكنهم الغدر إن همّوا به. » فقال له حيّان:

« أنا على الرجوع وأريد أن أحمل أثقالى وأتقدّم إلى رجالي بالرحيل. » فقال له الحسن:

« امض أنت فإني باعث بأثقالك ورجالك خلفك وبت الليلة بساريه حتى يوافوك ثم بكّر من غد. » فخرج حيّان من فوره ولم يقدر على مخالفة الحسن. ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر وهو بلبون من جبال ونداهرمزد من أحصن جباله وكان أكثر مال مازيار بها، وأمره عبد الله ألّا يمنع قارن ممّا يريد من تلك الجبال والأموال. فاحتمل قارن ما كان لمازيار هناك من المال من ذخائر مازيار وسرخاستان وباستاندرة وبقدح السليان واحتوى على ذلك كلّه فانتفض على حيّان جميع ما كان سنح له بسبب ذلك البرذون.

ثم أمر محمد بن موسى وأحمد بن الصقير الحسن وناظراه سرّا فجزاهما خيرا، وكتب إلى قوهيار فوافاه وبرّه وأكرمه وأجابه إلى كلّ ما سأل واتّعد إلى يوم ثم صرفه. وصار قوهيار إلى مازيار فأعلمه أنّه قد أخذله الأمان وتوثّق له ثم ورد عليه المازيار وقوهيار.

وتقدّم المازيار فسلّم عليه بالإمرة فلم يردد عليه الحسن وتقدّم إلى طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي فقال:

« خذاه إليكما. »

كتاب بتسليم مازيار وإخوته وأهل بيته إلى المعتصم

ثم ورد كتاب عبد الله بن طاهر بتسليم مازيار واخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم ليحملهم إلى المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمر أن يستقصى جميع ما للمازيار، فبعث الحسن إلى المازيار وأحضره وسأله عن أمواله. فسمّى قوما ذكر أنّ أمواله عندهم، فأحضر قوهيار وكتب عليه كتابا وضمّنه المال الذي ذكر مازيار أنّه عند ثقاته وخزّانه وأصحاب كنوزه وأشهد على نفسه. ثم إنّ الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار ليشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم أنّه قال: لمّا دخلنا على المازيار لنشهد عليه قال المازيار:

« إنّ جميع ما حملت من أموالى وصحبني ستّة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرّد، وستّ عشرة قطعة ياقوتا أحمر، وثمانية أوقار سلالا مجلّدة فيها ألوان الثياب وتاج وسيف محلّى بذهب وجوهر، وحقّ كبير مملوء جوهرا. »

وقد وضعه بين أيدينا وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح وهو جار عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى قوهيار. » قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين فقال:

« أشهدتم على الرجل؟ » قال: « نعم. » فقال: « هذا شيء أخبرت به فأحببت أن تعلموا قلّته. » وذكر عليّ بن ربّن كاتب مازيار أنّ ذلك الحقّ كان شراء جوهره وحسبه على المازيار وشروين وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان مازيار حمل جميع ذلك إلى الحسن بن الحسين على أن يظهر أنّه خرج إليه في الأمان وأنّه قد آمنه على نفسه وماله وولده وجعل له جبال أبيه فامتنع الحسن بن الحسين من ذلك وعفّ عنه وكان أعفّ الناس عن أخذ درهم أو دينار. فلمّا أصبح أنفذ مازيار مع طاهر بن إبراهيم وعليّ بن إبراهيم الحربي وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بمازيار مراحل فبعث الحسن فردّه وأنفذه مع يعقوب بن منصور.

قتل قوهيار ذكر ترك حزم بالدالة عاد بهلاك

ثم أمر الحسن القوهيار أخا مازيار بحمل الأموال التي ضمنها ودفع إليه بغالا من العسكر وأمر بإنفاذ جيش معه وامتنع القوهيار وقال: إنه لا حاجة لي فيهم. وخرج وأخرج الأموال ليحملها، فوثب عليه مماليك المازيار من الديالمة وكانوا ألفا ومائتين فقالوا:

« غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب وجئت لتحمل أمواله. » فأخذوه وكبّلوه بالحديد، فلمّا جنّه الليل قتلوه وانتهبوا تلك الأموال والبغال.

فانتهى الخبر إلى الحسن فوجّه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجّه قارن جيشا آخر من قبله في أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدّة فيهم ابن عمّ للمازيار يقال له شهريار بن المصمغان وكان رأس العبيد ومحرّضهم، فوجّه به قارن إلى عبد الله بن طاهر فمات في الطريق، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجّه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا على طريق الروذبار إلى الرويان.

سبب فساد أمر مازيار

وكان سبب فساد أمر مازيار أنّ جبال طبرستان ثلاثة يتوارثها ثلاثة أولاد لكسرى جبل ونداذ هرمز وجبل أخيه ونداذ سخنان بن الأنداد بن قارن وجبل شروين بن سرخاب بن باب.

فلمّا قوى أمر المازيار بعث إلى ابن عمّه فألزمه بابه وإلى أخيه قوهيار وأنفذ إلى هناك واليا من قبله، فلمّا احتاج مازيار إلى رجال لمحاربة عبد الله بن طاهر دعا ابن عمّه وأخاه وقال:

« أنتما أعلم بجبلكما من غيركما. » وقال: « صيرا في ناحية الجبل. »

وكتب إلى الدرنيّ وضمّ إليه العساكر وولّاه السهل ليحارب عبد الله بن طاهر وظنّ أنّه قد توثّق من الجبل بابن عمّه وأخيه القوهيار، وذلك أنّ الجبل لم يكن يظنّ أنّه يؤتى منه لأنّه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثّق من الموضع الذي يتخوّفه بالدّرنى.

فلمّا وجّه عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب في عسكر عظيم من خراسان ووجّه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب ووجّه معه صاحب خبر يقال له: يعقوب بن إبراهيم مولى الهادي، ويعرف بقوصرة وزحفت العسكر وأحدقت بمازيار دعا ابن عمّ مازيار نار الحقد الذي كان في قلبه على مازيار وتنحيته له عن جبله، إلى أن كاتب الحسن وأعلمه جميع ما يتطلّعه من الأخبار وأخبر خبر الأفشين، وكذلك فعل قوهيار أخوه.

وكانت هذه الأخبار ترد على عبد الله بن طاهر وعبد الله يكاتب بها المعتصم.

فشرط عبد الله بن طاهر لابن عمّ مازيار إن هو وثب بالمازيار أن يردّ عليه جبله وما ورثه عن آباءه فلا يعرض له فيه ولا يحارب. فرضي بذلك وكتب له بذلك كتابا وتوثّق له فيه فلم يشعر المازيار حتى سلّمت الجبال التي كان يأمنها وأتى من مأمنه وأنزل على حكم المعتصم والعسكر الذي مع الدرنيّ بالسهل غارّون في حربهم فأتاهم الحرب من وراءهم وقد أسر مازيار وهلك، فأعطوا حينئذ بأيديهم حتى هلكوا بأسرهم.

وكان عبد الله بن طاهر لمّا أسر مازيار وحصل في يده منّاه ووعده إن هو أظهره على كتب الأفشين، أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنّه قد علم أنّ الكتب عنده، فأمر المازيار بذلك فطلبت الكتب ووجّه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وأمره أن لا يخرج الكتب من يده والمازيار إلّا الى يد المعتصم لئلا يحتال المازيار في الكتب، ففعل إسحاق ذلك فأوصلها من يده إلى يد المعتصم فسأل المعتصم مازيار عن الكتب فلم يقرّ بها فأمر بضربه حتى مات فصلب إلى جانب بابك.

نهاية الدرني

فأمّا الدرنيّ فإنّه كان في نفسه شجاعا بطلا والتقى مع محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان جمع أموالا ورجالا يريد أن يدخل بها بلاد الديلم فلمّا عارضه محمد بن إبراهيم بين الجبل والغيضة والبحر - والغيضة متصلة بالجبل والديلم - حمل الدرنيّ على أصحاب محمد فكشفهم، ثم سار معارضة من غير هزيمة ليدخل الغيضة ولم يزل يحمل ويكشف الناس ويقرب من الغيضة حتى حمل عليه رجل من أصحاب محمد يقال له فند بن حاجيل فأخذه أسيرا واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما صحبه من المال والأثاث والدوابّ والسلاح وأمر محمد بقتل أخيه برزجشنس ودعا الدرنيّ فقطعت يده من مرفقه ومدّت رجله فقطعت من الركبة وكذلك اليد الأخرى والرجل الأخرى فقعد الدرنيّ على استه ولم يتكلّم ولا تغيّر، فأمر بضرب عنقه، فأمّا أصحابه فحملوا مكبّلين.

خلاف منكجور الأسروشني بآذربيجان

وفي هذه السنة خالف منكجور الأسروشنى قرابة الأفشين بأذربيجان.

ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك أنّ الأفشين لمّا فرغ من بابك ولّى أذربيجان منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالا عظيما فاحتجنه ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى المعتصم بخبر، المال فكوتب منكجور فيه فأنكره وهمّ منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، وذلك أنّه وقعت بينهما فيه مناظرة فهرب عبد الله وامتنع بأهل أردبيل فمنعوه وقاتلوا، وبلغ ذلك المعتصم فوجّه إليه عسكرا عظيما وبلغ منكجور فخلع وجمع إليه الصعاليك وخرج من أردبيل، وقصده القائد مع العسكر الذي خرج من جهة المعتصم وواقفه فانهزم منكجور وصار إلى حصن لبابك في جبل منيع فبناه وأصلحه وتحصّن فيه ووثب به أصحابه بعد شهر وأسلموه إلى القائد الذي يحاربه، فقدم به سرّ من رأى.

ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين

وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسيّ وتوجّه ووشّحه.

وفيها أحرق غنّام المرتد.

وفيها قدم بمازيار سرّ من رأى وحمل على الفيل.

وكنا ذكرنا أنّ محمد بن عبد الملك قال بيتين في بابك لمّا حمل وهو بهذا أشبه أعنى بمازيار وهما:

قد خضب الفيل كعاداته ** لحمل شيطان خراسان

والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلّا لذي شأن من الشان

وقيل: إنّ مازيار امتنع من ركوب الفيل فحمل على بغل بأكاف، وأمر المعتصم فجمع بينه وبين الأفشين فأقرّ مازيار أنّ الأفشين حمله على العصيان وكاتبه وصوّب له ما فعل، فضرب مازيار أربعمائة سوط وطلب ماء فسقى ومات من ساعته فصلب.

وفيها حبس الأفشين.

حبس الأفشين

ذكر السبب في ذلك

كان الأفشين أيّام حرب بابك ومقامه بأرض الخرّمية لا تأتيه هديّة من أهل أرمينية ولا من غيرهم إلّا وجّه بها إلى أسروشنة فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله بخبره إلى المعتصم فيكتب المعتصم بتعرف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أسروشنة، فيفعل عبد الله ذلك.

وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمله في أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين وبقدر طاقتهم كان الرجل يحمل ما بين الألف فما فوقه من الدنانير في وسطه فأخبر عبد الله بذلك فبينا هو كذلك إذ نزل رسل الأفشين مع الهدايا بنيسابور ووجّه إليهم عبد الله بن طاهر فأخذهم وفتّشهم فوجد في أوساطهم همايين فأخذها منهم وقال لهم:

« من أين لكم هذا المال؟ » فقالوا: « هذه هدايا الأفشين وهذه أمواله. » فقال: « كذبتم لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إليّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبدرقته لأنّ هذا مال عظيم وإنّما أنتم لصوص. » وأخذ عبد الله المال وأعطاه الجند قبله وكتب إلى الأفشين بما قال القوم وقال:

« أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أسروشنة ولم تكتب إليّ لأبدرقه، فإن كان المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّه به أمير المؤمنين في كلّ سنة، وإن كان المال لك كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال. وإنّما دفعته إلى الجند لأنّى أريد أن أغزو الترك. » فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أسروشنة، فأطلقهم عبد الله وكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله وبين الأفشين.

ولمّا تواترت أمثال هذه من الأفشين تغيّر له المعتصم وأحسّ الأفشين بتغير حاله عند المعتصم.

ذكر حيل هم بها الأفشين

فعزم الأفشين على أن يهيّئ أطوافا في قصره ويحتال لأن يشغل المعتصم وقوّاده ثم يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف حتى يصير إلى طريق أرمينية إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أسروشنة أو يستميل الخزر على أهل الإسلام.

فكان في تهيئة ذلك فطال عليه الأمر وعسر، فهيّأ سمّا كثيرا وعزم على أن يدعو المعتصم وقوّاده فيسمّهم فإن لم يجبه المعتصم استأذنه في قوّاده فيسمّهم مثل أشناس وايتاخ وبغا وأمثالهم في يوم تشاغل المعتصم، فإذا سمّهم وانصرفوا حمل في أوّل الليل تلك الأطواف والآلة على ظهور الجمال حتى يجيء إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطواف ويعبّر الدوابّ سباحة وكانت أرمينية ولايته.

وكان الأفشين تنوب قوّاده في دار المعتصم كما تنوب أمثالهم. وكان واجن الأسروشنى قد جرى بينه وبين من يطّلع على سرّ الأفشين حديث، فقال له واجن:

« ما أرى هذا الأمر يتمّ لبعده وكثرة ما ينبغي أن يعدّ له. » فذهب الرجل فحكاه للأفشين. فهمّ الأفشين بقتل واجن وأحسّ واجن بذلك فركب من ساعته التي أحسّ بما أحسّ - وكان ليلا - وأتى دار المعتصم وقد كان نام فصار إلى إيتاخ وقال:

« إنّ لأمير المؤمنين عندي نصيحة. » فقال له إيتاخ:

« أليس كنت هاهنا؟ قد نام أمير المؤمنين. » فقال واجن:

« ليس يمكنني أن أصبر إلى غد. » فدقّ إيتاخ الباب على بعض من يخبر أمير المؤمنين بخبر واجن، فقال المعتصم:

« ليبت عند إيتاخ ثم يباكرنى. » فبات عنده. ولمّا أصبح بكّر به إلى المعتصم فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم الأفشين، فجاء الأفشين في سواد، فأمر المعتصم بنزع سواده وحبسه. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين حتى لا يفوته. وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد يعلمه تحامله عليه وظلمه له في ضياعه.

فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمره ويأمره بجمع أصحابه والتأهّب له حتى إذا ورد عليه الحسن بن الأفشين استوثق منه وحمله، وكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين:

« إني قد عزلت نوح بن أسد وولّيتك الناحية. » وكتب إليه بكتاب فيه عزل نوح وولايته، فخرج الحسن في قلّة من أصحابه حتى ورد على نوح وعنده أنّه وال، فأخذه نوح فشدّه وثاقا ووجّهه إلى عبد الله فوجّهه عبد الله إلى المعتصم.

وكان المعتصم بنى حبسا للأفشين شبيها بالمنارة وفي وسطها مقدار مجلسه والرجال ينوبون تحتها كما تدور.

فحكى هارون بن عيسى بن المنصور أنّه شهد المجلس الذي عقده المعتصم في داره لمناظرة الأفشين.

ذكر مناظرات وبخ بها الأفشين واحتجاجاته فيها

أحبّ المعتصم أن يبكّت الأفشين ويناظره ولم يكن بعد في الحبس الشديد. فأخليت الدار إلّا من ولد المنصور وأحضر قوم من الوجوه وحضر أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيّات، فأتى بالأفشين وأتى بمازيار والموبذ والمرزبان بن تركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيّات.

بين محمد الزيات والأفشين

فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثّة. فقال لهما:

« ما شأنكما؟ » فكشفا عن ظهورهما، فإذا هي عارية من اللحم فقال محمد:

« أتعرف هذين الرجلين؟ » فقال: « نعم، هذا مؤذّن وهذا إمام، بنيا بأسروشنه مسجدا فضربت كلّ واحد منهما ألف سوط، وذلك أنّ بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا أن أترك كلّ قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت لهم كان فيه أصنامهم فأخرجا الأصنام واتخذاه مسجدا، فخفت أن ينتقض عليّ أمر تلك البلدان فضربتهما على ذلك لتعدّيهما. » فقال محمد:

« ما كتاب عندك قد زيّنته بالحرير والجوهر والديباج فيه الكفر بالله عز وجل. »

قال: « هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه آداب العجم وفيه دين القوم الذي هو اليوم كفر، وكنت أستمتع منه بالأدب وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلّى فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه فتركته بحاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، وما ظننت هذا يخرج من الإسلام. »

بين الموبذ والأفشين

ثم تقدّم الموبذ فقال:

« إنّ هذا كان يأكل المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنّها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يأخذ كلّ يوم شاة سوداء يضرب وسطها بالسيف ثم يمشى بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لي [ يوما ]:

إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كلّ شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، غير أنّى إلى هذه الغاية لم تسقط مني شعرة - يعنى أنّه لم يختتن. » فقال الأفشين:

« خبّروني عن هذا المتكلّم أثقة هو عندكم في دينه؟ » - وكان الموبذ بعد مجوسيا ثم أسلم على يد المتوكّل.

قالوا: « لا. » قال: « فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا ترون عدالته؟ » ثم أقبل على الموبذ فقال:

« هل بين منزلي وبين منزلك باب أو كوّة تطلعني منها وتعرف أخبارى؟ »

قال: « لا. » قال: « أفليس كنت أدخلك إليّ فأبثّك سرّى وأخبرك بالأعجمية وميلى إليها وإلى أهلها؟ » قال: « نعم. » قال: « فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذ أفشيت عليّ سرّا أسررته إليك. » ثم تنحّى الموبذ.

بين المرزبان والأفشين

وتقدّم المرزبان. فقالوا للأفشين:

« هل تعرف هذا؟ » قال: « لا. » فقيل للمرزبان: « هل تعرف هذا؟ » قال: « نعم هذا الأفشين. » فقالوا له: « هذا المرزبان. » ثم قال له المرزبان:

« يا ممخرق كم تمّوه وتدافع؟ » فقال الأفشين:

« يا طويل اللحية ما تقول؟ » قال: « كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ » قال: « كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدّى. »

قال: « فقل. » قال: « لا أقول. » قال المرزبان:

« أليس يكتبون إليك بالأسروشنيّة بكذا وكذا؟ » قال: « بلى. » قال: « أفليس بالعربية: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان؟ » قال: « بلى. » قال محمد بن عبد الملك:

« والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا، فما بقّيت لفرعون حين قال لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ » قال: « كانت هذه عادة القوم لأبي وجدّى ولى قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونها فتفسد عليّ طاعتهم. » فقال له إسحاق بن إبراهيم بن مصعب:

« كيف تحلف لنا بالله فنصدّقك ونصدّق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدّعى ما ادّعى فرعون؟ » فقال: « يا با الحسن هذه سورة قرأها عجيف على عليّ بن هشام وأنت تقرأها عليّ، فانظر غدا من يقرأها عليك؟ »

بين مازيار وأفشين

قال: ثم قدّم مازيار صاحب طبرستان. فقالوا للأفشين:

« تعرف هذا؟ »

قال: « لا. » قالوا: « هذا المازيار. » قال: « نعم قد عرفته الآن. » قالوا: « هل كاتبته؟ » قال: « لا. » قالوا لمازيار:

« هل كتب إليك؟ » قال: « نعم كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغير أخيك وأنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلّا أن دلّاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي من الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجّهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلّا ثلثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبّوس، وهؤلاء الذباب يعنى المغاربة إنّما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين - يعنى الأتراك - فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتى على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيّام العجم. » فقال الأفشين:

« هذا يدّعى على أخي وأخيه ودعوى لا تجب عليّ، ولو كتبت هذا الكتاب لأستميله إليّ وليثق بناحيتى لكان غير مستنكر، لأنى إذا نصرت الخليفة بيدي لكنت بالجملة أحرى أن أنصره لآخذ قفاه وآتى به الخليفة فأحظى به عنده كما حظى عبد الله بن طاهر بمجيء المازيار. »

بين ابن أبي دؤاد والأفشين

ولمّا قال الأفشين لمازيار ما قال وقال لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ما قال زجر ابن أبي دؤاد الأفشين. فقال له الأفشين:

« أنت يا با عبد الله لا ترفع طيلسانك بيدك ولا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة. » فقال له ابن أبي دؤاد:

« أمطهّر أنت؟ » قال: « لا. » قال: « فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة؟ » قال: « أو ليس في دين الإسلام استعمال التقيّة؟ » قال: « بلى. » قال: « فإنى خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت. » قال: « أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع غلفة. » قال: « تلك ضرورة أدفع إليها فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلم آمن معه خروج نفسي ولم أعلم أنّ في تركها خروجا من الإسلام. » فقال ابن أبي دؤاد:

« قد بان لكم. » ثم التفت إلى بغا الكبير وكان الأفشين تابعا له. فقال:

« يا با موسى عليك به. »

فضرب بيده إلى منطقته فجذبها. فقال:

« قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم. » فقلب بغا القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء عند عنقه وأخرجه إلى محبسه.

ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين

وفيها مات الأفشين.

ذكر الخبر عن موته

لمّا جاءت الفاكهة جمع المعتصم من الفواكه شيئا كثيرا في طبق وقال لابنه هارون الواثق:

« اذهب بهذه الفواكه إلى الأفشين. » فحملت مع هارون حتى صعد بها إليه في البناء الذي بنى له وحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، ثم قال للواثق:

« لا إله إلّا الله، ما أحسنه لو لا أنى فقدت منه ما أشتهيه. » وكان فقد منه الشاهلوج. فقال الواثق:

« وما هو؟ » فقال: « الشاهلوج. » فقال: « هو ذي، أنصرف فأوجّه به إليك. » ولم يمسّ من الفاكهة شيئا. فلمّا أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين:

« اقرأ على سيّدي السلام وقل له: أسألك أن توجّه إليّ ثقة من قبلك يؤدّى عني ما أقول. » فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل. وكان حمدون في أيّام المتوكّل في حبس سليمان بن وهب فحدّث بهذا الحديث.

بين هارون الواثق والأفشين

قال هارون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين وقال لي:

« إنه سيطوّل عليك فلا تحتبس. » قال: فدخلت عليه وطبق الفاكهة بين يديه ولم يمسّ واحدة فما فوقها.

فقال لي:

« اجلس. » فجلست فاستمالنى بالدهقنة. فقلت:

« لا تطوّل، فإنّ أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ ألّا أحتبس عندك، فأوجز. » فقال لي:

« قل لأمير المؤمنين يا مولاي، أحسنت إليّ وشرّفتنى وأوطأت الرجال عقبى ثم قبلت فيّ كلاما لم يتحقّق عندك ولم تدبّره بعقلك، كيف يكون هذا وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك عني؟ تخبر بأنّى دسست منكجور أن يخرج وتقبله، وتخبر أنّى قلت للقائد الذي وجّهته إلى منكجور: لا تحاربه واعذر به، وإن أحسست بأحد منّا فانهزم من بين يديه. أنت رجل قد عرفت الحرب وحاربت الرجال وسست العساكر، هذا يمكن، رأس عسكر يقول لأحد أن يفعله؟ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدوّ، وقد عرفت سببه. ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربّى عجلا له حتى أسمنه وكبر وحسنت حاله وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرّضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتّفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم:

« ويحك لم تربّى هذا الأسد هذا سبع وقد كبر والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه. » فقال لهم:

« ويحكم هذا عجل ما هو سبع. » فقالوا له:

« هذا سبع، سل من شئت عنه. » وقد كانوا تقدّموا إلى جميع من يعرفونه فقالوا لهم:

إن سألكم عن العجل فقولوا: هذا سبع.

فكلّما سأل الرجل إنسانا قال له:

« هذا سبع. » فأمر بالعجل فذبح. ولكن أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله في أمري اصطنعتني وشرّفتني وأنت سيدي ومولاي أسأل الله أن يعطف بقلبك عليّ. » قال حمدون: فقمت وانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمسّ منه شيئا. ثم ما لبثنا إلّا قليلا حتى قيل: إنّه مات.

فقال المعتصم:

« أروه ابنه. » فأخرجوه فطرحوه بين يدي ابنه، فنتف لحيته وشعره، ثم حمل إلى منزل إيتاخ ثم صلب على باب العامة ليراه الناس ثم طرح مع خشبته وأحرق وحمل الرماد فطرح في دجلة.

ووجد في داره لمّا أحصى متاعه تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر. فممّا أخرج من منزله أطواف الخشب التي أعدّها، وأصنام وكتب فيها ديانته.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين

خروج المبرقع اليماني بفلسطين

وفيها خرج المبرقع اليماني بفلسطين على السلطان.

ذكر السبب في ذلك

كان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها وفيها إمّا زوجته وإمّا أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط معه فاتّقته بذراعها فأثّر فيها. فلمّا رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه. فأخذ السيف ومشى إلى الجندي وهو غارّ فضربه فقتله ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن وطلبه السلطان فلم يعرف له خبرا.

وكان يظهر متبرقعا على الخيل فيراه الرائي فيأتيه ويذكّره ويحرّضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكر السلطان ويعيبه، فما زال حتى استجاب له قوم من الحرّاثين وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أمويّ وقال الذين استجابوا له:

« هذا هو السفياني. » فلمّا كثرت غاشيته وتبّاعه من هذه الطبقة دعا أهل البيوتات، فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وقوم من أهل دمشق، واتصل الخبر بالمعتصم وهو عليل علّته التي مات فيها، فوجّه إليه رجاء بن أيّوب الحضارى في نحو ألف رجل من الجند، وكان أبو حرب في نحو مائة ألف، وكره رجاء مواقعته فعسكر بحذاءه وطاوله حتى إذا كان في وقت عمارة الأرضين تفرّق عنه أكثرهم وبقي أبو حرب في نحو ألفين فناجزه الحرب، وتأمّل رجاء عسكر المبرقع فلم يجد فيه من له فروسية غيره. فقال لأصحابه:

« لا تعجلوا عليه فانّه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده. » فما لبث أن حمل فقال لأصحابه:

« أفرجوا عنه. » فأفرجوا، ثم حمل ثانية فقال رجاء:

« أفرجوا له فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك وخذوه. » ففعل ذلك وأحاطوا به فأنزلوه عن دابته وأسروه وحمله رجاء إلى المعتصم.

وفاة المعتصم

وفيها كانت وفاة المعتصم.

ولمّا حضرته الوفاة جعل يقول:

« ذهبت الحيل ليست حيلة. » حتى مات.

وذكر عنه أنّه قال:

« لو علمت أنّ عمرى قصير ما فعلت ما فعلت. » ودفن بسرّ من رأى. فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وولد سنة ثمانين ومائة ومات عن ثمانية وأربعين سنة وله ثمانية بنين وبنات.

وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة حسن العينين. وبويع يوم توفى ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم وكان يكنّى أبا جعفر.

خلافة هارون الواثق

ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين

ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يثبت في مثل هذا الكتاب.

ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين

حبس الكتاب وإلزامهم أموالا

وفيها حبس الواثق الكتّاب وألزمهم أموالا، فأخذ من سليمان بن وهب وهو كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن أمر بضربه كلّ يوم عشرة أسواط فضرب نحو ألف سوط، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن الحسن بن وهب وأبي الوزير مائتي ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمّال بسبب عمالاتهم، ونصب محمد بن عبد الملك لابن أبي دؤاد وسائر أصحاب المظالم فكشفوا وحبسوا وأقيموا للناس فلقوا كلّ جهد، وجلس إسحاق بن إبراهيم لهم ينظر في أمرهم ويطالبهم.

ذكر سبب ذلك

كان سبب ذلك أنّ الواثق جلس ليلة مع ندمائه فقال:

« إني لست أشتهى الليلة النبيذ، فهلمّوا نتحدّث. » فتحدّثوا عامة الليل فقال الواثق:

« من منكم يعلم السبب الذي وثب من أجله جدّى الرشيد على البرامكة حتى أزال نعمتهم؟ » فقال له بعضهم:

« أنا والله أحدّثك يا أمير المؤمنين. » وحدّثه حديث الجارية وما جرى في أمر ثمنها وإحضار البرامكة قيمة مائة ألف دينار دراهم ليستكثرها فلا يشتريها. فلمّا رآها ضمّها إلى بعض خدمه وبحث عن الأموال ليجمع بيت مال خاصة فوجد البرامكة قد أتلفوا كلّ ما في بيوت أمواله وقد ذكرنا نحن هذا الحديث مشروحا فيما مضى.

فما مرّ على ذلك أسبوع حتى أوقع بكتّابه واستخرج منهم ومن عمّاله أموالا عظيمة.

ودخلت سنة ثلاثين ومائتين

وفيها مات عبد الله بن طاهر وكان إليه يوم ذاك الحربة والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والريّ وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، فولّى الواثق هذه الأعمال كلّها ابنه طاهر بن عبد الله بن طاهر.

ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين

تحرك قوم وأخذهم البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي

وفيها تحرّك قوم في ربض عمرو بن عطاء وأخذوا البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي.

ذكر السبب في ذلك

السبب في ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك [ بن الهيثم ] الخزاعي - ومالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس وقد تقدّم ذكره فيما مضى - يغشاه أصحاب الحديث. وكان أحمد بن نصر هذا يباين من قال بخلق القرآن وباينه مثل يحيى بن معين وابنا الدورقي وأبو خيثمة، وله مرتبة كبيرة في أصحاب الحديث، وبسط لسانه فيمن يقول بخلق القرآن، مع غلظة الواثق كانت على كلّ من يقول ذلك وامتحانه إيّاهم فيه وغلبة ابن أبي دؤاد عليه.

فجعل أحمد بن نصر لا يذكر الواثق إلّا بالخنزير فيقول:

« فعل هذا الخنزير... وصنع هذا الكافر. » وفشا ذلك حتى خوّف، وقيل له: قد اتصل أمرك به وحرّكه المطيفون به ممّن ينكر القول بخلق القرآن من أصحاب السلطان ومن عامّة بغداد، وحرّكوه لإنكار القول بخلق القرآن وقصده الناس لرتبته في أصحاب الحديث ولما كان لأبيه وجدّه في دولة بنى العباس من الأثر فكانت له أيضا رئاسة ببغداد في سنة إحدى ومائتين.

وبويع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما كثر الدعّار وظهر الفساد والمأمون بخراسان ولم يزل على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع، فرجوا إذا تحرّك استجابة الناس له للأسباب التي ذكرت.

وكان فيمن بايعه قوم من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة يرون رأيه ففرّقوا في قوم مالا وأعطوا كلّ رجل دينارا دينارا، وواعدهم أحمد بن نصر ليلة يضربون فيها بالطبل للاجتماع والوثوب بالسلطان، وكان قوم منهم بالجانب الشرقي وقوم بالجانب الغربي، فانتبذ بعض من أخذ الدينار واجتمع عدّة منهم على شربه. فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة وكان الموعد ليلة الخميس وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل فلم يجبهم أحد.

وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم صاحبه فأتاهم فسألهم عن قصّتهم فلم يظهر له أحد فدلّه الجيران على رجل حمّامى فأخذه وتهدّده بالضرب فأمر على أحمد بن نصر وجماعة سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم فأخذ بعضهم من الجانب الشرقي وبعضهم من الجانب الغربي وقيّد وجوههم وأصيب في منزل أحدهم علمان أخضران فيهما حمرة، ثم أخذ خصيّ لأحمد بن نصر، فتهدّد فأقرّ بما أقرّ به عيسى الحمّامى.

فأخذ أحمد بن نصر وحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب مع أولاده وجماعة من يغشاه، فحملهم إلى الواثق بسرّ من رأى على بغال بأكاف لا وطاء تحتهم وهم مقيّدون.

فجلس لهم الواثق مجلسا عامّا وأحضر أحمد بن أبي دؤاد ليمتحنوا مكشوفا. فأحضر القوم وحضر معهم أحمد بن نصر فلم يناظرهم الواثق في الشغب ولا فيما روى عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال:

« يا أحمد ما تقول في القرآن؟ » قال: « كلام الله. » قال: « أفمخلوق هو؟ » قال: « [ هو ] كلام الله. » قال: « فما تقول في ربّك، أتراه يوم القيامة؟ » قال: « يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال ترون ربّكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته. » وحدّثني سفيان بن عينيه بحديث يرفعه أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله. فقال له إسحاق بن إبراهيم:

« ويلك انظر ما تقول. » قال: « أنت أمرتنى بذلك. » فأشفق إسحاق من كلمته.

قال: « أنا أمرتك بذلك؟ » قال: « نعم أمرتنى أن أنصح لك ولأمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله . » فقال الواثق لمن حوله:

« ما تقولون فيه؟ » فأكثروا. فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وهو صديق لأحمد بن نصر:

« يا أمير المؤمنين هو حلال الدم. »

وقال آخر:

« اسقني دمه يا أمير المؤمنين. » فقال له الواثق:

« القتل يأتى على ما تريد. » وقال أحمد بن أبي دؤاد:

« كافر يستتاب، لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل، كأنّه كره أن يقتل بسببه. » فقال الواثق:

« إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ معي أحد، فإني أحتسب خطإي إليه. » ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معديكرب وكان في الخزانة، فأتى به فمشى إليه في وسط الدار ودعا بنطع فصيّر في وسطه وحبل فشدّ به رأسه ومدّ الحبل فضربه الواثق فوقعت الضربة على حبل عاتقه، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضربه فأبان رأسه.

ويقال: إنّ بغا ضربه ضربة أخرى وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه فحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله قيود وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أيّاما ثم حوّل إلى الغربي وحظر على الرأس حظيرة وأقيم عليه الحرس وكتب في أذنه رقعة:

« هذا رأس الكافر المشرك الضالّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام الحجّة عليه في خلق القرآن ونفى التشبيه، وعرض عليه التوبة فأبى إلّا المعاندة، فعجّل الله به إلى ناره وأليم عقابه. » وتتبع من عرف بصحبة أحمد بن نصر ومن بايعه فوضعوا في الحبوس ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون ومنعوا من الزوّار وثقّلوا بالحديد.

الفداء بين المسلمين وصاحب الروم

وفي هذه السنة تمّ الفداء بين المسلمين وصاحب الروم واجتمع المسلمون والروم على نهر يقال له اللامس على مسيرة يوم من طرسوس.

وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم. وأمر لأهل الثغور بجوائز على ما رآه خاقان، وكان خادم الرشيد نشأ بالثغر وكان ورد رسول ملك الروم في طلب المفاداة وكان جرى بينهم اختلاف في الفداء قالوا:

« لا نأخذ في الفداء عجوزا ولا شيخا ولا صبيّا. ثم رضوا عن كلّ نفس بنفس فوجّه الواثق في شراء من يباع ولم يتمّ العدّة فأخرج الواثق من قصره عجائز روميات وغيرهم حتى تمّت العدّة. » وأمر الواثق بامتحان الأسارى. فمن قال بخلق القرآن فودى به ومن أبي ترك في أيدى الروم.

وأمر أن يعطى جميع من فودى وقال بخلق القرآن دينارا فبلغ عدّة من فودى به أربعة آلاف وستمائة إنسان فيهم من أهل الذمة نحو أربعمائة.

ولمّا جمعوا الفداء وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي وعقد جسر على النهر للمسلمين وجسر آخر للروم.

قال: فكنّا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم فيصير هذا إلينا وذاك إليهم.

وفي هذه السنة مات أبو عبد الله ابن الأعرابي الراوية وهو ابن ثمانين سنة.

ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين

وفيها كان مسير بغا الكبير إلى بنى نمير

ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك أنّ عماره بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه وأنشده إيّاها، فأمر له بثلاثين ألف درهم وبنزل.

فكلّم عمارة الواثق في بنى نمير وأخبره بعيثهم وفسادهم في الأرض وإغارتهم على اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم، وكان بغا بالمدينة لأن بنى سليم كانوا عاثوا بالحجاز وأكثروا الغارات والقتل، فتوجّه صاحب المدينة وجمع لهم الخيل والسودان ومن استجاب لهم من قريش والأنصار، فواقعتهم بنو سليم فقتلوهم وقتلوا أمير المدينة وأكثر من كان خرج معه من قريش والأنصار. فأخرج الواثق بالله بغا الكبير إلى المدينة فأوقع ببني سليم وأسر منهم وقتل، فكان لذلك مقيما بعد بالمدينة.

فلمّا أراد بغا الشخوص إليهم من المدينة حمل معه دليلا ومضى نحو اليمامة فلقى منهم جماعة بموضع يقال له: الشريف، فحاربوه فقتل بغا منهم نحوا من ستين رجلا وأسر نحوا من أربعين. ثم سار وتابع إليهم الرسل فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم في ذلك يمتنعون عليه ويشتمون رسله ويتفلّتون إلى حربه.

فسار بغا حتى ورد بطن نخل ثم دخل نخيلة، فاحتملت بنو ضبّة من بنى نمير فركبت جبالها، فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، وأرسل إليهم سريّة وأتبعهم بجماعة من معه، فحشدوا لحربه وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلقوهم ببطن السر فهزموا مقدّمته وكشفوا ميسرته وقتلوا من أصحابه مائة وثلاثين رجلا وعقروا من إبل عسكره سبعمائة ومائة دابّة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال فهجم عليهم وعليه ليل.

فجعل بغا يناشدهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى طاعة الواثق فشتموه وتوعّدوه. فلمّا دنا الصبح أشير على بغا بأن يوقع بهم قبل أن يضيء الصبح فيروا قلّة عدد من معه ويجترئوا عليه، فأبى بغا. فلمّا أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من معه حملوا عليهم فهزموهم حتى بلغت هزيمتهم معسكرهم وأيقنوا بالهلكة.

ذكر اتفاق حسن

وبلغ بغا أنّ خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوا من مائتي رجل إليها. فبينا هم فيما هم من الإشراف على العطب وقد انهزم بغا إذ خرجت تلك الجماعة منصرفة من تلك الخيل وأقبلت متفرقة في ظهور بنى نمير. فنفخوا في صفّارتهم فالتفتوا ورأوا الخيل وراءهم، فولّوا منهزمين وأسلم فرسانهم رجّالتهم وطاروا على ظهور الخيل.

وكان منهم جماعة تشاغلوا بالنهب، فثاب إلى بغا أصحابه فكرّ عليهم وقتل منهم منذ زوال الشمس وإلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا حتى جمعت له رؤوس من قتل واستراح هو وأصحابه ببطن السرّ ثلاثة أيّام. ثم أرسل إليه من هرب من فرسان نمير من الوقعة يطلبون الأمان فأعطاهم الأمان فصاروا إليه فقيّدهم وأشخصهم معه، فشغبوا في الطريق وحاولوا كسر قيودهم والهرب. فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد فيضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلم ينطق منهم ناطق بتوجّع ولا تأوّه. ثم جمعهم مع من لحق به ممّن طلب الأمان وحملهم إلى البصرة.

موت الواثق

وفيها مات الواثق وكان موته بالاستسقاء فعولج بالإقعاد في تنّور مسخن فوجد لذلك راحة، فأمر من غد ذلك اليوم بأن يزاد في إسخان ذلك التنّور ففعل وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله فحمى عليه، فأخرج منه وصيّر في محفّة، وحضره جماعة من الهاشميين ثم حضر محمد بن عبد الملك الزيّات وأحمد بن أبي دؤاد. فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفّة، [ فعلموا أنّه قد مات ] وكان أبيض مشربا حمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض.

فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وسنّه ست وثلاثون سنة.

خلافة جعفر المتوكل

وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكّل بالخلافة وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.

لمّا توفّى الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد أبو الوزير. فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق فأحضروه وهو غلام أمرد قصير. فألبسوه درّاعة سوداء وقلنسوة رصافيّة فإذا هو قصير. فقال لهم وصيف:

« أما تتّقون الله تولّون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة. » فتناظروا في من يولّونها، فذكر أحمد بن أبي دؤاد جعفرا أخا الواثق فأحضره وألبسه الطويلة وعمّمه وقبّل بين عينيه وقال:

« السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. » تم غسل الواثق وصلّى عليه ودفن ولقّنه أحمد بن أبي دؤاد: المتوكّل على الله، وأمر محمد بن عبد الملك بالكتاب به إلى الناس فوقّع بهذا:

« بسم الله الرحمن الرحيم - أمر أبقاك الله - أمير المؤمنين أعزّه الله، أن يكون الرسم الذي يجرى به ذكره على أعواد منبره وكتبه إلى قضاته وكتّابه وعمّاله وأصحاب دواوينه وسائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكّل على الله أمير المؤمنين. فرأيك في العمل بذلك وإعلامى وصول كتابي إليك موفّقا إن شاء الله. » وأمر للأتراك برزق أربعة أشهر وأمر بأن يوضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأخذت البيعة عليهم وبويع له وله ستّ وعشرون سنة.

ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

وفيها غضب المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات وحبسه.

ذكر سوء نظر محمد بن عبد الملك في العاقبة وتجهمه للمتوكل حتى أهلكه

كان السبب في غضبه عليه أنّ الواثق لمّا استوزر محمد بن عبد الملك فوّض إليه الأمور وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر لبعض الأمور، فوكّل به عمر بن فرج الرخّجى ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره. فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم أخاه الواثق ليرضى عنه. فلمّا دخل عليه مكث واقفا بين يديه لا يكلّمه، ثم أشار إليه أن يقعد فلمّا فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدّد له فقال له:

« ما جاء بك؟ » قال: « جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنى. » فقال لمن حوله:

« انظروا إلى هذا يغضب أخاه ويسألنى أن أسترضيه له اذهب، فانّك إذا صلحت رضى عنك. » فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده وأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكّه لبعض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالتجهّم وأخذ الصك ورمى به، فصار جعفر حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد بن أبي دواد واستقبله وقبّله والتزمه وقال له:

« ما جاء بك جعلني الله فداءك؟ » قال: « جئت لتسترضى أمير المؤمنين. » قال: « أفعل ونعمة عين. » فكلّم أحمد بن أبي دؤاد الواثق بالله فيه، فوعده ولم يرض عنه.

فأعاد أحمد الكلام بعد ذلك وسأله بحق المعتصم إلّا رضى عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه واعتقد جعفر لأحمد بن أبي دؤاد بذلك يدا ميثاقا فأحظاه عنده لمّا ملك.

وإنّ محمد بن عبد الملك حين خرج جعفر من عنده كتب إلى الواثق يذكر: أنّ جعفرا أتانى فسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زيّ المخنّثين، له شعر قفا. فكتب إليه الواثق:

« ابعث إليه فأحضره ومر من يجزّ شعر قفاه، ثم مر من يأخذ شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله. » فحكى عن المتوكّل أنّه قال: لمّا أتانى رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى، فلمّا حصلت بين يديه قال:

« يا غلام ادع لي حجّاما. » فدعى به. فقال:

« خذ من شعره فاجمعه. » فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وضرب وجهه به.

فقال المتوكّل:

ما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حيث أخذ شعري على السواد الجديد وقد جئته فيه طامعا في الرضا عنى فأخذ شعري عليه.

فلمّا بويع جعفر أمهل وهو يفكّر في مكروه يناله به. ثم أمر إيتاخ بأن يأخذه ويعذّبه فيبعث إليه إيتاخ فظنّ أنّه يدعى للخليفة، فركب مبادرا. فلمّا حاذى منزل إيتاخ، قيل له:

« اعدل إلى ها هنا. » فعدل وأوجس في نفسه خيفة. فلمّا جاء إلى الموضع الذي كان نزل فيه إيتاخ عدل به عنه فأيقن بالشرّ ثم أدخل حجرة وأخذ سيفه ودرّاعته وقلنسوته فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم:

« انصرفوا. » فانصرفوا وهم لا يشكّون أنّه مقيم عند إيتاخ ليشرب.

ووجّه المتوكّل إلى أصحابه ودوره، فقبض عليهم فأخرج جميع ما كان في منزله من متاع وجوار وغلمان ودوابّ، فصار ذلك كلّه في الهارونيّ، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأمّا ما كان بسرّ من رأى فحمل إلى خزائنه واشترى للخليفة جميعه وقيل لمحمد بن عبد الملك:

« وكّل ببيع متاعك. » وأتوه بمن وكّله بالبيع عليه ثم قيّد، وامتنع من الطعام فلا يذوق شيئا.

وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. فمكث أيّاما ثم سوهر ومنع من النوم وينخس بمسلّة، ثم ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا فأتى به فأكل، ثم أعيد الى المساهرة.

وكان محمد قاسى القلب يزعم أنّ الرحمة خور في الطبيعة وكان قد اتّخذ تنّورا من خشب فيه مسامير حديد قيام يعذّب فيه من يطالبه. فكان هو أوّل من عمل ذلك، وعذّب فيه ابن سنباط المصري حتى استخرج منه جميع ما كان عنده ثم ابتلى به فعذّب فيه حتى مات.

ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

هروب محمد بن البعيث

وفيها هرب محمد بن البعيث بن حليس، وكان جيء به أسيرا من أذربيجان وحبس، وكانت له قلعتان تدعى أحداهما شاها والأخرى يكدر.

فأمّا شاها فهي وسط البحيرة وأمّا يكدر فهي خارج البحيرة وهذه البحيرة قدر عشرين فرسخا من حدّ أرمينية إلى بلاد محمد بن الروّاد، وشاها قلعة حصينة تحيط بها البحيرة ويركب فيها الناس من أطراف المراغة إلى أرمينية وغيرها. وكانت مدينة محمد بن البعيث مرند فهرب إلى مدينته فجمع بها الطعام وفيها عيون ماء فرمّ ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كلّ ناحية من ربيعة وغيرها فصار في نحو ألفى رجل.

وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة فقصّر في طلبه. فولّى المتوكّل حمدويه بن عليّ أذربيجان ووجّهه من سرّ من رأى على البريد.

