تجارب الأمم/المجلد السادس

  ►المجلد الخامس المجلد السادس ذيل تجارب الأمم ◄  


[ تتمة العصر العباسي ]

[ تتمة خلافة الراضي بالله ]

 

الحمد لله العدل

حكاية عن بجكم تدل على دهاء وفكر

حكى أبو زكريّا يحيى بن سعيد السوسي قال: لمّا ترسّلت بين بجكم وبين ابن رائق أشرت على بجكم بأن لا يكاشف ابن رائق فسألنى عن السبب الذي من أجله أشرت عليه بذلك فقلت:

« لأنّ بغداد في يده والخليفة معه والرئاسة ولأنّ الجيش معه كثير والأعمال والأموال في يده والمال في يدك قليل وعدّة من معك يسير. » فقال لي:

« أمّا كثرة رجاله فهم جوز فارغ قد خبرتهم وعرفتهم وما أبالى كثروا أم قلّوا وكون الخليفة معه لا يضرّنى عند أصحابي. فأمّا ما توهّمته من قلّة المال معي فليس الأمر فيه كما ظننته وقد وفيت أصحابي استحقاقاتهم وما لأحد عليّ منهم مطالبة وفي صناديقى معي مال يستظهر به، فكم تظنّ مبلغه؟ » قلت: « لا أدري. » فقال: « على كلّ حال. »

فقلت: « مائة ألف درهم. » فقال: « غفر الله لك معي خمسون ألف دينار لا أحتاج إليها. » قال: فقلت له:

« أنت أعلم وما تختار. » قال: فلمّا هرب ابن رائق وملك بجكم قال لي يوما:

« أتذكر وقد قلت لك إنّ المال معي كثير وظننت أنّه مائة ألف درهم فعرّفتك أنّه خمسون ألف دينار؟ » فقلت: « نعم. » قال: « أفتدري كم كان بالحقيقة معي؟ » قلت: « لا. » قال: « خمسين ألف درهم. » قلت: « هذا يدلّ على أنك لم تثق بي ولم تصدقني. » قال: « لا ولكنّك صاحبي ورسولي فكرهت أن تعلم صحته في القلّة فيضعف قلبك وإذا ضعف قلبك ضعف كلامك فيطمع ذلك فيّ خصمي وأردت أن تمضى إليه بقلب قويّ فتخاطبه بما ينخب قلبه ويضعف نفسه. » وفي هذه السنة تغلّب اللشكري بن مردى على أذربيجان وهذا غير اللشكري الذي تقدّم خبره، وكان أوجه من ذاك وأكبر مرتبة وكان من أصحاب وشمكير وخليفته على أعمال الجبل. فجمع مالا كثيرا ورجلا وخلّف صاحبه وسار إلى أذربيجان ليستولى عليها. وكان بها يومئذ ديسم بن إبراهيم فجمع ديسم عسكرا كثيرا من الأكراد وأصناف أخر وأحرز سواده في بعض الجهات وأقبل إلى اللشكري فواقعه دفعتين في مدّة شهرين وانهزم ديسم فيهما جميعا.

واستولى اللشكري على بلاده إلّا أردبيل فإنّ أهلها أجلاد ولهم بأس شديد وهم حملة سلاح ومدينتهم محصّنة بسور وهي قصبة أذربيجان ودار المملكة. فراسلهم اللشكري ورفق بهم ووعدهم الإحسان فأبوا عليه لما كان عندهم من أخبار الجيل ومعاملتهم أهل همذان وغيرها بأنواع الألم.

فحاصرهم اللشكري وطالت الحرب بينه وبينهم إلى أن تمكّن طائفة من أصحابه يوما من السور فصعدوه ونقبوا أيضا عدّة نقوب فيه وفتحوا الباب وتمكّنوا من الدخول وأدركهم الليل.

ذكر إضاعة حزم من اللشكري بعد هذه الحال حتى هرب وقتل أكثر أصحابه

إنّ اللشكري لمّا تمكّن من أردبيل سكنت نفسه إلى الظفر وأشفق أن ينتهب البلد وتذهب الأموال عن يده وعن أيدى أصحابها. فرأى أن ينصرف إلى معسكره وكان على ميل من البلد فيبيت ثم يصبح فيدخل المدينة نهارا.

فلمّا فعل ذلك بادر أهل المدينة إلى سدّ تلك الثلم وإحكامها وأغلقوا الأبواب وعاودوا الحرب، فتحيّر اللشكري وعلم أنّه فرط حين لم يدخل المدينة ليلا أو يوكّل بالثلم من يحفظها. وأقبل قوّاده عليه يلومونه ويستعجزونه فلم يكن عنده إلّا الاعتراف بالخطإ.

وبادر أهل المدينة برسلهم إلى ديسم يعرّفونه الصورة ويشيرون عليه بالمبادرة في يوم يعيّنه حتى يخرجوا لمحاربته ويكبّ ديسم من ورائه فتمّت لهم الحيلة وأقبل ديسم في ذلك اليوم بجموع كثيرة من الصعاليك والأكراد وخرج أهل المدينة بزيّ الديلم معهم التراس والزوبينات وهم نحو عشرة آلاف رجل فصافّهم الحرب وخرج ديسم من ورائه فحمل عليهم فانهزم أقبح هزيمة وقتل أصحابه مقتلة عظيمة وذهب نحو موقان محروبا مسلوبا ليس معه كراع ولا سلاح.

فخرج إليه اصفهبذ موقان ويعرف بابن داولة متلقيا فأضافه مع قوّاده فشكره اللشكري وسأله أن يقيم بضيافة أصحابه إلى أن يمضى هو إلى بلده - وكانت بينه وبينها مسيرة أربعة أيّام - فيستخرج ذخائره ويخرج معه ابنه وأخاه ويجمع الرجال فأجابه ابن داولة. ومضى اللشكري مخفا وعاد سريعا ومعه ابنه وابن أخيه وألف رجل من أحداث الجيل مستظهرين بالسلاح والآلات، وعطف على أذربيجان طالبا ديسم وساعده ابن دلوله الاصفهبذ في أصحابه. فهرب ديسم وعبر نهرا يقال له: الرس وماؤه شديد الجرية وأخذ المعابر إلى الجانب الذي حصل فيه. ونازله اللشكري مقيما بازائه مدّة لا يصل إليه فاجتمع إليه ابنه وابن أخيه وأحداث الجيل وجميعهم سبّاح لأنّ بلادهم على شاطئ البحر وأعلموه أنّهم تتبّعوا هذا النهر من أعلاه إلى أسفله فوجدوه على ثلاثة فراسخ من معسكرهم موضعا منه ساكن الجرية واستأذنوه في المخاطرة والعبور فأذن لهم. فصاروا إلى الموضع ليلا ومعهم جماعة من البوقيّين بتراسهم وأسلحتهم وزحفوا إلى عسكر ديسم وضربوا بالبوقات وقتلوا نفرا فانهزم ديسم واستولى الجيل على أموالهم وسوادهم واستغنوا بما حصل لهم وتمّ الظفر للشكري.

وقصد ديسم وشمكير وهو بالريّ فأعلمه ما جرى عليه من اللشكري وأنّه قد تمكّن من أذربيجان وطابقه ابن دلوله اصفهبذ موقان وأنّ بلاد الجيل قريبة منه والاستمداد سهل عليه وأنّه لا يلبث أن يقصد الريّ وينازعه إيّاها ويلتمس منه عسكرا من الجيل والديلم ليكون بإزاء اللشكري وأصحابه، وواقفه أن يجمع إليه من الأكراد وغيرهم عشرة آلاف رجل فرسانا وأن يقوم بنفقة العسكر يوم دخوله الخونج وهو أوّل حدود أذربيجان من ناحية الريّ وأن يقيم الخطبة على منابر أذربيجان كلّها ويحمل إليه في كلّ سنة مائة ألف دينار خالصة ويردّ إليه العسكر الذي يجرّد معه بعد فراغه من أمر اللشكري. فلمّا سمع وشمكير ذلك أهمّه هذا الخطب واستجاب ديسم إلى كلّ ما يلتمسه وأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه العهد والميثاق بالوفاء وابتدأ بتجريد العسكر.

فإلى أن يتكامل ذلك ورد الخبر بوفاة ابن داولة الاصفهبذ وخلق كثير من أصحابه بعلّة الجدري وأقام بقية أصحابه مع اللشكري فأنفذ اللشكري بقائد كبير من أصحابه يقال له: بلسوار بن ملك بن مسافر وهو ابن أخي محمّد بن مسافر اللشكري إلى نواحي الميانج - وهي تجرى مجرى الثغر - بينه وبين وشمكير وأمره أن يحفظ الطرق ويتتبّع المجتازين ويفتشهم ويقرأ كتبهم تحرّزا واستظهارا. فلم يلبث بلسوار أن ظفر بفيج معه كتب من قوّاد عسكر اللشكري إلى وشمكير بالاعتذار إليه من دخولهم في طاعة اللشكري وإنّهم إنّما دخلوا معه وعندهم أنّه على طاعتهم وأنهم إن رأوا راية من راياته قد أقبلت إليهم انحازوا إليها وصاروا بأجمعهم عليه. فلمّا وقف اللشكري على هذه الكتب طواها وستر خبرها.

وورد عليه انفصال ديسم عن الريّ في عسكر وشمكير مع حاجبه الشابشتى فركب إلى الصحراء وجمع قوّاده وعرّفهم إقبال العسكر إليه وأنه يتخوّف أن يشتغل بحرب الجيل والديلم فيأتيه ديسم من ورائه ويجرى الأمر كما جرى في وقعة أردبيل وأنّه قد عزم أن يرحل بهم إلى بلاد الأرمن فيغزوهم ويستبيح أموالهم ويبعد عنهم إلى الموصل وديار ربيعة فإنها بلاد كثيرة الغلّات والأموال واسعة والرجال بها قليل. فساعدوه على ذلك ورحل بهم إلى أرمينية وأهلها غارّون. فنهبهم واستباح أموالهم ومواشيهم وسبى خلقا كثيرا وانتهى إلى زوزان وفي يده وأيدى قوّاده من المواشي التي غنموها شيء كثير لا ينضبط ولا يعرفون مبلغها وقد وكّلوا بها الرعاة فكانوا يخرجونها إلى مسارحها بكرة ويردّونها عشية إلى معسكرهم.

وكان بالقرب من زوزان قلعة للأرمن فيها عظيم من عظمائهم يقال له: أطوم بن جرجين وهو قريب لابن الديراني ملك الأرمن. فسأل اللشكري بمراسلة لطيفة أن يكفّ عن الأرمن فإنّهم معاهدون يؤدون الأتاوة وأطمعه في مال يحمل إليه صلحا فأجابه إلى ما طلبه.

ذكر حيلة تمت لهذا الأرمني على اللشكري حتى قتله ومعظم أصحابه

كان هذا الأرمنيّ عرف سرعة ركاب اللشكري وخفّته وأنه يقدم بلا روية ويتسرع بلا تدبير. فكمن كمينا على جبلين بالقرب من موضعه الذي كان معسكرا فيه بينهما مسلك مضيق، ثم دسّ إلى المواشي التي معه جماعة من الأرمن حتى قتلوا رعاءها واستاقوها في ذلك المضيق وهرب بعض الرعاء إلى اللشكري مجروحا فصادفه خارجا من الحمّام في سوق زوزان فأخبره الخبر، فسار لوقته وأخذ ذلك الراعي بين يديه ليدلّه على الطريق وليس معه إلّا ستّة نفر من غلمانه أخذهم فتح اللشكري - وهو أحد قوّاد السلطان بمدينة السلام وقد شاهدته - وكان موصوفا بالبسالة والشجاعة وراسل باقى أصحابه في العسكر أن يلحقوه.

ذكر اتفاق حسن اتفق لفتح هذا الغلام حتى سلم وحده من القتل

اتّفق أن غمزت دابّة كاتبه لما قضاه الله من سلامته فنزل لينظر ويصلح حافرها فسبقه اللشكري ولم يعرج عليه ومضى مع الخمسة النفر الذين بقوا معه، فوصل إلى المضيق قبل أن يلحقه أصحابه الذين استدعاهم من المعسكر وولج الموضع فلمّا توسّطه ثار إليه الكمناء فقتلوه والغلمان الذين معه وأخذوا رؤوسهم وأسلابهم وتركوا جثثهم ومضوا.

ثم وصل العسكر إلى الفتح هذا الغلام وتبعوا اللشكري، فلمّا رأوا جماعتهم عرفوهم فانصرفوا معتزلين واجتمع أهل عسكره فعقدوا الرئاسة لابنه لشكرستان وتقرر الرأي بينهم ليحرزوا سوادهم وأثقالهم وغنائمهم من ورائها ويرجعوا إلى بلد أطوم بن جرجين فيدركوا ثأرهم منه ويأتوا عليه قتلا ونهبا.

ذكر حيلة تمت عليهم ثانية حتى قتلوا بأجمعهم إلا نفر يسير جدا وذلك لقلة احتراسهم من المضائق وجهلهم المسالك واغترارهم بالشدة

كان أطوم بن جرجين بثّ جواسيسه ليعرف أخبارهم واطّلع على هذه العزيمة منهم فسبقهم بأن رتب على رؤوس الجبال في طريقهم جموعا من الأرمن يرمونهم بالحجارة وكان طريقهم من هذه الجبال على موضع عرضه نحو خمسة أذرع وعلى يسرته الجبل وعن يمينه نهر عظيم جار والمهوى إليه أكثر من مائة ذراع. ووقف الأرمن متمكّنين على هذا الموضع وسار أطوم بنفسه من قلعته في نفر فكمن على طريق المضيق حتى ان أفلت انسان منهم أوقع به.

فلمّا انتهى الجيل والديلم إلى ذلك المضيق أرسلوا عليهم الحجارة فكانت الصخرة تأتى فتصدم الراكب والمركوب والرجّالة والبهائم والجمال فلا يمتنع منها شيء ويسقطون إلى النهر ويتلفون.

فترجّل قوم من الفرسان ودخلوا من قوائم الدوابّ فربّما سلم الواحد بعد الواحد. فهلك في ذلك الموضع أكثر من خمسة آلاف رجل وسلم جماعة لشكرستان فيمن سلم ومضى بمن معه إلى ناصر الدولة وهو بالموصل لائذين به فنزلهم بشيء من الأرزاق يسير فاختار بعضهم أن يقبض نفقة وينصرف عنه واختار بعضهم أن يقيم مع لشكرستان فأمّا الذين قبضوا النفقات فأخذوا جوازات وانحدروا إلى واسط لاحقين ببجكم. وأمّا الباقون فإنّهم كانوا خمسمائة رجل فجرّدهم ناصر الدولة مع ابن عمّه أبي عبد الله الحسين بن حمدان من أذربيجان لمّا أقبل إليها ديسم الكردي. وكان ديسم هذا من قوّاد ابن أبي الساج وكان أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان مقلّدا من قبل بن عمّه أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة أعمال المعاون بأذربيجان.

وفيها اختصّ قاضى القضاة أبو الحسين عمر بن محمّد بالراضى بالله حتى حلّ محلّ الوزراء وصار الراضي يشاوره في الأمور ويدخله في التدبير ويصل إليه مع عبد الله بن عليّ النفرى خليفة الوزير الفضل بن جعفر ولا ينفذ أمرا إلّا بعد مشورته.

وفيها قصد الراضي بالله وبجكم معه ديار ربيعة والموصل

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك انّ ناصر الدولة أخرّ ما اجتمع عليه من مال الحمل الذي كان في ضمانه للموصل وأخرّ مال الضياع التي في عمله بخدمة الراضي بالله فكان الراضي مغيظا عليه، فاجتمع رأيه مع بجكم على قصده.

ودخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة

فلمّا كان يوم الثلاثاء لثلاث خلون من المحرّم خرجا وأقام الراضي بتكريت ونفذ بجكم إلى الموصل في الجانب الشرقي من دجلة. فتلقّته زواريق أنفذها ناصر الدولة فيها دقيق وشعير وحيوان هدية إلى الراضي.

فأخذها بجكم وفرّق ما فيها على حاشيته وأصحابه وفرّغها وعبر فيها إلى الجانب الغربي وسار حتى لقي ناصر الدولة بالكحيل وجرت بينهما وقعة وانهزم فيها أصحاب بجكم. ثم حمل بجكم بنفسه على ناصر الدولة حملة حقّق فيها فانهزم وتبعه بجكم ولم ينزل الموصل إلى أن بلغ نصيبين.

ومضى ابن حمدان على وجهه إلى آمد وأقام بجكم بنصيبين وكتب إلى الراضي بالله بالفتح. فلمّا ورد كتابه بالفتح على الراضي بالله سار من تكريت يريد الموصل وكان مسيره في الماء.

وكان قبل ورود كتاب بجكم بالفتح قد لحق القرامطة الذين مع الراضي بتكريت مضايقة في أرزاقهم فانصرفوا مغضبين إلى بغداد. فلمّا وصلوا إليها ظهر ابن رائق من استتاره ببغداد وانضمّوا إليه. ويقال: إنّ انصرافهم من تكريت كان بمراسلة منه إليهم ومكاتبة في اجتذابهم.

وورد الخبر بذلك مع طائر إلى تكريت فخاف الراضي أن يسرى إليه ابن رائق والقرامطة فيأخذونه فخرج من الماء مبادرا وركب الظهر وسار إلى الموصل ودخلها ومعه عليّ بن خلف بن طناب كاتبه وهو قلق من ابن رائق.

ولمّا بلغ الحسن ابن عبد الله بن حمدان انصراف بجكم من نصيبين سار من آمد إليها. فانصرف عنها وعن أعمال ديار ربيعة من كان خلفه بجكم فيها من قوّاده وصاروا إلى الموصل وحصلت ديار ربيعة في يد ابن حمدان فزاد ذلك في قلق بجكم. وأخذ أصحاب بجكم يتسلّلون ويخرجون من الموصل إلى بغداد حتى احتاج بجكم إلى أن يسدّ أبواب دروب الموصل ويحفظ أصحابه وزاد ذلك في اضطراب بجكم إلى أن قال:

« حصلنا على أن يكون في يد الخليفة وأمير الأمراء قصبة الموصل فقط. » وأنفذ بن حمدان - قبل أن يتصل به خبر ابن رائق وظهوره ببغداد - أبا أحمد الطالقاني الذي كان أسره إلى بجكم يلتمس الصلح ويبذل أن يقدّم خمسمائة ألف درهم معجلة.

فلمّا ورد الرسول وأدّى الرسالة فرّج عن بجكم وفرّج بأن ابتدأه بنو حمدان بمسألة الصلح وكان فكر في تسليم الموصل إليه والانحدار لدفع ابن رائق. فبادر وركب من وقته إلى الراضي وعرّفه ما ورد به الطالقاني واستأذنه في إمضاء الصلح. فامتنع الراضي لشدّة غيظه على ابن حمدان.

فعرّفه أنّ الصواب في اجابته إليه والمبادرة إلى بغداد التي خرجت عن يده وهي دار الملك فأذن له في المصالحة. فردّ من يومه الطالقاني بالصلح وأنفذ معه الخلع واللواء والقاضي أبا الحسين ابن أبي الشوارب ليستحلف ابن حمدان ورجع مع مال التعجيل.

وبعد نفوذ الطالقاني جاء جعفر بن ورقاء وتكينك من عند بجكم إلى الموصل ثم تبعهما محمّد بن ينال الترجمان في مرقعة منهزمين من يد ابن رائق ووصفوا أنّه لمّا ظهر من استتاره ببغداد انضمّ إليه ثلاثمائة رجل من القرامطة فلقيه بديع غلام جعفر بن ورقاء وانهزم بديع وخرج إلى ابن رائق وهو بالمصلّى جماعة من الجند والحجريّة وخلق من العامّة وقالوا:

« نحن نقاتل بين يديك. » فأعطاهم خمسة دراهم وثلاثة دراهم.

وكان جعفر بن ورقاء وأحمد بن خاقان وابن بدر الشرابي في دار السلطان وما يليها فراسلهم ابن رائق وسألهم الإفراج له ليمضى إلى داره التي هي دار مونس. فأنزلها بجكم فمنعوه من ذلك فقاتلهم وانهزموا وقتل ابن بدر، واستأمن إلى ابن رائق جماعة من الرجال، فوعدهم بالعطاء وأعطاهم خواتيم طين تذكرة بالمواعيد، وصار إلى دار السلطان [ ولم يدخلها صيانة ] لمن فيها وراسل والدة الراضي بالله وحرمه برسالة جميلة وصار إلى دار مونس التي كان ينزلها بجكم فقاتله تكينك عنها وانهزم تكينك وملك ابن رائق الدار.

ثم أقبل محمّد بن ينال الترجمان من واسط في أربعة آلاف من الأتراك والديلم وغيرهم ليدفع ابن رائق عن بغداد فتلقّاه ابن رائق بالنهروان وجرت بينهم حرب شديد وانهزم الترجمان وصار في مرقّعة إلى الموصل.

وأقبل ابن رائق يثير ودائع بجكم وأمواله وأنفذ أبا جعفر ابن شيرزاد إلى بجكم بجواب الصلح منه فتقدّم إليه بجكم المقام وأنفذ بجواب الرسالة قاضى القضاة أبا الحسين عمر على أن يقلّد طريق الفرات وديار مضر وجند قنّسرين والعواصم وينفذ إليها. ورجع الطالقاني وابن أبي الشوارب القاضي من عند ابن حمدان بتمام الصلح وبعض المال فانحدر الراضي وبجكم من الموصل ولمّا صار قاضى القضاة إلى ابن رائق لقيه وقرّر أمره على تقلّد الأعمال التي تقدّم ذكرها فخرج ابن رائق من بغداد متوجّها إلى أعماله ووصل الراضي وبجكم إلى بغداد يوم السبت لتسع خلون من شهر ربيع الأوّل.

موت الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات وتقليد أبي جعفر محمد بن شيرزاد الوزارة

وفيها مات الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بالرملة.

وكان الراضي أنفذ خادما يستدعيه فوصل الخادم وقد مات. فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة عليه سنة واحدة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوما.

وقلّد مكانه أبا جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد وسلّم إليه عليّ بن خلف، فصادره على خمسين ألف دينار وسفّر أبو جعفر بن شيرزاد في الصلح بين بجكم وبين البريدي. فتمّ ما شرع فيه وضمن أبو عبد الله البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار في السنة.

ولمّا اتّفق موت الوزير أبي الفتح وصولح البريدي شرع أبو جعفر ابن شيرزاد في تقليد أبي عبد الله البريدي الوزارة وأشار بذلك فأنفذ الراضي بالله أبا الحسين إلى أبي عبد الله البريدي في تقلّد الوزارة، فامتنع منها، ثم استجاب إليها، وتقلّد الوزارة وخلّفه عبد الله بن عليّ النّفري بالحضرة كما كان يخلّف الفضل بن جعفر.

وكان بجكم قلّد بالبا التركيّ أعمال المعاون بالأنبار فكاتبه يلتمس منه أن يقلّده أعمال طريق الفرات بأسرها ليكون في وجه ابن رائق وهو بالشام.

فقلّده ذلك فنفذ إلى الرحبة وغلب عليها وكاتب ابن رائق وأقام له الدعوة في أعمال طريق الفرات وعظم أمره بها واتصل خبره ببجكم.

ذكر سرعة تلافى بجكم أمر بالبا قبل أن يستفحل

أنفذ بجكم غلامه يوستكين وعدلا حاجبه وقطعة من جيشه نحو أربعمائة رجل فوصلوا إلى الأنبار وقت العصر من يومهم وساروا من سحر ليلتهم إلى هيت وأخذوا منها الأدلّاء فسلكوا طريق البرّيّة ووصلوا إلى الرحبة في خمسة أيّام فدخلوها من بابين من أبواب الرحبة وجميع ذلك بوصيّة بجكم ورسمه، فعملا بما رسم. فعرف بالبا الخبر وهو على طعامه فوثب إلى سطح واستتر عند بعض الحاكة وأخذ من عنده وانحدروا به إلى الأنبار. ثم أدخلاه بغداد مشهّرا على جمل عليه نقنق وهو مصلوب ثم خفى أمره فيقال ان بجكم سمّه.

ودخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة

وفيها تزوّج بجكم سارة بنت الوزير أبي عبد الله أحمد بن محمّد البريدي بحضرة الراضي على صداق مائتي ألف درهم.

واشتدّ أبو جعفر ابن شيرزاد في معاملة التنّاء وزاد في المساحة واحتجّ عليهم بعلوّ الأسعار ووفورها وطالبهم بالترييع والتسعير والسلف وأظهر ظلمه.

وفيها سار الأمير أبو عليّ الحسن بن بويه إلى واسط وكان البريديّون بها.

فأقام الأمير أبو عليّ في الجانب الشرقي منها والبريديّون في الجانب الغربي.

ذكر السبب في ذلك

كان أبو عبد الله أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدا من الديلم.

واضطرّ أبا جعفر الصيمري إلى التحصّن بقلعة السوس وكان متقلّدا أعمال الخراج بها. وخاف أبو الحسين أحمد بن بويه أن يصير البريدي إلى الأهواز من البصرة وكان أبو عليّ الحسن بن بويه أخوه مقيما بباب إصطخر فكتب إليه أبو الحسين أخوه يستنجده فوافاه يطوى المنازل طيّا في عشرة أيّام.

وكانت الضرورة دعت أبا الحسين أحمد بن بويه إلى أن خرج من السوس. فلمّا وصل أخوه أبو عليّ إلى السوس دخل أبو الحسين أحمد بن بويه الأهواز وكان أصحاب وشمكير قد تغلّبوا على إصبهان. فسار الأمير أبو عليّ الحسن بن بويه إلى واسط طمعا في أن يحصل له، فاضطرب رجاله لأنّه ما كان أنفق فيهم منذ سنة واستأمن من أصحابه مائة رجل إلى البريديين. وسار بجكم والراضي من بغداد لحربه فأشفق أن يقع التضافر عليه ويستأمن من رجاله. فانصرف إلى الأهواز ومنها إلى رامهرمز. ثم سار إلى إصبهان ففتحها واستأسر بضعة عشر قائدا من قوّاد وشمكير ورجع الراضي بالله وبجكم إلى بغداد.

وفيها خرج بجكم إلى الجبل فلمّا بلغ قرميسين عاد إلى بغداد ومعه مستأمنه الديلم.

ذكر السبب في خروج بجكم إلى الجبال ورجوعه عنها وسبب فساد الحال بينه وبين البريدي بعد الوصلة والصلاح

لمّا صاهر بجكم البريدي وخلّص ما بينهما كاتبه أن ينفذ إلى الجبل لفتحها وأن يخرج هو إلى الأهواز لفتحها ودفع أبي الحسين أحمد بن بويه عنها. وأنفذ إليه حاجبه عدلا في خمسمائة رجل نجدة ليضمّهم إلى رجاله.

قال أبو زكريا السوسي: وأخرجنى معه لأن أزعجه وأحثّه على المسير مع الجيش كلّه إذ كان ابتداؤهم بالسوس. قال: فحصلت بواسط وأظهر البريدي بما وردت وعدل الحاجب له، حتى إذا حصل بجكم بحلوان طمع البريدي في المسير إلى بغداد وأخذ الدفائن التي لبجكم في داره والعود بها إلى واسط وكانت عظيمة. فما زال يتربّص ويدافع، ويقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، تارة تشره نفسه إلى المال وتارة يرهب من مكاشفة بجكم، ويتوقّع مع ذلك دائرة على بجكم من قتل أو هزيمة فيتمكّن ممّا يريد.

وامتدّت أيّامنا حتى أقمنا زيادة على شهر وكتب بجكم ترد علينا بأن نعرّفه ما علمناه فإذا أقرأناها البريدي قال:

« أنا سائر غير متلوّم. » ثم يتراخى ففطنّا لما في نفسه وقلت لعدل سرّا:

« أنفذ إلى بجكم من يعرّفه الخبر. » فبادر إليه بركابيّ يثق به. فلمّا وصل إلى بجكم لم يلبث أن ركب الجمّازات ووافى مدينة السلام وخلّف عسكره وراءه.

وسقطت الأطيار على البريدي بدخول بجكم بغداد وأنّه لا يدرى أهو منهزم أم مجتاز فأبلس ودهش وتحيّر وهمّ بالقبض عليّ وجذبني إلى البصرة وعملت أنا على الاستتار فخفت أن يثيرنى ويخرجني لأنّ واسط بلد صغير فكنت على ذلك أتردّد إليه متجلّدا. ثم دعاني وقت العصر بعدّة غلمان فلم أشك في أنّه للقبض عليّ. فوصلت إليه وقت المغرب وقد قام فدخل إلى كلّة له هربا من البقّ فقال لي:

« عرفت الخبر؟ » قلت: « ما ذا؟ » فقال: « سقط طائر قبل العصر بأنّ بجكم قد سار إلى واسط. » فقلت: « هذا باطل متى ورد بغداد ومتى خرج؟ » فقال: « دع هذا عنك، فإني لا أشكّ فيه. قم اخرج الساعة إليه وأزل ما أوحشه مني وهات يدك. » فناولته إيّاها وجعلها على أذنه وقال:

« خذنى إلى النخّاسين وبعني فإني لا أخالفك، واكفني هذا الباب ولا تسألنى عمّا تعمل. » فقبّلت يده ورجله والأرض بين يديه وقلت له:

« أمضى أتأهّب. » فقال: « قد تأهّبت لك وقدّم لك طيّار وجرّدت خمسين غلاما لبدرقتك وانزل إلى الطيّار ففيه زاد يكفيك إلى الحضرة وغلمانك يتلاحقون بك. » فلم أتمالك سرورا ثم خشيت أن يكون قد اغتالنى وإني أخرج فيؤخذ بي إلى البصرة. ونهضت من عنده فما تاب إليّ عقلي إلّا بفم الصلح. فلمّا وصلت إلى نهر سابس لقيني خادم من دارى ببغداد برسالة بجكم إليّ أن استتر، وأسرّ بذلك إليّ وسألنى من معي من غلمان البريدي عمّا ورد به الخادم فعرّفتهم أنّه أخبرني بحال عليلة لي وأنّها مشفية، وسرت مبادرا.

وأصبح البريدي نادما على إنفاذه إيّاى ووجّه خلفي من يطلبني لأنّ طائرا سقط عليه بما آيسه من صلاح بجكم له، وأغرى بي في الكتاب فكفانى الله.

ووصلت إلى دير العاقول وبها أحمد بن نصر القشوري. فخرجت إليه وأراد أن يأخذ الطيّار ويوقع بالغلمان. فلم أتركه وبرزت للغلمان ورددتهم في الطيّار وجلست أنا في طيّار أحمد بن نصر ووافيت الزعفرانيّة ولقيت بها بجكم وصعدت إليه فحدّثته بالحديث واجتهدت في إصلاحه للبريدى وردّه إلى بغداد، فأبى فقال:

« لو لقيتني وأنا على درجة من دارى لما تهيّأ لي أن أعود فإنّها تكون هزيمة فكيف وقد سرت ووصلت إلى ههنا. » وانحدرت معه فقبض على أبي جعفر بن شيرزاد بواسط لأنّه كان سبب البريدي عنده وهو الذي أشار بوصلته.

إزالة اسم الوزارة عن البريدي وإيقاعه على سليمان بن الحسن

وأظهر بجكم صرف أبي عبد الله البريدي عن الوزارة وأزال اسمها عنه وأوقعه على أبي القاسم سليمان بن الحسن. فكان اسم الوزارة عليه وخلع عليه خلع الوزارة والأمور يدبّرها كاتب بجكم وهو ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه.

فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة على أبي عبد الله البريدي سنة واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما.

وكان بجكم عند إخراج مضربه إلى الزعفرانية متوجّها إلى البريدي أحبّ أن يكتم خبر انحداره. وكان انحداره في حديدي فضبط الطرق ومنع من نفوذ كتاب لأحد لئلا يكتب بخبر انحداره.

ذكر اتفاق ظريق غريب

كان معه في الحديدى كاتب له على أمر داره وجرايات حاشيته وكان له أخ في خدمة البريدي فلمّا جلس بجكم في الحديدى سقط على صدر الحديدى طائر فصاده غلمان بجكم وجاءوا به إلى مولاهم فوجد على ذنبه كتابا فقرأ فإذا هو كتاب من كاتبه هذا إلى أخيه بخطّه يعرّفه فيه انحدار بجكم ومن أنفذ على الظهر من الجيش وسائر أسراره وعزائمه. فلمّا وقف عليه بجكم عجب واغتاظ وأحضر هذا الكاتب ورمى إليه بالكتاب فسقط في يده ولم يمكنه جحده لأنّه بخطّه المعروف فاعترف به فأمر به فرمى بالزوبينات بحضرته إلى أن قتله ورمى به في الماء وسار إلى واسط فوجد البريدي قد انحدر منها ولم يقف.

ابن رائق ينفذ ابنه ليقتل قصاصا

وفي ذي الحجّة من هذه السنة ورد الخبر بأنّ ابن رائق أوقع بأبي نصر ابن طغج أخي الأخشيد. فانهزم أصحاب أبي نصر ابن طغج واستؤسر وجوه قوّاده وقتل أبو نصر ابن طغج فأخذه ابن رائق وكفّنه وحنّطه وحمله في تابوت إلى أخيه الأخشيد وأنفذ معه ابنه مزاحم بن محمّد بن رائق وكتب إلى الأخشيد معه كتابا يعزّيه فيه بأخيه ويعتذر ممّا جرى وأنّه ما أراد قتله وأنّه قد أنفذ إليه ابنه ليقيده به إن أحبّ ذلك.

فتلقّى الأخشيد فعله ذلك بالجميل وخلع على أبي الفتح مزاحم وردّه إلى أبيه واصطلحا على أن يفرج ابن رائق للأخشيد عن الرملة ويكون باقى الشام في يد ابن رائق ويحمل إليه الأخشيد عن الرملة مائة وأربعين ألف دينار.

دخول الترجمان من الجبل منهزما

وفيها دخل أبو نصر محمّد بن ينال الترجمان من الجبل منهزما من الديلم واتصل خبر هزيمته ببجكم وهو بواسط فوجّه بمن ضربه في منزله بالمقارع وقيّده وحبسه مدّة ثم رضى عنه.

ودخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة

قبض بجكم على كاتبه ابن شيرزاد

وفيها كان القبض من بجكم على كاتبه ابن شيرزاد واستكتب أبا عبد الله الكوفي فكانت مدّة كتابة ابن شيرزاد لبجكم وتدبيره الملك وقيامه مقام الوزراء تسعة عشر شهرا وثلاثة عشر يوما.

وحين أراد القبض عليه كاتب تكينك خليفته على يد مسرع بأن يحضر أبا القاسم الكلواذى وأصحاب الدواوين والعمّال والمهندسين ويتقدّم إليهم بأن يتواقفوا على أمر المصالح بالسواد وأن يعملوا عملا بما يحتاج إليه ناحية ناحية فإذا فرغ منه تسلّمه منهم وقبض على فلان وفلان - قوم أسماهم له من الكتّاب - فإذا حصلوا كتب على عدّة أطيار بخبر حصولهم.

فأحضرهم تكينك وناظرهم في دار بجكم على أمر المصالح. فلمّا فرغوا من ذلك وأرادوا الانصراف اعتقل من أسمى له منهم وفيهم أبو الحسن طازاذ بن عيسى ومحمّد بن الحسن بن شيرزاد والمعروف برهرمه وجماعة من الكتّاب والعمّال وكتب بخبر القبض عليهم. فلمّا عرف خبرهم وحصولهم في القبض قبض حينئذ على أبي جعفر ابن شيرزاد وزيره.

من دلائل دهاء بجكم

وممّا يستدلّ به على دهاء بجكم ما حكاه ثابت عن أبي عبد الله الكوفي قال:

قال بجكم بعد قبضه على أبي جعفر ابن شيرزاد: كان يقال لي إنّ أبا جعفر موسر كثير المال وكنت أظنّ أنّ أعداءه يكثرون عليه. فأردت أن أمتحن صحّة ما يقال فيه فقلت له يوما:

« قد أودعت الأرض مالا كثيرا وعملت على أن أودع الناس شيئا آخر ولست أثق بأحد ثقتي بك وأريد أن أودع عندك شيئا فهل تنشط لذلك. » فقال لي:

« وكم مبلغه؟ » فقلت: « مائة ألف دينار. » فقال لي مسرعا:

« نعم. » ولم يستكثرها ولا رأيت في وجهه إعظاما لها. فلمّا رأيت قوّة قلبه ونشاطه للأمر وأنّ المقدار لم يهله ولا عظم في نفسه علمت أنّ الذي قيل في يساره وكثرة ماله حقّ. فسلّمت إليه مائة ألف دينار وتركته مدّة طويلة ثم قلت له:

« قد احتجت إلى تلك الدنانير فينبغي أن تردّها. » فقال: « نعم. » وحمل بعد أيّام جزء منها ثم اقتضيته فحمل شيئا آخر ثم اقتضيته فحمل جزء آخر فأظهرت غضبا وقلت له: « دفعتها إليك جملة وتردّها تفاريق. » فارتاع لغضبي وصياحي عليه ودهش فخجل وقال:

« أنا أصدق الأمير ليس لي من أثق به في هذه الأحوال إلّا أختى وليس تطيق حمل الجميع ولا لها حيلة إلّا أن تحمله شيئا بعد شيء. » فسكتّ. وقلت: « يجوز ».

وحصّلت من كلامه أنّ الذي يجرى على يده أمر ودائعه هو أخته. فلمّا قبضت عليه وطالبته، أخذ يتماتن. فوجّهت إليه:

« لا تماتن، فإنّ أختك قد وقعت في يدي. » ولم تكن قد وقعت وإنّما أردت أن أرعبه. قال: فانحلّ وبلغ ما أردته.

موت الراضي بالله

وفيها في ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأوّل مات الراضي بالله وكان قد انكسف القمر كلّه وكان موته بالاستسقاء الزّقّى، واستتر كاتبه أبو الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا وانقضت أيّامه.

وكان رجلا أديبا شاعرا حسن البيان يحبّ محادثة الأدباء ومعاشرتهم ولا يفارق الجلساء وكان سمحا سخيّا واسع النفس.

ما قاله سنان بن ثابت لبجكم في علاج خلقه

وطمع بجكم في جماعة من ندمائه وظنّ أنّه ينتفع مع عجمته بآدابهم.

فلمّا نظر لم يجد من يفهّمه ما ينتفع به إلّا سنان بن ثابت. فإنّ سنانا كان ينادمه الراضي بالله.

قال سنان: دعاني بجكم ووصلني وأكرمنى ثم قال لي:

« أريد أن أعتمد عليك في تدبيري وأمور جسمي ومصالحي وفي أمر آخر هو أهمّ إليّ من أمر بدني وهو أمر أخلاقى. فقد وثقت بعقلك وفضلك وقد غمّنى غلبة الغضب والغيظ عليّ وافراطهما فيّ حتى أخرج إلى ما أندم عليه من ضرب وقتل. فأنا أسألك أن تثقف ما أعمله ثم تعالجنى ممّا تكرهه وإذا عرفت لي عيبا لم تحتشم أن تذكره لي ثم ترشدني إلى علاجه ليزول عني. » قال: فقلت له:

« السمع والطاعة، ولكن في العاجل اسمع مني جملة علاج ما أنكرته من نفسك إلى أن يجيء التفصيل.

« اعلم أيّها الأمير بأنّك قد أصبحت وليس فوق يدك يد لمخلوق، وأنّه لا يتهيّأ لأحد منعك ممّا تريد ولا أن يحول بينك وبين ما تهواه أيّ وقت أردته، وأنّك متى أردت شيئا بلغته في أيّ وقت شئت، لا يفوتك منه شيء.

« ثم اعلم أنّ الغيظ والغضب يحدث في الإنسان سكرا أشدّ من سكر الشراب المسكر بكثير. فكما أنّ الإنسان يعمل في وقت السكر من النبيذ ما يندم عليه وما لا يعقل به ولا يذكره إذا صحا، كذلك يحدث في حال السكر من الغضب بل أشدّ. فيجب كما يبتدأ بك الغضب وتحسّ بأنّه قد ابتدأ يغلبك ويسكرك وقبل أن يشتدّ ويقوى ويتفاقم ويخرج من يدك فضع في نفسك أن تؤخّر العقوبة على الذنوب وتتركها. تغبّ ليلة واثقا بأنّ ما تريد أن تفعله في الوقت لا يفوتك عمله في غد. وقد قيل: « من لم يخف فوتا حلم » فإنّك إذا فعلت ذلك وبتّ ليلتك وسكنت فلا بدّ لفورة الغضب من أن تبوخ وتسكن وتصحو من السكر الذي أحدثه لك الغضب. وقد قيل: « إنّ أصحّ ما يكون الرأي إذا استدبر الإنسان ليلته واستقبل نهاره ».

« فإذا صحوت من سكرك فتأمّل الأمر الذي أغضبك، فإن كان ممّا يجوز فيه العفو ويكفى فيه العتاب والتهديد أو التوبيخ أو العزل، فلا تتجاوز ذلك. فإنّ العفو أحسن بك وأقرب لك إلى الله عز وجل. وليس يظنّ بك المذنب ولا غيره العجز ولا تعذّر القدرة. وإن كان ممّا لا يحتمل العفو عاقبت حينئذ على قدر الذنب ولم تتجاوزه إلى ما يقبح ذكرك ويزيغ دينك ويمقت عليه نفسك وإنّما يشتدّ هذا عليك عند تكلّفه أوّل دفعة وثانية وثالثة، ثم يصير عادة فيسهل لك ثم تستلذّه إذا علمت أنّه فضيلة. » فاستحسن ذلك بجكم ووعد أنّه يفعله، وما زال ينبهه على شيء شيء حتى صلحت أخلاقه وكفّ عن القتل والعقوبات الغليظة واستحلى ما كان يشير به من استعمال العدل والإنصاف ورفع الجور والظلم وعمل به حتى قال:

« قد تبيّنت أن العدل أربح للسلطان بكثير وأنّه يحصّل له دنيا وآخرة وأنّ موادّ الظلم وإن كثرت وتعجّلت سريعة النفاد والفناء والانقطاع، وهو مع ذلك كأنّه لا يبارك فيها وتحدث حوادث يتحرّمها ثم يعود بخراب الدنيا وفساد الآخرة. »

فقلت له: « وبالضد، فإنّ موادّ العدل تنمى وتزيد وتدوم ويبارك فيها عند ابتداء العمل به. » وعمل بواسط وقت المجاعة دار ضيافة وببغداد بيمارسنا وعدل في أهل واسط وأحسن إلى أهلها، إلّا أنّ مدّته لم تطل. فقتل عن قرب، ولله تدبير في أرضه وله أمر هو بالغه.

خلافة المتقي لله أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله

لمّا مات الراضي بالله بقي الأمر في الخلافة موقوفا انتظارا لقدوم أبي عبد الله الكوفي من واسط واحتيط على دار السلطان وانتظر أمر بجكم فيمن ينصب للخلافة فورد كتابه على أبي عبد الله الكوفي يأمر فيه: أن يجتمع مع الوزير الذي كان يزر للراضى بالله وهو أبو القاسم سليمان بن الحسن وكلّ من تقلّد الوزارة مع أصحاب الدواوين والقضاة والعدول والفقهاء والعلويين والعبّاسيين ووجوه البلد، وشاورهم فيمن ينصب للخلافة ممّن يرتضى مذاهبه وتحمد طرائقه. فمن وجدت فيه هذه الأحوال عقدت له الخلافة.

فلمّا اجتمعوا ذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر، فتفرّق الناس عن هذا ذلك اليوم من غير تقرير لأمر. فلمّا كان اليوم الثاني دفع كتاب بجكم إلى كاتب فقام وقرأه على الناس وذكر إبراهيم.

فقال محمّد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي:

« هذا الرجل من ولد المقتدر، فقل لنا هذا الرجل المذكور في الكتاب، يجب أن يكون من ولد المقتدر أو من غيرهم. » فقال أبو عبد الله الكوفي:

« من كانت فيه هذه الأوصاف نصب في الخلافة كائنا من كان. » فقال له:

« يحتاج أن يكون الخطاب في هذا سرّا. » فقام أبو عبد الله فدخل إلى بيت وأقبل يدخل إليه الناس اثنان اثنان ويقول لهما:

« قد وصف لنا إبراهيم بن المقتدر. فأيّ شيء تقولون؟ » فإذا سمعا ذلك لم يشكّا في أنّه شيء قد تقرّر وورد فيه أمر بجكم، فيقولون هو موضع لما أهلّ له، وكلاما في هذا المعنى. فلمّا استوفى كلام الجماعة تقدّم بحمله ليعقد له الأمر في دار بجكم ثم يحمل إلى دار السلطان.

وانحدر أبو عبد الله الكوفي وعرضت الألقاب على المتقي لله فاختار منها هذا اللقب، وأخذت البيعة على الناس وأنفذ الخلعة واللواء إلى بجكم مع أبي العبّاس أحمد بن عبد الله الإصبهاني إلى واسط، فانحدر بها وخلع عليه وأخذ البيعة عليه للمتقي لله.

وأطلق بجكم لأصحابه صلة البيعة نصف رزقه أو دون ذلك ولم يطلق للكتّاب ولا للنقباء وأشباههم شيئا. ووجّه بجكم قبل استخلاف المتّقى فحمل من دار السلطان فرسا كان استحسنه وآلات كان اشتهاها. وخلع المتقي لله على سلامة الطولونى وقلّده حجبته وأقرّ سليمان بن الحسن على وزارته وإنّما كان له من الوزارة الاسم فقط والتدبير إلى أبي عبد الله الكوفي.

ورود الخبر بدخول ابن محتاج إلى الري وقتله ما كان الديلمي وهزيمته لوشمكير

وفيها ورد الخبر بدخول أبي على ابن محتاج في جيش خراسان إلى الري وقتله ما كان الديلمي وهزيمته لوشمكير إلى طبرستان.

ذكر السبب في ذلك

كان ماكان مستقرّا بكرمان من قبل صاحب خراسان حتى بلغه قتل مرداويج فاجتمع عليه استئمان رجاله إلى عماد الدولة علي بن بويه ومجاورته إيّاه وطمعه في معاودة أعماله الأولى من جرجان وطبرستان.

فصار إلى خراسان واستعفى من ولاية كرمان وسأل ولاية جرجان. فوليها وسار إليها وفيها بلقاسم ابن بانجين من قبل وشمكير فقدّم ما كان كتابا إلى وشمكير يداريه فيه ويستنزله عن أعماله التي كانت في يده ويستعيده إلى حال المودّة والموادعة، وكان الإجماع قد وقع من الجيل والديلم أنّه لم ير فيهم أشجع ولا أنجد ولا أفرس من ماكان وأقرّ له بذلك كلّ شجاع مذكور وكلّ متقدّم مشهور.

فصادفت رسالته من وشمكير ضعف قلبه بقتل أخيه مرداويج وقرب عهده بالمصيبة وإشفاقه من صاحب خراسان ومن جهة عماد الدولة علي بن بويه.

فاستجاب له إلى النزول عن جرجان وكتب إلى صاحبه بلقسم ابن بانجين بتسليمها إليه. فلمّا مضت له مدّة استنزله ما كان أيضا عن سارية فنزل له أيضا عنها.