فلمّا صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له فصار في عشرة آلاف. فزحف إلى ابن البعيث فألجأه إلى مدينة مرند وهي مدينة استدارتها فرسخان في داخلها بساتين كثيرة ومن خارجها كما تدور شجر إلّا في مواضع أبوابها. وقد جمع فيها ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء.

فلمّا طالت مدّته وجّه إليه المتوكّل زيرك التركي في مائتي فارس من الأتراك فلم يصنع شيئا فوجّه المتوكّل عمر بن سليل بن كال في جماعة من الشاكرية فلم يغن شيئا.

فوجّه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركيّ وشاكريّ ومغربيّ، وقد كان الجند قد زحفوا إلى مدينة مرند وقطعوا ما حولها من الشجر فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة من شجر الغياض وغيره ونصبوا عليها عشرين منجنيقا وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنّون فيه ونصب عليهم محمد بن البعيث من المجانيق مثل ذلك. وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنوّ من السور فكانوا يغادونه القتال ويراوحونه، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلّون بالجبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم أصحاب السلطان لجأوا إلى الحائط بالمقاليع وكانوا ربّما فتحوا بابا يقال له باب الماء فيخرج منه عدّة يقاتلون ثم يرجعون.

فلمّا قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن السليل الشيبانى ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث ولابن البعيث على أن ينزلوا وينزل على حكم المتوكّل، وإلّا قاتلهم فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الأمان.

وكان عامّة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالجبال ونزل ختن ابن البعيث، ثم فتحوا باب المدينة فدخل أصحاب حمدويه وزيرك وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر فلحقه قوم من الجند فأخذوه أسيرا وانتهبوا منزله ومنازل أصحابه وأخذ له أختان وثلاث بنات وخالته والبواقي سراريّ ونحو مائتي رجل وهرب الباقون ووافاهم بغا فمنع من النهب وكتب بغا بالفتح لنفسه. ثم قدم بغا بابن البعيث وأصحابه وهم نحو مائتي رجل. فلمّا قربوا من سرّ من رأى حملوا على الجمال ليستشرفهم الناس. فأتى المتوكّل محمد بن البعيث فأمر بضرب عنقه فطرح على نطع، وجاء السيّافون فلوّحوا فقال المتوكّل:

« ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ » قال: « الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وخلقه وإنّ لي فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو. » ثم اندفع بلا فصل:

أبي الناس إلّا أنّك اليوم قاتلي ** إمام الهدى والعفو في الله أجمل

وهل أنا إلّا جبلة من خطيئة ** وعفوك من نور النّبوّة يجبل

فإنّك خير السابقين إلى العلى ** ولا شكّ أن خير الفعالين تفعل

فالتفت المتوكّل فقال لمن عنده:

« إنّ معه لأدبا. » فقال بعضهم وبادر:

« بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمنّ عليك. »

فقال المتوكّل:

« ارجع إلى منزلك. » ويقال إنّ ابن البعيث لمّا تكلّم بما تكلّم به شفع فيه المعتزّ واستوهبه فوهبه له.

وكان محمد بن البعيث أحد شجعان أذربيجان وله شعر كثير جيّد بالعربية والفارسية. وحجّ في هذه السنة إيتاخ وكان والى مكّة والمدينة والموسم، ودعى له على المنابر.

ذكر سبب ذلك

كان إيتاخ غلاما طبّاخا خزريّا لسلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم، وكان لإيتاخ بأس ورجلة، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق وولّى الأعمال الكبار، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله حبس عند إيتاخ.

فلمّا ولى المتوكّل كان إلى إيتاخ الحبس والمغاربة والأتراك والبريد والحجابة ودار الخلافة. فخرج المتوكّل بعد الخلافة متنزّها إلى ناحية القاطول فشرب ليلة فعربد على إيتاخ، فهمّ إيتاخ بقتله. فلمّا أصبح المتوكّل قيل له، فاعتذر إلى إيتاخ والتزمه وقال:

« أنت أبي وأنت ربّيتنى. » فلمّا صار المتوكّل إلى سرّ من رأى دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحجّ ففعل وأذن له وصيّره أمير كلّ بلدة يدخلها وخلع عليه وركب القوّاد معه، فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف.

ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين

وفيها كان مقتل إيتاخ

ذكر سبب مقتله

لمّا انصرف إيتاخ من مكّة راجعا إلى العراق وجّه المتوكّل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة وقد تقدّم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.

فذكر إبراهيم بن المدبّر أنّه خرج مع إسحاق بن إبراهيم في تلقّى إيتاخ وكان أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ثم يخرج إلى سرّ من رأى.

فكتب إليه إسحاق:

« إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن يدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. » قال: فخرجنا حتى إذا كنّا بالياسريّة وقد شحن إسحاق بن إبراهيم الجسرين بالجند والشاكرية، وخرج في خاصّته وطرح له بالياسرية صفّة فجلس عليها وأقبل قوم قد رتّبهم في الطريق. كلّما صاروا إلى موضع أعلموه، حتى قالوا:

« قد قرب منك. » فركب فاستقبله. فلمّا نظر إليه أهوى إسحاق لينزل. فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل. وكان إيتاخ في نحو ثلاثمائة من أصحابه وعليه قباء أبيض متقلّدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا حتى إذا صار عند الجسر تقدّمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم. فقال لإيتاخ:

« تدخل أعزّ الله الأمير. » وكان الموكّلون بالجسر كلّما مرّ بهم غلام من غلمانه قدّموه حتى بقي في خاصّة غلمانه، فدخل بين يديه قوم وقد فرشت له دار خزيمة بن خازم، وتأخّر إسحاق وأمر ألّا يدخل الدار من غلمانه إلّا ثلاثة أو أربعة وأخذت عليه الأبواب وأمر بحراسته من ناحية الشطّ وكسرت كلّ درجة في قصر خزيمة، فحين دخل أغلق الباب، خلفه فنظر فإذا ليس فيه إلّا ثلاثة غلمان.

فقال:

« قد فعلوها. » ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو صار إلى سرّ من رأى فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك.

ثم ركب إسحاق حرّاقة وأعدّ لإيتاخ أخرى. ثم أرسل إليه أن يصير إلى الأخرى وأمر بأخذ سيفه، فحدّروه إلى الحرّاقة وصيّر قوم معه بالسلاح، وصاعد إسحاق إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق فأدخل ناحية منها، ثم قيّد وثقّل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه:

منصور والمظفّر وبكاتبيه: سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان وقدامة على ضياع إيتاخ خاصّة فحبسوا ببغداد.

وذكر ترك مولى إسحاق قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال:

« يا ترك ».

قلت:

« ما تريد؟ » قال: « أقرأ على الأمير السلام وقل له قد علمت ما كان يأمرنى به المعتصم والواثق في أمرك فكنت أدفع عنك ما أمكننى فلينفعنى ذلك عندك، أمّا أنا فقد مرّ بي شدّة ورخاء فما أبالى ما أكلت وما شربت، وأمّا هذان الغلامان فإنّهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس فصيّر لهما لحما ومرقة وشيئا يأكلان منه. » قال ترك: فذهبت إلى مجلس إسحاق فوقفت، فقال لي:

« ما تريد؟ فأرى في وجهك كلاما. » قلت: « نعم. » قال لي:

« إيتاخ كذا وكذا. » وكانت وظيفة إيتاخ في كلّ يوم رغيفا وكوزا من ماء، ويؤمر لابنيه بخوان عليه سبعة أرغفة وخمسة ألوان فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق.

ثم هلك إيتاخ بالعطش فإنّه أطعم ومنع الماء حتى مات وأحضر إسحاق القضاة والفقهاء وعرضه عليهم لا ضرب به ولا أثر.

وأمّا ابناه فبقيا في الحبس حياة المتوكّل. فلمّا أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما.

ما عامل به المتوكل أهل الذمة في ملابسهم ومنازلهم

وفي هذه السنة أمر المتوكّل بأخذ النصارى وأهل الذمّة بلبس العسليّ والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السرج، وبتغيير القلانس لمن لبس قلنسوة، وبتغيير زيّ النساء في أزرهن العسلية ليعرفن، وكذلك مماليكهم، ومنعهم لبس المناطق، وإن دخلوا الحمام كان معهم جلاجل ليعرفوا، وأمر بهدم بيعهم المستحدثة وبأخذ العشر من منازلهم. فإن كان الموضع واسعا صيّر مسجدا وإن لم يصلح أن يكون مسجدا صيّر فضاء. وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم ومنازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي تجرى فيها أحكامهم على المسلمين، ونهى أن يتعلّم أولادهم في كتاتيب المسلمين وألّا يعلّمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في أعيادهم صليبا وأن يشمعوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلّا يشبه قبورهم قبور المسلمين، وكتب إلى العمّال في الآفاق بذلك.

عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة

وفي هذه السنة عقد المتوكّل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد وسمّاه المنتصر، ولأبي عبد الله واسمه الزبير وسمّاه المعتزّ، ولإبراهيم وسمّاه المؤيد، بولاية العهد. وذكر ذلك للشعراء وكتبت بينهم كتب وفرّقت في الأمصار.

ودخلت سنة ستّ وثلاثين ومائتين

ومن حوادثها هدم قبر الحسين  

وفيها توجّه الفتح بن خاقان عند المتوكّل وولّى أعمالا منها أخبار الخاصّة والعامّة بسرّ من رأى وما يليها.

وفيها أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين   وما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويمنع الناس من إتيانه. وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف فجأة، وكان قد ولّى أذربيجان فعسكر بكرخ فيروز، وأراد الركوب فلبس أحد خفّيه ومدّ الآخر ليلبسه فسقط ميّتا، فولّى المتوكّل ابنه يوسف ما كان يتولّاه أبوه من الحرب وولّاه مع ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

وفيها وثب أهل ارمينية بيوسف بن محمد بن يوسف فيها

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّه لمّا صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط وكان يقال له: بطريق البطارقة. فطلب الأمان فأخذه يوسف بن محمد وقيّده وبعث به إلى باب السلطان. فأسلم بقراط وابنه واجتمع على يوسف ابن أخي بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية فتحالفوا ونذروا دمه لمّا حمل بقراط فنهى أصحاب يوسف يوسف عن المقام وعرّفوه اجتماع القوم فلم يقبل، وأقام فحاصروه من كلّ وجه.

وسقطت الثلوج فخرج يوسف إلى ظاهر المدينة وكان أصحابه متفرّقين في الأعمال، فقاتلهم فقتلوه وقتلوا من معه. فأمّا من لم يقاتل فإنّه قالوا لهم:

« ضع ثيابك وانج عريانا. »

فطرحوا ثيابهم ونجوا عراة حفاة فمات أكثرهم من البرد وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا.

فوجّه المتوكّل بغا الكبير إلى أرمينية طالبا بدم يوسف. فشخص إليها فبدأ بأرزن. وكان موسى بن زرارة قد واطأ قتلة يوسف فقبض بغا على موسى واخوته وحملهم إلى السلطان ثم سار فأناخ على الخويثيّة وهم جمّة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد. فحاربهم فظفر بهم وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا وسبى خلقا فباعهم. ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس، ثم سار إلى ديبل ثم إلى تفليس.

غضب المتوكل على أبي دؤاد

وفيها غضب المتوكّل على أحمد بن أبي دؤاد وأمر بالتوكيل بضياعه وحبسه وأولاده واخوته، فحمل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجوهرا كثيرا، وصولح بعد على ستّة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم جميعا ببيع كلّ ضيعة لهم وكان أحمد بن أبي دؤاد قد فلج فقال أبو العتاهية:

لو كنت في الرّأى منسوبا إلى رشد ** وكان عزمك عزما فيه توفيق

لكان في الفقه شغل لو قنعت به ** عن أن تقول: كتاب الله مخلوق

ما ذا عليك وأصل الدين يجمعهم ** ما كان في الفرع لو لا الجهل والموق

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

وفيها ظفر بغا الكبير بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس فأحرق مدينة تفليس. وكان إسحاق بن إسماعيل - ويكنى أبا العباس - قد تحصّن بتفليس وهي مدينة أكثر بنائها خشب الصنوبر. فلمّا قصدها بغا أمر النفاطين فضربوها بالنار وهاجت الريح وأحاطت النار به بقصر إسحاق وجواريه.

ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا مع ابنه وأتوا به بغا، فأمر بضرب عنقه صبرا، وصلب جثّته واحترق في المدينة نحو خمسين ألف إنسان.

ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس فحاربه في كورة السلطان ثم تحصّن في قلعة كتيش، ففتحها وأخذه وحمله وحمل ابنه وسنباط بن أشوط بطريق أرّان، وحمل معه آذرنرسى بن إسحاق.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

ولم يجر فيها ما يكتب.

ودخلت سنة أربعين ومائتين

وتلك سبيلها.

ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين

إغارة البجة وحرب المتوكل إياهم

وفيها أغارت البجّة على حرش من أرض مصر، فوجّه المتوكّل لحربهم محمد بن عبد الله القمي.

ذكر ما آلت إليه أمورهم

كانت البجّة لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة وهم جنس من أجناس الحبشة وفي بلادهم معادن ذهب. فهم يقاسمون من يعمل فيها ويؤدّون إلى عمّال مصر في كلّ سنة شيئا معلوما.

فلمّا كان في أيّام المتوكّل امتنعت البجّة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية وهذه المعادن منها ما هو على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد بجّة. فقتلوا عدّة من المسلمين ممّن كان يعمل في المعادن ويستخرج الذهب، وسبوا عدّة من ذراريهم ونسائهم. وذكروا أنّ المعادن لهم في بلادهم وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها، وانّ ذلك أوحش المسلمين الذين كانوا يعملون هناك حتى انصرفوا عنه، فانقطع ما كان يؤخذ للسلطان بحقّ الخمس الذي كان يستخرج من المعادن.

فلمّا بلغ ذلك المتوكّل أحفظه، وشاور في أمر البجّة فأنهى إليه أنّهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن تسلك إليهم الجيوش لأنّها مفاوز وصحار، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر في أرض قفر وجبال وعرة لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل ولا حصن، وأنّ من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزوّد لجميع من معه المدّة التي يتوهّم أنّه يقيمها في بلادهم حتى يخرج إلى أرض الإسلام. فإن تجاوز تلك المدّة هلك وجمع من معه وأخذتهم البجّة بالأيدى دون المحاربة، وأنّ أرضهم لا تردّ على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.

فأمسك المتوكّل عن التوجيه إليهم وجعل أمرهم يتزيّد وحربهم يكثر حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريّهم. فولّى المتوكّل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم وولّاه معادن تلك الكور، وتقدّم إليه في محاربة البجّة وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبي العامل على حرب مصر بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكريّة بمصر. فأزاح عنبسة علّته في ذلك، وخرج إليه من جميع ما اقترحه عليه، وانضمّ إليه جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المطوّعة، وكانت عدّة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان بين فارس وراجل، ووجّه إلى القلزم فحمل في البحر سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلجّجوا بها في البحر حتى يوافوه في سواحل البحر من أرض البجّة.

ولم يزل محمد بن عبد الله القمّى يسير في أرض البجّة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم واسمه: على بابا، وله ابن يسمّى بغسى في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمّى وكانت البجّة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرّه تشبه المهارى في النجابة. فجعلوا يلتقون أيّاما متوالية فيتناوشون ولا يصحّحون القتال.

وجعل ملك البجّة يتطارد للقمّى ويطوّل الأيّام طمعا في نفاد الأزواد والعلوفة التي معهم فلا يكون لهم قوّة، فتأخذهم البجّة بالأيدى. فلمّا توهّم عظيم البجّة أنّ الأزواد قد نفدت أقبلت المراكب السبعة التي حملها القمّى حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة فوجّه القمّى إلى ما هناك من أصحابه يحمون المراكب من البجّة وفرّق ما كان فيها على أصحابه فاتّسعوا في الزاد والعلوفة.

فلمّا رأى ذلك على بابا رئيس البجّة قصد لمحاربتهم وجمع لهم. فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وكانت إبلهم زعرة تكثر الفزع من كلّ شيء. فلمّا رأى ذلك محمّد بن عبد الله القمّى جمع أجراس الإبل والخيل، التي في معسكره كلّها فجعلها في أعناق الخيل ثم حمل على البجّة فنفرت إبلهم واشتدّ رعبهم فحملتهم على الجبال والأودية فمزّقتهم كلّ ممزّق، واتبعهم القمّى بأصحابه قتلا وأسرا حتى غشاهم الليل ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم. فلمّا أصبح القمّى وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجّالة ثم صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمّى.

فوافاهم القمّى في الليل في خيله فهرب ملكهم وأخذ تاجه ومتاعه ثم طلب الأمان على أن يردّ إلى بلاده ويؤدّى الخراج للسنين التي عليه. فأعطاه القمّى ذلك وأدّى ما عليه واستخلف على مملكته ابنه بغسى.

وانصرف القمّى بعلى بابا إلى المتوكّل فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين فكانت غيبته دون سنة.

وكسا القمّى على بابا درّاعة ديباج وعمّامة سوداء وكسا جمله رحلا مدبّجا وجلال ديباج ليتميّز عن أصحابه، ووقف بباب العامّة مع قوم من البجّة على الإبل بالحراب وفي رؤوس حرابهم رؤوس القوم الذين قتلهم القمّى. فأمر المتوكّل أن يقبضوا من القمّى.

ثم ولّى المتوكّل البجّة وطريق ما بين مصر ومكّة سعدا الخادم الإيتاخى. فولّى سعد محمد بن عبد الله القمّى، فخرج القمّى بعلى بابا وهو مقيم على دينه.

ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثة وأربعين [ ومائتين ]

ولم يجر فيهما ما يكتب.

ودخلت سنة أربع وأربعين ومائتين

وفيها دخل المتوكّل دمشق وكان عزم على المقام بها، ووصف له من فضائلها وطيبها ما شوّقه إليها. فأمر بالبناء فيها ونقل دواوين الملك إليها ثم استوبأ البلد وذلك أنّ الهواء بها بارد نديّ، والماء ثقيل والريح تهبّ مع العصر، فلا تزال تشتدّ حتى تمضى عامّة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت الأسعار وحال الثلج بين السابلة والميرة وتحرّكت الأتراك يطلبون أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم.

فرجع المتوكّل إلى سرّ من رأى وكان مقامه بدمشق شهرين وأيّاما.

ودخلت سنة خمس وأربعين ومائتين

وفيها أمر المتوكّل ببناء الجعفري وأقطع قوّاده وأصحابه فيها وجدّ في بنائها وأنفق عليها ألفى دينار، وكان يسمّيها هو وأصحابه المتوكّلية.

وفيها كان هلاك نجاح بن سلمة الكاتب.

ذكر سبب هلاكه

كان نجاح إليه ديوان التوقيع والتتبّع على العمّال فكان العمّال. يتّقونه ويقضون حوائجه ولا يمنعونه من شيء يريده. وكان المتوكّل ربّما نادمه وكان عبيد الله بن خاقان وزير المتوكّل والأمور مفوّضة إليه، وكان الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك منقطعين إلى الوزير، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع وموسى على ديوان الخراج.

وكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكّل يذكر له، أنّه يعرف وجه أربعين ألف ألف درهم يستخرجها من وجوهها من خيانات قوم، فيتّسع بها أمير المؤمنين في نفقة البناء. فأدناه المتوكّل وشاربه تلك العشيّة وقال:

« سمّ لي من تستخرج منه الأموال. » فسمّى الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك وقال:

« يصحّ من جهة هذين أربعون ألف ألف درهم. » ثم سمّى قوما آخرين من الكتّاب وضمن مالا عظيما يصحّ بعد ذلك منهم. فوقع ذلك من المتوكّل موقعا عظيما وأعجبه وقال له:

« أغد عليّ. » فلمّا أصبح لم يشكّ في أمره.

وناظر المتوكّل عبيد الله بن يحيى وزيره في ذلك فقال:

« يا أمير المؤمنين هؤلاء أعيان المملكة وكتّابك وعمّالك. فإن أوقعت بهم فمن يقوم بأعمالك وأنا أدبّر ذلك. » فلمّا غدا نجاح إلى المتوكّل وقد رتّب أصحابه وقال: « يا فلان خذ أنت الحسن وأصحابه ويا فلان خذ أنت موسى وأصحابه، » حجبه عبيد الله وتقدّم في ذلك فلقى، نجاح عبيد الله فقال له:

« انصرف يا أبا الفضل حتى ننظر وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح. » فقال: « ما هو؟ » قال: « أصلح بينك وبينهما وتكتب رقعة إلى أمير المؤمنين تذكر فيها أنّك كنت شاربا وأنّك تكلّمت بما يحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح أمرك عند المتوكّل. »

فلم يزل يخدعه حتى كتب ما قال. ثم دعا عبيد الله الحسن بن المخلد وموسى بن عبد الملك وقال لهما:

« ابذلا خطّا في نجاح وأصحابه بألفي ألف دينار، وإلّا فإنّه سيسلمكما إليه ويهلككما. » فكتبا له ذلك ودخل عبيد الله على المتوكّل وقال:

« يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قاله البارحة وهذا خطّه وهذه رقعة موسى بن الحسن يتقبّلان به ممّا بذلا به خطوطهما فتأخذ ما ضمنا عنه ثم تعطف عليهما فتأخذ قريبا ممّا ضمن لك عنهما. » فسرّ المتوكّل وطمع فيما قال عبيد الله وقال:

« ادفعه إليهما. » فأمرا بأن تؤخذ قلنسوته، وقبضا على كتّابه فاستخرجا من يومهما ذلك مائة وأربعين ألف دينار اعترف بها ابنه، وذلك سوى قيمة ضياعه وقصوره وفرشه ومستغلاته وآلاته. فقبض جميع ذلك وضرب مرارا بالمقارع وعذّب ثم خنق أو عصرت خصاه فأصبح ميّتا. وطولب أولاده ووكلاؤه، وأخذ بسببه قوم ببغداد وبسرّ من رأى وبمكّة وبناحية السواد فحبسوا وصودروا.

ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين

ولم يجر فيها شيء يكتب.

ودخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

وفيها كان مقتل المتوكّل على الله

ذكر السبب في قتله

كان سبب ذلك أنّ المتوكّل أمر بقبض ضياع وصيف بإصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فكتب الكتب بذلك وبلغ ذلك وصيفا.

وكان المتوكّل واقف الفتح بن خاقان على أن يفتك بابنه المنتصر لأشياء كانت تبلغه عنه ويفتك أيضا بوصيف وبغا وغيرهما من قوّاد الأتراك ممّن كان يتّهم فكثر عتب المتوكّل قبل الموعد على ابنه المنتصر. كان يقول له:

« سمّيتك: المنتصر، فسمّاك الناس لحمقك: المنتظر. » فمرّة كان يشتمه ومرّة يسقيه فوق طاقته ومرّة يصفعه.

فتحدّث بعض من كان في ستارة المتوكّل قالت: التفت المتوكّل إلى الفتح وهو ثمل فقال:

« برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله إن لم تلطمه. » - يعنى المنتصر.

فقام الفتح فلطمه. ثم قال:

« اصفعه. » فأمرّ يده على قفاه.

ثم قال المتوكّل لندمائه:

« اشهدوا جميعا أنّى قد خلعت المستعجل» - يعنى المنتصر.

فقال المنتصر:

« يا أمير المؤمنين لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل عليّ ممّا تفعله بي. » فقال: « اسقوه. » وأمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل فجعل يأكل هو والفتح وهو سكران يلقم ويسقى المنتصر وهو يشتمه.

ثم خرج المنتصر وأخذ بيد زرافة الحاجب وقال:

« امض معي. » قال: « يا سيّدي، إنّ أمير المؤمنين لم يقم بعد. » فقال: « إنّ أمير المؤمنين قد أخذ منه الشراب، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إليّ فإنّ أوتامش سألنى أن أزوّج ابنه من ابنتك وابنك من ابنته. » قال له زرافة:

« نحن عبيدك يا سيّدي فمر بأمرك. » وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه فقال بنان المغنّى:

فما بعد المنتصر حتى سمعنا الضجّة والصراخ وكنت مع المنتصر قد قمت لأشهد الأملاك والنثار.

فلمّا سمع المنتصر الصراخ خرج فاستقبله بغا فقال له المنتصر:

« ما هذه الضجّة. » قال: « خير يا أمير المؤمنين. » قال: « ما تقول ويلك؟ »

قال: « أعظم الله أجرك في سيّدنا أمير المؤمنين. كان عبد الله دعاه فأجابه. » فجلس المنتصر وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكّل والمجلس فأغلق وغلّقت الأبواب كلّها وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتزّ والمؤيد عن رسالة المتوكّل.

فذكر عثعث أنّ المتوكّل بعد قيام المنتصر استدعى رطلا وكان بغا الصغير المعروف بالشرابى قائما عند الستر وبغا الكبير يومئذ بسميساط وخليفته موسى ابنه فدخل بغا الصغير وأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم. فقال له الفتح:

« ليس هذا وقت انصرافه. » فقال بغا:

« إنّ أمير المؤمنين أمرنى إذا جاوز السبعة أرطال ألّا أترك أحدا في المجلس، وقد جاوز العشرة. » فكره الفتح قيامهم. فقال له بغا:

« إنّ حرم أمير المؤمنين خلف الستارة وقد سكر، فقوموا فاخرجوا. » فقاموا ولم يبق إلّا عثعث والفتح وأربعة من خدم الخاصّة وغلق بغا الصغير الأبواب كلّها إلّا باب الشطّ ومنه دخل القوم الذين وقفوا على قتله فلمّا دخل القوم وسلّوا سيوفهم نظر إليهم عثعث فقال المتوكّل:

« قد فرغنا من الحيّات والعقارب والأسد وصرنا إلى السيوف. » وذلك أنّ المتوكّل كان ربّما أرسل هذه الأشياء على ندمائه ليفزّعهم ويضحك هو، فلمّا ذكر عثعث السيوف قال:

« ويلك ما تقول أيّ سيوف؟ » فما استتمّ كلامه حتى دخلوا عليه، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفيه وأذنه فقدّه، فقام الفتح في وجهه ووجوه القوم وقال:

« وراءكم يا كلاب. » فقال له بغا:

« لا تسكت يا جلفى. » فرمى الفتح بنفسه على المتوكّل، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطّعوهما حتى اختلطت لحومهما. وهرب عثعث بعد ما أصابته ضربة ونجا الخدم وراء الستارة وتطايروا وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم وهو ينفّذ الأمور بالشموع.

وذكر أنّ بعض نساء الأتراك ألقت رقعة بما عزم عليه القوم فوصلت إلى عبيد الله بن يحيى وشاور الفتح فيها وعرف الخبر أيضا أبو نوح كاتب الفتح واتفق رأيهم على كتمان المتوكّل يومهم ذلك لما كانوا رأوا من سروره فكرهوا أن ينغّصوا يومه، وهان عليهم أمر القوم، وكانوا وثقوا بأنّ ذلك لا يجسر عليه ولا يتمّ. فبينا عبيد الله ينفّذ الأمور إذ طلع عليه بعض الخدم فقال:

« يا سيّدي أنت ما جلوسك؟ » قال: « وما ذاك؟ » قال: « الدار سيف واحد. » فأمر بعض خدمه بالخروج. فخرج ونظر، ثم عاد فأخبره أنّ المتوكّل والفتح قد قتلا. فخرج في من معه من خدمه وخاصّته. فأخبر أنّ الأبواب مغلّقة، فأخذ نحو الشطّ فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان يلي الشطّ فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشطّ ووجد زورقا، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد وغلام له. فصار إلى منزل المعتزّ فسأل عنه فلم يصادفه فقال:

« إنّا لله وإنا إليه راجعون قتلني وقتل نفسه. » وتلهّف عليه.

واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة غد من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل من الأعراب وغيرهم وقد اختلف في عدّتهم. فقال بعضهم كانوا عشرة آلاف، وزاد بعضهم ونقص بعض. فقالوا:

« إنّما كنت تصطنعنا لهذا اليوم فأمر بأمرك وأذن لنا نمل على القوم ميلة فنقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم. » فأبى وقال:

« ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم ». - يعنى المعتزّ.

وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وكان أسمر نحيفا حسن العينين خفيف العارضين.

خلافة محمد بن جعفر المنتصر

وبويع للمنتصر يوم الأربعاء لأربع خلون من شوّال وهو ابن خمس وعشرين سنة. واستوزر أحمد بن الخصيب وهو الذي قرأ على الناس كتابا، فخبّر عن أمير المؤمنين المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قتل أباه جعفر المتوكّل فقتله به وحضر عبيد الله بن الفتح بن خاقان فبايع وانصرف.

ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين

وفيها أغزى المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّه كان بين أحمد بن الخصيب وبين وصيف شحناء وتباغض، فأشار على المنتصر بإخراجه غازيا. فقال المنتصر:

« ائذن لمن حضر الدار؟ »

فأذن لهم، وفيهم وصيف. فأقبل عليه وقال:

« يا وصيف أتانا عن طاغية الروم أنّه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن أن يمسك عنه، فإمّا شخصت وإمّا شخصت. » فقال وصيف:

« بل أشخص يا أمير المؤمنين. » فقال لأحمد بن الخصيب:

« انظر ما تحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له. » قال: « نعم يا أمير المؤمنين. » قال: « ما معنى نعم، قم الساعة يا وصيف ومر كاتبك أن يواقفه على جميع ما يحتاج إليه حتى تزيح علّته. » فقام أحمد ووصيف حتى خرج فما أفلح.

وكتب المنتصر كتابا إلى محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان ببغداد منصرفا من الحجّ يعرّفه فيه إغزاءه وصيفا ويعلمه أنّه خارج إلى ثغر ملطية للنصف من حزيران ويأمره أن يكاتب عمّاله في نواحي عمله، ليقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلهم ويحثّهم على الجهاد ويستفزهم ويلحقهم به في الوقت المحدود.

ثم كتب عن المنتصر كتاب إلى وصيف يأمره بالمقام ببلد الثغر أربع سنين يغزو في أوقات إلى أن يأتيه رأى أمير المؤمنين.

خلع المعتز والمؤيد أنفسهما

وفي هذه السنة خلع المعتزّ والمؤيّد أنفسهما وأظهرا ذلك.

ذكر سبب خلعهما

لمّا استقامت الأمور للمنتصر بالله قال أحمد بن الخصيب لبغا:

« إنّا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتزّ فلا يبقى منّا باقية. والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا. » فجدّ الأتراك في ذلك وألحّوا على المنتصر بالله وقالوا:

« نخلع هذين ونبايع لابنك عبد الوهاب. » وكان مكرما للمؤيّد والمعتزّ. فلم يزالوا به حتى أحضرهما الدار، وذلك بعد أربعين يوما من ولايته. فلمّا حصلا في دار واحدة من الدار قال المعتزّ للمؤيّد:

« يا أخي لم أحضرنا؟ » قال: « يا شقيّ للخلع. » فقال: « لا أظنّه يفعل بنا ذلك. » فبينا هم في ذلك إذ جاءتهم الرسل بالخلع.

فقال المؤيّد:

« السمع والطاعة. » وقال المعتزّ:

« ما كنت لأفعل. فإن أردتم قتلى فشأنكم. » فرجعوا إليه فأخبروه. ثم عادوا بغلظة شديدة وأخذوا المعتزّ بعنف وأدخلوه إلى بيت فأغلقوا عليه. فقال لهم المؤيّد بجرأة واستطالة:

« ما هذا يا كلاب قد ضريتم على دمائنا، تثبون على مواليكم هذا الوثوب، اغربوا قبّحكم الله، دعوني حتى أكلّمه. » فكاعوا عن جوابه، ثم قالوا:

« القه إن أحببت. » - فيظنّ أنّهم استأمروه لأنهم أقاموا ساعة ثم أذنوا له.

فقام إليه.

قال المؤيّد: فوجدته يبكى فقلت:

« يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك ما نالوا ثم تمتنع اخلع ويلك. » فقال: « سبحان الله أمر قد طار في الآفاق ووثق منه. أخلعه؟ » قلت: « هذا قد قتل أباك وسيقتلك، فاخلعه وعش. فو الله لئن كان في سابق علم الله أن تلى لتلينّ. » قال: « أفعل. » فخرجت وقلت:

« قد أجاب. » فمضوا وعادوا فجزّونى خيرا. ودخل معهم كاتب ومعه دواة وقرطاس.

فجلس ثم أقبل على أبي عبد الله المعتزّ، فقال:

« اكتب بخطّك. » فتلكّأ، فقال المؤيّد للكاتب:

« هات قرطاسك، أملل ما شئت. » فأمّل عليه كتابا للمنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر، وأنّه قد علم أنّه لا يحلّ له تقلّده، ويكره أن يأثم المتوكّل بسببه، إذ لم يكن موضعا له ويقول: « إني قد خلعت نفسي وأحللت الناس من بيعتي. » ثم قال المؤيّد:

« اكتب يا أبا عبد الله. » فكتب وخرج الكاتب.

قال المؤيّد: ثم دعا بنا، فدخلنا عليه وهو في مجلسه والناس على مراتبهم، فسلّمنا فردّ علينا وأمر بالجلوس ثم قال:

« هذا كتابكما. » فبدرت وقلت:

« نعم يا أمير المؤمنين هذا كتابي بمسألتى ورغبتي. » وقلت للمعتزّ:

« تكلّم. » فقال مثل ذلك. فأقبل علينا والأتراك وقوف، فقال:

« أتريانى خلعتكما طمعا في أن أعيش ويكبر ولدي وأصيّر الخلافة إليه؟ والله ما طمعت في ذلك قطّ وإذا لم يكن لي في ذلك طمع فو الله لأن يلي بنو أبي أحبّ إليّ من أن يليها بنو عمّى ولكنّ هؤلاء - وأومأ إلى سائر الموالي ممّن هو قائم وقاعد - ألحّوا عليّ في خلعكما فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة. فما ترياني صانعا؟ أقتله فو الله ما تفي دماؤهم كلّهم بدم بعضكم فإنّ إجابتهم إلى ما سألوا أسهل عليّ. » فأكبّا على يده فقبّلاها وضمهما إليه، ثم انصرفا.

وكتب بنسخة خلعهما وبما أنشئ عن المنتصر بالله في ذلك كتب إلى العمّال في الآفاق.

وفي هذه السنة توفّى المنتصر بالله.

ذكر وفاة المنتصر وسرعة الإدالة منه

قد اختلف الناس في وفاته. فقال قوم أصابته الذبحة. وقال آخرون أصابه ورم في معدته وقال آخرون فصد بمبضع مسموم وأنّ طبيبه لمّا فصده دهش فلم يميّز مبضعه المسموم. ثم اعتلّ هو ففصده تلميذه به فمات. وقيل وجد علّة في رأسه فقطّر طبيبه ابن طيفور في أذنه دهنا، فورم رأسه فعولج فمات.

ولم يزل الناس منذ ولى الخلافة وإلى أن مات يقولون:

إنّما مدّة حياته ستة أشهر مدّة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه. » مستفيضا ذلك على السن العامّة والخاصّة.

وكان المنتصر استفتى في قتل أبيه الفقهاء من غير أن يسمّيه، وحكى أمورا قبيحة لا تكتب في كتاب، فأفتوا بقتله.

فلمّا قتله رآه في النوم وكأنّه يقول:

« ويلك يا محمد، قتلتني وظلمتني، والله لا تمتّعت بالخلافة إلّا أيّاما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار. » فانتبه وهو لا يملك عينه ولا جزعه، فكان يسلّى ويقال له:

« هذا استشعار وهو حديث النفس. » فلا يسلو، وما زال منكسرا إلى أن توفّى.

ولمّا اشتدّت علّته خرجت العامّة فسألته عن حاله، فقال:

« ذهبت والله منى الدنيا والآخرة. » وتوفّى وهو ابن خمس وعشرين سنة وستّة أشهر. فكانت خلافته ستّة أشهر.

وكان أعين قصيرا جيّد البضعة، وكان مهيبا. وطلبت أمّه أن يظهر قبره.

فهو أوّل خليفة من بنى العباس عرف قبره، وكنيته أبو جعفر.

ومن طريف ما اتفق عليه أنّ محمد بن هارون كاتب محمد بن علي برد الخبّاز، وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيّد أصيب مقتولا على فراشه، به عدّة ضربات بالسيف. أحضر ولده خادما أسود كان له، ووصيفا.

فأقرّ الوصيف على الأسود فأدخل إلى المنتصر وأحضر قاضى القضاة وهو يومئذ جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فسئل الأسود عن قتله فأقرّ ووصف فعله به وسبب قتله إيّاه. فقال له المنتصر:

« ويلك لم قتلته؟ » فقال له الأسود:

« كما قتلت أنت أباك المتوكّل. » فتقدّم بضرب عنقه عند خشبة بابك.

وفي هذه السنة تحرّك يعقوب الصفّار من سجستان فصار إلى هراة.

خلافة أبي العباس المستعين

وفيها بويع أحمد بن محمد بن المعتصم.

ذكر السبب في بيعة المستعين والعدول عن ولد المتوكّل

لمّا توفّى المنتصر اجتمع الموالي وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش ومن معهم. فاستحلفوا جميع القوّاد على أن يرضوا بمن رضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب. فحلفوا كلّهم وتشاوروا بينهم وكرهوا أن يتولّى الخلافة أحد من ولد المتوكّل، لقتلهم المتوكّل وخوفهم أن يغتالهم من يتولّى الخلافة منهم.

فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم وقالوا:

« لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم. » فبايعوه وله ثمان عشرة سنة، ويكنى أبا العباس، ولقّب: المستعين بالله.

فاستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أوتامش.

فلمّا صار إلى دار العامّة في زيّ الخلافة وقد صفّ أصحابه صفّين وقام منهم مع وجوه أصحابه وحصر الدار ولد المتوكّل والعبّاسيون والطالبيون وأصحاب المراتب، إذا صيحة من ناحية الشارع وجماعة من الفرسان، ذكر أنّهم من أصحاب أبي العبّاس محمد بن عبد الله بن طاهر، وفيهم فرسان من الطبرية وأخلاط من الناس والغوغاء والسوقة، قد شهروا السلاح وصاحوا:

« معتزّ يا منصور. » وشدّوا فتضعضعوا وانضمّ بعضهم إلى بعض. ثم حملوا عليهم ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكثرون، فوقع بينهم قتلى، ثم تحاجزوا.

وخرج المستعين - وقد بايعه من حضر الدار من أصحاب المراتب - إلى الهاروني ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامّة، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والسيوف الثغرية والتراس الخيزران، ثم جاءهم جماعة من الأتراك فيهم بغا الصغير فأجلوهم من الخزانة وقتلوا منهم عدّة وخرج العامّة والغوغاء وكان لا يمرّ بهم أحد من الأتراك يريد باب العامّة إلّا انتهبوا سلاحه وقتلوا جماعة منهم.

وكان عامّة من انتهب أصحاب الناطف والفقّاع وأصحاب الحمّامات وغوغاء الأسواق.

ثم وضع العطاء في ذلك اليوم الذي بويع فيه وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فبعث إلى الهاشميّين والقوّاد والجند ووضع الأرزاق.

وورد في هذه السنة نعى طاهر بن عبد الله بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه أبي عبد الله محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر عمّه على العراق وجعل إليه الحرس والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به.

وفيها مات بغا الكبير فعقد المستعين لابنه على أعمال أبيه كلّها واسمه موسى.

وفيها ابتاع المستعين من المعتزّ والمؤيّد جميع مالهما من الدور والمنازل والقصور والفرش والآلة وغير ذلك من الضياع والعقار وأشهد عليهما القضاة والعدول ووجوه الهاشميّين، وترك لأبي عبد الله المعتزّ قيمة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم المؤيّد ما قيمته خمسة آلاف دينار وذلك في السنة الواحدة. فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبّات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف دينار وثلاث حبّات لؤلؤ. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين. ووكّل بهما وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الشاكرية والغوغاء قتلهما، فمنعهم أحمد بن الخصيب وقال: ليس لهما ذنب.

وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفى إلى اقريطش، وصيّر المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاصّ أموره، وقدّمه أوتامش على جميع الناس.

ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين

وفيها شغب الجند والشاكرية

ذكر السبب في شغبهم

كان السبب في ذلك أنّ جعفر بن دينار كان غزا الصائفة، فاستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من الروم ومعه خلق كثير من الروم نحو مائة ألف. فقتل عمر ومن معه من المسلمين وبلغ خبر مقتله عليّ بن يحيى الأرمني وسمع بما جرى على حرم المسلمين من الروم واستكلابهم على الثغور الخزرية بعد عمر فنفر إليهم مع جماعة من أهل ميّافارقين، فقتل أيضا في جماعة من المسلمين.

فلمّا اتصل خبرهما بأهل مدينة السلام وسرّ من رأى وسائر مدن الإسلام، فعظم عليهم مقتل هذين وهما نابان من أنياب المسلمين، شديد بأسهما عظيم نكايتهما وغناؤهما في الثغور. فشقّ على الناس ذلك وعظم في الصدور وانضاف إلى ذلك ما لحقهم من الأتراك وفي قتلهم المتوكّل واستيلائهم على أمور المسلمين وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبّوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة ولا نظر للمسلمين.

فأجمعت العامّة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمّت إليها الأبناء والشاكريّة. تظهر أنّها تطلب الأرزاق. ففتحوا السجون وأخرجوا رفوغ خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمّرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانتهبت الدواوين وقطعت الدفاتر وألقيت في الماء وانتهب عدّة دور. ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسرّ من رأى أموالا كثيرة من أموالهم. فقوّوا من خفّ للنهوض إلى الثغور لحرب الروم، وأقبل الناس من كلّ ناحية من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها ولم يكن من السلطان فيه معونة ولا نكير على الروم.

ووثب العامّة بسرّ من رأى على أصحاب السجون فأخرجوا من فيها فأركب زرافة ووصيف وأوتامش فوثبت العامّة بهم فهزمتهم وألقى على وصيف قدر مطبوخة فأمر وصيف النفّاطين فرموا ما قرب من ذلك الموضع من حوانيت التجّار ومنازل الناس بالنار فاحترق ذلك كلّه وقتل من العامّة خلق وانتهبت دور جماعة منهم.

وفي هذه السنة قتل أوتامش وكاتبه شجاع

ذكر السبب في قتلهما

لمّا أفضت الخلافة إلى المستعين أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال وأباحهما إيّاها. وفعل ذلك أيضا بأمّ نفسه، فكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنّما تصير إلى هؤلاء.

فأمّا أوتامش فأنه عمد إلى ما في بيوت الأموال فاكتسحه. وكان المستعين جعل ابنه العبّاس في حجر أوتامش وكان وصيف وبغا من ذلك بمعزل. فأغريا الموالي به ولم يزالا يدبّران الأمر عليه حتى أحكما التدبير.

فتذمّرت الأتراك والفراغنة على أوتامش وخرج إليه أهل الدور والكرخ إلى المعسكر، ثم زحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين، فأراد الهرب فلم يمكنه واستجار بالمستعين فلم يجره. فأقاموا على ذلك يومي الخميس والجمعة.

فلمّا كان يوم السبت دخلوا الجوسق فاستخرجوا أوتامش من الموضع الذي توارى فيه فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم وانتهبت دورهم فأخذ منها أموال جليلة ومتاع وفرش وآنية.

فلمّا قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج ووليه عيسى بن فرّخانشاه ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح ابن يزداد فهرب أبو صالح إلى بغداد، وصيّر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي.

ودخلت سنة خمسين ومائتين

ظهور يحيى بن عمر في الكوفة وقتله فيها

وفيها ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام المكنّى بأبي الحسين بالكوفة وقتل فيها.

ذكر السبب في خروجه

كان السبب في ذلك أنّ أبا الحسين يحيى بن عمر نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا. فلقى عمر بن فرج وهو يتولّى أمر الطالبيّين عند مقدمه من خراسان وكلّمه في صلة. فأغلظ له عمر في القول. فقذفه يحيى في مجلسه فحبس فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله فأطلق. ثم صار إلى سرّ من رأى فلقى وصيفا في رزق يجرى له. فأغلظ له وصيف في الردّ، وقال: « لأيّ شيء يجرى على مثلك. » فانصرف عنه.

فذكر الصوفيّ الطالبيّ أنّه أتاه في الليلة التي خرج في صبيحتها، فبات عنده ولم يعلمه بشيء ممّا عزم عليه، وأنّه عرض عليه الطعام وتبيّن فيه أنّه جائع، فأبى أن يأكل، وقال:

« إن عشنا أكلنا. » قال: فتبيّنت أنّه قد عزم على فتكة. وخرج من عندي فجعل وجهه إلى الكوفة، وجمع جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلّوجة فصار إلى قرية تعرف بالعمد. فكتب صاحب الخبر يخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى عامله على معاون السواد وهو عبد الله بن محمود السرخسي وإلى عامل الكوفة وهو أيّوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان، فأمرهما بالاجتماع على محاربته.

فمضى يحيى بن عمر في تسعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه وبه سبعون ألفا وألفا دينار، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجون وأخرج عمّال السلطان عنها. فلقيه عبد الله بن محمود [ وكان ] في عداد من الشاكرية، فضربه يحيى على وجهه ضربة أثخنه.

فانهزم ابن محمود مع أصحابه وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال.

ثم خرج يحيى من الكوفة إلى سوادها ولم يقم بالكوفة ولحقه جماعة من الزيديّة وأعراب أهل الطفوف والسيب إلى ظهر واسط، وكثر جمعه. ووجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب وضمّ إليه من ذوي البأس والنجدة من قوّاده جماعة، وشخص الحسين بن إسماعيل فنزل بإزاء يحيى بن عمر لا يقدم عليه.

فمضى يحيى بن عمر في شرقيّ السيب والحسين في غربيّه حتى عبر إلى ناحية سورا، وسار حتى قرب من جسر الكوفة، فلقيه عبد الرحيم بن الخطّاب وجه الفلس، فقاتله قتالا شديدا وانهزم وجه الفلس، فصار إلى ناحية شاهي ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها.