فتأكّدت الحال بينهما واستحكمت المودّة واستوحش صاحب خراسان من تضافرهما وآل الأمر إلى أن خلع ما كان طاعته وأسقط خطبته. فسار حينئذ أبو على ابن محتاج إلى جرجان لمواقعته في عسكر كثيف أمدّه به صاحب خراسان وكتب ما كان إلى وشمكير بالصورة واستنجده. فأنجده بعسكر قويّ ثم أتبعه أيضا بعسكر ثان مع شيرج بن ليلى وحاصر ابن محتاج ما كان واشتدّ به الحصار إلى أن أكل أصحابه لحوم الجمال والبغال.

فانتهز هذه الفرصة ركن الدولة الحسن بن بويه واغتنم شغل وشمكير بما كان فطمع في الريّ وكاتب أبا عليّ ابن محتاج صاحب جيش خراسان وأشار عليه بمناجزة القوم ووعده بالمعاونة وكذلك فعل عماد الدولة كاتبه وأشار عليه بالمناجزة ووعده بأن يسيّر أخاه إلى الريّ في عسكر قويّ.

وعرف وشمكير الخبر وكتب إلى ما كان بالصورة وأشار عليه بتسليم جرجان إلى الخراسانية وكتب إلى شيرج وإلى سائر عسكره بالانصراف ففعل ما كان ذلك وعاد الجيش بأجمعه إلى الريّ وحصل ما كان بسارية وتمكّن ابن محتاج من جرجان واتصلت المكاتبة بينه وبين عماد الدولة وركن الدولة واستحكمت المودّة بينهم واتّفقوا على حرب وشمكير حين اختلط عسكراهما وصارا عسكرا واحدا واشتملت عدّة العساكر على سبعة آلاف من الديلم والجيل سوى الأتراك والعرب وأظهرا من السلاح والجنن والآلات والدوابّ أمرا عظيما. فترافدا في التدبير لأنّ وشمكير كان منفردا بإطلاق النفقات والأموال وإقامة الأنزال والعلوفات وتفقّد القوّاد والرجال لأنّ الريّ وأعمالها كانت في يده.

فأمّا ما كان فإنّه تفرّد بمباشرة الحرب وترتّب منها في القلب. فسار ابن محتاج على طريق الدامغان حتى قرب منها وأقام الديلم والجبل مصافّها وبات الفريقان على أهبة لمباكرة الحرب والمناجزة وكان وشمكير ضرب عدّة خركاهات للمصافّ ونصب المطارد والأعلام وأحضر الطعام للناس وأجلس ما كان في الصدر يأكل ويطعم ويجلس من يرى ووشمكير قائم متردّد على رسمهم في ذلك. فكان ما كان يقول:

« يا با طاهر، لم تأكل معنا ثم تتوفّر على النظر بعد ذلك؟ » فيقول: « يا با منصور، نحن بازاء أمر قد قرب انفصاله. فإن كان لنا فسوف نأكل معا ونطعم وإن كان لغيرنا فسوف يأكل ويطعم. » وكانا يتعاملان معاملة النظراء ويتخاطبان بالكنى ويتساويان في جميع أحوالهما. فما استتمّوا طعامهم حتى ورد عليهم الخبر بأنّ ابن محتاج رحل عن موضعهم عادلا عن سمتهم إلى إسحاقاباذ ليجتمع معه العدد الذي أنفذه ركن الدولة، لأنّه كان سار على طريق قم وقاشان. فارتحلا جميعا في الوقت إلى هذه القرية، وأعاد المصافّ بها ووافى ابن محتاج وقد عبّى جيشه كراديس.

ذكر حيلة في الحرب تفرق بها الجيش المجتمعون ودخل بينهم الغدر فأزال تعبئتهم وهزمهم

تقدّم ابن محتاج إلى أصحابه أن يطرقوا القلب ويلحّوا عليه وكان فيه ما كان وجمرة العساكر وان يتطاردوا لهم ويستجرّوهم ثم وصّى الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يناوشوهم مناوشة خفيفة بمقدار ما يشغلهم عن أن يصيروا مددا لمن في القلب ولا يطلبوا المناجزة بل يقفوا بازائهم على هذا السبيل. ففعلوا ذلك وألحّوا على القلب ثم تطاردوا لهم كالمنهزمين فطمع ما كان وأصحابه الذين كانوا في القلب فيهم فاتّبعوهم وفارقوا مصافّهم وبعدوا عن ميمنتهم وميسرتهم وصار بينهم فضاء كثير.

فحينئذ أمر ابن محتاج الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يتركوا من بازائهم ويدخلوا في الفضاء الذي اتسع لهم وراء القلب وأمر الذين كانوا بإزاء الحرب أن يحملوا ويحقّقوا عليه مواجهين له. فانكسر الديلم وحصلوا بين الكراديس ولم يكن لهم مهرب فقتلوهم كما شاءوا.

وكان ما كان قد ترجّل وأبلى بلاء حسنا وظهرت منه آثار لم ير مثلها.

فوافاه سهم عائر وقع في جبينه فنفذ الخوذة والرأس حتى طلع من قفاه وسقط ميتا. وأفلت وشمكير وقوم من أصحاب الخيل إلى سارية وأسر الباقون وقتلوا بأجمعهم.

وملك ابن محتاج الريّ وأخذ رأس ما كان بخوذته والسهم فيه وحمل على هيئته وحالته إلى خراسان مع الأسارى ورؤوس القتلى وكانوا عددا جمّا يقال: إنّهم نحو ستة آلاف. ثم حمل بعد ذلك رأس ما كان إلى بغداد بعد مقتل بجكم. لأنّ بجكم ينتسب إلى ما كان ويزعم أنّه تربيته وقد كان أظهر حزنا وغمّا شديدا لمّا سمع بقتله وجلس للعزاء. فلمّا قتل بجكم ورد أبو الفضل العبّاس ابن شقيق المرسوم كان بالترسّل بين ولاة خراسان وبين السلطان ومعه رأس ما كان وفيه السهم وعليه الخوذة وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.

ذكر غلطة وقعت من ابن محتاج في استنامته إلى جيش غريب حتى قتل خلق من أصحابه وانتهب سواده ونجا بنفسه

كان الحسن بن الفيروزان ابن عمّ ماكان وصنيعته وكان قريبا منه في الشجاعة. إلّا أنّه كان شرسا متهوّرا زعر الأخلاق. فلمّا قتل ما كان التمس منه وشمكير أن يدخل في طاعته وينحاز إليه فلم يفعل. ثم لم يقتصر على التثاقل عنه حتى أطلق لسانه فيه وقال: هو الذي أسلم ما كان إلى القتل وخذّله ونجا بنفسه. فأفسد ما بينه وبين وشمكير بهذا الضرب من الكلام والوقيعة فيه. فقصده وشمكير وهو يومئذ بسارية. فانصرف عن سارية وصار إلى ابن محتاج داخلا في طاعته ومستنهضا له على وشمكير. فقبله ابن محتاج وأحسن إليه وساعده على قصد وشمكير.

فلقيه بظاهر سارية واتصلت الحرب بينهما أيّاما إلى أن ورد الخبر على ابن محتاج بوفاة نصر بن أحمد صاحب خراسان. فصالح وشمكير وأخذ ابنا له يقال له: سالار، رهينة وواقفه على أمور تقررت بينهما وانصرف إلى جرجان وجذب الحسن بن الفيرزان معه وهو غير طيب النفس بما فعله وأراد منه أن يتمم الحرب ثم يستخلف الحسن ويمتدّ بعد ذلك إلى خراسان.

فلمّا لم يفعل ابن محتاج ذلك انجذب الحسن بن الفيرزان معه على هذا الحقد ودبّر أن يطلب غرّته في طريقه ويفتك به. فلمّا صارا إلى الحدّ بين أعمال جرجان وخراسان وثب الحسن على ابن محتاج وأوقع بعسكره ليقتله. فأفلت منه وقتل حاجبه وانتهب سواده واسترجع رهينة وشمكير أعنى ابنه سالار وعاد إلى جرجان فاستولى عليها وعلى أعمال الدامغان وسمنان والقلعة التي كان يعتصم بها.

وكان وشمكير صار إلى الريّ فملكها. فلمّا فعل الحسن بابن محتاج ما فعل عاد إلى مواصلة وشمكير وبدأه بالمجاملة وردّ عليه ابنه الذي كان رهينة عند ابن محتاج. وأراد بذلك أن يستظهر على الخراسانية به إن عاودوا حربه. فتسلّم وشمكير ابنه وحاجزه في الجواب ولم يصرّح له بما ينقض شرائط ابن محتاج عليه.

ثم إنّ ركن الدولة قصد الريّ وحارب وشمكير فانهزم وشمكير واستأمن أكثر رجاله إلى ركن الدولة وصار إلى طبرستان فاغتنم الحسن ابن الفيرزان ضعف وشمكير فسار إليه واستأمن إلى الحسن بقية أصحابه وانهزم وشمكير إلى خراسان على طريق جبل شهريار.

فلمّا حصل وشمكير بخراسان رأى الحسن بن الفيرزان أن يواصل أبا على ركن الدولة وينحاز. إليه فراسله ورغب في مواصلته. فأجابه إلى ذلك وتمّت المصاهرة بينهما بوالدة الأمير على ابن ركن الدولة، أعنى فخر الدولة وهي بنت الحسن بن الفيرزان.

حوادث حدثت في هذه السنة منها مقتل بجكم

وفي هذه السنة فرغ من مسجد براثا وجمّع فيه.

وفيها اشتدّ الغلاء ببغداد وبلغ الكرّ من الدقيق مائة وثلاثين دينارا وأكل الناس الحشيش وكثر الموت حتى كان يدفن في قبر واحد جماعة من غير غسل ولا صلاة وظهر من قوم ديانة وصدقة وتكفين ومن آخرين فجور وغصب وهم الأكثر. وفيها انبثق نهر الرّفيل ونهر بو فلم يقع عناية بتلافيهما حتى خربت بادوريا بهذين البثقين بضعة عشر سنة.

وفيها قتل بجكم.

ذكر سبب قتله

كان ورد جيش البريدي إلى المذار وأنفذ بجكم نوشتكين وتوزون في جيش للقائه فكانت بينهما وقعة عظيمة كانت أوّلا على أصحاب بجكم. فكتبا إلى بجكم يسألانه أن يلحق بهما فخرج بجكم من داره بواسط يوم الأربعاء عشرة خلت من رجب للمسير إلى المذار ليلحق عسكره وأصحابه. فورد كتاب توزون ونوشتكين بظفرهما وهزيمة جيش البريدي وأنّه قد استغنى عن انزعاجه فأنفذ بجكم بالكتاب إلى بغداد وكتب به كتاب هناك قرأ على المنابر.

وهمّ بجكم بالرجوع من حيث وصل إليه الكتاب بالخبر وكانت خزائنه قد سارت. فأشار عليه أبو زكريا السوسي بأن لا يرجع وقال له: « تمضى وتتصيّد. » فعمل على ذلك. فلمّا بلغ نهر جور عرف أنّ هناك قوما من الأكراد مياسير فشره إلى أموالهم وقصدهم متهاونا بهم في عدد يسير من غلمانه وعليه قباء طاق بلا جبّة. فهرب الأكراد من بين يديه وتفرّقوا ورمى واحدا منهم فأخطأ ورمى آخر فأخطأ واستدار من خلفه غلام من الأكراد وهو لا يعرفه فطعنه بالرمح في خاصرته فقتله وذلك بين الطيب والمذار يوم الأربعاء لتسع بقين من رجب. واضطرب عسكره جدّا ومضى ديلمه خاصة إلى البريدي وكانوا ألف وخمسمائة رجل فقبلهم وأضعف أرزاقهم في دفعة واحدة.

وكان بنو البريدي عملوا على الهرب وقد ضاقت عليهم البصرة لمراسلة بجكم أهلها بما سكّن نفوسهم فكانوا مجتمعين بمطارا. فلمّا بلغ بنى البريدي قتل بجكم فرّج عنهم ونفّس خناقهم وعاد أتراك بجكم إلى واسط وسار تكينك بهم إلى بغداد ونزلوا في النجمى وأظهروا طاعة المتقي لله وصار أحمد بن ميمون كاتب المتقي لله قديما هو المدبّر للأمور وصار أبو عبد الله الكوفي من قبله.

فكانت مدّة تقلّد أبي عبد الله الكوفي كتابة بجكم وتدبيره المملكة خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ومدّة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيّام.

ووجّه المتقى بجماعة من حجّابه فوكّلهم بدار بجكم ولم يتعرّض لشيء ممّا فيها حذرا من أن يرد خبر لبجكم يبطل الخبر الأوّل.

دفائن بجكم في البيوت والصحارى

فلمّا صحّ عنده قتله أحضر يكاق صاحب تكينك فأثبت المواضع التي فيها المال مدفونا. فسأل عن سبب معرفته بها فذكر أنّه كان يخرج من الخزانة ويستدلّ على أنّه لدفين، ثم يتّتبع الأثر سرّا. فلمّا عرف البيت الذي فيه الدفين والموضع المظنون فيه المال طلب له ثقة وضمّ إلى نجاح خادم المتقى، فاستخرج شيء كثير في قدور كبار منها عين ومنها ورق. فلمّا فرغ ممّا وجد بذل للحفّارين أن يأخذوا التراب باجرتهم فامتنعوا، فأطلق لهم ألفى درهم ثم تقدّم بغسل التراب فغسل وأخرج منه ستّة وثلاثون ألف درهم.

وكان بجكم قد دفن في الصحارى ولم يقتصر على ما دفنه في البيوت فكان الناس يتحدّثون أنّه إذا دفن في الصحراء شيئا ومعه من يعاونه قتله لئلّا يدلّ على ما يدفنه في وقت آخر فبلغ بجكم ما يقوله الناس فعجب منه.

فحكى سنان بن ثابت قال:

قال لي بجكم: فكّرت فيما دفنته في دارى من المال وقلت قد يجوز أن يحال بيني وبين الدار بحوادث تحدث فلا أصل إليها فيتلف مالي وروحي، إذ كان مثلي لا يجوز أن يعيش بغير مال فدفنت في الصحراء وعلمت أنّه لا يحال بيني وبين الصحراء.

فبلغني أنّ الناس يشنّعون عليّ بأنّى أقتل من يكون معي. ولا والله ما قتلت أحدا على هذه السبيل. وأنا أحدّثك كيف كنت أعمل: كنت إذا أردت الخروج للدفن أحضرت بغالا عليها صناديق فرّغ إلى دارى فاجعل في بعضها المال وأقفل عليها وأدخل من أريد أن يكون معي من الرجال إلى باقى الصناديق التي على ظهور البغال وأطبق عليهم وأقفل عليهم وأسيّر بالبغال، ثم آخذ أنا مقود القطار وأسير إلى حيث أريد وأردّ من يخدم البغال وأنفرد وحدي في وسط الصحراء، ثم افتح عن الرجال فيخرجون ولا يدرون أين هم من أرض الله، وأخرج المال فيدفن بحضرتى وأجعل لنفسي علامات، ثم أردّ الرجال إلى الصناديق وأطبقها عليهم وأقفلها وأقود البغال إلى حيث أريد، وأخرج الرجال فلا يدرون إلى أين مضوا ولا من أين رجعوا، واستغنى عن القتل.

واستوزر المتقي لله أبا الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون وخلع عليه واستحلف أبا عبد الله الكوفي وطلب تكينك فاستتر.

وقدم الترجمان من واسط، فأقرّه المتقي لله على الشرطة ببغداد.

وفيها أصعد البريديون من البصرة بعد قتل بجكم.

ذكر الخبر عن إصعادهم وما آلت إليه أمورهم

لمّا قتل بجكم اختلف أهل عسكره. فأمّا الديلم فعقدوا الرئاسة لبلسوار ابن مالك بن مسافر الكنكرى، فهجم عليه الأتراك وقتلوه. فانحدر الديلم بأسرهم إلى البصرة مستأمنين إلى أبي عبد الله البريدي وكانوا ألفا وخمسمائة رجل مختارين منتجبين ليس فيهم حشو. فقوى البريدي بهم وعظمت شوكته واستظهر بهم على السلطان وانضاف عسكرهم إليهم فبلغوا سبعة آلاف رجل.

فأصعد البريديون من البصرة إلى واسط، فراسلهم المتقي لله وأمرهم ألّا يصعدوا وأن يقيموا بواسط فأرسلوا:

« إنّا محتاجون إلى مال الرجال فانفذ إلينا ما نرضيهم به ونحن نقيم. » فوجّه المتقي لله أبا جعفر بن شيرزاد بعد أن ردّ عليه ضيعته مع عبد الله بن يونس صاحب بيت المال وانحدر في جملته تكينك سرّا من المتقي لله.

وقال الأتراك البجكمية والجنكاتى الذي كان استأمن من جهة البريدي للمتقي لله:

« نحن نقاتل بنى البريدي إن جاءوا، فأطلق لنا مالا وانصب لنا رئيسا. » فأنفق فيهم وفي رجال الحضرة القدماء أربعمائة ألف دينار من المال الذي وجد لبجكم وجعل الرئيس عليهم سلامة الطولونى الحاجب وبرزوا مع المتقي لله إلى نهر ديالى.

وعاد عبد الله بن يونس بجواب الرسالة من البريديين يلتمسون المال.

فحمل إليهم معه من مال بجكم أيضا مائة وخمسين ألف دينار فأخذها وقال:

« أنا أحتاج إلى خمسمائة ألف دينار للديلم. فإن حملت إليّ وإلّا فإنّ الديلم لا يمهلونى، وعلى كلّ حال أنا سائر، فإن تلقّانى المال انصرفت، وإلّا دخلت الحضرة. » فقال المتقي لله لمّا أدّيت رسالته:

« أنا قد أنفقت في الأتراك أربعمائة وخمسين ألف دينار وفي غيرهم جملة فمن أين أعطيه ما طلب؟ دعه يرد الحضرة ويعمل ما شاء، فانّى أرجو أن أكفى أمره. » وسار أبو عبد الله البريدي من واسط نحو الحضرة. فلمّا قرب منها اضطرب الأتراك البجكمية وقلعوا خيمهم واستأمن بعضهم إلى البريدي وسار بعضهم إلى الجنكاتى إلى الموصل ودخل سلامة بغداد واستتر أبو عبد الله الكوفي وسلامة الحاجب ومحمّد بن ينال الترجمان، وتقلّد الشرطة مكان الترجمان أحمد بن خاقان، وتأسّف الوزير أبو الحسين على أربعمائة ألف دينار ذهبت ضياعا. ورهب الناس البريدي رهبة عظيمة لعسفه وتهوّره وطمعه، فهمّ أرباب النعم بالانتقال.

فتحدّث بعض المختصّين بأبي الحسن عليّ بن عيسى قال:

كنت بين يديه أنا وأولاده وأخوه وخواصّه في تلك الأيّام ونحن نتحدّث بأمر البريدي وموافاته الحضرة ونتجارى جرأته وإقدامه وقلّة اكتراثه وأنّه ينعل الناس بنعال الدوابّ وأشارت الجماعة عليه بألّا يقيم ببغداد وأن يخرج هو وعياله إلى الموصل إلى أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وفزّعناه وهوّلنا عليه وهو لا يصغى إلى رأينا، فلمّا أكثرنا عليه ترجّح رأيه. ثم أطلق لي مائتي دينار على أن أبكّر وأكترى له بها زواريق ليصعد هو فيها وعياله إلى الموصل. فباكرنى رسوله مع السحر يأمرنى بالمصير إليه وجئت وسألنى فعرّفته أنّى ما مكّنت من امتثال أمره بمباكرة رسوله واستدعائه إيّاى.

فقال:

« ويحك لفكّرت البارحة فيما أشرتم به فوجدته خارجا عن الصواب مفسدا للدين. أيهرب مخلوق إلى مخلوق؟ اصرف تلك إلى وجوه الصدقة فإني مقيم. » فرددتها إلى خزائنه وأقام. فلمّا قرب البريدي انحدر إليه وتلقّاه فأكرمه أبو عبد الله غاية الإكرام ووفّاه حقّه وأعظمه ومنعه من أن يخرج من طيّاره وانتقل هو إليه وشكر برّه وخاطبه بنهاية الإكرام والتعظيم.

ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد ومعه أخوه أبو الحسين وابنه أبو القاسم وأبو جعفر ابن شيرزاد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان. فنزلوا البستان الشفيعى وتلقّاه الوزير أبو الحسين ابن ميمون والكتّاب والعمّال والقضاة والوجوه وكان معه من الشذاءات والطيارات والحديديات والزبازب ما لا يحصى كثرة. فوجّه المتقى إليه يعرّفه أنسه بقربه وحمل له الطعام والشراب والألطاف عدّة ليال وكان يخدم في ذلك كلّه خدمة الخلافة. وظهر محمّد بن ينال الترجمان وكان الناس يخاطبون أبا عبد الله البريدي بالوزارة ويخاطبون أبا الحسين ابن ميمون أيضا بالوزارة ويصير أبو الحسين إليه بسيف ومنطقة وقباء ويخاطب كلّ واحد منهما صاحبه بالوزارة ثم لبس أبو الحسين الدرّاعة وأزال عن نفسه اسم الوزارة بمواطأة الخليفة وذلك لستّ خلون من شهر رمضان فكانت مدّته فيها ثلاثة وثلاثين يوما وتفرّد أبو عبد الله البريدي باسم الوزارة.

فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان حضر أبو الحسين ابن ميمون ومعه ابنه أبو الفضل مجلس الوزير أبي عبد الله وكان الوزير قد واطأ القوّاد إذا حضر أبو الحسين مجلسه أن يجتمعوا ويكلّموه ويتوثبوا عليه ويتهددوه بالقتل ويقولوا أنّه يضرّب علينا الخليفة ويفسد علينا رأيه.

ففعل الديلم ذلك في هذا اليوم. فما زال الوزير يسكّنهم ويعرّفهم كذب ما بلغهم عنه، ثم قال لأبي الحسين وابنه:

« قوما ادخلا الرواق. » يوهمهما أنّه يريد أن يخلّصهما من القتل. فدخلا الرواق ووكّل بهما، وانصرف القوّاد وحصلا في قبضه. ثم قال لهما بعد أيّام:

« يا أبا الحسين قد قلدتك الإشراف على واسط وأجريت لك ألف دينار في كل شهر، فامض إلى عملك مع ابنك. » فحملا إلى واسط ومنها إلى البصرة. ولمّا قبض عليه استكتب المتقي لله على خاص أمره أبا العبّاس أحمد ابن عبد الله الإصبهاني واعتلّ أبو الحسين بعد مدّة بالبصرة ومات بها.

ولم يلق الوزير أبو عبد الله طول مقامه ببغداد المتقي لله ولا دخل دار السلطان وذهب إليه الأمير أبو منصور ابن المتقي لله وهو في النجمى ليسلّم عليه فلبس أبو عبد الله البريدي قباء أسود وعمامة سوداء وتلقّاه في أحسن زيّ وأوفر عدّة ونثر عليه دنانير ودراهم. وراسل الوزير أبو عبد الله البريدي المتقي لله على يد القاضي أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقى وأبي العبّاس الاصبهاني يطالبه بحمل مال، فحمل إليه مائة وخمسين ألف دينار. فأخذها وراسله بأنّه لا بدّ من خمسمائة ألف دينار.

فالتوى المتقي لله فقال للقاضي:

« انصحه وقل له: أما سمعت خبر المعتز بالله والمهتدي بالله والمتوكّل على الله؟ والله لئن خلّيتك والأولياء لتطلبنّ نفسك فلا تجدها وأنت أبصر.

إنّما الديلم وافوا لأجل المال الذي أخذته لا إلى بغداد وعندهم أنّهم أحق به منك ولا يعرفون البيعة ولا يمين لك في رقابهم. » وكان الجواب عن هذه الرسالة الإنعام، وحمل إليه خمسمائة ألف دينار.

فاستوفاها عن آخرها في سلخ رمضان ووهب للقاضي الخرقى منها خمسة آلاف دينار. ولمّا حصلت الأموال عند البريديين انصرفت أطماع الجند كلّهم. إليه وكان البريدي يبعث الجند على طلب الأموال من الخليفة ويحملهم على الشغب. فلمّا استصفى مال السلطان رجعت المكيدة عليه وتشغب الجند عليه. وكان الديلم قد اجتمعوا يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان فرأسوا على أنفسهم كورنكيج بن الفاراضى الديلمي فرأس الأتراك على أنفسهم تكينك غلام بجكم وانحاز الديلم بأجمعهم إلى دار السلطان وأحرقوا دار أبي الحسين البريدي التي كان ينزلها.

ونفر الجيش عن أبي عبد الله البريدي وصار تكينك إلى الديلم وتضافروا وكان سبب ذلك أنّ تكينك لم يكن كبيرا في نفوس الأتراك. فأرسل إليه كورنكيج وخدعه وقال له:

« إن تفرّد كلّ واحد منّا عن صاحبه ضعف، وأرى أن نجتمع وتصير أيدينا واحدة. » فانخدع له وصار إليه فاجتمعوا فلمّا تمكّن منه عاجله بالقبض عليه إلّا أنّه استعان به في العاجل لمّا اجتمعوا وواقفه على قصد البريدي ونهب ما حصل عنده. فاتّفقوا على ذلك وقصدوا بأجمعهم النجمى وعاونهم العامّة فقطع الوزير أبو عبد الله الجسر ووقعت الحرب في الماء ووثبت العامّة. في الجانب الغربي بأسباب أبي عبد الله البريدي وقتل نعجة القرمطي.

فهرب الوزير أبو عبد الله البريدي وأخوه وابنه وانحدروا إلى واسط في الماء ونهبت داره في النجمى ودور قوّاده ونهب بعض المال الذي كان حمله إليه المتقى في ذلك اليوم. لأنّ هربه كان يوم الاثنين سلخ رمضان وآخر ما حمل إليه من بقيّة المال في ذلك اليوم. واستتر أبو جعفر ابن شيرزاد ونهبت داره وظهر سلامة الطولونى وبدر الخرشنى. فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة عليه أربعة وعشرين يوما. ولمّا هرب البريدي حصلت الإمارة لكورنكيج يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شوّال.

ذكر إمارة كورنكيج

فلمّا كان يوم الخميس لثلاث خلون منه لقي كورنكيج المتقي لله فقلّده إمارة الأمراء وعقد له لواء وخلع عليه. وكان يكتب له رجل من أهل إصبهان يعرف بأبي الفرج ابن عبد الرحمن واستدعى المتقي لله أبا الحسن عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن فدبّر الأمر عبد الرحمن من غير تسمية بوزارة.

وقبض الأمير أبو شجاع كورنكيج على تكينك يوم السبت لخمس خلون من شوّال وغرّقه ليلا.

وفي يوم الجمعة اجتمعت العامّة في الجامع من دار السلطان وضجّوا وتظلّموا من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة وتعدّيهم عليهم في معاملاتهم. فلم يقع إنكار لذلك. فمنعت العامّة الإمام من الصلاة وكسرت المنبر وشغب الجند. فمنعهم الديلم من ذلك فقتل بين الفريقين جماعة.

واستوزر أبو إسحاق محمّد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي للمتقي لله فكانت مدّة نظر عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن تسعة أيام.

ذكر السبب في وزارة القراريطي

حكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي قال: كنت بحضرة كورنكيج مع كاتبه أبي الفرج وفي مجلسه عليّ بن عيسى وعبد الرحمن أخوه والقراريطي فطالب كورنكيج أبا الحسن عليّ بن عيسى بالمال وعرّفه حاجته إليه لإعطاء الرجال فبلّح هو وأخوه وذكر أنّ المال قد استنظف من النواحي وأنّه لا وجه له. قال: فقال القراريطي ونحن في المجلس فيما بيني وبينه:

« إن ردّ الأمر إليّ أقمت به واستخرجت ما يدفع إلى الرجال ويفضل بعده جملة وافرة. » فاجتمعت مع أبي الفرج كاتب كورنكيج وعرّفته ما خاطبني به. فالتمس أن يصير إليه في خلوة ليسمع كلامه. فأحضرته في غد فأعاد عليه ما قاله لي وأراه وجوها لجملة من المال فذهب إلى صاحبه كورنكيج فعرّفه أن عليّ بن عيسى وأخاه قد بلّحا وأنّ القراريطي قد حضر وذكر أنّه يقوم بالأمر ويزيح علل الرجال حتى لا يقع إخلال بشيء يحتاج إليه. فاستروح كورنكيج إلى ذلك وأمره بإحضاره ليلا فأحضره وخلا به وبكاتبه وجعله على ثقة من القيام بكلّ ما يحتاج إليه ولم يبرح حتى انعقد له الأمر ووقّف المتقي لله عليه.

وأخرج إصبهان الديلمي إلى واسط من قبل الأمير أبي شجاع كورنكيج لمحاربة البريدي وكان أبو يوسف قد أصعد من البصرة إلى واسط.

فلمّا سمعوا بانحدار إصبهان الديلمي انحدر البريديّون إلى البصرة وظهر ابن سنجلا وسلفه علي بن يعقوب من استتارهما وصارا إلى دار الوزير أبي إسحاق القراريطي ليسلّما عليه. فقبض عليهما من داره قبل أن يصلا إليه وحملهما إلى دار السلطان وكتب فيهما رقعة إلى المتقي لله وأمر بحبسهما ونالهما مكروه غليظ بالضرب والتعليق وصودرا على مائة وخمسين ألف دينار.

وفي هذه السنة سار محمّد بن رائق من الشام إلى مدينة السلام لمّا بلغه قتل بجكم.

ذكر الخبر عن مسير ابن رائق من الشام ودخوله بغداد وما آل إليه أمره

كان الأتراك البجكمية مثل توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون وكبارهم لمّا انصرفوا من بغداد بعد قتل بجكم وإصعاد البريدي صاروا إلى الموصل.

فحاد عنهم أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وراسلوه في إطلاق نفقاتهم فأطلق لهم ربع رزقة، فتقدّموا إلى ابن رائق بالشام فصحّ عنده قتل بجكم بمصير الأتراك إليه، وكتب إليه المتقى يخبره بقتل بجكم ويخاطبه بخطاب جميل ويستدعيه إلى الحضرة فسار من دمشق. فلمّا قرب من الموصل كتب كورنكيج إلى إصبهان الديلمي بأن يصعد من واسط فأصعد ودخل بغداد وخرج لؤلؤ إلى واسط متقلّدا لها ولم يتمّ أمره ورجع من الطريق. ولمّا وصل ابن رائق إلى الموصل حاد عنه أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وجرت بينهما مراسلة تقرّر فيها أن يحمل أبو محمّد إلى ابن رائق مائة ألف دينار. فأخذها وانحدر إلى بغداد وعاد أبو محمّد بن حمدان إلى الموصل.

ولمّا كان يوم الأحد لخمس بقين من ذي القعدة قبض كورنكيج على القراريطي. فكانت مدّة وزارته ثلاثة وأربعين يوما وقلّد الوزارة أبا جعفر محمّد بن القاسم الكرخي ولقي المتقي لله في هذا اليوم وخلع عليه.

وورد الخبر بدخول بنى البريدي واسطا لمّا انصرف عنها إصبهان الديلمي وخطبوا بواسط والبصرة لابن رائق وكتبوا اسمه على أعلامهم.

وفيها دخل ابن رائق بغداد وانهزم كورنكيج واستتر.

ذكر الخبر عن هزيمة كورنكيج واستتاره باتفاق وحرب

لمّا قرب ابن رائق من بغداد خرج كورنكيج منها وانتهى إلى عكبرا وقلّد لؤلؤ الشرطة ببغداد وخلع عليه وانتهى ابن رائق إلى كورنكيج وابتدأت الحرب واتّصلت أياما متتابعة كانت على ابن رائق.

فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة دخل ابن مقاتل بغداد ومعه قطعة من جيش ابن رائق. وفي ليلة الخميس لتسع بقين منه دخل ابن رائق بجميع جيشه من الجانب الغربي ونزل في النجمى وعبر في غداة غد هذا اليوم إلى دار السلطان ولقي المتقي لله وسلّم عليه واستركبه فركب معه في دجلة إلى زقّة الشمّاسية وانحدرا من وقتهما إلى دار السلطان فصعد المتقي لله إليها وعبر ابن رائق إلى النجمى.

ولمّا كان بعد الظهر من هذا اليوم وافى كورنكيج في جيشه من عكبرا على الظهر بغداد هو وأصحابه وهم في نهاية التهاون بابن رائق ومن معه وكانوا ينهرون ويقولون: « أين نزلت هذه القافلة الواردة من الشام. » ولمّا وصل كورنكيج إلى دار السلطان دفع عنها وكان فيها لؤلؤ وبدر الخرشنى فانصرف كورنكيج ونزل في الجزيرة التي بين يدي إصطبل مربط الجمال وخزانة الفرش ويعرف اليوم بدار الفيل.

فتحدّث أبو بكر ابن رائق بعد ذلك أنّه كان عمل على الانصراف والرجوع إلى الشام لمّا دخل كورنكيج بغداد وأنّه حمّل ثقله وابتدأ بالمسير.

قال: ثم قلت في نفسي أنصرف وأسلّم هذا الأمر. فلم تطب نفسي وقلت لفاتك حاجبي: استوقف الناس. فاستوقفهم فلم يقفوا حتى بادر إلى بغل من بغال النقل فعرقبه. فوقف حينئذ الناس وعبرت نحو من مائة رجل من أصحابي مع محمّد بن جعفر النقيب على الظهر إلى الجانب الشرقي وعبرت أنا في سميريّة ومعي سباشى الخادم التركي ونحو من عشرين سميريّة فيها غلمان، واتفق مجيئي مجيء أصحابي على الظهر في وقت واحد. فلمّا رشقنا الديلم بالنشاب سمعوا من ورائهم الزعقات من أصحابي ومن العامّة، فاضطربوا ونخبت قلوبهم وقدّروا أنّ الجيش قد وافاهم من خلفهم وأنّهم قد ملكوا ظهورهم فانهزموا وأخذهم الرحمة من العامّة وطرحت السُّتر عليهم وهرب كورنكيج واستتر. وقيل: ما عرف أصحابه أيّ طريق أخذوا وثبت أمرنا.

ذكر الخبر عن قتل الديلم وإمارة ابن رائق

لمّا استتر كورنكيج وتقطّع جيشه وبطل أمره ظهر أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي لابن رائق وعاد إلى خدمته. وأمر ابن رائق بقية الديلم المستأمنة بطرح أسلحتهم وأنفذ خاتمه إلى جماعة منهم كانوا تحصّنوا في حصن بالقرب من جسر النهروان فرجعوا ودخلوا الدار المعروفة بدار الفيل فكانوا نحو أربعمائة رجل لم يجسروا أن يتفرّقوا.

فلمّا كان يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجّة وجّه ابن رائق برجّالته السودان إلى دار الفيل ووضعوا السيف فيمن اجتمع هناك من الديلم فقطعوهم فلم يسلم منهم إلّا رجل يقال له: خذاكرد، وقع بين القتلى وحمل في جملة المقتولين في الجوالقات إلى دجلة ورمى به مع غمرة فعاش مدّة طويلة بعد ذلك.

وكان ابن رائق استأسر من قوّاد الديلم بضعة عشر قائدا. فوجّه بهم إلى دار فاتك حاجبه وأمره بضرب أعناقهم فضربت أعناقهم صبرا في داره.

وكان من المنهزمين من الديلم قوم مضوا في الهزيمة إلى طريق خراسان.

فلمّا تجاوزوا جسر النهروان باتوا في بعض الخانات، فسقط عليهم الخان بالليل فمات أكثرهم.

ولمّا كان يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجّة خلع المتقي لله على ابن رائق وطوّقه وسوّره بطوق وسوار مرصّعين بالجوهر وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء وألزم أبو جعفر الكرخي بيته وكانت وزارته هذه ثلاثة وخمسين يوما.

ودبّر الأمور أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي كاتب الأمير أبي بكر ابن رائق من غير تسمية بوزارة وأطلق أبو إسحاق القراريطي إلى منزله، ووجد كورنكيج فأخذ وحمل إلى دار السلطان.

ودخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

واستوحش ابن رائق من بنى البريدي لأنّهم ما حملوا شيئا من مال واسط والبصرة. فلمّا كان يوم الثلاثاء لعشر خلون من المحرّم انحدر ابن رائق وهرب البريديون إلى البصرة وسفر بينهم الكوفي إلى أن ضمن البريدي البقايا بواسط بمائة وسبعين ألف دينار ثم بستمائة ألف دينار في كلّ سنة مستأنفة وأصعد ابن رائق إلى بغداد.

وفيها دخل العبّاس بن شقيق ومعه رأس ما كان بن كاكى الديلمي مع هدايا صاحب خراسان إلى المتقي لله من غلمان أتراك وطيب وشهابى، وشهر رأس ما كان في شذاءة وكان على الرأس خوذة وفيه سهم قد نفذ في الخوذة والرأس ومرّ من الجانب الآخر من الخوذة.

وفيها شغّب الأتراك على ابن رائق وخرجوا إلى المصلّى ومعهم توزون ونوشتكين وأخذوا في طريق التجنّى عليه ورحلوا سحر يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الآخر إلى البريدي بواسط. فلمّا وصلوا إليه قوى بهم جانبه واحتاج ابن رائق إلى مداراته.

ذكر وزارة أبي عبد الله البريدي

فكاتب أبا عبد الله البريدي بالوزارة للنصف من شهر ربيع الآخر وأنفذ إليه الخلع مع الطيب ابن سوسن، واستخلف له أبا جعفر ابن شيرزاد بالحضرة وأوصله إلى المتقي لله إلّا أنّ المدبّر للأمور كلّها أبو عبد الله الكوفي.

ووردت الأخبار بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد. فأزال ابن رائق عنه اسم الوزارة وعزله بأبي إسحاق القراريطي ولزم أبو جعفر ابن شيرزاد منزله واستتر.

وركب المتقى على الظهر ومعه ابنه أبو منصور وابن رائق والوزير أبو إسحاق القراريطي والجيش. وساروا على الظهر وبين أيديهم المصاحف المنشورة والقرّاء واستنفر العامّة لقتال البريديين. ثم انحدروا إلى داره في دجلة من باب الشماسية واجتمع خلق من العيّارين بالسكاكين المجرّدة في جميع محالّ الشرقي من بغداد. وفي يوم الجمعة لعّن بنو البريدي على المنابر في المساجد الجامعة ببغداد.

ذكر أبي الحسين البريدي في إصعاده إلى بغداد

خرج أبو الحسين من واسط مصعدا في الجيش إلى بغداد ومعه غلمان أخيه أبي عبد الله والأتراك والديلم. فلمّا قرب من بغداد استأمن كلّ من كان معه من القرامطة إلى ابن رائق واستعدّ ابن رائق للقتال وعمل على أن يتحصّن في دار السلطان فسدّ أكثر أبواب دار السلطان والثلم في سورها ونصب العرّادات والمنجنيقات على السور وعلى شاطئ دجلة في فناء الدار وطرح حول الدار الحسك والحديد واستنهض العامّة وفرض بعضهم. فصار ذلك سببا لتوزّع العصبيات بينهم واتصال الحروب وافتتن الجانب الغربي وأحرق نهر طابق ممّا يلي دار البطيح واتصلت الكبسات بالليل والنهار على قوم ذوي أموال واستقفى الناس نهارا وليلا وقتل بعضهم بعضا قتلا ظاهرا وفتح الحبس ودامت الفتنة.

وبرزت خيم السلطان إلى نهر ديالى وخرج ابن رائق إلى الحلبة والقوّاد معه. فلمّا كان يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة عبر أصحاب أبي الحسين البريدي نهر ديالى وكان لؤلؤ مقيما على شاطئ النجمى وبدر الخرشنى بالمصلّى وما زالت الحرب بين البريدي وابن رائق إلى وقت الظهر وما زالت الحرب في الماء منذ ذلك اليوم إلى يوم السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة، فاشتدّت الحرب على الظهر وفي الماء، وأوقع الديلم بالعامّة الذين فرصوا ودخل الديلم من أصحاب البريدي دار السلطان من جهة الماء وملكوا الدار فخرج المتقى وابنه منها هاربين في نحو عشرين فارسا فخرجا إلى باب الشمّاسية ولحق بهما ابن رائق وجيشه ولؤلؤ ومضوا إلى الموصل.

واستتر القراريطي الوزير فكانت مدّة وزارته أحدا وأربعين يوما.

وقتل الديلم من وجدوا في دار السلطان ونهبوها نهبا قبيحا ودخل الديلم دور الحرم. وأقام البريدي أبو الحسين في حديدية أيّاما على باب الخاصّة ووجد في دار السلطان ابن سنجلا وعليّ بن يعقوب فأطلقا. وأمّا كورنكيج فقيّده وحدره إلى أخيه أبي عبد الله فكان آخر العهد به. ووجد القاهر في محبسه فأقرّ فيه من دار السلطان.

فلمّا كان بعد أيّام صعد أبو الحسين البريدي ونزل في دار مونس وهي التي كان ينزلها ابن رائق وقلّد أبا الوفاء توزون الشرطة في الجانب الشرقي ونوشتكين الشرطة في الجانب الغربي وأخذ الديلم في النهب والسلب وكبست الدور وأخرج أهلها ونزلت ولم يزل الناس على ذلك إلى أن تقلّد توزون ونوشتكين الشرطة، فإنّ الفتنة سكنت قليلا. وأخذ أبو الحسين البريدي حرم توزون وابنيه وعيالات أكثر القوّاد والأتراك وأنفذهم إلى أخيه ليكونوا رهائن في يده.

وغلت الأسعار ببغداد وظلم البريدي الظلم المعروف لهم وافتتح الخراج في اذار فخبط التنّاء حتى تهاربوا وافتتح الجوالى وخبط أهل الذمة وأخذ الأقوياء بالضعفاء ووظف على كرّ من الحنطة سبعين درهما وعلى سائر المكيلات وعلى الزيت وقبض على نحو خمسمائة كرّ كان للتجار ورد من الكوفة وادعى أنّه للحسن بن هارون المتقلّد كان للناحية وهرب خجخج إلى المتقي لله وكان أخرج إلى برزج سابور والراذانين.

وكان توزون ونوشتكين والأتراك تحالفوا على كبس أبي الحسين البريدي فغدر نوشتكين بتوزون ونمى الخبر إلى أبي الحسين البريدي فتحرّز وأحضر الديلم داره واستظهر بهم. وقصد توزون دار أبي الحسين فحاربه من كان فيها من الديلم وغلّقت الأبواب دونه وانكشف لتوزون غدر نوشتكين فلعنه وانصرف ضحوة يوم الثلاثاء ومضى مع قطعة وافرة من الأتراك إلى الموصل واضطرب العامّة وقاتلوا البريدي.

ولمّا صار توزون وخجخج والأتراك إلى الموصل وقوى بهم ابن حمدان عمل على أن ينحدر مع المتقي لله إلى بغداد وبلغ ذلك أبا الحسين البريدي وكتب إلى أخيه يستمدّه فأمدّه بجماعة من القوّاد والديلم وأخرج أبو الحسين مضربه إلى باب الشمّاسية وأظهر أنّه يحارب ابن حمدان إن وافى. وذلك كلّه بعد أن قتل محمّد بن حمدان ابن رائق وسنشرح خبره على إثر هذا الحديث.

فلمّا قرب المتقى وأبو محمّد بن حمدان من بغداد انحدر أبو الحسين هاربا وجميع جيشه وأخذ معه من كان معتقلا في يده يطالبه مثل ابن قرابة وأبي عبد الله بن عبد الوهّاب وعليّ بن عثمان بن النفّاط ومن أشبههم.

فاضطرب العامّة ببغداد زيادة اضطراب ونهبت الدور وتسلّح الناس في الطرقات ليلا ونهارا وكانت مدّة أبي الحسين البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما.

ولمّا وصل المتقي لله وابناه ومحمّد بن رائق ومن معهم إلى تكريت وجدوا هناك وهم مصعدون إلى الموصل بعد، أبا الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان. وذاك أن ابن رائق لمّا قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبي محمّد ابن حمدان يسأله مددا ومعاونة على قتاله. فأنفذ أبو محمّد أخاه فلم يلحقهم إلّا بتكريت وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل.

فلمّا التقوا أقام عليّ بن حمدان للمتقي لله وابنه وابن رائق والقوّاد كلّ ما يحتاجون إليه من الميرة والثياب والفرش والدراهم وما قصر في أمرهم وساروا بأجمعهم إلى الموصل. فلمّا وصلوا إليها حاد عنها أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وعبر إلى الجانب الشرقي ومضى إلى نواحي معلثايا.

فما زالت الرسل تتردّد بينه وبين محمّد بن رائق إلى أن توثّق بعضهم من بعض بالأيمان والعهود والمواثيق حتى أنس أبو محمّد وعاد فنزل في الشرقي بإزاء الموصل.

ذكر الخبر عن مقتل ابن رائق

فعبر إليه الأمير أبو منصور ابن المتقي لله ومعه أبو بكر ابن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب ليسلّموا عليه. فلقيهم أجمل لقاء ونثر على الأمير أبي منصور الدنانير والدراهم. فلمّا أراد الانصراف من عنده ركب الأمير أبو منصور ثم قدّم فرس ابن رائق ليركب من داخل المضرب فأمسك أبو محمّد بن حمدان كمّه وقال له:

« تقيم اليوم عندي لنتحدّث، فإنّ بيننا ما نتجاراه. » فقال له ابن رائق:

« اليوم لا يجوز لأنّى أن أرجع مع الأمير ولكن يكون يوما آخر. » فألحّ عليه ابن حمدان إلحاحا استراب به ابن رائق فجذب كمّه من يده حتى تخرّق، وكان رجله في الركاب فشبّ به الفرس فوقع وقام ليركب فصاح أبو محمّد بغلمانه وأمرهم بالإيقاع به وقال: « ويلكم لا يفوتكم. » فوضعوا عليه السيوف وقتلوه.

وأرسل أبو محمّد ابن حمدان إلى المتقي لله أنّه وقف على أنّ ابن رائق أراد أن يغتاله ويوقع به فجرى في أمره ما جرى فردّ المتقى عليه الجواب يعرّفه أنّه الموثوق به ومن لا يشكّ فيه ويأمره بالمصير إليه فعبر ولقيه.

ذكر إمارة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان

فخلع عليه المتقى وعقد له لواء ولقّبه ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء وكنّاه، وكان ذلك مستهلّ شعبان، وخلع على أخيه عليّ وعلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وكتب إلى القراريطي بتقليده الوزارة وذلك في شوّال وجلس في داره وقلّد وعزل وأمر ونهى وضبط الأمر إلى أن وافى المتقى وناصر الدولة أبو محمّد.

خبر محاربة البريدي مع ابن حمدان

دخل المتّقى بغداد مع ناصر الدولة أبي محمّد وأخيه عليّ وجميع الجيوش وعملت لهم العامّة القباب ونزل ناصر الدولة وأخوه في البستان الشفيعى. ولقي الوزير القراريطي المتقي لله وناصر الدولة. وتقلّد أبو الوفاء توزون الشرطة في جانبي بغداد وخلع المتقى على الوزير أبي إسحاق القراريطي خلع الوزارة يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة وفي يوم الخميس خلع المتقي لله على ناصر الدولة وأخيه وطوّقا وسوّرا بطوقين طوقين وأربعة أسورة ذهبا وعلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وطوّق بطوق واحد وسوارين ذهبا.