ودخل يحيى بن عمر الكوفة واجتمعت إليه الزيدية وكثف أمره واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبّوه وتولّاه العامّة من أهل بغداد خاصّة، ولا نعلم أنهم تولّوا من أهل بيته غيره، وتديّن الناس في تشيّعهم. وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهى واستراح وأراح أصحابه دوابّهم واتصلت بهم الميرة والأمداد والأموال.

وأقام يحيى بالكوفة يعدّ العدد ويطبع السيوف ويجمع السلاح. فاجتمع عامّة من الزيدية ممّن لا علم لهم بالحرب وأشاروا على يحيى بن عمر بمعاجلة الحسين وألحّت عليه عوامّ أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ومعه الهيضم العجلى في فرسان بنى عجل وأناس من بنى أسد ورجّالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا شجاعة ولا تدبير.

فصبّحوا الحسين وأصحابه وأصحاب الحسين مستريحون مستعدّون.

فثاروا إليهم وذلك في الغلس، فرموا ساعة ثم حمل عليهم فرسان الحسين، فانهزموا، ووضع فيهم السيف. فكان أوّل أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلى، وانهزم رجّالة أهل الكوفة وأكثرهم عراة بغير سلاح ضعفاء القوى خلقان الثياب فداستهم الخيل وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وقد تقطّر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود وعليه جوشن تبّتيّ.

فوقف عليه ابنان لخالد بن عمران ولم يعرفه أحدهما وظنّ أنّه خراسانى لأجل الجوشن فقال له الآخر:

« يا أخي هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه وهو نازل ما يعرف القصّة لانفراج قلبه. » فأمرا رجلا من أصحابهما فنزل إليه وأخذ رأسه وادّعى قتله جماعة، وحمل رأسه إلى دار محمد بن عبد الله وقد تغيّر. فطلبوا من يقور رأسه ويخرج الحدقة والغلصمة. فلم يقدروا عليه، وهرب الجزّارون وطلب ممّن في السجن من الخرّمية الذبّاحين من يفعل ذلك، فلم يقدم عليه أحد إلّا رجل من عمّال السجن الجديد فإنّه جاء فتولّى إخراج دماغه وعينيه وقوّره وحشى بالصبر والكافور.

ثم أمر بحمل الرأس إلى المستعين وكتب إليه بيده بالفتح ونصب رأسه بباب العامّة بسرّ من رأى. فاجتمع الناس وتذمّروا فحطّ وردّ إلى بغداد لينصب هناك، فلم يتهيّأ ذلك. وذكر لمحمد أنّ الناس قد كثروا واجتمعوا على أخذه فلم ينصبه.

فحكى بعض الطاهريين أنّه حضر مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر وهو يهنّئ بقتل يحيى وبالفتح وعنده جماعة الهاشميّين من العبّاسيّين والطالبيّين وغيرهم من الوجوه. فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فسمعهم يهنّئونه، فقال:

« أيّها الأمير، إنّك لتهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله حيّا لعزّى به. »

فما ردّ عليه محمد شيئا فحلم عنه. فخرج وهو يقول:

يا بنى طاهر كلوه وبيّا ** إنّ لحم النّبيّ غير مريّ

وكان المستعين قد وجّه كلباتكين التركيّ مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد أن انهزم القوم وقتل يحيى بن عمر ولحق في طريقه قوما معهم الأسوقة والأطعمة يريدون عسكر يحيى. فوضع فيهم السيف فقتلهم ودخل الكوفة وأراد أن ينهبها ويضع السيف في أهلها، فمنعه من ذلك الحسين وآمن الأسود والأبيض بها وأقام أيّاما حتى أمن الناس ثم انصرف عنها.

خروج الحسن بن زيد

وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.

ذكر السبب في خروجه

كان سبب ذلك أنّ محمد بن طاهر لمّا جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه الكوفة، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وكان فيها قطيعة تقرب من ثغرى طبرستان ما يلي الديلم وهما كلار وشالوس وكان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق محتطبهم ومراعى مواشيهم ومسرح سارحتهم ليس لأحد عليها ملك وإنّما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنّها غياض وأشجار وكلأ. وكان وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له:

جابر، لحيازة ما أقطع هناك، وعامل طبرستان سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله ابن أخي محمد بن عبد الله بن طاهر والمستولى على سليمان بن عبد الله والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرّق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان وجعلهم ولاتها وهم أحداث سفهاء.

فتأذّى بهم الرعيّة وأنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سيرهم وسوء أثرهم فيهم، ووتر مع ذلك محمد بن أوس الديلم بدخوله إليهم من حدود طبرستان وهم أهل سلم وموادعة على اغترار من الديلم، فأغار عليهم وسبى منهم وقتل فكان ذلك ممّا زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا.

فلمّا صار النصراني إلى طبرستان لحيازة ما أقطع صاحبه محمد حاز أيضا ما اتصل به من موات الأرض الذي يرتفق به أهل تلك الناحية، وكان بقرب ثغرين كما ذكرت، وكان بتلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالشجاعة والرأي مذكوران قديما بضبط تلك الناحية ممّن رامها من الديلم، وبإطعام الناس والإحسان إلى من ضوى إليهما يقال له: محمد وجعفر ابنا رستم، فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات الذي ذكرت وقطع مرافق الناس منه.

وكان ابنا رستم مطاعين، فاستنهضا من أطاعهما وقصدا جابرا ليمنعاه، فهرب جابر ولحق بسليمان بن عبد الله بن طاهر وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم في منعهما جابرا ممّا حاوله بالشر وذلك أنّ عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد بن عبد الله وعمّ محمد بن طاهر بن عبد الله وإلى خراسان والريّ والمشرق. فلمّا أيقنا بالشرّ راسلا الديلم وذكّراهم وفاءهما لهم بالعهد الذي بينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي وأنّهم لا يأمنون عودته ويسألانهم مظاهرتهما عليه وعلى من معه.

فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين هم عمّال آل طاهر والسلطان الأعظم وأنّ ما سألوا من معاونتهم لا سبيل إليه إلّا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمّال سليمان بن عبد الله، فأعلماهم أنّهما لا يغفلان عن كفايتهم ذلك حتى يأمنوا ما خافوه. فأجابهم الديلم إلى ما سألوه وتعاقدوا وأهل كلار وشالوس على حرب من قصدهم. ثم أرسل ابنا رستم إلى رجل من الطالبيّين المقيمين يومئذ بطبرستان يقال له: محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وقال لهم:

« أنا لا أجيب إلى ما سألتم، ولكني أدلّكم على رجل منّا هو أقوم بما دعوتموني إليه. » فقالوا: « من هو؟ » فأخبرهم أنّه الحسن بن زيد، ودلّهم على منزله بالريّ. فوجّه القوم إلى الريّ برسالتهم ورسالة العلويّ محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى الشخوص إلى طبرستان فشخص إليهم الحسن بن زيد وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعة واحدة فلمّا وافاهم بايعه ابنا رستم وجماعة أهل الثغرين ورؤساء الديلم كجايا والاشلام ووهسوذان بن جستان.

ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمّال ابن أوس فطردوهم عنها فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله وهما بمدينة ساريه، وانضوى إلى الحسن بن زيد مع من بايعه لمّا بلغهم ظهوره كلّ من بجبال طبرستان، كلّها إلّا سكّان جبل فريم، فإنّ ملكهم قارن بن شهريار كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد وقوّاده نحو مدينة آمل وهي أوّل مدينة طبرستان ممّا يلي كلار وسالوس من السفح.

وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها فالتقى جيشاهما في بعض نواحي مدينة آمل ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة معه موضع المعركة إلى ناحية أخرى، فدخلوها واتصل خبرهم بابن أوس وهو مشغول بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد. فلم يكن له همّ إلّا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان وسارية.

فلمّا دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه وغلظ أمره وانقضّ إليه كلّ طالب نهب من الصعاليك والحوزيّة وغيرهم. فأقام الحسن بن زيد بآمل أيّاما حتى جبى الخراج واستعدّ.

ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدا سارية ومن بها من سليمان وابن أوس، فخرجوا بمن معهم والتقى القوم خارج مدينة سارية ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قوّاد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية فدخلها برجاله، وانتهى الخبر إلى سليمان ومن معه فطاروا على وجوههم ونجوا بأنفسهم وترك سليمان أهله وعياله وثقله وكلّ ما كان له بسارية من مال وأثاث، فلم تكن له عرجة دون جرجان، وغلب جند الحسن بن زيد على ما كان له ولغيره.

فأمّا عيال سليمان وأهله وآباؤه فإنّ الحسن أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان واجتمع للحسن أمره بطبرستان كلّها.

ثم وجّه الحسن خيلا مع رجل من أهل بيته يقال له: الحسن بن زيد، إلى الريّ فصار إليها وطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية واستخلف بها بعض الطالبيّين وانصرف عنها فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الريّ إلى حدّ همذان.

فورد الخبر بذلك على المستعين ومدبّر أمره وصيف التركيّ وكتابه أحمد بن صالح بن شيرزاد. فوجّه إسماعيل بن فراشة في جمع كثير إلى همذان وأمره بالمقام بها وضبطها وذلك أنّ ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر، بن عبد الله بن طاهر وبه عمّاله وإليه إصلاحه.

فلمّا استقرّ بخليفة الحسن بن زيد القرار بالريّ واسمه محمد بن جعفر، ظهرت منه أمور كرهها أهل الريّ. فوجّه محمد بن طاهر قائدا من خراسان يقال له: محمد بن ميكال وهو أخو الشاه بن ميكال، في جمع عظيم من الخيل والرجّالة إلى الريّ فالتقى هو ومحمد بن جعفر العلوي. فأسر محمد بن ميكال محمد بن جعفر وفضّ جمعه ودخل الريّ.

فوجّه إليه الحسن بن زيد خيلا عليها ويجن قائد من قوّاد أهل الأرز فخرج إليه محمد بن ميكال فهزمه ويجن والتجأ محمد بن ميكال إلى الريّ معتصما، بها فاتبعه ويجن قبل أن يشخص حتى قتله وعادت الريّ إلى أصحاب الحسن بن زيد.

ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين

وفيها قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركيّ واضطرب الموالي

ذكر السبب في قتله

كان سبب ذلك أنّ باغر كان أحد قتلة المتوكّل فزيد في أرزاقه وأقطع قطائع. فكان ممّا أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك بألفي دينار. فوقع بين هذا الدهقان وبين رجل بتلك الناحية يقال له ابن مارمّة شرّ فتناوله ابن مارمّه بمكروه. فحبس ابن مارمّه وقيّد فعمل حتى تخلّص من الحبس وصار إلى سرّ من رأى، فلقى دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره وإليه العسكر يركب إليه القوّاد والعمّال، وكان ابن مارمّه صديقا لدليل وكان باغر أحد قوّاد بغا فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمّه وانتصف له منه فأوغر ذلك بصدر باغر وباين كلّ واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب.

وكان باغر شجاعا بطلا عظيم القدر في الأتراك يتوقّاه بغا وغيره ويخافون شرّه، فجاء باغر يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجّة سنة خمسين ومائتين إلى بغا وهو في الحمّام وباغر سكران فانتظره حتى خرج من الحمّام، ثم دخل إليه فقال له:

« والله ما لي من قتل دليل من بدّ. » ثم شتمه. فقال له بغا:

« لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك منه، فكيف دليل النصرانيّ، ولكن أمر الخليفة وأمري في يده فتصبر حتى أصيّر مكانه إنسانا ثم شأنك به. » ثم وجّه بغا إلى دليل يأمره ألّا يركب فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قديما، فجعله مكان دليل يوهم باغر أنّه قد عزل دليلا فسكن باغر. ثم أصلح بغا بين باغر ودليل، وباغر يتهدّد دليلا إذا خلا بأصحابه، ثم تلطّف باغر للمستعين ولزم الخدمة في الدار وكره المستعين مكانه لجرأته وقتله المتوكّل. فلمّا كان نوبة بغا في منزله قال المستعين:

« أيّ شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ »

فأخبره وصيف فقال:

« ينبغي أن تصيّر هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر. » فقال وصيف:

« نعم. » وبلغت القصّة دليلا فركب إلى بغا وقال له:

« أنت في بيتك وهم في تدبير عزلك عن جميع أعمالك، وإذا عزلت فما بقاؤك إلّا أن يقتلوك. » فركب بغا إلى دار الخليفة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي فقال لوصيف:

« أردت أن تحطّنى عن مرتبتي فتجيء بباغر وتصيّره مكاني، وإنّما باغر عبد من عبيدي. » فقال وصيف:

« ما أردت ذلك ولا علمت ما أراد الخليفة من ذلك. » ثم تعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار وأرجفوا أنّه يؤمّر ويضمّ إليه جيش سوى جيشه ويخلع عليه ويجلس مجلس بغا ووصيف وهما يسمّيان الأميرين، وكان قصد المستعين التقرّب إليه ليأمن ناحيته فأحسّ هو ومن في جنبته بالشرّ فجمع إليه الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكّل مع غيرهم. ثم ناظرهم ووكّد البيعة عليهم كما كان وكّدها في قتل المتوكّل. ثم قال:

« الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا ونجيء بمن نقعده خليفة ليكون الأمر لنا كما هو لهذين اللذين قد استوليا على الدنيا وبقينا نحن في غير شيء. » فبعث إلى المستعين ووصيف فقال لهما:

« إني ما طلبت إليكما أن تجعلانى خليفة وإنّما فعلتما أنتما ذلك وأصحابكما ثم تريدون أن تقتلوني؟ » فحلفا أنّهما ما علما بذلك.

فيقال: إنّ امرأة مطلّقة لباغر بعثت إلى المستعين وبغا بما عزم عليه باغر وبكّر دليل إلى بغا، ووصيف حاضر منزل بغا مع كاتبه، فاتّفق رأيهم على أخذ باغر ونفسين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم. فأحضر باغر فأقبل في عدّة.

فلمّا دخل دار بغا منع من الوصول إلى وصيف وبغا وعدل به إلى حمّام فحبس فيه ودعى له بقيد فامتنع عليهم. وبلغ ذلك الأتراك ووثبوا على إصطبل السلطان فأخذوا ما فيه من الدوابّ وانتهبوها وركبوا وحضروا الجوسق بالسلاح. فلمّا أمسوا بعث بغا ووصيف إلى باغر بجماعة وشدخوه بالطبرزينات حتى برد وعملوا على أن يرموا برأسه إليهم إن أقاموا على الشغب.

فلمّا انتهى قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه وأبوا أن ينصرفوا واجتمع رأى المستعين ووصيف وبغا وشاهك على أن ينحدروا إلى بغداد ففعلوا ذلك وانكسر الأتراك لذلك وأظهروا الندم.

ثم صاروا إلى دار دليل بن يعقوب ودور أهل بيته وانتهبوها ونقضوها ثم منعوا من الانحدار إلى بغداد من همّ بذلك، وأخذوا ملّاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقل سفينته، فامتنع الملّاحون من الانحدار بعده.

واجتمع من كان من الجند والأتراك بسرّ من رأى على المعتزّ فبايعوه، وأقام من كان ببغداد على الوفاء للمستعين.

ذكر الفتنة التي وقعت بين الأتراك وأهل بغداد وما انتهى إليه

لمّا انحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك وأحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره. ثم وافى بغداد القوّاد سوى جعفر بن دينار وسليمان بن يحيى بن معاذ مع جلّة الكتّاب والعمّال وبنى هاشم. ووافى أيضا قوّاد الأتراك الذين في ناحية وصيف وبغا.

وكانت رسل وصيف وبغا تتردد إلى سرّ من رأى باستدعاء من بها وإصلاح نيّاتهم وكان كلّ من يرد بغداد يؤمر أن ينزل الجزيرة التي حيال دار محمد بن عبد الله بن طاهر وألّا يصيروا إلى الجسر فيرعبوا العامّة، فإذا اجتمعوا وجّه إليهم زواريق حتى يعبروا فيها.

فلمّا دخل الأتراك الواردون من سرّ من رأى إلى المستعين رموا بأنفسهم بين يديه وخلعوا مناطقهم من أوساطهم تذلّلا وخضوعا وكلّموا المستعين وسألوه الصفح عنهم فقال لهم:

« أنتم أهل بغى وبطر واستقلال للنعم. ألم ترفعوا إليّ في أولادكم فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفى غلام، وفي بناتكم فأمرت باجرائهن مجرى المتزوّجات وهنّ نحو من أربعة آلاف صبيّة، سوى المدركين، وأدررت عليكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضّة، ومنعت نفسي شهواتها ولذّاتها، كلّ ذلك طلبا لرضاكم وصلاحكم وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهديدا وإبعادا. » فتضرّعوا وقالوا:

« أمير المؤمنين صادق وقد أخطأنا ونحن الآن نسأله العفو. » فقال المستعين:

« قد عفوت عنكم. » فقال له بايكباك:

« فإن كنت رضيت عنّا وصفحت، فقم معنا إلى سرّ من رأى، فإنّ الأتراك ينتظرونك. » فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له:

« هكذا يقال لأمير المؤمنين: قم معنا فاركب؟ » فضحك المستعين وقال:

« هؤلاء قوم عجم، لا يؤخذون بمعرفة حدود الكلام وأدائه. » ثم قال لهم المستعين:

« يصير من بسرّ من رأى فأرزاقهم دارّة عليهم، وأنظر أنا في أمري هاهنا. » فانصرفوا وقد أغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله ومضوا إلى سرّ من رأى وحرّضوا الأتراك على مخالفته، واجتمع رأيهم على إتمام البيعة لأبي عبد الله المعتزّ فأخرجوه والمؤيّد من الحبس فأخذوا من شعرهما، وكان قد طال، وبايعوه وأمر لهم بمال البيعة وكان المستعين خلّف بسرّ من رأى ما كان حمل من الموصل ومن الشام وهو خمسمائة ألف دينار وفي بيت مال أمّ المستعين قيمة ألفي ألف دينار وفي بيت مال ابن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار وكتب نسخة البيعة التي أخذت للمعتزّ بسرّ من رأى على النسخة المعروفة.

وأحضر أبو أحمد بن الرشيد محمولا في محفّة وأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتزّ:

« بل كنت مكرها وخفت السيف. » فقال أبو أحمد:

« ما علمت أنّك أكرهت وقد بايعنا هذا الرجل. أفتريد أن نطلّق نسائنا وتخرجنا عن أموالنا ولا ندري ما يكون أن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس وإلّا فهذا السيف. » فقال المعتزّ:

« اتركوه. » فردّ إلى منزله من غير بيعة.

ولمّا بايع المعتزّ الأتراك ولّى عمّاله وأصحاب دواوينه، واتصل محمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتزّ وتوجيهه العمّال. فأمر بقطع الميرة عن أهل سرّ من رأى وكتب إلى مالك بن طوق بالمصير إلى بغداد هو ومن معه من أهل بيته وجنده والى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار بالجمع والاحتشاد وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع السفن ومنع الميرة أن تنحدر إلى سرّ من رأى ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط فهرب الملّاح وبقيت حتى غرقت.

وأمر المستعين محمد بن عبد الله بأن تحصّن بغداد فتقدّم في ذلك فأدير عليها السور من دجلة من باب الشمّاسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة، ومن باب قطيعة أمّ جعفر حتى أورده قصر حميد. ورتّب على كلّ باب قائدا وجماعة من أصحابه وغير أصحابه، وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعا ومظلّات يأوى إليها الفرسان في الحرّ والمطر. فبلغت النفقة على السورين والخنادق والمظلّات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شدّاخات بعرض الطريق فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني بابا معلّقا بقدر الباب ثخينا وقد ألبس صفائح الحديد وشدّ بالحبال كي إن وافى أحد من ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلّق فقتل من تحته وجعل على الباب الآخر عرّادة، وعلى الباب الآخر خمسة مجانيق كبارا وفيها واحد كبير سمّوه: الغضبان، وستّ عرّادات يرمى بها إلى ناحية رقّة الشمّاسية وصيّر على باب البردان ثماني عرّادات في كلّ ناحية أربع، وأربع شدّاخات، وكذلك كلّ باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقيّ والغربيّ، ووكّل بكل باب قوّاد برجالهم وجعل لكلّ باب من أبوابها دهليزا عليه السقائف يسع مائة فارس ومائة راجل، ولكلّ منجنيق وعرّادة رجالا مرتبين يمدّون حباله، وراميا يرمى إذا كان قتال، وفرض فروضا من قوم من أهل خراسان قدموا حجّاجا فسئلوا المعونة على قتال الأتراك فأعانوا.

وأمر محمد بن عبد الله أن تفرض من العيارين فروض وأن يجعل عليهم عريف ويعمل لهم تراس من البواري المقيّرة وأن تعمل لهم مخال تملأ حجارة. ففعل ذلك وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها عملت نسائجات أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب المقيّرة من العيّارين رجلا يقال له: ينتويه.

خليفتان في زمن واحد

وكتب المستعين إلى عمّال الخراج بكلّ بلدة وبكلّ موضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان ببغداد دون غيرها، وكتب إلى الأتراك والجند الذين بسرّ من رأى يأمرهم بنقض بيعة المعتزّ ومراجعة الوفاء ببيعتهم، ويذكّرهم أياديه عندهم وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته.

وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله يدعوه إلى خلع المستعين ويذكره بما أخذه أبوه المتوكّل عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة.

وأجابه محمد يدعوه إلى الرجوع إلى طاعة المستعين. واحتجّ كلّ واحد منهما باحتجاجات يطول شرحها وبثق محمد بن عبد الله المياه بطسّوح الأنبار وبادوريّا ليقطع طريق الأتراك حين تخوّف ورودهم الأنبار.

وكتب كلّ واحد من المعتزّ والمستعين إلى موسى بن بغا وهو مقيم بأطراف الشام لأنّه كان أخرج إلى حمص لقتال أهلها حين قتلوا عاملهم وعصوا وامتنعوا على السلطان.

وبعث كلّ واحد منهما بعدّة ألوية يعقدها لمن أحبّ. فانصرف إلى المعتزّ وصار معه ولم يزل الأتراك الكبار يصيرون مرّة من حزب المستعين ومرّة من حزب المعتزّ.

وعقد المعتزّ لأخيه أبي أحمد ابن المتوكّل على حرب المستعين وابن طاهر وضمّ إليه الجيش وجعل إليه الأمر والنهى وتدبير الحرب إلى كلباتكين فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة فوافوا عكبرى فصلّى أبو أحمد ودعا للمعتزّ وكتب بذلك فتحا إلى المعتزّ وجعل الأتراك ينتهبون القرى ما بين عكبرى وبغداد وأوانا وهرب الناس منهم وجلّوا عن الغلّات والضياع فخربت وهدمت المنازل وسلب الناس وجرى في ذلك أمر فظيع قبيح.

ولمّا وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكّل بباب الشماسية. ثم وافى أبو أحمد في عسكر الشماسية ووافت طلائع الأتراك إلى قريب من باب الشماسية فوجّه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال فيمن معهما.

فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات قد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم وانصرف الحسين والشاه. ثم وافى باب الشماسية اثنا عشر فارسا من الأتراك فشتموا من هناك ورموهم بسهامهم، وكان محمد تقدم ألّا يبدأهم بقتال، فلمّا فعلوا ذلك وأكثروا من الشتم والرمى أمر علّك صاحب المنجنيق. فرموا بحجر أصاب فقتل واحد منهم فنزل أصحابه فحملوه وانصرفوا إلى معسكرهم. ثم وافى الأتراك باب الشماسية فرموا بالسهام وبحجارة المنجنيق والعرّادات وكان بينهم قتلى وجرحى.

وحمل محمد بن عبد الله الصلات لمن أبلى في الحرب، وأطوقة وأسورة من ذهب، وكان الجرحى في الفريقين متقاربين في العدد، وانهزم عامة أهل بغداد وثبت أصحاب البواري وأحضرت الأتراك منجنيقا فغلبهم عليه الغوغاء وكسروا قائمة من قوائمه وأمر بحمل الآجرّ من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية، وفتح باب الشماسية وأخرج إلى الآجر من لقطه وردّوه إلى هذا الجانب من السور.

ثم وجّه محمد بن عبد الله الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالدا وأمددا بالمبيّضة من أهل بغداد، فحمل الشاه والمبيّضة حملة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم وحملت عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليه بندار وخالد بن عمران من الكمين وكانوا كمناء من ناحية باب قطربل. فوضعوا في أصحاب أبي أحمد السيف فقتل الأتراك وغيرهم فقتلوهم أبرح قتل ولم يفلت منهم إلّا القليل.

وانتهب المبيّضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأنفال والمضارب والخرثيّ. فكان من أفلت منهم من السيف ورمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد أخذه أصحاب السميريات وكانت السميريات قد شحنت بالمقاتلة فقتلوا وأسروا وجعلت القتلى والرؤوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسر وبعضها على باب محمد بن عبد الله.

وأمر محمد لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة. فسوّر قوم كثير من الجند وغيرهم وطلبت المنهزمة فبلغ بعضهم أوانا وبعضهم إلى عسكر أبي أحمد، وبعضهم نفذ إلى سرّ من رأى. وخلع محمد على قوّاده على كلّ واحد أربع خلع وخرج المبيّضة والعيّارون في طلب ما خلّفه المنهزمة.

فوجّه محمد في آخر هذا اليوم أخاه عبيد الله بن عبد الله في إثرهم حياطة لأهل بغداد لأنّه لم يأمن رجعتهم عليهم وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة ليوغل في آثارهم، فأبى ولم يتبع مولّيا ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد في مساجد جوامعها.

وقدم محمد بن خالد بن يزيد بلد ينتظر من يصير إليه وكان بالجزيرة.

فلمّا كان اضطراب الأتراك ودخول المستعين بغداد لم يمكنه المصير إلى بغداد إلّا من طريق الرقّة، فصار إليها بمن معه من خاصّته. ثم انحدر منها إلى بغداد، فصار إلى محمد بن عبد الله فخلع عليه خمس خلع: ديبقي وملحم وخزّ ووشى وسواد، ثم وجّه به في جيش كثيف لمحاربة أيّوب بن أحمد، فأخذ على طريق الفرات فحاربه أيّوب في نفر يسير فهزمه. فلمّا انتهى خبر هزيمته إلى محمد بن عبد الله قال:

« ليس يفلح أحد من العرب إلّا أن يكون معه نبي ينصره الله به. » وكان للأتراك وقعات بباب الشمّاسية كثيرة يكون مرّة لهم ومرّة عليهم.

وإنّما تركنا ذكرها لأنّها لم تجر بحيلة ولا مكيدة ولا تدبير صائب، وإنّما كانت كالفتن التي تجرى على ما يتفق. وكان الغوغاء اجتمعوا بسرّ من رأى بعد هزيمة الأتراك الأولى لما رأوا ضعف المعتزّ، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والصيارف، فأخذوا جميع ما وجدوا فيها. فاجتمع التجّار إلى إبراهيم المؤيّد أخي المعتزّ فشكوا ذلك وأعلموه أنّهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم. فقال لهم المؤيّد:

« كان ينبغي لكم أن تحوّلوا متاعكم إلى منازلكم ولم تكن عنده لذلك نكيرة. »

وورد من البصرة سفن بحريّة تسمّى البوارج وهي عشرة، فيها نفّاطون وفي كلّ واحدة نجّار وخبّاز ومقاتلة. فكانوا يرمون الأتراك وعساكرهم بالنيران فانتقلوا من معسكرهم.

ظفر سليمان بعسكر الحسن بن زيد

وفي هذه السنة ظفر سليمان بن عبد الله بعسكر الحسن بن زيد فتنحّى الحسن عن طبرستان ولحق بالديلم. ووردت الكتب على السلطان بالفتح، وكتب نسخة كتاب الفتح على يد محمد بن طاهر. وكان سبب ذلك أنّ أهل آمل لقوا من عسكر الحسن بن زيد عبئا فأتوا سليمان بن عبد الله مظهرين توبة وإنابة، وتاب إليهم خلق كثير من جيشه فنهض إلى الحسن بن زيد بتعبئة وعدّة فهزمه واستولى على بلاد طبرستان وانقطعت أسباب الفتنة عنه.

وظفر محمد بن طاهر أيضا بالطالبيّ الذي كان بالري وأخذه أسيرا وكتب بالفتح.

وفرّق محمد بن عبد الله في الكافر كوبات واستعمل منها شاكرا فرّقه فيهم.

فأثّروا في الأتراك أثرا كبيرا وأحضر ينتويه رئيس العيّارين وسوّر ووصل بخمسمائة درهم وقدم من ناحية الرقّة مزاحم بن خاقان فتلقاه بنو هاشم وكان قدم معه من الخراسانية والأتراك والمغاربة ألف رجل معهم عتاد الحرب من كل صنف. فدخل بغداد ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله ولمّا وصل خلع عليه سبع خلع وقلّد سيفا وخلع على كلّ واحد من ابنيه خمس خلع.

ثم كثرت الوقعات أيضا من أصحاب محمد بن عبد الله وأصحاب أبي أحمد وضرى العيّارون وأصحاب السواري عليهم، فكانوا ينتصفون منهم فرئي غلام لم يبلغ الحلم معه مخلاة فيها حجارة ومقلاع يرمى عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابّهم واجتمع عليه أربعة من الفرسان الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه وجعل يرميهم فلا يخطئ وتتقطّر بهم دوابّهم من رميه. فمضوا وحملوا معهم أربعة من رجّالة المغاربة بالرماح، فداخله اثنان منهم فرمى بنفسه في الماء ودخلا خلفه فلم يلحقاه وعبر إلى الجانب الشرقي وصيّح بهما وكبّر الناس فرجع جميعهم ولم يصلوا إليه.

قدوم أبي الساج

وفي هذه السنة قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب في الأغلال فدخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر فخلع عليه خمس خلع وانصرف إلى منزله.

وقدم أيضا بغداد حبشون ومعه يوسف بن يعقوب قوصرّة مولى الهادي فيمن كان مع موسى بن بغا من الشاكرية وانضمّ إليه عامّة الشاكرية المقيمون بالرقّة وهم ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع وعلى جماعة من الوجوه وانصرفوا إلى منازلهم.

وخلع على أبي الساج ديوداذ وعلى ابن فراشه، وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء وأعطى بغالا من بغال السلطان حمل عليها الرجّالة وأمر بالخروج إلى المدائن لضبطها. فحكى أنّ أبا الساج لمّا أمره محمد بن عبد الله بالشخوص إلى المدائن قال له:

« أيّها الأمير عندي مشورة أشير بها. » قال: « قل يا أبا جعفر فإنك غير متّهم. » قال: « إن كنت تريد أن تجادّ هؤلاء القوم فالرأي لك ألّا تفارق قوّاده ولا تفرقهم، واجمعهم حتى تفضّ هذا العسكر الذي بازائك، فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من وراءك. » فقال: « لي تدبير والله الكافي. » فقال له أبو الساج:

« السمع والطاعة. » ومضى لما أمره به.

فلمّا صار إلى المدائن ثم إلى الصيّادة ابتدأ في حفر خندق كسرى وكتب يستمدّ فوجّه إليه خمسمائة رجل. وكان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل ثم استمدّ حتى حصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل.

ووجّه محمد بن عبد الله إلى الأنبار نجوبة بن قيس في الأعراب وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، فأثبت نحوا من ألفى رجل وأقام بالأنبار وضبطها فبلغه أنّ قوما من الأتراك قصدوه فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار وفاض من الصحارى إلى ناحية السيلحين. فصار ما يلي الأنبار بطيحة، وقطع القناطر وكتب يستمدّ فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين في ألف رجل وأمدّه ابن طاهر بثلاثمائة رجل انتخبهم من القادمين من الثغور. فرحل، وأخرج المعتزّ أبا نصر بن بغا من سرّ من رأى على طريق الإسحاقى فسار يومه وليلته، وصبّح الأنبار ساعة وصل رشيد فنزل رشيد خارج المدينة وكان نجوبة نازلا المدينة.

فلمّا وافى أبو نصر عاجل رشيدا وهم غارّون على غير تعبئة فوضع فيهم السيف وثار أصحاب رشيد إلى سلاحهم فقاتلوا الأتراك والمغاربة أشدّ قتال وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا منه وبلغ نجوبة ما لقي رشيد وأصحابه، فعبر إلى الجانب الغربي وقطع جسر الأنبار وصار رشيد إلى المحوّل وسار نجوبة في الجانب الغربي حتى وافى بغداد ودخل رشيد في هذه العشية إلى دار ابن طاهر وأعلم نجوبة محمد بن عبد الله أنّه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجّه إلى رشيد يسأله أن يوجّه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتّبهم قدّام أصحابه فأبى ذلك، ثم سأل أن يضمّ إليه ناشبة ليصير إلى بنى عمّه فإنّهم مقيمون على الطاعة في الجانب الغربي وضمن أن يتلافى ما كان منه، فضمّ إليه ثلاثمائة رجل من الناشبة والفرسان مع رجّالة منهم.

فمضى إلى قصر أبي هبيرة يستعدّ هناك واختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار ووجّه معه محمد بن رجاء الحصارى وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس وجماعة من أهل النجدة وأمر للناس برزق أربعة أشهر ممّن يخرج مع الحسين. فامتنع من قدم من الثغور من قبض رزق أربعة أشهر لأنّ أكثرهم كانوا بغير دوابّ وقالوا نحتاج أن نقوّى في أنفسنا ونشتري دوابّ، فوعدهم. ثم أرضوا برزق أربعة أشهر كما بدءوهم.

ثم أحضر الحسين مع قوّاده الكبار وهم نحو من عشرين قائدا فخلع عليه وقدّمت مرتبته إلى الفوج الثاني وكان في الفوج الرابع وصيّر رشيد على المقدّمة ومحمد بن رجاء على الساقة وخرج الحسين إلى معسكره وأمر وصيف وبغا بتشييعه وأخرج لأهل العسكر من المال ستّة وثلاثون ألف دينار وسار الحسين وكان أهل الأنبار حين تنحّى نجوبة ورشيد وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا:

« الأمان. » وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوّق فيها، اطمأنّوا إلى ذلك منهم وسكنوا وطمعوا في أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا ووافت الأنبار سفن من الرقّة فيها دقيق وأطواف فيها زيت، فأخذوا جميعه وانتهبوا ما وجدوا وأخذوا الإبل والبغال والحمير ووجّهوا بذلك مع من يؤدّيه إلى منازلهم بسرّ من رأى مع رؤوس من قتل من أصحاب رشيد ومن أسروا، وكان الأسارى مائة وعشرين رجلا والرؤوس سبعين رأسا، وسار الحسين وانضمّ إليه نجوبة وكان بقصر ابن هبيرة وسأل لأصحابه مالا، فحمل إلى عسكر الحسين ثلاثة آلاف دينار لأصحاب بجونه وحمل إلى الحسين مال وأطواق وأسورة لمن أبلى وأمدّ بالرجال فجاءه أبو السنا محمد بن عبدوس والجحّاف بن سوادة في ألف فارس وراجل وجند انتخبوا من قيادات شتّى ونزل الحسين بعسكره إلى قريب من دممّا.

ذكر رأي أشير به عليه صواب

فأشار عليه رشيد والقوّاد أن ينزل عسكره بذلك الموضع لسعته وحصانته وأن يسير في قوّاده في خيل جريدة. فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره ثم راجع عدوّه.

فلم يقبل الرأي وحملهم على المسير من موضعهم ومن الموضعين فرسخان. فلمّا بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه أمر الناس بالنزول وكانت جواسيس الأتراك في عسكر الحسين فصاروا إليهم فأعلموهم رحيل الحسين، وضيق معسكره الذي نزل به، فوافوهم والناس يحطّون أثقالهم.

فثار أهل العسكر فكانت بينهم قتلى، ثم حمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق. وكان الأتراك قد كمنوا قوما فخرج الكمين على بقية العسكر فلم تكن لهم همّة إلّا الهرب ولا ملجأ إلّا الفرات. فغرق خلق وقتل جماعة. فأمّا الفرسان فضربوا دوابّهم لا يلوون على شيء والقوّاد ينادونهم يسألونهم الرجعة فلم يرجع أحد. وأبلى محمد بن رجاء ورشيد ونجوبة بلاء حسنا ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد فلم يملك القوّاد أمور أصحابهم فأشفقوا حينئذ على أنفسهم فانثنوا راجعين وراءهم يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا وحوى الأتراك عسكر الحسين. ولقي رجل من التجّار في جماعة ممّن ذهبت أموالهم في عسكر الحسين.

فقال له:

« الحمد لله الذي بيّض وجهك أصعدت في اثنى عشر يوما ورجعت في يوم واحد. » فتغافل عنه.

وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد، فلقيه في الطريق فردّه إلى بستان الحروى فأقام يومه. فلمّا كان الليل صار إلى دار ابن طاهر فوبّخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية، ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لأهل هذا العسكر، فحملت تسعة آلاف دينار وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسريّة لعرض الجند وإعطاءهم.

ونودى ببغداد فيمن يدخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في عسكره وأجّلوا ثلاثة أيّام فمن وجد منهم ببغداد بعد ثالثة ضرب ثلاثمائة سوط وقرض اسمه من الديوان فخرج الناس.

وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر بأصحابه بالمحوّل ورحل الحسين وكتب إلى خالد بن عمران أن يرحل متقدّما أمامه فامتنع خالد من ذلك وذكر أنّه لا يبرح حتى يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه لأنّه يتخوّف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم. وصار إلى الحسين رجل فأخبره أنّ الأتراك قد دلّوا على عدّة مواضع من الفرات تخاض إلى عسكره. فأمر بضرب الرجل مائتي سوط ووكّل بمواضع المخاوض رجلا من قوّاده يقال له الحسن بن عليّ بن يحيى الأرمني في مائة فارس ومائة راجل، فطلع أوّل القوم فخرج إليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة ووكّل بالقنطرة أبا السنا وأمر أن يمنع من انهزم من العبور فأبى الأتراك المخاضة فرأوا الموكّل بها فتركوه واقفا وصاروا إلى مخاضة أخرى من خلف المتوكّل فصبر الحسين بن علي وقاتل وقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه فلم يصل إليه حتى انهزم وانهزم خالد بن عمران ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجّالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات فغرق من لم يكن يحسن السباحة وعبر من كان يحسنها فنجا عريان، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشاطئ لما عليه من الأتراك.

فذكر عن بعض جند الحسين أنّه قال: بعث الحسين بن عليّ الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل:

« إنّ الأتراك قد وافوا المخاضة. » فأتاه الرسول فقال الحاجب:

« الأمير نائم. » فرجع الرسول فأعلمه فردّ رسولا ثانيا. فقال له الحاجب:

« الأمير في المخرج. » فرجع فأخبره فردّ رسولا ثالثا فقال:

« قد خرج من المخرج ونام. »

وجاءت الصبيحة وعبر الأتراك فقعد الحسين في زورق وانحدر واستأمن قوم من الخراسانية رموا ثيابهم وسلاحهم وقعدوا على الشاطئ عراة وشدّ أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين واقتطعوا السوق ولحق الأتراك أصحاب الحسين فوضعوا فيهم السيف فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين وغرق خلق كثير ووافى الحسين والمنهزمة نصف الليل ووافى فلّهم وبقيّتهم بالنهار وفيهم جرحى كثير وفقد جماعة من القوّاد.

وورد كتاب أبي الساج بوقعة كانت له مع الأتراك ورئيسهم بايكباك فهزم الأتراك وقتل بايكباك وغرق منهم خلق كثير فحمل إليه محمد بن عبد الله بن طاهر عشرة آلاف دينار صلة ومعونة وخمسة أبواب خلعية وسيف.

وفي هذه السنة نقبت الأتراك السور الذي عليه أصحاب ابن طاهر من ناحية بغواريا في موضعين ودخلوهما وقاتلهم أصحاب ابن طاهر فهزموهم حتى وافوا باب الأنبار وعليه إبراهيم بن محمد بن مصعب وابن أبي خالد وغيره وهم لا يعلمون بما وراءهم ويقاتلون من بين أيديهم قتالا شديدا. ثم إنّهم علموا بهم فانهزموا لا يلوون على شيء فضرب الأتراك باب الأنبار بالنار فاحترق وأحرقوا ما كان هناك من المجانيق والعرّادات ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد من الشارع إلى موضع الدواليب فأحرقوا كلّ شيء قرب من ذلك الموضع من أمامهم ووراءهم ونصبوا أعلامهم وانهزم الناس.

فركب محمد بن طاهر في السلاح ووافاه القوّاد فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف والشاه بن ميكال وتوجّهوا إلى هذه الأبواب. فقتل من الأتراك خلق كثير ووجّه برؤوسهم إلى ابن طاهر وكاثرهم الناس حتى أخرجوهم من بغداد بعد أن قتل منهم خلق كثير. فلمّا انصرفوا وكّل بغا بالباب من يحفظه ووجّه في حمل الآجر والجصّ وأمر بسده.

وفيها وافى بغداد بالفردك بن ابرنكجيل الأسروشنى فأمر له محمد بن عبد الله بفرض وضمّ إليه رجالا من الشاكرية وأمر أن يعسكر بالكناسة ويجمع مع المظفر بن سيسل بالياسرية في ضبط تلك الناحية ويكون أمرهما واحدا فاختلفا وكتب كلّ واحد منهما يشكو الآخر ويستعفى من المقام بالكناسة فأفرد بالموضع بالفردك وأعفى المظفّر.

مقتل بالفردك

وفي آخر ليلة بقيت من شهر رمضان من هذه السنة قتل بالفردك.

ذكر السبب في ذلك

كان سبب قتله أنّ أبا نصر ابن بغا لمّا غلب على الأنبار وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية فأجلاهم [ عنها ] بثّ خيله ورجاله في أطراف بغداد وصار إلى قصر ابن هبيرة وبها نجوبه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال. ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر واتصل بابن طاهر خبره وخبر وقعة كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه إيّاه ندب بالفردك إلى اللحاق بأبي الساج والمصير إليه بمن معه، فسار في أصحابه لليلتين بقيتا من شهر رمضان فسار يومه وصبّح المدائن فوافاها مع موافاة الأتراك وبالمدائن أصحاب ابن طاهر، فقاتلهم الأتراك فانهزموا ولحق من فيها من القوّاد بأبي الساج وقاتل قتالا شديدا. فلمّا رأى انهزام من هناك مضى متوجّها نحو أبي الساج فأدرك فقتل وقيل إنّه غرق.

انهزام الترك في وقعة بغداد

وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد هزموا فيها الأتراك وانتهبوا فيها عسكرهم.

وكان سبب ذلك أنّ أبواب بغداد كلّها فتحت من الجانبين ونصبت المجانيق والعرّادات في الأبواب كلّها والسيارات في دجلة وخرج منها الجند كلهم وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف وتزاحف الفريقان واشتدّت الحرب إلى باب القطيعة، ثم عبروا إلى باب الشمّاسية وقعد ابن طاهر في قبّة ضربت عليه وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية في الزواريق، فربّما انتظم السهم الواحد عدّة منهم فقتلهم فهزم الأتراك وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، فانتهبوا سوقهم وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء وحملت الرؤوس حتى كثرت. فجعل وصيف وبغا يقولان:

« كلّما جيء برأس ذهب والله الموالي واتّبعهم أهل بغداد إلى الروذبار. » ووقف أبو أحمد ابن المتوكّل يردّ الموالي ويخبرهم أنّهم إن لم يكرّوا لم يبق لهم بقيّة وأنّ القوم يتبعونهم إلى سرّ من رأى. فتراجعوا وثاب بعضهم وأقبلت العامّة تحزّ رؤوس من قتل وجعل محمد بن عبد الله يطوّق كلّ من جاء برأس ويصله حتى كثر ذلك وبدت الكراهة في وجوه من كان مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي للأتراك يقدمها علم أحمر.

وأقبلت أعلام للحسن بن الأفشين مع الأعلام التي قد استلبه غلام لشاهك فنسي أن ينكسه، فلمّا رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه توهّموا أنّ الأتراك قد رجعوا عليهم فانهزموا وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه ونكس العلم والناس قد ازدحموا منهزمين وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فحملوا عليهم ووضعت الحرب أوزارها فلم تكن بعد ذلك وقعة.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ ابن طاهر كان يكاتب المعتزّ في الصلح. فلمّا كانت هذه الوقعة أنكرت فكتب أنّه لا يعود بعدها.

ثم أغلقت أبواب بغداد فاشتدّ عليهم الحصار فصاحوا على أبواب ابن طاهر:

« الجوع، الجوع. » وكان الناس يجتمعون في الجزيرة التي تلقاء دار ابن طاهر ويشتمونه.

فراسل ابن طاهر المعتزّ في الصلح واضطرب أمر أهل بغداد فوافى من سرّ من رأى حمّاد بن إسحاق بن حمّاد ووجّه مكانه رهينة عنه أبو سعيد الأنصاري، فلقى حمّاد ومحمد بن طاهر فخلا به ولم يذكر ما جرى بينهما.

ثم انصرف حمّاد إلى عسكر أبي أحمد ورجع أبو سعيد إلى بغداد وأمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممّن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إيّاه فأطلقوا.

وفي غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجّالة الجند وكثير من العامّة. أمّا الجند فطلبوا أرزاقهم وأمّا العامّة فشكت سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدّة الحصار وقالوا:

« إمّا خرجت فقاتلت وإمّا تركتنا نمضي في البلاد. » فوعدهم الخروج أو فتح الباب للصلح ورفق بهم ومنّاهم، ثم اجتمع الجند والناس من العوامّ مرّة أخرى، وكان ابن طاهر قد شحن الجزيرة بالخيل وكذلك باب داره والجسر، فحصر الجزيرة بشر كثير فطردوا من كان ابن طاهر رتّبهم فيها.