وورد الخبر بأنّ أبا الحسين عليّ بن محمّد البريدي قد أصعد من واسط يريد الحضرة. فاضطرب الناس ببغداد وعبر المتقى إلى الزبيدية ليكون مع ناصر الدولة وقدّم حرمه إلى سرّ من رأى وهرب جماعة من وجوه أهل بغداد وعبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي منها وسار أبو الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان في الجيش وكان مع أبي الحسين البريدي لمّا أصعد من واسط أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو بكر ابن قرابة والديلم وجيش عظيم.

فكانت الوقعة بين أبي الحسن عليّ بن حمدان وبين البريدي يوم الثلاثاء انسلاخ ذي القعدة ويوم الأربعاء مستهلّ ذي الحجّة ويوم الخميس ويوم الجمعة لثلاث وأربع خلون من ذي الحجّة في القرية المعروفة بكيل أسفل المدائن بفرسخين ومع ابن حمدان توزون وخجخج والأتراك. فكانت أولا على عليّ بن عبد الله بن حمدان وانهزم أصحابه فردّهم ناصر الدولة وكان ناصر الدولة بالمدائن. ثم صارت على أبي الحسين البريدي. فانهزم واستؤسر من أصحابه يانس غلام البريدي أبي عبد الله وأبو الفتح ابن أبي طاهر ومحمّد بن عبد الصمد ومذكر البريدي والفرج كاتب جيش البريدي واستأمن إلى ابن حمدان محمّد بن ينال الترجمان وإبراهيم بن أحمد الخراساني وحصل له جمع الديلم الذين كانوا في عسكر البريدي وقتل جماعة من قوّاد البريدي وعاد البريدي إلى واسط مهزوما مفلولا ولم يبق في عليّ ابن حمدان وأصحابه فضل لأتباعه لعظم ما مرّ بهم ولكثرة الجراح فيهم.

ولسبع خلون من ذي الحجّة عاد المتقي لله من الزبيدية إلى دار الخلافة على ثلاث ساعات ونصف وعاد الحرم من سر من رأى ومن كان هرب إليها من بغداد.

ودخل ناصر الدولة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة بغداد وبين يديه يانس غلام البريدي وأبو الفتح بن أبي طاهر والمذكر البريدي مشهرين على جمال وعلى رؤوسهم برانس وكتب عن المتقى كتاب الفتح إلى الدنيا ولقّب المتقي لله أبا الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان لما فتح هذا الفتح: سيف الدولة، وأنفذ إليه خلعا وكتب فيه كتابا. وانحدر سيف الدولة إلى واسط فوجد البريديين قد انحدروا منها إلى البصرة وأقام بها ومعه الأتراك والديلم وسائر الجيش.

ذكر حيلة ابن مقاتل على ناصر الدولة

وراسل أبو بكر محمّد بن عليّ بن مقاتل ناصر الدولة على يد أبي زكريّا السوسي، فأخذ له أمانا من ناصر الدولة واشترط فيه ابن مقاتل أنّه إن استقرّ بينه وبين ناصر الدولة مصادرة ينهض بها ويطيب نفسه لها أقام على ظهوره. وإن لم يستقرّ عاد إلى استتاره. فلمّا ظهر تباعد ما بينهما. فقال له ناصر الدولة:

« عد إلى استتارك. » فقال ابن مقاتل:

« لم أحدّ لذلك حدا، فإذا شئت فعلت. » فضجّ ناصر الدولة من ذلك لأنّه مضطرّ إلى الوفاء بعهده وعلم أنّ الحيلة قد تمّت عليه. فاضطرّ إلى أن فصل أمره على مائة وثلاثين ألف دينار.

ونظر ناصر الدولة في أمر النقد والعيار فأمر بتصفية العين والورق وضرب دنانير سمّاها: الإبريزيّة، من أجود عيار وكتب في ذلك كتابا.

وفي هذه السنة استولى الديلم على أذربيجان

ذكر السبب في ذلك

إنّ ديسم بن إبراهيم لمّا تمكن من أذربيجان - وقد كتبنا خبره فيما تقدّم - كان معظم جيشه الأكراد إلّا طائفة يسيرة من بقية عسكر وشمكير اختاروا المقام معه حين ردّ عسكر وشمكير إليه. فتبسّط عليه الأكراد وزاد أمرهم في الإدلال والتحكّم إلى أن صاروا يتغلّبون على حدود أعماله فنظر في أمره فلم يجد من يستظهر عليهم بهم إلّا الديلم، فاجتذب جماعة من أكابرهم منهم صعلوك بن محمّد بن مسافر وأسفار بن سياكولى وجماعة من أمثالهم وصار إليه جماعة من الموصل وفيهم رجل كان من قوّاد بجكم فنفاه بجكم من عسكره لشيء أنكره منه يقال له: عليّ بن الفضل الصولي، فأفضل عليه ديسم وموّله وعظّم محلّه فاجتذب الديلم إليه. فلمّا قويت شوكة ديسم بهم انتزع من يد الأكراد ما كانوا تغلّبوا عليه وقبض على جماعة من رؤسائهم وازداد من عدّة الديلم واستظهر بهم.

وكان يتولّى وزارته أبو القاسم عليّ بن جعفر وكان من كتّاب أذربيجان وكثرت سعاية أعدائه به. فأخافه ديسم وأوحشه حتى هرب منه إلى الطرم ليعتصم بمحمّد بن مسافر فوافق وصوله إليه الوقت الذي استوحش فيه ابناه منه: وهسوذان والمرزبان، وملكا عليه قلعته المعروفة بسميران وكان السبب في وحشتهما قبح سيرته وسوء معاملته لأهل بيته وقبضه عليهم لغير ذنب كبير وذلك لشرّ كان في طبعه. وكان استوحش منه وهسوذان فصار إلى أخيه المرزبان وكان في قلعة من قلاع أبيه بالطرم فعلم محمّد بن مسافر أنّه لا يتمكن من القبض عليه إلّا بعد أن يفرّق بينه وبين أخيه فكتب إلى المرزبان يستدعيه فقال وهسوذان له:

« انى لا أقيم في القلعة بعدك. » وأعلمه أنّه إن فارقه تمكّن منه وقبض عليه فقال له المرزبان:

« فاخرج معي. » فلمّا صاروا في بعض الطريق ظفرا برسول لأبيهما كان أنفذه سرّا إلى المقيمين في القلعة يأمرهم إذا خرج المرزبان أن يقبضوا على وهسوذان والاحتياط عليه وعلى القلعة. فعجبا من ذلك وجمعهما الاستيحاش من أبيهما، فوصلا إلى قلعة أبيهما وقد خرج أبوهما إلى قلعة أخرى، فعرّفا أمّهما خراسوية ما كتب أبو هما فيهما وكانت أمهما هذه جزلة فساعدتهما على القلعة وفيها ذخائر محمّد بن مسافر وأمواله فاستوليا عليها وتمكّنا منها. فلمّا عرف محمّد بن مسافر ذلك تحيّر في أمره وحصل في القلعة التي كان قصدها وحيدا قد فرّق بينه وبين نعمته.

فلمّا وصل عليّ بن جعفر كاتب ديسم إلى هذه الصورة اعتصم بالمرزبان وأطمعه في أذربيجان فضمن له أن يملكه إيّاها فيوصله إلى أموال جليلة من ارتفاعها من وجوه يعرفها. فنفق عليه وقرب من قلبه وقلّده وزارته واتّفقا مع ذلك على عصمة في الدين. وذاك أنّ عليّ بن جعفر كان من دعاة الباطنية وكان المرزبان معهودا فيهم فأذن له المرزبان أن يدعو إلى هذا المذهب ظاهرا. فاجتمع له كل ما أراده.

وكاتب عسكر ديسم وكان يعرف من استوحش من ديسم ومن هو غير راض عنه ومن لا يرضى مذهب ديسم لأنّ ديسما كان يرى رأى الشراة وكذلك كان أبوه وكان يصحب هارون الشاري أعنى أباه. فلمّا قتل هرب إلى أذربيجان وتزوّج إلى رئيس من أكرادها فولد ديسم فاصطنعه ابن أبي الساج وارتقى معه إلى ما ارتقى إليه.

ولم يزل عليّ بن جعفر يضعضع أركانه ويفسد قلوب أصحابه وخاصة الديلم إلى أن استجاب له أكثر أصحابه وكاتبوه وقالوا:

« إن صار إلينا المرزبان فارقنا ديسما بأجمعنا. » فلمّا وثق المرزبان بذلك من ثبات أصحاب ديسم سار إلى أذربيجان وسار إليه ديسم. فلمّا صافّه الحرب قلب الديلم تراسهم في وجهه وصاروا إلى المرزبان وكانوا نحو ألفى رجل واستأمن معهم كثير من الأكراد وحمل عليه المرزبان ففرّق عنه من بقي معه وانهزموا وهرب في طائفة يسيرة إلى أرمينية واعتصم بجاجيق بن الديراني لمودّة كانت بينهما، فأحسن ضيافته وحمل إليه ما يحمل إلى مثله. فاستأنف ديسم يألف الأكراد وعرف خطأه في الاستكثار من الديلم وكان أشار عليه بعض النصحاء الفضلاء أن لا يرتبط من الديلم أكثر من خمسمائة رجل فعصاه.

وملك المرزبان أذربيجان وجرى أمره على سداد بتدبير كاتبه عليّ بن جعفر إلى أن أفسد ما بينه وبينه.

ذكر السبب في ذلك

كان له كاتب يعرف بأبي سعيد عيسى بن موسى ويعرف بعيسكويه، فسعى عليه وأطمع المرزبان في ماله، وكان عليّ بن جعفر قد أوحش جماعة من حاشية المرزبان فتضافروا عليه وعارضوه في تدبيره وأحس عليّ بن جعفر بذلك فاحتال على المرزبان بأن أطمعه في أموال عظيمة يثيرها له من بلد تبريز - وتبريز هذه مدينة جليلة وعليها سور حصين وحواليها غياض وأشجار مثمرة وهي حصينة وأهلها ذو بأس ونجدة ويسار - فضمّ إليه المرزبان جستان بن شرمزن ومحمّد بن إبراهيم ودلير بن أورسفناه والحاجب الحسن بن محمّد المهلبي في جماعة من ثقاته فسار عليّ بن جعفر إلى تبريز.

فلمّا تمكّن بها استمال أهل البلد وكتب إلى ديسم يتلافاه ويستدعيه ويعده من نفسه أن يقتل الديلم ويوازره حتى يعود إلى مملكته. فأجابه ديسم بأنّه لا يثق به إلّا بعد أن يوقع بالديلم فواطأ أهل البلد على الإيقاع بهم وأعلمهم أنه إنّما حضر لطمع المرزبان فيهم وأنّ الديلم لا يساعدونه على صلاح أمرهم وهم لا يرضون إلّا باستئصالهم. فواطأه أهل البلد على الوثوب بهم في يوم ذكره وأحضر القوّاد المذكورين في ذلك اليوم فقبض في داره عليهم وقتل الديلم فصار إلى ديسم في العسكر الذي اجتمع له.

وكان المرزبان أساء إلى الأكراد الذين استأمنوا إليه. فوافق ذلك ظهور ديسم بتبريز فصاروا بأجمعهم إليه واتصل بالمرزبان ما جرى على الديلم فندم على إيحاش عليّ بن جعفر واستماع كلام أعدائه فيه، واستوزر أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن محمود وخلع عليه ولقّبه: المختار.

ثم استعدّ وسار إلى تبريز وقد سبقه ديسم فجرت بينهما حروب وثبت الديلم وانهزم الأكراد. فعاد ديسم إلى تبريز متحصنا بها وحامى أهلها عليه وذلك لما سبق من فعلهم بالديلم، وحاصرهم المرزبان وابتدأ في استصلاح عليّ بن جعفر ومراسلته وإعطائه عهد الله وميثاقه والعصمة التي بينهما من الدين على أن يعود له. فأجابه عليّ بن جعفر بأنّه لا يريد من جميع ما بذله له إلّا السلامة وأنّه ما فارق ديسما حين فارقه إلّا هربا من المكروه ولا فارقه الآن وعاد إليه إلّا هربا من مثل ذلك وأنّ الذي يلتمسه منه أن يعفيه من العمل ويصونه في نفسه وحاله ليلزم منزله ويروح ويغدو إليه. فأجابه إلى ذلك وسفر بينهما من الثقات الذين يجمعهم الدين من وثق له بجميع ما أراد فسكن إليه.

واشتدّ الحصار على ديسم فثلم ثلمة في سور المدينة ليلا وخرج منها هو وأصحابه إلى أردبيل ولم يجسر المرزبان على اتّباعه في الوقت، خوفا من أن يعطف عليه في صعاليكه ويخرج من ورائه أهل تبريز. فتأخّر عنه وخرج إليه عليّ بن جعفر فوفى له وأقام أهل تبريز على ممانعته.

ذكر ما آل إليه أمر ديسم بعد حصوله بأردبيل

لمّا عرف المرزبان حصول ديسم بأردبيل خلف على تبريز بعض جيشه وصار في معظم العسكر إليه واستدعى أخاه وهسوذان إليه في جماعة من أطاعه وجدّ في محاصرة ديسم. وكان ديسم استوزر بعد مفارقة عليّ بن جعفر أبا عبد الله محمّد بن أحمد النعيمي، فراسله المرزبان وتلطّف له ووعده أن يستوزره، فاستجاب له وآثره على ديسم وواطأه على التدبير عليه.

ذكر حيلة النعيمي على ديسم حتى فارق الحصار وخرج إلى المرزبان

أخذ النعيمي في المشورة على ديسم بأن ينفذ إلى المرزبان وجوه أردبيل ليسألوه الصلح ويعاهدوه ويستوثقوا منه بالأيمان المؤكدة على أن يؤمنه ليدخل في طاعته وخوّفه من طول الحصار واستيحاش أهل البلد وأنّهم سيواطئون المرزبان ويسلمونه بأن يفتحوا له الباب وأعلمه أنه قد وقف من ذلك على أمر سيظهر له إن لم يبادر بالصلح. ونظر ديسم في أمره فوجد الصورة قريبة ممّا خوّفه منه وذلك أنّ الحصار كان قد اشتدّ وانقطعت الميرة عنه وعن جنده وعن أهل البلد فالجميع في شدة والدمدمة كثيرة والناس مستوحشون وعلى يأس من الصلاح وخوف من زيادة المكروه.

وأنفذ ديسم إليه وجوه البلد وأعيانهم ومذكوريهم ليتوثقوا له نهاية التوثيق.

وراسل أبو عبد الله النعيمي المرزبان بأن يحتبس هؤلاء الوجوه ولا يردّهم إلى البلد إلّا بعد خروج ديسم إليه، لئلا يتغيّر الأمر أو يحدث ما ينقض رأيه ولأنّ أهل البلد إذا حبس عنهم وجوههم ورؤساؤهم اجتمعوا عليه ولم يمهلوه، وعرّفوه أنّه قد أمن على نفسه بالأيمان التي سألها وسكن إلى ما بذل له وليس لتأخره عن الخروج وجه ويشيّد هو أيضا كلامهم ويؤيّده ولا يقنع منه إلّا بالخروج إليه في أسرع وقت وأقربه.

ففعل المرزبان ذلك واضطرب أهل البلد على ديسم لحصول رؤسائهم في يد المرزبان فخرج إليه. فلما أتاه خبره تلقّاه وأكرمه وأعظمه ووفى له بكل ما واقفه عليه وقلّد أبا عبد الله النعيمي وزارته وقبض على ابن محمود وسلّمه إليه فصادره وجميع أصحابه وصادر وجوه البلد واستخرج أموالا عظيمة. واستقامت أمور المرزبان وخطب له على جميع منابر أذربيجان.

حث على الإعتبار بما كان

فليعتبر الناظر في هذا الكتاب هل أوتى هؤلاء الملوك إلّا من سوء تحفّظهم واشتغالهم عن ضبط أمورهم وتفقّدها بلذّاتهم وشهواتهم، وإغفالهم أمر أصحاب الأخبار وتركهم تعرّف نيات وزرائهم وقوّادهم وأمور عساكرهم، وتعويلهم على الاتّفاقات والدول التي لا يوثق بها، وقلّة تصفّحهم أحوال الملوك قبلهم ممّن استقامت أمورهم كيف كانت سيرتهم وكيف ضبطوا ممالكهم ونيّات أصحابهم بضروب الضبط: أولا بالدين الذي يحفظ نظامهم ويملك سرائهم ثم بأصحاب الأخبار الثقات والعيون المذكاة على مدبّرى أمورهم والتفقّد لهم يوما يوما وحالا فحالا، وترك إيحاشهم ما أمكن، ومداراة من تجب مداراته، والبطش بمن لا حيلة في استصلاحه ولا دواء لسريرته.

وقد كان حصفاء الملوك يخرجون من خزائنهم الأموال العظيمة جدا إلى أصحاب الأخبار ولا يستكثرونها في جنب ما ينتفعون به من جهاتهم.

فأما ما انتهى إليه أمر ديسم فإنّه خاف بعد ذلك على نفسه وسأل المرزبان أن يخرجه إلى قلعته بالطرم ليقيم فيها مع أهله ويقبض على ارتفاع ضياعه وهو ثلاثون ألف دينار في السنة وهو دون ما كان يبذله المرزبان له ويتكلّفه من مؤونته. فأجابه إلى ذلك وحصل في القلعة مصونا في أهله ونفسه وضياعه.

ودخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة

وفيها وافى الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى عسكر أبي جعفر بإزاء البصرة وأظهر أنّ السلطان كاتبه في حرب البريدي. فأقام مدّة يحاربهم ثم استأمن جماعة من قوّاده إلى البريديين مثل روستاباش وغيره. فاستوحش من المقام وعاد إلى الأهواز بعد أن استأمن إليه جماعة من عسكر البريدي.

وفيها زوّج ناصر الدولة ابنته من الأمير أبي منصور ابن المتّقى ووقّع الأملاك والخطبة بحضرة المتقى ولم يحضر ناصر الدولة وجعل العقد إلى أبي عبد الله محمّد بن أبي موسى الهاشمي. وكان الخاطب القاضي الخرقى فلحن في مواضع وجعل الصداق والنحلة واحدا وجعلها صداقا وكان الصداق خمسمائة ألف درهم والنحلة مائة ألف دينار ولم يحسن أن يعقد التزويج فعقده ابن أبي موسى.

القبض على القراريطي وجعل اسم الوزارة على أبي العباس الإصفهاني

وفي رجب من هذه السنة عبر الوزير أبو إسحاق القراريطي إلى ناصر الدولة على رسمه، فقبض عليه وعلى جماعة معه. فكانت مدّة وزارته ثمانية أشهر وستة عشر يوما وجعل اسم الوزارة على أبي العباس أحمد بن عبد الله الإصفهاني وخلع عليه المتقى خلع الوزارة في دار السلطان لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب وانصرف بها إلى دار الأمير ناصر الدولة.

فكان يلبس القباء والسيف والمنطقة في أيام المواكب والمدبر للأمور أبو عبد الله الكوفي وصودر القراريطي والكتّاب والمتصرّفون.

استيفاء عدد الأيدى والأرجل المقطوعة

وكان ناصر الدولة ينظر في قصص أصحاب الجنايات من العامّة وفيما ينظر فيه صاحب الشرطة وتقام الحدود الواجبة عليهم من ضرب وقطع يد ورجل بحضرته وتعرض عليه الأيدى والأرجل إذا قطعت وتعد بحضرته ويستوفى العدد عليهم لئلا يرتفق أصحاب الشرطة من الجناة ويطلقوا من غير علمه.

ذكر ما آل إليه أمر سيف الدولة بواسط مع الأتراك وما اتصل بذلك من خبر ناصر الدولة ببغداد

كان سيف الدولة أبو الحسن مقيما بواسط مفكرا في أن يسير بالجيش والأتراك إلى البصرة ليفتحها. وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال ويضايق الأتراك خاصة وكان توزون وخجخج يسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط ويتحكّمان عليه حتى ضاق ذرعا بهما.

وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفي إلى سيف الدولة أخيه ومعه ألفي ألف درهم وخمسين ألف دينار لينفق في الأتراك. فوثب توزون وخجخج به بحضرة سيف الدولة وأسمعاه مكروها. فضمّه سيف الدولة إلى نفسه ثم ستره في بيت وقال لهما:

« أما تستحيان مني فتجاملانى في كاتبي. » ثم واقف سيف الدولة كاتب خجخج أن يسير خجخج إلى المذار ويسوّغه ارتفاعها إذا حماها وواقف أبا عليّ المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامدة ويوهب له ارتفاعها وعليه حمايتها. وانتظم هذا التدبير وعاد الكوفي إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة ورهب أن يعود إلى منزله وعبر خجخج إلى غربي واسط للمسير واستعدّ توزون أيضا للمسير إلى الجامدة.

فوافى أبو عمرو المسيحي وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هاربا من ناصر الدولة إلى أخيه أبي عليّ المسيحي وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطه إليه يقول فيه:

« قد اتّصل طمعك فيّ وانبساطك عليّ وأنا محتمل وأنت مغترّ. وبلغني إدخالك يدك في وقف فلان. وو الله لئن لم تخلّصها وتقصر عن فعلك المذموم لأقطعنّ يديك ورجليك. » فزعم أبو عمرو المسيحي أنّه قرأه وانحدر وذكر أنه قال له قبل ذلك بأيام:

« يا مسيحيّ، أنت مجتهد في أن تجعل توزون أميرا وعلى رأسك تحثو التراب. إن بلغ ما تؤمّله له لم يرضك كاتبا لنفسه وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهه فاستكتبه وأنف منك فصادرك. » فتلافى سيف الدولة أبا عمرو المسيحي وواراه وراسل توزون وسكّنه. وكان سيف الدولة كثيرا يزهّد الأتراك في العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر ويضرّب بينهم وبين أخيه فكانوا يصدقونه في أخيه ويأتون عليه في البعد من العراق وكانوا يستحبّون على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم وينصّون على أن يوفيهم يوم الستين من أيامهم استحقاقهم ويستصغرونه وأخاه.

فلمّا وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له:

« نحتاج أن تحمل مال قائد قائد ورجاله وتوفّينا ذلك بالقبّان وزنة واحدة مالا مالا. » فأجاب إلى ذلك قطعا للحجّة، وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار فصبر على ذلك كلّه وأذن فيه.

وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفي ليلا وضمّ إليه ابن عمّه أبا وليد في جماعة من العرب وأصعد معه بنفسه إشفاقا عليه ثم وصّى العرب حتى بلغوا به المدائن. فلمّا كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان كبس الأتراك سيف الدولة بالليل وهرب من معسكره ولزم نهرا بقرب معسكره، فأدّاه إلى قرية تعرف ببرقة ولزم البريّة حتى وافى بغداد. وأضرم الأتراك النار في عسكره وقد كان بقي من المال المحمول إليه مع الكوفي من عند أخيه شيء لم يفرّق فيهم فنهبوه ونهب جميع سواده فهذا خبر سيف الدولة بواسط.

خبر ناصر الدولة ببغداد

فأمّا خبر ناصر الدولة ببغداد فإنّ أبا عبد الله الكوفي وصل إلى بغداد ولقي ناصر الدولة ووصف له الصورة فبرز ناصر الدولة إلى باب الشمّاسية وركب إليه المتقي لله في دجلة يسأله التوقّف عن الخروج من بغداد فعبّر ناصر الدولة غلمانه إلى الجانب الشرقي من بغداد وأكثر جيشه ليوهم الأتراك أنه يعبر ويسير في الجانب الشرقي.

فلمّا حصل جيشه في الجانب الشرقي قطع الجسر وسار ناصر الدولة في الجانب الغربي فنهبت داره، وأفلت يانس غلام البريدي وأبو الفتح ابن أبي طاهر من الحبس وعادا إلى البصرة، واستتر أبو عبد الله الكوفي، وخرج من بقي من الديلم ببغداد إلى المصلّى وعسكروا هناك، وضبط الأتراك الذين كانوا ببغداد دار السلطان، ورحل الديلم من المصلّى ودبّر الأمور بالحضرة أبو إسحاق القراريطي من غير تسمية بوزارة، وانعقدت الرئاسة بواسط لتوزون.

فكانت مدّة إمارة ناصر الدولة أبي محمّد ابن حمدان ثلاثة عشر شهرا وثلاثة أيام.

ذكر ما جرى من أمر توزون بواسط مع الأتراك بعد هزيمة سيف الدولة حتى تمت له الإمارة

لمّا انصرف سيف الدولة من واسط على تلك الصورة وعاد توزون وخجخج إلى معسكرهما وقع الخلاف بينهما وتنازعا الرئاسة ثم استقرّت الحال على أن يكون توزون الأمير وجيء بالآس والريحان إليه على رسم العجم إذا ترأّس واحد منهم، وعلى أن يكون خجخج صاحب جيش وهو الاسفهسالار، وأمضى القوّاد ذلك عليهما بغير رضى جماعة. ثم صاهر القوّاد بينهما وطمع البريدي بواسط فأصعد إليها وتقدّم توزون إلى خجخج أن ينحدر إلى نهر أبان ويراعى من يرد من أصحاب البريدي ويطالعه فنفذ.

ووافى عيسى بن نصر برسالة البريدي إلى توزون يهنّئه بالإمارة ويسأله أن يضمّنه أعمال واسط ويعرّفه عنه أنّ الرأي تعجّله إلى الحضرة لإخراج ابن حمدان عنها. فأجابه جوابا جميلا وامتنع من التضمين وقال:

« إذا استقرّت الأمور تخاطبنا في الضمان فأمّا وأنا بصورتي هذه وأنت تظنّ انى مطلوب خائف من بنى حمدان فلا وعسكري عسكر بجكم الذي قد جرّبت وخبرت وطائفة منهم تفي لك. » وانصرف عيسى بن نصر وأتبعه توزون جاسوسا.

ذكر سبب قبض توزون على خجخج وسملة إياه

فعاد إليه الجاسوس وأعلمه أنّه اجتمع مع خجخج وتخاليا طويلا وأنّ خجخج على الاستئمان إلى البريدي. فسار إليه توزون للثاني عشر من رمضان ومعه مائة غلام من الأتراك ومائة من الخاصة واشكورج وجماعة من الكبار وكبسه في فراشه. فلمّا أحسّ به ركب دابة النوبة بقميصه وفي يده لتّ ودفع عن نفسه سويعة ثم أخذوه وجاءوا به إلى واسط وسملة توزون وهدأت نار خجخج.

وسعى أبو الحسين عليّ بن محمّد بن مقلة في الوزارة وراسل المتقي لله واستصلح قبل ذلك الترجمان وضمن له مالا فبعث المتقى إليه:

« إني راغب فيك مائل إليك محبّ لتقليدك، ولكن ليس يجوز أن أبتدئ بذكرك فأصلح أمرك مع الترجمان وقل له يسمّيك مع جماعة فإني أختارك من بينهم. » ففعل ذلك ولقي المتقي لله وقلّده وزارته وانصرف إلى منزله.

وورد الخبر بنزول سيف الدولة المورفه

ذكر الخبر عن مصير سيف الدولة إلى بغداد بعد هزيمته وما انتهت إليه حالته

لمّا بلغ سيف الدولة خلاف توزون وخجخج بواسط طمع في بغداد فوافى المورفة وظهر المستترون من أصحابه من الجند وخرجوا إليه. وانحدر أبو عمرو المسيحي كاتب توزون إلى واسط مستترا هاربا إلى صاحبه وانحدر أيضا الترجمان. وأرجف الناس بانحدار المتقى واضطرب الناس وأصبحوا على خوف شديد، فأمر المتقي لله بالنداء ببراءة الذمة ممّن أرجف بانحداره.

وجاء سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب، فنزل في المضارب وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم في البرّية، وخرج إليه أصحابه ومن يريد الإثبات وجرت بينه وبين المتقي لله رسائل على يد أبي زكرياء السوسي وطالب بأن يحمل إليه مال، ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة. فحمل إليه المتقى أربعمائة ألف درهم في دفعات وانضمّ إليه كلّ من بقي بالحضرة من القوّاد وما زال يقول في مجلسه: « ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا في الليل ونحن نيام وإلّا فليحضر نهارا ونحن مستيقظون. » ونحو هذا من الكلام.

وخلع المتقي لله على الوزير أبي الحسين بن مقلة يوم السبت لاثنى عشر بقيت من شهر رمضان.

ولمّا بلغ توزون وصول سيف الدولة الى بغداد خلّف بواسط كيغلغ في ثلاثمائة غلام وأصعد مبادرا من واسط إلى بغداد. ولمّا اتصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع من انضمّ إليه من قوّاد الحضرة وفيهم أبو عليّ الحسن بن هارون. ومضى على وجهه.

ودخل محمّد بن ينال الترجمان آذنا لتوزون إلى بغداد لستّ بقين من شهر رمضان ودخل توزون من الغد ونزل دار مونس واغتنم البريدي بعد توزون من واسط، فوافاها لثلاث بقين من شهر رمضان، فنهب وأحرق واحتوى على الغلات وأخذ جميعها وقبض توزون على أبي عمرو المسيحي كاتبه وقلّد كتابته أبا جعفر الكرخي وسلّم أبو إسحاق القراريطي إلى الوزير أبي الحسين ابن مقلة فصادره.

ذكر الخبر عن تقليد توزون إمرة الأمراء

لمّا حصل توزون ببغداد خلع المتقى عليه وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء. وصار أبو جعفر الكرخي كاتب توزون ينظر في الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها. فأمّا الكوفي فإنّه لحق بسيف الدولة وهرب معه فكان مدّة نظر الوزير أبي الحسين ابن مقلة في الأمور إلى أن ينظر فيها أبو جعفر الكرخي نحو شهر.

وقد كان كيغلغ لمّا استخلفه توزون بواسط أمره بقتال أبي الحسين البريدي فعجز عنه، فأصعد إلى بغداد ولم يمكن توزون المبادرة بالرجوع إلى واسط إلى أن تستقرّ الأمور بالحضرة، وتدبير جميع ما يحتاج إليه. فأقام مدّة شوّال وأكثر ذي القعدة إلى أن توطّأت الأمور واستقامت.

وكان وقت هزيمة سيف الدولة من واسط أسر غلاما له يقال له: ثمل، عزيزا على سيف الدولة فأطلقه ووهبه لسيف الدولة وأكرمه وأنفذه إليه في هذا الوقت لما حصل ببغداد، فحسن موقع ذلك منه ومن ناصر الدولة حتى قال بالموصل:

« توزون صنيعتي وقد قلّدته الحضرة واستخلفته بها ».

فسكنت نفس توزون إلى ذلك، وكان مغيظا على البريدي لقبح ما عامله به.

فانحدر توزون إلى واسط وخلّف الترجمان ببغداد وتقدّم إلى أبي جعفر الكرخي أن يلحق به، وضمّن ضياعه أبا الحسين ابن مقلة برغبة منه إليه بمائة وثلاثين ألف دينار في السنة.

ووافى في هذا الوقت أبو جعفر بن شيرزاد إلى توزون هاربا من البريدي فتلقّاه توزون في دجلة وسرّ به وقال له:

« يا أبا جعفر كملت إمارتى بك وتمّت النعمة عندي لأجلك. أنت أبي وهذا خاتمي - فنزعه من يده وأعطاه إليه - فدبّرنى وصرّفنى على رأيك. » فقبّل أبو جعفر يده وسأله أن يمهله، فلم يجبه. وكان أبو الحسن الأسمر واقفا وجماعة فقال الأسمر:

« بالله يا سيدي، أجب الأمير وتصدّق بصدقة وانظر في أمره. » ففعل ونظر في أمره وأنفذ طازاد ابن عيسى آخر ذلك اليوم إلى الحضرة لخلافته.

فكان مدّة كتابة أبي جعفر الكرخي ونظره نيّفا وعشرين يوما.

ذكر سبب مفارقة ابن شيرزاد البريدي والاتفاق الغريب له في ذلك

كان يوسف بن وجيه صاحب عمان وافى في ذي الحجّة في مراكب وشذاءات يريد البصرة فيحارب بنى البريدي وكان معه من يحارب بقوارير النار فأحرق شذاءاتهم وزبازبهم. فملك الأبلّة وضغطهم. فهرب في تلك الوهلة أبو جعفر ابن شيرزاد ومعه طازاد وغيره.

فأما سبب هزيمة يوسف بن وجيه بعد تمكّنه فسنذكره.

ذكر حيلة تمت على يوسف بن وجيه

كان قد استظهر استظهارا شديدا وقارب أن يملك البصرة وكان مع البريدي ملّاح يعرف بالزيادى. فلمّا ضغط يوسف بن وجيه البريديين وأشرفوا على الهلاك قال هذا الملّاح:

« إن أنا هزمت العدوّ وأحرقت مراكبه ما تصنع بي؟ » فوعده الإحسان إليه إن فعل ذلك.

ولم يعرّفه الملّاح ما يريد أن يعمل وكتم أمره ومضى. فأخذ بالنهار زورقين وليس يعلم أحد لما ذا يريدهما ولم يأخذ معه أحدا من أسباب البريدي ومضى فملأ الزورقين سعفا - ومثل هذا لا ينكر بالبصرة - وحدرهما في أوّل الليل - ومثل ذلك بالبصرة كثير لا يستراب به - وكان رسم مراكب ابن وجيه أن تشدّ بعضها إلى بعض بالليل في عرض دجلة فيصير كالجسر.

فلمّا كان في الليل ونام الناس وكلّ من في المراكب، أشعل ذلك الملّاح السعف وأرسل الزورقين والنار فيهما، فوقعا على تلك المراكب والشذاءات فاشتعلت واحترقت قلوسها وتقطّعت واحترق من فيها ونهب الناس منها مالا عظيما. وانقلع يوسف ابن وجيه ومضى هاربا على وجهه، وانكشف وجه البريدي ووفى للملّاح بما وعد له.

وفيها استوحش المتقى من توزون.

ذكر السبب في الوحشة بين توزون والمتقى وما آل إليه الأمر

كان الترجمان قد نفر من توزون لشيء بلغه عنه وكان أبو الحسين ابن مقلة خائفا من توزون لأنه خسر في مال ضمانه وأشفق أن يطالبه به ويهلكه وزاد في نفوره. وتقلّد أبي جعفر ابن شيرزاد كتبة توزون وما شكّ أحد أنّ أبا جعفر ابن شيرزاد وافى عن موافقة البريدي فطارت نفس ابن مقلة خوفا من ابن شيرزاد وأن يطالبه بمال ضمانه واقطاع توزون وخاف الترجمان وغيره وساءت الظنون وغلب القنوط على الكافّة من أهل الحضرة. فوقع التدبير بين أبي الحسين ابن مقلة وبين الترجمان على مكاتبة ناصر الدولة في إنفاذ من يشيّع المتقى ويخرجه إليه.

وقيل للمتقى:

« ثبتّ للبريدى بالأمس فجرى ما ندمت عليه وأخذ منك خمسمائة ألف دينار وخرجت إلى ناصر الدولة في دفعته الثانية فأظفرك الله وعدت موفورا وقد ضمنك بخمسمائة ألف دينار أخرى. » وقال لتوزون:

« هي باقية في يدك من تركة بجكم وهذا ابن شيرزاد وارد لتسليمك بعد خلعك. » فانزعج واعتبر بما مضى على مستأنف أمره. وأصعد بعد ذلك أبو جعفر ابن شيرزاد إلى الحضرة في ثلاثمائة غلام.

موت نصر بخراسان وانتصاب نوح ابنه

وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد بخراسان وانتصاب نوح ابنه مكانه.

ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة

موافاة ابن شيرزاد بغداد

ووافى أبو جعفر ابن شيرزاد لخمس بقين من المحرّم فدخل بغداد. فلم يشكّ المتقي لله والجماعة في أنّه إنما وافى لما أرجف به. ولقي المتقي لله في اليوم الذي وصل إلى بغداد فيه وحمل الوزير أبو الحسين والترجمان المتقي لله على القبض عليه فلم يفعل. وبادر أبو جعفر بالانصراف وأمر ونهى وأطلق القراريطي من الاعتقال ونظر فيما كان ينظر فيه الوزير.

ووافى أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فنزل باب حرب في جيش كثير فخرج إليه المتقي لله وحرمه والوزير وأبو الحسين ابن مقلة والترجمان واستتر ابن شيرزاد وخرج وجوه أهل الحضرة وكتّابها فلمّا بلغ المتقى تكريت ظهر ابن شيرزاد وطالب الناس وخبطهم.

اشتباك الحرب بين سيف الدولة وتوزون

وانحدر سيف الدولة من الموصل ومعه الجيش وبلغ توزون وهو بواسط ما جرى بالحضرة من خروج المتقى والوزير من بغداد. فجرّد موسى ابن سليمان في ألف رجل وبادر به إلى بغداد. وامتدّ موسى إلى باب الشمّاسية وعسكر هناك. وأقام توزون حتى عقد واسطا على البريدي ثم أصعد ودخل بغداد وقلّد الشرطة غلامه صافيا.

وانحدر ناصر الدولة ومعه الجيش ووصل إلى تكريت فتلقّاه الخليفة وسار توزون إلى عكبرا وعبر من الجانب الشرقي إلى قصر الجصّ بسرّ من رأى وصاعد المتقي لله إلى الموصل ومعه أبو الحسين الوزير وأبو إسحاق القراريطي وأبو زكريا السوسي.

وسار سيف الدولة للقاء توزون فاشتبكت الحرب بينهما أسفل من تكريت بفرسخين وناصر الدولة بتكريت. فدامت الحرب بين سيف الدولة وتوزون يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء. فلمّا كان يوم الخميس انهزم سيف الدولة وأصعد معه ناصر الدولة ونهب الأعراب بعض سوادهما وملك توزون وشغّب أصحاب توزون فانحدر إلى بغداد.

وتأهّب سيف الدولة للقاء توزون ثانية فانحدر إلى تكريت وخرج توزون إلى باب الشماسية ثم سار إلى ناحية أخرى وواقعه هناك فانهزم سيف الدولة وتبعه توزون. فلمّا وصل سيف الدولة إلى الموصل سار منها وسار ناصر الدولة والمتقى والوزير وسائر من معهم إلى نصيبين ودخل توزون الموصل ومعه ابن شيرزاد وأبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي واستخرج ابن شيرزاد من الموصل نحو مائة ألف دينار.

ورحل المتقى وحرمه ومن معه من نصيبين إلى الرقّة ولحق بهم سيف الدولة، وقد كان توزون عند خروجه من بغداد زوّج ابنته من أبي عبد الله البريدي وعقد الاملاك بالشمّاسية وأنفذ المتقي لله أبا زكريّا السوسي إلى توزون في رسالة يقول فيها:

« إني استوحشت منك لأجل البريديين لقبح ما يفعلونه دفعة بعد دفعة وأبلغت أنكما اجتمعتما وصرتما يدا واحدة فخرجت من الحضرة والآن فقد مضى ما مضى. فإن آثرت رضاي فصالح ناصر الدولة وارجع إلى الحضرة.

فإني إذا رأيتك مطيعا لي عدت واستقامت لك الأمور بي وبرضاي وكان الله عونك. » قال أبو زكريّا: فلمّا وردت حضرة توزون اتّهمنى وهمّ بقتلى، فخلّصنى ابن شيرزاد وقال:

« أيها الأمير أنا والله سألت أبا زكريا الخروج مع الخليفة لميله إلينا وليكون خليفتنا بحضرته فإن كان متّهما فأنا متّهم. » ثم أدّيت الرسالة فتقبّلها ابن شيرزاد وأشار على توزون بالإجابة وسفرت في الصلح إلى أن تمّ وصحّ لأبي جعفر ابن شيرزاد قبل الصلح وبعده زيادة على مائتي ألف دينار، وعقد البلد على ناصر الدولة ثلاث سنين كلّ سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم وانصرف توزون إلى بغداد.

وتواترت الأخبار بنزول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه واسطا وكان على وعد من البريديّين بعسكر الماء فأخلفوه وانحدر إليه توزون محاربا له والتقيا في الموضع المعروف بقباب حميد وطالت الحرب بينهما بضعة عشر يوما على اجتهاد شديد بين الفريقين إلّا أنّ توزون كان يتأخّر كلّ يوم ويتقدّم الديلم على سبيل الزحف وعلى عادتهم في مثل ذلك وكثر القتلى من الجانبين إلى أن عبر توزون نهر ديالى وحصل في الجانب الذي يلي بغداد وقطع جسورا كان عقدها عليه.

فلمّا صار بينهما النهر ثبت الأتراك وكان مع توزون زبازب وخيل في الماء فيها غلمان رماة. فكانوا يستولون في كلّ يوم على قطعة من خزائن أحمد بن بويه وزواريق عسكره ثم يحولون بين العسكر وبين الماء فيعطشون هم ودوابّهم. فرأى معزّ الدولة أن يصعد على ديالى إلى نحو جسر النهروان ليبعد عن دجلة ويقرب من الماء ويحتال للميرة. فقد كانت ضاقت عليه وأحسّ توزون بذلك.

ذكر حيلة تمت على معز الدولة حتى انهزم بعد استظهار منه

وعبر توزون بخمسمائة من الأتراك مع تكين الشيرازي وألف فارس من العرب فيهم إبراهيم المطوّق وقطينة وأمثالهم من حيث لم يشعر بهم معزّ الدولة. فلمّا سار وسار سواده في أثره خرج عليهم القوم فحالوا بينه وبين السواد ووقعوا في العسكر على غير تعبئة. وتعجّل توزون فعبر بجماعة من أصحابه سباحة ولم يزل يقتل ويأسر حتى ملّ وأفلت معزّ الدولة مع الصيمري ونفر يسير معه بأسوأ حال وحصل بالسوس واجتمع إليه نفر من الفلّ بعد أيام وعاد توزون إلى بغداد.

ابن شيرزاد يخلع على اللص

وفي صفر من هذه السنة ظهر لصّ يقال له: ابن حمدي وكان أعيا السلطان. فخلع عليه ابن شيرزاد وأثبته برسم الجند ووافقه على أن يصحّح في كلّ شهر خمسة عشر ألف دينار ممّا يسرقه وأصحابه، وأخذ خطّه بها فكان يستوفيها منه ويأخذ البراءات وروزات الجهبذ بما يؤدّيه أوّلا أوّلا.

وفي هذه السنة قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف.

ذكر السبب في قتل البريدي أخاه وما جرى بعد قتله إياه وعاقبة أمره

كان أبو عبد الله البريدي لمّا حاصره سيف الدولة أيام مقامه بواسط أحد عشر شهرا ثم توزون بعده ضاقت به الأمور فاضطربت رجاله وعملوا على الاستئمان إلى أبي يوسف أخيه ليساره واستقرض من أبي يوسف قرضا بعد قرض. فكان يعطيه النزر اليسير وذكر تخلّفه وتضييعه وأنه بالإقبال تمّ له ما تمّ لا لتدبير. ثم تعدّى ذلك فصار يذكر جنونه وعجلته. وصحّ عند أبي عبد الله أنّ أبا يوسف يريد القبض عليه واعتقاله لأن يجرى عليه جراية على تقتير. فاستوحش كلّ واحد منهما من صاحبه.

فحكى إسرائيل الجهبذ وكان خصيصا بأبي عبد الله أنه استدعاه وشكا إليه حاله في الإضاقة ثم قال:

« قم إلى أبي يوسف أخي - وأومأ إلى درج بين يديه وفتحه فإذا فيه حبّ لؤلؤ وياقوت أحمر وأزرق يبهر الناظرين - وقال: احمل هذا إليه وسله أن يقرض عليه عشرة آلاف دينار. » وكان ما في الدرج قد وهبه بجكم لابنته سارة التي تزوّج بها. وكان بجكم أخذه من دار الخليفة فأخذه أبو عبد الله منها.

قال إسرائيل: فمضيت إلى أبي يوسف وحدّثته بجميع ما خاطبني به أخوه وأخرجت الدرج إليه.

فقال لي:

« يا أبا الطيّب من سوء تحصيله يرى، ولو مدّت دجلة مالا لبددّه هذا رجل حصّل له من واسط في كرّاته التي تولّاها ثمانية آلاف ألف دينار أما وجب أن يستظهر بألف ألف دينار. » فقلت: « يا سيدي ومن أولى به منك على تصرّف كل حال؟ فتفضّل بما طلب. » فقال: « إني قد أعطيته إلى هذا الوقت ومنذ انصرف من واسط خمسين ألف دينار وما تمتلئ عينه. ابعث إلى الجوهريّين وأحضرهم حتى يقوّموا هذا الجوهر وأعطيه قيمته. » فوجّه إليهم وحضروا وأخرجه إليهم فقالوا:

« لا قيمة له تحدّ، وإذا حضر ملك يرغب نحكّم صاحبه ولو انتهى في السوم إلى أقصى غاية. » فاشتطّ وقال:

« يا جهّال، من قال لكم إني مروان الأموي - فإنه كان راغبا في الجوهر وحضر للابتياع - أو خمارويه بن أحمد وابن الجصّاص؟ قوّموه بما إذا طالبتكم به بكرة صحّحتموه العصر. » فقوّموه خمسة آلاف دينار. فقال:

« أعطونى خطوطكم بها. » فثبّتوا ثم ردوها إلى خمسين ألف درهم وضمنوها فقال:

« هذا أعطيك. » فقلت: « يا سيدي، اجعلها خمسة آلاف دينار. » فقال: « قم ودع في القيمة فضلا لطلبه فإنّه سيعاود ويطلب. » فانصرفت بخمسين ألف درهم إلى أبي عبد الله وحدّثته الحديث، فقال:

« لا إله إلّا الله قل له: يا أبا يوسف جنوني الذي ذكرته وقلّة تحصيلى أقعدك هذا المقعد وصيّرك كقارون. » ثم عدّد ما عمله معه ودمعت عينه وتبيّن الشرّ في وجهه.

فلمّا كان بعد أيام نحو العشرة أقام غلمانه وفيهم يانس وإقبال وربيب وملّاح يانس في مخترق قد سقّف بين باب داره - وكانت دار فضلان الساجي - بالأبلّة وبين الشطّ فتمكّن له هؤلاء ووثبوا عليه بالسكاكين وما زال يصيح:

« يا أخي قتلوني قتلوني. » وأبو عبد الله يقول:

« إلى لعنة الله. » فخرج أبو الحسين أخوه وكان ينزل في جواره إلى روشن دجلة وقال:

« يا أخي قتلته؟ » فقال: « يا فاعل خربت اسكت وإلّا ألحقتك به. »

فجمع أبو الحسين نفسه وشغّب الجند وظنّوه حيّا فنبشه وأظهره لهم فسكنوا. ثم أعاده إلى قبره.

وانتقل إلى الدار بمسماران. فساعة ملكها طلب الجوهر فأحضره.

قال إسرائيل: دخلت إليه فقال لمّا رآني:

« يا غلام هات الدُّرج. » فأحضره إيّاه فقال لي:

« يا أبا الطيّب أخذنا المال والجوهر ومضى الفاعل بن الفاعل إلى لعنة الله. » ثم أودع أبو عبد الله هذا الجوهر ابنه أبا القاسم سرّا وأمره أن يستره. فلمّا توفّى أبو عبد الله وملك الأمر بعده أخوه أبو الحسين طلب هذا الجوهر طلبا شديدا فلم يجد له أثرا. وقيل: أودعه من لا يعرف.

ولمّا خرج ابنه إلى هجر أخذه معه فسأله الهجريّون أن يريهم إيّاه ففعل ذلك ووهب لهم منه حبّة واحدة.

فلمّا حضر مدينة السلام في أيّام أبي الحسين معزّ الدولة طلبه منه ليراه فأحضره عنده ووسّط أبا مخلد عبد الله بن يحيى ليبتاعه منه فامتنع من بيعه ثم رأى الوجه في بيعه. فاستجاب فقوّم بما قوّمه تجّار البصرة.

فقال أبو مخلد:

« حطّ منه ثمن الحبّة التي أخذها الهجريّون. » فأعطى ثلاثة آلاف دينار عن قيمة خمسة وأربعين ألف درهم وأحاله بذلك على كار التمر واستوفاه.

وكان أبو عبد الله البريدي يتّهم أبا الحسن ابن أسد بالتضريب بينه وبين أخيه وقيل له:

« إنّ عنده ستة عشر ألف ألف درهم. » فلمّا ملك الأمير أخرج إليه دفتر فيه ثبت ودائع أبي يوسف بخطّه، فلم يجد فيه وديعة عند أحد إلّا ما عند ابن أسد، فطالبه بها وبسط منه وأقرّه على ما كان يتولّاه فمضى إلى منزله وحمل إليه ألفي ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ولم يظهر له، وعرّفه أنه لا وجه للباقي وأنّ أخاه حصّل عليه ذلك من عجز بعد عجز لحقه في مدّة سنة معه وأخذ خطّه بها أنها وديعة له عنده. وكان في أسفل الثبت الذي وجد له: « عمل لكلّ سنة عملا بالضمان وما صحّ منه بالأمانة وما تحصّل من العجز الذي أخذ خطّه به ».

وجمع ذلك وكان بإزاء العجز وهو ثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة ألف درهم.

فقامت قيامة أبي عبد الله وقال:

« دم أخي في رقبة ابن أسد فإني قتلته طمعا في المال. » فمضى ولم يصل إليه. ثم آمنه فظهر وقام بحجّته شفاها وذكر أنّ له بقايا هذه السنة في النواحي زيادة على أربعة آلاف ألف وله أصحاب منهم أبو العلاء صاعد بن ثابت وأبوه وأخوه وأبو على الأنبارى وقد هرب فتوسّط أمره القاضي أبو الحسين بن نصرويه. وصحّ لأبي عبد الله جميع الوجوه على أحوال قبيحة مع الألفى الألف والخمسمائة الألف الدرهم الموجودة عشرة آلاف ألف درهم وتاه الباقي وذهبت نفس أبي يوسف.

وفيها قبض أبو العباس اشكورج الديلمي وكان توزون قلّده الشرطة ببغداد على ابن حمدي اللصّ وضرب وسطه فخفّ مكروه اللصوص عن الناس وانقطع شرّهم بعد أن تحارس الناس بالليل بالبوقات وامتنع عنهم النوم خوفا من كبساته.

وفيها ورد الخبر بدخول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه واسط وانحدر من كان بها من أصحاب البريدي إلى البصرة.

وفيها صار محمد بن ينال الترجمان إلى سيف الدولة وهو بالرقّة فعاتبه سيف الدولة على أشياء بلغته عنه وكان اتهم بأنه عقد الرئاسة لنفسه على العجم وواطأه المتقي لله على الإيقاع بسيف الدولة فجحد محمّد بن ينال ذلك، فلمّا خرج من حضرته بعد العتاب وثب به غلمان سيف الدولة بسيوفهم فقتلوه.

وفيها ورد الخبر بموت سليمان بن الحسن أبي طاهر القرمطي وأنه جدّر ومات وصار الأمر لإخوته بعده.

ذكر الخبر عن الإصبهاني الذي احتال لقتل القرامطة بأيديهم حتى كاد يفنيهم

كان ابن سنبر يعادى المعروف بأبي حفص الشريك، فاحتال في حياة أبي طاهر بأن أحضر رجلا من أهل إصبهان فكشف له أسرارا كان أبو سعيد الجنّابى كشفها له في حياته ولم يكشفها لغيره وعرّفه مواضع دفائن له لم يعلم بها غيره ولم يعلم أبو طاهر أن أباه أبا سعيد كشف ذلك لابن سنبر فقال ابن سنبر لهذا الرجل الإصبهاني:

« امض إلى أبي طاهر وعرّفه أنّك الرجل الذي كان أبوه وهو يدعوان إليه فإذا هو سألك عن العلامات والدليل أظهرت له هذه الأسرار. » وشرط ابن سنبر على هذا الإصبهاني أن يكون إذا تمكّن من الأمر قتل أبا حفص الشريك فضمن له الإصبهاني ذلك فمضى إلى أبي طاهر وأعطاه العلامات وحدّثه بالأسرار فلم يشكّ في صحة تلك العلامات فوثب أبو طاهر وقام بين يديه وسلّم الأمر إليه وقال لأصحابه:

« هذا هو الذي كنت أدعوكم إليه والأمر له. » فتمكّن الرجل من الأمر وثبت ووفى بما كان ضمنه لابن سنبر وقتل أبا حفص الشريك.

ثم كان يأمر أبا طاهر وإخوته بقتل من يشاء ويقول: « قد مرض » يعنى أنه قد شكّ في الدين فيقتل وأخذ يقتل واحدا واحدا من رؤساء القوم وأهل البصائر منهم والنجدة وأمره ممتثل مطاع لا يخالف إلى أن أتى على عدد كثير منهم. وكان إذا أمر الرجل أن يقتل أخاه أو أباه أو ابنه لم يتوقّف وبادر إلى امتثال أمره فخافه أبو طاهر وبلغه أنه عمل على قتله فقال لإخوته:

« قد وقع عليّ غلط وشبهة في أمر هذا الرجل وليس هو صاحب الأمر الذي يعرف ضمائر القلوب ولا تخفى عليه الأسرار ويمكنه أن يبرئ المريض ويعمل كل ما يريد. » وجاءوا إلى الرجل فعرّفوه أنّ والدتهم عليلة وسألوه أن يدخل إليها ونوّموا والدتهم على فراش وغطّوها بإزار فدخل إليها فلمّا رآها قال لهم:

« هذه علّة لا يبرأ صاحبها فطهّروها » معناه اقتلوها.

فلمّا قال لهم ذلك قالوا لأمّهم: « اجلسي. » فجلست. وقالوا: « إنها لفى عافية وأنت كذّاب. » فقتلوه.

وكان لهم سبعة من الوزراء أكبرهم ابن سنبر وكان أبو طاهر له إخوان:

أبو القاسم سعيد بن الحسن وأبو العباس الفضل بن الحسن ولهم أخ آخر لا يدخل معهم في أمورهم يقال له أبو يعقوب إسحاق مقبل على الشرب والقصف وأمر الثلاثة واحد وكلمتهم واحدة لا يخلفون فكانوا إذا أرادوا عقد أمر أو ورد عليهم أمر ركبوا وأصحروا واتفقوا على ما يعملون ولا يطلعون أحدا على أمرهم فإذا انصرفوا أمضوا ما اتفقوا عليه.

موت أبي عبد الله البريدي

وفي هذه السنة مات أبو عبد الله البريدي بحمّى حادّة مكث فيها سبعة أيام فكان بين قتله أخاه أبا يوسف وبين موته ثمانية أشهر وثلاثة أيام فتبارك الله ربّ العالمين. فتحدّث أبو القاسم ابن أبي عبد الله البريدي بعد زوال أمره ومصيره إلى بغداد أنّ أباه لمّا مات بالبصرة انتصب أخوه أبو الحسين مكانه وكان لأبي عبد الله عسكر مقيم بنهر الأمير بإزاء الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وعسكر آخر بمطارا وكان ديلم أبي عبد الله مضمومين إلى يانس غلامه وكانوا يميلون إليه وكان بين يانس وبين أبي الحسين مباينة في الباطن وعداوة ولمّا تمكّن أبو الحسين من الرئاسة أخذ في الاستطالة على الديلم والأتراك ويستخفّ بهم فنفرت قلوبهم منه وأحسّ يانس بذلك فمضى إلى أبي القاسم مولاه وابن مولاه أبي عبد الله فقال له:

« إن كان عندك مال أصلحت لك قلوب الرجال وعقدت لك الرئاسة. » فاعترف له أبو القاسم أن عنده ثلاثمائة ألف دينار فأصلح له قلوب الديلم والرجال وواطأهم على الإيقاع بأبي الحسين وعقد الرئاسة لأبي القاسم وضمن لهم عنه الإحسان فسار الجيش الذي كان بنهر الأمير إلى مسماران وكان أبو الحسين بها فكبسوه وهو نائم فخرج من تحت الكلّة ومضى ماشيا متنكرا إلى الجعفرية وكاتب الهجري يستجير بهم وقصدهم فقبلوه أحسن قبول وسألهم أن يعاونوه على الرجوع إلى البصرة وردّه إلى أمره فضمنوا له ذلك وأقام عندهم نحو الشهر وتقررت الرئاسة بالبصرة لأبي القاسم ابن أبي عبد الله.

ثم سار أبو الحسين من هجر ومعه من إخوة أبي طاهر اثنان وصاروا إلى سور البصرة فوجدوا أبا القاسم قد حفظه بالرجال واحترس منه فلم تكن لهم حيلة في الوصول إلى البلد وطال مقامهم فضجر الهجريون وكاتبوا أبا القاسم وسفروا بينه وبين عمّه في الصلح وسألوه أن يؤمنه ويأذن له في الدخول إلى البصرة واحتاط أبو القاسم في أمره إلى أن تأهّب واختار الشخوص إلى بغداد فأذن له وأطلقه فخرج وصار إلى مدينة السلام.

طمع يانس في الرئاسة وتمكن أبي القاسم منها

ثم طمع يانس في الرئاسة وإزالة أبي القاسم عنها فواطأ روستاباش فلمّا انعقد الأمر بينهما تحرّك روستاباش والديلم واجتمعوا في دار روستاباش وآثر روستاباش الإيقاع بيانس والتفرّد بالرئاسة فلمّا خرج يانس من عنده أتبعه بمن يوقع به فتحرّك يانس ورماه الديلمي بزوبين ووقع في ظهره وهرب وصار إلى خراب بقرب دار أبي القاسم ولم يعرف له أحد خبرا وكان ليلا وسار روستاباش إلى دار لشكرستان وكان نقيب الديلم والمدبّر ليأنس.

وكان قد جزع أبو القاسم لمّا عرف الخبر وهمّ بالجلوس في طيّاره والخروج عن داره فلمّا عرف لشكرستان أنّ روستاباش قد أوقع بيانس وعزم على التفرّد بالرئاسة لم يطعه وصاح الديلم وزبرهم فتفرّقوا ومضى بعضهم في الوقت معتذرا وهرب روستاباش بالليل عند تفرّق الناس عنه واستتر وأصبح أبو القاسم وقد استقام أمره وعرف خبر يانس فحمله إلى داره مكرما ووجد روستاباش فنفاه إلى حيدة وعولج يانس إلى أن برأ وأبو القاسم متهم له فلمّا كان بعد أيام قبض عليه وعلى لشكرستان وصادر يانسا على مائة ألف دينار ثم نفاه إلى عمان فلمّا حصل على الحديدى لينزل به خرج إليه بعض غلمان أبي القاسم فقتله وقتل لشكرستان وتمكّن أبو القاسم من الرئاسة.

وفيها عرض لتوزون يوما وهو جالس للسلام والناس وقوف بين يديه صرع فوثب ابن شيرزاد وموسى بن سليمان ومدّا في وجهه رداء كان على رأس موسى وحجزوا بينه وبين الناس لئلّا يروه على تلك الصورة وصرف الناس وقيل لهم:

« إنّ الأمير قد ثار المرار به من خمار لحقه. » وفي هذه السنة خرج عسكر الأمّة المعروفة بالروس إلى أذربيجان وقصدوا برذعة وملكوها وسبوا أهلها.

شرح أخبار الروسية وما آل إليه أمرهم

هؤلاء أمة عظيمة لهم خلق عظام ولهم بأس شديد لا يعرفون الهزيمة ولا يولّى الرجل منهم حتى يقتل أو يقتل. ومن عادة الواحد منهم أن يحمل آلة السلاح ويعلق على نفسه أكثر آلات الصنّاع من الفاس والمنشار والمطرقة وما أشبهها ويقاتل بالحربة والترس ويتقلد السيف ويعلق عليه عمودا وآلة كالدشنيّ ويقاتلون رجالة لا سيما هؤلاء الواردين.

وذلك انهم ركبوا البحر الذي يلي بلادهم وقطعوه الى نهر عظيم يعرف بالكرّ يحمل من جبال آذربيجان وأرمينية ويصبّ الى البحر وهو نهر برذعة الذي يشبّهونه بدجلة. فلما وصلوا إلى الكرّ توجه إليهم صاحب المرزبان وخليفته على برذعة وكان معه ثلاثمائة رجل من الديلم ونحو من عددهم صعاليك وأكراد واستنفر العامة فخرج معه من المطوّعة نحو خمسة آلاف رجل لجهاد هؤلاء وكانوا مغترّين لا يعرفون شدتهم وحسبوا أنّهم يجرون مجرى الأرمن والروم.

فلمّا صافّوهم الحرب لم تكن إلّا ساعة حتى حملت الروسية حملة منكرة فهزموا العسكر وولّت المطوّعة بأسرهم وسائر العسكر إلّا الديلم. فإنّهم ثبتوا ساعة فقتلوا كلّهم إلّا من كان بينهم فارسا، واتبعوا الفلّ الى البلد فهرب كل من كان له مركوب بجملة من الجند والرعية وتركوا البلد فنزلته الروسية وملكوه.

فحدثني أبو العبّاس ابن ندار وجماعة من المحصّلين أنّ القوم بادروا إلى البلد ونادوا فيه وسكنّوا الناس وقالوا لهم:

« لا منازعة بيننا وبينكم في الدين وانما نطلب الملك وعلينا ان نحسن السيرة وعليكم حسن الطاعة. » ووافتهم العساكر من كل ناحية فكانوا يخرجون إليهم ويهزمونهم وكان أهل برذعة يخرجون معهم فإذا حملوا عليهم المسلمون كبّروا ورجموهم بالحجارة فكانت الروسية تتقدم إليهم بأن يضبطوا أنفسهم ولا يدخلوا بين السلطان وبينهم فيقبل أهل السلامة منهم خاصّة فأمّا العامة ومعظم الرعاع فكانوا لا يضبطون أنفسهم ويظهرون ما في نفوسهم ويتعرضون لهم إذا حمل عليهم أصحاب السلطان.

فلمّا طال ذلك عليهم نادى مناديهم بألّا يقيم في البلد أحد من أهله وأجلوهم ثلاثة أيام من يوم ندائهم فخرج كل من كان له ظهر يحمله ويحمل حرمه وولده وهم نفر يسير وجاء اليوم الرابع والأكثر مقيمون فوضعت الروسية فيهم سيوفهم فقتلوا خلقا عظيما لا يحصى عددهم وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف رجل وغلام مع حرمهم ونسائهم وبناتهم وجعلوا النساء والصبيان في حصن داخل المدينة وهي شهرستان القوم وكانوا نزلوه وعسكروا به وتحصنوا فيه. ثم جمعوا الرجال الى المسجد الجامع ووكلوا بأبوابه وقالوا لهم: « اشتروا أنفسكم ».

ذكر تدبير صواب أشار به بعضهم فلم يقبلوا منه حتى قتلوا بأجمعهم واستبيحت أموالهم وذراريهم

كان بالبلد نصرانيّ له رأي سديد يعرف بابن سمعون وكان يسعى في السفارة بينهم ووافق الروسية ان يبتاع كل رجل منهم بعشرين درهما فتابعه على ذلك عقلاء المسلمين وخالفه الباقون وقالوا:

« إنّما يريد ابن سمعون أن يلحق المسلمين بالنصارى في أداء الجزية. » فأمسك ابن سمعون وتوقف الروسية عن قتل الرجال طمعا في هذا القدر اليسير أن يحصل لهم من جهتهم فلما لم يحصل لهم شيء وضعوا فيهم السيوف فقتلوهم عن آخرهم الا عددا يسيرا خرجوا في قناة ضيقة كانت تحمل الماء الى المسجد الجامع والّا من افتدى نفسه بذخيرة كانت له.

فربما وافق الواحد من المسلمين الروسيّ على مال يفدى به نفسه فحضر معه إلى منزله أو حانوته فإذا استخرج ذخيرته وكانت زائدة على مال موافقته لا يمكن صاحبها منها وإن كانت أضعافا مضاعفة عليه وعطف بالمطالبة حتى يجتاحه فإذا علم أنّه لم يبق له عين ولا ورق ولا جوهر ولا فرش ولا كسوة أفرج عنه وأعطاه طينا مختوما يأمن به من غيره فاجتمع لهم من البلد شيء عظيم يجلّ قدره ويعظم خطره وكانوا قد حازوا النساء والصبيان ففجروا بهنّ وبهم واستعبدوهم.

فلمّا عظمت المصيبة وتسامع المسلمون في البلدان بخبرهم تنادوا بالنفير وجمع المرزبان بن محمد عسكره واستنفر الناس وأتاه المطوّعة من كل ناحية فسار في ثلاثين ألف رجل فلم يقاوم الروسية مع إجماع هذه العدّة ولا أمكنه أن يؤثّر فيهم أثرا فكان يغاديهم القتال ويراوحه وينقلب عنهم مفلولا واتصلت الحرب بينهم على هذه الصورة أياما كثيرة فكانت الدبرة أبدا على المسلمين.

فلمّا أعيا المسلمين أمرهم ورأى المرزبان الصورة التجأ الى الحيلة والمكيدة واتفق له أن الروسية لما حصلوا بالمراغة تبسّطوا في الفاكهة وهناك أنواع كثيرة منها فمرضوا ووقع فيهم الوباء لأنّ بلادهم شديدة البرد ولا ينبت فيها شجر وإنّما يحمل إليهم الشيء اليسير من البلاد الشاسعة عنهم.

فلمّا تمحّق عددهم وفكر المرزبان في الحيلة وقع له أن يكمن لهم ليلا وواطأ عسكره ان يبادروا الحرب فإذا حمل عليهم القوم انهزم هو وانهزموا معه وأطمعهم بذلك في العسكر والمسلمين فإذا تجاوزوا موضع الكمين عطف المرزبان ورجاله عليهم وصاحوا بالكمين بشعار اتفقوا عليه فإذا حصل الروسية في الوسط تمكنوا منهم.

فلمّا أصبحوا على هذه المكيدة تقدّم المرزبان وأصحابه وبرز الروسية وأميرهم راكب حمار وخرج رجاله واصطفّوا للحرب فجروا على عادتهم وانهزم المرزبان والمسلمون واتبعهم الروسية حتى تجاوزوا موضع الكمين واستمر الناس على هزيمتهم.

فحكى المرزبان بعد ذلك أنّه لمّا رأى الناس كذلك وصاح بهم واجتهد بهم أن يراجعوا الحرب فلم يفعلوا لما تمكن في قلوبهم من هيبتهم علم أنّه ان استمر الناس على هزيمتهم عاد القوم فلم يخف عليهم موضع الكمين فيكون ذلك هلاكهم. قال:

« فرجعت وحدي مع من تبعني من أخي وخاصّتى وغلماني ووضعت في نفسي الشهادة فحينئذ استحيا أكثر الديلم فرجعوا وكررنا عليهم ونادينا « الكمين » فخرجوا من ورائهم فصدقناهم الحرب وقتلنا منهم سبعمائة نفس فيهم أميرهم وحصل الباقون في الحصن الذي كانوا فيه من البلد وقد كانوا نقلوا اليه غلّات كثيرة وميرا عظيمة وحصّلوا فيه السبي والأموال. » فبينما المرزبان في منازلتهم وهو لا يقدر لهم على حيلة سوى المصابرة إذ ورد عليه الخبر بدخول أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان آذربيجان وانتهائه الى سلماس واجتماعه مع جعفر بن شكّويه الكردي في جماهير الهدايانية واضطرّ الى أن خلف على حرب الروسية أحد قوّاده في خمسمائة من الديلم وألف وخمسمائة فارس من الأكراد وألفين من المطوّعة وسار إلى أوران ولقي أبا عبد الله فاقتتلا قتالا خفيفا وسقطت ثلجة عظيمة واضطرب أصحاب أبي عبد الله لأنّ معظمهم أعراب وساروا عنه فسار بسيرهم إلى بعض المدن الحصينة فلقيه في طريقه كتاب من ابن عمه ناصر الدولة يعلمه فيه وفاة توزون بمدينة السلام واستئمان رجاله إليه وأنّه قد عمل على الانحدار معهم إلى بغداد ومحاربة معزّ الدولة لأنّه كان دخلها فاستولى عليها بعد إصعاد توزون عنها ويأمره بالتخلية عن أعمال آذربيجان والانكفاء إليه ففعل.

سنتهم في دفن موتاهم

فلم يزل أصحاب المرزبان عن قتال الروسية وحصارهم إلى أن ضجروا واتفق أن زاد الوباء عليهم فكان إذا مات الرجل منهم دفنوا معه سلاحه وثيابه وآلته وزوجته أو غيرها من النساء وغلامه إن كان يحبه على سنة لهم.

فاستثار المسلمون بعد زوال أمرهم مقابرهم فاستخرجوا منها سيوفا يتنافس فيها إلى اليوم لمضائها وجودتها.

فلمّا قلّ عددهم خرجوا ليلا من الحصن الذي كانوا فيه وحملوا على ظهورهم كل ما أمكنهم من المال والجواهر والثياب الفاخرة وأحرقوا الباقي وساقوا من النساء والصبيان والصبايا ما شاءوا ومضوا إلى الكرّ وكانت السفن التي خرجوا فيها من بلادهم معدّة فيها مع ملّاحهم وثلاثمائة رجل من الروسية كانوا يمدونهم بإقساطهم من غنائمهم فجلسوا فيها ومضوا وكفى الله المسلمين أمرهم.

شاهد يروى ما رءاه

فسمعت ممن شاهد هؤلاء الروسيّة حكايات عجيبة من شدّتهم وقلّة مبالاتهم بمن يجتمع عليهم من المسلمين فمن ذلك خبر شاع في الناحية وسمعته من غير واحد أنّ خمسة نفر من الروسية اجتمعوا في بستان ببرذعة وفيهم غلام أمرد وضيء الوجه من أولاد رؤسائهم ومعهم نسوة من السبي وأنّ المسلمين لمّا عرفوا خبرهم أحاطوا بالبستان واجتمع عدد كثير من الديلم وغيرهم على حرب أولئك النفر الخمسة واجتهدوا في أن يحصل لهم أسير واحد فلم يكن إليه سبيل لأنّه كان لا يستسلم أحد منهم ولم يمكن قتلهم حتى قتلوا من المسلمين أضعافا كثيرة لعدّتهم وكان ذلك الأمرد آخر من بقي. فلمّا علم أنّه يؤخذ أسيرا صعد شجرة كانت بالقرب منه ولم يزل يجرح نفسه بخنجر معه في مقاتله إلى أن سقط ميّتا.

وفي هذه السنة ظهر للمتقى من بنى حمدان ضجر به وبمقامه عندهم وشهوة لمفارقته فراسل توزون في الصلح فتلقّى توزون ذلك بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه ووردت رسالة المتقي لله إلى توزون مع الحسن بن هارون وأبي عبد الله بن أبي موسى الهاشمي وتوثّقا من توزون واستحلفاه أيمانا مؤكدة للمتقى وللوزير أبي الحسين ابن مقلة وأحضر توزون القضاة والعدول والعباسيين والطالبيين ومشايخ الكتّاب حتى حلف بحضرتهم للمتقي لله وكتب بذلك كتاب وأحكم ووقعت فيه الشهادة من جميع من حضر على توزون.

ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

ولمّا كان يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرّم وصل الأخشيد إلى حضرة المتقي لله وهو بالرقة ولقيه بها وأعظمه المتقى نهاية الإعظام ووقف الأخشيد بين يديه وقوف الغلمان وفي وسطه سلاح ثم ركب المتقى فمشى بين يديه الأخشيد فأمره أن يركب فلم يفعل ولم يزل على تلك الحال مختلطا بالغلمان إلى أن نزل من ركوبه وحمل إليه هدايا ومالا وحمل إلى أبي الحسين ابن مقلة عشرين ألف دينار ولم يدع كاتبا ولا حاجبا إلّا برّه.

واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى مصر والشام فيكون بين يديه فلم يجبه إلى ذلك وأشار عليه بالمقام مكانه فلم يقبل فلمّا امتنع عليه من الأمرين عدل إلى الوزير أبي الحسين وأشار عليه بأن يسير معه إلى مصر وضمن له إنفاذ أمره وترك الاعتراض عليه في شيء يدبّره فخالفه.

وكان أبو الحسين بعد ذلك يظهر التندّم ويقول:

« نصحنى الأخشيد فلم أقبل. » وكانت دنانير الأخشيد في صندوق أبي الحسين إلى أن انتهبت لمّا قبض على المتقي لله.

ولمّا توثّق المتقي لله من توزون انحدر من الرقّة يريد بغداد في الفرات ومعه غلامان من غلمان الأخشيد ومحمد بن فيروز ونقط فلمّا وصل إلى هيت أقام بها وأنفذ القاضي الخرقى وابن شيرزاد حتى جدّدا على توزون الأيمان والعهود والمواثيق وأكرم المتقي لله توزون ولقّبه المظفّر وعاد القاضي إلى هيت وعرّف المتقى أنه قد أحكم الأمر مع توزون.

وخرج توزون لليلة بقيت من صفر إلى البثق الذي كان بالسندية ونزل الوزير أبو الحسين على شاطئ الفرات وبين توزون والمتقى نحو فرسخ فلمّا همّ بالانحدار استقبله توزون وترجّل له وقبّل الأرض بين يديه ووكّل به وبالوزير وبالجماعة وأنزل بهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي لله وارتجّت الدنيا فسمله. وحكى ثابت أنّ توزون سملة بحضرة قهرمانة المستكفي بالله.

وانحدر توزون من الغد وفي قبضه الجماعة فكانت مدّة وزارة أبي الحسين ابن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثنى عشر يوما.

خلافة المستكفي بالله

ذكر السبب في القبض على المتقى وخلافة المستكفي بالله

قال ثابت: حدثني أبو العبّاس التميمي الرازي وكيله، قال: وكان خصيصا بتوزون مستوليا عليه، قال:

كنت أنا السبب فيما جرى على المتقى وذاك أنّ إبراهيم بن الربنبذ الديلمي لقيني يوما وسألنى أن أصير إلى دعوته فاستأذنت توزون في ذلك فأذن لي فيه ومضيت إليه وهو ينزل في دار القراريطي على دجلة فوجدت داره مفروشة منضّدة فسألته عن السبب في ذلك وقلت: أحسبك قد تزوّجت.

فقال: أنا أحدّثك عن أمري:

اعلم أنّى خطبت إلى قوم وتجمّلت عندهم بأن ادّعيت أنّ لي محلّا من الأمير واختصاصا به فقالت لي المرأة: إذا كنت بهذه المنزلة فهل لك أن تسفر في شيء يجمع صلاح الأمير وصلاحك وصلاح المسلمين؟ فقلت لها: نعم.

قالت: هذا الخليفة (يعنى المتقي لله) قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم وكاشفتموه وليس يجوز أن تصفو نيته لكم آخر الدهر وقد اجتهد في بواركم فلم يتم له فمرّة ببني حمدان ومرّة ببني بويه وهاهنا رجل من ولد الخلافة من فهمه وعقله ودينه ورجلته كيت وكيت تنصبونه في الخلافة وتزيلون المتقي لله وهو يثير لكم أموالا جليلة لا يعرفها غيره ولا يقدر عليها سواه وتكونون أنتم قد استرحتم من عدوّ تريدون أن تحرسوه وتحترسون منه وتخافونه ويخافكم وتقيمون رجلا من قبلكم يرى أنّكم قد أحسنتم إليه وأنّ روحكم مقرونة بروحه.

وأطالت الكلام في هذا المعنى فهوّستنى ودار كلامها في نفسي وعلمت أنّ محلى لا يبلغ الكلام في مثله والسفارة فيه وكرهت أن اكذّب نفسي عندها لما ادّعيته من المحلّ والمنزلة فاطمعتها في ذلك وعلمت أنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا بك ولا يقدر عليه غيرك وقد أطلعتك عليه فأيّ شيء عزمك أن تعمل؟

فقلت: أريد أن أسمع كلام المرأة. فجاءني بامرأة تتكلم بالعربية والفارسية من أهل شيراز جزلة شهمة فهمة فخاطبتني بنحو ما خاطبني به الرجل فقلت لها: لا بد من أن ألقى الرجل وأسمع كلامه. فقالت: تعود غدا إلى ههنا حتى أجمع بينك وبينه. فلمّا كان من غد عدت فوجدت الرجل قد أخرج من دار ابن طاهر في زي امرأة وحصل في دار ابن الربنبذ فلقيته وعرّفنى أنّه عبد الله بن المكتفي بالله. وخاطبني رجل حصيف فهم ووجدته مع هذا يتشيّع ورأيته عارفا بأمر الدنيا وضمن لي ستمائة ألف دينار يستخرجها ويمشّى بها الأمر ومائتي ألف دينار للأمير توزون وقال: أنا رجل فقير وإنّما أعرف وجوه أموال لا يعرفها غيري وأعرف من ذخائر الخلافة في يد قوم لا يعرفهم غيري. وذكر أنّ وجوهها صحيحة لا شك فيها ولا يقدر غيره عليها. فلمّا سمعت ذلك وعرفت صحته صرت إلى توزون. وفكرّت في أنّ الأمر لا يتمّ بي وحدي فلقيت في طريقي وأنا أصعد إلى توزون أبا عمران موسى بن سليمان في الحديدى الذي على باب توزون فأخذت بيده واعتزلنا. واستحلفته على كتمان ما أطلعه عليه فحلف ثم حدثته به كلّه وسألته معاونتى على تمامه فقال:

هذا أمر عظيم لا أدخل فيه. فلمّا آيسنى من نفسه سألته أن يمسك ولا يعارضني فقال: افعل. فدخلت إلى توزون وأدخلته إلى حجرة وخلوت به واستحلفته بالمصحف وبأيمان مؤكّدة أن يكتم ما أحدّثه به فحلف فلمّا حلف حدّثته الحديث من أوله إلى آخره فوقع بقلبه وقال: صواب ولكني أريد أن أرى الرجل وأسمع كلامه. فقلت: عليّ ذلك ولكن إن أردت تمام هذا الأمر فلا تطلع عليه أبا جعفر ابن شيرزاد فإنّه يفثأ عزمك ويصرفك عنه.

فقال: افعل.

وبلغ أبا جعفر خلوتي بالأمير فاتّهمنى أنى سعيت عليه ومضيت إلى القوم ووعدتهم بحضور الأمير ليرى الرجل ويكون الاجتماع في منزل موسى بن سليمان.

قال: وتشددنا في الطوف بالليل في دجلة فلمّا كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر وافى عبد الله بن المكتفي بالله إلى دار موسى بن سليمان ولقيه توزون هناك وخاطبه وبايع له في تلك الليلة وكتمنا القصة.

فلمّا وافى المتقي لله من الرقّة ولقيه توزون وسلم عليه قلت لتوزون:

« عزمك على ما كنا اتفقنا عليه صحيح؟ » فقال: « بلى. » قلت: « فافعله الساعة فانّه إن دخل داره بعد عليك مرامه. » قال: فوكّل به وجرى ما جرى.

وكانت المرأة التي سفرت في هذا الأمر المعروفة بحسن الشيرازية حماة أبي أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي فلمّا تمت للمستكفي الخلافة غيرت اسمها وجعلته « علم » وصارت قهرمانة المستكفي واستولت على أمره كلّه.

ذكر مصير الأمير أبي الحسين إلى ديالى

وقد كان قبل خلافة المستكفي صار الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى واسط وقت مصير توزون إلى الموصل. فلمّا صالح توزون ابن حمدان وعاد إلى الحضرة عمل على الانحدار لدفعه.

فخرج في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين وورد عليه خبر الأمير أبي الحسين ابن بويه بانه نزل بسيب بنى كوما ولقيه جيش توزون وما زالت الحرب بينهما تسعة أيام في قباب حميد وهي في كل يوم على توزون يتأخّر توزون إلى خلف ويتقدّم الأمير أبو الحسين إلى قدّام إلى أن بلغ توزون نهر ديالى وعبره إلى جانب بغداد وقطع الجسر الذي عليه وأقام.

ووافاه أحمد بن بويه إلى الجانب مقابلا له وبينهما الماء. فلمّا كان يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة انصرف الأمير أبو الحسين راجعا إلى الأهواز.

ذكر السبب في انصرافه مع استظهاره وبعد ما هزم توزون

كان مع الأمير أبي الحسين سواد عظيم وكراع كثير وجمال وافرة فكان إذا سار جعل سواده بينه وبين دجلة وله خيمة تضرب على رسم لهم فما دامت الخيمة منصوبة فالقتال واقع ومتى قلعت كان ذلك علامة الهزيمة.

فلمّا كان يوم مسيره إلى ديالى أخذ السواد يسير على طول ديالى واجتهد أن يضبطه ويستوقفه فلم يمكن ذلك.

وأراد أن يضرب الخيمة على الرسم فلمّا تباعد الديلم وصار بين السواد والديلم فرجة دخل أصحاب توزون وأعرابه بين السواد والديلم وأوقعوا بالسواد ولم يكن عنه دافع فدفعت الضرورة إلى أن ينصرف وصارت هزيمة، واضطرّ الديلم إلى أن يستأمنوا إلى توزون لأنّهم رحالة فاستأمن أكثرهم إلى توزون وأخذ الأمير على طريق بادرايا، وباكسايا إلى الأهواز.

وقد كانت الميرة أيضا ضاقت على الأمير أبي الحسين حتى اضطر في الليلة التي انصرف فيها من غد إلى أن ذبح خمسين جملا من جماله وفرق لحمها على أصحابه ورجاله وأخذ له بقر فذبحها ونهب في وقت هزيمته نهبا عظيما.

واستؤسر من وجوه قوّاده سبعة عشر قائدا فيهم أبن الداعي العلوي وأسر أبو بكر أبن قرابة واستأمن من الديلم أكثر من ألف رجل.

وأقام توزون وعاوده الصرع يوم هزيمة الأمير أبي الحسين وشغل بنفسه عن الطلب فعاد إلى داره.

ونعود إلى تمام خبر المستكفي بالله.

قلّد وزارته أبا الفرج محمد بن علي السامرّيّ ولم يكن له من الوزارة إلّا أسمها والمدبر للأمور أبو جعفر ابن شيرزاد.

وخلع على توزون وطوّق ووضع على رأسه تاج مرصّع بجوهر وجلس بين يدي المستكفي بالله على كرسيّ وانصرف بالخلع والتاج والطوق والسوار الى منزله.

وطلب المستكفي بالله الفضل بن المقتدر طلبا شديدا فاستتر وأمر بهدم داره وكان الفضل طول أيام المستكفي بالله مستترا.

شرح قصة أبي الحسين البريدي ومصيره إلى بغداد مستأمنا إلى توزون وما آل إليه أمره من القتل

كنا ذكرنا حاله إلى وقت خروجه إلى بغداد ولما وصل إلى بغداد ولقي توزون وأنزله أبو جعفر بالقرب من داره في دار طازاذ التي في قصر فرج على شاطئ دجلة.

ثم شرع أبو الحسين في مسئلة توزون أن يعاونه على فتح البصرة وضمن له إذا فتحها أن يحمل إليه مالا رغبة عن كثرته فكان يطمع في المال ويعلل بالمواعيد.

وسأل أن يوصل إلى المستكفي بالله فوصل إليه مع توزون وابن شيرزاد فخلع المستكفي بالله عليه خلعة الرضا وأنصرف إلى منزله.

وبلغ الخبر ابن أخيه أبا القاسم وأنّ عمه يسعى في أمر البصرة فوجّه بمن أصلح أمره مع توزون وابن شيرزاد وحمل مالا فأقرّ على عمله وأنفذت الخلع اليه.

ووقف عمه أبو الحسين على ذلك ويئس مما كان شرع فيه ولم يقطع توزون أطماعه فيه.

ذكر الخبر عن قتل أبي الحسين البريدي

لما يئس أبو الحسين البريدي من معاونة تلحقه في فتح البصرة سعى في أن يكتب لتوزون ويقبض على ابن شيرزاد وصح ذلك عند ابن شيرزاد فاستوحش من أبي الحسين ومن توزون فجلس في منزله أياما وما زال توزون يراسله ويترضاه حتى كتب إليه وأخذ في التدبير عليه.

فلمّا كان يوم السبت لستّ خلون من ذي الحجة أنفذ أبو العباس وكيله وصافى حاجب توزون إلى أبي الحسين البريدي فقبضا عليه وأحدراه إلى دار صافى وضرب هناك ليلة الأحد ضربا عنيفا وقيّد وأحدر إلى دار السلطان وبسط ابن شيرزاد لسانه فيه أقبح بسط وذكر معايبه وأذكر بذنوبه.

وكان أبو عبد الله محمد ابن أبي موسى الهاشمي أخذ في أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه فأظهرها في هذا الوقت فلمّا كان بعد أسبوع من القبض عليه استحضر الفقهاء والقضاة وأحضر أبو الحسين البريدي وجمعوا بين يدي المستكفي بالله وأحضر السيف والنطع ووقف السيّاف بيده السيف وحضر ابن أبي موسى الهاشمي ووقف فقرأ ما أفتى به واحد واحد من إباحة دمه على رؤوس الأشهاد وكلما قرأ فتوى واحد منهم سأله هل هي فتواه فيعترف بها حتى أتى على جماعتهم وأبو الحسين البريدي يسمع ذلك كلّه ويراه ورأسه مشدود والسيف مسلول بإزائه في يد السيّاف.

فلمّا اعترف القضاة والفقهاء بالفتوى أمر المستكفي بالله بضرب عنقه فضربت من غير أن يحتجّ لنفسه بشيء أو يعاود بكلمة أو ينطق بحرف وأخذ رأسه وطيف به في جانبي بغداد ورد إلى دار السلطان وصلبت جثّته حيث كان حديديّه مشدودا فيه لما ظفر بدار السلطان فبقى مصلوبا هناك أياما.

ثم قرأت صكا على الجهبذ بثمن بواري ونفط اشتريت بتسعة دراهم لإحراق جثّته فأحرقت للنصف من ذي الحجة.

وقبض على الوزير أبي الفرج السامرّيّ وصودر على ثلاثمائة ألف درهم فكانت مدة وقوع اسم الوزارة عليه اثنتين وأربعين يوما.

وفي هذه السنة طالب المستكفي بالله القاهر بأن يخرج من دار السلطان ويرجع إلى دار ابن طاهر فامتنع فسأل فيه أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن وهو يومئذ يكتب للمستكفي بالله على خاصّ أموره ورفق بالقاهر وضمن أن ينزله عنده ولا يردّه إلى دار ابن طاهر.

قال أبو أحمد: فلمّا قلت له ذلك استجاب بعد أن سألنى عن منزلي في أى جانب هو فقلت: في الشرقي ناحية سوق يحيى. فسكنت نفسه إلى ذلك واستجاب حينئذ وأنزلت به إلى طيّارى بعد أن غيّرت زيّه فإني وجدته ملتفّا في قطن حشو جبّة وفي رجله نعل خشب مربعة. فلمّا حصل في الطيّار عبرت به من إزاء دارى وأومأت إلى الملاحين إيماء من غير أن أنطق بحرف.

فلمّا وضع صدر الطيار للعبور فطن وقال « هوذا يعبر بي إلى دار ابن طاهر » وأراد أن يرمى بنفسه إلى الماء فتقدمت إلى غلماني بضبطه فضبطوه إلى أن أصعدت به إلى داره من دار ابن طاهر فأقام فيها مدة ثم خرج في يوم جمعة إلى المسجد الجامع في مدينة المنصور وأخذ في أن يتصدق فرآه أبو عبد الله ابن أبي موسى الهاشمي فمنعه من ذلك وأعطاه خمسمائة درهم وردّه إلى داره.

وفي هذه السنة ورد الخبر بأن قوما يعرفون بالروس يكونون وراء بلدان الخزر خرجوا إلى آذربيجان وملكوا برذعة. وهم قوم لا دين لهم وإنّما طلبوا الملك وليس يعرفون الهزيمة وسلاحهم وزيّهم تشبه سلاح الديلم وفيهم قوة شديدة ولهم أبدان عظام.

ثم أوقع بهم المسلمون فلم يبق منهم كبير أحد وكان للمرزبان بن محمد بن مسافر في ذلك أثر كبير وعناء عظيم وقد ذكرناه في موضعه.

ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة

موت توزون

وفي المحرم منها مات توزون في داره ببغداد فكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوما ومدة كتابة ابن شيرزاد له سنتان وستة عشر يوما.

وورد الخبر على ابن شيرزاد وهو بهيت وكان خرج إليها لمواقفة أبي المرجّى ابن فيان على مال ضمانه وكان قد أخّره وطمع في ناحيته بموت توزون واضطرب العسكر ثم اجتمعوا على عقد الرياسة لابن شيرزاد.

وكان أبو جعفر قد عزم على عقد الأمر لناصر الدولة فانحدر ابن شيرزاد فلمّا وصل إلى باب حرب وذلك في مستهلّ صفر أقام هناك في معسكره وخرج إليه الأتراك والديلم وأنفذ إليه المستكفي بالله خلع ثياب بياض وحمل إليه طعاما عدّة أيام.

فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من صفر أجمع الجيش بأسره على عقد الرياسة له وحلفوا له وأخذ البيعة عليهم لنفسه وحبوه بالريحان على رسم العجم.

ووجّه ابن شيرزاد إلى المستكفي بالله يسأله ان يحلف له يمينا بحضرة القضاة والعدول تسكن نفسه إليها ففعل المستكفي ذلك ثم سأله إعادة اليمين بحضرة وجوه الأتراك والديلم فاشتد ذلك عليه ثم فعله.

فدخل ابن شيرزاد من معسكره على الظهر بتعبية إلى دار السلطان ووصل إلى الخليفة وانصرف مكرّما.

وزاد ابن شيرزاد الأتراك والديلم في أرزاقهم زيادات كثيرة فاشتدّت الإضافة فأنفذ إلى ناصر الدولة يطالبه بحمل المال ويطمعه في رد الامارة اليه فحمل إليه دقيقا وسفاتج بخمسمائة ألف درهم فلم يكن لها موقع مع الإضاقة فنقض ما عزم عليه من عقد الإمارة لناصر الدولة وأقام على أمره وقلّد أبا السائب القاضي مدينة المنصور وقلّد جماعة القضاة في نواحي بغداد وأخذ في المصادرات وقسط على الكتّاب والعمّال والتجار وسائر طبقات الناس ببغداد مالا لأرزاق الجند.

هاروت وماروت

وكان الغمازون يغمزون بمن عنده قوت من حنطة أو عدّة لعياله فكبسه وأخذه وكان قد انتصب للغمز بذلك وغيره وبمن يرمق بنعمة رجلان من السعاة يعرفان بهاروت وماروت فكانا يصلان إلى ابن شيرزاد في الأسحار والخلوات ويمضيان أيضا إلى دار المستكفي بالله فلحق الناس منهما أمر عظيم وكذلك من الضرائب فإنّها كثرت حتى تهارب التجار من بغداد وعاد هذا الفعل بالخراب وفساد الأمر وزيادة الإضاقة فاحتيج إلى مصادرة ابن عبد العزيز الهاشمي وإخوته.

وكثرت كبسات اللصوص فكان إذا ظفر السلطان بلصّ قتلته العامّة قبل أن يصل إلى الوالي.

وقلد أبو جعفر ابن شيرزاد ينال كوسه أعمال المعاون بواسط والفتح اللشكري أعمال المعاون بتكريت فأمّا الفتح اللشكري فإنّه خرج إلى عمله بتكريت فلمّا وصل إليها امتدّ إلى ناصر الدولة فقبله وأكرمه وقلّده تكريت من قبله وردّه إليها.

وأما ينال كوسه فكاتب الأمير أبا الحسين ابن بويه.

وأخرج ابن شيرزاد تكين الشيرزادى إلى الجبل فهزمه أصحاب أبي على أبي محتاج وانصرف إلى بغداد.

ذكر الخبر عن مسير أبي الحسين أحمد بن بويه إلى بغداد

ورد الخبر بدخول ينال كوسه في طاعة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وأنّ الأمير قد تحرّك من الأهواز يريد الحضرة فاضطرب الأتراك والديلم ببغداد وأخرجوا مضاربهم إلى المصلّى وعسكروا هناك وأخرج أبو جعفر مضربه معهم.

ثم ورد الخبر بنزول الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه باجسرى فزاد الاضطراب ببغداد واستتر ابن شيرزاد واستتر المستكفي بالله فكانت امارة ابن شيرزاد ثلاثة أشهر وعشرين يوما.

فلمّا وقف الأتراك على استتارهما عبروا إلى الجانب الغربي وساروا إلى الموصل فلمّا سار الأتراك ظهر المستكفي بالله وعاد إلى دار الخلافة.

وورد أبو محمد الحسن بن محمد المهلّبي صاحب الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه ولقي ابن شيرزاد حيث هو مستتر وفاوضه ثم انحدر إلى دار السلطان ولقي المستكفي بالله فأظهر المستكفي بالله سرورا بموافاة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه وأعلمه أنّه إنّما استتر من الأتراك لينحلّ أمرهم فيحصل الأمر للأمير أحمد بن بويه بلا كلفة.

المستكفي يلقب الإخوان بمعز الدولة وعماد الدولة وركن الدولة

فلمّا كان يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة نزل الأمير أبو الحسين في معسكره بباب الشمّاسية ووصل إلى المستكفي بالله ووقف بين يديه طويلا وأخذت عليه البيعة للمستكفي بالله واستحلف له بأغلظ الأيمان وأدخل في اليمين الصيانة لأبي أحمد الشيرازي كاتبه، ولعلم قهرمانته، ولأبي عبد الله ابن أمّ موسى وللقاضي أبي السائب ولأبي العباس أحمد بن خاقان الحاجب ووقعت الشهادة على المستكفي بالله وعلى الأمير أبي الحسين.

فلمّا فرغ من اليمين سأل الأمير أبو الحسين المستكفي بالله في أمر ابن شيرزاد واستأذنه في أن يستكتبه فآمنه وأذن له في ذلك.

ثم لبس الأمير الخلع وكنّى ولقّب بمعز الدولة ولقّب أخوه أبو الحسن علي بن بويه بعماد الدولة وأخوه أبو على الحسن بن بويه بركن الدولة وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم وانصرف بالخلع إلى دار مونس.

ونزل الديلم والجيل والأتراك دور الناس فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسما عليهم إلى اليوم.