ثم صاروا إلى الجسر فطردوا من كان هناك من أصحاب ابن طاهر وصاروا إلى الحبس فمانعهم أبو مالك الموكّل بالمحبس الشرقي فشجّوه وجرجوا دابّتين لأصحابه فدخل داره وخلّاهم فانتهبوا ما في مجلسه. ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون فضمن للجند رزق أربعة أشهر فانصرفوا.

ووجّه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقتّ إلى ابن طاهر فوصلت إليه، ثم علم الناس بما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتزّ ووجّه ابن طاهر قوّاده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتزّ فخلع على كلّ واحد منهم أربع خلع، وظنّت العامّة أن الصلح جرى بأنّ الخليفة المستعين وانّ المعتزّ ولى عهده بعده.

فلمّا كان بعد ذلك خرج رشيد بن كاوس مع قائدين آخرين ووجّهوا إلى الأتراك بأنّه على المصير إليهم ليكون معهم فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس فخرج إليهم على أنّ الصلح قد وقع فسلّم عليهم وعانق من عرف منهم وأخذوا بلجام دابّته ومضوا به وبابنه في إثره. فلمّا كان من الغد صار رشيد إلى باب الشمّاسية وقال حين كلّم الناس:

« إنّ أمير المؤمنين وأبا أحمد يقرءان عليكم السلام ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قرّبناه ووصلناه ومن أبي ذلك فهو أعلم. » فشتمه العامّة ثم طاف على جميع الأبواب الشرقية بمثل ذلك وهو يشتم في كلّ باب [ ويشتم ] المعتزّ. فلمّا فعل رشيد ذلك علمت العامّة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحيال دار ابن طاهر فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم صاروا إلى بابه ففعلوا مثل ذلك. فخرج إليهم راغب الخادم فحضّهم على ما فعلوا بالمستعين ثم مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش فحضّهم، فصاروا إلى باب ابن طاهر فكشفوا من عليه وردّوهم فلم يبرحوا وقاتلوهم حتى صاروا إلى دهليزه وأرادوا حرق الباب الداخل فلم يجدوا نارا وقد كانوا بالجزيرة الليل كلّه يشتمونه ويتناولونه بالقبيح.

فذكر عن ابن شجاع البلخي قال: كنت عند الأمير ويحدّثني ويسمع ما يقذف به من كلّ إنسان حتى ذكروا اسم أمّه. فضحك ثم قال:

« يا با عبد الله والله ما أدري كيف عرفوا اسم أمي. ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها » فقلت له:

« أيّها الأمير ما رأيت أوسع من حلمك. » فقال لي:

« ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بدّ من ذلك. » فلمّا أصبحوا وافوا الباب وصاحوا وصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطّلع عليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه.

« فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة وابن طاهر إلى جانبه. فحلف لهم بالله: ما أتّهمه وإني لفى عافية، ما عليّ منه باس وأنّه لم يخلع. » ووعدهم أن يخرج في غد وهو يوم الجمعة فيصلّى بهم ويظهر لهم.

فانصرف عامّتهم بعد قتلى وقعت.

فلمّا كان يوم الجمعة بكّر الناس بالصياح يطلبون المستعين وانتهبوا دوابّ عليّ بن جهشيار وجميع ما كان في منزله وهرب ولم يزل الناس وقوفا إلى أن ارتفع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما وقوّادهما ومواليهما وأخوال المستعين، فصاروا مع الناس جميعا إلى الباب فدخل وصيف وبغا في خاصّتهما ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز فوقفوا على دوابّهم وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال فأذن لهم فأبوا وقالوا:

« ليس هذا يوم نزول عن ظهور دوابّنا إلّا بعد أن نعرف نحن والعامّة حقيقة أمرنا. » فلم تزل الرسل تختلف إليهم وهم يأبون. فخرج إليهم محمد بن عبد الله بنفسه وسألهم النزول والدخول إلى المستعين فأعلموه أنّ العامّة قد ضجّت ممّا يبلغها وصحّ عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتزّ وإرادتك التهويل ليصير الأمر إليه وإدخال الأتراك والمغاربة بغداد فيحكموا فيهم بحكمه واستراب بك أهل بغداد واتّهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذّبوا ما بلغهم فيه. فلمّا تبيّن محمد بن عبد الله ذلك الأمر ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجّتهم سأل المستعين الخروج إليهم فخرج إلى دار العامّة التي كان يدخلها جميع الناس فنصب له فيها كرسيّ وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه.

ثم خرجوا إلى من وراءهم فأعلموهم صحّته فلم يقنعوا بذلك وعرف ابن طاهر كثرة الناس وأنّهم لا يسكنون فأمر بإغلاق باب الحديد الخارج فأغلق وصار هو وأخواله ومحمد بن موسى المنجّم وغيرهم إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامّة وخزائن السلاح. ثم نصبت لهم سلاليم على سطوح المسجد الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد وفوق السواد بردة النّبى ومعه القضيب وتكلّم الناس وكلّمهم وناشدهم وسألهم بحقّ صاحب هذه البردة إلّا انصرفوا، فإنّه في أمن وسلامة ولا بأس عليه من محمد بن عبد الله.

فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله، فإنّهم لا يأمنونه عليه. فأعلمهم أنّه على النقلة منها إلى دار عمّته أمّ حبيب بنت الرشيد بعد أن يصلح له ما ينبغي، وبعد أن تحوّل أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له في دار محمد. فانصرف الناس وسكن أهل بغداد.

ولمّا فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرّة بعد مرّة وإسماعهم إيّاه المكروه وتقدّم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنهم وأشيع أنّه يقصد المدائن، فاجتمع إلى بابه مشايخ الحربية والأرباض يعتذرون إليه ويسألونه الصفح ويذكرون أنّ ذلك كان من فعل الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا عليها من الضرّ. فردّ عليهم ردّا جميلا وأثنى عليهم وصفح عمّا كان منهم وتقدّم إليهم بالتقدّم إلى شبابهم وسفهاءهم والأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة وكتب إلى أصحاب المعاون بترك التسخير.

وانتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله وصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة فوصل إليها مساء فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكلّ فارس وللراجل بخمسة دنانير لكلّ واحد، وركب بركوب المستعين ابن طاهر وبيده الحربة يسير بها بين يديه والقواد خلفه، وأقام مع المستعين ليلة ثم انصرف، ولمّا انتقل المستعين اجتمع الناس والقوّاد وبنو هاشم للمصير إلى ابن طاهر والتسليم عليه وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة. فصاروا إليه وحضر الضحى الأكبر من ذلك اليوم، فركب ابن طاهر وجميع قوّاده في تعبئة وحوله ناشبة رجّالة. فلمّا خرج من داره وقف الناس فعاتبهم ثم حلف لهم أنّه ما أضمر لأمير المؤمنين أعزّه الله ولا لولد له ولا لأحد من الناس سوءا وأنّه ما يريد إلّا إصلاح أحوالهم وما تدوم به النعمة عليهم وأنّهم قد توهّموا عليه ما لم يعرفه حتى أبكى عيون الناس فدعوا له.

ثم ركب وعبر الجسر فصار إلى المستعين.

وذكر أنّ المستعين كان كارها للنقلة عن دار محمد بن عبد الله ولكنّه انتقل من أجل أنّ الناس ركبوا الزواريق بالنفّاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليه فتح الباب وكان يسمع دائما شتم الناس له وتناولهم عرضه بالقبيح. ثم إنّ قوما وقفوا بباب الشمّاسية من قبل أبي أحمد فطلبوا ابن طاهر ليكلّموه. فكتب صالح إلى وصيف يعلمه خبر القوم ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فردّ المستعين الأمر فيه إليه وقال:

« إنّ التدبير في جميع أموره مردود إليه. » فتقدّم فيه محمد بما رأى.

ولم يزل بعد ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبد الله بن يحيى يفتلون في الذروة والغارب ويشيرون على محمد بالصلح. فذكر قوم أنّهم سألوا سعيد بن حميد بعد ذلك بدهر وقالوا:

« ما ينبغي أن يكون محمد إلّا مداهنا وأنّه كان انطوى على غلّ في أوّل أمره. » فقال: « وددت أنّه كان كذلك، لا والله ما هو إلّا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى توالت الهزائم عليه. » فأجاب القوم بعد أن كان قد جادّهم.

وحكى أحمد بن يحيى النحوي وكان يؤدّب ولد ابن طاهر: أنّ محمد بن عبد الله لم يزل جادّا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبد الله بن يحيى بن خاقان، فقال له:

« أطال الله بقاءك، إنّ هذا الذي تنصره بجدك وجهدك من أشدّ الناس نفاقا وأخبثهم دينا. والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك فاستعظما ذلك ولم يفعلاه فإن شككت في ذلك فسل تخبر، ومن ظاهر نفاقه أنّه كان بسرّ من رأي لا يجهر في صلاته ب: بسم الله الرحمن الرحيم، فلمّا صار إليك جهر بها مراءاة لك، ويترك نصرة وليّك وتربيتك وصهرك. » ونحو ذلك من الكلام.

فقال محمد بن عبد الله:

« هذا ما يصلح لدين ولا لدنيا. » فكان أوّل ما صدّ محمدا عن الجدّ في أمر المستعين. ثم ظاهر عبد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد حتى صرفوه عن رأيه في نصرة المستعين.

وركب محمد بن عبد الله يوما إلى المستعين وحضر عدّة من الفقهاء والقضاة. فقال للمستعين:

« قد كنت فارقتني على أن تنفذ أمري في كلّ ما أعزم عليه، ولك عندي بخطّك رقعة بذلك. » فقال المستعين:

« أحضر الرقعة. » فأحضرها فإذا فيها ذكر الصلح وليس فيها ذكر الخلع. فقال:

« نعم أنفذ الصلح. » فقام ابن الجبلي فقال:

« يا أمير المؤمنين إنّه يسألك أن تخلع قميصا قمّصكه والله عز وجل. » وتكلّم قوم وتكلّم عليّ بن يحيى المنجّم فأغلظ لمحمد بن عبد الله فاحتمله ثم ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشمّاسية مضرب كبير أحمر وخرج مع مائتي فارس ومائتي راجل إلى المضرب، وجاءه أبو أحمد فخرج إليه ودخل معه المضرب ووقف الجند الذين مع كلّ واحد منهما ناحية. فتناظر ابن طاهر وأبوه أحمد طويلا ثم خرجا من المضرب وانصرف ابن طاهر إلى داره في زلال. ثم ركب من داره ومضى إلى المستعين يخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، فأقام عنده إلى العصر ثم انصرف.

فحكى أنّه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار ويقطع غلّة ثلاثين ألف دينار في السنة على أن يكون مقامه ببغداد حتى يحمل له مال يعطى الجند وعلى أن يولى بغا مكّة والمدينة والحجاز ووصيف الجبل، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك.

ثم ركب ابن طاهر في ذي الحجّة من هذه السنة ليناظره في الخلع، فناظره فامتنع عليه، وظنّ المستعين أنّ بغا ووصيفا معه فكاشفاه. فقال المستعين:

« هذه عنقي والسيف [ والنطع ]. » فلمّا رأى امتناعه انصرف عنه.

وبعث المستعين إلى ابن طاهر بعليّ بن يحيى وقوم من ثقاته وقال لهم:

« قولوا: اتّق الله إنّما جئتك لتدفع عني فإن لم تدفع عني فكفّ عني. » فردّ عليه:

« أمّا أنا فأقعد في بيتي ولكن لا بدّ لك من خلعها طائعا أو مكرها. » وذكر عن عليّ بن يحيى أنّه قال:

« قل له إن خلعتها فلا بأس عليها فو الله لقد تمزّقت تمزّقا لا ترقع أبدا وما تركت فيها فضلا. »

إجابة المستعين إلى الخلع

فلمّا رأى المستعين ضعف أمره ولم يجد ناصرا أجاب إلى الخلع على شريطة أشياء سألها. ولم يقنع المستعين إلّا بخروج ابن كردية إلى المعتزّ وهو من ولد المنصور وجماعة معه من ثقاته، وكان في شروطه أن ينزل مدينة الرسول   وأن يكون مضطربه من مكّة إلى المدينة ومن مدينة إلى مكّة. فأجابه إلى ذلك. وكان سبب استجابة المستعين إلى الخلع أنّ وصيفا وبغا وابن طاهر أشاروا عليه بذلك فأغلظ لهم، فقال له وصيف:

« أنت أمرتنا بقتل باغر فصرنا إلى ما نحن فيه وأنت عرّضتنا لقتل أوتامش وقلت إنّ محمدا ليس بناصح فاقتلوه. » فقال محمد:

« وقد قلت إنّ الأمر لا يصلح إلّا بالاستراحة من هذين. » فلمّا اجتمعت كلمتهم أذعن بالخلع.

ولمّا كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجّة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، فأدخلهم إلى المستعين فوجا فوجا وأشهدهم عليه أنّه قد صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثم أدخل البوّابين والخدم وأخذ منه جوهر الخلافة وأقام عنده حتى مضى هوّى من الليل وأرجف الناس ضروب الأراجيف. ثم بعث ابن طاهر إلى قوّاده فجاء كلّ قائد ومعه عشرة من وجوه أصحابه فأدخلهم إليه ومنّاهم وقال:

« إنّما فعلت ما فعلت طلب صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء. » ثم أخرج قوما ثقات إلى المعتزّ، فمضوا إليه بالكتاب الذي فيه شروط المستعين ومحمد، فوقّع فيه المعتزّ بخطّه وأمضى كلّ ما سألاه وشهدوا عليه بإقراره لهما بذلك كلّه، وخلع المعتزّ على الرسل ولم ينظر لهم في حاجة ولا أطلق لهم جائزة ولم يأمر للجند بشيء.

وحمل إلى المستعين أمّه وابناه وعياله، بعد ما فتّش عياله، فأخذ منهم ما كان معهم.

خلافة المعتز

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين

وفيها خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة وبايع المعتزّ محمد بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم فدعى للمعتزّ على منبري بغداد ومسجدى جانبيها الشرقي والغربي، وأخذت البيعة على من كان بها من الجند.

فذكر أنّ ابن طاهر دخل على المستعين، ومعه سعيد بن حميد، حين كتب شروط الأمان فقال له:

« يا أمير المؤمنين قد كتب سعيد بن حميد كتاب الشرط ووكّده غاية التوكيد فيقرأه عليك وتسمعه. » فقال له المستعين:

« لا عليك إلّا توكّده يا با العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، وقد وكّدت على نفسك قبلهم، فكان ما قد علمت. » فما ردّ عليه محمد شيئا.

ولمّا بايع المستعين المعتزّ نقل من الرّصافة إلى قصر الحسن ووكّل به وأخذ منه البردة والخاتم والقضيب ووجّه بها مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه كتابا من محمد، نسخته:

« بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله متمّم النعم والهادي إلى شكره وصلّى الله على محمد عبده ورسوله الذي جمع له من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصّه بخلافته وسلّم تسليما. كتابي إلى أمير المؤمنين، وقد تمّم الله له أمره وتسلّمت تراث رسول الله ممّن كان عنده وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده. » ومنع المستعين الخروج إلى مكّة فاختار البصرة فنزلها.

واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل وخلع عليه ووضع على رأسه تاجا، وشخص أبو أحمد إلى سرّ من رأى من معسكره وشيّعه محمد بن عبد الله، وخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا ورجع من الروذبار.

ولمّا وصل أبو أحمد إلى سرّ من رأى خلع عليه ستّ خلع وسيف وتوّج بتاج وقلنسوة مجوهرة ووشّح بوشاحى ذهب مجوهر وقلّد سيفا آخر مرصّعا بالجوهر وأجلس على كرسيّ وخلع على القوّاد الذين كانوا معه.

وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله أن يسقط وصيف وبغا ومن برسمهما من الدواوين. وتكلّم أبو أحمد بن المتوكّل في قتلهما وخاطب محمد بن أبي عون في ذلك فوعده بقتلهما، فكوتب وصيف وبغا بالخبر فركبا إلى ابن طاهر وقالا:

« قد بلغنا أيّها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا والقوم قد غدروا، وو الله لو أرادوا قتلنا ما قدروا عليه. »

فحلف محمد لهما أنّه ما علم بشيء من ذلك. وتكلّم بغا بكلام شديد ووصيف يكفّه. ثم نهضا وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفرقة الأموال.

وكان وصيف وجّه أخته فأخرجت من قصر أخيها وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه. فدفعتها إلى المؤيّد فكلّم المؤيّد المعتزّ في الرضا عن وصيف، فكتب بالرضا عنه.

وتكلّم أبو أحمد في الرضا عن بغا. ثم اجتمع الأتراك على المعتزّ فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا:

« هما كبيرانا ورئيسانا. » فكتب إليهما بذلك، فلمّا صار إلى سرّ من رأى اجتمع الموالي، وسألوا ردّهما إلى مراتبهما، فأجيبوا الى ذلك وبعث إليهما فخلع عليهما خلع المرتبة ورتّبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد وأمر بردّ ضياعهما.

وفي هذه السنة شغب الجند على محمد بن عبد الله بن طاهر، وطالبوا بأرزاقهم وعظم الخطب في ذلك حتى خرجوا إلى باب حرب وباب الشمّاسية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا المضارب والخيم، وبنوا بيوتا من بواريّ وقصب، وجمع ابن طاهر أصحابه فبيّتهم في داره.

فلمّا كان يوم الجمعة اجتمعوا وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى المسجد الجامع فيمنعوه من الدعاء للمعتزّ. فأعلمهم جعفر أنّه لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه وصاروا إلى الشارع النافذ إلى دار الرقيق ثم قصدوا الجسر.

فوجّه إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جماعة من القوّاد والجند ليناظروهم ويدفعوهم دفعا رفيقا. فحملوا عليهم وجرحوا منهم جماعة وجرحوا أبا السنا وكبّروا وصاروا إلى دار ابن طاهر فقوتلوا، وقتل من الفريقين جماعة.

وصار جماعة من الغوغاء إلى مجلس الشرطة، فكسروا بيت الرفوع وانتهبوا ما فيه، وكان هناك أصناف من المتاع، كبير جليل، وأحرق محمد بن طاهر الجسرين لمّا رأى الجند يعبرون وقد ظهروا على أصحابه وضرب عدّة من الحوانيت بالنار للتجّار فيها متاع كثير لهم، فحالت النار بين الفريقين، وانصرف القوم إلى مضاربهم بباب حرب والشمّاسية. وانضمّ إلى ابن طاهر جماعة وعاد إليه قوم من المشغّبة وعبّأهم تعبئة الحروب خوفا من كثرة الجند، فلم تكن لهم عودة، وتلطّف القوّاد في التضريب بينهم، حتى تفرّقوا وصاروا إلى منازلهم.

خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد

وفي رجب من هذه السنة خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد بعده.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ عامل أرمينية وأذربيجان، وهو العلاء بن أحمد، بعث إلى إبراهيم بن المتوكّل المؤيّد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره.

فبعث ابن فرّخان شاه إليها فأخذها. فأغرى المؤيّد الأتراك بعيسى بن فرّخانشاه، فشكا ذلك إلى المعتزّ وعرّفه الحال.

فبعث المعتزّ إلى أخويه المؤيّد وأبي أحمد فحبسهما في الجوسق، وقيّد المؤيّد وصيّره في حجرة ضيّقة وأدرّ العطاء للأتراك والمغاربة وحبس كنجور صاحب المؤيّد، وتوفّى إبراهيم المؤيّد.

ذكر سبب وفاة المؤيد

ذكر أنّ امرأة من نساء الأتراك جاءت إلى محمد بن راشد المغربيّ، فأخبرته أنّ الأتراك يريدون إخراج المؤيّد من الحبس فركب محمد بن راشد إلى المعتزّ، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا وسأله فأنكر وقال:

« يا أمير المؤمنين إنّما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكّل لأنسهم كان به في الحرب التي كانت، فأمّا المؤيّد فلا. » فلمّا كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب، دعا بالقضاة والفقهاء والوجوه فأخرج إليهم إبراهيم المؤيّد ميتا لا أثر به ولا جرح. فذكر أنّه أدرج في لحاف سمّور، ثم أمسك طرفاه حتى مات. وقيل: إنّه أجلس على الثلج ونضّدت حجارة الثلج عليه، فجمد بردا.

وفي شوال منها قتل المستعين

ذكر السبب في قتله

اختلف في قتله. فقال قوم: كوتب محمد بن عبد الله بتسليم المستعين إلى منصور بن حمزة وهو على واسط، ثم وجّه أحمد بن طولون التركيّ في جيش فوافى به القاطول. وقيل بل كان أحمد بن طولون موكّلا بالمستعين، فوجّه سعيد بن صالح في حمله فصار إليه سعيد فحمله. فيقال: إنّه قتله سعيد بالقاطول. ويقال: بل حمله سعيد إلى منزله بسرّ من رأى فعذّبه حتى مات. ويقال: بل غرّقه، ويقال: بل قتله. وأتى المعتزّ برأسه وهو يلعب بالشطرنج فقيل:

« هذا رأس المخلوع. » فقال: « ضعوه هناك. » ثم فرغ من لعبه فدعا به فنظر إليه ثم أمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسة آلاف درهم وولّاه معونة البصرة.

وفي هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة

ذكر السبب في ذلك

كانت الأتراك وثبت على عيسى بن فرّخانشاه فتناولوه بالضرب وأخذوا دوابّه. فاجتمعت المغاربة وتكلّمت ورئيسهم محمد بن راشد ونصر بن سعيد.

فقالوا:

« في كلّ يوم تقتلون خليفة وتخلعون خليفة وتقتلون وزيرا وتثبون بآخر. » فغلبوا الأتراك على الجوسق وأخرجوهم منه. ثم وثبوا على بيت المال، وأخذوا دوابّ للأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم. فالتقوا مع المغاربة وتقاتلوا، فقتل من المغاربة رجل واحد وأخذت المغاربة قاتله وأعانت العامّة المغاربة. فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين فاصطلحوا على أن يكون في كلّ موضع يكون فيه واحد من قبل أحد الفريقين يكون معه آخر من الفريق الآخر. فمكثوا على ذلك مدة مديدة ثم اجتمع الأتراك إلى بايكباك فقالوا:

« نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فليس ينطق أحد. » يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد. فبلغ أمر الأتراك هذين، فصارا إلى محمد بن عزّون فغمز بهما إلى بايكباك رجل، وقيل: بل كان ابن عزّون هو الذي دسّ إلى الأتراك من دلّهم عليها فقتلوهما. وبلغ ذلك المعتزّ من فعل ابن عزّون، فهمّ بقتله. ثم كلّم فيه فنفاه إلى بغداد ثم خاف فخرج إلى ضيعة له بالكوفة لها حصن. فوافاه فيها الأعراب فقتلوه.

وذكر أنّ أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدّرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار وذلك خراج المملكة لسنتين.

ودخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين

وفيها عقد المعتزّ في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل لحرب عبد العزيز بن أبي دلف، ومع موسى يومئذ من الأتراك ومن يجرى مجراهم ألفان وأربعمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائة وثلاثون رجلا. فأوقع مفلح - وهو على مقدّمة موسى بن بغا - بعبد العزيز بن أبي دلف لثمان بقين من رجب من هذه السنة، وعبد العزيز في زهاء عشرين ألفا. وكانت الوقعة بينهما خارج همذان، فهزمه مفلح ثلاث فراسخ يقتلون ويأسرون. ثم رجع مفلح موفورا بمن معه وكتب بالفتح.

فلمّا كان في شهر رمضان عبّأ مفلح خيله وتوجّه نحو الكرج، ووجّه عبد العزيز عسكرا في أربعة آلاف. وكمن مفلح كمينين، فقاتلهم مفلح وخرج الكمينان فانهزم أصحاب عبد العزيز ووضع فيهم السيف. وأقبل عبد العزيز في جيش ليعين أصحابه، فانهزم بانهزامهم وترك الكرج ومضى إلى قلعة له في جبل الكرج يقال لها: الزر، ونزل مفلح الكرج وأخذ جماعة من آل أبي دلف ونساء من نساءهم. فذكر أنّه وجّه سبعين حملا من الرؤوس إلى سرّ من رأى، وأعلاما كثيرة.

وفي هذه السنة قتل وصيف التركيّ

ذكر الخبر عن ذلك

كان الأتراك والفراغنة شغّبوا. وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر. فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشاربى في نحو مائة إنسان، فكلّمهم وصيف وقال:

« ما تريدون. » قالوا: « أرزاقنا. » فقال: « خذوا ترابا، وهل عندنا مال؟ » فقال لهم بغا:

« نعم نسأل أمير المؤمنين ذلك، ثم ينصرف عنكم من ليس منكم، ونتناظر في دار أشناس. » فدخلوا إلى أشناس، ومضى سيما منصرفا إلى سرّ من رأى وتبعه بغا لاستئمار الخليفة في إعطاءهم، وصار وصيف في أيديهم. فضرب ضربتين بالسيف واحتمله نوشرى وهو أحد قوّاده إلى منزله، ثم أبطأ عليهم. فظنّوا أنّه في التعبئة عليهم وقصدهم. فاستخرجوه من منزل نوشرى وضربوه بالطبرزينات حتى كسروا عضديه. ثم ضربوا عنقه ونصبوا رأسه على محراك تنّور، وقصدت العامّة بسرّ من رأي لانتهاب منازل وصيف وولده، فرجع بنو وصيف فمنعوا منازلهم.

وجعل المعتزّ ما كان إليه، إلى بغا الشرابي.

وفي هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر، ليلة كسوف القمر، وذلك لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة، غرق القمر كلّه، ومات محمد مع انتهاء غرقه. وكانت علّته من قروح ذبحته في حلقه.

انهزام الكوكبي

وفيها لقي موسى بن بغا بقزوين الكوكبيّ الطالبيّ على فرسخ من قزوين، فهزمه، ولحق الكوكبي بالديلم.

ذكر الخبر عن ذلك

كان أصحاب الكوكبي من الديلم أقاموا تراسهم في وجوههم. فلمّا نظر موسى ورأى سهام أصحابه لا تصل إليها أمر بما معه من النفط، فصبّ في الأرض على حشيش كان هناك. ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم. فلمّا فعلوا ذلك ظنّ الكوكبي وأصحابه أنّهم قد انهزموا فتبعوهم، فلمّا علم موسى أنّهم قد توسّطوا النفط أمر بالنار فأشعلت فأحدقت النار فيه، وخرجت من تحت أقدامهم، فجعلت تحرقهم وهرب الباقون، فصارت هزيمة، ودخل موسى قزوين.

ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين

وفيها كان مقتل بغا الشرابيّ.

ذكر مقتل بغا الشرابي

كان بغا يحضّ المعتزّ على المصير إلى بغداد والمعتزّ يأبى ذلك. ثم انّ بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصّته لعرس جمعة بنت بغا وكان صالح بن وصيف تزوّجها. فركب المعتزّ ليلا ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سرّ من رأى يريد بايكباك ومن كان على رأيه في الانحراف عن بغا مستخفيا منه.

فلمّا وافى المعتزّ بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ والدور، ثم أقبلوا مع المعتزّ إلى الجوسق بسرّ من رأى، وبلغ ذلك بغا فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقوّاده. فصار إلى نهر نيزك ثم تنقّل إلى مواضع، ثم صار إلى السنّ ومعه من العين تسع عشرة بدرة ومائة بدرة دراهم أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها يسيرا إلى أن قتل.

ولمّا بلغه أنّ المعتزّ قد صار إلى الكرخ مع أحمد بن إسرائيل، خرج في خاصّته إلى تلّ عكبر، ثم مضى إلى السنّ فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنّهم لم يخرجوا معهم مضارب ولا ما يتدثّرون به من البرد وإنّهم في شتاء. وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة فكان يكون فيه، فأتاه أساتكين فقال:

« أصلح الله الأمير، قد تكلّم أهل العسكر وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك. » فقال: « كلّهم يقولون مثل قولك؟ » قال: « نعم وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي. »

قال: « دعني حتى أنظر ويخرج إليكم أمري بالغداة. » فلمّا جنّه الليل دعا بزورق فركبه مع خادمين معه وحمل معه شيئا من المال ولم يحمل معه سلاحا ولا سكّينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتزّ في غيبة بغا لا ينام إلّا في ثيابه وعليه السلاح ولا يشرب نبيذا وجميع جواريه على رجل. فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأوّل. فلمّا قرب الزورق من الجسر بعث الموكلون به من ينظر من في الزورق. ثم صاحوا بالغلام فرجع إليهم وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدّة منهم، فوقف لهم وقال:

« أنا بغا. » ولحقه وليد المغربيّ فقال له:

« ما لك جعلت فداك؟ » قال: « إمّا أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف وإمّا أن تصيروا معي حتى أحسن إليكم. » فوكّل به وليد المغربي، ثم مرّ يركض إلى الجوسق فاستأذن على المعتزّ، فأذن له فقال:

« يا سيدي هذا بغا قد أخذته وقد وكّلت به. » قال: « ويلك جئني برأسه. » فرجع الوليد إليه فقال للموكّلين:

« تنحّوا عني حتى أبلغه الرسالة. » وضربه ضربة على جبهته ثم على يده فقطعها. ثم ضربه حتى صرعه وذبحه وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتزّ، فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه.

ونصب رأس بغا بسرّ من رأى ثم ببغداد، ووثبت العامّة على جسده فأحرقوه بالنار.

وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد جعل مكان محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّته، فتتبع بنيه وكانوا صاروا إليها هرّابا مع قوم يثقون بهم.

فأثارهم وحبس قوما في المطبق وقوما في قصر الذهب، وكان سبب انحدار بغا إلى سرّ من رأى مستترا أنّه أشير عليه أن يصير إلى دار صالح بن وصيف، فإذا قرب العيد دخل أهل العسكر وخرج هو وأصحابه فوثبوا بالمعتزّ.

وفي هذه السنة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلى بتوجيه والده عبد العزيز إيّاه، فجبى منها ومن جنديسابور وتستر مائتي ألف دينار وانصرف.

ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين

وفيها دخل مفلح طبرستان وواقع الحسن بن زيد الطالبيّ، فهزم مفلح الحسن فلحق بالديلم في طلب الحسن بن زيد.

وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس

وفيها كانت بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس وقعة خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ عليّ بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان، وكان قبل من عمّال آل طاهر، ثم كتب إلى السلطان يذكر ضعف آل طاهر وقلّة ضبطهم ما إليهم من البلاد، وأنّ يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس.

فكتب السلطان إليه بولايته كرمان وكتب أيضا إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كلّ واحد منهما بصاحبه لتسقط مؤونة الهالك منهما عنه ويتفرّد بمؤونة الآخر، إذ كان كلّ واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته. فلمّا فعل ذلك بهما زحف يعقوب من سجستان يريد كرمان ووجّه عليّ بن الحسين طوق بن المغلّس وقد بلغه خبر يعقوب وفصوله من سجستان.

فصار من كرمان على مرحلة وبقي في معسكره ذلك شهرا أو أكثر يتجسّس أخبار طوق ويسأل عن أمره كلّ من مرّ به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز بعسكره من ناحيته إلى كرمان. فلا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق.

ثم أظهر يعقوب الارتحال عن عسكره إلى ناحية سجستان فارتحل عنه مرحلة وبلغ طوقا ارتحاله. فظنّ أنّه قد بدا له في حربه وترك عليه كرمان وعلى عليّ بن الحسين، فوضع آلة الحرب وقصّر وقعد للشرب ودعا بالملاهي ويعقوب في كلّ ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره. فاتّصل به وضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشرب واللهو لارتحاله، فكرّ راجعا وطوى المرحلتين إليه في يوم واحد فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر يومه إلّا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان.

فقال لأهل القرية:

« ما هذه الغبرة. » فقيل: « هذه غبرة مواشى أهل القرية منصرفة إلى أهلها. » ثم لم يكن إلّا كلّا ولا حتى وافاه يعقوب في أصحابه فأحاط به وبأصحابه. فذهب أصحاب طوق لمّا أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم.

فقال يعقوب لأصحابه:

« أفرجوا عن القوم. » فأفرجوا لهم فمرّوا هاربين على وجوههم وخلّوا كلّ شيء لهم، وأسر يعقوب طوقا. وكان عليّ بن الحسين وجّه طوقا وحمّله صناديق في بعضها أطوقة وأسورة وفي بعضها أموال وفي بعضها قيود وأغلال ليطوّق ويجوّز ويسوّر من أبلى وأحسن وليقيّد من أسر وأخذ من أصحاب يعقوب.

فلمّا أسر يعقوب طوقا ورؤساء جيشه أمر بحيازة كلّ من كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كلّه وجمع إليه.

فلمّا أتى بالصناديق أمر بفتح بعضها فإذا فيه قيود وأغلال فقال لطوق:

« يا طوق ما هذه القيود والأغلال؟ » قال: « حمّلنيها عليّ بن الحسين على رسم العساكر لأقيّد بها الأسرى وأغلّهم. » فقال يعقوب: « يا فلان اجعل أكبرها وأثقلها في رجل طوق وعنقه، والباقية في أرجل أصحابه وأعناقهم. » ولم يزل يفتح الباقية من الصناديق حتى فتحت صناديق الأطواق والأسورة فقال: « يا طوق ما هذه؟ »

قال: « حمّلنيها عليّ لأطوّق وأسوّر أهل البلاء والإحسان. » فقال: « يا فلان خذ هذه الأطواق والأسورة فطوّق فلانا وسوّره، وفلانا وفلانا. » حتى فرّق تلك الأطواق كلّها ثم نظر إلى ذراع طوق وعليها عصابة فقال:

« يا طوق ما هذا؟ » قال: « أصلح الله الأمير، كنت وجدت حرارة ففصدت. » فدعا يعقوب بعض من معه فأمر بمدّ خفّه، فتناثر من خفّه كسر خبز يابسة فقال:

« يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلي منذ شهر وكسر خبزى في خفّى، ما وطأت فراشي ولا تودعت وأنت جالس في الشرب والملاهي.

أ فبهذا التدبير أردت حربى وقتالي. » ثم دخل يعقوب كرمان فحازها وصارت من عمله مع سجستان.

دخول يعقوب بن الليث فارس

وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس فملكها وأسر عليّ بن الحسين بن قريش.

ذكر الخبر عن ذلك

ورد على عليّ بن الحسين خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق بن المغلّس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها ورجع أهل الفلّ. فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس وعليّ يومئذ بشيراز من أرض فارس. فضمّ إليه جيشه والفلّ وغيرهم وأعطاهم السلاح ثم برز من شيراز فصار إلى الكرّ خارج شيراز بين آخر طرقه عرضا ممّا يلي أرض شيراز وبين عرض جبل بها من الفضاء، قدر ممرّ رجل أو دابّة، لا يمكن أن يمرّ فيه أكثر من واحد من ضيقه. فأقام في ذلك الموضع وضرب عسكره على شاطئ الكرّ ممّا يلي شيراز، وأخرج معه السوقة والتجّار من مدينة شيراز إلى معسكره وقال:

« إن جاء يعقوب لم يجد موضعا يجوز فيه الفلاة إلينا لأنّه لا طريق له إلّا ذلك الفضاء الذي بين الجبل والكرّ وإنّما هو ممرّ رجل إذا قام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه وإذا لم يقدر أن يجوز إلينا بقي في البرّ بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابّهم. » فأقبل يعقوب حتى قرب من الكرّ، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو ميل من الكرّ ممّا يلي كرمان. ثم أقبل هو وحده بيده رمح عشاري، ما معه إلّا رجل واحد. فنظر إلى الكرّ والجبل والطريق، وتأمّل عسكر عليّ بن الحسين، فجعل أصحاب عليّ يشتمونه ويقولون:

« لنردنّك إلى تشعيب القماقم والمراجل يا صفّار. » وهو ساكت لا يردّ عليهم شيئا. فلمّا تأمّل كلّ ما أراد ورآه انصرف راجعا إلى أصحابه. فلمّا كان من الغد عند الظهر أقبل بعسكره ورجاله حتى صار إلى شاطئ الكرّ ممّا يلي برّ كرمان فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابّهم وحطّوا أثقالهم.

ثم فتح صندوقا كان معه والناس ينظرون إليه فأخرجوا منه كلبا ذئبيّا، ثم ركبوا دوابّهم أعراء وأخذوا رماحهم بأيديهم. قال: وقيل ذلك ما قد عبّأ عليّ بن الحسين أصحابه وأقاموا صفوفا على الممرّ الذي بين الجبل والكرّ، وهم يرون أنّه لا سبيل ليعقوب ولا طريق له يمكنه أن يحوزه غيره، ثم جاءوا بالكلب فرموا به في الكرّ وأصحاب عليّ ينظرون إليه ويضحكون منه ومنهم.

فلمّا رموا بالكلب فيه جعل الكلب يسبح في الماء إلى جانب عسكر عليّ بن الحسين، واقتحم أصحاب يعقوب دوابّهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم يسيرون في أثر الكلب. فلمّا رأى عليّ بن الحسين أنّ يعقوب قد قطع عامّة الكرّ إليه انتقض عليه تدبيره وتحيّر في أمره. ولم يلبث أصحاب يعقوب إلّا أيسر ذلك حتى خرجوا من الكرّ من وراء أصحاب عليّ بن الحسين. فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتى هرب أصحاب عليّ يطلبون الهرب إلى مدينة شيراز. لأنّهم كانوا إذا خرج أصحاب يعقوب من الكرّ بين جيش يعقوب وبين الكرّ، فلا يجدون ملجأ. فلمّا أن هزموا تقطّر بعليّ دابّته فسقط إلى الأرض، ولحقه بعض السجزية، فرفع عليه سيفه ليضربه فصاح عليه غلام لعليّ:

« الأمير، الأمير. » فنزل إليه السجزيّ فوضع عمامته في عنقه، ثم جرّه إلى يعقوب. فلمّا أتى به أمر بتقييده وأمر بما كان في عسكر عليّ من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه. ثم أقام بموضعه حتى أمسى وهجم عليه الليل.

ثم رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرّك أحد. فلمّا أصبح أنهب أصحابه دار عليّ بن الحسين ودور أصحابه، ثم نظر إلى ما اجتمع في بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج فجباه.

ثم شخص متوجّها إلى سجستان وحمل معه عليّ بن الحسين بن قريش ومن أسر معه من قوّاده.

ووجّه يعقوب بن الليث إلى المعتزّ بدوابّ وبزاة ومسك وثياب هدية.

وفيها ورد سليمان بن عبد الله بن طاهر سرّ من رأى من خراسان ودخل على المعتزّ، فخلع عليه وانصرف، ثم ولّاه شرطة بغداد والسواد.

وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وهرب أحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد، فاستخفى عند كاتب له يقال له: ابن واضح، فقيّدهم وطالبهم بالأموال.

ذكر السبب في ذلك

كان هؤلاء الكتّاب اجتمعوا على شراب لهم يوم الأربعاء. فلمّا كان من الغد ركب أحمد بن إسرائيل في جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة أمّ المعتزّ وهو كاتبها. وحضر أبو نوح الدار والمعتزّ نائم. فانتبه قريبا من نصف النهار وأذن لهم. فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل في الكلام فقال للمعتزّ:

« يا أمير المؤمنين ليس للأتراك عطاء ولا في بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا. » فقال له أحمد:

« يا عاصي بن العاصي. » وتراجعا الكلام.

وكان الأتراك قد شغبوا قبل ذلك وطلبوا أرزاقهم. فقال أبو نوح لصالح عند مراجعته أحمد بن إسرائيل وقول أحمد: يا عاصي بن العاصي:

« هذا الشغب أيضا تدبيرك على الخليفة. » فغشى على صالح وسقط إلى الأرض ممّا داخله من الغيظ والغضب، حتى رشّوا على وجهه الماء وأفاق، وجرى بينهم كلام كثير وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب. فصاحوا صيحة واحدة واخترطوا سيوفهم ودخلوا على المعتزّ مصلتين فلمّا رأى ذلك المعتزّ دخل وتركهم فأخذ صالح ابن وصيف بن إسرائيل وابن مخلد وأبا نوح عيسى فقيّدهم وثقّلهم بالحديد وحملهم إلى داره.

فقال المعتزّ لصالح قبل أن يحملهم:

« هب لي أحمد، فانّه كاتبي وهو ربّانى. » فلم يفعل ذلك صالح ثم ضرب ابن إسرائيل حتى كسرت أسنانه وبطح ابن مخلد فضرب مائة مقرعة. وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل يصفع حتى جرت الدماء من محاجمه وأخذت خطوطهم بمال جليل قسّط عليهم.

وبعث المعتزّ إلى أبي عبد الله بن محمد بن يزداذ المروزي فحمل ليستوزره.

وبعثت قبيحة أمّ المعتزّ إلى صالح بن وصيف في ابن إسرائيل:

« إمّا حملته إلى المعتزّ وإمّا ركبت إليك فيه. » ثم قدم جعفر بن محمود ومال إليه الأتراك، ولم يكن للمعتزّ فيه أرب فولى الأمر والنهى.

خلع المعتز وموته

ولثلاث بقين من رجب خلع المعتزّ ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته.

ذكر سبب خلعه

لمّا جرى في أمر الكتاب وأمر الأتراك ما جرى، لم يرتفع من حصّتهم ما ظنّه الأتراك وتقاعد بهم الكتاب فصاروا إلى المعتزّ يطلبون أرزاقهم. وقال الأتراك:

« وفّنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف وينتظم أمرك. » فأرسل المعتزّ إلى أمّه يطلب منها مالا يرضى به الأتراك فقالت:

« ما عندي مال. » فلمّا نظر الأتراك إلى امتناع الكتّاب من أن يعطوهم شيئا ولم يجدوا في بيوت المال شيئا والمعتزّ وأمّه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمتهم واحدة وكلمة الفراغنة والمغاربة معهم، فاجتمعوا على خلع المعتزّ.

فصاروا إليه، فلم يرعه إلّا صياح القوم، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا أبو نصر قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتزّ. ثم بعثوا إليه:

« اخرج إلينا. » فبعث إليهم:

« إني أخذت أمس دواء وقد أخلفنى اثنى عشر مجلسا، وما أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان لا بدّ منه، فليدخل إليّ بعضكم وليعلمني. » وهو يرى أنّ أمره واقف على حاله.

فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القوّاد، فجرّوا برجله إلى باب الحجرة. قال: وأحسب أنّهم تناولوه بالضرب. فإنّه خرج وقميصه مخرّق في مواضع وآثار الدم على منكبه. فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شدّة الحرّ. فجعل يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. ثم قام بعضهم إليه وجعل يلطمه وهو يتّقى بيده.

وقالوا له:

« اخلعها. » وكان الأتراك قبل مكاشفته التمسوا منه خمسين ألف دينار ليقتلوا صالح بن وصيف ويستقيم أمره. فطلب من أمّه قبيحة هذا المقدار، فتنحّت عليه به ومنعته وقالت:

« ليس عندي مال. » ثم وجد لها من المال الصامت من العين والجوهر ثلاثة آلاف دينار سوى الآلات وسنذكر بعض ذلك في المستأنف.

وكانت قبيحة حظيّه المتوكّل، وسمّيت قبيحة لحسنها على طريق الضدّ.

ويقال: أنّه لم ير مثلها حسنا.

ثم إنّ الأتراك أحضروا ابن أبي الشوارب مع جماعة من أصحابه. فقال له صالح:

« اكتب عليه كتاب الخلع. » - يعنى المعتزّ.

فقال: « لا أحسنه. » وكان معه رجل إصبهاني فقال:

« أنا أكتب ويتخلّص الرجل. » فكتب وشهدوا عليه.

فقال ابن أبي الشوارب:

« إنّهم شهدوا على أنّ له ولأخيه ولابنه وأمّه الأمان. »

فقال صالح بكفّه:

« أى نعم. » ووكّلوا به وبأمّه نساء، وكانت أمّه قد اتخذت في الدار سربا تنفذ إلى حيث تأمن وتخرج منه، فدخلت السرب وفرّت هي وأخت المعتزّ.

ثم عذّب المعتزّ بعد الخلع، فلم يوجد له شيء. فمنعه المعذّب الطعام والشراب ثلاثة أيّام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه. ثم جصّصوا له سردابا بالجصّ الثخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميّتا.

فكانت خلافته أربع سنين وستّة أشهر وأربعة عشر يوما وكان عمره كلّه أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين، ضيّق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلا.

خلافة المهتدي بالله ابن الواثق

وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع محمد بن الواثق وسمّى المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله. ولم يقبل بيعة أحد حتى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه:

« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم وأشهدهم على نفسه في صحّة من عقله وبدنه وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه. فأخرج نفسه من الخلافة وبرّأ منها وخلع نفسه وبرّأ كلّ من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له في رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها. وأشهد على نفسه بجميع ما في هذا الكتاب جميع الشهود من حضر بعد أن قرأ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره. وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. » فوقّع المعتزّ في ذلك. أقرّ أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطّه.

وكتب محمد بن الواثق المهتدي بالله إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام، أنّ الناس قد بايعوه. وكان هناك أبو أحمد بن المتوكّل، فبعث سليمان إليه فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بالخبر، فاجتمعوا إلى باب سليمان وضجّوا فخوطبوا أنّه لم يرد علينا خبر نثق به. فانصرفوا إلى يوم الجمعة وخطبوا للمعتزّ. فلمّا كان يوم السبت اجتمعوا وهجموا على دار سليمان في داره وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكّل فأظهره لهم. ثم وعدهم أن يصير إلى محبّتهم إن تأخّر عنهم ما يحبّونه فأكّدوا عليه في حفظه وانصرفوا عنه.

ثم قدم بارجوخ ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند. فضجّ الناس ورجع بارجوخ ووقعت الفتنة والعصبية ببغداد، وقصد دار سليمان وكان قد شحنها بمن يحفظها. فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، فقتل خلق وغرق خلق. ثم وجّه إلى بغداد مال رضوا به، وبايع الناس واستقامت الأمور وسكنت الفتنة.

وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة ودلّت على الأموال التي لها والذخائر والجواهر.