ذكر كتابة ابن شيرزاد لمعز الدولة أبي الحسين

ظهر أبو جعفر ابن شيرزاد من استتاره ولقي معزّ الدولة ودبّر أمر الخراج وجباية الأموال. وقبض الأمير أبو الحسين على أبي عبد الله الحسين بن علي بن مقلة وذلك لوصول رقعة له إليه يطلب فيها مكان ابن شيرزاد.

ذكر الخبر عن قبض معز الدولة على المستكفي بالله

كان السبب الظاهر أنّ علما قهرمانته دعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الديلم فاتهمها الأمير معز الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمستكفي بالله وأن ينقضوا رياسة معز الدولة عليهم ويطيعوه دونه فساء ظنّه لذلك ولما رأى من جسارتها وإقدامها على قلب الدول.

ثم قبض المستكفي بالله على الشافعي رئيس الشيعة من باب الطاق فشفع فيه اصفهدوست فلم يشفّعه فأحفظه ذلك وذهب إلى معز الدولة وقال:

« راسلني الخليفة في أن ألقاه متنكرا في خفّ وإزار. » فنتج من ذلك وغيره مما لم يظهر خلعه من الخلافة.

فلمّا أن كان يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة انحدر الأمير معز الدولة إلى دار السلطان وانحدر الناس على رسمهم.

فلمّا جلس المستكفي بالله على سريره ووقف الناس على مراتبهم دخل أبو جعفر الصيمري وأبو جعفر ابن شيرزاد فوقفا في مرتبتهما ودخل الأمير معز الدولة فقبّل الأرض على رسمه ثم قبّل يد المستكفي بالله ووقف بين يديه يحدثه ثم جلس على كرسيّ وأذن لرسول كان ورد من خراسان ورسول ورد من أبي القاسم البريدي. فتقدّم نفسان من الديلم فمدّا أيديهما إلى المستكفي بالله وعلا صوتهما فارسية فظنّ أنهما يريدان تقبيل يده فمدّها إليهما فجذباه بها وطرحاه إلى الأرض ووضعا عمامته في عنقه وجرّاه.

فنهض حينئذ معز الدولة واضطرب الناس وارتفعت الزعقات وقبض الديلم على أبي أحمد الشيرازي وعلى ابن أبي موسى الهاشمي ودخلوا إلى دار الحرم فقبضوا على علم القهرمانة وابنتها وتبادر الناس إلى الباب من الروشن فجرى أمر عظيم من الضغط والنهب.

وساق الديلميان المستكفي بالله ماشيا إلى دار معز الدولة واعتقل فيها ونهبت دار السلطان حتى لم يبق فيها شيء وانقضت أيام خلافة المستكفي بالله.

وأحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله إلى دار الخلافة في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وخوطب بالخلافة وبويع له ولقب المطيع لله.

خلافة المطيع لله ذكر خلافة المطيع لله وما جرى عليه من الأمور

وقام له ابن شيرزاد في تدبير الأمور والأعمال بمقام الوزراء من غير تسمية بوزارة واستخلف على كتابته على خاص أمره أبا الحسن طازاذ بن عيسى واستحجب المطيع لله أبا العباس ابن خاقان.

وأقام له الأمير معز الدولة لنفقته كل يوم ألفى درهم وكتب بخبر تقلده الخلافة إلى الآفاق.

وتمّ الصلح بين الأمير معزّ الدولة وبين أبي القاسم البريدي وتسلّم ابن البريدي واسطا وضمن البقايا بها بألف ألف وستمائة ألف درهم واستخلف بالحضرة أبا القاسم عيسى بن علي بن عيسى.

وطلب الأمير معز الدولة ابن شيرزاد برهينة لأنّه تبيّن منه تبليحا في أمر المال ولم يأمن أن يهرب واضطرب أبو جعفر وسأل الأمير أن يقرضه ما يمشى به أمره فدفع إليه عدة من مراكب ذهب وفضّة على أن يردّ مكانها.

فتسلّم أبو جعفر ذلك وسلّم أخاه أبا الحسن زكريا رهينة.

وكان وصف للأمير معز الدولة كفاية أبي الفرج ابن أبي هشام وشهامته فأوصله إلى حضرته وأنس به ولطف محلّه وردّ إليه أمر الضياع الخراب بالسواد وكلّفه عمارتها.

قال ثابت: وأخبرني أبو الفرج أنّه قال لمعزّ الدولة:

« لججت أيها الأمير في أمر أبي جعفر ابن شيرزاد في أن يكتب لك وراجعت الخليفة المستكفي بالله دفعات حتى أذن، فبأيّ سبب طننت أنّه لا مثيل له في الوقت في صناعته فإنّه ما كان صانعا أمر كتّاب الرسائل وأمر كتّاب الخراج وإنّما ولى ديوان النفقات مرّة وكتب لابن الخال وكان امرءا متوسطا وما عدّه كتاب الحضرة وأصحاب دواوينهم في الكفاة وأهل الصناعة. » قال، فقال:

« أنت صادق فإني ما سألت عنه أحدا فقال فيه إلّا مثل قولك ولمّا رأيت لحيته قلت: هذا بأن يكون قطّانا أولى منه أن يكون كاتبا. ولكن وجدته وقد تقلّد الإمارة ببغداد واستولى على الخلافة وصار لي نظيرا ولملوك الأطراف وتصوّره الرجال بصورة من يصلح أن يرؤسهم ومن يعقدون له على نفوسهم فأردت أن أحطّه من هذه الحال إلى أن أجعله كاتبا لغلام لي أو عاملا على بلد. » وكان الأمير معز الدولة قد أخرج موسى فياذه وينال كوسه في يوم الجمعة لتسع بقين من رجب إلى عكبرا مقدّمة له إلى الموصل. فلمّا سارا أوقع ينال كوسه وابن البارد بموسى فياذه وأخذوا سواده ومضوا إلى ناصر الدولة.

وفي يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان استتر أبو جعفر ابن شيرزاد وأسلم أخاه أبا الحسن زكريا.

ابتداء الحرب بين ناصر الدولة وبين معز الدولة

ونزل ناصر الدولة ومعه الأتراك بسر من رأي لأربع بقين من شعبان وابتدأت الحرب بينه وبين أصحاب معز الدولة بعكبرا وسار معزّ الدولة يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان ومعه الخليفة المطيع لله إلى عكبرا.

وظهر أبو جعفر ابن شيرزاد ومضى فتلقى أبا العطّاف جبير بن عبد الله بن حمدان أخا ناصر الدولة فإنّه وافى بغداد ونزل باب قطربّل فنزل معه أبو جعفر ابن شيرزاد ولؤلؤ وجماعة من العجم.

ولقيه أهل بغداد ودبّر الأمور أبو جعفر ابن شيرزاد من قبل ناصر الدولة والحرب متصلة بين معز الدولة وناصر الدولة بسرّ من رأى ونواحيها.

فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان وافى ناصر الدولة إلى بغداد فنزل في الجانب الغربي أسفل قطربّل بعد أن أحرق خزائن نفسه وأصحابه التي في الزواريق لظهور الديلم عليه وخلف أبا عبد الله الحسين بن حمدان في الحرب.

ثم عبر أصحاب معز الدولة الديلم من الجانب الشرقي من سرّ من رأى إلى الجانب الغربي من دجلة وساروا إلى تكريت ونهبوها ثم صار بهم إلى سرّ من رأى ونهبوها ثم عبر جميعهم مع معز الدولة إلى الجانب الغربي من دجلة والخليفة معهم وساروا منحدرين إلى بغداد وبإزائهم أبو عبد الله الحسين بن سعيد والأتراك في الجانب الشرقي.

فلمّا حصل معز الدولة في الجانب الغربي عبر ناصر الدولة إلى الشرقي ونزل في رقّة الشمّاسية واجتمع مع الأتراك وما خطب ناصر للمطيع لله ولا ذكر اسمه ولا كنيته في الخطب.

وفي يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان أوقع أبو عبد الله الحسين بن سعيد بعسكر معز الدولة في الماء فغرق منهم وملك آلات الماء التي كانت معهم.

ولمّا كان يوم الخميس لليلتين خلتا من شوّال وجّه ناصر الدولة بخمسين رجلا من الديلم الذين كانوا في جملته إلى الجانب الغربي من بغداد في جملة الجيش الذين عبر بهم لمحاربة معزّ الدولة.

فلمّا صاروا على الخندق الذي في قطيعة أم جعفر وخاطبوا الديلم الذين مع معزّ الدولة يريدون أن يعبروا الخندق ليستأمنوا إلى ناصر الدولة فأفرجوا لهم عن الخندق حتى عبروه وقلبوا تراسهم على جيش ناصر الدولة وحاربوه وأوقعوا به فانهزم أصحاب ناصر الدولة بأسرهم.

وحصل القرامطة من أصحاب ناصر الدولة وتكين الشيرزادى وغيره من قوّاده محدقين بعسكر معزّ الدولة في الجانب الغربي فلم يكن يقدر معز الدولة على تناول شيء من علف ولا غيره فلحق أهل الجانب الغربي غلاء شديد وعدموا الأقوات.

وكان أبو جعفر الصميرى لتشاغله بأمر الحرب قد ردّ خدمة معز الدولة والقيام بما يحتاج إليه هو وحاشيته وأسبابه إلى أبي على الحسن بن هارون.

فحدثني أبو على هذا أنّه اشترى للأمير معز الدولة كرّ دقيق حوّارى بعشرين ألف درهم.

وتعذّر على الناس العبور من الجانب الغربي إلى الشرقي ومن الشرقي إلى الغربي لمنع ناصر الدولة من ذلك ولحق الناس في السواد من الجانبين ضرر عظيم بتسلط الجند على غلّاتهم فإنّهم كانوا يحصدونها ويدرسونها ويحملونها إلى معسكرهم.

سعر الخبز في الجانبين

وكان السعر في الجانب الشرقي في خمسة أرطال خبز بدرهم لورود الزواريق من الموصل بالدقيق وبقي السعر في الجانب الغربي غاليا بعد إدراك الغلات لما ذكرنا فكان الرطل الواحد من الخبز بدرهم وربع إذا وجد وذلك لمنع ناصر الدولة ما يرد من الموصل أن يصل إلى الجانب الغربي ولأن أعرابه منتشرون في الجانب الغربي يحولون بين أصحاب معز الدولة وبين الغلّات.

وضرب ناصر الدولة دنانير ودراهم بسكة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة باسم المتقي لله وناصر الدولة وسيف الدولة.

واستعان ابن شيرزاد بالعامّة والعيّارين من بغداد على حرب معز الدولة والديلم وفرض قوما منهم وكان يركب كل يوم في الماء ومعه عدّة زبازب فيها أتراك فينحدر ويصعد في دجلة ويرمى من على الشطوط في الجانب الغربي من الديلم بالنشّاب.

وكان ناصر الدولة عبر بصافى التوزونى في ألف رجل لكبس معز الدولة وعسكره فلقيه اصفهدوست وأبو جعفر الصميرى فهزماه.

فكان جعفر بن ورقاء يقول وكان معهما:

« كنت أسمع أنّ رجلا واحدا يفي بألف رجل فلا أصدق حتى شاهدت اصفهدوست وحملته وهزيمته صافى وزمرته فصدقت بذلك. » وكان معز الدولة بنى زبازب في قطيعة أم جعفر وعددها نيف وخمسون فخرجت يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة إلى دجلة وكان غلمان معز الدولة يحاربون فيها من في زبازب ناصر الدولة من أصحابه وذكر أبو جعفر الصيمري أنّ الجهد كان قد بلغ منهم والحيل قد أعيتهم وضاق بهم الأمر حتى عزم معز الدولة على الرحيل إلى الأهواز وحمل أثقاله وقال:

« ترون في طريقنا العبور فإن أمكننا حيلة فيه وإلّا جعلنا وجهنا إلى الأهواز. » وتهيّأ أن عبر الصيمري واصفهدوست... تسعة نفر في سحر يوم السبت انسلاخ ذي الحجة إلى الجزيرة التي بازاء المخرّم وأرادوا العبور منها إلى الجانب الشرقي فعارضهم ينال كوسه معارضة يسيرة وتهيّأ لهم العبور وتبعهم أصحابهم فعبروا.

ذكر الحيلة التي تم بها عبورهم

كان معز الدولة رتّب هذه المعابر في الصراة ثم حدرها في الليل على شاطئ دجلة إلى موضع التمارين لأنّه أضيق موضع في دجلة ووافق وزيره الصيمري واصفهدوست وخواص ديلمه على العبور وأظهر هو أنّه يعبر من أعلى قطربّل. فمضى بالليل في وقت موافقتهم وضرب البوقات وسار بالمشاعل وحمل بعض تلك المعابر بالأوهاق على الظهر. فلمّا رأى أعداءه ذلك سار أكثرهم بإزائه لممانعته فتمكن الصيمري ومن معه من العبور وكان الصيمري أوّل من بذل نفسه لأنّ أصحابه تهيّبوا العبور فلمّا سبقهم أنفوا وتبعوه.

ثم عاد معز الدولة إلى هذا الموضع وقد أحسّ القوم بحيلته فتكاثروا بالزبازب ومنعوهم من العبور وغرّقوا ركوتين واشتدّت الحرب وانهزم الأتراك.

وكان ينال كوسه قد شرب ليلته ولمّا حصل جماعة من الديلم في الجانب الشرقي زعقوا بينال كوسه فانهزم ومضى أصحابه إلى باب الشماسيّة. واضطرب عسكر ناصر الدولة فوجّه ابن شيرزاد إلى ناصر الدولة: أنّ الصواب أن تركب لتلقى من عبر من الديلم.

فرد عليه في الجواب، أنّ العادة قد جرت بأنّى إذا ركبت انهزم الناس.

وأنّ الصواب أن يركب هو. فركب أبو جعفر ورأى الناس قد ركب بعضهم بعضا وليس يلوى أحد على أحد ولا يقف فانهزم هو أيضا معهم وانهزم ناصر الدولة وملك الديلم الجانب الشرقي وأحرقوا ونهبوا وقتل من العامّة جماعة ومات منهم عدد كثير من رجال ونساء وصبيان لأنّ الخوف حملهم على الهرب لما كانوا قدّموه إلى الديلم من الشتم والحرب في أيام الفتنة فخرجوا حفاة في الحرّ الشديد ومشوا إلى عكبرا فماتوا في الطريق.

وجرى معز الدولة على عادته في الرأفة فأمر برفع السيف والكف عن النهب وأمن الناس وملك الجانبين.

ولما منعهم معز الدولة ونادى بالكفّ لم ينتهوا ولا كانت له قدرة على منعهم حتى ركب الصيمري فقتل جماعة وصلب بعض غلمان الديلم وواصل الطوف والحماية بنفسه حتى أمكنه تسكين الجند وحزر ما انتهب فكان مقداره عشرة آلاف ألف دينار وذاك ان القصد وقع على مواضع التجار وحيث الأموال والأمتعة.

ومضى ناصر الدولة وابن شيرزاد والأتراك التوزونيّة مصعدين إلى عكبرا فلمّا استقروا بها راسل ناصر الدولة الأمير معز الدولة يلتمس الصلح في آخر المحرّم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

وكان ناصر الدولة فعل ذلك بغير علم الأتراك فلمّا وقفوا على ذلك أرادوا الوثوب به وهمّوا به فرقى إليه الخبر وصحّ عنده ما عزموا عليه، فهرب منهم ومضى مغذّا مسرعا نحو الموصل وتركهم.

وكتب معز الدولة بالفتح عن المطيع لله كتابا نفذ إلى الأمير عماد الدولة وإلى سائر الأطراف.

حيلة غريبة ينبغي أن يحترز من مثلها

ومن أطرف الأمور وأعجبها أنّ رجلا قصد مضرب ناصر الدولة وهو بباب الشمّاسية بإزاء معسكر معز الدولة فدخله بالليل ودخل خيمته وهو نائم فيها ولم يشعر به الحرّاس ولا الحجّاب ولا البوّابون ولا الخدم ومضى حتى عرف موضعه وشاهده وهو نائم وعرف موضع رأسه من المخدّة ورجع ليطفئ السراج وشمعة كانت بقربه خارج الخيمة فيعود فيضع السكين في موضع حلقه.

فاتّفق أن انقلب ناصر الدولة في نومه ولمّا رجع الرجل لإطفاء الشمعة من جنب إلى جنب. فأطفأ الرجل الشمعة وعاد وقد أظلم الموضع فوضع سكّينه في الموضع الذي كان فيه تقديره وما شكّ أنّ السكين يقع في حلقه فبقى السكين مغرّزا في المخدّة مكان رأس ناصر الدولة وعند الرجل أنّه قد قتله، وخرج من المضرب ولم يعلم به أحد وانتبه ناصر الدولة ورأى السكين وطلب الرجل فلم يلحق وشاع الخبر فصار الناس إلى ناصر الدولة للتهنئة بالسلامة.

ومضى الرجل إلى معز الدولة ليبشّره بأنّه قد قتله واستشرحه ما عمل فشرحه له فقال معز الدولة:

« مثل هذا لا يؤمن. » وسلّمه إلى الصيمري ليحبسه فقتله الصيمري.

الغلاء جعل الناس سباعا

وفي هذه السنة أفرط الغلاء حتى عدم الناس الخبز البتة وأكل الناس الموتى والحشيش والميتة والجيف وكانت الدابة إذا راثت اجتمع على الروث جماعة ففتّشوه ولقطوا ما يجدون فيه من شعير وأكلوه وكان يؤخذ بزر قطونا ويضرب بالماء ويبسط على طابق حديد ويجعل على النار حتى يقبّ ويؤكل ولحق الناس من ذلك في أحشائهم أورام ومات أكثرهم ومن بقي كان في صورة الموتى.

وكان الرجل والمرأة والصبيّ يقف على ظهر الطريق وهو تالف ضرّا فيصيح الجوع الجوع إلى أن يسقط ويموت. وكان الإنسان إذا وجد اليسير من الخبز ستره تحت ثيابه وإلّا استلب منه، ولكثرة الموتى وأنّه لم يكن يلحق دفنهم كانت الكلاب تأكل لحومهم. وخرج الضعفى إلى البصرة خروجا مفرطا متتابعين لأكل التمر فتلف أكثرهم في الطريق ومن وصل منهم مات بعد مديدة.

ووجدت امرأة هاشمية قد سرقت صبيا فشوته وهو حيّ في تنوّر فأكلت بعضه وظفر بها وهي تأكل البعض الباقي فضربت عنقها. وكانت الدور والعقارات تباع برغفان ويأخذ الدلال بحق دلالته بعض ذلك الخبز. ووجدت امرأة أخرى تقتل الصبيان وتأكلهم ثم فشا ذلك فقتلت عدّة منهنّ.

ولمّا زالت الفتنة ودخلت الغلات الجديدة انحلّ السعر.

توالى الناظرين في أعمال الخراج

ولما استتر ابن شيرزاد نظر أبو جعفر فيما كان ينظر فيه ابن شيرزاد ثم قلد الأمير معز الدولة والصيمري الحسن بن علي بن مقلة ما كان أبو جعفر ينظر فيه من أعمال الخراج وجباية الأموال.

شغب الديلم على معز الدولة

وفي هذه السنة شغب الديلم على معز الدولة شغبا قبيحا وكاشفوه بالإسماع وخرقوا عليه بالسفه الكثير فضمن إطلاق أموالهم في مدة ضربها لهم فاضطرّ إلى خبط الناس واستخراج الأموال من غير وجوهها.

فاقطع قوّاده وخوّاصه واتراكه ضباع السلطان وضياع المستترين وضياع ابن شيرزاد وحق بيت المال في ضياع الرعية وصار أكثر السواد مغلقا وزالت أيدى العمّال عنه وبقي اليسير منه من المحلول فضمّن واستغنى عن أكثر الدواوين فبطلت وبطلت أزمّتها وجمعت الأعمال كلّها في ديوان واحد.

ذكر ما انتهى إليه هذا التدبير من سوء العاقبة وخراب البلاد وفساد العساكر وسوء النظام

إنّ التدبير إذا بنى على أصول خارجة عن الصواب وإن خفى في الابتداء ظهر على طول الزمان. ومثل ذلك مثل من ينحرف عن جادّة الطريق انحرافا يسيرا ولا يظهر انحرافه في المبدأ حتى إذا طال به المسير بعد عن السمت وكلّما ازداد إمعانا في السير زاد بعده عن الجادة وظهر خطاؤه وتفاوت أمره.

فمن ذلك أنّه أقطع أكثر أعمال السواد على حال خرابه ونقصان ارتفاعه وقبل عودته إلى عمارته. ثم سامح الوزراء المقطعين وقبلوا منهم الرشى وأخذوا المصانعات في البعض وقبلوا الشفاعات في البعض فحصلت الإقطاعات لهم بعبر متفاوتة.

فلمّا أتت السنون وعمرت النواحي وزاد الارتفاع في بعضها بزيادة الغلّات ونقص في بعضها بانحطاط الأسعار - وذلك أنّ الوقت الذي أقطع فيه الجند الإقطاعات كان السعر مفرط الغلاء للقحط الذي ذكرناه - فتمسّك الرابحون بما حصل في أيديهم من إقطاعاتهم ولم يمكن الاستقصاء عليهم في العبرة.

وردّ الخاسرون إقطاعاتهم فعوّضوا عنها وتمّمت لهم نقائصها واتّسع الخرق حتى صار الرسم جاريا بأن يخرب الجند إقطاعاتهم ثم يردّوها ويعتاضوا عنها من حيث يختارون ويتوصلون إلى حصول الفضل والفوز بالربح.

وقلّدت الإقطاعات المرتجعة من كان غرضه تناول ما يجده فيها ورفع الحساب ببعضه وترك الشروع في عمارتها ثم صار المقطعون يعودون إلى تلك الإقطاعات وقد اختلط بعضها ببعض فيستقطعونها بالموجود بعد تناهيها في الاضمحلال والانحطاط.

وكانت الأصول تذوب على ممر السنين ودرست العبر القديمة وفسدت المشارب وبطلت المصالح وأتت الجوائح على التنّاء ورقّت أحوالهم فمن بين هارب جال وبين مظلوم صابر لا ينصف وبين مستريح إلى تسليم ضيعته إلى المقطع ليأمن شرّه وبوائقه.

فبطلت العمارات وأغلقت الدواوين وأمحى أثر الكتابة والعمالة ومات من كان يحسنها ونشأ قوم لا يعرفونها ومتى تولّى أحدهم شيئا منها كان فيه دخيلا متجلّفا. واقتصر المقطعون على تدبير نواحيهم بغلمانهم ووكلائهم فلا يضبطون ما يجرى على أيديهم ولا يهتدون إلى وجه تثمير ومصلحة ويقطعون أموالهم بضروب الإفساد واعتاض أصحابهم مما يذهب من أموالهم بمصادراتهم وبالحيف على معامليهم.

وأنصرف عمّال المصالح عنها لخروج الأعمال عن يد السلطان ووقع الاقتصار في عملها على أن يقدّر ما يحتاج إليه لها ويقسّط على المقطعين تقسيطات يتقاعدون بها وبأدائها وإن أدّوها وقعت الخيانة فيها فلم تنصرف إلى وجوهها.

وقلّ حفل الناظرين بالحوادث تعويلا على أخذ ما صفا وترك ما كدر والرجوع على السلطان بالمطالبة وردّ ما تخرب على أيديهم من الإقطاعات وفوّض تدبير كل ناحية إلى بعض الوجوه من خواص الديلم فاتخذه مسكنا وطعمة والتحف عليهم المتصرفون الخونة وصار غرض أحدهم الترجية والتمشية والدفع من سنة إلى سنة.

وعقدت النواحي الخارجة من الاقطاعات على طبقتين من الناس إحداهما أكابر القواد والجند والأخرى أصحاب الدراريع والمتصرفون فأمّا القوّاد فإنّهم حرصوا على جمع الأموال وحيازة الأرباح ودعوى المظالم والتماس الحطائط فان استقصى عليهم صاروا أعداءهم.

ولمّا كثرت أموالهم وانفتقت بهم الفتوق خرج منهم الخوارج وإن سومحوا استشرى طمعهم ولم يقفوا منه عند غاية.

وأمّا أصحاب الدراريع فكانوا أهدى من الجندي إلى تغريم السلطان والحيلة عليه في كسب الأموال ونظر بعضهم إلى بعض فيما تجرى عليه معاملاتهم وبذلوا المرافق واعتصموا بالوسائل ووجب أن يجمع الناس حكم واحد.

وتوالت السنون عليهم فتفردوا بنواحيهم وخلوا بمعامليهم فمن مستضعف يصادر ويغيّر رسمه وتنقص معاملته على قدر حاله وماله ومن مانع جانبه فيخفّف عنه الرسوم ويرتفق على ذلك منه بالأموال ويتخذه الضامن عضدا في شدائده وعند مناظرة سلطانه ويصطلم المستضعفين.

فبطل أن ترفع إلى الدواوين جماعة أو تعمل لعامل مؤامرة أو يسمع لأحد ظلامة أو يقبل من كاتب نصيحة واقتصر في محاسبة الضمناء على ذكر أصول العقد وما صح منه وبقي من غير تفتيش عما عوملت به الرعية وأجريت عليه أحوالها من جور أو نصفة من غير إشراف على احتراس من الخراب أو خراب يعاد إلى العمارة وجبايات تحدث على غير رسم ومصادرات ترفع على محض الظلم وإضافات إلى الارتفاع ليست بعبرة وحسبانات في النفقات لا حقيقة لشيء منها ومتى تكلم كاتب من الكتاب في شيء من ذلك فكان ذا حال ضمن ونكب واجتيح وقتل وباعه السلطان بالتطفيف. وإن كان ذا فاقة وخلّة أرضى باليسير فانقلب وصار عونا للخصم ولم يكن في ذلك بملوم لانّ سلطانه لا يحميه إذا خاف ولا ينصره إذا قال.

فهذه جملة الحال في ضياع الدخل فأمّا الخروج فإنّ النفقات تضاعفت وسوق الدواوين أزيلت والأزمّة بطلت إلى غير ذلك من أمور يتّسع فيها القول ويقتضى بعضها سياقة بعض فاقتصرنا على الإشارة دون التطويل.

معز الدولة يركب الهوى في أمور الغلمان

ثم ركب معز الدولة الهوى في أمور غلمانه فتوسّع في إقطاعاتهم وزياداتهم وأسرف في تمويلهم وتخويلهم فتعذّر عليه أن يذخر ذخيرة لنوائبه أو أن يستفضل شيئا من ارتفاع ولم تزل مؤونته تزيد ومواده تنقص حتى حصل عليه عجز لم يكن واقفا على حدّ منه بل يتضاعف تضاعفا متفاقما وأدى ذلك على مرّ السنين إلى الإخلال بالديلم فيما يستحقون من أموالهم وداخلتهم المنافسة للأتراك من أجل حسن أحوالهم.

وقادت الضرورة إلى ارتباط الأتراك وزيادة تقريبهم والاستظهار بهم على الديلم وبحسب انصراف العناية إلى هؤلاء ووقوع التقصير في أمور أولئك فسدت النيّات وفسد الفريقان أما الأتراك فبالطمع والضراوة وأمّا الديلم فبالضرّ والمسكنة واشرأبّوا إلى الفتن وصارت هذه المعاملة لقاحا لها وسببا لوقوع ما وقع فيها مما سنذكر جملا منه في مواضعها بمشيئة الله.

نوح بن نصر يقبض على إخوة ابن محتاج ويقتل بعضهم

وفي هذه السنة سملت علم القهرمانة وقطع بعد ذلك لسانها.

وفيها ورد الخبر بأنّ نوحا صاحب خراسان قبض على إخوة أبي على ابن محتاج وقتل بعضهم.

ذكر السبب في ذلك

لما انهزم ابن محتاج من بين يدي ركن الدولة بعد أن كان ضمن لصاحب خراسان فتح الري أمدّه صاحبه بابن ملك وجماعة من نظرائه وقوّاده وبالغ في تقويته فسار في عدّة وعدّة وافرة.

فكاتب ركن الدولة عماد الدولة وسأله المدد فأمره أن يخلى لهم الطريق ويصير إليه وأعلمه أنّ له تدبيرا في ذلك ففعل ركن الدولة ذلك ودخل الخراسانية الري.

فراسل عماد الدولة صاحب خراسان سرّا يعرّفه قلة جدوى الرّى عليه مع ما يلتزمه من النفقات على العساكر العظيمة وأنّ الاستيحاش بينهما زائد مع ذلك ويسأله أن يزيل هذه الوحشة بأن يضمنه أعمال الريّ عشر سنين بمثل ما تقرّر عليه بينه وبين ابن محتاج وزيادة مائة ألف دينار في كلّ سنة على أن يسلفه مال سنة. وسأله إنفاذ ثقة من ثقاته ليوقع العهد معه ويحمل المال على يده وأنّه يعاونه بعد ذلك على ابن محتاج حتى يظفر به.

فوردت هذه الرسالة على نوح بن نصر ونيّته فاسدة لابن محتاج وتطلعت نفسه إلى تحصيل المال فشاور ثقاته وكلهم أضداد وأعداء لابن محتاج فأشاروا عليه بقبول ما بذله عماد الدولة فأظهر حينئذ ما كان في نفسه وقبض على إخوة أبي عليّ ابن محتاج وأهله وأسبابه وقتل بعضهم.

وأنفذ إلى عماد الدولة عليّ بن موسى المعروف بالزرّاد وكان من قوّاده وأكابر حاشيته فسار على الجمازات واستقبله عماد الدولة وأكرمه وواصل إليه العطايا والتحف وماطله فيما ورد له.

وراسل أبا عليّ ابن محتاج يعلمه خبر هذا الرسول ويطلعه على ما ورد له وقرر في نفسه أنّه على عهده محافظ على وده وحذره من غدر نوح وخوفه منه فحينئذ أنفذ ابن محتاج رسوله إلى إبراهيم بن أحمد وهو عمّ نوح وكان إذ ذاك بالموصل أحد قوّاد ناصر الدولة فعرّفه أنّه قد عقد له الرياسة وأخذ له البيعة على أصحابه على أن يكون إليه خراسان ويمضى معه فيحاربان نوحا ويؤكد عليه أن يعجل إليه.

فرغب إبراهيم بن أحمد في ذلك واستأذن ناصر الدولة في المضي فقال له:

« نحن على المصير إلى بغداد فانتظر حتى ندخلها فإذا دخلناها قلّدك الخليفة وخلع عليك من داره وعقد لك لواء فيكون أعزّ لك وأقوى لأمرك. » وكان هذا في آخر أيام المستكفي بالله فعمل إبراهيم بن أحمد على ذلك فلمّا طالت المدة وحدث على المستكفي بالله الحادثة وانحدر ناصر الدولة إلى بغداد تتابعت رسل أبي على ابن محتاج إلى إبراهيم فعبر تكريت في سبعين غلاما ومضى إلى دقوقا ومنها إلى طريق خراسان.

ثم وردت كتبه من الريّ على ناصر الدولة بأنّه سائر إلى نيسابور لمحاربة ابن أخيه نوح فأنفذ إليه ناصر الدولة خلعا سلطانية ولواء عقده له عن الخليفة المطيع لله وحمل إليه ذلك مع خجخج المسمول فتطير الناس له من ذلك وقالوا أنّه لا يتمّ أمره.

ولمّا بلغ أبا على مسير إبراهيم تلقاه الى همذان وعاهده على السمع والطاعة والنصيحة وعاد معه إلى الريّ ثم نهضا جميعا إلى خراسان وكتب كتابا إلى ركن الدولة بانّه سائر إلى خراسان وأنّه قد أفرج له عن الريّ فكتب عماد الدولة إلى أخيه ركن الدولة بالمسير إليها فبادر إلى ذلك واضطرب خراسان على نوح بن نصر.

ذكر ما تم من الحيلة لعماد الدولة في تلك الحال

لمّا فرغ عماد الدولة من التضريب بين ابن محتاج وبين صاحبه وتمّت المكاشفة بالعداوة بينهما بادر بردّ الزراد رسول صاحب خراسان على نوح برسالة يقول فيها: إنّه قد ظهر ما كان ينذره به من سوء نية ابن محتاج وسعيه عليه وأنّه لمّا كاشفه بالحرب مع عمه إبراهيم أنفذ أخاه ركن الدولة إلى عسكره حتى إذا سارت جيوش نوح بن نصر إلى عمّه وإلى ابن محتاج واحتاج إلى أن يسير ركن الدولة من ورائهم معاونا له عليهما فعل ذلك.

وأقبل نوح إلى نيسابور في عساكره وجميع من معه من أصحاب جيوشه ورجاله فبرز له إبراهيم وابن محتاج فحارباه وكسراه وأسرا إبراهيم بن سمجور ومنصور بن قراتكين وعددا كثيرا من قوّاده واستأمن أكثر جيشه وانصرف نوح مفلولا على حال سيّئة من الضعف والحيرة واتبعه إبراهيم وابن محتاج وحملا معهما إبراهيم بن سمجور ومنصور بن قراتكين أسيرين واستمرّت بنوح الهزيمة إلى سمرقند فدخل إبراهيم بن أحمد بخارى واشتمل على الخزائن والذخائر وذلك في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.

وكتب ابن محتاج إلى عماد الدولة يبشّره بما جرى ويسأله تجديد أمر السلطان لإبراهيم ابن أحمد بالخلع والعقد له على خراسان.

ذكر ما انتهى إليه أمر إبراهيم وابن محتاج مع نوح بن نصر وما اتّفق من الأسباب التي أعادت نوحا إلى سريره ومقرّ عزّه بخراسان

كان سبب ذلك أنّ إبراهيم أصغى إلى قوم حساد لأبي عليّ ابن محتاج فكانوا يوهمونه أنّ أبا عليّ إنّما استعان به ليجتمع له جيوش خراسان فإذا فرغ من نوح عطف عليه فعامله بمثل ما عامل به نوحا وأنّ الصواب له أن يحترز منه.

فوقر ذلك في نفس إبراهيم وأطلق ابن سمجور وابن قراتكين وخلع عليهما من غير رأى أبي عليّ ابن محتاج فاستوحش ابن محتاج وانقبض عن إبراهيم وتمكن ابن سمجور وابن قراتكين من استمالة الجند وكاتبا نوحا وتردّدت الرسل بينهم سرّا.

ثم إنّ نوحا سار إلى ثغور خراسان فجمع منها جيشا واستخرج أموالا وعاد إلى بخارى فملكها وقهر عمّه وحصل أسيرا في يده فسمله وسمل جماعة من أهل بيته.

ذكر الحيل التي تمت لنوح على عمه حتى تمكن منه ومن عسكره

كان إبراهيم وابن محتاج خرجا إلى ظاهر بخارى وعسكرا بموضع يقال له: ريكستان، فبينما هم نزول إذ صاح صائح في الميدان الذي بحذاء دار الامارة ببخارى:

« نوح يا منصور. » واجتمع إليه طائفة من الحشم.

ثم إنّ نوحا زحف إلى عمّه إبراهيم وكان يدبّر أمره ابن أبي داود البلخي فاحتال على تقوية قلوب أصحابه بأن أعلمهم أنّ مددا كثيرا قد أقبل إليهم وهم يلحقون في الليل وكانت الحرب قد وقعت في ذلك اليوم فكانت على نوح.

فلمّا كان في الليل أنفذ طائفة من عسكره مع مراكبهم وأمرهم بالإبعاد، فإذا كان في الثلث الآخر من الليل ضربوا بطبولهم وبوقاتهم ودبادبهم ودخلوا العسكر في صورة المدد، ففعلوا ذلك فلم يزالوا إلى الصبح يدخلون العسكر على هذه الصورة.

فلمّا أصبحوا وتصافّوا للحرب استأمن الديلم الذين كانوا مع إبراهيم وانهزم قوم من أصحابه وانهزم أبو عليّ ابن محتاج وظفر نوح بإبراهيم وعامله بما ذكرت.

وفي هذه السنة مات أبو بكر محمد بن طغج الأخشيد وتقلّد مكانه ابنه أبو القاسم بوجور وغلب كافور الخادم الأسود وكان خادم الأخشيد على الأمر.

وفيها مات علي بن عيسى عن تسعين سنة.

ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة

ذكر توثق معز الدولة من المطيع لله

لما اجتمع لمعز الدولة أمر بغداد في هذه السنة زاد في التوثّق من أمير المؤمنين المطيع لله، فاستحلفه بيمين عظيمة ألّا يتغيّب عن معز الدولة ولا يبغيه سوءا ولا يمالئ له عدوّا. فلمّا حلف أزال عنه التوكيل وعاد إلى دار الخلافة.

واعتزل أبو على الحسن بن هارون النظر في الأمور لتحامل الصيمري عليه ومصادرة كاتبه فردّ النظر في الأعمال إلى أبي الحسين علي بن محمد بن مقلة من قبل أبي جعفر الصيمري ورعى له معز الدولة مكاتبته له أيام مقامه في الجانب الغربي. فلمّا عبر معز الدولة ولقيه لزمه ثم ردّ في هذا الوقت إليه النظر في الأمور وقلّد كتبة الخليفة أبو أحمد الفضل ابن عبد الرحمن الشيرازي وسلّمت إليه ضياع الخدمة ارتفاع مائتي ألف دينار في السنة.

خبر دخول ركن الدولة الري وملكه الجبل بأسره

وفيها ورد الخبر في المحرّم بدخول الأمير ركن الدولة الريّ وأنّه ملك الجبل بأسره.

التماس ناصر الدولة الصلح من معز الدولة

وفيها ورد أبو بكر ابن قرابة من عكبرا برسالة ناصر الدولة يلتمس فيها من معز الدولة الصلح وقد كان تردّد قبل هذه الوقعة مرات فتقرّر أمر الصلح على أن يكون في يد ناصر الدولة من حد تكريت إلى فوق ويضاف إلى أعماله مصر والشام على أن لا يحمل عن الموصل وديار ربيعة شيئا ممّا كان يحمله من المال ويكون الذي يحمله عن مصر والشام ما كان يحمله الأخشيد محمّد بن طغج عنهما وعلى أن يدرّ ناصر الدولة الميرة إلى بغداد ولا تؤخذ لها ضريبة، وحلف معز الدولة بحضرة الخليفة والقضاة على ذلك والوفاء به.

وأنفذ القضاة مع ابن قرابة إلى معز الدولة لالتماس الصلح بغير موافقة منه للأتراك ولا علم منهم فلمّا علموا بذلك وظهر أمر الصلح اجتمع الأتراك للإيقاع به وأحسّ ناصر الدولة بذلك فخرج بالليل وعبر إلى خيمة ملهم.

وكان ملهم والقرامطة في الجانب الغربي والأتراك وناصر الدولة في الجانب الشرقي واستجاره فأجاره وسيّره في الجانب الغربي ومعه ابن شيرزاد وبقي الأتراك في الجانب الشرقي.

فلمّا فاتهم ناصر الدولة اجتمعوا على تأمير تكين الشيرزاذى وقبضوا على أبي بكر ابن قرابة بعد أن نزل به مكروه عظيم وقبضوا على كتّاب ناصر الدولة وأسبابه وساروا يطلبونه واستأمن ينال كوسه ولؤلؤ إلى معز الدولة وأسرع ناصر الدولة في سيره فلم يلحقه الأتراك.

ولما صار إلى مرج جهينة قبض على ابن شيرزاد وسلّمه وعلى طازاذ وعلى أبي سعيد ووهب بن إبراهيم وجوهر خادم ابن شيرزاد وأنفذ جماعتهم إلى القلعة.

ولم يتلبّث ناصر الدولة ومضى إلى نصيبين ورحل تكين الشيرزاذى والأتراك إلى الموصل وغلبوا عليها ثم ساروا في طلبه فمضى إلى سنجار فتبعوه وكتب إلى معز الدولة يستصرخه فأنفذ إليه معزّ الدولة جماعة من قوّاده ثم أنفذ إصفهدوست بعدهم ثم أخرج الصيمري.

ولمّا سار تكين الشيرزادى إلى سنجار في طلب ناصر الدولة سار من سنجار إلى الحديثة فتبعه تكين إلى الحديثة فلمّا قرب منه سار ناصر الدولة إلى السن وهناك لحق به جيش معز الدولة وأبو جعفر الصيمري وإصفهدوست فساروا بأسرهم إلى الحديثة للقاء تكين الشيرزادى.

ووقعت الوقعة بالحديثة وكانت شديدة فانهزم تكين وتقطع أصحابه واستؤسر منهم وجوه القوّاد وجماعة من الأصاغر وقتل منهم خلق بعد أن كان استعلى واستظهر في الحرب.

ذكر السبب في هزيمة تكين والظفر به بعد استعلائه

كانت العرب على كثرة عددهم في عسكر الصيمري ينقضون صفوف الديلم ولا يصدقون اللقاء فقال لهم الصيمري:

« اعتزلوا عنّا ولا تدخلوا بيننا وانظروا فإن انهزم واحد منهم فاتبعوه وإن ثبت فدعونا وإيّاه ما دام ثابتا واعلموا أنّكم إذا قربتم منّا واختلطتم بمصافنا بدأنا بكم قبل أعدائنا ».

ففعلوا واعتزلوا وصبر الفريقان وحمل الأتراك حملات شديدة ثبت لها الديلم ثم وثبوا في وجوه الأتراك فلمّا ولّوا حمل عليهم العرب ووضعوا الرماح بين ظهورهم ونكّسوهم فأكثروا القتل والأسر.

ثم استأسر جنود تكين الشيرزادى فتقرّبوا به إلى ناصر الدولة فسمله للوقت وأنفذه إلى قلعة من قلاعه وسار ناصر الدولة وأبو جعفر إلى الموصل فنزل الصيمري في الجانب الشرقي بإزاء الموصل ودخل إليه ناصر الدولة وحصل عنده في خيمته وخرج من عنده وعبر إلى الموصل ولم يعد إليه بعدها.

فحكى عن ناصر الدولة أنّه قال:

« لمّا حصلت مع أبي جعفر الصيمري في خيمته ندمت وعلمت أنّى قد أخطأت وغررت فبادرت إلى الانصراف. » وحكى عن الصيمري أنّه قال:

« لمّا خرج من عندي ناصر الدولة ندمت على تركي القبض عليه وعلمت أنّى قد ضيّعت الحزم وأخطأت بعد أن فاتنى الصواب. » ثم تسلّم أبو جعفر الصيمري طازاذ ووهبا وجوهرا وألف كرّ حنطة وشعيرا وانحدر بهم إلى بغداد مع ابن لناصر الدولة رهينة يقال له هبة الله وأدخل ابن شيرزاد بعده بيوم إلى بغداد موكّلا به وصادره معزّ الدولة على خمسمائة ألف درهم ثم حمل ناصر الدولة تكين الشيرزادى مسمولا إلى معزّ الدولة فأحسن إليه معزّ الدولة وأطلقه وأقطعه إقطاعا.

حوادث أخر

وفيها خرج لشكرورز بن سهلان في جيش إلى الأهواز ومعه عامل خراج وظهرت الوحشة بين الأمير معز الدولة وبين أبي القاسم البريدي.

وقبض معزّ الدولة على ينال كوسه وكان استحجبه وعلى أرسلان كور وعلى فتح اللشكري وحملهم إلى قلعة رامهرمز.

وفي يوم الأحد لثمان خلون من شوّال ضرب الصيمري ابن شيرزاد بحضرته بالمقارع وطالبه بمال المصادرة وأنحدر الصيمري إلى الأهواز.

وفيها جرت وقعة بين أصحاب البريدي وبين أصحاب معزّ الدولة فكانت على البريدي وأسر منهم نحو مائتي رجل من وجوه الديلم.

ودخلت سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة

المطيع ومعز الدولة ينتزعان البصرة من يد البريدي

وفيها سار المطيع لله والأمير معز الدولة إلى البصرة وانتزعاها من يد أبي القاسم البريدي فسارا من واسط في البريّة على الطفوف فلمّا صاروا في البريّة ورد على الأمير معزّ الدولة رسول الهجريين القرامطة من هجر بكتاب منهم إليه بالإنكار عليه في سلوك البريّة من غير أمرهم إذ كانت لهم. فلم يجب عن الكتاب وقال للرسول:

« قل لهم: ومن أنتم حتى تستأذنوا في سلوك البريّة وكأنّى أنا أقصد البصرة إنّما قصدي بلدكم وإليكم بعد فتحى إيّاها وستعرفون خبركم ».

وكلام في هذا المعنى فانصرف الرسول.

وانحدر أبو جعفر الصيمري وموسى فياذه في الماء فملك مسماران ودخل دار البريدي بها بعد حرب يسيرة ووصل الخليفة والأمير معزّ الدولة إلى الدرهمية فاستأمن إليه جيش البريدي بأسره وهرب أبو القاسم البريدي إلى هجر وملك معزّ الدولة البصرة فأنحلت الأسعار كلّها ببغداد انحلالا شديدا.

وقبض معزّ الدولة على جميع قوّاد البريدي بالبصرة واستخرج أمواله وودائعه وقبض خزائنه وأحرق كل ما وجد له من آلات الماء من الشذاآت والطيارات والزبازب واستدعى لؤلؤا من بغداد فقلّده أعمال البصرة والحرب.

معز الدولة يصل إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة

ووصل معزّ الدولة من البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة وتأخّر الخليفة والصيمري بالبصرة.

وتأخرّ كوركير عن صحبة معزّ الدولة من غير موافقة وقيل: إنّه في التدبير عليه، وعقد الرياسة لنفسه فوجّه إليه بأبي جعفر الصيمري فامتنع عليه وحاربه في داره فظفر به أبو جعفر وقبض عليه وصار به إلى معزّ الدولة فأنفذه إلى القلعة برامهرمز.

ولقي معزّ الدولة أخاه عماد الدولة فقبل الأرض بين يديه واجتهد به عماد الدولة أن يجلس بين يديه فلم يفعل وكان يتردّد إليه كل يوم بالغداة والعشيّة فيقف ولا يجلس.

وقيل للأمير معزّ الدولة: إنّ عماد الدولة يريد أن يسأله في الإفراج عن رامهرمز وعسكر مكرم. فحكى أبو الحسن المافرّوخى أنّه كان مع معزّ الدولة وكان عماد الدولة ورد أرجان فالتقيا بها قال: فدعاني عماد الدولة وقال:

« بلغني أنّه حكى لأخي أنّى وافيت إلى هذا الموضع لارتجع منه بعض أعمال الأهواز. » وضرب بيده إلى لحيته وقال:

« سوءة لها، إن أنا تواضعت لهذه الحال من لي حتى أحتاج إلى استكثار البلاد وادّخار المال له؟ هذا وأخوه ابناى وإنّما أريد الدنيا لهما، والله ما وافيت إلّا لأعقد ما بينهما أمر الرياسة حتى لا يجرى خلاف إن حدثت بي حادثة فإني عليل كما ترى واسأله أن يقدّم الكبير على نفسه كما جرت العادة وبارك الله له في بلاده ولو أراد بعض فارس لوهبته له ولقد أصبحت وأمسيت وما مناي على الله إلّا العافية وسلامتهما وإبقاؤهما فإنّهما أخواى بالنسب وابناي بالتربية وصنيعتاى بالولايات ومن لي غيرهما فيقدّر ما يقدّر. » قال: « فعدت إلى معزّ الدولة وحدّثته بالحديث فبكى وحضر في آخر النهار عند عماد الدولة فأسرف في الشكر والدعاء وتذكر الكلام فبكى بحضرته حتى ضمه عماد الدولة إلى نفسه. »

وتمّ الصلح مع ناصر الدولة

ثم انصرف إلى بغداد وامتدّ إلى باب الشماسية وقدم الخليفة فنزل بالزبيدية. وأظهر معزّ الدولة أنّه يريد الموصل وكتب عن المطيع لله كتابا إلى ناصر الدولة وورد أبو بكر ابن قرابة إلى هناك بجواب الرسالة وتردّد مرّات ثم حمل المال وتمّ الصلح.

ودخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة

وفيها ورد الخبر بوقعة للروم مع سيف الدولة انهزم فيها سيف الدولة وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس.

وفيها قبض معزّ الدولة على اصفهدوست وحمله إلى قلعة رامهرمز.

ذكر السبب في ذلك

كان اصفهدوست خال ولد معزّ الدولة وولد له من أخته الحبشي وكان يكثر الدالّة عليه ويقلّ الهيبة له وكان يزرى عليه في كثير من أفعاله. وبلغ معزّ الدولة عنه أنّه يراسل المطيع لله في الإيقاع به وأنّه قد استجاب له إلى ذلك فلمّا كثر عليه ذلك قبض عليه.

وفيها ورد الخبر بانّ ركن الدولة هزم العلوي الذي كان بجرجان وطبرستان.

وفيها دخل أبو القاسم البريدي في الأمان إلى بغداد ولقي معز الدولة وقبّل الأرض بين يديه وأنزله وأقطعه بمائة وعشرين ألف درهم ضياعا.

وفيها ورد الخبر بمسير السّلار وهو المرزبان بن محمّد إلى الريّ طامعا فيها وفي دفع ركن الدولة عنها فحاربه ركن الدولة وأسره مع ثلاثة عشر قائدا من قوّاده وحمله إلى القلعة بسميرم وحبسه فيها وعاد الأمير ركن الدولة إلى الريّ وقد شرحنا أمره على الاستقصاء فيما بعد.

تزوير خط ابن قرابة

وفيها خرج الأمير معزّ الدولة إلى الموصل ودخلها وجرت مراسلات بين ناصر الدولة ومعز الدولة استقرّ آخرها على أن يحمل عن الموصل وديار ربيعة وديار مضر والرحبة والشام في كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم ويقيم الخطبة لعماد الدولة ومعزّ الدولة وبختيار بن معزّ الدولة وأخذ الفضل والحسين ابني ناصر الدولة رهينة وانصرف إلى بغداد.

ولم يكن الصيمري أخذ خطّ ناصر الدولة بهذه المفارقة وذلك لأنّ ابن قراتكين غلام صاحب خراسان قصد الريّ واضطرب معزّ الدولة فبادر إلى بغداد لينفذ منها جيشا إلى أخيه فعسف أبا جعفر عسفا شديدا في فصل القصّة.

فقال الصيمري تسكينا له:

« ارحل إذا شئت فقد أخذت الخطّ بثمانية آلاف ألف درهم. » ونما بعض الخبر إلى ناصر الدولة فامتنع على أبي جعفر من بذل الخط وخاف أبو جعفر أن يخبر الأمير معزّ الدولة بالصورة بعد الاعتراف فلا يقيله العثرة وانحدر إلى بغداد.

فقال أبو محمّد المهلبي وكان يخلف الصيمري: قلت لأبي جعفر:

« بأيّ شيء تحتجّ على الأمير إذا طالب بهذا الخط فلم تحضره إيّاه؟ » فقال: « أطالب ابن قرابة حتى يكتب خطّه عنه فإنّه لا يقدر على مخالفتي ثم إن أنكر ناصر الدولة قلت إنّه خليفته وما كتب عنه يلزمه. » قلت: « فإن لم يكتب ابن قرابة خطّه وهذا مما لا يجوز أن تكرهه عليه؟ » قال: « نزوّر على خطّ ابن قرابة. » (و كان ببغداد من يزورّ على الخطوط عجبا).

قلت: « فإذا صحّ رأيك على هذا فلا تطالب ابن قرابة بكتب الخطّ فإنّه إن امتنع عليك بطل التزوير به ولكن نزوّر. فزوّرنا والله على خطّ ابن قرابة ضمانا بثمانية آلاف ألف درهم وخرج الصيمري لحرب عمران ثم حدثت الحادثة من موت عماد الدولة وشخص وكانت كرّته التي ما عاد بعدها. » ووافى ابن قرابة وطالبته بالمال فأبى وأريته الخط فجحده وحلف بالطلاق أنّه ما كتبه ثم قال:

« ما أشك أنّه خطّى ولكن ما كتبته. ثم هذا يا هذا أنا قد شككت فكيف غيري ممّن تشتبه عليه الخطوط؟ وأنت تعلم يا با محمد أنّ ناصر الدولة امتنع من كتب الخطّ على أبي جعفر وانّ أبا جعفر خرج وما أخذه وقد أحاطت بي البلوى وليس هذا حقّى عليك. » فقلت: « الأستاذ أبو جعفر غائب وكلامك فيه لا يقبل والأمير ينصر وزيره ولا ينصرك ويشهد ونحن معه أنّ هذا خطّك لئلّا يبطل ماله ويصير محصوله مخاصمة وزيره ولكن الرأي أن تقول للأمير: لما حدث أمر ابن قراتكين وخرج الجيش إلى الري طمع ناصر الدولة وجحد الضمان والوجه مقاربته حتى يصحّ من جهته بعض المال وإلّا بطل الأصل، ثم إذا زال هذا الشغل بعد سنة صار الكلام لسنة مستأنفة ويعجّل شيئا يؤخذ منه فإنّ هذه السنة أصلح ». » فأعاد ذلك على الأمير معزّ الدولة ودعاني على خلوة وقال لي:

« أى شيء ترى؟. » فقلت: « الوجه أن نقارب ونأخذ ومتى تمكّنّا من قصد الموصل فالضمان معنا ونحن نستوفى تمام الثمانية آلاف الألف الدرهم. » قال: « فافعل. » وقررنا الأمر على ثلاثة آلاف ألف درهم لسنة واستوفيناها.

وكان الصيمري لمّا انصرف من عند ناصر الدولة بالصلح صار ناصر الدولة إلى الموصل وعسف الناس وطالبهم بمال التعجيل.

خروج سبكتكين إلى الري

وفي هذه السنة خرج سبكتكين الحاجب ومعه أكثر الجيش والقرامطة إلى الري مددا لركن الدولة ثم أتبعه معزّ الدولة بروزبهان وعليكان وجماعة من الديلم ولحقوا به.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب فيه أن جيش خراسان تحرّك فورد الخبر على ركن الدولة وكان ابن عبد الرزاق من كبار أصحاب الجيوش بخراسان إلّا أنّه كان مستوحشا من صاحبه فكاتب ركن الدولة بأنّه صائر إليه في الجيش الذي معه فاستعدّ له ركن الدولة وأعدّ أصناف الكرامات له.

وكاتب أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه معزّ الدولة وأخاه أبا الحسن علي بن بويه عماد الدولة فحمل كل واحد منهما إليه شيئا كثيرا من المال والدوابّ والثياب والألطاف فصرفها كلّها إليه مع ما أضاف إليه من جهته، وذلك بعد أن حضره ووطئ بساطه ورده إلى الدامغان فوصل إليه شيء لا عهد له بمثله. وإنّما ردّه إلى الدامغان لئلا يتضايق الريّ بالعساكر وقيل له:

- فرّق من الأموال ما ترى على من ترى.

ثم استقرّ الرأي بين الأمراء الثلاثة أعنى عماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة على تقليد ركن الدولة خراسان والعقد له عليها ليكون محاربته إيّاهم على الأصل والولاية.

ثم وردت الأخبار بحركة المرزبان بن محمّد بن مسافر وهو السّلار وأنّه عازم على قصد الريّ لمحاربة ركن الدولة مغتنما ورود جيش خراسان وأنّه سيشغله ذلك عنه.

فندب عند ذلك معزّ الدولة سبكتكين الحاجب للمسير إلى ركن الدولة مددا له بعد أن عظم أمره وفخم شأنه، وضمّ إليه جماهير عسكره وأكابر قوّاده وفيهم بورريش وروزبهان ومن يجرى مجراهما وقطعة وافرة من الأتراك وثلاثة آلاف من شجعان العرب المعروفين فيهم إبراهيم بن المطوّق المعروف بابن البارد وعمّار المجنون وأحمد بن صالح الكلابي وطبقتهم وأطلق الأموال وأزاح العلل في الخيل والسلاح وغيرها.

وكتب عهد ركن الدولة على خراسان وعقد لواءه وحملت الخلع إليه معه وخرج بذلك أحد حجّاب السلطان مع سبكتكين الحاجب فسارت الجماعة معه على أتم أهبة.

فلمّا وصل العسكر إلى ظاهر الدينور خلع بورريش الطاعة وأنف من متابعة سبكتكين والمسير تحت رايته وجمع إلى نفسه الديلم الذين في العسكر فاستجابوا له جميعا وبكروا عليه في غداة غد وهو فيها غافل جالس في خيمة له فغافصوه ورماه بزوبين أثبته في كتفه وولى من موضعه وخرج مجروحا من تحت ذيل خيمته وركب جنيبة النوبة فبرز إلى الصحراء وتلاحق به غلمانه وسائر الأتراك مع العرب وتمكن الديلم من رحله وسواده فنهبوه ونهب رحل حاجب السلطان الذي معه الخلع فذهبت في النهب.

وتحيز الديلم كلّهم مع بورريش إلّا روزبهان ونفرا قليلا معه فإنّهم اختاروا طاعة سبكتكين على طاعة بورريش ومرّ بورريش هائما على وجهه ورجع عنه الديلم إلى سبكتكين فقبلهم سبكتكين وبسط عذرهم ولم يسئ إلى أحد منهم.

وأمر العرب بطلب بورريش فلم يكن بأسرع من أن يوافى به إبراهيم بن المطوق المعروف بابن البارد أسيرا مسلوبا فأقيم بين يدي سبكتكين فخاطبه بما يجرى مجرى التشفي وأسمعه القبيح ثم أمر بتقييده ورحل إلى همذان واستأنف الخلع التي انتهبت حتى أقام العوض عنها ثم تمم المسير إلى حضرة ركن الدولة فوجده نازلا بباب الري فسلم بورريش إليه فكان آخر العهد به.

ولبس الخلع فبرز فيها للناس وقرئ عهده على خراسان بمشهد من القضاة والقواد ووجوه الناس ووافاه المدد من شيراز واستدعى محمد بن عبد الرزاق من الدامغان لمناجزة المرزبان فإنّه كان أهمّ وأولى بالابتداء فلمّا واقعه ظفر به وأخذ أسيرا كما حكينا في أخباره.

ودخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة

انحدار الصيمري لمحاربة عمران بن شاهين

وفيها انحدر أبو جعفر الصيمري لمحاربة عمران بن شاهين وكان هذا الرجل من أهل الجامدة وجنى جناية فهرب إلى البطيحة من سلطان الناحية فأقام بين القصب والآجام واقتصر على ما يصيده من السمك قوتا ثم اضطر إلى معارضة من يسلك البطيحة متلصصا وعرف خبره جماعة من صيادي السمك فاجتمعوا اليه مع جماعة من المتلصصة هناك حتى حمى جانبه من السلطان.

فلمّا أشفق من أن يقصد استأمن إلى البريدي فقلده أبو القاسم الجامدة للحماية والأهواز التي في البطائح فما زال يجمع الرجال إلى أن كثر أصحابه وقوى فغلب على تلك النواحي.

انصراف ابن قراتكين إلى نيسابور

وفيها ورد الخبر بأنّ ابن قراتكين غلام صاحب خراسان انصرف إلى نيسابور وتفرّقت جموعه عنه وبقي وشمكير بطبرستان فسار إليه ركن الدولة.

يريده فلمّا قرب منه انصرف بغير حرب وعارضه عليّ بن سرخاب أحد قواد ركن الدولة فأوقع بسواده واستأمن أكثر أصحاب وشمكير إلى ركن الدولة ودخل ركن الدولة آمل.

إيقاع الصيمري بعمران

وفيها أوقع الصيمري بعمران بن شاهين دفعة بعد دفعة واستأسر أهله وعياله وهرب عمران بن شاهين واستتر.

ورود خبر موت عماد الدولة واضطراب الجيش

ثم ورد الخبر بموت عماد الدولة عليّ بن بويه فاضطرب الجيش هناك وكتب معزّ الدولة إلى الصيمري بالمبادرة إلى شيراز لإصلاح الأمور بها فترك الصيمري ما كان فيه من طلب عمران ابن شاهين وبادر إلى شيراز.

ووافى ركن الدولة إلى شيراز واجتمعا على تقرير الأمور وضبط البلد وإصلاح أمر الجيش فلمّا استقام الأمر وصلح البلد سلماه إلى الأمير أبي شجاع فنّاخسره بن ركن الدولة وانصرفا عنه.

وكانت علة عماد الدولة التي مات فيها قرحة في كلاه طالت به ونهكت جسمه ولمّا مات نفذت كتب الخليفة بأنّه قد نصب أخاه الأمير ركن الدولة مكانه وجعله أمير الأمراء.

وتغيرت نيّة الأمير معزّ الدولة على أبي الحسن المافرّوخى وقبض على أبي محمد عليّ بن عبد العزيز ابن عمّه بالبصرة ثم على أبي الحسن بعده لمّا عجزا عن ضمان البصرة والأسافل فإنّ أمرها كان مشتركا وكتب إلى أبي جعفر الصيمري وهو بشيراز بأن ينفذ إليه أبو الفضل العبّاس بن فسانجس فأنفذه وقلّده الدواوين التي كانت إلى أبي الحسن المافرّوخى ويسألها منه قبل أن يستكتب الأمير معزّ الدولة أبا محمد المهلّبي بأسبوع.

ثم حاول أن يدخل يده في ديوان السواد ليجرى في ديوانه فمنعه أبو محمّد المهلبي واحتجّ عليه بأن هذا الديوان كان يجرى في ديوان الصيمري.

ثم حاول أن يدخل يده في ديوان النفقات وكان يتولّاه أبو الفضل العبّاس ابن الحسين الشيرازي وفي ديوان الجيش وكان إلى سهل بن برديشت وفي حساب الخزانة الذي يتولّاه أبو على الحسن بن إبراهيم الشيرازي فمنعه معزّ الدولة من ذلك لخصوص هذه الطائفة [ به ] وسكونه إليها.

وفيها ورد الخبر بأنّ كوركير وينال كوسه قتلا الموكّلين بقلعة رامهرمز وكسرا قيودهما وخرج ينال كوسه وهرب فلقيه الأكراد ومانعهم فقتلوه ولم يخرج كوركير ولا فتح اللشكري ولا أرسلان كور ولا اصفهدوست وكتب معزّ الدولة إلى أبي جعفر الصيمري وهو بشيراز أن يبادر إلى القلعة وحفظها فبادر وكان اصفهدوست عليلا من قولنج فمات بها.

ولمّا بعد الصيمري عن عمران وشغل بهذه الأسباب بعد أن لم يبق في أمره شيء تنفّس وخرج من استتاره وعاد إلى أمره وجمع إليه من كان تفرّق عنه من رجاله وقوى أمره.

ترشيح فناخسره للأمر

وفي هذه السنة أحس عليّ بن بويه عماد الدولة بالموت لمخالفة العلل إيّاه وخاف لبعد أخيه عنه وكثرة من في جملته من كبار الديلم أن يطمع في مملكته بعده فاستدعى فنّاخسره بن ركن الدولة من أبيه ليرشّحه للأمر بعده ويأنس به القوّاد والجيش ففعل ذلك.

وسار فناخسره بن ركن الدولة إلى شيراز وضم إليه أبوه حاشيته الثقات ولمّا قرب من شيراز تلقّاه عماد الدولة في جميع عسكره وأجلسه في داره على السرير وأمر الناس بالسلام عليه ووقف بحضرته لئلا يمتنع أحد فكان يوما عظيما مشهودا، ثم عهد إليه بعد ذلك ومات.

ذكر استعمال حزم واستظهار من عماد الدولة قبل موته

كان عماد الدولة يتهم جماعة من أكابر قوّاده ويعرفهم بطلب الرياسة لأنفسهم. وكانوا يرون أنفسهم أكرم منه منصبا وأحق بالولاية فنظّف عسكره منهم وقبض على جماعة.

فكان ممن قبض عليه شيرنجين بن جليس فخوطب فيه وتشفّع فيه وجوه حاشيته وثقات أصحابه فقال لهم:

« إني أحدّثكم عنه بحديث فإن رأيتم بعد استماعه أن أطلقه فعلت. »

ثم ابتدأ يحدّثهم أنّه كان بخراسان في خدمة نصر بن أحمد. قال:

« ونحن يومئذ في شرذمة من الديلم وكان يجلس نصر بن أحمد للسلام في كل أسبوع مرّتين فجلس ذات يوم وحواليه من مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر آلاف غلام سوى سائر العسكر فرأيت شيرنجين هذا قد جرّد دشنيا واشتمل عليه بكسائه. فقلت له:

« ما هذا؟ » قال: « أريد أن أصنع اليوم ما أذكر به آخر الدهر. » قلت: « وما هو؟ » قال: « أدنو كأنّى متظلم أو طالب حاجة فأقبّل الأرض ولا أزال أدنو حتى إذا وثقت بالوصول إلى هذا الغلام (يعنى نصر بن أحمد) فتكت به ثم لا أبالى أن أقتل بعده وقد أنفت من القيام بين يدي صبيّ. » وكان لنصر بن أحمد يومئذ عشرون سنة وقد خرجت لحيته.

فعلمت أنّه إن فعل لم يقتل وحده حتى نقتل كلّنا معه معاشر الديلم فأخذت بيده وقلت له:

« بيني وبينك حديث. » وجمعت عليه الديلم وحدّثتهم بما همّ به وما يجيء علينا كلّنا إن تمّ له ما يريد فقبضوا على يده وأخذوا منه الدشنى.

أ فتريدون من بعد أن سمعتم رأيه في نصر بن أحمد أن أمكّنه من الوقوف بين يدي هذا الصبى؟ فأمسكوا عنه وقالوا:

« الأمير أعلم بجيشه. » ولم يزل محبوسا حتى توفّى في محبسه.

وفي هذه السنة قلّد أبو السائب عتبة بن عبيد الله قضاء القضاة.

ودخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة

خبر دخول ابن قراتكين غلام صاحب خراسان إلى الري

وفيها ورد الخبر بدخول ابن قراتكين غلام صاحب خراسان إلى الريّ وانصراف من كان بها من أصحاب ركن الدولة وكان ركن الدولة بطبرستان واستولى أصحاب ابن قراتكين على الجبل كلّه.

موت الصيمري

وفيها مات أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري في حمى حادّة بالبزبونى من الجامدة لمّا عاد لمحاربة عمران بن شاهين.

استكتاب معز الدولة المهلبي

وفيها استكتب معزّ الدولة أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلّبي ولما ورد الخبر بموت أبي جعفر الصيمري أرجف لجماعة بأنّ الأمير معزّ الدولة يستكتبه فمنهم أبو عليّ الطبري ومنهم أبو عليّ الحسن بن هارون ومنهم أبو محمّد المهلّبي واجتمع أبو محمّد المهلّبي وأبو عليّ الحسن بن هارون فتحالفا على أنّ من صحّ له الأمر منهما كان لصاحبه على مودّة ومشاركة.

وسعى أبو على الطبري وكان رجلا أمّيا في أول أمره نخّاسا يبيع الرقيق فخطب كتبة الأمير أبي الحسين مكان أبي جعفر الصيمري وبذل مالا فأطمعه معزّ الدولة فيما قدّر وتقدّم إليه بحمل المال فحمل إلى الخزانة مالا فلمّا صحّ المال عدل عنه إلى أبي محمّد المهلّبي فقلده كتابته وتدبير أعمال الخراج وجباية الأموال وخلع عليه لذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من جمادى الأولى.

وزوّج أبو محمّد المهلّبي ابنته من أبي على الحسن بن محمّد الأنبارى الكاتب واستخلفه بالحضرة وانحدر إلى الأهواز.

ذكر السبب في اختيار معز الدولة أبا محمد المهلبي وإيثاره إياه على وجوه الكتاب من الحضرة وغيرهم مع وفور عدد الكفاة يومئذ

سبب ذلك أنّه وجده جامعا لادوات الرياسة وكان لا يجمعها غيره وإن كان فيهم من هو أرجح كتابة. وأيضا فقد أنس به على طول الزمان وأنّه خلف الصيمري على الوزارة فعرف غوامض الأمور وأسرار المملكة وكان الباقون لا يعرفون ذلك ولا يخرج إليهم ولا يوثق بهم فيها.

وكان مع ذلك حسن الإنباء عن نفسه فصيحا مهيبا متوصّلا إلى إثارة الأموال عارفا برسوم الوزارة القديمة سخيّا شجاعا أديبا يفصح بالفارسية فتلافى أكثر ما درس من رسوم الكتابة واستدرك كثيرا من العمارات وأثار وجوه الأموال من مواضعها فحسنت إثارة.

وتوفر مع ذلك على أهل الأدب والعلوم فأحيا ما كان درس ومات من ذكرهم ونوّه بهم ورغّب الناس بذلك في معاودة ما أهمل منها.

ثم خرج إلى الأهواز فجمع أموالا كان قد طمع فيها العمال من بقايا وزيادات زادها في العقود عليهم ومن مؤامرات ناظر عليها العمّال والضمناء فألزمهم أموالها فاتصلت حموله وظهر فضله على من تقدّمه.

ثم انتقل من الأهواز إلى البصرة فكان أثره فيها أوفر وإثارته للأموال منها أكثر كما سنذكر بعضه.

إيغال سيف الدولة في بلاد الروم وما كان من عاقبته

وفي هذه السنة ورد الخبر بأنّ سيف الدولة غزا وأوغل في بلاد الروم وفتح حصونا كثيرة من حصون الروم وسبى عددا.

فلمّا أراد الخروج من بلد الروم أخذ الروم عليه الدرب الذي أراد الخروج منه فتلف كل من كان معه من المسلمين أسرا وقتلا وارتجع السبي الذي كان سباه وأخذ سواده وكراعه وخزائنه وأمواله وسلاحه وغنم الروم منه غنيمة لم يروا مثلها وأفلت في عدد يسير.

خروج سبكتكين إلى همذان

وفيها خرج الحاجب سبكتكين إلى همذان مددا لركن الدولة فلمّا دخل قرميسين أسر من كان بها من أصحاب ابن قراتكين.

رد القرامطة الحجر الأسود

وفيها ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى موضعه من البيت الحرام بمكّة وكان أخذه أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى من البيت الحرام وكان بجكم بذل في ردّه خمسين ألف دينار فلم يردّ، وقيل: إنّا أخذناه بأمر وإذا ورد الأمر بردّه رددناه.

فلمّا كان في ذي القعدة من هذه السنة كتب إخوة أبي طاهر كتابا يذكر فيه أنّهم ردّوا الحجر بأمر ممن أخذوه بأمره ليتمّ مناسك الناس وحجّهم.

وكان الذي جاء به أبو محمّد ابن سنبر ثم سار به إلى مكّة وردّه إلى موضعه.

ذكر الآثار الجميلة التي أثرها الوزير أبو محمد المهلبي حتى عمرت الخراب وتوفر دخلها واتصل الحمل منها بعد انقطاعه

قد كان معزّ الدولة لمّا فتح البصرة ودخلها تظلّم إليه الرعية من سوء معاملات البريديين فعرف أكثرها وذلك أنّ أبا يوسف البريدي خاصّة تفرّد بالنظر في أعمال البصرة وجباية أموالها.

فرسم لأبي الحسن ابن أسد الكاتب أن يطالب ملّاك الأرضين التي يؤخذ منها حقّ العشر - وتعرف بصدقات أراضي العرب - بالبصرة عن كل جريب من الحنطة والشعير عشرين درهما وإنّما فعل ذلك بسبب زيادة الأسعار بالبصرة وأنّ الكر بالمعدّل من الحنطة بلغ بها مائتي دينار ولم يستعمل ذلك إلّا على تدريج.

فلمّا قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف أقرّ ابن أسد على العمل وأجرى الناس على ذلك الرسم.

وكانت العمارة تنقص في كل سنة لأجل جور البريديين وعمّالهم وهم يطالبون بالعبرة فنقص مال العبرة عن جربان العمارة فزاد ذلك ما يلزم كل جريب في السنة على ما كان يلزمه في السنة التي قبلها.

وكان قد قحط أهل البصرة بالمحاصرات التي لحقتهم فألزموا أن يزرعوا تحت النخل حنطة وشعيرا فلمّا فعلوا ألزموا عن كل جريب أربعين درهما فقصّروا في العمارة، فجعل ما كان يرتفع عبرة عليهم واستوفى من ملّاك أرض العشر فتهارب الناس فزاد ذلك على من بقي.

فلمّا تقلّد أبو محمّد المهلبي وزارة معزّ الدولة ودخل البصرة وتظلّم إليه أهل البصرة من العبر التي جعلت عليهم في أرضى الحنطة والشعير فوعدهم بكل ما أنسوا به.

ثم قرر أمرهم على أن يردّوا إلى رسمهم القديم في أخذ العشر حبّا بعينه من غير ترييع ولا تسعير ونظر فيما بين ذلك وبين ما يؤخذ منهم على تقريب فأشار على أرباب العشر أن يبتاعوا فضل ما بين المعاملة على الظلم والمعاملة على الإنصاف بثمن يرغب فيه معزّ الدولة عاجلا فيسهل عليه ما ينحطّ من الارتفاع مع ما يتعجّل له من المال ثم يضاف إلى ذلك ما يثمّره العدل وموقعه من قلوب الناس مع الرجاء في المستقبل لزيادة الارتفاع.

فاستجابوا وتقرر الأمر بينهم على ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم وكتب لهم بذلك وثيقة ثم حطّ من الجميع عن الضعفى مائتي ألف درهم وكتب إلى معزّ الدولة بأنّ في ذلك حظا وصلاحا ووفورا في ارتفاع الناحية في المستقبل فحسن موقع فعله من معزّ الدولة فأمضاه.

وحضر البصريون فاشهدوا على المطيع لله بالبيع وسجّلوا بالابتياع ونسب المبتاع إلى فضل ما بين المعاملتين في العبر فعمر الناس وتضاعف الارتفاع للسلطان وزال عن البصرة تلك الرسوم وصار يرتفع عن المراكب ما يعدل ألفي ألف درهم فكان هذا من الآثار الجميلة لأبي محمّد المهلّبي.

ورود الخبر بشغب في عسكر سبكتكين وانصراف القرامطة مع الأتراك

وفي هذه السنة ورد الخبر بشغب جرى في عسكر الحاجب سبكتكين وأنّ القرامطة انصرفوا مع الأتراك بعد أن أوقع بهم ركن الدولة.

ذكر السبب في ذلك

كان الاجتهاد شديدا في استصلاحهم لأنّهم كانوا بإزاء حرب فلمّا تعذّر قال ركن الدولة:

« هؤلاء أعداء معنا في عسكرنا وهم أشدّ علينا من أعدائنا الذين بإزائنا والوجه أن نحاربهم ونطردهم. » فحاربهم وهزمهم فأمّا العرب فصاروا إلى معزّ الدولة وأمّا الأتراك فمضوا إلى الموصل ولمّا سار ركن الدولة إلى همذان ارتحل ابن قراتكين من الريّ إلى أصبهان.

وفي هذه السنة واقع أبو محمّد المهلّبي عمران بن شاهين ومع أبي محمّد المهلّبي روزبهان فكانت على المهلبي وروزبهان واستؤسر أكثر قوّادهما وقتل أبو الفتح ابن أبي طاهر بعد أن استظهر المهلّبي واستعلى.

ذكر السبب في ذلك وفي هزيمة المهلبي بعد الاستظهار على عمران

كان السبب في ذلك أنّ معزّ الدولة كان عوّل على روزبهان في محاربة عمران فبنى آلات الماء وأثبت الرجال واحتشد فطاوله عمران وتحصّن في مكامنه من البطائح فضجر روزبهان وأقدم عليه طلبا لمناجزته فاستظهر عليه عمران وهزمه وهزم أصحابه وغنم جميع آلاته وسلاحه فقوى بها.

وتضاعف طمعه في السلطان وضرى أصحابه على جند السلطان واستخفّوا بهم فكان بعد ذلك إذا اجتاز بهم الحجاب الكبار المحتشمون والقوّاد والأمراء من الديلم والأتراك سفهوا عليهم وطالبوهم بحق المرصد والبذرقة فإن تأبّى عليهم أحد تناولوه بالشتم القبيح والضرب المهين وكان الجند لا يستغنون عن الاجتياز بهم لحاجتهم إلى ضياعهم ومعاملاتهم بالبصرة والأهواز ثم انقطع طريق البصرة إلّا على الظهر.

فشغل ذلك قلب معزّ الدولة وكثر بكاء الأمراء والحجّاب والقوّاد بين يديه بما يجرى عليهم من الهوان في اجتيازاتهم فكتب إلى الوزير المهلّبي بالإصعاد إلى واسط لتلافي الحادثة والتجرد لطلب عمران ومعاودته الحرب وجرد إليه عسكرا جرّارا فيه ابن أبي طاهر ووجوه قوّاده وغلمانه وحمل إليه سلاحا كثيرا وأطلق يده في إنفاق الأموال فزحف إلى عمران وسدّ عليه مذاهبه وانتهى إلى مضيق في البطيحة [ و ] شعب لا يعرف مسالكها إلّا عمران وأصحابه.

فأحبّ روزبهان أن يلحق المهلّبي مثل ما لحقه من الهزيمة ولا يستبدّ بالظفر فأشار عليه بالاقتحام والهجوم وتوثق المهلّبي وأراد سدّ تلك المضايق فأخذ روزبهان في التضريب عليه وعارضه في كلّ ما دبّره ومنعه من هذا الاستظهار وسدّ الشعب وكتب إلى معزّ الدولة يستعجزه ويذكر أنّه إنّما يحجم ويجنح إلى المطاولة ليحتسب بالأموال في النفقات.

ولم يزل بذلك وشبهه إلى أن وردت كتب معزّ الدولة بالاستبطاء فترك المهلبي الحزم وركب الخطأ وعدل عمّا يدبّره كله ودخل بجميع عسكره هاجما على عمران وتأخّر روزبهان ليصير أول الخارجين عند الهزيمة.

وقد كمّن عمران كمناءه في تلك المعترضات وشحنها بالآلات الموافقة لتلك المضايق فخرجوا على العساكر وهم متزاحمون متضايقون في طريق الماء لا يعرفونها فوضعوا فيهم الحراب فقتلوا وأسروا وانصرف روزبهان موفورا ونجا الوزير المهلّبي سباحة وحصل القوّاد والوجوه في الأسر.

فاضطرت الحال إلى مصالحة عمران فقوى واستفحل أمره وأجيب إلى كل ما اقترح.

وقد كنا ذكرنا ورود الخبر بمسير السلّار المرزبان إلى الريّ ووعدنا هناك باستقصاء خبره والآن حين نبدأ بذلك.

ذكر الأسباب التي بعثت السلّار المرزبان على قصد الريّ وما انعكس عليه من تدابيره حتى أسر وحبس في القلعة بسميرم

كان المرزبان أنفذ رسولا إلى معزّ الدولة في أمور حمله إيّاها فورد مدينة السلام وقد رحل عنها إلى البصرة فافتتحها وأقام هذا الرسول منتظرا له إلى أن عاد فأدّى إليه الرسالة وكان فيها ما غاظه فتقدّم بحلق لحيته ففعل وأسمع نهاية ما كره وانصرف على هذه الحال.

فحكى للمرزبان ما جرى عليه فامتعض وأخذ في جمع الرجال والاستعداد ورأى أن يبتدئ بالريّ فراسل ناصر الدولة سرّا يبذل له المعاونة بنفسه وأولاده ورجاله وماله وأشار عليه بأن يبتدئ بقصد بغداد فخالفه وأجابه بجميل وأعلمه أنّه يرى الصواب في الابتداء بالريّ فإن تمّ له ما يريد طلب بعد ذلك بغداد وغيرها.

وكان استأمن إليه من قوّاد الريّ عليّ بن جوانقوله فعرفه نية القوّاد الذين وراءه بالري وأنّهم على المصير إليه فزاده ذلك طمعا واستدعى أباه محمّد بن مسافر وأخاه أبا منصور وهسوذان.

فلمّا وافاه أبوه تلقّاه وقبّل الأرض بين يديه وأجلسه في صدر الدست ووقف بحضرته وامتنع من الجلوس حتى حلف عليه أبوه دفعات كثيرة فجلس وامتنع وهسوذان من الجلوس فلمّا جنّ الليل خلوا جميعا وتفاوضوا.

فلمّا عرف أبوه صحّة عزمه في قصد الريّ فثأ عزمه وعرّفه أحوالا توجب الامتناع من قصدها فأبى عليه وقال:

« قد وردت عليّ كتب وأكثر القوّاد هناك مستعدّون للانحياز اليّ. » فلمّا كان وقت الوداع بكى أبوه وقال:

« يا مرزبان أين أطلبك بعد يومي هذا. » فقال مجيبا له:

« إمّا في الإمارة بالريّ وإمّا بين القتلى. »

وقد كان ركن الدولة حين عرف خبره كتب يستمدّ من أخويه عماد الدولة ومعزّ الدولة وخشي أن يعاجله المرزبان قبل ورود المدد فكتب إليه على سبيل المكر والخديعة يعظّمه ويستخذي له ويسأله أن ينصرف عنه على شريطة أن يفرج له عن أبهر وزنجان وقزوين.

ولم تزل الرسائل تتردّد بينهما إلى أن ورد حضرة ركن الدولة بارس الحاجب في ألفى رجل من جيش عماد الدولة وورد سبكتكين الحاجب في ألفى رجل من جيش معزّ الدولة وكان قد صار إليه محمّد بن عبد الرزاق مستأمنا من عسكر خراسان ومحمّد بن ماكان مددا من جهة الحسن بن الفيروزان فلمّا تناهى استظهاره قبض على جماعة من قوّاده الذين شكّ فيهم واتّهمهم بمكاتبة المرزبان وسار إلى قزوين في جميع هذه الجيوش.

فعلم المرزبان أنّه لا طاقة له به ولكنّه أنف من الرجوع فعمل على محاربته وكان مع المرزبان يومئذ خمسة آلاف من الديلم والجيل والأكراد فحملت ميمنة ركن الدولة وميسرته على ميمنة المرزبان وميسرته فانهزمتا جميعا وثبت هو في القلب إلى أن قتل بين يديه حموه بلى وونداسفجان بن ميشكى وأسر عليّ بن ميشكى المعروف ببلّط ومحمّد بن إبراهيم وعدّة من أكابر قوّاده وأحاطت الرجال به فأسر وحمله ركن الدولة إلى الريّ ومنها إلى أصبهان وحمل من أصبهان إلى قلعة سميرم.

فلمّا انفصل من الريّ مع جماعة من قوّاد ركن الدولة وخوّاصه وكانوا مضمومين إلى الأستاذ الرئيس حقّا أعنى أبا الفضل ابن العميد رحمه الله كان هو المتولى حفظه والاستظهار عليه إلى أن يحصل في القلعة.

ذكر تدبير تم على المرزبان حتى حصل بإصبهان بعد أن كان واطأ الديلم الذين أخرجوا معه على الفتك بأبى الفضل ابن العميد والهرب به

حدّثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل قال:

لمّا كنّا بين الريّ وأصبهان تحقّق عندي مراسلة الديلم إيّاه واجتماعهم على أن يأخذوه قهرا ويحلّوا قيوده ويفتكوا بي وظهر ذلك حتى كادت المكاشفة تقع.

فلمّا خفت فوت التدبير سايرته وهو في عمارية وحادثته وهو ينتظر في ذلك اليوم أن يتمّ له ما يريد وجعلت أقاربه وألين له. فأظهر التوجّع والتألم مما حصل فيه فلمّا أطمعته في نفسي - وكان لا يطمع في ذلك من قبل - أمال إليّ رأسه وقال:

« أنت مقبل فإن كنت صادقا فابدأ بحلّ قيودي وعليّ لك كيت وكيت. » وضمن الضمانات التي تبذل في مثل ذلك الوقت. فأوهمته أنّى لا أعرف شيئا من مواطأة الديلم له وقلت:

« أخشى ألّا يساعدني من معي على ذلك. » فقال: « غفر الله لك، أنت لا تعرف الصورة، جميع من معك قد عملوا على فكّ قيودي والفتك بك وأنا أريد ذلك الساعة إن شئت. » فقلت: « يكفيني أن أثق بذلك ثم أنا أول عبد خدمك وناصحك وتابعك حتى يتمّ لك ما تريده. » وحدّثته بأشياء أنكرتها من صاحبي وحقود في قلبي عليه فاستدعى واحدا بعد واحد من القوّاد الذين كانوا معي وأسرّ إليهم أنّى معه وموال له ووصل حديثه معهم بأن أدخلنى معهم في التدبير فأظهرت سرورا شديدا بذلك وتواعدنا النزول في المنزل القريب وإتمام التدبير.

فلمّا نزلنا وضربت خيمتنا وخركاهاتنا وحصل في موضعه راسلني وأخلانى بنفسه ثم قال لي:

« ابعث إلى فلان وفلان - يعنى جماعة ممن يثق بهم - حتى يحضروا. » فقلت: « أيّها السلارّ، إنّ هاهنا تدبيرا يجب أن تسمعه فإن وقع بوفاقك وإلّا فما تأمر به ممتثل. » فقال: « وما هو. » فقلت: « إنّ حرم ركن الدولة وأولاده وخزائنه كلّها بإصبهان وأنا وزيره وثقته والمتولى للجميع فلو امتددنا على صورتنا هذه حتى لا نتّهم لتمكنت من القبض على الجميع وحصلنا في مدينة عامرة نتمكن فيها من التدبير ومع ذلك فإنّ حرم جميع القوّاد بإصبهان وكذلك أولادهم فإذا قبضنا عليهم لم يبق في واحد منهم فضل لمحاربتك واستسلم الجميع لك وانهدّ جانب ركن الدولة انهدادا لا انجبار له وتمكنّا أيضا من قلاعه وذخائره وأخرجناها ولم يكن له بقية وإن نحن عاجلنا الأمر وخرجنا من هذا المكان طلبنا الخيول وأحدقت بنا ولم نأمن مع ذلك تقرّب بعض من هو الآن معنا إلى تلك الجنبة ونحن في عدة يسيرة وحوالينا أصحابه ورجاله ولا نثق بالسلامة إلى المأمن ».

فرأيته قد تهلل وجهه ولم يملك نفسه لما استخفّه من السرور وقال:

« ليس الرأي إلّا ما رأيت. » قلت: « فإني منصرف عنك فراسل أنت كلّ من واطأك على رأيك الأول بما حدث لك من الرأي. »

قال: « نعم. » وقمت عنه وليس عنده شكّ في حصول الملك له بمواطاتي وأنّه قد أقبل جدّه وتمّت سعادته بتمام تدبيري وشاع في أصحابه ومن كان واطأه أنّا في تدبير فسكنوا بعد أن كانوا هموا بما هموا به.

وسرت آمنا حتى حصلت بإصبهان فلمّا تمكّنت من الرجال والتدبير بدأت بالقبض على أولئك القوّاد واستظهرت على المرزبان بثقاتى حتى حصّلته في القلعة بقيوده.

ذكر ما جرى في أمر عسكر المرزبان في آذربيجان بعد حصوله في الأسر

اجتمع من أفلت من عسكره وقوّاده وفيهم جستان بن شرمزن وعليّ ابن الفضل وشهفيروز بن كردويه وجماعة من الرؤساء مع ألفى رجل من الفلّ إلى الشيخ محمد بن مسافر، فعقدوا له الرياسة عليهم وصاروا إلى أردبيل فملك آذربيجان وهرب ابنه وهسوذان منه وتحصّن في قلعته بالطرم لما كان يعرفه من حقده وسوء رعايته.

فلم تأت الأيّام على محمّد بن مسافر حتى تجبّر وعاد إلى أسوأ أخلاقه مع الديلم فاجتمع الديلم على الوثوب به فشغبوا وهمّوا بقتله فالتجأ بالضرورة إلى ابنه وهسوذان وعنده أنّه يعصمه فقبض عليه وحبسه في قلعة شيشخان التي كان فيها وضيق عليه فلم تنبسط له يد ولا نفذ له أمر حتى توفي وكانت وفاته قبل خلاص ابنه المرزبان من قلعة سميرم.

وقلد ركن الدولة محمّد بن عبد الرزاق أعمال آذربيجان بعد أسر المرزبان وأنفذه إليه فتحيّر وهسوذان في أمره وأضطرّ إلى إخراج ديسم بن إبراهيم من القلعة لطاعة الأكراد إيّاه ولرياسته القديمة على آذربيجان فأطلقه وخلع عليه وقوّاه ومكّنه وواقفه على جمع أكراد آذربيجان ومن يطيعه من غيرهم ويقصد محمّد بن عبد الرزاق.

وكان الديلم بعد محمّد بن مسافر اجتمعوا إلى عليّ بن الفضل ورأسوه فتوسّط وهسوذان بينهما حتى أطاعه عليّ بن الفضل وتمّ أمره وسار ديسم إلى أردبيل واستكتب أحمد بن عبد الله بن محمود وورد ابن عبد الرزاق فانحاز عنه إلى ورثان من نواحي برذعة ليستخرج الأموال وترد عليه عساكر الأكراد.

ذكر خطأ ديسم في إيحاش وزيره حتى فارقه وثلمه فهزمه عدوه

كان بنواحي خويّ وسلماس كاتب نصراني يعرف بابن الصقر من جهة المرزبان قبل أسره فلمّا بلغه خبر ديسم صار إليه وحمل إليه ما كان جباه فحسن موقعه من ديسم فأكرمه وبالغ في إكرامه حتى صار يخلو به ويشاوره فاستوحش وزيره ابن محمود واتّقاه.

فلمّا استعدّ ديسم للقاء ابن عبد الرزاق سلم إلى ابن محمود خزائنه ونقله وأمره بالمصير إلى جبال موقان للتحصّن بها استظهارا إلى أن ينكشف الأمر.

فتسلّم ابن محمود ذلك كلّه وعدل إلى أردبيل وأرسل ابن عبد الرزاق بأنّه صائر إليه وسأله أن يستقبله بطائفة من عسكره ففعل ذلك ووقع ذلك من ابن عبد الرزاق أحسن موقع.

وفتّ في عضد ديسم وبلغه ذلك يوم القتال فضعفت نفسه واضطرب رأيه وتبيّن ذلك منه أصحابه فاضطربوا واستظهر عليه ابن عبد الرزاق فهزمه.

ودخلت سنة أربعين وثلاثمائة

وفيها لحق ركن الدولة بابن قراتكين غلام صاحب خراسان وواقعه بروذبار من خان النجان سبعة أيام متوالية فانهزم ابن قراتكين وذلك في المحرم من هذه السنة.

ابتداء ذكر مشاهدات مسكويه صاحب هذا الكتاب وما يجرى مجرى مشاهداته

قال الأستاذ أبو عليّ أحمد بن محمد مسكويه صاحب هذا الكتاب:

أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة فهو عن مشاهدة وعيان أو خبر محصّل يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمّد بن الحسين بن العميد - رضي الله عنه - خبّرنى عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره وما اتّفق له فيها، فلم يكن أخباره لي دون مشاهدتى في الثقة به والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمّد المهلّبي - رحمه الله - خبّرنى بأكثر ما جرى في أيامه وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة.

وحدّثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجرّبته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.

فحدّثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة وأنا أحكى أولا السبب في ورود ابن قراتكين:

ذكر السبب في ورود ابن قراتكين الري

كان ركن الدولة عند وفاة أخيه عماد الدولة بنواحي جرجان وذلك أنّه قصد وشمكير وهزمه وتبعه إلى جالوس فلمّا بلغه وفاة أخيه اضطرب وجزع وعلم أنّ فارس ستضطرب على ابنه فسارع إلى المسير إليها لتوطئة الأمور وانصرف إلى الريّ فاستخلف بها عليّ بن كامه واتسع خناق أعدائه ببعده عن ممالكه وكلّ حدّث نفسه بأمر.

وكتب ركن الدولة إلى معزّ الدولة بما عزم عليه ومما كان من وفاة أخيهما فكتب معز الدولة إلى وزيره أبي جعفر الصيمري وهو يومئذ منازل لعمران بن شاهين بالبطائح بان يخلّى ما هو بسبيله ويصير إلى فارس لخدمة ركن الدولة ففعل وسبق وصوله وصول ركن الدولة فحسن موقع ذلك من ركن الدولة.

فلمّا وصل إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه بباب إصطخر فمشى حافيا حاسرا ومشى أهل عسكره وعسكر فارس على تلك السبيل ولزم المصيبة ثلاثة أيّام إلى أن خاطبه الرؤساء وسألوه أن يرجع إلى المدينة ففعل وأقام ستة أشهر.

وأنفذ نصيبا من تركة عماد الدولة إلى أخيه معزّ الدولة وكان في جملتها مائة وسبعون غلاما ومائة وقر من السلاح ثم ما يجرى مجرى ذلك من الثياب والآلات واقتطع من أعمال فارس أرجان - وهي كورة من كور فارس - إلى أعماله وخلّف وزيره هناك وانقلب إلى الريّ.

وحدّت أطماع من ذكرت وامتدّت إلى الريّ والجبل وإصبهان وتسرّبت العساكر إليها فمن ذلك مسير صاحب جيش خراسان إلى الريّ ومعه محمد بن ماكان من جهة الحسن بن الفيروزان وسار شيرج بن ليلى من قبل وشمكير ثم جمهور عسكر خراسان وكان أبو الحسن عليّ بن كامه قد انحاز إلى إصبهان وتفرّق قوّاد عسكر ابن قراتكين في ولايات أعمال الجبل وكان منهم بهمذان ينال قام وفي كل بلد من بلدان الجبل مثله.

وكان ركن الدولة قد كاتب أخاه معزّ الدولة وهو بعد بفارس يستدعى من يدفع معرّات هؤلاء فأمدّه بسبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك والديلم وفيهم جماعة من الأتراك القدماء التوزونيّة وجماعة من العرب وكان مسيره من بغداد سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فدبّر سبكتكين تدبيرا جيّدا.

ذكر تدبير صواب تمكن به سبكتكين من أول عدو لقيه بقرميسين

رأى سبكتكين أن يخلّف عسكره وما ثقل من سواده وينتخب من الفرسان من يثق به ويسرى إلى قرميسين وكان فيها قائد من قوّاد الأتراك الخراسانية يقال له: بجكم الخمارتكينى، وكان ينال قام أنفذه إلى همذان واليا عليها فكبسه سبكتكين وهو في الحمّام وأخذه أسيرا وأوقع برجاله وأصحابه وأنفذه إلى معزّ الدولة فاعتقله مدّة طويلة ثم أطلقه.

ولمّا بلغ ولاة أعمال الجبل ما جرى على بجكم هذا فارقوا مراكزهم واجتمعوا إلى ينال قام بهمذان.