ذكر سبب ظهور قبيحة

كانت قبيحة قدّرت الفتك بصالح بن وصيف وواطأت على ذلك النفر من الكبار الذين أوقع بهم صالح. فلمّا حصلوا في يد صالح وعذّبوا، علمت أنهم لا يطوون عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم به من العذاب. فأيقنت بالهلاك وكانت قد أطلعت الكتّاب على ما تبذله في قتل أولئك الأتراك فعملت في التخلّص.

فبادرت إلى صالح بن وصيف ووسّطت بينها وبينه العطّارة وكانت تثق بها وكان لها مال ببغداد. فكتبت في حمله فاستخرج وحمل قدر خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار ووقعوا على خزائن لها ببغداد، فحمل إلى السلطان منها متاع عظيم. ولم تزل خزائنها وأموالها متصلة والبيع منها دائما وحوالة الجند عليها ببغداد وسرّ من رأى عدّة شهور. ثم وقف صالح على خزانة قبيحة فأرسل إلى رجل جوهرى قال الرجل: فدخلت إليه فقال:

« إنّ لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليها هذا. فامض ومعك أحمد بن خاقان وصر إليّ معه. » قال: فمضينا إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع وجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة فدخلناها وفتّشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئا. وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان ويتهدّد الرجل ويتوعّده ويشتمه. فأخذ الرجل فأسا وجعل ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد صيّر فيه المال. فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على موضع من الحائط استدلّ بصوته على أنّ فيه شيئا. فهدمه وإذا من ورائه باب ففتحناه ودخلنا فأدّانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها.

فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط ألف ألف دينار. فأخذ أحمد ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار.

ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكّوك زمرّدا لم أر للمتوكّل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه نصف ملوك حبّا كبارا ما ظننت والله أنّ مثله يكون، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوتا أحمر لم أر مثله ولا ظننت أنّ مثله يوجد في الدنيا. فقوّمت الجميع على البيع ألفي ألف دينار، فحملناه كلّه إلى صالح. فلمّا رآه جعل لا يصدّق ولا يوقن حتى أحصى بحضرته ووقف عليه. فقال عند ذلك:

« فعل الله بها وصنع، عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها ». ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن حضر وقت الحجّ، فسيّرت إلى مكّة مع أصحاب المهتدي بالله. فحكى من سمعها في طريقها وهي تقول أتدعو الله على صالح بن وصيف بصوت:

« اللهم أخز صالح بن وصيف كما هتك سترى وقتل ولدي وبدّد شملي وأخذ مالي وغرّبنى عن بلدي وركب الفاحشة منى. » ولمّا انصرف الناس عن الموسم احتبست بمكّة.

وفي هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.

ذكر السبب في قتلهما

إنّ صالح بن وصيف لمّا استصفى أموالهما وأموال الحسن بن مخلد عذّبهم وقرّب كوانين الفحم المشعلة منهم في شدّة الحرّ ومنعهم كلّ راحة، ولم يعارضه المهتدي، وكان عبد الله بن محمد بن يزداذ يقول لصالح:

« اقتلهم فإنّهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب فضلا عمّا وترهم. » فحكى الحسن بن مخلد قال: كان داود بن أبي العبّاس الطوسي يحضرنا عند صالح بجميل فيقول:

« وما هؤلاء - أعزّك الله - حتى يبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ، فنظنّه يرفقه علينا حتى يقول، على أنّى والله أعلم أنّهم إن تخلّصوا انتشر منهم شرّ كثير وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف والله وقد أفتى بقتلنا وأشار عليه بإهلاكنا فيزداد علينا برأيه وكلامه غيظا. » ثم وكّل بأحمد بن إسرائيل وأبي نوح، عيسى أحمد بن محمد بن حمّاد دنقش فأسرف في تعذيبهما ثم أقام أحمد بن إسرائيل يضرب وابن دنقش يقول:

« أوجع. » فكان كلّ جلّاد يضربه سوطين يتنحّى، حتى وفّوه خمسمائة سوط. ثم أقاموا أبا نوح فضربوه كذلك أيضا ضرب التلف. ثم حملا على بغلين من بغال السّقائين على بطونهما منكّسة رؤوسهما ظاهرة ظهورهما للناس، فتلفا في الطريق.

وأمّا الحسن بن مخلد فتخلّص بخصلتين إحداهما أنّه صدقه عن جميع ما سأله عنه والآخر أنّ المهتدي كلّمه فيه وقال:

« لأهله حرمة وأنا أحبّ صلاح شأنه. » فنجا من بينهم.

انصراف مفلح من طبرستان

وفيها انصرف مفلح من طبرستان بعد أن كان دخلها، وأخرج الحسن بن زيد.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ قبيحة كتبت إلى موسى بن بغا - لمّا رأت من الأتراك اضطرابا وأنكرت أمرهم - تسأله القدوم إلى ما قبلها وأمّلت بوروده فرجا لها ولابنها. فعزم موسى على الانصراف إليها وكتب إلى مفلح وهو بطبرستان يأمره بالانصراف إليه وهو بالريّ. فورد عليه كتاب موسى وقد توجّه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد.

فلمّا ورد عليه الكتاب انصرف راجعا. فعظم ذلك على رؤساء طبرستان ومن كان هاربا قبل قدوم مفلح، وكانوا قد رجوا بقدومه الرجوع إلى منازلهم وأموالهم. وذلك أنّ مفلحا كان يعدهم اتّباع الحسن بن زيد حتى يظفر به أو يخترم دونه، فلمّا رأى الناس انصرافه من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم، سألوه عن السبب الذي صرفه وجعلوا يكلّمونه وهو كالمسبوت لا يجيبهم فلمّا أكثروا عليه قال لهم:

« ورد عليّ كتاب موسى بعزيمة منه أن لا أضع كتابه من يدي حتى أقبل إليه، وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير. » ولم يتهيّأ لموسى الشخوص من الريّ إلى سرّ من رأى حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدي بعده بالأمر. ففثاه ذلك عمّا عزم عليه من الشخوص، لفوت ما كان قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. ثم إنّ الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتّاب وأسباب المعتزّ والمتوكّل، فحسدوا المقيمين بسرّ من رأى.

فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سرّ من رأى. فأمر موسى أن يستخرج من أهل الري خراج سنة ستّ وخمسين ومائتين. فأصبح الخراج في شهر رمضان فجبى في يوم واحد خمسمائة ألف درهم فاجتمع أهل الريّ وقالوا:

« أصلح الله الأمير ما سبب انصرافك عن هذا الثغر؟ » فقال: « إنّ الجند والموالي أبوا أن يقيموا، وإذا انصرفوا فما أقلّ غنائى عنكم. » فقالوا: « أصلح الله الأمير. إنّ الموالي يرجعون لما يقدّرون هناك من كثرة العطاء وأنت وأصحابك ها هنا في أكثر وأوسع ممّا فيه أولئك هناك. فإن رأيت أن تقيم وتسدّ هذا الثغر وتحتسب في أهله الأجر والثواب وتلزمنا من خراجنا في خاصّ أموالنا لمن معك ما ترى أنّنا نحتمله فعلت. » فلم يجبهم إلى ما سألوا.

فقالوا: « أصلح الله الأمير فإذا كان الأمير على تركنا والانصراف عنّا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبدأ بعمارتها بعد، وأكثر غلّة سنة خمس وخمسين التي قد استوفى الأمير خراجها منا في الصحراء لا يمكننا الوصول إليها، إن خرج الأمير عنّا. » فلم يلتفت إلى كلامهم وخرج.

واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبا كثيرة فلم يؤثّر شيئا. فلمّا نظر المهتدي أنّ موسى يسير ويخلّ بموضعه وأنّ كتبه إليه لا تعنى شيئا، وجّه إليه رسولين من بنى هاشم وحمّلهما رسائل إلى موسى ووجوه قوّاده وإلى سائر عسكره يصدّهم فيها عن الحركة ويصدّقهم عن الحال بالحضرة وعن ضيق الأموال بها وما يحاذر من ذهاب ما يخلّفونه وراءهم وغلبة الطالبيّ وأتباعه من الديلم عليه. فشخص الهاشميّان مع جماعة من الوجوه والموالي وأقبل موسى يسير وصالح بن وصيف يعظّم ذلك على المهتدي وينسبه إلى العصيان والخلاف.

وكان المهتدي قد هجر الشرب وكسر آلات الشراب، وكان ينسك ويجلس على اللبود ويجلس للمظالم ويشتغل بالصوم والصلاة ودرس القرآن. فذكر أنّ كتاب صاحب البريد بهمذان ورد عليه بفصول موسى عنها. فرفع المهتدي يده إلى السماء وقال بعد حمد الله والثناء عليه:

« اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدوّ وقد أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تولّ من كاد المسلمين.

وانصر جيوش المسلمين حيث كانوا. اللهم إني شاخص نفسي إلى حيث نكب فيه المسلمون ناصرا لهم ودافعا عنهم، فاجزني اللهم بنيّتى إذ فقدت صالح الأعوان وعدمت الناصرين. » ثم تحدّرت دموعه يبكى.

فذكر عمّن حضر مجلس المهتدي، أنّه رأى سليمان بن وهب في ذلك اليوم يقول:

« يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أكتب إلى موسى بما أسمع منك؟ » فقال: « نعم أكتب بما تسمع مني وإن أمكنك أن تنقشه في الصخر فافعل. » ولمّا تلقّاه الهاشميّان والرسل لم يغنيا، وضجّ الموالي وكادوا يثبون بالرسل وردّ موسى في جواب الرسالة يعتذر بما عاين الرسل الموجّهون إليه، وأنّه ليس يرضى القوم إلّا بورود باب أمير المؤمنين، وإن رام التخلّف عنهم لم يأمنهم على نفسه.

وأوفد موسى مع الرسل وفدا من عسكره.

وكان كنجور نفى أيّام المعتزّ إلى فارس ثم لحق بأبي دلف وأثّر بالأهواز آثارا قبيحة. فلمّا أقبل موسى انضمّ إليه فبلغ ذلك صالحا فكتب عن المهتدي في حمل كنجور مقيّدا، فأبى ذلك الموالي. ووجّه المهتدي أخاه إبراهيم لامه في كنجور يعلمه أنّ الموالي لا يقارّون كنجور ويأمره بتقييده وحمله إلى بغداد. فكان جوابهم أن قالوا:

« إذا دخلنا سرّ من رأى امتثلنا رأى أمير المؤمنين في كنجور وغيره. » وفي شوّال من هذه السنة ظهر في فرات البصرة رجل علويّ فجمع زنج البصرة الذين [ كانوا ] يكسحون السّباخ ثم عبر إلى دجلة.

ذكر خبر العلوي صاحب الزنج ومبدأ أمره وسبب خروجه

هذا الرجل مولده قرية من قرى الريّ يقال لها ورزنين وقد شكّ قوم في نسبه وسمعت من لا أرتاب بخبره أنه صحيح النسب. وهو عليّ بن محمد بن أحمد بن عليّ بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.

واتصل بقوم من حاشية المنتصر وغيرهم من كتّاب السلطان فكان يمدحهم ويستميحهم بشعره. ثم شخص إلى البحرين ودعا قوما إلى طاعته، فاتبعه جماعة من أهلها ووقعت بسببه عصبيّة قتل فيها جماعة. فانتقل إلى الأحساء. فحدث مثل ذلك بها فانتقل إلى البادية وادّعى النبوّة ومعجزات ذكرها عن نفسه. أحدها أنّه زعم أن سحابة أظلّته بالبادية، فبرقت ورعدت، فاتصل صوت الرعد بسمعه قال: فخوطبت فقيل: « اقصد البصرة. » فقلت لأصحابي وهم مطيفون بي: « أمرت بكذا. وكان سبب خروجي إلى البصرة. » فتبعه قوم بالبصرة منهم عليّ بن أبان المهلّبي وأخوه محمد بن الخليل وغيرهم وعامل البصرة يومئذ محمد بن رجاء الحضارى من قبل السلطان ووافق [ ذلك ] فتنة البلاليّة والسعديّة. فطمع في أحد الفريقين ووافى برنجل قصرا فعرف بقصر القرشيّ. وأظهر أنّه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ، وأقام أيّاما.

فذكر عن ريحان وهو أحد غلمان الشورجيّين وهو أوّل من صحبه أنّه قال: كنت موكّلا بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة وأفرّقه فيهم.

فحملت إليهم يوما الرسم فمررت به وهو مقيم ببرنجل في قصر القرشيّ.

فأخذنى أصحابه فصاروا بي إليه، وأمرونى بالتسليم عليه بالإمرة. ففعلت فسألنى عن الموضع الذي جئت منه، فقلت:

« من البصرة. » قال: « هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟ » فقلت: « لا. » قال: « فما خبر البلاليّة والسعديّة؟ » قلت: « لا أعرف خبرهم. »

فسألنى عن أخبار الشورجيّين وما يجرى لكلّ غلام منهم من الدقيق والتمر، وعمّن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك.

فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته. فقال لي:

« احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إليّ. » ووعدني أن يقوّدنى على من آتيه به منهم وأن يحسن إليّ، واستحلفني ألّا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه، فخلّى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معي إلى الموضع الذي كنت قصدته، وأقمت فيه يومي، ثم رجعت إليه من غد فوافيته وقد قدم عليه غلمان كان وجّههم إلى البصرة في حوائج له وفيما حمل له حريرة يتّخذها لواء فأمر أن يكتب عليها بحمرة وخضرة: « إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ. » إلى آخر الآية. وكتب اسمه واسم أبيه وعلّقها في رأس مرديّ وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان.

فلمّا صار في مؤخّر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيّين متوجّهين إلى أعمالهم. فأمر بأخذهم فأخذوا وكتف وكيلهم وأخذه معهم، وكانوا خمسين غلاما، وكان أهل البصرة في ذلك الزمان يشترون الزنوج ويخرجونهم إلى السباخ فيكسحونها حتى يصلوا إلى التربة الطيّبة فيعمرونها، وكسوح الزنج بالبصرة معروفة تشاهد فيها تلال كالجبال وكان في أنهار البصرة منهم عشرات ألوف يعذّبون بهذه الخدمة، وتجرى عليهم أقواتهم من الدقيق والتمر.

ثم إنّ هذا الرجل العلويّ سار من موضعه الذي ذكرنا، فصار إلى الموضع الذي يعمل فيه البستاني، فأخذ منه خمسمائة غلام وأخذ وكيلهم فكتفه، ثم إلى موضع السيرافيّ فأخذ منه خمسمائة غلام، ولم يزل يومه يفعل ذلك حتى اجتمع له خلق من غلمان الشورجيّين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيبا.

فمنّاهم ووعدهم أن يقوّدهم ويملّكهم الأموال. وحلف لهم بالأيمان الغلاظ ألّا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع ممكنا من الإحسان إلّا أتى إليهم.

ثم دعا مواليهم فقال:

« أردت أن أضرب أعناقكم لإساءتكم إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وفعلتم بهم ما حرّم الله عليكم وحمّلتموهم ما لا يطيقون فكلّمنى أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم. » فقالوا: « إنّ هؤلاء الغلمان أبّاق وهم يهربون منك، فلا يبقون عليك ولا علينا. فخذ منّا مالا وأطلقهم لنا. » فأمر غلمانه فأحضروا شطبا، ثم بطح كلّ قوم مولاهم، فضرب كلّ رجل خمسمائة شطب، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألّا يعلموا أحدا بموضعه ولا بعدد أصحابه. فأطلقهم.

ثم سار حتى عبر دجيلا وصار إلى نهر ميمون في سفن سماد وجدها، وأقام بجمع السودان إلى يوم الفطر. فلمّا أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا وركّز المرديّ الذي عليه لواءه وصلّى وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأنّ الله قد استنقذهم من ذلك وأنّه يريد أن يرفع أقدارهم ويملّكهم العبيد والأموال والمنازل ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك.

فلمّا فرغ من صلاته وخطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهّموه من لم يفهم من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك ودخل القصر.

ثم إنّ الحميري قصد جماعة من أصحابه فأخرجوهم إلى الصحراء.

فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه فأوقع بالحميرى وأصحابه فانهزموا، واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنّى بأبي صالح في ثلاثمائة من الزنج، فمنّاهم ووعدهم خيرا.

وكان ابن أبي عون قد قلّد الأبلّة وكور دجلة، وانتهى إليه أنّ عقيلا والحميري مع خليفة ابن أبي عون قد أقبلوا نحوه ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الزريقية فوصلوا إليها مع صلاة الظهر فصلّوا بها ثم استعدّوا للقتال وليس في عسكره يومئذ إلّا ثلاثة أسياف ونهض راجعا نحو المحمدية فوافاها، وتلاحق إليه أصحابه وكان جعل عليّ بن أبان في آخر أصحابه وأمره أن يتعرّف خبر من يأتيه من ورائه. فأتاه وقال له:

« كنّا نرى من ورائنا بارقة ونسمع حسّا لقوم يتبعوننا فلسنا ندري أرجعوا عنّا أم هم قاصدون إلينا. » فلم يستتمّ كلامه حتى لحق القوم وتنادى الزنج:

« السلاح. » فيبدر مفرّج النوبى وريحان وفتح الحجّام - وكان فتح يأكل - فلمّا نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدّم أصحابه فلقيه رجل فحمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، وذهب ليكبّ عليه فرمى الرجل بسلاحه وولّى وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف، رجل فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم ومات بعضهم عطشا وأتى منهم بأسرى فأمر بضرب أعناقهم وحملت الرؤوس على بغال كان أخذها من الشورجيّين كانت تنقل الشورج، ومضى حتى وافى القادسيّة وقت المغرب. فخرج رجل من موالي الهاشميّين فقتل رجلا من السودان وأتاه الخبر فقال له أصحابه:

« ايذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا. » فقال: « لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل كان ذلك عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلّا ساغ لنا قتالهم. » وأعجلهم المسير حتى مضى إلى نهر ميمون إلى المسجد الذي كان فيه، في بدأته، وأمر بالرؤوس التي حملت معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبى، فأذّن وسلّم عليه بالإمرة فقام وصلّى بأصحابه العشاء الآخرة وبات بها.

ثم مضى إلى الكرخ فطواها. ثم عبر دجيلا بجبّى في مخاضة دلّ عليها ولم يدخل القرية وأقام خارجا منها وأرسل إلى من فيها فأتاه رؤساؤهم ورؤساء الكرخ فأمرهم بإقامة الأتراك له ولأصحابه فأقيم لهم ما أراد وبات ليلته.

فلمّا أصبح أهدى له رجل من أهل جبّى فرسا كميتا فلم يجد له سرجا ولا لجاما. فركبه بحبل وشنقه بليف وسار حتى انتهى إلى العباس فأخذ منه دليلا إلى السيب وهرب أهل القرية فدخلها ونزل دار جعفر بن سليمان وهي في السوق وتفرّق أصحابه في القرية، فأتوه برجل فسأله عن وكلاء الهاشميّين فأخبره أنّهم في الأجمة فوجّه وأحضر رئيسهم فسألهم وإيّاه عن المال فقال:

« لا مال عندي. » فأمر بضرب عنقه. فلمّا خاف القتل أقرّ بمال دفنه. فوجّه معه قوما، فأتاه بمائتي وخمسين دينارا وبألف درهم. فهذا أوّل مال صار إليه. ثم سأله عن دوابّ وكلاء الهاشميّين فدلّه على ثلاثة براذين فدفعها إلى رؤساء أصحابه. ووجدوا دارا لبعض بنى هاشم فيها سلاح فانتهبوه وصار في أيدى الزنج سيوف وآلات وزقايات وتراس وبات ليلته.

فلمّا أصبح أتاه الخبر أنّ رميسا والحميري وعقيلا قد وافوا السيّب فوجّه يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فيهم سليمان وريحان وصالح النوبيّ الصغير فلقوا القوم فهزموهم وأخذوا سميريّة وسلاحا وهرب من كان هناك ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر فأقام يومه ثم سار يزيد المذار. فلمّا صار ببامداد وهو نهر جاوزه حتى أصحر فرأى بستانا وتلّا فقصد التلّ فقعد عليه وانبثّ أصحابه في الصحراء وجعل لنفسه طليعة فأتاه الطليعة أو أرسل إليه يخبره أنّ رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدّى عنه رسالة.

فوجّه إليه عليّ بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلمّا أتوه قال:

« اقرأوا على صاحبكم السلام وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض. أردد هؤلاء العبيد على مواليهم وآخذ لك عن كلّ رأس خمسة دنانير. » فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس فغضب وآلى ليرجعنّ فليبقرنّ بطن امرأة رميس وليحرقنّ داره وليخوضنّ الدماء هناك. فذهبوا إليه فأجابوه فانصرف عنه.

ثم تعرّض له رميس والحميري وصاحب ابن أبي عون مرارا في كلّ ذلك يهزمهم ويقتل أصحابهم ويأسر منهم ويغنم وكان يجمع الرؤوس ويأمر بالاحتفاظ بها، حتى إذا رجع إلى موضعه من نهر ميمون نصبها هنالك.

ثم إنّه صار إلى القرية التي قتل فيها رجل من أصحابه فأمر من يصير إليها فيسأل أهلها أن يسلّموا إليه القاتل في ممرّه كان بهم. فرجع إليه فأخبره أنّهم زعموا أنّه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميّين ومنعهم له، فصاح بالغلمان وأمرهم بانتهاب القرية فانتهب منها مالا عظيما عينا وورقا وجوهرا وحليّا وأوانى ذهبا وفضّة وسبى يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أوّل شيء سبى.

وأتى بمولى الهاشميّين القاتل فضرب عنقه وأخذ أصحابه شرابا وجدوه وبلغه ذلك فحرّم النبيذ عليهم وقال لهم:

« أنتم تلاقون الجيوش فدعوا شرب النبيذ. » فأجابوه إلى ذلك.

وواقع من غد هذا اليوم أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشطّ والدنبلا في السفن يرمون بالنشّاب فحمل عليهم الزنج فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهبّت ريح من غربيّ دجيل فحملت السفن إلى الشطّ فوثب إليها السودان فقتلوا من فيها وهرب رميس فنزل سفينة فأنهبها أصحابه وأحرقها.

وقعته مع بعض الأتراك

وكثر بعد ذلك عيثه وعظمت شوكته وسبى وأفسد وعظمت نكايته.

فمن عظيم ما كان له من الوقائع مع السلطان وقعة كانت مع بعض الأتراك يكنّى أبا هلال في سوق الريّان أو ذلك أنّ هذا التركيّ وافاهم في هذه السوق ومعه أربعة آلاف رجل أو يزيدون وفي مقدّمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول. فحمل عليهم السودان حملة صادقة وانتهى بعض السودان إلى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا في يده فصرعه وانهزم القوم وتلاحق السودان فقتلوا من أصحاب ابن هلال ألف وخمسمائة ونجا أبو هلال على دابّة عربيّ وحالت ظلمة الليل بينهم. فلمّا أصبح أمر بتتبّعهم ففعلوا وجاءوا بأسرى ورؤوس، فقتل الأسرى كلّهم.

وكانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة شبيهة بهذه ظفر فيها بأصحاب السلطان وكانت له وقعات عظام تركنا ذكرها لأنّنا لم نجد فيها غير إقدام الزنج بجهلهم وطمعهم وسوء ثبات الجند لهم وأنّهم تهيّبوهم فكانوا كالجزّارين يقعون في الغنم فيقتلون كيف شاءوا ومثل هذه الحروب لا يستفاد منها تجربة، فلذلك أعرضت عن ذكرها إلى أن أضعف أهل البصرة فلم يبق فيهم من يخرج إليه وقتل أصحاب السلطان فتهيّبه الناس.

أشد يوم لقيه صاحب الزنج

فحكى صاحب الزنج أنّه لم يلق يوما أشدّ من يوم الشذاة وهو يوم استشدّ له أهل البصرة فلم يبق فيها سعديّ ولا بلاليّ ولا أحد من أصحاب السلطان ولا غيرهم إلّا جمعوا له. وكان هناك رجل يعرف بحمّاد الساجيّ وكان من غزاة البحر في الشذوات وله علم بالحروب فيها، فجمع في شذاءاته المطوّعة ورماة الأهداف ولم يبق بالبصرة من يحمل السلاح إلّا خرج. إمّا في الشذاءات وإمّا على الظهر، وانضمّ إليه النظّارة ومن لا سلاح معه ولم يشكّوا في اصطلام صاحب الزنج وأصحابه، فدخلت الشذاءات والسفن التي معها النهر المعروف بأمّ حبيب، ومرّت الرجّالة والنظّارة على شاطئ النهر وقد سدّوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة. فقال بعد ذلك صاحب الزنج:

« إني لمّا رأيت ذلك الجمع عانيت أمرا هائلا وراعني ذلك وملأ صدري رهبة وجزعا وفزعت إلى الدعاء وليس منّا أحد إلّا وقد خيّل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من كثرة الجمع وأنا أومئ إليه بالسكوت وعيّنت أصحابي وجعلت لهم كمينين وقلت لمن لقي القوم:

« اجثوا لهم واستتروا بتراسكم ولا يثورنّ أحد منكم حتى يوافيكم القوم ويومئوا إليكم بأسيافهم فحينئذ ثوروا. » وأمرت نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به. ففعلوا ذلك. فلمّا رأوا أصحابي وخرج الكمينان من جنبتي النهر ومن وراء السفن فصاحوا بهم.

رأيت سميريّة قد انقلبت. وتبعها آخر. وانهزم من كان على الشطّ.

فقتلت طائفة وهربت طائفة وغرقت طائفة ومن هرب طمعا في النجاة أدركه السيف والغرق فأبير ذلك الجمع ولم ينج منهم إلّا الشريد وكثر المفقودون من البصرة وهذا يوم الشذا الذي عظّمته الناس وذكروا كثرة من قتل فيه. فكان فيهم من ولد جعفر بن سليمان عدّة في خلق لا يحصى عددهم. وأمر الخبيث بجمع الرؤوس وذهب إليه أولياؤه فعرضها عليهم فأخذوا ما عرفوا منها وعبّأ ما بقي عنده في سفينة وأخرجها من النهر وأطلقها مع الماء فوافت البصرة فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيّار.

فجعل الناس يأخذون ما عرفوا.

وقوى الخبيث بعد هذا اليوم وضعف طالبوه بل لم يبق له طالب. فقال له أصحابه:

« إنّا قتلنا مقاتلة البصرة ولم يبق فيها إلّا من لا حراك به فأذن لنا في تقحّمها. » فزبرهم وهجّن آراءهم وقال:

« بل ابعدوا عنهم فقد أرعبناهم وأحفظناهم، والرأي أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم. » ثم انصرف بأصحابه إلى سبخة أى قرّة، وهي بين نهرين وأمر أصحابه باتّخاذ الأكواخ وهذه السبخة بين النخل والقرى والعمارات فكان أصحابه يغيرون يمينا وشمالا ويسوقون مواشى الأكرة وينتهبون أموالهم.

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين

موافاة موسى بن بغا سر من رأى

وفيها وافى موسى بن بغا سرّ من رأى واستخفى صالح بن وصيف لمقدمه وعبّأ موسى أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا في السلاح حتى صار إلى باب الجسر ممّا يلي الجوسق. وكان المهدي ذلك اليوم جالسا للمظالم فأعلم بمكانه فأمسك عن الإذن لهم ساعة ثم أذن لهم. فدخلوا فجرى كلام نحو ما جرى يوم قدم الوفد. فلمّا طال الكلام تراطن الترك فيما بينهم وقالوا بالتركيّة:

« هذه المطاولة إنّما هي حيلة حتى يكبسنا صالح. » فخافوا ذلك فأقاموه من مجلسه وحملوه على دابّة من دوابّ الشاكرية وانتهبوا ما كان في الجوسق من دوابّ الخاصة ومضوا به إلى دار ياجور. ثم أخذوا هناك عليه العهود والمواثيق ألّا يمايل صلحا عليه ولا يضمر لهم إلّا مثل ما يظهره، وجدّدوا البيعة ووجّهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة فوعدهم أن يصير إليهم وقال لهم بعض رؤساء الفراغنة:

« ما الذي تطلبون من صالح بن وصيف؟ » فقال موسى:

« دماء الكتّاب وأموالهم ودم المعتزّ وأمواله. »

فاستتر صالح بن وصيف فمضى ياجور فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسا من دار صالح بن وصيف، وردّ المهتدي إلى الجوسق ودفع عبد الله بن محمد بن يزداذ إلى الحسن بن مخلد وولّى سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد وأظهر النداء على صالح.

وفي هذه السنة لثمان بقين من صفر قتل صالح بن وصيف.

ذكر السبب في ظهور صالح وقتل الموالي وموسى إياه

كان سبب ذلك أنّ امرأة جاءت بكتاب فدفعته إلى كافور الخادم الموكّل بالحرم وقالت:

« فيه نصيحة ومنزلي في موضع كذا من مكان كذا، فإن أردتمونى فاطلبونى هناك. » فأوصل الكتاب إلى المهتدي وأمر بطلب المرأة في الموضع الذي وصفت فلم يعرف لها خبر ولم يوقف لها على أثر. فدعا المهتدي بسليمان بن وهب بحضرة جماعة فيهم موسى بن بغا ومفلح وياجور وبايكباك وغيرهم وقال له:

« تعرف هذا الخطّ؟ » قال: « نعم هذا خطّ صالح يذكر فيه أنّه مستخف بسرّ من رأى وأنّه إنّما استتر طلبا للسلامة وإبقاء على الموالي وخوفا من اتصال الفتن لحرب إن حدثت بينهم. » ثم ذكر ما صار إليه من الأموال للكتّاب وغيرهم وقال:

« إنّ علم ذلك عند الحسن بن مخلد وهو أحدهم. » ثم ذكر ما وصل إليه وتولّى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أموال قبيحة وأنّ علم ذلك عند أبي صالح بن يزداذ. ثم ذكر أشياء في هذا المعنى بعضها اعتذاراته وبعضها احتجاجاته.

فلمّا فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول يحثّ فيه على الألفة والصلح ويكرّه إليهم الفرقة والتفانى والتباغض. فدعاهم هذا الكلام منه إلى تهمته وأنّه يعلم بمكان صالح. فكان بينهم في هذا كلام كثير ومناظرات طويلة.

ثم أصبحوا من الغد كلّهم في دار موسى في داخل الجوسق يتراطنون بالتركية فسمع بعضهم يقول:

« أجمع القوم على خلع المهتدي. »

كلام المهتدي للمجمعين على خلعه

واتصل الخبر بالمهتدي فخرج إلى مجلسه متقلّدا سيفا وقد لبس ثيابا نظافا وتطيّب ثم أمر بإدخالهم إليه فأبوا ذلك مليّا ثم دخلوا عليه فقال لهم:

« إنّه قد بلغني ما أنتم عليه ولست كمن تقدّمنى مثل أحمد بن محمد المستعين ولا مثل ابن قبيحة والله ما خرجت إليكم إلّا وأنا متحنّط وقد وصّيت وهذا سيفي فو الله لأضربنّ به ما أستمسك قائمه في يدي. ويحكم إمّا دين إمّا حياء كم يكون الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله سواء عندكم من أبقى عليكم وأراد صلاحكم ومن إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورا بمكروهكم وحبّا لبواركم. خبّروني عنكم، هل تعلمون أنّه وصل إليّ من دنياكم شيء أمّا إنّك لتعلم يا بايكباك أنّ بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتى وولدي. وانظروا هل ترون في منزل أحد منهم فرشا أو وصائف أو خدما أو جواري أو لهم ضياع أو مستغلات؟ سوءة لكم، ثم تقولون أنّى أعلم علم صالح، وهل صالح إلّا رجل من الموالي كواحد منكم، فكيف أكون معه إذا ساء رأيكم فيه؟ إن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجميعكم وإن أبيتم إلّا ما أنتم عليه فشأنكم. اطلبوا صالحا وابلغوا شفاء أنفسكم منه فأمّا أنا فما أعلم علمه. » قالوا: « فاحلف لنا على ذلك. » قال: « أنا أبذل لكم يميني ولكن أؤخّرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والعدول وأصحاب المراتب في غد إذا صلّيت الجمعة. » فكأنّهم لانوا قليلا ووجّه في إحضار الهاشميين فحضروا في عشيّته فلم يذكر لهم شيئا وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة فانصرفوا وغدا الناس فلم يحدثوا شيئا وصلّى المهتدي وسكن الناس وانصرفوا هادئين.

وحكى بعضهم ممّن سمع كلام المهتدي مع موسى والجماعة أنّ المهتدي قال: « إن كان صالح قد أخذ من مال قبيحة والكتّاب شيئا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك ومحمد بن بغا، فقد كانا حاضرين وهم شركاء في جميع ما جرى. » فأحفظ ذلك أبا نصر محمد بن بغا وبايكباك وقد كان القوم من لدن قدم موسى بن بغا مضمرين هذا المعنى من الغلّ وإنّما منعهم من المطالبة قلّة الأموال وخوف الاضطراب. فلمّا ورد عليهم مال فارس ومال الأهواز تحرّكوا وكان ورود ذلك لثلاث بقين من المحرّم ومبلغه سبعة عشر ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. وانتشر الخبر في العامّة أنّهم على خلع المهتدي والفتك به وأنّهم أرادوه على ذلك وأرهفوه. فكتبت رقاع وألقيت في المسجد الجامع والطرقات فذكر بعض من قرأ رقعة منها أنّه كان فيها:

« بسم الله الرحمن الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن الخطّاب أن ينصره على أعدائه ويكفيه مؤونة ظالمه ويتمّ النعمة عليه وعلى هذه الأمّة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع وهو يعذّب والمدبّر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مخلد. رحم الله من أخلص إليه ودعا. » ثم تحرّك الموالي ووجّهوا إلى المهتدي:

« إنّا نحتاج أن نلقى إلى أمير المؤمنين شيئا. » وسألوا أمير المؤمنين أن يوجّه إليهم أحد إخوته فوجّه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم ومحمد بن ياس المعروف بالكرخيّ فمضيا إليهم فسألاهم عن شأنهم فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وأنّه بلغهم أنّ موسى بن بغا وبايكباك وجماعة من قوّادهم يريدونه على الخلع وأنّهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنّهم قرأوا رقاعا في المساجد بذلك وشكوا مع ذلك سوء حالهم وتأخّر أرزاقهم وما صار من الإقطاعات إلى قوّادهم التي قد أجحفت بالخراج وغيره وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات على الرسوم القديمة مع الدخلاء فيهم الذين استغرقوا أكثر أموال الخراج وكثر كلامهم. فقال أبو القاسم:

« اكتبوا بذلك كتابا إلى أمير المؤمنين أتولّى إيصاله لكم. » فكتبوه فأوصله إلى المهتدي وكتب جوابه بخطّه وختمه بخاتمه وغدا به أبو القاسم وقد اجتمعوا فقال:

« يقول لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطّى وخاتمي فاسمعوه وتدبّروه. » فقرءوه وإذا فيه:

« بسم الله الرحمن الرحيم، أرشدنا الله وإيّاكم وكان لنا ولكم وليّا وحافظا. فهمت كتابكم وسرّنى ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم وتولّى حياطتكم. فأمّا ما ذكرتم من خلّتكم وحاجتكم فعزيز عليّ ذلك فيكم، ووددت لو أنّ صلاحكم قد تهيّأ بألّا أطعم ولا أطعم ولدي وأهلى إلّا القوت الذي لا شبع دونه ولا ألبس أحدا من ولدي إلّا ما ستر العورة ولا والله حاطكم الله، ما صار إليّ منذ تقلّدت أمركم، لنفسي وأهلى وولدي ومتقدّمى غلماني وحشمى إلّا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد وكلّ ذلك مصروف إليكم غير مذخور عنكم.

« وأمّا ما ذكرتم ممّا بلغكم وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق وما بذلتم من أنفسكم فأنتم أهل ذلك، وأين تبعدون ممّا ذكرتم، وإنّما نحن نفس واحدة فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأماناتكم خيرا، وليس الأمر كما بلغكم فعلى هذا فليكن عملكم.

« وأمّا ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبّتكم إن شاء الله، والسلام عليكم. » فلمّا قرأوا الكتاب كثر الكلام وقالوا أشياء. فقال لهم أبو القاسم:

« اكتبوا بذلك كتابا ثانيا. » فكتبوا وقالوا:

« إنّ الذي تسألون أن تردّ الأمور إلى أمير المؤمنين، وألّا يعترض عليه معترض وأن تردّ رسومهم إلى ما كانت عليه وهو أن يكون على كلّ سبعة منهم عريف وعلى كلّ خمسين خليفة وعلى كلّ مائة قائدا وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون وألّا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها وأن يوضع لهم العطاء في كلّ شهرين على ما لم يزل وأن تبطل الإقطاعات وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من يشاء ويرفع من يشاء. » وذكروا أنّهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين، فمن خالف أمير المؤمنين في شيء أخذوا رأسه وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا موسى بن بغا وياجور وغيرهما، ودعوا الله لأمير المؤمنين.

ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم فأوصله وتحرّك الموالي واضطرب القوّاد جدّا وقعد المهتدي للمظالم فسبق أبو القاسم فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة وخلا بموسى ثم وقّع في كلّ باب بما أحبّوا. فقال أبو القاسم لموسى ومحمد ابني بغا وبايكباك: « وجّهوا معي إليهم رسولا تعتذرون إليهم ممّا بلغهم عنكم. » فوجّه كلّ واحد منهم رجلا وصار أبو القاسم [ إليهم ] وهم في زهاء أربعة آلاف رجل وثلاثة آلاف راجل فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام ودفع إليهم الكتاب فقرءوه وكتبوا كتابا آخر يلتمسون أن ينفذ إليهم خمس توقيعات:

توقيع بحطّ الزيادات وتوقيع بردّ الإقطاعات وتوقيع بإخراج الموالي البرّانيين من الخاصّة وتوقيع بردّ الرسوم إلى ما كانت عليه وتوقيع بردّ التلاجيّ ثم يصيّر أمير المؤمنين الجيش إلى أحد أخوته أو غيرهم ممّن يرى ليسفر بينه وبينهم ولا يكون رجلا من الموالي وأن يؤمر أن يحاسب صالح بن وصيف وموسى بن بغا على ما عندهما من الأموال ويعجّل لهم عطاء شهرين ويدرّ ذلك عليهم في كلّ شهر.

وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا ومحمد بن بغا وبايكباك ومفلح وياجور وغيرهم من القوّاد يقولون إنّهم قد كتبوا بما كتبوا وإنّ أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إن لم يعترضوا عليه وإنّهم إن فعلوا ذلك وخالفوه لم يصبروا عليهم وإنّ أمير المؤمنين إن شاكته شوكة وأخذ من رأسه شعرة أخذوا رؤوسهم جميعا وإنّه ليس يقنعهم إلّا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى فينظر أين مواضع الأموال، فإنّ صالحا وعدهم أن يعطيهم رزق ستّة أشهر.

ثم دفعوا الكتاب إلى رسول موسى ووجّهوا مع أبي القاسم عدّة منهم ليوصل كتاب أمير المؤمنين وليسمعوا كلامه. فانصرفوا إلى المهتدي فأمر بإنشاء التوقيعات الخمس وأنفذها في درج كتاب بخطّه إليهم.

وكتب القوّاد أيضا جواب كتابهم وأنفذوه إليهم بإجابتهم إلى ما سألوه.

وكتب أمان لصالح بن وصيف فيه: إنّ موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين ذلك وأكدّ ذلك غاية التأكيد وحمل إليهم.

وقال لهم أبو القاسم:

« علام اجتماعكم وقد أجبتم إلى كلّ ما سألتم؟ » فانصرف القوم وتفرّق القوّاد.

فلمّا كان يوم السبت ركب ولد وصيف وأصحابهم وتنادى الناس:

السلاح، واجتمعوا وعسكروا وركب أبو القاسم يريد دار المهتدي فمرّ بهم فتعلّقوا به وقالوا:

« قل لأمير المؤمنين إنّا نريد صالحا. » فمضى فأدّى ذلك فقال موسى:

« أراهم يطلبون صالحا مني كأنّى أخفيته أو هو عندي إن كان عندهم له خبر فينبغي أن يظهروه. » وصحّ عندهم أنّ القوم قد تواطئوا وأنّ الناس يتحلّبون إليهم، فتهايجوا من دار أمير المؤمنين فركبوا في السلاح واتصل [ الخبر ] بالأتراك فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوى فارس على راجل ولا كبير على صغير حتى لحقوا بمنازلهم وزحف [ موسى وأصحابه جميعا ] فلم يبق بسرّ من رأى قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلّا ركب معه وكان تقدير الجيش الذين ركبوا مع موسى في هذا اليوم أربعة آلاف فارس في السلاح والقسيّ الموتّرة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات يريدون محاربة من يريد صالحا وكان أكثرهم هواة مع صالح. فمضوا إلى الجوسق ونادوا بأنّ من لم يظهر من قوّاد صالح وأهله وأصحابه ويحضر دار أمير المؤمنين أسقط اسمه وخرّب منزله وفعل به وصنع.

ثم جدّ هؤلاء في طلب صالح فهجم بسببه على جماعة ممّن كان متصلا به قبل ذلك، إلى أن عثر به غلام من موالي وصيف. فحكى الغلام قال:

دخلت دارا في زقاق أطلب ماء لأشربه، فسمعت قائلا يقول بالفارسية:

« أيّها الأمير تنحّ فقد جاء غلام يطلب ماء. » فلمّا سمعت ذلك جمعت ثلاثة أنفس وهجمت عليه فإذا صالح بيده مرآة ومشط وهو يسرّح لحيته. فلمّا رآني بادر فدخل بيتا فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح فتلوّمت ثم نظرت إلى البيت فإذا هو قد لجأ إلى زاوية فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا، فقلت له:

« ليس إلى تركك سبيل ولكني أمّرتك على أبواب إخوتك وقوّادك وصنائعك فإن اعترض عليّ منهم اثنان أطلقتك في أيديهم. » قال: فأخرجته فما لقيت أحدا إلّا من أعان على مكروهه. وحمل إلى دار موسى فأتاه القوّاد ليذهبوا به إلى الجوسق وهو على بغل باكاف. فلمّا صاروا به إلى حدّ المنارة ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذّه ثم احتزّوا رأسه فوافوا به المهتدي وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما وقد قام لصلاة المغرب فلم يره فلمّا قضى صلاته وجاءوه برأسه لم يزدهم على أن قال:

« واروه. » وأخذ في تسبيحه.

فلمّا كان من الغد طيف به على قناة ونودى عليه:

« هذا جزاء من قتل مولاه وأمر بقتل مولاه. » ونصب بباب العامّة، فعل ذلك به ثلاثة أيّام.

وفي رجب من هذه السنة خلع المهتدي وقتل

ذكر سبب خلعه وقتاله الأتراك وظفرهم به وقتلهم إيّاه

كان ظهر مساور الشاري بناحية الموصل فكثر اتباعه وعيثه وهزم عدّة جيوش للسلطان. فندب له موسى بن بغا فوضع موسى العطاء لأصحابه وكان على مناجزة الشاري وقصده طريق خراسان.

فقال بعضهم:

سبب ذلك أنّ المهتدي استمال بايكباك وهو مقيم مع موسى في وجه مساور الشاري وكتب إليه أن يضمّ العسكر الذي مع موسى إلى نفسه وأن يكون هو الأمير، وأراد منه أن يفتك بموسى ومفلح ويقيّدهما ويحملهما إليه.

فمضى بايكباك بالكتاب إلى موسى وقال:

« إني لست أفرح بهذا وإنّما هذا تدبير علينا جميعا وإذا فعل بك شيء اليوم فعل بي غدا مثله. » فاجتمعوا على خلعه والفتك به. فتوجّه موسى نحو طريق خراسان وقال له بايكباك:

« اذهب إليه وأظهر له الطاعة. » ودبّرا في ذلك تدبيرا بلغ المهتدي، وظنّ أنّ بايكباك أتاه في الفتك به.

فلمّا دخل إليه أمر بحبسه وأخذ سلاحه. وقال بعضهم:

كان السبب في ذلك إنّ المهتدي تكلّم في موسى ومحمد ابني بغا وقال للموالي:

« قد احتجبنا الأموال. » فتخوّفه أبو نصر وهرب. ثم كتب إليه المهتدي وآمنه فرجع وظهر وقعد له المهتدي فوصل إليه هو ومن جاء معه. فسلّم فقال له المهتدي:

« ما تقول فيما يقول الموالي؟ » قال: « وما يقولون؟ » قال: « إنّهم يقولون إنّكم احتجزتم الأموال واستبددتم بالأعمال فما تنظرون في شيء من مصالحهم. » قال: « يا أمير المؤمنين وما أنا والأموال ولست كاتب ديوان ولا جرى على يدي عمل. » فقال: « وأين الأموال هل هي إلّا عندك وعند أخيك وكتّابكم. » ودنا الموالي وأخذوا بيد محمد وقالوا:

« هذا عدوّ أمير المؤمنين. لا ينبغي أن تقوم بين يديه بسيف. »

فأخذوا سيفه. فوثب غلام لأبي نصر كان حاضرا يقال له: تيتك، فسلّ سيفه وخطا ليمنعهم من أبي نصر، فكانت خطوته تلى الخليفة فسبقه عبد الله بن تكين فضرب رأسه بالسيف فما بقي أحد إلّا سلّ سيفه. وقام المهتدي فدخل بيتا كان يقربه.

وأخذ محمد بن بغا فأدخل حجرة وحبس أصحابه وأجمعوا على أن يكتبوا إلى موسى بن بغا بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القوّاد وأن يكتبوا إلى القوّاد بتسليم العسكر إليهما ويكتبوا إلى الصغار بمثل ما سأل أصحابهم بسرّ من رأى وما أجيبوا إليه، وأن ينظروا فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمروا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمر بتسليمه إليه وإلّا شدّوهما وثاقا وحملوهما إلى الباب في غلمانهم، ووجهوا بهذه الكتب واجتمع في الدار منهم قوم فأجرى على كلّ واحد منهم درهمان وأخذت عليه بيعة جديدة بالنصرة والثبات.