فلمّا سار سبكتكين نحوهم ساروا من همذان بأجمعهم فلم يحاربوا وورد سبكتكين همذان وأقام بها منتظرا ركن الدولة وذاك أنّ كتب ركن الدولة كانت ترد عليه أنّه يسير من فارس على طريق الجبل ثم تأخّر انتظارا لانحسار الثلوج ثم ورد همذان وتقدّم إلى سبكتكين بالمسير على مقدّمته.

فشغب الصنف من الأتراك التوزونية وأظهروا التضجّر بالمقام الطويل فتوسّط الأستاذ الرئيس أبو الفضل - رحمه الله - بينهم وداراهم وسكّنهم فسكنوا في الوقت ثم عاودوا من الغد وطال ذلك منهم حتى اتّهموا.

فسمعت أبا الفضل ابن العميد - رحمه الله - يقول:

إني قلت للأمير ركن الدولة: هؤلاء أعداؤنا وقد كاشفونا فكيف نسير بهم إلى أعدائنا؟ فاتّفق الرأي بيننا أن نسكّنهم فإن سكنوا وإلّا حاربناهم وفرغنا من العدو الأقرب فلمّا عملنا على ذلك عملوا على الحرب فأوقعنا بهم ومضوا مفلولين. وسبق خبرهم إلى معزّ الدولة فكتب إلى أبن أبي الشوك الكردي وسائر وجوه الأكراد المقيمين في أعمال حلوان بطلبهم والإيقاع بهم ففعلوا ذلك وطلبوهم وأسروا منهم وقتلوا. فأمّا الأسارى فأنفذهم إلى بغداد وأمّا الفلّ فصاروا إلى الموصل بحال سيّئة.

وأقام ركن الدولة بهمذان لتعرّف خبر ابن قراتكين إلى أن صحّ عنده مسير ابن قراتكين من الريّ نحو همذان فبثّ جواسيسه وطلائعه لتعرّف خبره.

فأتاه الخبر بأنّه عدل عن سمت همذان وأخذ على طريق يؤدّى إلى إصبهان.

فسار ركن الدولة في أثره يقفوه حتى انتهى إلى جرباذقان ووصل ابن قراتكين إلى إصبهان فعاث بها عيثا كثيرا مدة ما أقام ثم عرف قرب ركن الدولة منه فسار إلى طرف مفازة بقرب من إصبهان.

فنزل منها على زرّين روذ ليكون وصول ركن الدولة إليه مع عسكره، وقد قطعوا المفازة ومسّهم التعب والعطش ولا يصلون إلى الماء. فرأى ركن الدولة أن يعدل إلى خان النجان ليلزم سمت قرى زرين روذ ولا يعدم الماء واتصل ذلك بابن قراتكين فانقلب عن موضعه معترضا له لئلا يملك عليه ظهره. فالتقيا في الموضع المعروف بالروذبار وبينهما زرّين روذ ولكنّه يخيض ولا يمنع الراجل ولا الفارس العبور وذاك أن الفصل كان ضيّقا. فدامت الحرب بينهما سبعة أيّام واشتدت في اليوم السادس خاصة ثم انهزم ابن قراتكين في اليوم السابع.

وعاد الحديث إلى حكاية أبي الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة. حكى أنّه لحقه وركن الدولة وسائر الجيش من الاضاقة وعوز الميرة والعلوفات وتعذّر جميع الأقوات ما لم يلحقها مثله وذاك أن الأكراد أحدقوا بنا فلم يتمكّن أحد من اطّلاع رأسه عن المعسكر.

وانقطعت عنّا المواد وكنا نصل إلى أقواتنا مما تحمله الأكراد إلينا ويبيعوناه بأوفر الأثمان وكذلك العلوفات فكان يجيئنا الكردي بجراب أو مخلاة أو وعاء فيه دقيق فيبيعناه بحكمه فإذا أخذناه ونفضناه وجدنا قدر الدقيق فيه مقدار ما رأيناه في رأس الوعاء وأسفله كلّه تراب ثم يختلط ذلك القدر اليسير بالتراب فلا ينتفع بشيء منه وكذلك يفعل بالشعير والحنطة وكانت لهم حيل تجرى هذا المجرى كثيرة.

قال: فكنّا ننحر الجمل أو الدابّة فنتوزّع لحمه بين عدد كبير ونتبلّغ به على عادة الديلم وصبرهم على المجاعة والشدّة في الحرب وكان أعداؤنا الأتراك في مثل حالنا إلّا أنّهم لا يصبرون كما نصبر ولا يقنعون بما نقنع، فإذا ذبحنا نحن جزورا ذبحوا أضعافا كثيرة. ثم إنّ أصحابنا يعودون إلى نشاطهم في الحرب ويتسخط أولئك ويشغبون على صاحبهم ولا يناصحونه في الحرب إلى أن ملّوا.

وأصبحنا يوما وقد رحلوا من معسكرهم فتركوا خيمهم بإزائنا وأتانا الخبر برحيلهم فما صدّقنا به حتى عبر جماعة وتلاهم العسكر أوّلا أوّلا وأشفقنا أن يكون لهم كمين أو مكيدة فلم يكن إلّا هزيمة وذهبوا على وجوههم.

ذكر خبر عجيب واتفاق غريب

حكى الأستاذ أبو الفضل ابن العميد - نضر الله وجهه - أنّ ركن الدولة دعاه في اليوم السابع وقد نفد صبره وصبر أصحابه وشكا إليّ شدّة الأمور وصعوبته عليه وكأنّه يفكّر في حيلة للانهزام وإن كانت متعذّرة عليه فقلت:

« أيّها الأمير، إنّك كنت منذ أسبوع مالك أكثر، تملك سرير الخليفة فينفذ أمرك في أكثر بلاد الإسلام ومن لم يكن من الملوك في سائر الأرض تحت أمرك وولايتك فهو أيضا تحت حكمك حشمة لك يقبل أمرك تجمّلا ويطيعك تهيبا وقد أصبحت اليوم وأنت لا تملك من الأرض إلّا ما عليه مضربك وقد اجتمع عليك هؤلاء الأعداء ليغصبوك عليه ويمنعوك منه ولا مفزع لك إلّا إلى الله - عز وجل - فأخلص نيّتك له واعقد عزيمتك على ما بينك وبينه تعالى يطلع على صدقها ويعرف صحّتها وانو للمسلمين خيرا ولكافة الناس مثله وعاهده على ما تعمله وتفيء به من الأعمال الصالحة والإحسان فيما تلى إلى من تلى عليه فإنّ الحيل البشرية كلّها انقطعت بنا ولم يبق لنا إلّا هذا الذي نصحتك به. »

قال: فتبسّم وقال:

« يا أبا الفضل قد سبقتك إلى ما أشرت به. » وجرى في هذا الباب ما يجرى مثله من النذور وصدق النيّة، وبتنا تلك الليلة على حالنا. فلمّا كان في الثلث الأخير من الليل جاءتني رسله متقاطرة فصرت إليه وهو مسرور قويّ النفس بخلاف ما عهدته وقال:

« يا أبا الفضل أنت تعرف مناماتى وصدقها وقد رأيت ما أرجو أن يكون تأويله قريبا غير بعيد. » قلت: « وما ذاك. » قال: « رأيت كأنّى على دابّتى المعروف بفيروز وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وتذكر لي نعمة الله علينا فيه وأن الفرج جاءنا من حيث لا نحتسب. فبينا نحن في هذا الحديث وشبهه حتى مددت عيني بين غبرة الموكب إلى الأرض فرأيت خاتما يتلألأ قد سقط إلى الأرض عن صاحبه بين التراب فقلت للركابى الذي بين يدي: يا غلام هات ذاك الخاتم.

فتطأطأ ورفعه إليّ فإذا خاتم فيروزج فأخذته وجعلته في اصبعى السبّابة وتبرّكت به وانتبهت وقد تفألت به وأيقنت بالظفر. » وذاك أن الفيروزج معناه الظفر إذا عرّب وكذلك لقب دابّته الذي رآه فيروز.

قال أبو الفضل ابن العميد رحمه الله:

فو الله ما أضاء الصبح حتى جاءنا الخبر والبشرى بأنّ العدوّ قد رحل فما صدّقنا به ولا التفتنا إليه حتى تواترت الأخبار وعبر سرعان الخيل وعادوا إلينا مستبشرين فقمنا حينئذ وركبنا متعجّبين لا نعرف سبب هزيمته حتى عبرنا على حذر من كمين أو مكيدة.

فبينا نحن نسير وأنا إلى جانب ركن الدولة وقد تعمّد ركوب دابّته فيروز ليصدّق رؤياه إذ صاح الأمير بغلام بين يديه:

« يا غلام ناولني ذلك الخاتم. » فتطأطأ وناوله من الأرض خاتم فيروزج: فأخذه ولبسه في سبّابته والتفت إليّ وقال:

« هذا بلا تأويل هو الخاتم الذي حدّثتك بحديثه منذ ساعة. » فهذا من طرائف الأخبار ولولا صدق محدّثه وجلالة قدر من حكاه لي وبعده عن التزيد لما سطّرته في كتابي هذا.

من حوادث هذه السنة

وفيها تمّ الصلح بين معزّ الدولة وبين عمران بن شاهين وقلّده معزّ الدولة البطائح وأطلق أخوته وعياله وأطلق عمران بن شاهين من استأسر من القوّاد وغيرهم.

فأمّا ابن قراتكين فإنّه عاود حرب الأمير ركن الدولة وجرت بينهما وقائع عظيمة بناحية الريّ ومات ابن قراتكين فجأة وكان سبب وفاته أنّه كان شرب أيّاما متوالية بلياليها فأصبح يوما ميتا وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة.

وفيها انهزم صاحب عمان من باب البصرة من بين يدي أبي محمّد المهلّبي وأسر جماعة من أصحابه وأخذت عدّة من مراكبه ودخل أبو محمّد المهلّبي بغداد ومعه المراكب والأسارى.

ودخلت سنة احدى وأربعين وثلاثمائة

وفيها ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وأحرقوا مساجدها.

ضرب معز الدولة المهلبي بالمقارع

وفيها ضرب الأمير معزّ الدولة أبا محمّد المهلّبي بحضرته بالمقارع وحمله إلى داره وأقرّه على كتابته.

ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ أبا محمّد المهلّبي لمّا خرج إلى عمان وأنفق في ذلك الوجه ما أنفق ثم انهزم تنكّر له معزّ الدولة وهمّ بالقبض عليه. فلمّا حدث بالريّ ما حدث من ورود جيش خراسان إليها شغله ذلك عمّا في نفسه منه.

وكان ورد أبو العبّاس الحنّاط إلى الحضرة برسالة ركن الدولة يطالب بمال يحمل إليه فدفعت الضرورة إلى مكاتبة الوزير المهلّبي وهو بواسط قد وافاها منهزما وأمر بالعدول إلى الأهواز وتسليم ألف ألف درهم إلى أبي العبّاس الحنّاط من القلعة وردّ العوض ممّا يستخرجه وأن يواصل الحمل إلى الحضرة ويسرّب الجيوش إلى الأهواز على طريق إصبهان إلى الريّ فنفذ لذلك كلّه وفي نفس الأمير معزّ الدولة عليه ما فيها.

فلمّا أصعد المهلّبي إلى الحضرة أثّر في أمر يوسف بن وجيه صاحب عمان أثرا كبيرا وذاك أنّه كان قصد البصرة فسبقه أبو محمّد المهلّبي إليها وحاربه وهزمه وأسر أصحابه وأخذ مراكبه كما ذكرنا.

ذكر السبب في طمع ابن وجيه في البصرة ثم انهزامه منها

كنّا ذكرنا ما كان من استيحاش القرامطة من معزّ الدولة ومن جوابه إيّاهم عن رسالتهم واستخفافه بهم. فلمّا عرف ابن وجيه ذلك كاتبهم وأطمعهم في البصرة وسألهم أن يمدّوه من ناحية البرّ فأمدوه بأخيهم أبي يعقوب في سريّة قويّة فورد باب البصرة وأنهض ابن وجيه رجاله في مراكبه من ناحية البحر ونهض هو بنفسه.

ووافق ذلك فراغ المهلّبي من الأهواز فبادر إلى البصرة وأخرج معه من القوّاد والرجال والزبازب والطيارات وآلات الماء كفايته وشحنها بالرجال وأزاح عللهم في الجيش والسلاح وأنفذ إليه معزّ الدولة مددا من بغداد.

وكان المهلّبي رتّب على سور المدينة بالبصرة الرجال يحمونه وجمع إلى نفسه وجوه القوّاد مثل لشكر ورز بن سهلان وموسى فياذه وموسى بن ماكان وأشباههم من وجوه الناس وطبقات الغلمان وحارب ابن وجيه أيّاما ثم هزمه وظفر المهلبي بمراكبه ورجاله وأسر جماعة من وجوه أصحابه فخفّ بذلك بعض ما كان في قلب معزّ الدولة وانجلى همّ كثير كان في نفسه.

فلمّا قدم بغداد تلقّاه معزّ الدولة وجامله مديدة ثم وقف على طازاذ مال من ضمانه له قدر وكان سبّب عليه للأتراك والمهمّات فردّ التسبيبات وطالب أصحاب المال باستحقاقاتهم وأضجر ذلك معزّ الدولة فطالب أبا محمّد المهلبي وهزّ المهلبي طازاذ فاستسلم وأظلمت القصة.

فدخل المهلبي إلى معزّ الدولة فصدقه عن الصورة فاغتاظ من حيرته في الأمر وأثار ما كان في نفسه منه فزبره وطرده من بين يديه وأمره ألّا يعود إليه إلّا بعد أن يستدعيه فانصرف كئيبا. وحرّك طازاذ فصحح له مالا ونهض إلى الأمير معجّبا له من طازاذ بغير استدعاء من الأمير له.

المهلبي يتحمل مائة وخمسين مقرعة

فلمّا حصل بين يديه وأخبره بالصورة بطش به وضربه مائة وخمسين مقرعة يراوح منها بأن يرفع عنه الضرب حتى يوبخه ويبكّته بذنوبه منذ استخدامه ثم يعيد عليه الضرب إلى أن تفسّخ وثقل وقيل له إنّه كالتالف وأراد أن يرمى به إلى دجلة ثم تماسك وردّه إلى منزله ووكّل به.

ضرب طازاذ والعمل على صرف المهلبي دون جدوى

وفي اليوم الثاني استدعى طازاذ أيضا وضربه وعمل على صرف المهلّبي فلم يرتض خدمة أحد ممّن كان بحضرته في الوقت فترجّح رأيه وصعّد وصوب فلم يقم أحد مقام أبي محمد.

وكان أبو محمد المهلبي شهما قويّ النفس لا يتحرّك لشيء من نوائب الدهر فعمل عملا يشتمل على ثلاثة عشر ألف ألف درهم باقية في الممالك والأعمال وأنفذه إليه وذكر أنّه يقيم باستخراجه وأنّه إن تمادت الأيّام في التوكيل به تمزّقت وطمع فيها فشاور معزّ الدولة من حضره وكان فيهم أبو مخلد عبد الله بن يحيى وقال:

« هل يجوز أن أستنيم إلى هذا الرجل وقد لحقه مني هذا المكروه العظيم؟ » فقال أبو مخلد:

« قد ضرب مرداويج وزيره أبا سهل أعظم من هذا الضرب ولحقه ما لحقك من السوء عنه ثم خلع عليه وردّه إلى أمره وكان لا يطيق المشي لما حلّ به من الضرب فركب عمّاريّة ونثر عليه في الطريق مال ولا يمكنه أن يستقلّ بالجلوس وبقي كذلك مدّة ثم عاود مرداويج الإنكار عليه فنكبه وأتى على نفسه. » فعند ذلك راسله معزّ الدولة بالركوب إليه إذا استقلّ وأزال عنه التوكيل فتجلد المهلّبي وركب بعد أيام يسيرة فخلع عليه وعاد إلى أمره.

حدة معز الدولة واحتمال المهلبي

وكان معزّ الدولة حديدا سريع الغضب بذيّ اللسان يكثر سبّ وزرائه والمحتشمين من حشمه ويفترى عليهم فكان يلحق المهلبي - رحمه الله - من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله.

وكنت أنادمه في الوقت فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا، حتى لقد سمعت أبا العلاء صاعد بن ثابت وكان يخلفه ويأنس به يعاتبه ويقول في عرض كلامه:

« إنّ الأمير إذا اتّصل به أنسك وقلة اكتراثك لغضبه وما يلحقك من شتيمته نسبك إلى الاستهانة به فيزيد ذلك في ضرره عليك، فإن أظهرت الانخزال والاستكانة حتى يبلغه تحرّسك وانقباضك كان أحرى أن يقصّر ويندم ولا يشتّم على عادته معك وغضبه منك. » فقال له أبو محمد المهلبي:

« ما يذهب عليّ ما تقول ولكن هذا أمير خرق عجول لا يملك لسانه، فإن ذهبت أظهر الاستيحاش من هذياناته وقع له أنّى قد تنكّرت له وأنّى لا أناصحه وأنّه يتّهمنى بما لا يدور في فكرى فيكون سببا لجائحة ونكبة وليس له غير التغافل والتبسم في وجهه إذا أمكن فإن لم يمكن ذلك خوفا من غضبه فليس إلّا قلّة الفكر فيه فكان الأمر على ذلك. » وحدّثني أبو بكر ابن أبي سعيد رحمه الله: انّ معزّ الدولة وقت مقامه بالبصرة وهزيمته للبريدى افترى على المهلّبي وذكر حرمه وأفحش عليه وكان المافرّوخى حاضرا فلمّا انصرفنا من عنده قال لي المافرّوخى:

« قد ساءني أن أجرى هذا الفحش القبيح بحضرتى على الوزير فكيف الطريق إلى تسليته؟ » وإنّما أراد ألّا يتهمه بالشماتة ولا يراه بعين من علم استهانة الأمير به.

فقلت: « الإمساك في مثل هذا أولى من الكلام. » فأمسك أيّاما لا يركب إليه إلّا مع الناس وقت الاذن ثم اتّفق أن دخل المافرّوخى وأنا معه لمهمّ فوجدناه واجما مطرقا فقال المافرّوخى:

« أرى الوزير واجما فهل تجدّد أمر؟ » فقال: « ويحك أنّى أرى الأمير منذ أيام قد أمسك عمّا كان يتعاهدنا به من برّه بلسانه وأخاف أن يكون مشغول القلب بطارق تطرّقه وأنا مفكر في ذلك. » قال أبو بكر ابن أبي سعيد: فلمّا خرجنا من عنده قال لي المافرّوخى:

« هل رأيت أدهى من هذا الرجل وأذكر منه؟ » فقلت: « لا. »

صلح بين صاحب خراسان وبين أمراء بنى بويه

وفيها خرج أبو مخلد وأبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة المطيع لله إلى صاحب خراسان في الصلح بينه وبين أمراء بنى بويه وكتب معهما كتاب عن الخليفة.

ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

وفيها مات أبو الفضل العباس ابن فسانجس بالبصرة وقلّد الديوان بعده أبو الفرج محمد ابنه وأجرى على رسم أبيه.

وفيها ليلة الجمعة للتاسع من جمادى الآخرة ولد الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة بطالع السنبلة.

وفيها وافى أبو سالم ديسم بن إبراهيم الكردي منهزما من آذربيجان هزمه السلّار المرزبان وهو الذي حكينا أن ركن الدولة أسره وحبسه في قلعة سميرم فاحتال حتى فكّ قيده وقتل صاحب القلعة وخرج منها - وسنحكى حيلته هذه فيما بعد - وعاد إلى آذربيجان واجتمع إليه من كان مع ديسم من الديلم وانصرف ديسم عنها وصار إلى الحضرة مستجيرا بمعزّ الدولة ومستنصرا. فأكرمه معزّ الدولة جدّا ووقع منه وأنس به وعاشره وحمل إليه مالا وثيابا وكان يسمّيه في كتبه « الأخ أبو سالم ».

ذكر السبب في خروج ديسم عن آذربيجان بعد تمكنه منها وانهزامه من بين يدي المرزبان

كنا ذكرنا خبر ابن عبد الرزاق وتمكّنه من آذربيجان من قبل ركن الدولة واتّفق أن أوحش كاتبا له كان صحبه من خراسان واعتمد لوزارته ابن محمود لخدمته إيّاه بالأموال قديما ولخبرته بالبلدان. فاستوحش الكاتب وتركه إلى أن أشخصه لجياية الأموال في نواحي ديسم وضم إليه جيشا. فلمّا وجد الفرصة كاتب ديسما وهرب إليه بذلك الجيش كلّه.

فنفرت نفس ابن عبد الرزاق من آذربيجان وعاد إلى الريّ وأخذ معه ابن محمود وسار ديسم إلى أردبيل واستأذنه الكاتب الخراساني في العود إلى بلده فأذن له وأحسن بالخلع والجوائز.

ودبّر أمره أبو عبد الله النعيمي وابن الصقر النصراني وتوافر إليه الديلم والأكراد فملك آذربيجان وبلادها وجبى الأموال وأعطى البلاد له باليد.

فتمكن من نشوى ودبيل وكان عليهما الفضل ابن جعفر الحمداني وإبراهيم بن الضابى على سبيل التغلب فصلحت حاله وانتظمت.

واتفق أن مات ابن الصقر النصراني فوصل من تركته إليه مائة ألف درهم سوى ما أغضى عنه وهو شيء كثير فتفرّد النعيمي بوزارته.

ولم يزل أمره منتظما إلى أن شره إلى مال النعيمي وطمع فيه فقبض عليه ونصب في موضعه كاتبا له يقال له: عليّ بن عيسى، فاحتال النعيمي [ بأن سارع ] إلى بذل خطّه بكلّ ما اقترحه عليه ولم يحالفه وسلك سبيل المداراة ثم قال له:

« ان رددتني إلى العمل وسلمت إليّ خليفتي عليّ بن عيسى صحّحت لك من جهته وجهتي سوى مال المواقفة ألف ألف درهم. » فشرهت نفسه إلى ذلك ورده إلى موضعه وقبض على عليّ بن عيسى وسلّمه إليه.

وكان المرزبان بن محمد في تلك الأيام قد ملك القلعة التي حبس فيها بسميرم وقتل الموكّل به وهو شير اسفار وكان أيضا قد أفلت عليّ بن ميشكى المعروف ببلكا المأسور معه من حبس ركن الدولة وصار إلى الجبل وجمع جمعا كثيرا وكاتب الديلم الذين كانوا مع ديسم واستمالهم وسار حتى قرب من وهسوذان أخي المرزبان فكانا جميعا يدبّران على ديسم.

ثم وصلت كتب المرزبان إليها بخلاصه من القلعة وكاتب سائر الديلم بآذربيجان وليس عند ديسم من الخبر كلّه إلّا خبر عليّ بن ميشكى وظنّ أنّه وحده يقاتله.

فلحق بأردبيل ابن أخت له يقال له: غانم، مضموما إلى وزيره النعيمي ومستوفيا عليه المال الذي ضمنه عن نفسه وعن عليّ بن عيسى خليفته.

وسار على اغترار بمن معه من الديلم فوجد النعيمي الفرصة لما كان في نفسه وأفسد غانما على خاله ديسم وقتل عليّ بن عيسى بالمكروه العظيم واستأمن إلى عليّ بن ميشكى واحتمل معه كل ما قدر عليه من المال.

وبلغ الخبر ديسما فعاد إلى أردبيل بعد أن كان بلغ إلى زنجان وشغب الديلم عليه فأخرج كل ذخيرة له من الصياغات وغيرها وتوجه إلى برذعة على سبيل النزهة والصيد وهو يظن أن خصمه عليّ بن ميشكى وليس عنده خبر المرزبان.

وكان أنفذ إلى أرمينية من يوطّئ له نيّات ملوكها من ابن الديراني وابن خاجيق وأخيه حمزة وابن سباط وغيرهم ليلجأ إليهم إن حزبه أمر وورد عليه خبر عليّ بن ميشكى بتوجهه إلى أردبيل مع عدّة يسيرة ثقة بأنّ الديلم الذين مع ديسم سيستأمنون إليه، فانكفأ ديسم إلى أردبيل ووقعت الحرب فقلب الديلم تراسهم في وجهه وانحازوا إلى ابن ميشكى سوى جستان بن شرمزن فإنّه أخلص مودة ديسم فقبض الديلم عليه وانهزم ديسم في نفر من الأكراد إلى بلد الأرمن فحمل إليه ملوكها ما تماسك به.

وورد عليه خبر المرزبان هناك في مسيره عن قلعة سميرم التي كان محبوسا فيها وحصوله بأردبيل وتسلّمه القلاع والأموال وإنفاذه على ابن ميشكى في جيش لطلب ديسم فلم يمكنه المقام فهرب إلى الموصل ثم صار إلى بغداد وذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة فتلقّاه معزّ الدولة وأكرمه ورتّبه في أعلى مرتبة وقضى حقّه وواصل إليه المبارّ والألطاف وبذل له خمسين ألف دينار إقطاعا في كلّ سنة على أن يقيم بحضرته فأقام مديدة في أطيب عيش وأرخى بال فكان يقول ذلك لكتّابه وأسبابه ويقول:

« أرغد عيش لي وأهناه أيّام مقامي ببغداد. » ثم كاتبه أسبابه من آذربيجان بما اغترّ به فنزع إلى الإمرة والاستبداد فرحل من بغداد وزوّده معزّ الدولة مالا كثيرا وثيابا ودوابّ ومراكب. فسار إلى الشام زائرا سيف الدولة في طريقه ثم انقلب من عنده إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن خاجيق لثقته كانت به وإنّه كان أودعه ذخيرة له وكتب المرزبان إليه يلزمه القبض [ عليه ].

فدافعه ثم اضطر إلى أن أطاعه في القبض عليه وسأله ألّا يلزمه تسليمه إليه فأجابه المرزبان إلى ذلك فأوقع ابن الديراني الحيلة على ديسم حتى قبض عليه وحصله عنده. فلمّا فعل ذلك كتب إليه المرزبان يلزمه حمله إلى حضرته ناقضا الشرط فدافعه مدة ثم اضطرّ إلى تسليمه فحبسه عنده ثم سمل عينه فلمّا توفّى المرزبان قتله بعض أسبابه خوفا من غائلته.

ذكر حيلة المرزبان على صاحب قلعة سميرم وما تم عليه حتى أفلت من موضعه وعاد إلى مملكته بآذربيجان

لما حصل المرزبان في القلعة امتنع من الطعام والشراب خاصّة اللحوم وما أشبهها واقتصر على القوت اليسير من الحنطة التي يستظهر منه أيضا. فبلغ خبره ركن الدولة فأمر أن يوصل إليه طبّاخه الذي يثق به ليتولّى له ما كان يتولاه من المأكل والمشرب فحصل الطباخ في القلعة معه وأخذ المرزبان في تدبير الخلاص على يده.

وكان الطباخ خفيفا أحمق وظهر منه ما في نفسه وعرف خبره شيراسفار صاحب القلعة فرمى به من قلة القلعة فهلك وضيّق على المرزبان.

وكانت والدة المرزبان خراسويه بنت جستان بن وهسوذان الملك تبذل الأموال في تعرّف أخباره وتحتال في خلاصه وكان إبراهيم المعروف بابن الصابي - وقد تقدم ذكره - في حبس ديسم فتخلّص منه ولم يجد مفزعا إلّا خراسويه فقصدها ولاذ بها وضمن لها أن يتوصّل إلى المرزبان فأطلقت له مالا وأنفذته.

وكانت المراغة بها رجل يعرف بتوبان يصارع ويقامر ويدخل في كل منكر فطلبه أصحاب الشرط بها فخاف وهرب من المراغة وقصد خراسويه وضمن لها السعى لها في أمر ابنها فطمعت في جلادته وأطلقت له مالا وعرّفته خبر ابن الضابى وأنّه نفذ قبله.

فاجتمعا ولبسا لباس التجار وأظهرا الستر والدين والورع ولزما فناء القلعة وراسلا شيراسفار وعرّفاه أنّهما تاجران وأنّهما كانا فيما مضى يعاملان المرزبان وأنّه أخذ بضائعهما وامتعة التجار وسألاه أن يجمع بينهما وبين المرزبان ليتنجّزا كتبه وعلاماته بإزاحة علّتهما فيما يستحقانه وتستحقه التجار عليه وواصلا الدعاء له وعلى المرزبان وأكثرا لعنه وشتمه وكانا يقولان:

« الحمد لله الذي كفى الناس شرّ هذا الظالم الذي لا يعرف الله ولا يؤمن بنبيه . » وما أشبه هذا حتى رقّ شيراسفار لهما وأوصل واحدا واحدا منهما إليه من غير اجتماع فقال المرزبان:

« لا أعرفهما. » فأغلظا له وواجهاه بالقبيح وخوّفاه بالله وسوء العاقبة وقال:

« إني لا أعرف حسابهما ولكني أكتب بأن يحاسبا. » وكثر ترددهما إليه فضمت والدته إليهما وصيفا الديلمي المتطبّب - وكان في عسكر السلطان قديما - ورجلا آخر يعرف بأبي الحسن ابن جني وجماعة من أهل الطرم على هيئة التجار وحملوا الألطاف إلى شيراسفار وأسبابه وإلى بواب القلعة وكانوا يشترون منهم الحوائج ويعدونهم، إلى أن يصلوا إلى أموالهم وبضائعهم، أنّهم يبذلون لهم أموالا جليلة وفي خلال ذلك يبكون ويشكّون ظلم المرزبان وعدوانه وكانوا يصلون إلى المرزبان فرادى ويوصلون الكتب ويتنجّزون الأجوبة ويدسّون إليه في خلال ذلك الدنانير الكثيرة ليبذلها وينفقها فيما يحتاج إليه.

وكان لشيراسفار الموكّل بالقلعة غلام أمرد وضيء الوجه يحمل ترسه على مذهب الديلم فأظهر المرزبان عشقا له ومحبّة مفرطة فكان يعطيه سرّا الشيء بعد الشيء ويعده - إن هو تخلّص - بأمور عظيمة وولايات كبار حتى طمع الغلام وواطأه على كل ما أحبّ وأوصل إليه درعا في زنبيل فيه تراب وعدة سكاكين وأوصل إليه شموعا فيها مبارد واجتمع معه على وجوه الحيل.

وأظهر أولئك القوم الذين كانوا في زيّ التجار النسك والتألّه والخشوع، فصاروا يصلون إلى باب القلعة ويوصلهم البوّاب واحدا واحدا إلى أن تمّت الحيلة بموافقة هذا الغلام الإسبربر.

وكان اتفق معه على يوم بعينه: إذا دخل إليه شيراسفار يناوله الترس والزوبين الذي لصاحبه إذا استدعاه منه ووافق بعض أولئك التجار أن يكونوا مع البوّاب ليفتكوا به إذا صاح بهم.

فلمّا كان في ذلك اليوم وصل إليه توبان وكان أجلدهم وجلس آخر مع البوّاب ليفتك به إذا سمع الصوت وجلس الباقون قريبا من الباب ليدخلوا عند التمكن.

فلمّا صار إليه شيراسفار على رسم كان له وكان المرزبان قد برد مسمار قيده على مرّ الأيّام ولبس في ذلك اليوم درعه والتفّ بكسائه وكان يخاطب شيراسفار قديما ويسأله أن يطلقه ويعده المواعيد العظام فيمتنع عليه شيراسفار ويقول:

« لا أخون ركن الدولة أبدا ولكن أساعدك على كل ما يخفّف عنك غير هذا الباب. » فلمّا كان في ذلك اليوم عاد المرزبان في مسألته وكان توبان حاضرا فقال لهم توبان:

« بالله إلّا خلّصتمونى من الديون عليكم ثم عودوا لشأنكم. » فقال المرزبان لشيراسفار:

« قد أطلت عنائي. » ونهض من موضعه وقد أخرج رجله من القيد وبادر إلى الباب فتسلم الترس والزوبين من الغلام ونهض شيراسفار ليتعلق به فوثب توبان إليه وعاركه وصرعه ثم وجأه بسكين كان معه حتى قتله وصاح المرزبان:

« أشتلم. » على عادة الديلم فوثب الرجل الذي كان في الدهليز على البواب فقتله ودخل القوم الذين كانوا بالقرب فأحدقوا بالمرزبان وكان منغمسا في دم شيراسفار.

وكان الموكّلون في القلعة على تفرّق ولعب بالنرّد فتداخلهم الرعب واجتمعوا وطلبوا الأمان فجمعهم المرزبان في بيت وأخرج حرم المقتول شيراسفار وحرم الجماعة ثم طلب سلاح القوم الذين في البيت فملكه، ثم أخرجهم من القلعة وتوافى إليه الرجال حتى خرج ولحق بمأمنه.

ذكر الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج

وفي هذه السنة تمّ الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج بعد حروب كثيرة على باب الريّ ومنازلة ثلاثة أشهر وانصرف ابن محتاج إلى خراسان.

ذكر السبب في ذلك

كان استمدّ وشمكير على عادته صاحب خراسان فأمدّه بأبي عليّ ابن محتاج في جموع كثيرة وتوجّهوا إلى الريّ وظنّوا أنّه الاستيصال وأنّه لا ثبات لركن الدولة ولا بقيّة له.

وجاء وشمكير على ثقة بذلك فعلم ركن الدولة أنّه لا يقوم لهؤلاء الجمع الكثير إلّا بالمطاولة والتحصّن بحيث يكون القتال من وجه واحد فجعل بلد الريّ خلفه وحارب في الموضع المعروف بطبرك، فدامت الحرب وصبر الفريقان إلى أن قرب الشتاء وملّ الخراسانية فلم يصبروا وخافوا أيضا سقوط الثلج عليهم فأخذوا في العتاب والتراسل ورقّ أمر الحرب.

وكان الواسطة من قبل الخراسانية أبو جعفر الخازن وهو صاحب الكتاب المعروف بزيج الصفائح وله تقدّم في علوم الرياضة ومرّ بينهما كلام كثير انتهى إلى الموادعة والصلح.

فأشير على ركن الدولة بأن يجهز على الجرح ولا ينفس عن خناق عدوّه فإنّه إنّما جنح للسلم عن ضرورة وقد نفد صبره وماله وشغّب عليه جنده:

« ووراءك بلدة مثل الريّ وأنت وادع جامّ بها » ولم ير له أحد من نصحائه أن يجيبهم إلى الصلح وذاك أن النكول كان قد ظهر فيهم.

فلم يقبل ركن الدولة هذا الرأي من أحد على سداده ووضوحه ولو صدقهم بصدمة يصدمهم بها لأتى عليهم، والله أعلم بعواقب الأمور. فقبل الصلح وشقّ ذلك على وشمكير وبلغ منه مبلغا عظيما وذلك أنّه كان لا ينظر ولا يرجو أن يجمع أكثر مما جمع ولا يحتشد أكثر من هذا الاحتشاد.

فلمّا انصرف ابن محتاج طلب ركن الدولة وشمكير فانهزم من بين يديه ولم يقف فاتبعه حتى أخرجه من طبرستان وجرجان وحصل بإسفرايين.

وكتب إلى نوح بن نصر يعرفه ما جرى ويغريه بابن محتاج فاغتاظ نوح وتحرّك منه ما كان في نفسه على ابن محتاج فعزله من الجيش ببكر بن مالك وأنفذه في جيوش عظيمة.

فصار ذلك سببا قويّا ضروريا لمكاتبة أبي عليّ ابن محتاج ركن الدولة وعدوله إلى طاعته بعد أن أصابه في نفسه وأسبابه وأحواله مكاره عظيمة أزالت ثقته بصاحبه وثقة صاحبه به ولم يبق بينهما حال يرجى معها الصلاح.

وكتب الخليفة في هذا الصلح كتابا نفذ على يد ابن أبي عمرو الشرابي حاجب الخليفة وأبي مخلد عبد الله بن يحيى صاحب معزّ الدولة واتّفق موت نوح قبل أن يؤدّى الرسالة والكتاب وقعد مكانه عبد الملك بن نوح.

ولما قدم أبو مخلد من خراسان عائدا ومعه أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي اعترضهما ابن أبي الشوك الكردي من الشاذنجان وكان متقلّدا أعمال المعاون بحلوان وإليه الحماية والطريق وأظهر الخدمة وخرج معهما مبذرقا بهما.

ثم غدر فنهبهما ونهب القافلة التي كانت معهما وأسر أبا مخلد وأفلت أبو بكر عبد الواحد بن أبي عمرو الشرابي فطالب ابن أبي الشوك معزّ الدولة بإطلاق رهائنه ووعد أنّه أن أطلقوا أطلق أبا مخلد فضمن له ذلك وأطلقوا وأطلق أبا مخلد.

ثم خرج الحاجب سبكتكين إلى حلوان للإيقاع بالأكراد فدخل حلوان وقرّر أمر الأكراد وابن أبي الشوك وعاد.

ودخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة

وفيها خرج أبو سالم ديسم من بغداد وذلك لما يئس من نصرة معزّ الدولة.

ذكر السبب في يأس ديسم من نصرة معز الدولة إياه

سبب ذلك أنّ ركن الدولة صالح المرزبان بن محمّد السلّار وصاهره وتمكّن سلّار من آذربيجان فانصرف ديسم من حضرة معزّ الدولة وودّعه وظنّ أنّه يجد عند ناصر الدولة عونا فقصده وأقام عنده بالموصل مدّة ثم مضى من عنده بعد اليأس منه إلى سيف الدولة أخيه وأقام عنده أيضا مدّة.

ركن الدولة يكتب عهدا لابن محتاج على خراسان من جهة الخليفة

وفي هذه السنة قصد أبو عليّ ابن محتاج ركن الدولة للضرورة التي ذكرناها وجاء على طريق جبل ونداذ هرمز فاستقبله ركن الدولة وبالغ في إكرامه وأضافه وجميع من معه وأقام لهم الأنزال الواسعة والتمس ابن محتاج عهدا يكتب له من جهة الخليفة على خراسان فكوتب معزّ الدولة في ذلك فتكفّل به حتى فعل.

وفيها وصل رسول ابن محتاج إلى بغداد ولقي معزّ الدولة فاحتشد له احتشادا كثيرا وأوصله إلى الخليفة حتى عقد لأبي عليّ على خراسان وقلّده إيّاها مكان نوح بن نصر وسلّم إليه العقد والخلع وضم إليه أبا مخلد وأبا بكر بن أبي عمرو الشرابي وأنفذ معهم معزّ الدولة أبا منصور لشكرورز نجدة لأبي عليّ ابن محتاج ومعاونة له على نوح.

فلمّا كان بعد مدّة ورد كتاب أبي عليّ ابن محتاج بأنّه قد خطب لأمير المؤمنين المطيع لله بنيسابور ولم يكن خطب له إلى هذه الغاية في شيء من بلدان خراسان وذكر في كتابه صحّة موت نوح.

وورد الخبر بأنّ نوحا لمّا حضرته الوفاة كان بحضرته ابن مالك وهو أحد قوّاده الكبار فغلب على الأمور وعقد الأمر لعبد الملك بن نوح في ولاية خراسان وتقلّد هو رئاسة الجيش مكان أبي عليّ ابن محتاج.

وسار يطلب ابن محتاج وانفلّ عن ابن محتاج رجاله وعادوا إلى صاحب خراسان وبقي أبو عليّ في مائتي رجل من أصحابه سوى من ضمّ إليه من الديلم فاضطرّ إلى الهرب من بين يدي ابن مالك.

وورد خبره من الدامغان بأنّه صائر إلى ركن الدولة مستجيرا به، فقبله ركن الدولة أحسن قبول وأقام عنده بالريّ. ونزل ابن مالك بنيسابور وتتبع أسباب ابن محتاج.

وفيها صرف الابزاعجى عن الشرطة ببغداد واعتقل وصودر على ثلاثمائة ألف درهم وقلّد الشرطة مكانه تكينك نقيب الأتراك وقد كان طولب قبل صرفه بأربعين ألف درهم على أن يقرّر في عمله من الشرطة ووعد بإقطاع فلم يفعل.

ذكر الرأي الخطأ من الابزاعجى حتى استمرت عليه النكبة وعظمت بعد أن كانت خفيفة

كان الابزاعجى منقطعا إلى أبي عليّ الخازن فاستشاره وكان أبو عليّ يعتنى به فأشار عليه ألّا يلتزم شيئا ولا يدخل تحت شيء مما يطالب به وقال له:

« هذا يطمع فيك ويسير رسما عليك فإن امتنعت انحسم الطمع فيك وفيما بعده.

فقبل رأيه فأدّاه ذلك إلى النكبة وما أراد به أبو عليّ إلّا الخير ولكنّه أخطأ الرأي كما يخطئ الإنسان ولمّا أدّى هذا المال وانصرف إلى منزله قبض أيضا عليه ونكب نكبة ثانية وسلّم إلى تكينك فجرى عليه مكروه عظيم وصودر على مائتين وخمسين ألفا فأدّاها.

دخول ركن الدولة إلى جرجان

وفيها دخل ركن الدولة إلى جرجان ومعه أبو عليّ ابن محتاج بغير حرب وانصرف وشمكير عنه ودخل خراسان.

وفيها خطب (بمكة والحجاز) لركن الدولة ومعزّ الدولة وبختيار وبعدهم لابن طغج وذلك بعد حرب جرت بين أصحاب معزّ الدولة وبين المصريين.

وكان أبو عليّ ابن محمّد بن عبيد الله صاحب الحاج من قبل السلطان بمكّة، فأبلى وقاتل وقتل ابن له بين يديه.

ودخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة

تقليد معز الدولة إمرة الأمراء لابنه بختيار

وفيها عقد معزّ الدولة لابنه أبي منصور بختيار الرياسة وقلّده إمرة الأمراء وذلك في المحرم من هذه السنة.

وكان سبب ذلك أنّه عرض لمعزّ الدولة علّة يقال له: فرمافسمس وهي علّة الإنعاظ الدائم ويكون معه وجع شديد مع توتّر القضيب. وكان معزّ الدولة خوّارا في أمراضه فأوصى وقلّد ابنه كما حكينا إمرة الأمراء.

عمران وأمتعة التجار

وبلغ عمران بن شاهين أنّ معزّ الدولة قد مات واجتاز به مال يحمل إلى معزّ الدولة من الأهواز ومعه كار كبير فيه للتجار أمتعة عظيمة وكان مقدار المال المحمول لمعزّ الدولة مائة ألف دينار وما للتجار أضعاف ذلك.

فمدّ عمران يده إلى المال والكار على رسمه في مثل ذلك فأخذ الجميع وقبض على المرعبل ملّاح معزّ الدولة الذي كان مع المال فصادره وضربه ضربا عظيما ودهقه إلى أن أزمنه. ثم أنفذ إليه معزّ الدولة أبا الحسين الكوكبي نقيب الطالبيين برسالة إلى أن ردّ المال وذهبت أمتعة التجار وانتقض الصلح وتأدّى الأمر إلى الوحشة.

وكان الحاجب سبكتكين أخرج إلى شهرزور في جيش كثير ومعه عرّادات ومنجنيقات فأقام مدّة عليها ولم يمكنه فتحها واتّفق أنّ جيشا ورد من صاحب خراسان إلى الريّ فاحتيج إلى إنفاذ سبكتكين إلى ركن الدولة مددا له فانصرف من شهرزور ولم يصنع شيئا.

استيلاء ابن ماكان على إصبهان ومبادرة ابن العميد

وفيها ورد ابن ماكان أصبهان وكان مسيره إليها على طريق المفازة من خراسان فهجم هجوما وأضطرّ أبو منصور بويه بن ركن الدولة وعيال ركن الدولة وجميع أصحابه أن يخرجوا على وجوههم إلى خان ألنجان ومنها إلى الرباط على أقبح صورة واستولى ابن ماكان على أصبهان.

وكان الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد - رفع الله درجته - بأرجان فبادر مع قطعة من العرب ونفر يسير من الديلم كانوا معه، فوجد ابن ماكان قد تبع أبا منصور بويه بن ركن الدولة ومن معه من الحرم فلحق سواده وملك خزائنه وتخلّص الأمير بويه والحرم وقد أشرف هو والحرم على الفضيحة والأسر فلحقه الأستاذ الرئيس فعارض ابن ماكان ودافعه بخان ألنجان فأوقع به واستأسره وبه ضربات وأسر جميع قوّاده وقتل أصحابه قتلا ذريعا.

وحمل الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن ماكان وقوّاده إلى القلعة بالخان ثم صار إلى إصبهان فأوقع بمن فيها من أصحاب ابن ماكان وورد الأمير أبا منصور بويه بن ركن الدولة مع الحرم إلى إصبهان مصونين وتلافى ذلك الخطب العظيم أحسن تلاف.

وكان يحدّثني - رحمه الله - بخبر هذه الوقعة مرّات فيقول:

لما التقينا بالخان انهزم عنى أصحابي واشتغل أصحاب ابن ماكان بالنهب والغارة وثبتّ أنفة فقط من غير رجاء مني في ظفر، بل وقفت وقوف المستسلم للقتل والأسر. وذلك أنّى فكرت في تلك الحالة وقلت: إن انصرفت بنفسي سالما ومثلت بين يدي صاحبي أيّ وجه يكون لي عنده وأيّ لسان يدور بعذر لي بحضرته بعد أن أسلمت أعزّته وأولاده وحرمه وبالجملة ملكه! ونظرت فإذا القتل عليّ في حالتي تلك أهون من هذه الحال التي تصوّرتها فصرت لان أقتل كريما.

فسكنت واقفا وراء خيمة لي بعمودين وأنا أرى أطنابها تقطع وما فيها يخرج ومن يراني لا يظنّ أنّى أثبت في ذلك الموضع مع تلك الصورة، فبينما أنا كذلك وأصحاب ابن ماكان مشغولون عني بالنهب إذ ثاب إليّ غلامي روين وفلان وفلان وراءهم العرب فثاب منهم جماعة يسيرة فحملت بهم وصاح الناس:

« الكرّة. » فقتلنا وأسرنا ولم يفلت أحد.

ولما كان بعد ساعة من النهار لم يبق من جيش ابن ماكان عين تطرف إلّا من أخذ أسيرا، وحمل إليّ ابن ماكان وبه ضربة في يده وقد تعلّق منها إصبعان بجلدة رقيقة، فمدّها حتى قطعهما.

فهو على ذلك بين يديّ حتى شقّ الزحمة إليه مكار أو ركابيّ فصفعه صفعة طنّ بها الموضع وغاص، فلحقني غيظ عظيم وأمرت بطلبه وهممت بالمثلة به وقطع يده فما وقف له على أثر ولا عرف له خبر إلى اليوم.

وكان ابن ماكان مع عظم قدره في نفوس الديلم وشدّة بأسه محربا عظيم القوّة ورأيت أنا جوشنه وهو رزين جدا يعرض على فتيان الديلم وأشدائهم أن يلبسه فيستعفى منه لثقله على اليد.

حوادث عدة

وفي هذه السنة أنجد سيف الدولة ديسما وعاضده بعض الأكراد فقصد سلماس وملكها وخطب لسيف الدولة بها وكان السلّار غائبا بناحية باب الأبواب مشغولا بقوم خرجوا عليه هناك. فلمّا عاد من باب الأبواب وأصلح أمره هناك وظفر بعدوّه فقصد ديسما فاستأمن رجاله إلى سلّار وهرب ديسم ومضى الى ابن الديراني صاحب أرمينية مستجيرا به فقبله ثم غدر به وقبض عليه وقيّده وحمله إلى السلّار فيقال: إنّ السلّار سملة ثم قتله.