وأصبح الموالي يلتمسون أن يعزل عنهم أمراؤهم وأن يلي عليهم بعض أخوة أمير المؤمنين وأن تؤخذ أمراؤهم وكتّابهم بالخروج ممّا اختانوه من مال السلطان، وذكروا أنّ مبلغه خمسون ألف ألف درهم. فأجابهم إلى ذلك ومضى يومهم على هذا.

ثم أصبحوا يطالبون بما وعدوا به فقيل لهم: إنّ هذا الذي تريدونه أمر صعب وإخراج الأمر عن أيدى هؤلاء ليس بسهل فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذ أموالهم فانظروا في أموركم فإن كنتم تظنّون أنّكم تصبرون على هذا الأمر حتى بلغ منه غايته أجابكم أمير المؤمنين وإن تكن الأخرى فإنّ أمير المؤمنين يحسن لكم النظر. »

فأبوا إلّا ما سألوا أوّلا. فأخذت عليهم البيعة وأقبلت الرسل تختلف بين العسكرين والذي يريد موسى بن بغا أن يولّى ناحية ينصرف إليها والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم. فلمّا كان من الغد أخذ موسى ومفلح طريق خراسان ومضى بايكباك - في هذه الرواية - ومن معه من القوّاد حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم ومناطقهم، وأقبل المهتدي على بايكباك يعدّد ذنوبه من الإسلام وأبطأ خبره على أصحابه فقال لهم حاجبه أحمد بن خاقان:

« اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث. » فجاشت الترك وأحاطوا بالدار، فاستشار المهتدي صالح بن عليّ بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور فقال:

« يا أمير المؤمنين، هو حديث أبي مسلم مع المنصور، فلو فعلت ما فعل لسكتوا. » فأمر المهتدي بضرب عنقه ورمى برأسه إليهم. ففعل ذلك فتناجزوا وجاشوا وشدّ واحد منهم على من رمى بالرأس إليهم فقتله.

ووجّه المهتدي إلى الأسروشنية والمغاربة والفراغنة والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين فجاءوه وكثر القتلى فيقال: إنّه قتل من الأتراك نحو من أربعة آلاف.

ثم اجتمع الأتراك كلّهم وصار أمرهم واحدا فكانوا نحو عشرة آلاف وكان مع ما اجتمع من الأتراك إلى المهتدي نحو خمسة عشر ألفا.

فخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وعبّأ الناس وقاتل ودعا الناس إلى أن ينصروا خليفتهم. فلمّا التحم الشرّ مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك وبقي المهتدي في أصحابه لا أتراك معه.

فحمل طغبا أخو بايكباك حملة ثائر موتور فنقض جمعهم وهزمهم وأكثر فيهم القتل وولّوا منهزمين. ومضى المهتدي يركض منهزما في الأسواق والسيف في يده مشهور وهو ينادى:

« يا معشر الناس انصروا خليفتكم. » حتى صار إلى دار أبي صالح محمد بن يزداذ وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة فدخلها ووضع سلاحه ولبس البياض ليعلو الدار وينزل إلى أخرى ويهرب.

وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارسا يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل فبادرهم ليصعد فرمى بسهم وبعج، ولم يجد المهتدي لنفسه حيلة فاستسلم فأخذه أحمد بن خاقان على دابّة وأردف خلفه سائسا حتى صار به إلى داره.

وانتهب الجوسق فلم يبق فيه شيء. وأخرجوا أحمد بن المتوكّل المعروف بابن فتيان وكان محبوسا في الجوسق وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم وجمعوا الهاشميين والخاصّة حتى بايعوا أحمد بن المتوكّل ابن فتيان وسمّوه: المعتمد على الله.

وأرادوا المهتدي على الخلع قبل ذلك فأبى ولم يجبهم فخلعوا أصابع يديه ورجليه ثم أمروا من وطى على خصيته حتى قتله ولمّا أيقن المهتدي بالقتل قال:

أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ** وقد حيل بين العير والنّزوان وكانت خلافته كلّها أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما، وعمره ثمان وثلاثين سنة، وكان رحب الجبهة أجلح، جهم الوجه، أشهل العينين عظيم البطن عريض المنكبين طويل اللحية قصيرا.

خلافة المعتمد على الله

موافاة جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج

وفي هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج. فزحف بعسكره حتى صار بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه وأصحابه ووجّه إلى الزينبي وبنى هاشم وكان يواعدهم للقائه فإذا التقوا لم يكن بينهم إلّا الرمى بالنشاب والحجارة لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل، ولم يكن للخيل مجال. فبقوا كذلك ستّة أشهر.

فلمّا رأى صاحب الزنج ذلك هيّأ من أصحابه جماعة يأخذون على جعلان مسالك الخندق وبيّته في خندقه فقتل جماعة من رجاله وريع الباقون روعا شديدا فترك جعلان عسكره وانصرف إلى البصرة وظهر عجز السلطان.

وازداد أمر صاحب الزنج عظم شأن، فأخذ أربعة وعشرين مركبا بحريّة كانت اجتمعت تريد البصرة. وكانت هذه المراكب تنتظر أن ينفصل أمر السلطان مع صاحب الزنج. فلمّا انهزم السلطان رأوا أن تشدّ المراكب بعضها إلى بعض حتى تصير كالجزيرة ويتّصل أوّلها بآخرها ثم يسيروا بها في دجلة. فندب صاحب الزنج أصحابه وحرّضهم عليها وقال:

« هذه غنيمة لم تروا مثلها. » فانتدب لها الزنج فلم يلبث أن جرّوها وقتلوا مقاتلتها وسبوا ما فيها من الرقيق وغنموا منها أموالا عظاما لا تحصى ولا يعرف قدرها. فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيّام ثم أمر بما بقي فحيز له.

ثم دخل صاحب الزنج الأبلّة بعد حرب قتل فيها خلقا وأغرقها وكانت مبنيّة بناء متكاثفا بالساج فأسرعت فيه النار ونشأت ريح عاصف فأطارت الشرر إلى شاطئ عثمان واحترق وقتل خلق كثير بالأبلّة وغرق خلق وكان ما احترق من الأمتعة أكثر ممّا انتهب. ولمّا جرى ذلك على الأبلّة جزع أهل عبّادان فاستسلموا لصاحب الزنج وسلّموا إليه بلدهم وحصنهم.

وفيها ملك أصحابه الأهواز.

ذكر دخول الزنج الأهواز

لمّا فتح الأبلّة وعبّادان وأخذ مماليكهم وفرّق فيهم السلاح طمع في الأهواز. فاستنهض أصحابه نحو جبّى فلم يثبت له أهلها فدخلها وانتهب وقتل ووافى الأهواز وبها سعيد بن تكسين وإليه حربها وإبراهيم بن المدبّر وإليه الخراج والضياع فانحاز سعيد بن تكسين في من معه من الجند وثبت إبراهيم فيمن معه من غلمانه فدخل الزنج المدينة وأسروا إبراهيم بن المدبّر بعد أن ضرب ضربة على وجهه وحووا كلّ ما ملك.

فلمّا ملك الأهواز رعب أهل البصرة رعبا شديدا، فانتقل كثير من أهلها [ عنها ] وكثرت الأراجيف من عوامّها.

وفي رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح الحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج.

وفيها ظهر بالكوفة عليّ بن زيد الطالبي فوجّه إليه الشاه بن ميكال في عسكر كثيف فهزمه أصحابه ونجا الشاه.

وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي وهو من أهل فارس ورجل من أكرادها يقال له: أحمد بن الليث، بعامل فارس وهو الحارث بن سيما الشاربانى فحارباه وقتلاه وغلب محمد بن واصل على فارس.

وفيها غلب الحسن بن زيد على الريّ وشخص موسى بن بغا إلى الري لحربه وشيّعه المعتمد.

وفيها كانت بين باجور وابن لعيسى بن شيخ وقعة على باب دمشق. وكان خرج باجور مرتادا لنفسه معسكرا وابن عيسى بن شيخ وقائد لعيسى في عسكر لهما بالقرب من دمشق. فاتصل بهما خبر باجور وأنّه في عدد يسير، فزحفا إليه ولا يعلم باجور بهما حتى لقياه فقتل القائد الذي مع ابن عيسى وهزم وقتل خلق من أصحابه وكان في عشرين ألفا باجور في نحو من مائتين إلى ثلاثمائة.

ودخلت سنة سبع وخمسين ومائتين

وفيها صار يعقوب بن الليث إلى فارس

فبعث إليه المعتمد طغّبا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصاري. وكتب إليه أبو أحمد بن المتوكّل بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وجعل له مال في كلّ سنة من هذه الأعمال فقبل ذلك وانصرف.

وعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكّة ثم، عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس فولّى خلفاءه وأمر أن يعقد ليارجوخ على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين فولّى منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة.

واستحثّ سعيد الحاجب في المصير إلى دجلة والإناخة على صاحب الزنج ففعل ذلك ومضى إلى نهر معقل وكان هناك جيش لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب وهو معترض في نهر معقل فأوقع بهم وهزمهم واستنقذ ما في أيديهم من النساء وأصاب سعيدا جراحات منها جراحة في فيه. ثم سار سعيد إلى الموضع المعروف بعسكر أبي جعفر واستعدّ للقاء صاحب الزنج بالفرات فقصدهم وهزمهم واستأمن إليه عمران وهو زوج جدّة ابن صاحب الزنج وتفرّق ذلك الجمع.

فحكى من حضر ذلك الموضع قال: لقد لقيت المرأة من سكّان الفرات تجد الزنجيّ مستترا بتلك الأدغال فتخرجه وتحمله إلى عسكر سعيد ما به عنها امتناع.

ثم أوقع الخبيث وقعات متوالية. ثم إنّ الخبيث وجّه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه وهو مقيم بنهر معقل جيشا وأمره بتوجيه سليمان بن جامع وابن الليث الإصبهاني ليلا مع عسكر قويّ حتى يوقعا بسعيد وقت طلوع الفجر، ففعل ذلك فصادفا منهم غرّة وغفلة فأوقعا بهم وقتلا منهم مقتلة عظيمة. وأحرق الزنج عسكر سعيد فضعف سعيد ومن معه ودخل أمرهم خلل لهذا البيات وقد كانت أرزاقهم احتبست عنهم من جهة منصور بن جعفر بن الخيّاط وهو يومئذ بالأهواز، إليه حربها وله يد في الخراج.

فلمّا اضطرب أمر سعيد وضعف أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش إلى منصور بن جعفر. وذلك انّ سعيدا ترك بعد ما اتّفق عليه من البيات حرب صاحب الزنج وكان بغرا يحمى البصرة ومنصور يجمع السفن التي تحمل المير، ثم يبذرقها إلى البصرة فضاق بالزنج الميرة.

ثم عبّأ منصور أصحابه وقصد صاحب الزنج في عسكره وصعد قصرا على دجلة فأحرقه وما حوله ودخل عسكر الخبيث من ذلك الوجه ووافاه الزنج وكمّنوا له كمينا فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة وألجئ الباقون إلى الماء فغرقوا وحملت الرؤوس إلى يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل فأمر بنصبها هناك.

ثم أوقع الخبيث شاهين وإبراهيم بن سيما بالأهواز فقتل شاهين وهزم إبراهيم.

وكاتب عليّ بن أبان بالمصير إلى البصرة لحرب أهلها.

ذكر الخبر عن دخول الزنج البصرة

لمّا ضعف منصور لم يعد لقتال الزنج واقتصر على بذرقة السفن لوصول المير إلى البصرة، فامتنع أهل البصرة. فوجّه الخبيث عليّ بن أبان فشغل منصورا عن بذرقة السفن وعاد أهل البصرة إلى الضيق، وألحّ أصحاب الخبيث عليها بالحرب وأحسّ الخبيث بضعف القوم وإضرار الحصار بهم وتخريبه ما حولها من القرى.

وكان نظر في النجوم ولا يفارقه الأصطرلاب وكتب النجوم، فوقف على كسوف القمر فقال لأصحابه:

ادعاء له

« إني قد ابتهلت إلى الله في الدعاء على أهل البصرة وتعجيل خرابها فخوطبت وقيل لي: إنّما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة. فأوّلت انكسار الرغيف انكساف القمر في نصفه. » فكان هذا حديث عسكره كلّ يوم. فكثر على الأسماع.

وندب قوما للخروج إلى الأعراب، ففرضوا قوما بينهم. وأتاه خلق عظيم فوجّههم الخبيث إلى ناحية منها وأمرهم بتطرّق البصرة والإيقاع بهم من تلك الجهة. فلمّا ابتدأ القمر بالكسوف انهض عليّ بن ابان في عسكر ضخم وطائفة من العرب إلى البصرة ممّا يلي بنى سعد وكتب إلى محمد بن يحيى البحراني في إتيانها ممّا يلي نهر عديّ وضمّ إليه سائر العرب فواقع بغرا عليّ بن أبان يومين ومال الناس نحوه فدخل عليّ بن أبان من ناحيته ودخل يحيى من ناحيته وتفرّق الجند وانحاز بغرا بمن معه، فلم يكن في وجهه أحد. ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلّبي فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم ونادى منادى إبراهيم بن يحيى:

« من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم. » فحضر أهل البصرة حتى ملؤوا الرحاب. فلمّا رأى اجتماعهم أمر بأخذ أفواه السكك والطرق لئلّا يتفرّقوا، ثم غدر بهم ووضع فيهم السيوف فقتلوا بأجمعهم ولم يفلت إلّا الشاذّ. فيقال إنّ أصوات الناس الذين قتلوا ارتفعت بالتشهّد لما أخذهم السيف فسمعهم من بالطّفاوة. فلمّا فرغ من قتلهم أتى عليّ بن أبان المسجد الجامع فأحرقه وراح إلى الكلّاء فأحرقه من الحبل إلى الجسر وأخذت النار في كلّ شيء مرّت به من إنسان وبهيمة ومتاع وآلة. ثم ألّحوا على من وجدوا بعد ذلك غدوّا وعشيّا ليسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحرانيّ وهو يومئذ بسيحان. فمن كان ذا مال قرّره حتى يستخرج ماله ثم يقتله ومن كان فقيرا عاجله بالقتل.

ثم نادى محمد بن يحيى بالأمان فلم يظهر له أحد.

فكتب الخبيث إلى محمد، أن: « استخلف على البصرة شبلا فإنّهم يسكنون إليه ليظهر الناس، فإذا آمنوا وظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم. » ففعل ذلك حتى استنظف أهل البصرة وقتلهم وهرب الباقون على وجوههم فصرف الخبيث جيشه حينئذ عن البصرة.

ادعاء آخر له

فحكى قوم عن الخبيث أنّه، لمّا انتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة وكثرة ما سفك من الدماء وخرّب وأفسد هاله ذلك - وكان أمرا فظيعا هائلا - ادّعى أنّه دعا عليهم فرأى خيلا بين السماء والأرض وقد خفضوا أيديهم اليسرى ورفعوا أيديهم اليمنى. قال: فعلمت انّ الملائكة تتولّى إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي يتولون ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم المفرط.

وعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على ديار مضر وقنّسرين والعواصم وخلع عليه وعلى مفلح وشخصا إلى البصرة لقتال الخبيث.

وظفر الخبيث بمنصور بن جعفر بعد قتال عظيم وبعد ما جاهد منصور جهادا شديدا فقتله وعامّة من معه.

ذكر مقتل مفلح

ولمّا شخص أبو أحمد ومفلح لحرب الخبيث تجهّز الجيش وعدّة لم ير مثله وحكى المشايخ من أهل بغداد الذين شاهدوا الجيوش أنّه ما رأوا ولا سمعوا بمثل ذلك الجيش كثرة وقوّة وآلة وسلاحا. وتبعهم خلق عظيم من متسوّقة بغداد وكان أصحاب الخبيث متفرّقين في النواحي قد استأكلوها.

فليس مع الخبيث يومئذ إلّا القليل من أصحابه فهو على ذلك حتى وافاه أبو أحمد في جيشه، وهرب من كان من أصحابه بنهر معقل فلحقوا به مرعوبين، فدعا الخبيث رئيسين من رؤساء عسكره ممّن هرب من نهر معقل، فقال لهما:

« ما الذي دعا كما إلى الإخلال بموضعكما؟ » فقالا:

« رأينا شيئا لم نر مثله. » ووصفا عظم ذلك الجيش وعدّتهم وكثرتهم. فوجّه الخبيث من يأتيه بخبر الجيش وخبر من يقوده. فرجعت رسله بتعظيم الأمر وتفخيمه ولم يقدروا أن يقفوا على خبر من يقوده. فزاد ذلك في جزعه وبادر بالرسل إلى عليّ بن أبان يستدعيه ومن معه من الجيش وورد العسكر مع أبي أحمد فأناخ بإزائه واستدعى الخبيث دواة وقرطاسا ليكاتب عليّ بن أبان ويستعجله.

فإنّه في ذلك إذ أتاه المكتنى بأبي دلف وهو من قوّاد السودان يخبره أن القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج فليس في وجوههم من يردّهم فصاح به وانتهره وقال:

« اغرب عني، فقد دخلك الجزع وانخلع قلبك فلست تدرى ما تقول. » وقد كان أمر جعفرا السجّان بالنداء في الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب، فأتاه السجّان فأخبره أنّه ندب الزنج فخرجوا وظفروا بسميريّتين. فأمره بالرجوع لتحريك الرجّالة. فرجع ولم يلبث إلّا يسيرا حتى أصيب مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي، ووقعت الهزيمة وكرّ الزنج وقووا على محاربتهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ووافى الخبيث زنجه بالرؤوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه. فكثرت الرؤوس يومئذ حتى ملأت كلّ شيء. وأتى الخبيث بأسير من أبناء الفراغنة، فسأله عن الجيش فأعلمه بمكان أبي أحمد الموفّق، ومفلح فارتاع لذكر الموفّق وكان إذا راعه أمر كذّب به، فقال:

« كذبت، ليس غير مفلح ولو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد ولما كان مفلح إلّا تابعا له، وأنا لست أسمع إلّا باسم مفلح. » ولم يلبث مفلح أن مات.

ووافى عليّ بن أبان في أصحابه وقد استغنى عنه.

وهرب أبو أحمد الموفّق إلى الأبلّة، فأخذ يجمع من فرّقت الهزيمة ويجدّد الاستعداد. ثم مضى إلى نهر أبي الأسد وكان الخبيث لا يدرى كيف قتل مفلح. فلمّا بلغه أنّه أصيب بسهم ولم ير أحدا ينتحله ادّعى أنّه هو كان الرامي له فسمعه. من يقول:

« سقط بين يدي سهم فأمرت خادمي راحا أن يرفعه إليّ، فرميت به فأصبت مفلحا وكانت الهزيمة. » قال محمد بن الحسن:

« وكذب، فإني كنت حاضرا وما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة وأتى بالرؤوس. »

أسر يحيى بن محمد وقتله وادعاء صاحب الزنج في نبوته

وفيها أسر يحيى بن محمد البحرانيّ قائد الزنج. وذلك أنّه وافى نهر العباس فلقيه بفوهة النهر ثلاثمائة وسبعون فارسا من أصحاب العامل بالأهواز فاستقلّهم وكان هو في جمع عظيم فترك الاستعداد لهم، فرشقوهم حتى أكثروا فيهم الجراح.

وكان بلغ أبا أحمد خبره فأنفذ طاشتمر التركيّ في جيش، فلمّا أشرفوا عليهم ألقى الزنج نفوسهم في الماء وبقي يحيى في بضعة عشر رجلا، فنهض يحيى عند ذلك فأخذ درقته وسيفه واحتزم بمنديل وتلقّى القوم بمن معه، فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام فجرح البحراني بثلاثة أسهم.

ولمّا رآه أصحابه جريحا تفرّقوا عنه ولم يعرف. فرجع حتى دخل سفينة وعبر به إلى ناحية أصحابه. فلمّا راه الزنج مثقلا بالجراحات ضعفت قلوبهم فتركوا القتال وهربوا وقتل منهم خلق كثير وحاز أصحاب السلطان الغنائم التي كانت في السفن.

ومشى يحيى البحرانيّ وهو مثخن حتى ألقى نفسه في موضع وبات ليلته ومعه عبّاد المتطبّب، فنهض عبّاد لمّا أصبح وجعل يمشى متشوّفا لأن يرى إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان فأشار فأخبرهم بمكان يحيى وأتاه بهم حتى سلّمه إليهم.

وانتهى خبره إلى صاحب الزنج فاشتدّ جزعه عليه وعظم عليه توجّعه.

ثم حمل يحيى البحرانيّ إلى أبي أحمد الموفّق فحمله إلى سرّ من رأى إلى المعتمد. فأمر المعتمد ببناء دكّة بالحير في مجرى الحلبة، ثم رفع للناس حتى أبصروه، ثم ضرب مائتي سوط بثمارها، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم خبط بالسيوف، ثم ذبح وأحرق. ولمّا بلغ خبره صاحب الزنج قال:

« كان عظم عليّ ما أصابه واشتدّ اهتمامي به، فخوطبت وقيل لي: قتله خير لك، إنّه كان شرها. » ثم حكى عنه حكايات في غنائم خان فيها فاطّلع عليها، فوهبها له.

وكان أصحابه يحكون عنه أنّه كان يقول:

« عرضت عليّ النبوّة فأبيتها. » فقيل له:

« ولم؟ » قال: « لأنّ لها عبئا خفت ألّا أطيقها. »

وفي هذه السنة انحاز أبو أحمد الموفّق من قرب الزنج إلى واسط

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك انّ الموفّق لمّا صار إلى نهر أبي الأسد كثرت العلل في أصحابه وفشا فيهم الموت. فلم يزل مقيما حتى أبلّ من نجا من الموت.

ثم انصرف إلى باذآورد فعسكر به وأمر بتجديد الآلات وإعطاء من معه الأرزاق، وأصلح الشذاءات والمعابر وشحّنها بالقوّاد، ونهض يريد عسكر الخبيث وأنفذ قوما إلى نهر أبي الخصيب، فمال أكثر الناس حين وقعت الحرب إلى نهر أبي الخصيب. وتأمّل الزنج قلّة مع من هو في جانب أبي أحمد الموفّق، فأكبّوا عليه وكثر القتل في الجانبين.

ثم صار أبو أحمد الموفّق إلى شذاءة وتوسّط الحرب وحرّض أصحابه فكثر عليه الزنج وعلم أنّه لا طاقة له بهم، وانقطع عنه جماعة حجز الزنج بينه وبينهم واقتطعوهم عنه. فقاتلوا قتالا شديدا، ثم قتلهم الزنج بأسرهم وانصرف القوم إلى باذاورد وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره وذلك في عصوف الرياح، فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد الموفّق إلى واسط. فلمّا صاروا إلى واسط تفرّق عنه من بقي معه وتشتّت ذلك الجمع العظيم.

ودخلت سنة تسع وخمسين ومائتين

انصراف أبي أحمد واستخلاف أحمد المولد لحرب صاحب الزنج

وفيها انصرف أبو أحمد بن المتوكّل من واسط إلى سرّ من رأى واستخلف على حرب الخبيث أحمد المولّد.

وكان خفى على صاحب الزنج أمر الحريق الذي كان في أصحاب أبي أحمد فلم يعرف خبره إلّا بعد ثلاثة أيّام فوجّه علي بن أبان وضمّ إليه أكثر الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد إلى الأهواز وبها رجل يعرف باصغجور يتولّى حربها ومعه نيزك في جماعة من القوّاد.

فلمّا التقى العسكران لم يثبت القوم للزنج، إنّما استشعروه من الرعب فانهزم اصغجور وقتل نيزك وأسر خلق من القوّاد فيهم الحسن بن هرثمة، وقتل من الجند عدد كثير وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج.

وكتب عليّ بن أبان بالفتح وحمل أعلاما كثيرة وأسرى ودخل عليّ بن أبان الأهواز وأقام فيها يعيث ويجيء إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث. فلمّا شخص موسى شيّعه المعتمد وأخرج عبد الرحمن بن صالح إلى الأهواز وأشخص إسحاق بن كنداجيق إلى البصرة وإبراهيم بن سيما إلى باذاورد، كلّهم من قبل موسى لحرب صاحب الزنج.

فأمّا عبد الرحمن بن مفلح فإنّه وافى قنطرة ارمق وأقام عشرة أيّام ثم واقع المهلّبي فهزمه المهلّبي فانصرف واستعدّ ثم عاد لمحاربته فأوقع به وقتل من الزنج قتلا ذريعا وانهزم عليّ بن أبان بمن معه من الزنج إلى بيّان.

وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد فقصده وكان المهلّبي قد سار يريد الموضع المعروف بالأوكر فواقعه إبراهيم فهزمه وانتهى خبر هزيمته إلى عبد الرحمن فوجّه إليه طاشتمر في جمع من الموالي فلم يصل إلى المهلّبي لأنّه كان سلك طريق الآجام والأدغال والقصب فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منه هاربين وأسر معهم قوما.

وصار المهلّبي إلى نهر السدرة وكتب إلى صاحبه يستمدّه ويسأله التوجيه إليه بالشذاءات، فوجّه إليه ثلاث عشرة شذاة فيها جمع كثير من المقاتلة.

فسار المهلّبي حتى وافى عبد الرحمن فلم يكن بينهما قتال وتواقف الجيشان يومهما.

فلمّا كان الليل انتخب المهلّبي جماعة يثق بهم وبجلدهم وصبرهم وترك عسكره بمكانه ليخفى أمره ومضى حتى صار من وراء عبد الرحمن ثم بيّته فقتل وانتهب وهرب عبد الرحمن على وجهه حتى وافى الدولاب. ثم أعدّ رجالا وولّى عليهم طاشتمر فوافوه وأوقعوا به وهزموه إلى نهر المدرة.

ثم صار إليه طاشتمر بنهر المدره فأوقع به وانهزم عليّ إلى الخبيث مغلولا قد أخذت شذاءاته وغنم عسكره.

وكان عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى الخبيث وإسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة مقيم، وأقاموا كذلك بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث وولّى مسرور البلخي.

وفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور.

ذكر دخول يعقوب نيسابور

ذكر أنّ يعقوب بن الليث صار إلى هراة. ثم قصد نيسابور، فلمّا قرب منها وجّه إليه محمد بن طاهر بن محمد يستأذنه في تلقّيه فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته يتلقّونه. ثم دخل نيسابور فنزل طرفا من أطرافها يعرف بداودآباذ فركب إليه محمد بن طاهر فدخل إليه في مضربه فساءله ثم أقبل على توبيخه وتفريطه في عمله وقال:

« مثلك لا يكمل لتدبير خراسان. » وأمر بالتوكيل به وصرفه وحبسه. وولّى عزيزا نيسابور وقبض على أهل بيت طاهر. وورد الخبر بذلك على السلطان.

ووردت رسل يعقوب على المعتمد فجلس له جعفر المعتمد وأبو أحمد الموفّق وحضر القوّاد وأذن لرسول يعقوب. فذكر رسول يعقوب ما لا يزال يتناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان في الشراة والخارجين عليهم حتى غلبوا عليها وضعف محمد بن طاهر عن ضبطها ومكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إيّاه أن يقدم عليهم واستعانتهم به وأنّه صار إليها فتلقّاه أهلها على عشرة فراسخ وسلّموها إليه وأحضر رأسا على قناة فيه رقعة مكتوب فيها:

« هذا رأس عدوّ الله الخارجي بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة قتله يعقوب بن الليث. » فتكلّم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى وقالا لرسل يعقوب:

« إنّ أمير المؤمنين لا يقارّ يعقوب على ما فعل وهو يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولّاه إيّاه فليرجع، فإنّه إن فعل كان من الأولياء وإلّا لم يكن إلّا ما للمخالفين. » وصرف رسله وخلع عليهم.

ودخلت سنة ستين ومائتين

وفيها قتل صاحب الزنج صاحب الكوفة عليّ بن زيد العلوي.

وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان فهزمه، وكان ليعقوب بها ظفر ومحنة.

محاربة يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان

ذكر السبب في ذلك

وكان السبب في ذلك أنّه كان بسجستان رجل يعرف بعبد الله رئيس ينافس يعقوب، فقهره يعقوب فهرب منه إلى محمد بن طاهر بنيسابور. فلمّا ملك يعقوب نيسابور هرب عبد الله فلحق بالحسن بن زيد وشخص يعقوب في طلبه.

فلمّا صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد وكان يعقوب بعث إليه أن يوجّه إليه بعبد الله السجزيّ حتى ينصرف عنه فإنّه إنّما قصد طبرستان لأجله لا لحربه. فأبى الحسن تسليمه إليه.

فلمّا التقى عسكراهما لم يكن إلّا كلا ولا، حتى انهزم الحسن إلى أرض الديلم ودخل يعقوب سارية ثم مضى منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثم شخص في طلب الحسن بن زيد. فلمّا صار في بعض جبال طبرستان تتابعت عليه الأمطار نحوا من أربعين يوما فلم يتخلّص منه إلّا بمشقة شديدة ولم يمكنه النزول إلّا على ظهور الرجال وهلك ما معه من الظهر.

ثم رام الدخول خلف الحسن بن زيد [ إلى الشرز ] فأخبر بعض من شاهده أنّه كان يقدم عسكره وأمرهم بالوقوف ليتأمّل الطريق فلمّا رآه عاد إلى أصحابه وأمرهم بالانصراف وقال:

« إن لم تكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه. » وكان نساء تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل فإنّه إن دخل كفيناكم وعلينا أخذه وأخذ من معه. » فانصرف وقد ذهب معظم خيله وإبله وأثقاله ورجاله، وكتب إلى السلطان بفتح طبرستان وهزيمة الحسن بن زيد.

وسار يعقوب إلى الريّ وبها الصلابيّ من قبل موسى بن بغا.

ذكر السبب في مسيره

كان سبب مسيره إلى الريّ انّ عبد الله السجزيّ صار بعد هزيمة الحسن بن زيد إلى الريّ مستجيرا بالصلابيّ. فلمّا صار يعقوب إلى جوار الريّ كتب إلى الصلابيّ يخيّره بين تسليم عبد الله السجزيّ إليه حتى ينصرف عنه ويرتحل إلى عمله وبين أن يأذن بحربه. فاختار الصلابيّ تسليم عبد الله فسلّمه إليه فقتله يعقوب وانصرف عن الصلابيّ.

ودخلت سنة إحدى وستين ومائتين

وفيها جمع السلطان حاجّ خراسان والريّ وطبرستان وجرجان في صفر وقرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أنّ السلطان ما ولّى يعقوب بن الليث خراسان وانّه عاص ويأمرهم بلعنه، وذلك لدخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر وآل طاهر.

فيها كانت وقعة بين محمد بن واصل وبين عبد الرحمن وطاشتمر برامهرمز فقتل ابن واصل طاشتمر وأسر ابن مفلح.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ ابن واصل قتل بفارس الحارث بن سيما عامل السلطان وتغلّب عليهم وضمّ إلى موسى بن بغا فارس والأهواز والبصرة واليمامة إلى ما كان إليه من عمل المشرق. فوجّه موسى عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز وولّاه إيّاها وفارس وضمّ إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل ذلك وكان مقيما بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة، فلمّا بلغه أنّ ابن مفلح قد توجّه إلى فارس زحف إليه ابن واصل والتقيا برامهرمز وانضمّ أبو داود الصعلوك إلى ابن واصل معينا له فظفر ابن واصل بابن مفلح فأسره وقتل واصطلم عسكره وبعث السلطان إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل في إطلاق ابن مفلح فلم يجبه إلى ذلك، ثم لم يزل ابن مفلح في يده حتى قتله.

ولمّا فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهرا أنّه يريد واسطا لحرب موسى حتى انتهى إلى الأهواز وبها إبراهيم بن سيما في جمع كثير، فلمّا رأى موسى بن بغا شدّة الأمر وكثرة المتغلّبين على نواحي المشرق وأن لا قوام له بهم ولا طاقة، سأل حينئذ أن يعفى عن أعمال المشرق، فأعفى عنها وضمّ ذلك إلى أبي أحمد، وانصرف موسى بن بغا إلى باب السلطان وصرف عمّاله عن المشرق.

وولّى أبو الساج الأهواز وحرب صاحب الزنج، فقدّم أبو الساج صهره عبد الرحمن فقتل، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم ودخل الزنج الأهواز فسبوا أهلها وقتلوا وانتهبوا.

ثم صرف أبو الساج وولّى إبراهيم بن سيما.

وفيها ولّى نصر بن أحمد ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بولاية ذلك.

وفيها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس وابن واصل بالأهواز فانصرف منها إلى فارس والتقى هو ويعقوب فهزمه يعقوب وحصر قلعة ابن واصل بخرّمة فأخذها وحصّل ما فيها - فبلغت قيمة ما أخذه يعقوب منها أربعين ألف ألف درهم - وأسر مرداسا خال ابن واصل وأوقع بالأكراد الذين مالئوا ابن واصل.

وفيها جلس المعتمد في دار العامّة فولّى ابنه جعفرا العهد وسمّاه المفوّض إلى الله وولّاه المغرب وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وحلوان ومهرجانقذق.

وولّى أخاه أبا أحمد العهد من بعد جعفر وولّاه المشرق وضمّ إليه مسرور البلخي وولّاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكّة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وقم وأصبهان والكرج والدينور والريّ وزنجان وقزوين وخراسان وجرجان وطبرستان وكرمان وسجستان والسند.

ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين

وفيها وافى يعقوب بن الليث رامهرمز

فوجّه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج وأخرج من كان محبوسا من أسباب يعقوب لأنّه لمّا حبس يعقوب محمد بن طاهر، حبس السلطان صاحبه وصيفا ومن كان قبله من أسبابه، فأطلق عنهم عند موافاة يعقوب رامهرمز، ثم قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب برسالته.

فجلس أبو أحمد بغداد ودعا بجماعة من التجار وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والريّ وفارس والشرطة ببغداد، وذلك بمحضر صاحب يعقوب.

ثم انصرف الرسل الذين وجّهوا إلى يعقوب إلى السلطان فأعلموه أنّه يقول: لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى الباب السلطانيّ. وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار إليه أبو الساج فقبله وأكرمه ووصله، ولمّا رجع الرسول بجواب يعقوب عسكر المعتمد بخارج سرّ من رأى واستخلف ابنه جعفرا ثم وافى بغداد فاشتقّها وجازها إلى الزعفرانية فنزلها، وقدّم أخاه أبا أحمد الموفّق وسار يعقوب بجيشه حتى صار من واسط على فراسخ فصادف هناك بثقا بثقه مسرور البلخيّ من أجله حتى لا يجوزه. فأقام عليه حتى سدّه وعبره وصار إلى باذبين ووافى واسطا.

وسار محمد بن كثير من قبل مسرور البلخيّ فنزل بإزائه بالنعمانية وسار المعتمد حتى صار إلى سيب بنى كوما وأقام المعتمد حتى اجتمعت إليه عساكره. وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول ثم زحف إلى عسكر السلطان. فأقام المعتمد ومعه عبيد الله بن يحيى وأنهض أخاه لحرب يعقوب، فجعل يعقوب يعبّئ أصحابه وجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته ومسرور البلخيّ على ميسرته وصار هو في نخب الرجال في القلب.

فالتقى العسكران بين سيب بنى كوما ودير العاقول. فشدّت ميسرة يعقوب على ميمنة أبي أحمد فهزمتها وقتلت جماعة منها من القوّاد بينهم إبراهيم بن سيما وغيره، وسائر عسكر أبي أحمد ثابت. ثم ثابت المنهزمة فحملوا على عسكر يعقوب فثبتوا وحاربوا حربا شديدة، فقتل منهم جماعة وأصاب يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه وبدنه ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين إلى آخر وقت العصر.

ثم ظهر في كثير من أصحاب يعقوب كراهة قتال السلطان لمّا رأوه بإزائهم. ثم حمل جميع أصحاب أبي أحمد على يعقوب ومن ثبت معه فانهزم أصحاب يعقوب وثبت يعقوب في حامية أصحابه، حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب وغنم عسكر السلطان عسكر يعقوب. فيقال: إنّه أخذ من عسكره من الدوابّ والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس ومن العين والورق ما يكلّ عن حمله ومن جرب المسك أمر عظيم.

وتخلّص محمد بن طاهر وكان مثقلا بالحديد، خلّصه الذي كان موكّلا به، وكتب كتاب الفتح إلى بغداد وقرئ على الناس، ورجع المعتمد إلى المدائن ومضى أبو أحمد الموفّق وقبض على ما لأبي الساج من المنازل والضياع فأقطعها مسرور البلخي، وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد وقد ردّ إليه العمل وخلع عليه على مرتبته، فنزل دار عبد الله بن طاهر فلم يعزل أحدا ولم يولّ، وأمر له بخمسمائة ألف درهم.

وفيها وجّه صاحب الزنج جيوشه إلى البطيحة ودست ميسان.

ذكر الخبر عن طمعه في ذلك

لمّا انصرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وصار النظر لأبي أحمد الموفّق وضمّ أبو أحمد كور دجلة إلى مسرور البلخيّ وتشاغلوا بحرب يعقوب، خلت كور دجلة من عمّال السلطان وعساكره سوى المدائن.

فوجّه صاحب الزنج أحمد بن مهدى من أهل جبّى في سميريّات فيها رجال رماة إلى نهر المرأة، فجعل الجبّائى يوقع بالقرى.

فكتب إلى صاحبه:

« إنّ البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وأصحابه إلى محاربة يعقوب بن الليث. » فأمر صاحب الزنج رجلا من باهلة يقال له عمير بن عمّار - كان عالما بطرق البطيحة ومسالكها - إلى أن يسير مع الجبّائى حتى يستقرّ بالحوانيت.

وكاتب سليمان بن جامع أن يسير إلى الحوانيت فسار الجبّائى في طريق الماذيان فتلقّاه رميس فواقعه الجبّائى فهزمه وأخذ أربعا وعشرين سميرية ونيّفا وثلاثين صاخة وأفلت رميس ووافق خروجه منهزما مع أصحابه خروج سليمان بن جامع من النهر العتيق. فتلقّاه فأوقع به فيمن أفلت معه وانحاز رميس إلى بئر مساور ولحق بسليمان من مذكورى البلالية وأنجادهم جماعة في نحو من مائة وخمسين سميريّة فاستخبرهم الخبر فقالوا:

« ليس بينك وبين واسط أحد من عمّال السلطان وولاته. » فاغترّ سليمان بذلك وسار حتى انتهى إلى الجازرة فتلقّاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه فانهزم سليمان عنه وقتل أبو معاذ جماعة وأسر جماعة فيهم قائد من قوّاد الزنج يقال له: رباح، وانصرف سليمان إلى موضعه الذي كان معسكرا به فأتاه رجلان من البلالية فقالا:

« ليس بواسط أحد يدافع عنها غير أبي معاذ في الشذاءات التي لقيتك. » فاستعدّ سليمان وكتب إلى الخبيث مع البلاليّة الذين استأمنوا إليه واحتبس الاثنين اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه، وسار قاصدا لنهر أبان فاعترض له أبو معاذ في طريقه ونشبت الحرب بينهما وعصفت الريح فاضطربت شذاة أبي معاذ وقوى عليه سليمان وأصحابه فأدبر عنهم.

ثم مضى سليمان فافتتح نهر أبان فأحرق وانتهب وسبى النساء والصبيان ثم وجّه رجلا يعرف له خبر واسط، فأخبره أنّ مسرورا قد توجّه إليه وأنّه بواسط. فتحمّل سليمان من موضعه وطلب موضعا يقرب عليه قصد صاحبه منه متى لحقه الطلب. فأشير عليه بطيها فتحصّن فيها وجمع إليه كلّ من ظهر منه مكاشفة للسلطان ويثق به من أهل الطفوف وغيرهم وكاتب صاحبه بذلك وبما دبّره، فكتب إليه يصوّب رأيه.

ثم إنّه وجّه الجبّائى في عسكر فبلغه أنّ أغرتمش وخشيشا قد أقبلا فجزع منهما وأخذ في الاستعداد للقائهما. ورجع إليه الجبّائى منهزما وصعد سليمان سطحا فأشرف منه فرأى الجيش فنزل مسرعا وعبر النهر وأمر السودان أن يستتروا حتى لا يظهر منهم أحد ويتواروا بالأدغال وتدعوا القوم حتى يتوغّلوا ولا يتحرّك واحد إلى أن يسمعوا أصوات طبوله فإذا سمعوها خرجوا. وقصد أغرتمش لجيشه وشغلهم قائد من قوّاد الزنج عن دخول العسكر يقال له: أبو الندى، وشدّ سليمان من وراء القوم وضرب الزنج بطبولهم وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم فانهزم أصحاب أغرتمش، وخرج إليهم من كان بطميشا من السودان فوضعوا فيهم سيوفهم وانهزم خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره. فتلقّاه السودان فصرعوه وأخذته سيوفهم فقتل وحمل رأسه إلى سليمان.

وقد كان خشيش حين أسرعوا إليه قال لهم:

« أنا خشيش فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى صاحبكم. » فلم يسمعوا قوله. وانهزم أغرتمش وظفر الزنج بعسكره وشذاءاته ودوابّه وأسلابه وكتب إليه صاحبه بالفتح وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، فأمر فطيف به في عسكره ونصب ثم حمله إلى عليّ بن أبان وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك.

وفيها كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه صاحب مسرور وبين عليّ بن أبان

فهزم الزنوج وقتل منهم مقتلة عظيمة وذلك أنّ مسرورا وجّه أحمد بن ليثويه إلى ناحية الأهواز وكان عليّ بن أبان بتستر فقصده ابن ليثويه فزحف عليّ بن أبان إليه وهو يبشّر أصحابه ويعدهم الظفر ويحكى ذلك لهم عن الخبيث. فلمّا وافى الباهليون - وهي قرية تعرف بذلك - تلقّاه ابن ليثويه في جماعة كثيفه من خيل السلطان واستأمن إليه جماعة من العرب فانهزم عليّ بن أبان ثم كرّ عليهم مع جميعة من رجّالته فاشتدّ القتال وترجّل عليّ بن أبان فباشر القتال بنفسه راجلا وبين يديه غلام يقال له فتح، وبصر بعليّ بن أبان قوم فعرفوه وأنذروا الناس به، فانصرف هاربا حتى لجأ إلى المسرقان، فألقى نفسه فيه وتلاه فتح فغرق فتح ولحق عليّ بن أبان نصر الرومي فتخلّصه من الماء وكان أصاب ساقه سهم، فانصرف مفلولا من أنجاد السودان وأبطالهم عدد كثير.

ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل

وفيها ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل أخذه ابن عزيز بن السريّ فجاء به إلى يعقوب أسيرا.

وملك يعقوب فارس وسار إلى الأهواز، فلمّا صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر وارتحل عن بلدان الأهواز كلّ من كان بها من قبل السلطان.

ثم أقام عليّ بن أبان بنهر السدرة إلى أن دخل صاحب يعقوب الأهواز واسمه الخضر. فجعل يغير عليه وأغار صاحب يعقوب عليه ولم يزل كذلك الأمر مدّة.

ثم تجاسر عليه أعنى عليّ بن أبان على الخضر فسار إليه وأوقع به وقتل من أصحاب يعقوب خلقا وهرب الخضر إلى عسكر مكرم، فلمّا استباح عليّ عسكره والأهواز رجع إلى نهر السدرة وكتب إلى بهبوذ يأمره بأصحاب الصفّار أن يوقع بهم وهم بالدورق. فمضى بهبوذ إلى الدورق وأوقع بأولئك.

فكان عليّ يتوقّع بعد ذلك مسير يعقوب إليه فلم يسر.

وأمدّ الخضر بأخيه الفضل وأمرهما بالكفّ عن قتال أصحاب الخبيث والاقتصار على المقام بالأهواز. فأبى ذلك عليّ دون نقل طعام هناك، فتجافى له الصفّار عن ذلك الطعام وتجافى عليّ للصفّار عن علف كان بالأهواز. فنقل عليّ الطعام وترك العلف وتكافّ الفريقان: أصحاب عليّ وأصحاب الصفّار.

ودخلت سنة أربع وستين ومائتين

وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان من صدمة خادم له وصلّى عليه أبو أحمد ومشى في جنازته واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، ثم قدم موسى بن بغا فهرب الحسن بن مخلد واستوزر مكانه سليمان بن وهب.

وفيها توجّه جيش من قبل الصفّار إلى الصيمرة ونفذوا إليها وأخذوا صيغون وحملوه أسيرا.

وفيها مات موسى بن بغا ببغداد وحمل إلى سرّ من رأى فدفن بها.

محاربة محمد المولد وسليمان بن الجامع

وفيها ولى محمد المولّد واسطا فحاربه سليمان بن جامع وهو قريب من تلك الناحية، فهزمه وأخرجه من واسط ودخلها.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ عليّ بن أبان لمّا هزم بأغرتمش وجعلان، أشار عليه أحمد بن مهدى الجبّائى بتطرّق عسكر البخاريّ وهو على خمسة فراسخ من عسكر تكين فلمّا وافى ذلك الموضع قال له الجبّائى:

« الرأي أن نقيم هاهنا وأمضى أنا في السميريّات فأحتر القوم وأتعبهم فيأتوك لغبين فتنال حاجتك. » فأقام سليمان وعبّأ خيله ورجّالته بموضعه ومضى الجبّائى فقاتلهم ساعة وأعدّ تكين حيلة وتطارد له الجبّائى وطال على عليّ بن أبان انتظار الجبّائى.

فأقبل يقفوا إثر الجبّائى. فأنفذ الجبّائى غلاما له إلى سليمان بن جامع أنّ أصحاب تكين واردون عليك بخيلهم.

فتلقّاهم الرسول فردّه إلى معسكره وجعل عليّ كمينا ممّا يلي الصحراء في ميسرة تكين وقال:

« إذا جاوزتكم خيل تكين فاخرجوا من ورائهم. » فلمّا علم الجبّائى أنّ سليمان قد أحكم أمره رفع صوته وقال لأصحابه ليسمع أصحاب تكين:

« غررتموني وأهلكتمونى، وقد كنت أمرتكم ألّا تدخلوا هذا المدخل، فأبيتم إلّا أن تلقوني وأنفسكم في هذه الورطة التي لا نرى أنّا ننجو منها. »

فطمع أصحاب تكين لمّا سمعوا كلامه وجدّوا في طلبه وجعلوا ينادونه:

« بلبل في قفص. » وسار الجبّائى سيرا حثيثا واتبعوه بجدّ يرشقونه حتى جاوز الكمين وقارب عسكر سليمان، وهو أيضا كامن وراء الجدر في خيله ورجله.

فزحف سليمان وخرج الكمين من وراء الخيل وعطف الجبّائى فأتاهم الروع من الوجوه كلّها فانهزموا. وركبهم الزنج يقتلونهم ويأسرونهم ويسلبونهم حتى قطعوا ثلاثة فراسخ.

ثم وقف سليمان وقال للجبّائى:

« نرجع فقد غنمنا وسلمنا والسلامة أفضل من كلّ شيء. » فقال الجبّائى:

« كلّا قد نفذت حيلتنا فيهم ونخبت قلوبهم. والرأي أن نكبسهم في ليلتهم هذه فلعلّنا أن نفضّ جمعهم ونجتاحهم. » فاتبع سليمان رأى الجبّائى وصار إلى عسكر تكين فقاتلهم تكين قتالا شديدا حتى انكشف عنه سليمان. ثم وقف سليمان وعبّأ أصحابه ثانية ووجّه شبلا في خيل ورجّالة إلى الصحراء وأمر الجبّائى فسار في السميريّات في بطن النهر وسار هو فيمن معه من أصحابه حتى وافى تكين، فلم يثبت له أحد وانكسفوا فتركوا في عسكرهم. فغنم ما فيه وأحرق الباقي وانصرف وكان استأذن صاحبه في الإلمام به فألفى في منصرفه ورود الإذن له، فاستخلف الجبّائى وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذاءات التي كان أخذها من خشيش وأصحابه اغرتمش ومن كان معهم إلى عسكر الخبيث.

ثم كانت لعليّ بن أبان والجبّائى وغيرهما من أصحاب الخبيث وقعات منكرات وأمور هائلة ما كتبتها لخلوّها ممّا بنيت عليه كتابي هذا إلى أن دخل أصحابه واسطا.

وفيها خرج سليمان بن وهب والحسن بن وهب إلى سرّ من رأى

فلمّا وصل إليها حبسه المعتمد وقيّده وأنهب داره ودور بنيه واستوزر الحسن بن مخلد. وكان أبو أحمد الموفّق حسن الرأي في آل وهب فشخص من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان بن وهب. فلمّا قرب الموفّق من سرّ من رأى، تحوّل المعتمد إلى العسكر الغربي فعسكر به واختلف الرسل بينهما.

فلمّا كان بعد أيّام صار المعتمد إلى حرّاقة في دجلة وصار إليه أخوه الموفّق في زلّال، فخلع على الموفّق وعلى مسرور البلخي وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا.

ثم عبر أهل عسكر أبي أحمد إلى عسكر المعتمد يوم التروية من ذي الحجّة فأطلق سليمان بن وهب ورجع المعتمد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد وكتب في قبض أموالهما وأسبابهما ومن يتصل بهما وهرب القوّاد المقيمون كانوا بسرّ من رأى إلى تكريت. ثم شخص إلى الموصل ووضعوا أيديهم في الجباية.

وكان عبيد الله بن سليمان كاتب الموفّق فأصلح بين سليمان بن وهب والحسن بن مخلد.

ودخلت سنة خمس وستين ومائتين

وفيها كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد الزنج وقعة بناحية جنبلاء فقتل من أصحاب سليمان سبعة وأربعون قائدا وخلق من الجند لا يحصى عددهم، واستباح عسكره وأحرق سفنه ومضى مفلولا حتى وافى طميشا.

وفيها لحق محمد المولّد بيعقوب بن الليث فصار إليه وقبض السلطان على أمواله وضياعه.

وفيها قبض الموفّق على سليمان بن وهب وابنه عبيد الله وأمر بقبض ضياعهما وأسبابهما وصولحا على تسعمائة ألف دينار.

واستكتب الموفّق صاعد بن مخلد واستوزر إسماعيل بن بلبل.

وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث وكتب عمرو إلى السلطان بأنّه سامع مطيع.

وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة مخالفا لأبيه أحمد وكان أبوه استخلفه على عمله بمصر لمّا توجّه إلى الشام. فلمّا انصرف أحمد عن الشام راجعا إلى مصر حمل العباس ما في بيت المال بمصر وما كان لأبيه هناك من مال وأثاث وغير ذلك ومضى إلى برقة. فوجّه إليه أبوه جيشا فظفروا به ووجّهوه إلى أبيه فحبسه عنده وقتل بسببه وما كان منه جماعة كانوا شايعوا ابنه على ذلك.

وفيها دخل الزنج جبّل والنعمانية فأحرقوا وسبوا وصاروا إلى جرجرايا ودخل أهل السواد بغداد.

وفيها ولّى أبو أحمد، عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند وأشهد له بذلك ووجّه إليه العهد والخلع.

وفيها صار مسرور البلخي إلى النيل وكان هناك عبد الله بن ليثويه وكان يظهر الخلاف على السلطان. فلمّا قصده مسرور ومن معه تلقّوه وترجّلوا له وانقادوا له بالسمع والطاعة وعبد الله بن ليثويه قد نزع سيفه ومنطقته وعلّقهما في عنقه وهو يعتذر ويحلف أنّه كان محمولا على ما فعل. فقبل منه وخلع عليه وعلى عدّة من قوّاده.

ودخلت سنة ستّ وستين ومائتين

وفيها ولّى عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسرّ من رأى وخلع أبو أحمد عليه. فلمّا صار عبيد الله إلى منزله خلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث. وبعث إليه عمرو مع خلعته عمودا من ذهب.

وفيها غلب اساتكين على الريّ وأخرج العامل كان عليها. ثم صار هو وابنه اذكوتكين إلى قزوين وعليها ايزون أخو كيغلغ. فصالحاه وأخذا قزوين ثم عادا إلى الريّ. وفيها مات أبو الساج وكان منصرفا من الأهواز عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد.

وفيها ولّى عمرو بن الليث، أحمد بن عبد العزيز بن دلف أصبهان وولّى محمد بن أبي الساج الحرمين وطريق مكّة.

وفيها وجّه مسرور إلى الأهواز أغرتمش ومطر بن جامع وأبا لحرب عليّ بن أبان صاحب الزنج. فكانت بينهم وقعات بنهر السدرة ثم ظفر على تكمين كمنه وأكبّ الزنج على أصحاب السلطان فهزمهم وأسر مطر بن جامع وأتى به عليّ بن ابان فاستبقاه مطر فقال له عليّ:

« لو كنت أبقيت على صاحبنا جعفرويه بتستر لأبقينا عليك. » وكان جعفرويه محبوسا بتستر فلمّا صار إليها مطر أخرجه وقتله فقام عليّ بيده [ السيف ] إلى مطر فضرب عنقه وأفلت أغرتمش وأبّا ووجّه عليّ بن أبان بالرؤوس إلى الخبيث.

وفيها كانت بين الأكراد وبين عليّ بن أبان وقعة، فغلبه الأكراد وقتلوا من الزنج مقتلة عظيمة.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّه كان بين محمد بن عبيد الله بن آزاذمرد الكردي وبين عليّ بن أبان شحناء، ثم تلاقيا على صالح وكان عليّ يرصده بشرّ، وقد عرف محمد بن عبيد الله ذلك فكان يروم النجاة منه. فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاى وسأله مسألة أبيه ضمّ ناحيته إليه فأذن له الخبيث فاستعدّ له عليّ وسار إليه وأوقع برامهرمز ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيم بها. فلم يكن بمحمد فيه امتناع. فهرب فاستباح عليّ رامهرمز وكتب محمد إلى عليّ يطلب المسالمة على مال يحمله إليه، فكتب عليّ إلى الخبيث بذلك، فكتب إليه بقبول ذلك وحمل المال، فحمله وأمسك عليّ عن محمد وأعماله.

ثم كتب إليه يسأله أن يعينه على جماعة من الأكراد بموضع يقال له:

الداريان على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم. فكتب عليّ إلى الخبيث يستأذنه في النهوض إلى ذلك فكتب إليه أن:

« وجّه الخليل بن أبان أخاك وبهبوذ وأقم أنت لا تنفذ جيشك حتى تتوثّق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون في يدك تأمن بهم من غدره، فقد وترته وهو غير مأمون. »

فكتب عليّ إلى محمد بذلك وسأله الرهائن، فأعطاه محمد الأيمان والعهود، ودافعه عن الرهائن.

ذكر عجلة وحرص كانا سبب ترك الحزم

فدعا عليّا الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد إلى أن أنفذ الجيش قبل تحصيل الرهائن. فساروا ومعهم رجال محمد حتى وافوا الموضع المقصود، فخرج إليهم أهله فنشبت الحرب وظهر الزنج على الأكراد. ثم خذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله وصدقهم الأكراد فانهزموا، وكان محمد أعدّ لهم قوما فعارضوهم وهم منهزمون، فأوقعوا بهم وسلبوهم وقتلوهم، فرجعوا بأسوإ حال فكتب المهلّبي إلى الخبيث بما ركبه محمد، فكتب إليه يعنّفه ويقول:

« خالفتني وتركت الحزم وتبعت هواك، فذاك الذي أردى جيشك. » وكتب الخبيث إلى محمد أنّه:

« لم يخف عليّ تدبيرك على جيش عليّ بن أبان ولن تعدم المكافأة على ما كان منك. » فارتاع محمد ممّا ورد عليه وكتب إليه بالتضرّع والخضوع وكتب:

« إني ارتجع جميع ما ذهب من عسكر الخليل بن أبان وأتوعّد من فعل ذلك وأقصده بكلّ مكروه. » فأظهر الخبيث غضبا وكتب إليه يتهدّده، فأعاد محمد الكتاب بالاستكانة وكتب إلى بهبوذ يضمن له مالا ولغيره ممّن يقرب من الخبيث فلم يزالوا به حتى سلّوا سخيمته على محمد وأظهر الخبيث الرضا عن محمد وقال:

« لست أقبل ما يقول أو يخطب لي على منابر أعماله. » فأجابه محمد إلى ما أراد. ثم راوعه وقصد عليّ متّوث فلم يطقها لحصانتها فاتّخذ لها سلاليم وآلات الحروب. وكان مسرور عرف قصد عليّ متّوث، فلمّا صار إليها وافاه قبيل المغرب وهو مقيم عليها. فلمّا عاين أصحاب عليّ أوائل خيل مسرور انهزموا وتركوا عسكرهم وجمع الآلات التي أعدّوها وقتل منهم جمع كثير وانصرف عليّ مذعورا مفلولا ولم يلبث حتى تتابعت الأخبار بإقبال أبي أحمد الموفّق إلى سوق الخميس وطميشا وفتح أبي أحمد إيّاها.

ثم ورد عليه كتاب يحفزه حفزا شديدا بالمصير إليه في عسكره.

ودخلت سنة سبع وستين ومائتين

وفيها غلب أبو العباس ابن الموفّق على عامّة ما كان سليمان صاحب الزنج غلب عليه من قرى دجلة

ذكر الخبر عن ذلك

إنّ الزنج لمّا دخلوا واسطا - وكان منهم ما ذكرنا - واتصل الخبر بأبي أحمد استعظمه، فخفّ للنهوض ابنه أبو العباس. فلمّا استجمع أمره ركب أبو أحمد يعرض أصحابه ووقف على عدّتهم فكان جميع الفرسان والرجّالة عشرة آلاف رجل في أحسن زيّ وأجمل هيئة وأكمل عدّة ومعهم الشذاءات والسميريّات والمعابر للرجّالة. فنهض أبو العباس وانصرف أبو أحمد من تشييعه وأقام أبو العباس بالفرك حتى تكامل أصحابه وأقام أيضا بالمدائن، ثم رحل إلى دير العاقول. فورد عليه كتاب نصير أبي حمزة صاحب الشذاءات والسميريّات وكان أمضاه على مقدّمته يعلمه أنّ سليمان بن جامع قد وافى في خيله ورجاله وشذاءاته والجبّائى يقدمه حتى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، فرحل أبو العباس حتى وافى جرجرايا ثم فم الصّلح ثم ركب الظهر حتى وافى الصّلح ووجّه طلائعه لتعرف الخبر، فأخبروه بموافاة القوم وجمعهم وأنّ أوّل جيشهم بالصّلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط. فلمّا عرف ذلك عدل عن سنن الطريق وسار معترضا ولقي أصحابه أوائل القوم فتطاردوا لهم وأمعن الزنج في طلبهم فجعل الناس يقولون:

« اطلبوا أميرا للحرب فإنّ أميركم مشغول بالصيد. » فلمّا قربوا من أبي العباس بالصّلح خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل وأمر فنودي:

« نصير، إلى أين تتأخّر عن هؤلاء الكلاب؟ ارجع إليهم. » فرجع نصير وركب أبو العباس في سميرية وحمل الناس من كلّ جهة فانهزم الزنج وأصحاب أبي العباس يقتلونهم إلى أن وافى بهم قرية عبد الله وهي على ستّة فراسخ من الموضع الذي لقوهم. وأخذوا عدّة شذاءات وسميريّات واستأمن قوم وغرق قوم.

فكان ذلك أول فتح فتح على أبي العباس. وأشار على أبي العباس قوّاده ونصحاؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه، إشفاقا عليه من مقاربة القوم. فأبى وقال:

« فأين التيقّظ. » فنزل واسطا.

ولمّا انهزم سليمان بن جامع وأصحابه توافوا بنهر الأمير.

وكان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم فقالوا:

« هذا فتى حدث لم تطل ممارسته للحروب فالرأي أن نرميه بحدّنا كلّه، فإنّه سيرتاع ويكون سببا لانصرافه عنّا أو أسره. » ففعلوا ذلك وحشدوا فكاد يتمّ لهم ما دبّروه، ثم كانت الدبرة عليهم.

ودخل أبو العباس واسطا من غد يوم الوقعة في أحسن زيّ واستأمن إليه قوم ثم انحدر إلى العمر وهو على فرسخ من واسط فقدّم فيه عسكره وكان الناس أشاروا عليه أن يعسكر فوق واسط فأبى ونزل العمر ثم أخذ في بناء الشذاءات وآلات الماء وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم.

ثم إن سليمان استعدّ له مرة أخرى وحشد فلقيهم أبو العباس فهزمهم وقتل وأسر. ثم أتاه مخبر فأخبره أنّ الزنج قد اجتمعوا واستعدّوا لكبس عسكره من ثلاثة أوجه، وأنّهم قالوا فيما بينهم:

« إنّه حدث غرّ قد خاطر وغرّر بنفسه فاتفق له ولا يتمّ له ذلك أبدا. » فلمّا علم بتدبيرهم حذر وكانوا كمنوا له عشرة آلاف في موضعين وأطمعوه في أنفسهم فمنع أبو العباس من اتباعهمم. فلمّا علموا أنّ كيدهم لم ينفذ اجتمعوا له وكاثروه فهزمهم وأفلت سليمان راجلا ومضى جيشهم لا يلوى أحد على أحد. ورجع أبو العباس إلى مكانه بالعمر ثم إنّ الجبّائى كان يجيئه في الطلائع في كلّ ثلاثة أيّام.

ذكر حيلة للجبائى ما تمت له

أمر الجبائي بحفر آبار وصيّر فيها سفافيد حديد وغشّاها بالبواري وواراها بالتراب وأخفى مواضعها وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهوّر فيها المجتازون وكان يوافى متعرّضا ويهيج الناس. فجاء يوما فطلبته الخيل فتقطّر فرس قائد في بئر منها فوقف أصحاب أبي العباس على حيلته فحذروا ذلك السمت ولم يمتحن غير ذلك القائد الواحد.

ثم عاودوا التعرّض للحرب في كلّ يوم إلى أن استجرأ عليهم جند أبي العباس فكان أبو العباس يقصدهم ويقتل ويأسر ويستنقذ نساء المسلمين وصبيانهم ويردّهم إلى أهليهم إذ عرض لأبي العباس كركيّ يطير، فرماه بسهم فشكّه فسقط بين أيدى الزنج ورأوا موقع السهم منه، فعلموا أنّه سهم أبي العباس، فاستشعروا الرعب منه فكانوا إذا رأوا علامته انهزموا.

ثم عزم أبو أحمد الموفّق على المصير إلى الجيش ومباشرة الأمر بنفسه فعزم أبو العباس على قصد نهر سوق الخميس قبل موافاة أبيه.

فقال له نصير:

« إنّ ذلك النهر ضيق فأقم أنت وأذن لي في المسير إليه. » فأبى أن يدعه حتى يعاينه فقيل له: إن كنت لا بدّ فاعلا فلا تكثر عدد من يحمل معك في الشذاءات.

فاستعدّ أبو العباس وسار نصير بين يديه واستأذنه رجل من قوّاده يقال له موسى دالحوا أن يكون بين يديه فأذن له وسار حتى انتهى إلى فوهة النهر المؤدّى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني وغاب عنه نصير حتى خفى خبره وخرج عليه في ذلك الموضع خلق فتحدّث من كان معه قال: لمّا حالوا بيننا وبين الانتهاء إلى السور - وكان بيننا وبينه مقدار فرسخين - حاربناهم فاشتدّت الحرب وخفى أمر نصير علينا والزنج يهتفون بنا:

« أخذنا نصيرا وأنتم في قبضتنا. » فاغتمّ أبو العباس لذلك ورحل منه فاستأذنه محمد بن شعيب أن يأتيه بخبر نصير فأذن له فمضى في سميريّة بعشرين جذّافا، فإذا هو بنصير وقد قرب من سكر كانوا سكروه، فأضرمه بالنار وهو يحارب حربا شديدة وقد رزق الظفر. فرجع وأخبر أبا العباس وبشّره بسلامة نصير ومن معه وأنّه ظافر غانم فسرّ به سرورا شديدا.

وكان الزنج قد علقوا بشذاءة، فركب أبو العباس في سميريّة حتى وافى تلك الشذاءة وعلى أبي العباس كبر تحته درع فانتزع الشذاة وخلّصها. قال محمد: فنزعنا من كبر أبي العباس خمسا وعشرين نشّابة ومن لبابيد الملّاحين مثل ذلك وأقلّ وأكثر.

وظفر أبو العباس بالزنج وهزمهم وعاد إلى معسكره بالعمر إلى أن وافى الموفّق.

خروج الموفق لحرب صاحب الزنج

وخرج الموفّق من مدينة السلام قاصدا حرب صاحب الزنج وذلك حين بلغه أنّ صاحب الزنج كتب إلى صاحبه عليّ بن أبان المهلّبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد.

فأعدّ أبو أحمد الشذاءات وآلات الماء وسار في فرسانه ورجّالته وغلمانه إلى أن نزل على فرسخ من واسط فأقام هناك يوما وليلة، فتلقّاه أبو العباس ابنه في جريدة خيل فيها قوّاده ووجوه جنده فسأله أبوه عن خبر أصحابه فأثنى عليهم ووصف نصحهم وبلائهم، فخلع عليه وعليهم.

وانصرف أبو العباس إلى معسكره ورحل أبو أحمد من غد ذلك اليوم في الماء وتلقّاه أبو العباس وجميع الجند في هيئة الحرب ثم سار أمامه إلى أن نزل أبو أحمد ثم سار أبو أحمد وولّى ابنه أبا العباس مقدّمته ووضع العطاء فأعطى الجيش. ثم سار على تعبئة وأمامه أبو العبّاس فأتاه بأسرى.

وذلك أنّه وافى عسكرا للشعرانى قبل مجيء أبيه فأوقع به وقتل منه مقتلة عظيمة، فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسارى. ثم رحل أبو أحمد يريد مدينة صاحب الزنج التي سمّاها المنيعة من سوق الخميس بمن معه من الجيش وآلة الماء.

فلمّا رأى سليمان ومن معه من الزنج مسير الخيل والرجّالة على حافتي النهر قد ملؤوا الأرض ومسير الشذاءات والسميريّات في الماء انهزموا، وعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا فيهم السيوف ودخلوا المدينة وقتلوا خلقا وأسروا خلقا وحووا ما في المدينة وهرب الشعراني واتبعوهم حتى وقعوا في البطائح وغرق منهم خلق ولجأ الباقون إلى الآجام، واستنقذ من المسلمات خمسة آلاف امرأة سوى الزنجيّات، فأمر أبو أحمد بحفظهن ليدفعن إلى أوليائهن.

وبات أبو أحمد بإزائها فلمّا أصبح أمر بأخذ جميع ما فيها وهدم سورها وطمّ خندقها واحرق آلاتها وسفنها، وبلغ خبر الوقعة صاحب الزنج فعظمت مصيبته واشتدّ جزعه وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني ويأمره بالتيقّظ.

وتعرّف أبو أحمد خبر الشعراني فقيل: إنّه بالحوانيت، فأنفذ إليه جيشا فألفوا هناك قوّاده ولم يصادفوه فقتلوا قوّاده وانتهبوا هناك غلّات كثيرة.

وتعرّف أبو العباس خبر سليمان بن جامع فأعلم بمكانه من مدينته التي سمّاها: المعمورة، في الموضع الذي يعرف بطميشا فرحل إليها أبو أحمد بعد أن أصلح سفن الجسور واستكثر من الضياع والآلات التي يسدّ بها الأنهار والطرق للخيل وتوطئة الأرض لسلوكها.

دفن الجبائي وادعاء آخر لصاحب الزنج

وفي هذه السنة دخل أبو أحمد طميشا وأخرج منها سليمان بن جامع وقتل بها أحمد بن مهدى الجبّائى وذلك بعد حروب كثيرة.

ولمّا حمل الجبّائى إلى الخبيث اشتدّ جزعه عليه وصار إليه حتى ولى غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره حتى دفن ثم أقبل على أصحابه وقال:

« قد علمت بوفاته وقت قبض روحه قبل وصول خبره إليّ، بما سمعت من زجل الملائكة بالدعاء والترحّم عليه. » ثم إنّ أبا أحمد أمر أهل عسكره بالتحارس ليلتهم وصحّ سور المدينة بكتائب يتلو بعضها بعضا ورتّب غلمانه وأصحابه في المواضع التي يخشى خروج الزنج منها ورتّب الفرسان في المواضع التي يخاف خروج الكمناء منها وقدّم ابنه وتبعه بنفسه وحضّ الغلمان على الحرب وجسّرهم على الإقدام.

وقد كان حصّن الزنج السور بخمسة خنادق وجعلوا أمام كلّ خندق سورا ووكّلوا بها رجالهم فما أغنى جميع ذلك شيئا عند الجدّ، فهدمت الأسوار وطمّت الخنادق وهجم على الزنج وكلّ ذلك بالمصاولة من غير حيلة، سوى أنّ الموفّق كان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وخلع عليه وأقامه حيث يراه أصحابه حتى استمالهم وكثر في أصحابه منهم وكان يفوّقهم على أصحابه ويأمر بالإحسان إليهم حتى فتح المدينة وهدم أسوارها وحوى ما فيها.

ذهاب الموفق إلى الأهواز للإيقاع بالمهلبي

ثم رحل نحو الأهواز بعد أن أحكم ما أراد إحكامه ليوقع بالمهلّبي واستخلف على عسكره بواسط ابنه هارون وشخص في خفّ من رجاله وتقدّم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه في السفن إذا كاتبه بذلك وسار حتى أتى وادي السوس وقد عقد له عليه جسر فعبره ووافى السوس وكاتب مسرورا في المبادرة إليه فقدم عليه في جيشه فخلع عليه وعلى قوّاده وأقام ثلاثا.

وصلّت خيل الخبيث وانتقض عليه تدبيره فحمله فرط الهلع على أنّ كاتب المهلّبي وهو يومئذ بالأهواز في ثلاثين ألفا بترك ما قبله كلّه والإقبال إليه. فترك ما كان جمعه من المير والأموال والأثاث وصار إليه، واستخلف محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائى، فوجل من المقام وخرج يتبع المهلّبي وكان يجبّى والأهواز يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم. فخرجوا عن ذلك كلّه جبنا وإدبارا فحوى جميعه الموفّق. فصار قوّة على الخبيث ولو أراد جمع ذلك في ذلك الوقت ما قدر على شيء منه.

وكتب أيضا الخبيث إلى بهبوذ وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما يتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس يأمره بالقدوم عليه. فترك بهبوذ أيضا ما كان قبله من التمر والطعام وكان شيئا عظيما فحوى جميعه أبو أحمد وقوى به على الخبيث.

وتخلّف عن المهلّبي قوم من الفرسان والرجّالة وكتبوا إلى أبي أحمد يسألونه الأمان لما انتهى إليهم عفوه عن من ظفر به بطميشا فبذله لهم وأحسن إليهم.

وأمر الموفّق بجباية الأهواز من جميع كورها. ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكرديّ من يؤنسه وعفا عنه وتقدّم إليه في جمع الأموال وتعجيلها نحوه والمسير إليه، وتأخّرت الميرة عن أبي أحمد بالأهواز وغلظ الأمر فسأل عن السبب فوجد الجند قد قطعوا قنطرة قديمة كانت بين سوق الأهواز ورامهرمز يقال لها: قنطرة أرمق، فامتنع التجّار من حمل الميرة لأجل ذلك.

فركب إليها أبو أحمد وهي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان في العسكر من السودان وأمرهم بنقل الصخر وبذل لهم الأموال فلم يرم حتى أصلحت القنطرة في يوم واحد وردّت كما كانت، فسلكها الناس ووافت الميرة والقوافل فعاش أهل العسكر وحسنت أحوالهم.

وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد جسر على دجيل فجمعت من جميع كور الأهواز الآلات.

فلما تمّ عقده وتراجعت نفوس الناس والدوابّ باتصال المير والأعلاف سار وقدّم أبا العباس إلى الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون بأن يحدّر إليه جميع الجيش إلى نهر المبارك لتجتمع العساكر هناك.

ونزل أبو أحمد بقورج العباس ثم نزل الجعفرية وهذه قرية ليس فيها ماء إلّا ماء الآبار التي كان أبو أحمد تقدّم بحفرها في عسكره فحفرت له وكان أعدّ بها بئرا، فوافاها والأمور مصلحة معدّة، ثم رحل حتى ورد نهر المبارك، واستأمن قوم إلى أبي أحمد طمعا فيما بلغهم من إحسانه إلى المستأمنه فأبلغوه أنّ صاحب الزنج قد جمع آلات الماء وفيها خلق من السودان ليقصدوا نصيرا وهو بنهر المرأة ويسلكوا موضعا يخرجهم من ورائه. فأنفذ إلى نصير وأخبره بذلك فبادر نصير إلى شقّ بئرين، فلقى هناك القوم فزرق الظفر بعد مجاهدة عظيمة، فقتل وأسر وأخذ ثلاثين سميريّة. وانصرف أصحاب أبي أحمد ظافرين إلى واسط واستأمن إلى نصير زهاء ألفى رجل، فكتب بالخبر إلى أبي أحمد فأمره بقبولهم وإجراء الأرزاق عليهم وتفريقهم على أصحابه ومناهضة العدوّ بهم.

ثم كتب إليه بموافاته إلى نهر المبارك ففعل.

كتاب أبي أحمد إلى صاحب الزنج للأمان والتوبة مما ركب وادعى

وكتب أبو أحمد إلى الخبيث كتابا يدعوه إلى الدخول في الأمان والنزوع عمّا هو عليه من ادعاء النبوّة وسبى المسلمات والمسلمين والفساد في الأرض، فإنّ التوبة مبذولة له. وأطال الكتاب في هذا المعنى.

فلمّا وصل إلى الخبيث رمى بالكتاب من يده ولم يجبه بشيء، وأقام على إصراره فعرض أبو أحمد شذاءاته وجمع آلات الماء ورتب قوّاده ومواليه وتخيّر الرماة منهم فرتّبهم في الشذاءات وسار إلى مدينة الخبيث المسماة:

المختارة، في نهر أبي الخصيب فأشرف عليها وتأمّلها فرأى من حصانتها وأسوارها وخنادقها ووعورة الطرق المؤدية إليها من كلّ وجه وكثرة من أعدّ عليها من الرماة بالقسّى الناوكيّة والمجانيق والعرّادات وسائر الآلات ما لم ير مثله. فاستغلظ أمره واستعدّ الوصول إليه.

ولمّا عاين الزنج أبا أحمد ارتفعت ضجّتهم بما ارتجّت له الأرض وتقدّم إلى بعض الشذاءات أن تقرب من السور من قصر الخبيث فتتابعت سهامهم وأحجار منجنيقاتهم وغير ذلك من عرّاداتهم ومقاليعهم حتى ما كان يقع طرف ناظر من الشذاءات إلّا على سهم أو حجر فأمر أبو أحمد بردّ تلك الشذاءات ومعالجة من أصابه جرح أو وهن.

واستأمن في تلك الحال سميريّتان فيها مقاتلة السودان ومعهما آلات الماء فأمر أبو أحمد للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلّاة ووصلهما، وأمر للملّاحين بخلع حرير حمر وثياب بيض وخضر وأمر لهم بصلات وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراه منه نظراؤهم. فكان هذا من أنجع المكائد التي كادهم بها، وذلك أنّهم لمّا رأوا ذلك حسدوهم على ما صاروا إليه من الإحسان مع الدعة والأمن فتنافسوا فيه وابتدروا إليه وحرصوا على المسارعة إليه.

فصار إلى أبي أحمد في يومه ذلك عدّة سميريات فأمر لأصحابها بمثل ما أمر لمن تقدّمهم. فتتابع القوم إلى الأمان رغبة ورهبة ثم استأمن أصحاب الشذاءات. وجاءه السودان والبيضان فكان يصلهم ويكتب أسماءهم ويضمّهم إلى ابنه أبي العباس.

ثم تقدم أبو أحمد إلى موضع يقرب من القصر يعرف بحطى بعد ما أصلح الطرق إليه وعقد القناطر على أنهارها - وعسكر أبي أحمد في ذلك الوقت زهاء خمسين ألفا وعسكر الخبيث زهاء ثلاثمائة ألف، ممّن يقاتل أو يدافع من بين ضارب بسيف وطاعن برمح ورام عن قوس وقاذف بحجر عن منجنيق أو عرّادة أو مقلاع - وأضعفهم الرماة باليد وهم النظّارة الذين يكثرون السواد والمعينون بالنعير والصياح فأمر أبو أحمد فنودي:

« إنّ الأمان مبسوط للناس أسودهم وأحمرهم إلّا الخبيث. » وأمر بسهام فلفت عليها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودى به.

فأقبل إليه المستأمنة تترى.

حصانة مواضع صاحب الزنج ومطاولة أبي أحمد

ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة عدّته ما لا بدّ له من المطاولة والمحاصرة. فاستعدّ لذلك وفرّق أصحابه حول الخبيث ووكّل بكلّ ركن قوّادا وقوّاهم بالرجال والآلات وأنفذ إلى عمّاله في النواحي في حمل الأموال والمير وسائر الأمتعة، وبنى مدينة سمّاها: الموفّقية، وعمل فيها بيت مال وأمر بحمل الأموال إليه من جميع البلدان. وبنى دور الضرب فضرب فيها دنانير ودراهم وجلب إليها الذهب والفضّة، وأرسل إلى سيراف من يأتيه بآلات الماء ويبنى فيها السفن والشذاءات ويجلب متاع البحر وكان قد انقطع جلب البحر منذ أكثر من عشر سنين لإخافة الخبيث السبل.

وكتب بإثبات كلّ من يصلح للجندية إلى عمّاله في الأمصار، ورغّب في ذلك والمدينة الموفّقية تبنى والكتب تنفذ بما يعمرها والتجّار يجهزون إليها والأسواق تكثر وأقبلت إليها مراكب البحر.

وبنى أبو أحمد المسجد الجامع فصارت مدينة كبيرة وحملت إليها الأموال وأدّر العطاء في أوقاته ورغب الناس في حلولها والمصير إليها من كلّ أوب، والخبيث يرصد غرّة يصيب فيها فرصته من أبي أحمد فلا يجد لتيقّظ الناس وتحارسهم ولحفظ الموكّلين بالمواضع المخوفة مواضعهم.

وكان أبو العباس لا يغفل ليلا ولا نهارا وإذا أمكنه قصد ناحية أوقع بها وبمن رتّب فيها من الزنج وإن أتاه مستأمن قبله وأحسن إليه والخبيث ينفذ أصحابه ويبثّ رجاله في اقتطاع ما يرد المدينة من السفن وغيرها. فربّما أصاب من ذلك حاجته فيعوّض أبو أحمد التجّار ويشحن المواضع التي يقصد منها بالرجال. وندب لحفظ الطرق أبا العباس فكان يوقع بأصحاب الخبيث ويحمل رؤوسهم إلى الموفّقية ويرتّب الرجال في الماء والبرّ حتى ضاق الأمر بالخبيث، فعزم على كبس الموفّق.

فاستأمن بعض قوّاد الزنج وأخبر الموفّق بذلك فأعدّ له قوما، فلمّا أتاه البيان كان مستعدا، فظهر على الزنج وأصابه مثل ذلك مرّات في كلّ مرّة يجيئه من ينذره فيستعدّ لهم حتى ظفر يوما برجال بيّتوه وأسر وقتل من السودان نحوا من خمسة آلاف ونصب الرؤوس على سور الموفّقية.

فأشاع الخبيث في أصحابه أنّ ذلك زور وأنّ تلك رؤوس المستأمنة. فأمر الموفّق برمي تلك الرؤوس إليهم بالمنجنيقات والعرّادات التي كانت منصوبة في السفن معمولة لأوقات الحرب فتبيّن لأصحابه كذبه، وصار سببا لضعف نيّاتهم.

ثم زحف الموفق بنفسه إلى المدينة المختارة ذكر السبب في خروجه

كان السبب في خروجه أنّ قوّاد الخبيث كاتبوا أبا أحمد الموفّق يعلمونه أنّهم على الخروج إليه في الأمان وأنّهم ليس يجدون السبيل إلى ذلك وأنّه لو قدّم قوما إلى الحرب لخرجوا ووجدوا بهم سبيلا إلى مفارقة الخبيث. فأنهض الموفّق أبا العباس في آلات الماء والشذاءات وانتخب له الرجال الشجعان وأهل النجدة والبأس وقدّمه. ثم سار بنفسه مع نصير ورشيق وزيرك واستقبلهم أصحاب الخبيث في أكثر من معدّاتهم وآلاتهم وخرج ابن الخبيث انكلانى ومعه عليّ بن أبان وسليمان بن جامع مع السفن التي فيها المجانيق والعرّادات والقسّى الناوكية.

فلمّا التقى الجمعان أمر الموفّق أصحابه بالحملة والدنو من الركن الذي فيه الجمع الأكثر وبينه وبينهم نهر يعرف بنهر الأتراك وهو نهر عريض غزير الماء. فلمّا انتهوا إليه أحجموا، فصيح بهم وحرّضوا على العبور فعبروا سباحة والزنج يرمونهم بما استطاعوا من المجانيق والعرّادات والمقاليع والسهام وحجارة الأيدى فصبروا على جميع ذلك حتى عبروا النهر وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة ما كان أعدّ لهدمه. فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح وتسنّموه وحصرهم بعض السلاليم بعد أن قتل فيهم مقتلة عظيمة ونصب هناك علم وأسلم الزنج سورهم وأحرق ما كان عليه من منجنيق وعرّادة وآلة حرب واستلحقوا الفعلة حتى وسّعوا المدخل في عدّة مواضع وملكوا السور الأوّل بعد مدافعات هلك فيها من الفريقين خلق ولا يعدم كلّ يوم مستأمنة يحسن إليهم فيتنصّحون ويأتون بالأخبار والتدابير التي يدبّرها الخبيث فينتقض عليه أمره.

ودخلت سنة ثمان وستين ومائتين

استئمان جعفر السجان وهروب ريحان إلى أبي أحمد

وفيها استأمن جعفر السجّان وهرب ريحان بن صالح المغربيّ من عسكر الخبيث إلى أبي أحمد. فأمر لهما بجوائز وصلات وأقيمت لهما الأنزال وحملا حتى ظهرا لأصحاب الخبيث وعليهم الخلع فاستأمن ذلك اليوم خلق كثير.

ثم وقعت وقعات كثيرة بعد ذلك بعضها للزنج وبعضها للموفّق، إلى أن منع من ميرة السمك الذي كان يأتيه من البطيحة ومنع العرب من حمل الميرة من جهة البادية وقتل منهم خلق وسلبوا ما كان معهم ومن ظفر به ممّن يسفر أو يعين عليه أخذ وعوقب وعذّب ثم قتل حتى ضاق على الزنج الأمر وانقطعت عنهم كلّ مادّة وضعفوا جدا. فكان الأسير أو المستأمن إذا سئل عن الخبر تعجّب ويزعم بعضهم أنّ عهدهم به سنتين وأقلّ وأكثر. فولى الموفّق أن يتابع الإيقاع بهم ليزيدهم ضرا وجهدا.

وأمر الموفّق بعرض الزنج لمّا كثروا وصاروا أكثر من جنده فمن كان لا يستصلح للقتال مثل الشيخ الضعيف والمجروح والزمن ومن أشبه هؤلاء أن يوهب لهم شيء ويردّوا إلى عسكر الزنج فلمّا عادوا وصفوا خصب عسكر الموفّق وإحسانه إلى المستأمنة فخرج أيضا بهذا السبب خلق في الأمان.

ثم إنّ بهبوذ أخال بحيلة حتى ظفر بخيل للموفّق فقتلهم وأخذ شذاءات كثيرة ونقل ميرة كبيرة.

ذكر حيلته هذه

احتال بأن أخذ شذاءات كثيرة فنصب عليها أعلاما كأعلام الموفّق وحمل فيها فوجا في زيّ قومه ورجاله. ثم اجتهد في أن وقع إلى معترض يؤدّى إلى نهر اليهودي. ثم سلك نهر نافذ حتى خرج إلى نهر الأبلّة فانتهى إلى الشذاءات والسميريّات المرتّبة لحفظ النهر وهم غارّون، فأوقع بهم وقتل قتلا ذريعا وأسر الباقون وجمع شيئا كبيرا من الميرة وأتى أصحابه في معترضات وأنهار غامضة.

ثم إنّه طمع في المعاودة.

ذكر طمعه هذا

فأمره لصاحبه أن يسلك في مواضع غامضة إلى أن يوافى القندل والبرشان. ففعل ذلك فوقع على سميريّة فيها طعام فقصدها بهبوذ فحاربه أهلها فأصابته طعنه في بطنه هلك منها. فعظمت فجيعة الخبيث وأحضر الموفّق الغلام فوصله وطوّقه وزاد في أرزاقه، وأمر لمن كان معه في سميرية بجوائز وصلات.

ودخلت سنة تسع وستين ومائتين

ولمّا قتل بهبوذ طمع صاحبه في كنوزه وأمواله وكان قد صحّ عنده موضع مائتي ألف دينار وجواهر وضياعات ذهب لها قدر. فطلب أمواله وذخائره وحبس أولياءه وأصحابه وضربهم بالسياط وأباد دورا له وهدم أبنية من أبنيته طمعا في شيء يجده من دفائنه. فكان ذلك أحد ما أفسد قلوب أتباعه ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته.

فأمر أبو أحمد بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان فسارعوا إليه ووصلهم.

ورأى أبو أحمد أنّ هدم السور الذي يفضى إلى الخبيث قد امتنع عليه فأزمع أن يباشره بنفسه ليكون ذلك أدعى إلى جدّه أصحابه. فباشر الحرب حتى وصل إلى السور وأحرق قناطر كانت تحول بين أصحابه وبين السور ويعتصم بها الزنج، واستظهر ذلك اليوم.

فبينا هو في جدّه وتشميره وقد ولج أصحابه السور وهدموا المسجد الجامع الذي بناه الخبيث ووصلوا إلى دواوينه وخزائنه وظهرت تباشير الفتح، إذ أتاه سهم غلام روميّ كان مع الخبيث يقال له: قرطاس، فأصاب صدر الموفّق فستر ذلك عن أصحابه وانصرف إلى موضعه من الموفّقية وعولج تلك الليلة.

فلمّا كان من الغد غادي الحرب على ما به ليشدّ من قلوب أوليائه ولئلّا يدخلهم وهن. فزاد ما حمله نفسه من الحركة في قوّة الجراحة فعظم أمرها حتى خيف عليه واضطرب العسكر والجند والرعيّة وخافوا قوّة الخبيث عليهم. فأشار الأطباء وأهل الشفقة بأن يرجع إلى مدينة السلام، فأبى وأشفق أن ينتظم أمر الخبيث بعد ما وهن، وبلغ الغاية. ولم يبق في أمره إلّا اليسير فأقام على صعوبة علّته وغلظ الحادثة في سلطانه إلى أن عوفي فظهر لخاصّته وقد كان أطال الاحتجاب عنهم والخبيث في تلك الأيّام يعد أصحابه العدات ويمنّيهم الأمانى الكاذبة.

فلمّا استقل الموفّق وتماثل وقوى على النهوض للحرب جعل يحلف على منبره أنّ ذلك باطل لا أصل به وأنّ الذي ظهر لهم في الشذاءة مثال مموّه. وكان أعاد بناء ما خرّب من مدينته ودواوينه ودوره.

فركب الموفّق وعاود الموضع بالحرب ووصل إلى تلك المواضع فهدمها ثانية ووصل أصحابه إلى قصر من قصوره فانتهبوا ما كان فيه وأخربوه وأحرقوه واستنقذوا عددا من النساء المسلمات اللواتي كان سباهنّ وأخذوا خيلا له، ولم يبق إلّا الوصول إلى قصره.

فصعب مرام ذلك على الموفّق وكثر المحامون عليه، ووافت الحرب ودامت حتى وصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وحتى لقد عدّ الجرحى في بعض الأيّام فوجدوا زهاء ألفى جريح في أصحاب الموفّق وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كلّ واحد من الفريقين من الدنو من صاحبه، وكانت الشذاءات إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بحجارة المنجنيقات وغيرها وبالنشّاب، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، حتى أعدّ الموفّق للشذاءات أغطية طلاها بعقاقير تمنعها من الاحتراق وأحكمها وحمل فيها شجعان أصحابه وفتّاكهم، وأمر ابنه أبا العباس بقصد دار على شاطئ دجلة من نهر أبي الخصيب كانت بإزاء دار الخبيث ليشغل من فيها عن منعه من دار الخبيث، وأمر أصحاب الشذاءات المطليّة بما وصفنا أن يلصقوا شذاءاتهم بحائط القصر. فحاربهم الفسقة أشدّ حرب بالنيران وغيرها وصبر لهم من فيها حتى أزالوهم عن الرواشن وأحرقها غلمان الموفّق وسلم من كان فيها من الحجارة والرصاص المذاب، وتمكّنوا من دار الخبيث وأحرقوا البيوت التي كانت تشرع إلى دجلة من قصر الفاسق واتصلت النار بالستائر فقويت وأعجلت الخبيث ومن معه عن التّوقف على شيء من أمواله وذخائره وخرج هاربا على وجهه واستنقذ جماعة من النساء اللواتي استرقّهنّ.

وانصرف الموفّق وأبو العباس وقت المغرب بأجمل ظفر وغرق نصير في هذا اليوم.

ذكر الخبر عن ذلك وسببه

وكان سبب غرقه أنّه كان دخل في أوّل المدّ نهر أبي الخصيب فحمل الماء شذاءته فألصقها بالقنطرة ودخلت خلفه عدّة شذاءات فيها غلمان الموفّق ممّن لم يكن أمر بالدخول. فحملهم الماء فألقاهم على شذاة نصير فصكّت بعضها ببعض حتى لم يكن للاشتيامين والجذّافين فيها عمل، ورأى الزنج ذلك فأحاطوا بها من جانبي النهر فألقى الجذّافون أنفسهم في الماء ذعرا ودخل الزنج الشذاءات فقتلوا المقاتلة وغرق بعضهم وحاربهم نصير في شذاءته حتى خالف الأسر فقذف نفسه في الماء فغرق.

وأصاب الموفّق علّة فاشتغل بها عن الخبيث فأعاد القنطرة التي لجّج فيها نصير وأحكم ما كان هدم من قصره، وأفاق الموفّق من علّته فعاود الحرب وخرج الخبيث بنفسه للقتال مع ابنه انكلائى وعلي بن أبان وسليمان بن جامع واشتبكت الحرب وقاتلوا أشدّ قتال رئي، وقطعت القنطرة وأحرقت واستعلى عند ذلك أصحاب الموفّق ونشط غلمانه فوسّعوا المسلك وظفروا بدوره وقصوره فأحرقوها. وانتقل الخبيث من غربيّ نهر أبي الخصيب إلى شرقيّه وجمع عياله وولده حوله وضعف أمره ضعفا شديدا.

تفاقم الجوع وأكل بعضهم بعضا

وتهيّب الناس جلب الميرة إليهم. فبلغ الرطل من الخبز عشرة دراهم فأكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل يتفاقم الأمر بهم إلى أن أكلوا لحوم الناس فكان الزنج يتبعون الناس فإذ خلا أحدهم بامرأة أو صبي وثب عليه فأكله، ثم قوى ذلك فصار بعضهم يأكل بعضا، ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم.

فقصدهم الموفّق وأحرق الشرقيّ من جانب النهر كما أحرق الغربيّ وقصده من ثلاثة أوجه. فطرحوا فيها النيران فاحترق الناس من أصحاب الخبيث مع منازلهم وأسواقهم وهرب من أطاق ذلك فأخذته السيوف وهرب الخبيث وحاز أصحاب الموفّق جميع ما كان في نهر أبي الخصيب من الشذاءات والمراكب البحرية والسفن الصغار والحرّاقات والزلّالات وغيرها. وصار بعد ذلك رؤساء أصحاب الخبيث إذا وكّلهم بحراسة موضع أسلموه واستأمنوا حتى استأمن الشعراني وشبل وكانا من قدماء أصحابه وذوي البصائر في طاعته، وأمرهما الموفّق لمحاربة الخبيث لما علم أنّه لا وجه لهما عنده وضمّ إليهما قوما فكانا يأتيانه من الوجوه التي يأمنها حتى كثر القتل في أصحابه وذعره أمرهما ومنع ذلك أصحابه النوم ودخلهم له وحشة.

هزيمة الزنج وهروب صاحبهم

عظيمة ثم جمع الموفّق السفن وفيها عشرة آلاف من الملّاحين وعرض الجند وحرّضهم حتى شحذ نيّاتهم وهجم على مدينة الخبيث واستقبله الخبيث في جميع أصحابه فاشتدّ القتال وحامى الخبثاء عن ديارهم وعيالاتهم فمنح الله الموفّق النصر، وهزم الزنج وقتلوهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وأسروا منهم جمعا كبيرا وأتى الموفّق بالأسرى فضرب أعناقهم.

وقصد دار الخبيث فدافع عنها ثم لم يغنه ذلك شيئا فأسلمها فانتهب ما كان فيها من الأموال والأثاث وأخذوا حرمه وأولاده فبلغ عدّتهم أكثر من مائة امرأة وصبي، وتخلّص الخبيث ومضى هاربا نحو دار المهلّبي لا يلوى على أهل ولا مال وأحرقت داره، وأتى الموفّق بنسائه وأولاده، فوكّل بهم وأمر بالإحسان إليهم فحملوا إلى الموفّقيّة.

وفي ذي الحجّة من هذه السنة وافى صاعد بن مخلد كاتب الموفّق حضرته منصرفا إليه من سرّ من رأى ووافى معه بجيش كثيف بلغ عدد الفرسان والرجّالة فيها عشرة آلاف. فأمر الموفّق بإزاحة عللهم في أرزاقهم وأمرهم بتجديد أسلحتهم والتأهّب لحرب الزنج. فهم في ذلك إذ ورد عليه كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون وكان فارق صاحبه يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه ليشهد حرب الفاسق فأجابه وأذن له وأخّر ما كان عزم عليه من مناجزة الخبيث انتظارا للؤلؤ وكان لؤلؤ بالرقّة في جمع عظيم من نخبة أصحاب ابن طولون.

فشخص لؤلؤ حتى ورد مدينة السلام، ثم وافى عسكر أبي أحمد فجلس له أبو أحمد وحضر ابنه أبو العباس وصاعد بن مخلد والقوّاد على مراتبهم وأدخل عليه لؤلؤ في أحسن زيّ فأمره أبو أحمد أن ينزل معسكرا كان أعدّ له بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في أصحابه، وتقدّم إليه في مباكرة دار الموفّق ومعه قوّاده وأصحابه للسلام. فغدا مع أصحابه في السواد فوصل وسلّم وقرّبه وأدناه ووعده وأصحابه الإحسان، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قوّاده وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلّاة بالذهب والفضّة وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال في البدر ما يحمله مائة غلام، وأمر لقوّاده من الصلات والكسوة على قدر محل كلّ إنسان منهم، وأقطعه ضياعا جليلة وصرفه إلى معسكره وأعدّت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات وأمره برفع جرائد لأصحابه ليعطوا رسومهم عند رفع الجرائد. ثم تقدّم إلى لؤلؤ في التأهّب للعبور إلى غربيّ دجلة لمحاربة الخبيث.

وكان الخبيث لمّا غلب على نهر أبي الخصيب أحدث سكرا في النهر من جانبيه وجعل في وسط السكر بابا ضيّقا ليتحدّ فيه جرية الماء فيمنع الشذاءات من دخوله في الجزر ويتعذّر خروجها في المدّ.

فرأى أبو أحمد الموفّق أنّ الحرب لا تتم إلّا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك فرام أمرا صعبا بمحاماة الزنج عليه فهم يزيدون فيه كلّ يوم وهو متوسط دورهم، فالمؤونة تسهل عليهم وتغلظ على من حاوله. فرأى الموفّق أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليضروا بمحاربة الزنج ولينظر إلى مقدار غنائهم وشدّة بأسهم. فأمر لؤلؤا بأن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر وأمر بإحضار الفعلة لقلعه. ففعل.

فرأى الموفّق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدّة اليسيرة في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سرّه، وكره أن يبذلهم فيكون الحرّة بهم ثم الظفر ألّا خير لهم فيذهبوا باسم الفتح. فأمر لؤلؤا أن يصرف أصحابه وأظهر إشفاقا عليهم وضنّا بهم، ووصلهم وردّهم إلى معسكرهم.

ثم ألحّ الموفّق على السكر فهو يخرّب وهم يبنون والمستأمنة يكثرون إلى آخر هذه السنة.

وفي هذه السنة أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.

وفيها سمّى صاعد ذا الوزارتين.

المعتمد يريد اللحاق بمصر

وفيها شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وذلك قبل انحدار صاعد إلى الموفّق. وقدم قائدان لابن طولون من الرقّة في ذلك. فلمّا صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداجيق، وهو العامل على الموصل والجزيرة، وثب عليه ابن كنداجيق وعلى جميع من معه، فقيّدهم وأخذ جميع ما صحبهم من مال ورقيق.

وكان كتب إليه في القبض على المعتمد ومن معه وأقطع ضياع فارس بن بغا ومن صحب المعتمد من القوّاد. فاحتال ابن كنداجيق وأظهر أنّه معهم، وفي طاعة المعتمد إذ كان الخليفة ولا يجوز له الخلاف عليه وسار معهم فلمّا نزل موضعا بينه وبين عمل ابن طولون منزلان ارتحل التّبّاع ومن شخص مع المعتمد إلّا القوّاد وأشخص ابن كنداجيق فقال لهم ابن كنداجيق:

« إني أحبّ أن أخلو بكم وأشير عليكم بما في نفسي. » وقال لهم:

« قد قربتم من ابن طولون والمقيم بالرّقّة من قوّاده وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون فالأمر أمره وأنتم من تحت يده. أفترضون بذلك وقد علمتم أنّه اليوم كواحد منكم؟ » وأطال مناظرتهم حتى تعالى النهار فقال لهم ابن كنداجيق:

« قوموا بنا، فإنّ الشمس قد ارتفعت حتى نتمّ حديثنا في غير هذا الموضع ونكرم مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت. » وكان المعتمد في مضربه ومضرب ابن كنداجيق وسائر المضارب قد سارت فأدخلهم إلى مضرب نفسه. وكان قد تقدّم قبل ذلك إلى فرّاشيه وغلمانه وحاشيته في ذلك اليوم ألّا يبرحوا. فلمّا صاروا إلى مضربه دخل جلد غلمانه وأصحابه على القوّاد ومعهم القيود فقيّدوهم.

فلمّا فرغ منهم مضى إلى المعتمد فعذله على شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو فيها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وإزالة ملكهم، ثم حمله ومن معه مقيّدين إلى سرّ من رأى.

تسمية كنداجيق بذي السيفين

وفيها خلع على ابن كنداجيق وقلّد سيفين بحمائل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وسمّى ذا السيفين وخلع عليه أيضا بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان وتوّج بتاج وقلّد سيفا، كلّ ذلك مرصّع بالجوهر.

وشيّعه هارون بن الموفّق وصاعد بن مخلد والقوّاد إلى منزله وتغدّوا عنده.

ودخلت سنة سبعين ومائتين

مقتل صاحب الزنج وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني

وفيها قتل الخبيث وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق، وذلك بعد حروب كبيرة ومنازلات شديدة ومباشرة للحرب منه ومن الموفّق بأنفسهما، ومخاطرات منهما عظيمة لم يكن في جميعها ما يستفاد منه تجربة سوى احتمال المكاره في الحروب والصبر على شدائدها وأخطارها.

وحمل رأس هذا الخائن إلى بين يدي الموفّق في صفر من هذه السنة وهو يحارب مع أهل الشدّة والبأس من أصحابه، فقتل وهو يجاهد على حاله غير مستسلم ولا معط بيده، وكان قد بذل له الأمان مرارا فأباه وأقام على حاله صابرا حتى أسلمه رجاله وخانه ثقاته وذاب ذوبا حتى هلك ومضى مقتولا.

ثم تتابع مجيء الزنج الذين كانوا أقاموا مع الخبيث إلى آخر أمره وصبروا معه حتى وافى ذلك اليوم الذي قتل فيه ألف من الأبطال. فرأى الموفّق أن يبذل لهم الأمان لمّا رأى من كثرتهم وشجاعتهم ولئلّا يبقى منهم بقية يخاف معرّتهم ويجتمعون على رئيس يعظم خطبه بهم.

ثم وافى من الزنج في غد هذا اليوم خمسة آلاف زنجي وانقطع منهم نحو ألفى زنجي إلى البرّ فماتوا عطشا، وظفر الأعراب بقوم منهم فاسترقّوهم. فأمّا من قتل وغرق وأسر في الوقعة فخلق لا يوقف على عددهم.

وانتهى إلى الموفّق خبر المهلّبي وانكلائى ومقامهما بحيث أقاما فيه مع من تبعهما من جلّة قوّادهم ورجالهم فبثّ أبطال أصحابه في طلبهم فلمّا علموا ألّا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم فظفر بهم الموفّق فلم يشذّ منهم أحد وأمر الموفّق بحبس المهلّبي وانكلاى والاستيثاق منهما.

استئمان درمويه

وفيها استأمن درمويه، الزنجي وكان أحد الأنجاد الأبطال وكان الخبيث قبل هلاكه بمدّة طويلة وجّهه إلى أواخر نهر الفهرج وهي من البصرة في غربيّ دجلة.

فلمّا هلك الخبيث أقام درمويه هناك في موضع وعر كثير الدغل والآجام متصل بالبطيحة فكان يقطع الطريق بمن معه في زواريق خفاف اتخذوها، فإذا طلبهم الشذاءات ولجوا في الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال وإذا تعذّر عليهم مسلك نهر لضيقه خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم ولجؤوا إلى هذه المواضع الممتنعة، وفي خلال ذلك يغيرون على ما قرب منهم من القرى ويسلبون من ظفروا به. فكان ذلك دأب درمويه قبل هلاك الخبيث وبعده.

وقد كان ابتدأ شرار الناس وفسّاقهم يصيرون إليه للمقام معه على مثل ما هو عليه، وكان الموفّق عزم على المقام عليه حتى وافاه رسوله يطلب الأمان لنفسه وأصحابه، فرأى الموفّق أن يؤمنه ليقطع مادّة الشرّ الذي كان فيه الناس من الخبيث وأتباعه.

ولمّا ورد عليه الأمان وافى قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبهم بؤس الحصار وضرّه لما كان يصل إليهم من أموال الناس. فذكر أنّ درمويه لمّا أؤمن وأحسن إليه وإلى أصحابه أظهر كلّ ما في يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم وردّ كلّ شيء إلى أهله ردّا ظاهرا مكشوفا، فظهرت أمانته، فاستدعاه الموفّق وقرّبه وخلع عليه وعلى وجوه أصحابه ووصلهم وضمّهم إلى ابنه أبي العباس.

وأقام الموفّق بعد ذلك بالموفّقيّة حتى أنس الناس وعاودوا أوطانهم ووثقوا بالراحة من أسباب الخبيث.

وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة من حمد مذهبه ووقف على حسن سيرته وولّى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد.

ثم قدّم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث فطيف به.

وكان خروج صاحب الزنج سنة خمس وخمسين ومائتين وقتل سنة سبعين ومائتين.

وفيها مات أحمد بن طولون والحسن بن زيد العلوي.

ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين وقعة الطواحين

وفيها كانت بين أبي العباس ابن الموفّق وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين فهزم أبو العباس خمارويه فركب حمارويه حمارا وهرب إلى مصر. ووقع أصحاب أبي العباس في النهب ونزل أبو العباس مضرب خمارويه وهو لا يرى انّه بقي له طالب، فخرج كمين خمارويه كان كمنه وأصحاب أبي العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا. فشدّ كمين خمارويه عليهم فانهزموا وتفرّق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس منهزما وذهب كلّ ما في العسكرين: عسكر أبي العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب الجميع.

ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين

وفيها أخرج أهل طرسوس أبا العباس ابن الموفّق من طرسوس لخلاف وقع بين يازمار وبينه فخرج يريد بغداد فقدمها.

وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس ودخل واسطا. فأمر الموفّق جميع أصحابه من القوّاد أن يستقبلوه، فترجّلوا له وقبّلوا يده وكمّه.

ثم قبض عليه الموفّق وعلى أسبابه كلّهم ببغداد وسرّ من رأى في يوم واحد، فاستكتب الموفّق إسماعيل بن بلبل.

ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين قدوم لؤلؤ من مصر

وفيها قيّد أبو العباس لؤلؤا القادم عليه من مصر ووجد له أربعمائة ألف دينار. فذكر لؤلؤ أنّه لا يعرف لنفسه ذنبا إلّا كثرة ماله وأثاثه.

وفيها كانت بين أبي الساج وبين إسحاق بن كنداجيق وقعة فانهزم إسحاق. ثم واقعه وقعة أخرى فانهزم إسحاق أيضا.

ودخلت سنة أربع وسبعين ومائتين

ولم يحدث فيها حادثة تكتب.

ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين حبس الموفّق ابنه

وفيها حبس الموفّق ابنه أبا العباس فشغب أصحابه وحملوا السلاح وركب غلمانه واضطربت بغداد فركب أبو أحمد الموفّق حتى بلغ باب الرصافة وقال لأصحاب أبي العباس وغلمانه:

« ما شأنكم، أترونكم أشفق على ابني مني؟ هو ولدي واحتجت إلى تقويمه. » فانصرف الناس وهدأت بغداد.

ودخلت سنة ستّ وسبعين ومائتين

شخوص أبي أحمد

وفيها شخص أبو أحمد من بغداد إلى الجبل وكان سبب ذلك انّ المادرائى كاتب اذكوتكين أخبره انّ له هناك مالا عظيما، وأنّه إن شخص صار ذلك إليه. فشخص أبو أحمد، فلم يجد من ذلك شيئا.

فشخص من هناك إلى الكرج ثم إلى إصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز فتنحّى، له أحمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله وترك له داره بفرشها وآلتها لينزلها إذا قدم. وكان مع الموفّق محمد بن أبي الساج، وذلك أنّه قدم عليه هاربا من ابن طولون قبل شخوص الموفّق عن بغداد بعد أن كانت بينه وبين ابن طولون وقعات كثيرة ضعف ابن أبي الساج في آخرها عن مقاومته.

لقلّة من كان معه وكثرة من مع ابن طولون، فلحق بأبي أحمد فخلع عليه أبو أحمد وأخرجه معه إلى الجبل.

انفراج تل عن سبعة أقبر

وفيها ورد الخبر بانفراج تلّ بنهر الصلة يعرف بتلّ بنى شقيق عن سبعة أقبر، فيها أبدان صحيحة وعليها أكفان جدد، لها أهداب تفوح منها رائحة المسك، أحدهم شابّ له جمّة وجبهته وأذناه وخدّاه وأنفه وشفتاه ورقبته وأشفار عينه صحيحة وعلى شفتيه بلل كأنّه شرب الماء فأخرج الثقات لينظروا إلى ذلك فأخبروا أنّهم شاهدوا ذلك وانّ بعضهم جذب شعر بعضهم فوجده قويّ الأصل قريبا من شعر الحيّ.

وكان هذا التلّ انفرج عن شبه حوض من حجر في لون المسنّ عليه كتاب لا يدرى ما هو. فأحضر أصحاب الأديان فلم يعرف أحد منهم الخطّ.

ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين

ولم يجر فيها ما يكتب.

ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين

وفيها انحدر وصيف خادم أبن أبي الساج إلى واسط بأمر أبي الصقر

ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك أنّ أبا الصقر أتلف ما في بيوت أموال أبي أحمد، حتى لم يبق فيها شيء، بالهبات والصلات العظام التي كان يجيز بها القوّاد، والخلع التي يخلعها عليهم. فاستدعى وصيفا هذا ليكون عدّة له إن طالبه أبو أحمد، وكان اصطنع وصيفا وأجازه بجوائز كثيرة وأدرّ على أصحابه أرزاقهم.

ولما نفد ما في بيوت الأموال طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضهم، وحبس بذلك جماعة وكان الذي يتولّى له ذلك المعروف بالزغل.

فعسف الناس وقدم الموفّق قبل أن يسنتظف أداء ذلك، فشغل عنه بقدومه.

انصراف أبي أحمد من الجبل إلى العراق

وانصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، فاشتدّ به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب. فاتّخذ له سرير عليه قبّة، فكان يقعد فيه ويجلس معه خادم يبرّد رجله بالأشياء الباردة وبالثلج. ثم صار به داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلا يتناوب عشرون عشرون. فإذا اشتدّ به الألم أمرهم أن يضعوه. فقال يوما للذين يحملونه وقد سمع منهم ما يدلّ على ضجر:

« قد ضجرتم بحملي وبودّى إني كواحد منكم أحمل على رأسى وانّى في عافية. » وقال يوما:

« أطبق دفترى على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا مني. » ولمّا ورد النهروان تلقّاه الناس فركب الماء في النهروان ثم في نهر ديالى ثم في دجلة، ودخل داره لليلتين خلتا من صفر، فأرجف الناس بموته.

وكان تقدّم في حفظ أبي العباس فغلّقت عليه أبواب دون أبواب. وانصرف أبو الصقر إلى منزله واعترت أبا أحمد غشية فازداد إرجاف الناس بموته.

فحمل المعتمد ولده فجيء بهم إلى داره ولم يصر أبو الصقر إلى الموفّق. فلمّا رأى غلمان أبي أحمد المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بأبي أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبي العباس.

فذكر الغلام الذي كان مع أبي العباس في الحجرة أنّ أبا العباس لمّا سمع صوت الأقفال تكسر قال:

« إنّا لله، ما يريد هؤلاء إلّا نفسي. » فأخذ سيفا كان عنده وقعد مستوفزا، فلمّا فتح الباب كان أوّل من دخل إليه وصيف موشكير وهو غلامه. فلمّا رآه رمى بالسيف من يده وعلم انّهم لم يقصدوه إلّا بخير، فأخرجوه حتى أقعدوه عند أبيه، وكان أبوه بعقب علّته.

فلمّا فتح عينه بعد إفاقته رآه فقرّبه وأدناه.

ووافى المعتمد وقد كان وجّه إليه، فحضر ومعه ابنه جعفر المفوّض إلى الله وليّ العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه فنزل على أبي الصقر.

ثم بلغ أبا الصقر أنّ أبا أحمد لم يمت. فوجّه إسماعيل بن إسحاق يتعرّف له الخبر، وجمع أبو الصقر القوّاد والجند وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح. فرجع إسماعيل فأعلم أبا الصقر أنّ أبا أحمد حيّ. فأوّل من مضى إليه من القوّاد محمد بن أبي الساج. ثم جعل الناس يتسلّلون منهم من يعبر إلى باب أبي أحمد ومنهم من يرجع إلى منزله ومنهم من يخرج إلى بغداد.

فلمّا صحّ عند أبي الصقر حياة أبي أحمد انحدر هو وابناه إلى دار أبي أحمد فما ذاكره أبو أحمد. شيئا ممّا جرى ولا سأله عنه. وأقام هناك فانتهبت دار أبي الصقر وكلّ ما حوته حتى خرج حرمه حفاة بغير أزر وانتهبت دور كتّابه وأسبابه وكسرت أبواب السجون فأخرج من كان في المطبق وانتهب مجلسا الجسر. ثم خلع أبو أحمد على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر وركبا جميعا والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق ومضى أبو الصقر مع أبي العباس إلى دار صاعد. ثم انصرف إلى منزله فلم يجد فيه شيئا يجلس عليه حتى أتوه من دار الشاه بحصير فجلس عليه.

وولّى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة على الجانب الشرقيّ وعيسى النوشرى الجانب الغربيّ.

وفاة أبي أحمد الموفق

وفيها توفّى أبو أحمد الموفّق ودفن في الرصافة وجلس أبو العباس للتعزية وبايع الغلمان والقوّاد لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوّض ولقّب بالمعتضد بالله، وأخرج العطاء للجند وخطب يوم الجمعة للمعتمد ثم للمفوّض ثم للمعتضد.

وقبض على أبي الصقر وأسبابه وطلب بنو الفرات وكان إليهم ديوان السواد فاختفوا.

وخلع على عبد الله بن سليمان بن وهب وولّى الوزارة.

وبعث بمحمد بن أبي الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد. فأبى وصيف ومضى إلى الأهواز فعاث بالسوس وأنهب الطيّب.

ابتداء امر القرامطة

وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة. وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان سواد الكوفة. فأظهر الزهد والتقشّف وكان يسفّ الخوص ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدّة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهّده في الدنيا وأعلمه أنّ الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة في كلّ يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه.

ثم أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله فلم يزل على ذلك، يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما يعلّق قلوبهم.

وكان يقعد إلى بقّال في القرية بموضع يقال له: النهرين، وكان بالقرب من البقّال نخل اشتراه قوم من التجّار واتخذوا حظيرة فجمعوا فيها ما صرموا من النخل. وجاء التجّار إلى البقّال فسألوه أن يطلب لهم رجلا يحفظ ما صرموا من النخل فأومأ لهم إلى هذا الرجل وقال:

« إن أجابكم إلى حفظه فإنّه بحيث تحبّون. » فناظروه في ذلك فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة، وكان يحفظ لهم ويصلّى أكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر. فلمّا حمل التجّار تمرهم صاروا إلى البقال فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته فدفعوها إليه فحاسب الأخير البقال علي ما أخذه من التمر وحطّ من ذلك ثمن النوى، ورآه أولياء التجّار فوثبوا عليه وضربوه وقالوا:

« ألم ترض أن أكلت تمرنا حتى بعت النوى؟ » فقال لهم البقّال:

« لا تفعلوا فإنّه ما مسّ تمركم. » وقصّ عليهم قصّته، فندموا على ضربهم إيّاه، وسألوه أن يجعلهم في حلّ، ففعل وازداد بذلك نبلا عندهم لما وقفوا عليه من زهده. ثم مرض فمكث مطروحا على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على ثور له أحمر العينين، فكان أهل القرية يسمّونه كرميثه، وهو بالنبطية أى حارّ العينين فكلّم البقّال كرميثه هذا أن يحمل العليل إلى منزله ويوصى أهله بالإشراف عليه. ففعل وأقام عنده حتى برأ فكان يأوى إلى منزله.

ودعا أهل القرية ووصف لهم مذهبه، فأجابه أهل تلك الناحية. وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارا ويزعم أنّ ذلك للإمام فلمّا كثر أصحابه اتخذ منهم اثنى عشر نقيبا وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينهم وقال لهم: « أنتم كحواريي عيسى بن مريم. »

فاشتغل أكرة تلك الناحية بالصلوات الخمسين التي وظّفها عليهم.

وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أكرته في العمارة.

فسأل عن سبب ذلك فأخبر بخبر هذا الرجل وأنّه قد شغلهم بالصلاة فشغلهم عن أعمالهم. فوجّه إليه وجيء به فسأله عن أمره فأخبره. فحلف أنّه يقتله وأمر به فحبس في بيت وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته.

وتشاغل بالشرب. وسمع بعض من في داره من الجواري يمينه فرقّت له، فلمّا نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته وردّت المفتاح إلى موضعه. فلمّا أصبح الهيصم طلب الرجل فلم يجده وشاع الخبر ففتن به أهل تلك الناحية وقالوا:

« رفع. » ثم ظهر في موضع آخر، فقصده قوم من أصحابه، فسألوه عن قصّته فكتمهم وقال:

« ليس يمكن أحدا من البشر أن يبدأنى بسوء. » فعظم في عيونهم.

ثم خاف على نفسه فخرج إلى الشام فلم يعرف له خبر. وسمّى باسم الرجل الذي كان في منزله: كرميثه ثم عرّب وخفّف فقيل قرمط. ثم كثر مذهبه بسواد الكوفة.

ووقف أحمد بن محمد الطائي وكان إليه النظر في سواد الكوفة على أمرهم فوظّف على كلّ رجل منهم في كلّ سنة دينارا فكان يجيء ذلك فيجتمع له منه مال جليل.

ثم قدم الكوفة قوم من الكوفة، فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة وانّهم قد أحدثوا دينا غير الإسلام، وانّهم يرون السيف في أمّة محمد إلّا من تابعهم على دينهم، وأنّ الطائي يخفى أمرهم عن السلطان فلم يلتفت إليهم.

مذهبهم كما جاء في كتاب لهم

ثم جاءوا بكتاب فيه مذهبهم ونسخته:

« بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان: إنّه داعية إلى المسيح، وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهديّ وهو أحمد بن محمد الحنفية وهو جبرائيل. وحكى أنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان وقال له: انّك الداعية وانّك الحجّة وانّك الناقة وانّك الدابّة وانّك روح القدس وانّك يحيى بن زكريا. ثم يوظّف صلاة ويقرأ فيها شيئا ليس من القرآن، ويذكر قبلة غير قبلة المسلمين، ويحكى أشياء عن لسان الإمام وينسب إلى الله أشياء ويحرّم النبيذ، وألّا غسل من جنابة، ولا صوم إلّا يومين في السنة: يوم النيروز ويوم المهرجان، وكلّ من حاربه وجب قتله. »

مناظرة بين قرمط وصاحب الزنج

وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج.

ويحكى عن قرمط أنّه قال: صرت إلى صاحب الزنج وقلت له:

« إني على مذهب وورائي مائة ألف سيف، فناظرني فإن اتفقّنا على المذهب ملت بمن معي كلّهم إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك. » وطلبت منه الأمان فأعطانيه. فناظرته إلى الظهر فتبيّن في آخر مناظرتي أنّه مخالف. فقام إلى الصلاة وانسللت وخرجت من عنده إلى سواد الكوفة.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين

وفاة المعتمد

وفيها توفّى المعتمد وكان شرب على الشطّ في الحسنيّ شربا كثيرا وتعشّى فأكثر، فاختنق ومات ليلا. فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة.

خلافة المعتضد

وبويع لأبي العباس المعتضد بالخلافة، فولّى غلامه بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان الوزارة ومحمد بن الشاه بن ميكال الحرس وصالحا الأمين حجبة الخاصّة والعامّة فاستخلف صالح خفيفا السمرقنديّ.

قدوم رسول عمرو بن الليث بهدايا

وفيها قدم على المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفّار بهدايا وسأل ولاية خراسان، فوصلوا إليه في شهر رمضان من هذه السنة فخلع عليه ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة أيّام.

وورد الخبر بموت نصر بن أحمد وقام مكانه وبما كان إليه من العمل وراء نهر بلخ أخوه إسماعيل بن أحمد.

ورود رسول خمارويه من مصر في تزويج بنت خمارويه من المعتضد

وفيها ورد من مصر الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص رسولا لخماروية بن أحمد بن طولون ومعه هدايا من العين عشرون حملا على بغال في عشرة من الخدم، وصندوقان فيهما نمران، وعشرون غلاما على عشرين نجيبا بسروج محلاة بحلية فضّة كثيرة ومعهم حراب فضّة وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلّاة، وسبع عشر دابّة بسروج ولجم منها خمسة بذهب والباقي بفضّة، وسبع عشرة دابّة بجلال مشهرة، وخمسة أبغل بسروج ولجم وزرّافة فوصل إلى المعتضد فخلع عليه وعلى سبعة نفر معه. وسفر ابن الجصّاص في تزويج بنت خمارويه من عليّ بن المعتضد. قال المعتضد:

« أتزوّجها. » فتزوّجها.

وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحاربة رافع بالريّ.

فزحف إليه أحمد، فالتقوا فانهزم رافع وخرج عن الريّ ودخلها أحمد بن عبد العزيز.

ودخلت سنة ثمانين ومائتين

قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدي وشيلمة

وفيها قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدي ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة.

وكان شيلمة هذا من أصحاب صاحب الزنج وكان سبب قبضه عليهما أنّه سعى بهما ساع إلى المعتضد وقال: أنّه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه وانّه قد استفسد جماعة من الجند وغيرهم. وأخذ معه رجل صيدنانيّ، فقرّره المعتضد فلم يقرّ بشيء وسأله عن الرجل الذي يدعو إليه فلم يظهره عليه وقال:

« لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه ولو جعلتني كردناك ما أخبرتك به. » فأمر بنار فأوقدت، ثم شدّ على خشبة من خشب الخيم وأدير على النار حتى تقطّع جلده، ثم ضربت عنقه وصلب عند الجسر. وحبس ابن المهتدي إلى أن وقف على براءته فأطلق.

وقال لشيلمة:

« بلغني انّك تدعو إلى ابن المهتدي. » قال: « المأثور عني غير هذا أنا أتولّى آل أبي طالب. » وكان قرّر ابن أخيه، فأقرّ فقال:

« قد أقرّ ابن أخيك. » فقال: « هذا غلام حدث، تكلّم بهذا خوفا من القتل، فلا تقبل قوله. » فأطلقهما بعد مدّة.

شخوص المعتضد إلى بنى شيبان

ثم شخص المعتضد من بغداد إلى بنى شيبان وكانوا بناحية من الجزيرة اتخذوها معقلا فلمّا بلغه قصده إليهم ضمّوا إليهم أموالهم وعيالاتهم. فأسرى إليهم المعتضد فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق كثير في الزابين. فأخذ النساء والذراريّ وغنم أهل العسكر من أموالهم ما أعجزهم حمله وأخذ من غنمهم وإبلهم حتى بيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وأمر بحفظ النساء والذراريّ.

ثم لقيه بنو شيبان وسألوه الصفح عنهم وبذلوا رهائنهم فأخذ منهم خمسمائة رجل.

ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ بما فارق عليه أحمد بن عيسى بن شيخ من المال الذي أخذه من مال إسحاق بن كنداجيق وبهدايا وبغال ودوابّ.

وفيها ورد الخبر بأنّ محمد بن أبي الساج افتتح المراغة بعد حصار شديد وحرب عظيمة، وأنّه أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن آمنه وأصحابه فقيّده وحبسه وقرّره بجميع أمواله ثم قتله.

وفيها ورد الخبر بوفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثم قام بالأمر عمر.

وفيها توفّى جعفر بن المعتمد.

وفيها ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وافتتاحه مدينة ملكهم وأسره إيّاه وامرأته خاتون ونحوا من عشرة آلاف، وقتل خلقا لا يحصى وغنم من الأموال والدوابّ ما لا يوقف على عدده، وأصاب الفارس من المسلمين من الغنيمة في المقسم ألف درهم.

ثم دخلت سنة احدى وثمانين ومائتين

شخوص المعتضد إلى الجبل وخروجه الثاني إلى الموصل

وفيها شخص المعتضد إلى الجبل فعقد ناحية الدينور، وقلّد ابنه أبا محمد عليّ بن المعتضد الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقم والدينور. وقلّد كتبه أحمد بن أبي الأصبغ ونفقات عسكره، وقلّد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف إصبهان ونهاوند والكرج، وتعجّل الانصراف من أجل غلاء السعر.

وفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل قاصدا حمدان بن حمدون. ذلك أنّه بلغه أنّه مائل إلى هارون الشاري داع له، فورد كتابه على نجاح الحرمي يذكر الوقعة:

« بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة وقد نصر الله وله الحمد على الأعراب والأكراد وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رأيتنا نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عام أوّل، ولم تزل السيوف والأسنة تأخذهم حتى حال بيننا وبينهم الليل، ومن غد يومنا يقع الاستقصاء وكان وقاعنا بهم وقتلنا لهم خمسين ميلا. فلم يبق منهم مخبر والحمد لله كثيرا وصلّى الله على محمد وآله وسلّم. » وكانت الأعراب والأكراد لمّا بلغهم خروج المعتضد تحالفوا أنّهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا وعبّأوا عسكرهم ثلاثة كراديس فكان من أمرهم ما ذكرت.

قصد المعتضد قلعة ماردين ثم الحسينية

ثم قصد المعتضد قلعة ماردين وكانت في يد حمدان بن حمدون. فلمّا بلغه خروج المعتضد إليها هرب وخلّف ابنه فيها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة ذلك اليوم. فلمّا كان من الغد ركب المعتضد وصعد حتى وصل إلى باب القلعة ثم صاح:

« يا بن حمدان. » فأجابه فقال:

« افتح الباب. » ففتحه ولم يجر بينهما غير ذلك فقعد المعتضد في الباب ولم يدخل، وأمر من دخل فنقل ما في القلعة من المال والأثاث. ثم أمر بهدمها فهدمت، ويشبه أن يكون راسله قبل ذلك.

ثم وجّه خلف حمدان بن حمدون فطلب أشدّ الطلب وأخذت أمواله وكانت مودعة ثم ظفر به بعد.

ثم قصد المعتضد مدينة يقال لها الحسنية وفيها رجل يقال له شدّاد في جيش عظيم يقال انّهم عشرة آلاف وكان له قلعة في المدينة فظفر به المعتضد فأخذه وهدم قلعته.

ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين

المعتضد وتغيير موقع النيروز

وفيها أحدث المعتضد النيروز الذي يقع في اليوم الحادي عشر من حزيران وأنشأت الكتب إلى جميع العمّال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذي كان للعجم.

وورد كتابه على يوسف بن يعقوب يعلمه أنّه إنّما أراد بذلك الترفيه على الناس والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس ففعل. وفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون في المصير إليه. فأمّا إسحاق بن أيّوب سارع إلى ذلك وأمّا حمدان بن حمدون فتحصّن في قلاعه وغيّب أمواله وحرمه.

فوجّه إليه المعتضد الجيوش، فصادفوا الحسن بن عليّ كوره وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان محاصرين لها وفيها الحسين بن حمدان.

فلمّا رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان، فأومن وسلّم القلعة وصار إلى المعتضد فأمر بهدمها. وأعدّ الجيش في طلب حمدان وكان قد صار بباسورين من دجلة ونهر عظيم. فكان الماء زائدا فعبر الجيش إليه، فهرب وقتل أكثر أصحابه وألقى حمدان نفسه في زورق في دجلة مع كاتبه وحمل معه مالا وعبر إلى الجانب الغربيّ من دجلة وقدّر اللحاق بالأعراب لمّا حيل بينه وبين أكراده في الجانب الشرقي، وعبر في إثره نفر يسير من الجند فاقتصّوا اثره حتى أشرفوا على دير كان نزله. فلمّا بصر بهم خرج هاربا ومعه كاتبه وألقيا أنفسهما في زورق وخلّفا المال في الدير فحمل إلى المعتضد وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء.

فلحقوه فخرج من الزورق حاسرا إلى ضيعة له في شرقيّ دجلة فركب دابّة لوكيله وسار ليله أجمع حتى وافى مضرب إسحاق بن أيّوب في عسكر المعتضد مستجيرا به.

فأحضره إسحاق مضرب المعتضد فأمر بالاحتفاظ [ به ] وبثّ الخيل في طلب أصحابه وظفر بكاتبه وكثير من قراباته وغلمانه وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان.

نقل بنت خمارويه إلى المعتضد

وفيها نقلت بنت خمارويه بن أحمد إلى المعتضد ونودى في جانبي بغداد ألّا يعبر أحد دجلة وغلقت الأبواب التي تلى الشطّ ومدّ على الشوارع النافذة إلى دجلة الشرائج ووكّل بحافتى دجلة من يمنع الناس من أن يظهروا في دورهم على الشطّ.

فلمّا صليت العتمة وافت شذاة من دار المعتضد وفيها خدم معهم الشموع فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت أعدّت أربع حرّاقات شدّت مع دار صاعد. فلمّا جاءت الشذاة حدرت الحرّاقات وصارت الشذاة بين أيديهم.

وأقامت الحرّة في يوم الاثنين في دار المعتضد وجليت عليه يوم الثلاثاء.

هروب يوسف بن أبي الساج إلى أخيه بالمراغة

وفيها هرب يوسف بن أبي الساج في من أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة ولقي مالا للسلطان في طريقه فأخذه فقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكتب به إلى المعتضد:

إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ** بلا سبب يجفون والدهر يذهب

وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ** وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب

معاملة المعتضد محمد بن زيد العلوي

وفيها وجّه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطّار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرّقها ببغداد والكوفة والمدينة على أهله. فسعى به وأحضر دار بدر وسئل عن ذلك فاعترف به، وذكر أنّه يوجّه إليه في كلّ سنة مثل هذا المال فيفرّقه على من يأمره بالتفرقة عليهم من أهله. فأعلم بدر المعتضدي صاحبه المعتضد بذلك وأعلمه أنّ الرجل والمال في يده. فقال المعتضد:

« يا بدر أما تذكر الرؤيا التي خبّرتك بها؟ » فقال: « لا يا أمير المؤمنين. » فقال: « ألا تذكر أنّ الناصر - يعنى الموفّق - دعاني وقال: إني أعلم أنّ هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل أبي طالب. » ثم قال: رأيت في النوم كأنّى خارج من بغداد أريد ناحية النهروان في جيش وقد تشوّف الناس إليّ، إذ مررت على رجل واقف على تلّ يصلّى لا يلتفت إليّ، فعجبت منه، فلمّا فرغ من صلاته قال لي:

« أقبل. » فأقبلت إليه، فقال:

« أتعرفني؟ » قلت: « لا. » قال: « أنا عليّ بن أبي طالب، خذ هذه المسحاة فاضرب بها الأرض. » لمسحاة بين يديه فأخذتها، فضربت بها ضربات. فقال:

« إنّه سيلي من ولدك هذا الأمر قدر ما ضربت، فأوصهم بولدي خيرا. » قال بدر: فقلت:

« بلى يا أمير المؤمنين قد ذكرت. » قال: فأطلق الرجل وأطلق المال، وتقدّم إليه أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجّه ما يوجّه به إليه ظاهرا وأن يفرّق هذا الرجل ما يفرّقه ظاهرا، وتقدّم بمعونته على ما يلتمسه.

ذبح خمارويه في مصر

وفيها ورد الخبر على المعتضد من مصر في أحد عشر يوما على طريق البرّ انّ خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه الخاصّة، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيّف وعشرون خادما.

وكان المعتضد بعث ابن الجصّاص إلى خمارويه بهدايا فلمّا بلغ سرّ من رأى اتصل خبر مهلك خمارويه بالمعتضد فكتب إليه يأمره بالرجوع، فرجع.

ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين

وفيها شخص المعتضد بسبب هارون الشاري إلى ناحية الموصل فظفر به.

ذكر هذا الظفر

وجّه الحسين بن حمدان بن حمدون في خيل من الفرسان والرجّالة إليه.

فقال الحسين:

« نعم يا أمير المؤمنين إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج يقضيها لي أمير المؤمنين. » فقال: « اذكرها. » قال: « أوّلها إطلاق أبي، وحاجتان أسألهما بعد مجيئي به. » فقال المعتضد:

« لك ذلك، فامض. » فقال الحسين:

« أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم أنا. » فمكّنه من ذلك وأنفذهم مع موشكير فقال:

« أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألّا يخالفني فيما آمره به. » فأمر المعتضد موشكير بذلك. فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة فقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة وقال:

« ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا فلا تبرحنّ من هذا الموضع حتى يمرّ بك هارون أو أجيئك أنا أو يبلغك أنّى قد قتلت. »

ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، فكانت بينهما قتلى وانهزم هارون وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيّام فقال له أصحابه:

« قد طال مقامنا بهذا القفر وأضرّ بنا ولسنا نأمن أن يأخذ الحسين الشاري فيكون الفتح له دوننا والصواب أن نمضي في آثارهم. » فأطاعهم ومضى وجاء هارون منهزما إلى المخاضة فعبر وجاء حسين في إثره فلم ير وصيفا ولا أحدا من أصحابه ولا عرف لهم خبرا ولا رأي لهم أثرا، وجعل يسأل عن خبر هارون حتى وقف على عبوره فعبر في أثره وجاء إلى حيّ من أحياء العرب فسألهم عنه، فكتموا أمره فهمّ بالإيقاع بهم ثم. قال:

« إنّ المعتضد في إثرى. » فأعلموه أنّه اجتاز بهم فأخذ بعض دوابّهم وترك دوابّه عندهم وكانت قد كلّت وأعيت واتبع أثره فلحقه بعد أيّام والشاري في نحو من مائة. فناشده الشاري وتوعّده، فأبى إلّا محاربته فحاربه ورمى حسين بن حمدان بنفسه عليه وابتدره أصحاب الحسين، فأخذوه وجاء به إلى المعتضد سليما بغير عقد ولا عهد. فأمر المعتضد حين بلغه الخبر بحلّ قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه إلى أن يقدم ابنه فيطلقه ويخلع عليه.

فلمّا وصل الشاري إلى المعتضد انصرف راجعا إلى بغداد فنزل باب الشماسية، وعبّأ الجيش هناك وخلع على الحسين بن حمدان وطوّقه بطوق ذهب، وخلع على جماعة من أهله وزيّن الفيل وأدخل الشاري عليه مشهرا ببرنس حرير طويل.

غزو الصقالبة الروم

وفيها ورد الخبر من طبرستان أنّ الصقالبة غزت الروم في خلق عظيم، فقتلوا منهم وهزموا ملكهم حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، ثم وجّه ملك الروم إلى ملك الصقالبة:

« إنّ ديننا ودينك واحد فعلام نقتل الناس بيننا؟ » فأجابه ملك الصقالبة:

« إنّ هذا ملك آبائي ولست منصرفا عنك إلّا بغلبة أحدنا الآخر. » فلمّا لم يجد ملك الروم مخلصا عنه جمع من عنده من المسلمين، وسألهم معونته على الصقالبة، فأجابوه إليه، فأعطاهم السلاح فهزموا الصقالبة. فلمّا رأى ملك الروم ذلك خافهم على نفسه. فبعث إليهم فردّهم وأخذ منهم السلاح وفرّقهم في البلدان فرقا من أن يجنوا عليه.

وثوب الجيش في مصر

وورد الخبر من مصر أنّ الجند وثبوا على جيش ابن خمارويه وقالوا:

« لا نرضى بك أميرا علينا فتنحّ عنّا حتى نولّى عمّك. » فكلّمهم كاتبه عليّ بن أحمد الماذرائى وسألهم أن ينصرفوا يومهم ذلك فانصرفوا، وعادوا من غد، فعدا جيش على عمّه الذي ذكروا أنّهم يؤمّرونه، فضرب عنقه وعنق عمّ له آخر ورمى برؤوسهما إليهم. فهجم الجند على جيش ابن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمّه وانتهبوا داره وانتهبوا مصر وأحرقوها، ثم أقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.

وفيها ورد كتاب بدر وعبيد الله بن سليمان وكانا بالجبل قرئ في مسجد الجامع ببغداد: « انّ عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إليهما في الأمان منقادا لأمير المؤمنين بالطاعة، وانّ عبيد الله بن سليمان تلقّاه وخلع عليه وعلى رؤساء أهل بيته وأخذ عليهم البيعة.

وكان بكر بن عبد العزيز قبل ذلك استأمن إليهما، فولّياه عمل أخيه عمر على أن يمضى فيحاربه. فلمّا دخل عمر في الأمان قالا لبكر:

« إنّ أخاك قد دخل في طاعة السلطان وإنّما ولّيناك عمله على أنّه عاص والرأي لكما أن تمضيا إلى باب أمير المؤمنين ليرى رأيه في أمركما. » وولّى عيسى النوشرى إصبهان على أنّه من قبل عمر، فهرب بكر وكتب إلى المعتضد بخبره. فكتب إلى بدر يأمره بالمقام إلى أن يعرف خبر بكر.

وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الريّ وبها عليّ بن المعتضد ولحق بكر بالأهواز فوجّه المعتضد في طلبه وصيفا موشكير فخرج إليه.

فلمّا قرب منه رجع بكر ومضى إلى إصبهان ورجع وصيف إلى بغداد. فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه فتقدّم بدر إلى عيسى النوشرى بمحاربته فخرج إليه وحاربه وقتل أصحاب بدر وهزم بكرا.

ودخل عمر بن عبد العزيز [ بغداد ] قادما من إصبهان فأمر المعتضد باستقباله فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقوّاد وقعد له المعتضد فوصل إليه وخلع عليه وحمله على دابّة بسرج ولجام محلّى بالذهب وخلع على ابنين كانا له وعلى أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى قوم من قوّاده وأنزل في دار كانت لعبيد الله بن عبد الله [ عند ] رأس الجسر وكانت فرشت له.

وفيها ورد كتاب من عمرو بن الليث بأنّه واقع رافع بن هرثمة فهزمه ووجّه في أثره بقوّاده وكان صار إلى طوس من نيسابور فانهزم ولحق بخوارزم فقتل بخوارزم وإنّه يحمل رأسه.

يتلوه في المجلّدة الخامسة: « ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين، وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة في المحرّم ».
والحمد لله وصلواته على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل، طه طسم.
فرغ من انتساخه محمد بن عليّ بن محمد... البلخي في السابع عشر من رجب سنة خمس وخمسمائة.
فرغ من انتساخه محمد بن حسن بن منصور في... والعشرين من رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
نقله عليّ بن حنظلة.


تجارب الأمم لمسكويه
المجلد الأول | المجلد الثاني | المجلد الثالث | المجلد الرابع | المجلد الخامس | المجلد السادس | ذيل تجارب الأمم للروذراوري | الملحق بذيل الروذراوري لهلال الصابئ