وفيها مات أبو عليّ ابن محتاج وابنه بالريّ في وباء حدث هناك.

وفيها تمّ الصلح بين ركن الدولة وصاحب خراسان.

وفيها ورد أبو الفضل القاشاني صاحب ركن الدولة مع ابن أخت ابن مالك برسالة عبد الملك بن نوح صاحب خراسان يلتمس أن ينفذ إليه خلع ولواء على خراسان، فعقد له الخليفة اللواء وسلّمه مع الخلع إلى ابن أخته الوارد برسالته وردّه مع أبي الفضل القاشاني وقاد أيضا إليه فرسا وأضاف إلى خلع الولاية خلع منادمة.

ودخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة

ذكر وزارة المهلّبي وخروج روزبهان على معزّ الدولة

وفيها خوطب أبو محمّد المهلّبي بالوزارة وأمر بذلك معزّ الدولة وخلع عليه وزاد في إقطاعه.

وفيها خرج روزبهان بن ونداذ خرشيد الديلمي على معزّ الدولة وخرج أخوه المسمى ببلكا بشيراز وكاشفا بالعصيان وفعل مثل ذلك أخوه الآخر أسفار بالأهواز وجاء روزبهان إلى الأهواز وكان بها الوزير المهلبي ليحاربه فاستأمن رجاله إلى روزبهان وانحاز الوزير عنه.

وورد الخبر بذلك على معزّ الدولة فلم يكن يصدّق بذلك لشدّة ثقته به فإنّه هو الذي اصطنعه ونوّه باسمه فكان خاملا وعظّم قدره وكان صغيرا قبل ذلك من رجال موسى فياذه وصغار أصحابه.

فأنفذ معزّ الدولة شيرزيل على مقدّمته للحرب واضطرب الديلم بأجمعهم على معزّ الدولة اضطرابا شديدا وأظهروا أشياء كانت في نفوسهم عليه من العتب والاستبطاء وكاشفوه وواجهوه بكلّ ما كره وأخذوا يستأمنون.

فقلد معزّ الدولة الابزاعجى الشرطة بواسط وأنفذه إليها. وفي يوم الخميس لخمس خلون من شعبان خرج معزّ الدولة من داره ببغداد متوجها إلى قتال روزبهان وزاد الأمر في استئمان الديلم إلى روزبهان.

وخرج الخليفة المطيع لله منحدرا إلى معزّ الدولة وذلك أنّ ناصر الدولة لمّا بلغه خبر روزبهان وما عمله هو وأخوته حدّث نفسه ببغداد فوجّه بابنه أبي المرجّى وآخر من أولاده إلى بغداد، وبلغ ذلك معزّ الدولة فردّ الحاجب سبكتكين من واسط لضبطها وكتب إلى مسافر بن سهلان - وكان بنهاوند متقلّدا لها - يأمره بالتعجّل إلى بغداد لمضامّة الحاجب سبكتكين ببغداد.

فشغب الديلم المقيمون ببغداد لطلب أرزاقهم فبعث إليهم مسافر وسبكتكين ولشكرورز ووعدهم بالمال فسكنوا وكان مسافر نزل في أعلى القطيعة وخرج سبكتكين الحاجب فنزل بباب الشمّاسية وهم على قنوط من [ معزّ ] الدولة.

ومنع معزّ الدولة جميع الديلم من العبور لقنطرة أربق معه لما رأى من استئمانهم إلى روزبهان ووكّل بالقنطرة من يمنعهم من عبورها قلّة ثقة بهم وخوفا من أن يغدروا به ويشوّشوا باقى عسكره لأنّه كان ينفق فيهم فإذا قبضوا النفقات صاروا إلى روزبهان من فورهم فما عبر معه من الديلم إلّا ليلى بن موسى فياذه وشيرزيل ابن وهرى والحسن بن فنّاخسره فقط.

وكان اعتماد معزّ الدولة على غلمانه الأتراك فحارب روزبهان يوم الاثنين انسلاخ شهر رمضان نهاره كلّه إلى أن سقط القوم ثم حمل بنفسه في غلمان داره وحضّهم بأن قال:

« يا أولادى قد ربّيتكم تربية الأولاد فأرونى غناءكم الساعة. » فحملوا معه حملة الصبيان الأغمار فلم يردّهم شيء وانهزم روزبهان وأصحابه وأسر روزبهان وبه ضربات وأسر كوركير وفتح اللشكري وأرسلان كور.

شرح صورة هذه الحرب على سياقة من شاهدها

استوحش الديلم من منع معزّ الدولة إيّاهم من العبور، فاجتمعوا عليه وقالوا له:

« إن كنّا رجالك فأخرجنا نقاتل بين يديك فإنّا لا نصبر أن نجلس مع الصبيان لحفظ سوادك ونرى الأتراك يقاتلون عنك فمتى ظفرت بعدوّك خرجنا من المحمدة ومتى ظفر عدوّك فلحقنا العار والسبّة. » وكأنّهم سلكوا في هذا الكلام مسلك الحيلة ليطلق لهم العبور فيتمكّنون من كسر عسكره والاستئمان إلى عدوّه.

فسألهم التوقّف وقال:

« إنّما أريد أن أشامّ القوم ولا أناجزهم كما فعلت بالأمس فإذا كان في غد باكرناهم بأجمعنا على تعبية واستعنّا بالله وناجزناهم. » وكان يدرّ عليهم النفقات ويواصل العطايا ويكثر المداراة فأمسكوا عنه وعبر معزّ الدولة وعبّى غلمانه كراديس تتناوب في الحملات إلى وقت غروب الشمس فهناك فشل الأتراك وانقطعت حيلهم وفنى نشّابهم وشكوا إلى معزّ الدولة وقالوا:

« ليس فينا فضل وقد أمسينا فنستريح الليلة وتفرّق فينا النشّاب ونباكرهم الحرب. » فعلم معزّ الدولة أنّه إن رجع عن هذه الحالة زحف روزبهان والديلم وثار من خلّف وراءه من أصحابه الديلم الذين كان يتّهمهم فلا يمكنه الهرب وكان الهلاك فبكى بين أيدى غلمانه وكان سريع الدمعة ثم سألهم أن تجمع الكراديس كلّها ويحملوا وهو في أوّلهم فإمّا أن يظفروا وإمّا أن يقتل أول من يقتل. فطالبوه بالنشاب فقال:

« قد بقي مع الغلمان الأصاغر نشّاب فخذوه وتوزّعوه. » وكانت عدّة من الغلمان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد العتاق وعليهم الجنن والتجافيف وكانوا سألوا معزّ الدولة أن يأذن لهم في الحملة نوبة في الكراديس فلم يأذن لهم وقال لهم:

« إذا كان الوقت الذي يصلح لكم ما سألتم أذنت فيه. » فوجّه إليهم بنقيب وأومأ بيده أن اقبلوا ما يقول النقيب ليأخذ النشاب منهم فلم يشكوا أنّه إنّما أومأ إذنا لهم فيما كانوا يسألونه ووعدهم به، فحملوا وهم مستريحون وكذلك خيلهم فصدموا صفوف الديلم فكسروا بعضهم فوق بعض وصاروا من ورائهم وحمل معزّ الدولة فوضع فيهم اللتوت فكانت إيّاها وكتب بالظفر إلى بغداد.

فورد على الديلم المقيمين ببغداد ما أدهشهم ولم يصدّقوا به وقدّروا أنّه أرجف بذلك إرجافا فكانوا يستهزئون استهزاء ظاهرا ويقولون:

« نعم كانوا دجاجا وضع عليهم مكبّة فما أفلت أحد ».

وكانت نفوسهم اشرأبّت إلى روزبهان. فلمّا صحّ عندهم الخبر ضعفت نفوسهم وانخذلوا.

وأسرع معزّ الدولة الانصراف ليلحق بغداد قبل ورود أصحاب ناصر الدولة إليها. فدخل بغداد يوم الجمعة لاثنى عشرة ليلة بقيت من شوال ودخل داره ثم سار في يومه ذلك في الماء إلى معسكر الحاجب بباب الشمّاسية في زبزب ومعه روزبهان في زبزب آخر مكشوفا ليراه الناس وكوركير في زبزب آخر، واجتمع الناس على الشطوط فدعوا له وعلى روزبهان.

وقد كانت العامّة محبّين لأيّام معزّ الدولة وذلك لما كان منه في سدّ بثق نهر الرّفيل وسدّ بثق بادوريا فإنّه خرج بنفسه حتى سدّ هذا البثق وحمل التراب بنفسه في برّكة قبائه حتى فعل جميع العسكر مثل فعله وسدّ ذلك البثق. ثم خرج إلى النهروانات فسدّ بثقابها وكانت النهروانات قد بطلت وكذلك بادوريا فلمّا سدّ بثوقها عمرت بغداد وبيع الخبز النقي عشرين رطلا بدرهم فمالت العامّة إلى أيّام معزّ الدولة وأحبّوه.

ومضى الأمير معزّ الدولة ممتدّا إلى عسكره بقطربّل وكان أبو المرجّى وأخوه قد وصلا إلى عكبرا ووصلت خيولهما إلى البركان. فلمّا بلغهما قدوم معزّ الدولة وما جرى على روزبهان انصرفا من عكبرا إلى الموصل وتبعهما الحاجب سبكتكين فلم يلحقهما لإغذاذهما السير.

وحبس روزبهان بالصراة في حصن كان هناك فكان الديلم يحدّثون أنفسهم بكبس موضعه وإخراجه. وأشار أبو العباس مسافر على معزّ الدولة بقتله فأبى وكره ذلك إلى أن قال جماعة من ثقاته:

« إنّك إن لم تبادر إلى قتله أخذه الديلم غصبا وزالت الدولة وذهبت أرواحنا. » فاخرج حينئذ بالليل وغرّق في سميريّة أسفل دار الخليفة.

وورد الخبر بعد ذلك بظفر الأستاذ ابن العميد ببلّكا أخي روزبهان وردّه الملك على أبي شجاع فناخسره بن ركن الدولة.

فانطوى ذكر روزبهان وأخويه بعد أن اشتعل اشتعال النار وانحاز إليه وإلى أخيه بلّكا الديلم وظنّوا أنّهم قد نقلوا ملك بنى بويه ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ثم إنّ معزّ الدولة أسقط الديلم الروزبهانيّة وقبض على جماعة من قواده وأعرض عن سائر الديلم وأقبل على الأتراك واصطنعهم وكتب بالفتح إلى الأمصار.

ودخلت سنة ستّ وأربعين وثلاثمائة

موت السلار المرزبان

وفيها ورد الخبر بموت السلار المرزبان بآذربيجان في شهر رمضان وكانت وفاته بفساد المزاج. فلمّا يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان على أن يكون الرياسة له ثم من بعده لابنه جستان، وكان قد تقدّم إلى أصحاب قلاعه الموكّلين بحفظها إن حدث الموت ألّا يسلّموها إلّا إلى جستان ابنه فإن حدث به حدث الموت فإلى ابنه إبراهيم فإن مات فإلى ابنه ناصر.

وكان له ولد رابع يقال له كيخسره فلم يذكره لصغره وقال: فإن لم يبق من هؤلاء أحد فسلّموها إلى أخي وهسوذان.

ولما وصّى إلى أخيه وصيّته هذه عرّفه علاماته التي بينه وبين أصحاب قلاعه فأنفذ وهسوذان بعلاماته وخاتمه إلى المرتّبين في القلاع في تسليمها إليه فأبوا عليه وأظهروا وصيّته المستورة.

وكان إبراهيم بن المرزبان متزوّجا بابنة ولكين بن خرشيد وهو من أكابر الديلم وكان ولكين هذا محبوسا من جهة المرزبان بأردبيل، فلمّا مات المرزبان خاطبته زوجته في أبيها وحملته على أن يمضى بنفسه ويخرجه من محبسه. فركب وأخرجه من غير استئذان عمّه وهسوذان فاستوحش وهسوذان وفكّر في مخاتلة أخيه له في الوصية وفي إقدام ابن أخيه إبراهيم عليه وإخراجه ولكين من محبسه بغير إذنه فساء ظنّه وخرج من أردبيل كالهارب إلى الطرم فاستولى جستان على ممالك أبيه وأطاعه أخواه إبراهيم وناصر وقلّد وزارته أبا عبد الله النعيمي وتوافى إليه قوّاد أبيه إلّا جستان بن شرمزن فإنّه تأخّر عنه وفكّر في التغلّب على ناحية أرمينية وكان واليا بها.

وأخذ وهسوذان في التضريب بين أولاد أخيه وتفريق كلمتهم وإطماع أعدائهم فيهم والتشفّى بما عومل به حتى اضطرب عليهم عسكرهم وطالبوهم بما لا يتسعون له حتى تمكّن منهم وقتل بعضهم وحرّض على من لم يمكنه قتله حتى بلغ ما أراد واشتفى وزاد.

ذكر أخبار الأمراض والمناخ والزلازل

وفي هذه السنة كثر ببغداد أورام الحلق والماشرا وكثر الموت بهذين الضربين وموت الفجاءة وكل من افتصد انصبت إلى ذراعه مادّة حادّة عظيمة يتبعها حمّى حادّة فيحتاج إلى بطّ وما سلم أحد ممن افتصد.

وكانت شتوة هذه السنة دفيّة عادمة الأمطار وحكى أهل البحر أنّ البحر نقص في هذه السنة ثمانين باعا وأنّه ظهر لهم جبال وجزائر لم يعرفوها ولا سمعوا بها قطّ وكانت زيادة دجلة في هذه السنة يسيرا نحو عشرة أذرع وكان بالريّ ونواحيها زلازل عظام مات فيها من الناس ما يعظم مقداره ويكثر عدده.

ودخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة

حوادث عدة

وفيها كثرت الزلازل ببغداد وحلوان وبلدان الجبل وعظم أمرها بالجبل خاصّة فخربت الأبنية وقتلت الخلق.

وفيها شغب الأتراك والديلم بالموصل على ناصر الدولة وزحفوا إلى داره وأرادوا الفتك به فحاربهم بغلمانه وبالعامة وظفر بهم وقتل بعضهم في الوقعة وقبض على جماعة وهرب الباقون إلى بغداد.

وفيها ورد الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة إلى بغداد يخطب ابنة معزّ الدولة ومعه أبو عليّ ابن أبي الفضل القاشاني وزيرا ومعه أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد يكتب له على سبيل الترسل.

فلمّا كان ليلة السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى زفّت بنت معزّ الدولة إلى أبي منصور بويه ثم حملها إلى إصبهان.

طمع ناصر الدولة في ممالك معز الدولة بعد الصلح والموادعة

وفيها خرج معزّ الدولة نحو الموصل يوم الخميس لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وعبر من باب الشماسية إلى قطربّل وضرب مضاربه هناك وعزم على قصد الموصل لمحاربة ناصر الدولة وأولاده لما كان منهم في قصد ممالكه والطمع فيها بعد الصلح والموادعة وتردّدت الرسل فأمر معزّ الدولة أن تكتب عنه توبيخات وتهجينات عنيفة شديدة وأمر أن تقرأ وتستوفى أجوبتها.

ذكر هذه التوبيخات

قال فيها:

« أنت ذاكر ما جرى عليك من تكين الشيرزادى فإنّه أخرجك من نعمتك وكاد يأتى على مهجتك فلجأت إليّ بعد عداوة سبقت منك لي ومنازعة نازعتنيها عن بلاد لم يكن في يدك منها شيء فاطرحت الأحقاد واغتفرت الذنوب وآثرتك على تكين وهو إذ ذاك يبذل لي الخدمة والطاعة وحمل المال وإقامة الخطبة ولا يلتمس منى الأتراك الدخول بينك وبينه والانصراف عن النصرة لك عليه فآثرتك.

« وأنفذت كاتبي وعسكري بأموال أنفقتها ومؤن تكلّفتها حتى أخذت بناصيته وسلّمته إليك فشفيت صدرك منه وعدت إلى وطنك.

« ثم حصلت في يد وزيرى الصيمري حصول المستجير الذليل فوفى لك ولو شاء لأسرك واشتمل على بلادك وقلاعك.

« وظننت أنّك تعرف لي حقّ هذه النعمة وتطالب نفسك عليها بالمجازاة فأبيت إلّا غدرا بي وتقبيحا في معاملتى.

« وليتك - لما لم تعمل عمل الأصدقاء الأوفياء - عملت عمل الأعداء الحزماء، فكاتبتنى تعرض نفسك عليّ في النائبة العظيمة التي نابتنى في أوثق الناس عندي وتبذل لي معاونتك فكنت تنفذ عسكرك إلى تكريت على أنّه مدد لي فإن لاح لك استظهار مني تحمّدت عليّ وتودّدت إليّ وإن لاح لك استظهار عليّ أظهرت ما في نفسك حيث تكون فيه أعذر وأقل ملامة. » ثم أتبع هذا القول بالتوعّد والتهدّد بالمسير إلى أعماله واستيصاله.

الجواب عن هذه الرسالة

« إنّك قد صدقت في جميع ما عددت وإني معترف به، وو الله ما كان عن رأيي ولا أمرت به ولكني شيخ لي أولاد أحداث يخالفوننى في تدبيرهم فيركبون الهوى في أمورهم ولا رأي لمن لا يطاع. » وتمّت الموافقة بينه وبينه على تعجيل ألفي ألف درهم فعجلها له والتزم مثلها في كل سنة فأظهر معزّ الدولة الرضا ضرورة لأنّه كان غير واثق برجاله ولأنّ أعماله اختلّت بتلك الفتنة فعاد إلى داره.

ثم أخّر ناصر الدولة المال الثاني لأنّ الأوّل كان في سنة ستّ فخرج معزّ الدولة إليه وسار ناصر الدولة إلى نصيبين ودخل معزّ الدولة الموصل وسار إلى نصيبين وخلف سبكتكين بالموصل.

وأنفذ سريّة إلى سنجار لأنّه بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة بها وبلغهما خبر السريّة فانصرفا وقد كان أعجلهما الأمر فتركا خيمهما وجميع معسكرهما بحاله ولم يمكنهما حمل شيء. فأسرع الديلم الذين كانوا في السريّة إلى الغارة والنهب.

ذكر عجلة وإضاعة حزم

إنّ الديلم نزلوا في خيم أبي المرجّى وأخيه فعادا وكبسا العسكر واستأسرا جماعة وقتلا جماعة وكان ممّن قتل ابن ملك الديلم المعروف بسياه چشم قتله هبة الله ووقع في الأسر شيرزاد وشيرمردى وعدد كثير.

ذكر السبب في هذه النكبة وضعف معز الدولة بعد الاستعلاء

كان من عادة ناصر الدولة إذا تنحى من بين يدي معزّ الدولة ألّا يترك في البلد لا كاتبا ولا دليلا ولا أحدا ممّن يعرف نفع السلطان وضرّه ويحشرهم إلى قلاعه مع حسباناته ودواوينه. ثم يأمر الصعاليك والعرب أن يتطرّفوا البلد ويمنعوا العلّافة ومن يخرج لطلب العلف والطعام إلّا أن يكون معهم عسكر قويّ فإذا رأوا عسكرا قويا لم يظهروا ولم يتعرضوا وكان غرضه في ذلك أن يضيق المير والعلوفات فينصرف عنه معزّ الدولة. ففعل ذلك في هذا الوقت.

وبلغ معزّ الدولة كثرة الغلات بنصيبين وكانت للسلطان فقصدها وخلّف حاجبه سبكتكين بالموصل. فلمّا صار ببرقعيد بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فعمل على كبسهما وندب لذلك جماعة من القواد الكبار وجعل الرئيس عليهم تكين الجامدار - وكان غلاما أمرد وضيء الوجه منهمكا في الشرب لا يعرف الصحو ولا تقدّمت له حنكة - فأشار الوزير المهلبي ألّا يخرجه في مثل هذا الوجه وأن يعدل إلى أحد مشايخ القواد فلم يقبل منه وأنفذه في خمسمائة رجل فأشرفوا على أبي المرجّى وهبة الله فأرهقوهما عن تقويض الخيم واستصحاب شيء من رجالهما وأفلتا على ظهور دوابّهما وتركوا جميع مالهم فانتهبه العسكر.

ثم تعجّل أصحاب معزّ الدولة إلى الخيم وتركوا الحزم فنزلوها واستقرّوا فعطف عليهم أولئك وصارت الكبسة لهم فقتلوا وأسروا وغنموا ما شاءوا.

وبقي معزّ الدولة في عدد يسير ببرقعيد في طريقه إلى نصيبين فكتب إلى بغداد يستدعى العساكر فتعجّلوا وتلاحقوا إليه فلمّا قويت عدّته سار من برقعيد إلى نصيبين وسار ناصر الدولة من نصيبين إلى ميّافارقين وفضّ جيشه عنه بأسره وصرفهم، فصار جميعهم إلى معزّ الدولة في الأمان واستأمن أبو زهير أخو ناصر الدولة إلى معزّ الدولة ورحل ناصر الدولة من ميّافارقين إلى حلب مستجيرا بأخيه سيف الدولة فتلقّاه أخوه بأجمل تلقّ وقبله أحسن قبول وخدمه بنفسه حتى تولّى نزع خفّه بيده.

وكان حامد بن النمس توجّه من قبل معزّ الدولة إلى الرحبة فهزم من كان بها من جيش ناصر الدولة.

وكان طريف الخادم وهزار مرد وهما غلاما ناصر الدولة يتطرّفان الموصل في الجانب الشرقي منها كل يوم ويلتقطان عمّال معزّ الدولة ويأخذان العلّافة من عسكر الحاجب ويمنعان من ورود شيء إلى الموصل حتى صارت محاصرة وأخذا من الثرثار من عمّال معزّ الدولة رجلا يعرف بعليّ بن الصقر وحملاه إلى القلعة ثم كبسا الحديثة وكان فيها محرز حاجب الوزير أبي محمد المهلّبي وأبو العلاء ابن شاذان يتقلّد عمالتها فقبضا عليهما ثم أطلقا محرزا وحملا أبا العلاء إلى القلعة.

وكان معزّ الدولة راسل كافور الخادم بمصر يأمره بحمل مال إلى الحضرة فحبس كافور الرسول حبسا جميلا وطاوله وبثّ جواسيسه لتعرّف الأخبار.

فلمّا عرف انصراف معزّ الدولة عن ذلك الوجه إلى بغداد ردّ الرسول خائبا.

وورد عمرو النقيب من قبل ناصر الدولة إلى نصيبين وسفر في الصلح وطال الخطب بينه وبين معزّ الدولة فلم يتمّ الصلح. فلمّا رأى عمرو الصورة استأمن إلى معزّ الدولة وأقام بحضرته ولم يعد إلى ناصر الدولة.

ثم ترددت رسائل بين معزّ الدولة وبين سيف الدولة وتوسّط بين أخيه وبينه حتى تقرر ما بينهما ورجع معزّ الدولة من نصيبين قاصدا الموصل.

ذكر اتفاق صعب غير محتسب

لمّا صار معزّ الدولة بين المونسية وآذرمه في اليوم الخامس عشر من شباط هبّت ريح باردة مغربية ووقع دمق فتلف في ساعات يسيرة من النهار عدد عظيم من عسكره ولحق معزّ الدولة غشية وكاد يتلف من كثرة ما عليه من الوبر والخزّ.

فقلع أهل العسكر سقوف آذرمه وأبوابها وأوقدوها فأطلق معزّ الدولة لأهلها ثلاثة آلاف درهم ليبتاعوا بها مكان ما أخذ من أنقاضها.

ذكر تدبير سيّئ ورأى ظاهر الفساد رآه معزّ الدولة بعد فراغه من روزبهان أدّى إلى تخريب المملكة وسوء عاقبة الأولاد والرعية

دبّر معزّ الدولة عند فراغه من حرب روزبهان أن يطرد الديلم الروزبهانيّة ويمسك من لم يفارقه منهم وإن كانوا متهمين عنده وكان وعدهم للعشرة ثلاثة في أصول أموالهم وظنّ أنّه إن وفى للكلّ لم يتّسع له مع أنّ الفتح للأتراك وكان مائلا إليهم بالهوى قبل الاستحقاق فكيف بعد هذا الأثر العظيم! فابتدأ يجازى الأتراك بالإحسان فقوّد منهم جماعة واستحجب جماعة ونقّب جماعة ورفع كل طبقة إلى ما هو أعلى منها ونفى الديلم الروزبهانيّة ليتوفّر عليهم مالهم ويصير ذلك بإزاء ما يلزمه لأصحابه الديلم من الزيادات.

فأخرجهم إلى الأهواز وكتب إلى وزيره المهلّبي بجمعهم من جميع النواحي والأعمال والتوكيل بهم والمسير معهم إلى آخر الحدود ليتفرّقوا حيث شاءوا.

فدفع الوزير من ذلك إلى خطّة صعبة وحال مخاطرة عظيمة. لأنّ القوم كانوا ذوي عدد وعدّة ألا أنّه تلطّف وأحسن التدبير حتى أخرجهم زمرة بعد زمرة.

ثم حمل معزّ الدولة الأتراك على التسحّب على الديلم وتعييرهم بشقّ العصا وخلع الطاعة وتقريعهم بهذا ونحوه وأنّ عدد الأتراك مع قلته وفوا بهم حتى قهروهم وأذلّوهم.

ثم رسم للأتراك رسوما صار سببا لضراوتهم وطلب الأموال والتغلّب على الأعمال والتسحّب على العمّال وذاك أنّه أمر بتسبيب ما يستحقّونه على واسط والبصرة والأهواز وأخرجهم طبقة بعد طبقة على النوبة لاستيفاء أموالهم ولمن وراءهم من رفقائهم المقيمين وأن يقام لهم نزل يأخذونه راتبا في كل يوم إلى أن يستوفى ماله ومبلغه عشرة دراهم لكل غلام في كل يوم وعشرون درهما لمن كان نقيبا وأراد أن ينفعهم عاجلا لا مؤبدا.

وانفتح عليه من ذلك باب من الفساد كان أضرّ عليه من زيادة أوزارها في أصول استحقاقاتهم وذلك أنّهم آثروا أن تتأخر أموالهم المسببة لتكثر أيّام مقامهم وصيروا أصول أموالهم بضائع يتّجرون فيها وإذا راج لهم من مال تسبيباتهم لم ينسبوا شيئا منه إلى الأصل وقد بقي لهم درهم واحد ويستروح العمّال إلى إطلاق الشيء بعد الشيء لئلا يرهقوا بالمال جملة فربّما أقاموا سنتين وثلاثة.

وحلت التجارات في صدورهم وإجازة ما يحصل لهم في الطريق بغير ضريبة ولا مؤونة ثم تجاوزه إلى الدخول في التلاجئ فملكوا البلاد واستطالوا على العمّال وحاموا على التجّار ومن اعتصم بهم فضعفت أيدى العمّال واستعبدوا الناس واستمرّ ذلك وازداد إلى اليوم.

ودخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة

وفيها وافى أبو محمد الفياضى كاتب سيف الدولة إلى الموصل في المحرم وتقرّر الأمر على أن عقدت الموصل وديار ربيعة والرحبة على سيف الدولة بألفي ألف درهم وتسعمائة ألف في السنة وذلك لأنّ معزّ الدولة لم يستجب إلى عقدها على ناصر الدولة وعلى أن يقدّم من ذلك ألف ألف درهم ويطلق الأسارى الذين أسروا بسنجار.

فلمّا تقرر هذا انحدر معزّ الدولة وتأخر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين بالموصل والجيش بأسره معهما إلى أن يحمل مال التعجيل ثم وردا مع الجيش ومع أبي محمّد الفياضى كاتب سيف الدولة.

ذكر انحدار معز الدولة والسبب فيه بعد تمكنه من ديار ربيعة ومضر

كان السبب في إصعاده الإضاقة الشديدة التي لحقته بعد الأمور التي ذكرناها وتأخر أموال الحمول عنه فعلم ناصر الدولة بذلك فانهزم من بين يديه وقال لأصحابه:

« اذهبوا حيث شئتم فإني لا أقف للحرب. » فاستأمن أصحابه إلى معزّ الدولة كما كتبنا فيما تقدّم فازدادت إضاقة معزّ الدولة ولم يمكنه ضبط النواحي ولا الحماية، وتقاعد الناس بأداء الخراج احتجاجا بأنّهم لا يصلون إلى غلّاتهم وطلبوا الحماية واضطرّ معزّ الدولة إلى الانحدار ولكنّه أنف وأقام على كره ومشقّة. فلما ورد عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها وأجابه بالشكر الجميل وشكا إليه أخاه وقلّة وفائه والغدر به مرّة بعد مرّة وقال له:

« ان ضمنته أنت أجبت. » فضمنه وانحدر معزّ الدولة.

وفي هذه السنة انقطعت الحمول من واسط إلى البصرة والأهواز

ذكر السبب في ذلك

السبب في ذلك ما كنّا ذكرناه من استيلاء الأتراك واستضامتهم العمّال ومضايقتهم إيّاهم حتى اضطرّوهم إلى بذل المرافق الكثيرة لهم فاقتنوا الأملاك وحاموا على قوم على سبيل التلاجى فتغلّبوا على حقوق بيت المال وصار العمّال يعولون على الغلمان الأتراك في أخذ حقوقهم على التنّاء فيتنجزّونها كما يتنجّزون تسبيباتهم. وتشبه بهم الديلم واصطلح الفريقان على هذا السبيل فكسروا على السلطان حقوقه.

واجتمع العمال بذلك فكسروا أصول العقود وسألوا إزالة ما دهمهم فلم يمكن ذلك وصارا بمنزلة الداء الذي لا يرجى حسمه لأنّ الديلم كانوا مستوحشين ومتفرقين والأتراك متطاولين مدلّين. فلو قمعوا لصارت كلمتهم مع الديلم واحدة.

فجرى الرسم بأن ينقل ما رفعه العمّال من فاضل ما عليهم إلى السنة التي بعدها وحصل الوزير وكلّ من دبّر فيه تدبيرا متعرضا لسفك دمه وذهاب نفسه إلّا أنّ هذا الفساد كان في أيّام معزّ الدولة كالطفل الناشئ لهيبته وبقيّة حشمته ثم ظهر الإفراط بعد على أولاده ولما أتى عليه الزمان بعد وفاته.

حوادث عدة

وفيها خلع السلطان على الأمير أبي منصور بختيار بن معزّ الدولة وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء ولقّبه عزّ الدولة.

وفيها أنفذ لواء وعهد إلى أبي عليّ بن الياس وكان السفير في ذلك كله القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار الصيمري.

وفيها مات أبو الحسن محمّد ابن أحمد المافرّوخى وكان يكتب لمعزّ الدولة وكتب له بعده أبو محمّد عليّ بن عبد العزيز المافرّوخى مدّة شهر. ثم استعفى وانصر تقلّد مكانه أبو بكر ابن أبي سعيد.

وفيها كانت وقعة بين عليّ بن كامه ابن أخت ركن الدولة وبين بيستون ابن وشمكير فكانت على بيستون.

وفيها غرق الحاج الواردون من الموصل وكانوا في بضعة عشر زورقا كبارا فيها من الرجال والنساء نحو ألف نسمة.

وفيها غزا الروم المسلمين فأسروا وقتلوا وسبوا وانصرفوا وذلك في طرسوس والرها.

ودخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة

وفيها ورد الخبر بأنّ صاحب خراسان قتل رجلا من قواده يسمى بختكين من وجوه قواد الأتراك فاضطربت خراسان لأجله.

وفيها ورد الخبر بأن ابنا لعيسى بن المكتفي بالله ظهر بناحية أرمينية وتلقب بالمستجير بالله يدعو إلى المرتضى من آل محمّد رسول الله وسلّم - ولبس الصوف وأمر بالمعروف.

وكان هذا الرجل مضى إلى بلد الجيل فاستنصر بجماعة من الديلم المعروفيّة والمسوّدة والمنتسبين إلى مذهب السنة من مذاهب المسلمين فخرجوا معه وصاروا إلى آذربيجان فغلب على عدة بلدان منها ما كان في يد سلّار الديلمي.

ثم ورد الكتاب في شهر رمضان من جهة ابن سلّار بأنّه أوقع بهذا الرجل المتلقب بالمستجير بالله، فأسره وقتله.

ذكر السبب في خروجه وسرعة هلاكه

كان السبب فيه أن جستان بن المرزبان ترك طريقة أبيه في سياسة الجيش وتوفّر على النساء واللعب ثم أدخلهنّ في التدبير.

وكان جستان بن شرمزن تحصّن بسور أرمية وكان وهسوذان بالطرم ويضرّب بين أولاد المرزبان كما حكينا فيما تقدّم.

وكان جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي واتّفق بين النعيمي وبين كاتب جستان بن شرمزن وهو أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه مصاهرة.

فلمّا قبض جستان بن المرزبان على النعيمي استوحش صهره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وحمل صاحبه على مكاتبة أخي جستان وكان يومئذ بأرمية وأطمعه في أموال عظيمة ووعده أن يقوم بين يديه وينصره بجيشه الذين جمعهم ويقيم مقام أخيه.

فعمل إبراهيم على ذلك وأشار عليه نصحاؤه بألّا يفعل فخالفهم وركب هواه وسار إلى أرمية واجتمع مع جستان بن شرمزن وكاتبه أبو الحسن عبيد الله بن حمدويه ووعدهما بكل ما سكنا إليه فصاروا إلى المراغة واستولوا عليها.

وقد كان جستان بن المرزبان صار إلى برذعة. فلمّا عرف خبر أخيه إبراهيم وانحيازه إلى جستان بن شرمزن عاد إلى أردبيل فراسل ابن شرمزن وكاتبهما ومنّاهما ووعدهما بإطلاق النعيمي وبذل لهما كل ما اقترحاه، فعادا إلى موالاته وتركا إبراهيم وانصرفا عنه إلى أرمية وأخلفاه في كلّ ما كانا بذلاه.

فلمّا رأى إبراهيم ذلك عاد إلى أرمية وبقي جستان بن شرمزن وكاتبه يطمعان كل واحد من الأخوين أعنى إبراهيم وجستان ابني المرزبان أنّهما معه حتى استكملا بناء سور أرمية وقلعة في داخلها منيعة واستكثرا من جمع الأقوات والآلات.

وظهر للأخوين معا نيّة ابن شرمزن في النفاق والعداوة فتراسلا وتصالحا وعملا على أن يجتمعا ويقصداه.

واتفق أن هرب أبو عبد الله النعيمي من حبس جستان بن المرزبان وصار إلى موقان وكاتب ابن عيسى بن المكتفي بالله المتلقب بالمستجير بالله، وأطمعه في الخلافة وأن يجمع له من الرجال من يستولى بهم على آذربيجان فإذا قوى بالمال والرجال قصد العراق.

فسار المستجير بالله في نحو ثلاثمائة رجل من المسوّدة ولم يكن بعد تمكّن ولا اجتمع له من الرجال ما أراد.

فلمّا أطمعه النعيمي صار إليه واجتمع معه وصار أيضا إليه جستان بن شرمزن في عسكره فقوى به وقلّده أمر عسكره وبايعه الناس.

وسار إليه جستان وإبراهيم ابنا المرزبان في جموعهما. فلمّا عبّى جستان عسكره تقدّم إليهم بأن يلزموا مصافّهم ويحفظوا نظامهم ولا يحملوا حتى يأذن لهم.

وكان معهم الفضل بن أحمد الكردي القحطانى وهم صنف من الأكراد ومع جستان الصنف الآخر من الأكراد الذين يعرفون بالهدايانية وتلقاهم الهدايانية وابتدأوا بالحرب فانتقض على جستان بن شرمزن صفوفه فخرج من موضعه الذي كان فيه مع الديلم لينكر على الفضل مخالفته إيّاه ويردّه إلى موضعه فوجده قد أبعد فاتبعه فما شكّ أصحابه في انهزامه فاقتفوا أثره وصحت الهزيمة.

وركب الهدايانية وأصحاب جستان وإبراهيم أكتافهم وأضطر جستان بن شرمزن إلى الانصراف إلى أرمية وظفر بإسحاق بن عيسى بن المكتفي بالله ولم يدر ما فعل به إلّا أنّى سمعت بقتله وسمعت بموته حتف أنفه في الحبس.

وتمّ لوهسوذان تفريق كلمة بنى أخيه وذلك أنّه استزار إبراهيم.

فلمّا صار إليه أكرمه ووصله بجوائز كثيرة وحمله على دوابّ وكاتب ناصرا واستغواه حتى صار إلى موقان مفارقا لأخيه ووجد الجند سبيلا إلى إقامة سوقهم والمطالبة بالأموال ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى ناصر فقوى وسار إلى أردبيل فملكها والجأ أخاه جستان إلى القلعة المعروفة بالنير.

ثم اجتمع الديلم والأكراد على ناصر يطالبونه بما لا يفي به وقعد به عمّه وهسوذان فعلم حينئذ أنّ وهسوذان عمّه كان يغويه وعرفا جميعا مغزاه فتراسلا وتصالحا وسلم ناصر الأمر إلى أخيه جستان فنزل من قلعته وصارا جميعا إلى أردبيل على إضاقة شديدة لنفاد الأموال وكثرة المتغلّبين على الأطراف. فاضطرّا إلى الخروج الى عمّهما وهسوذان مع والدة جستان بعد أن توثّقوا منه بالأيمان الغليظة والعهود.

فلمّا حصلوا تحت قبضته حبسهم ونكث واستولى على العسكر وعقد الإمارة لابنه إسماعيل بن وهسوذان وسلّم إليه أكبر قلاعه شميران وأخرج الأموال وأرضى الجند وجعل أبا القاسم شرمزن بن ميشكى صاحب جيشه وأخرجه إلى أردبيل.

وكان إبراهيم قد صار إلى أرمينية فتأهّب لمنازعة إسماعيل ومحاربته ولاستنقاذ أخويه جستان وناصر من محبس عمّهما وهسوذان وكان وهسوذان قد ضيّق عليهما وأساء كل الإساءة إليهما.

فلمّا عرف وهسوذان اجتماع إبراهيم على حرب إسماعيل واجتماع خلق من الديلم معه بادر بقتل جستان وناصر وأمّهما وأتى على كل من يقرب منهم ويخاف ناحيتهم وكاتب جستان بن شرمزن والحسين بن محمد بن الورّاد بقصد إبراهيم وأنفذ إليهما مددا من جهته فاستجابا له وزحفا إليه وزحف إسماعيل فهرب إبراهيم إلى أرمينية وكان جستان بن شرمزن قريبا منه فاستولى على عسكره وملك المراغة وأضافها إلى أرمية.

غزو سيف الدولة الروم

وفيها غزا سيف الدولة في جمع كثير فأثّر في بلدان الروم آثارا عظيمة وأحرق وفتح حصونا وحصل في يده سبى كثير وأسارى وانتهى في غزوه إلى خرشنة فلمّا أراد الخروج أخذ الروم عليه المضايق فما تهيّأ له أن يتخلّص إلّا بجهد عظيم هو ونحو ثلاثمائة غلام وهلك باقى أصحابه أسرا وقتلا وارتجع منه السبي كلّه والأسارى والغنيمة وأخذ جميع خزائنه وسلاحه وكراعه وقتل من الوجوه الذين معه حامد بن النمس وموسى بن سياكان والقاضي أبو حصين وكان معه من المسلمين ثلاثون ألفا وخرج أهل طرسوس من طريق آخر فسلموا.

ذكر السبب في سلامتهم ومصاب سيف الدولة

كان هذا الرجل أعنى سيف الدولة معجبا يحبّ أن يستبدّ برأيه وألّا تتحدث نفسان أنّه عمل برأى غيره وكان أشار عليه أهل طرسوس بأن يخرج معهم لأنّهم علموا أنّ الروم قد ملكوا عليه الدرب الذي يريد الخروج منه وشحنوه بالرجال فلم يقبل منهم ولجّ فأصيب المسلمون بأرواحهم وأصيب هو بماله وسواده وغلمانه.

حوادث أخر

وفيها استأمن أبو الفتح المعروف بابى العربان أخو عمران بن شاهين وصار إلى واسط بحرمه وعياله وولده لأنّه خاف أخاه ودخل بغداد في ذي القعدة ولقي معزّ الدولة.

وفيها أملك أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي بابنة الوزير أبي محمّد المهلّبي.

وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن البريدي.

وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاه.

وفيها انصرف حاجّ مصر بعد أن قضوا حجّهم فنزلوا في واد بمكة. فلمّا كان بالليل حملهم الوادي وهم لا يشعرون فغرق أهل مصر وكانوا عددا كثيرا جدّا وكبسهم الماء مع أمتعتهم إلى البحر.

ودخلت سنة خمسين وثلاثمائة

اشتداد علة معز الدولة

فيها اشتدت علّة معزّ الدولة وامتنع عليه البول فاشتدّ جزعه وقلقه واستدعى الوزير أبا محمّد المهلّبي في الليل والحاجب سبكتكين فأصلح بينهما عن وحشة قديمة وبكى وندب على نفسه على عادة الديلم.

فلمّا كان آخر الليل بال دما بشدّة ثم تبعه رمل وخفّ ألمه. فلمّا كان من الغد وهو يوم الخميس لخمس خلون من المحرّم سلّم داره وكراعه وغلمانه إلى ابنه عزّ الدولة وفوّض إليه الأمور وجمع المهلّبي الوزير والحاجب سبكتكين على الوصاة به وخرج في عدّة يسيرة من غلمانه وخاصّته ليمضى إلى الأهواز.

ذكر سبب هذه الحركة والخروج بعد ظهور الصلاح والبرء من المرض

كان سبب ذلك استشعاره أنّ بغداد هي التي أحدثت له الأسقام وهي التي أفسدت عليه صحّته وتذكّر أيّام مقامه بالأهواز وهي أيّام شبابه ووفور قوّته وظنّ أنّ الأهواز هي التي كانت تجلب له الصحّة وأنّها توافقه.

فوصّى الحاجب سبكتكين والوزير المهلبي بابنه عزّ الدولة وبالجيش وغيره ممّا كان في نفسه وانحدر إلى كلواذى.

فلمّا صار بها أشار المهلّبي بأن يقيم ويتأمّل أمره ويفكّر فيه ولا يعجل.

فأقام بكلواذى وأخذ في تقدير بناء قصر ثم انتقل إلى الشفيعى وقدّر هناك البناء ثم انتقل منه إلى قطربّل لأنّها أعلى بغداد والهواء والماء هناك أصفى وأعذب وعمل على أن يبنى من حدّ قطربّل إلى باب حرب قصرا.

ثم صلح من علّته وأبو محمّد المهلبي في كل ذلك يعلّله ويصرف رأيه لعلمه بكثرة المؤن والنفقات التي تلزمه وبكراهة الجند والحاشية لانزعاجهم من أوطانهم ومألفهم ولكراهية تخريب بغداد بانتقال الملك عنها فلم يزل به حتى صرف رأيه. ولمّا علم أنّه لم يكن من البناء بدّ وأن يكون متصلا ببغداد من أعاليها ليكون هواؤه وماؤه أصحّ وأنظف، أنزله في البستان المعروف بالصيمرى وهو في أعلى بغداد من الجانب الشرقي بقصر فرج وأخذ في هدم ما يليه من العقارات وابتياعها من أهلها إلى حدود ربيعة الدور وكلّف أبا القاسم ابن مكرم وأبا القاسم ابن جستان العدلين ابتياع العقارات المجاورة له.

وأصلح ميدانا على طول دجلة وبنى الاصطبلات على نهر مهدى وقلع الأبواب الحديد التي على المدينة: مدينة أبي جعفر المنصور، والتي بالرصافة وعلى شارع نهر المعلّى ونقلها إلى داره ونقض قصور الخلافة بسرّ من رأى وسور الحبس المعروف بالحديد وبنى به داره وبالآجرّ الذي استعمله وطبخه في الأتاتين ووثق البناء واختيرت له الآلات والجص والنورة وبالغ في الإحكام وجلب له البناءون الحذّاق المشهورون من جميع البلدان الكبار من الأهواز والموصل وإصبهان وبلدان الجبل وغيرها.

ونزل لبعض الأساسات ستّا وثلاثين ذراعا ورفعها إلى وجه الأرض بالنورة والآجر إلى أن ارتفع فوق الأرض بأذرع.

ولزمه على هذا البناء إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم صادر فيها أسبابه سوى ما لم يشتره من الآلات التي ذكرناها والتي لم نذكرها.

وكان مقيما طول المدة في بستان الصيمري ثم انتقل إلى الدار التي بناها في يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة سنة خمسين وثلاثمائة قبل أن يستتمّ بناؤها.

موت أبي بكر أحمد بن كامل صاحب الطبري

وفيها مات أبو بكر أحمد ابن كامل القاضي - رحمه الله - ومنه سمعت كتاب التاريخ لأبي جعفر الطبري وكان صاحب أبي جعفر قد سمع منه شيئا كثيرا ولكني ما سمعت منه عن أبي جعفر غير هذا الكتاب بعضه قراءة عليه وبعضه إجازة لي وكان ينزل في شارع عبد الصمد ولي معه اجتماع كثير.

موت قاضى القضاة وما كان من أمر غلامه

وفيها مات قاضى القضاة أبو السائب عتبة بن عبيد الله وقبضت أملاكه وصودر محمّد الحاجب غلامه وضربه الوزير أبو محمّد المهلبي بحضرتى ضرب التلف لما كان بلغه [ عنه ] من التحرّم والتهتّك في أيّام أبي السائب ولم يكن به إلّا التشفّى منه فنثر كعابه ضربا.

وكان هذا الرجل عاهرا يتعرّض لحرم الناس وكان مرسوما بحجبة قاضى القضاة. فكان لا يمتنع عليه من لها خصومة أو حاجة عند قاضى القضاة وكان جميلا مقبول الصورة ويتصنّع مع ذلك ويتهم بفواحش مع صاحبه.

وفيها مات أبو نصر إبراهيم بن عليّ بن عيسى كاتب الخليفة فجأة وتقلّد كتبة الخليفة عن خاص أمره أبو الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا.

قبض معز الدولة على الخازن وصاحبي ديوان

وفيها قبض معزّ الدولة على أبي على الخازن وأبي مخلد وأبي الفرج محمّد بن العبّاس صاحب الديوان وعلى أبي الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي وأبي سهل ديزويه صاحب ديوان الجيش وحملهم إلى دار الوزير المهلّبي وسلّمهم إليه.

ذكر السبب في ذلك

احتيج إلى النفقة على البناء وكان الوزير المهلبي - رحمه الله - يقصد أبا عليّ الخازن لشيء كان بلغه عنه قديما وكذلك أبا مخلد وأبا الفرج فذكر لمعزّ الدولة أنّه يلتزم مالا ويلزم كلّ واحد من هؤلاء مما ادّخره واحتجنه ولا يحتاج إليه مالا يتمّ به أمر البناء.

وكان معزّ الدولة شديد الثقة بأبي عليّ الخازن وكان أبو عليّ كثير التمويه متفاقرا يظهر من الفقر والإقتصاد أكثر مما يحتمل مثله.

فقال معزّ الدولة للوزير أبي محمّد:

« ما تريد من البائس الذي قد قنع منّا بالقوت اليسير؟ » فقال له الوزير:

« أنا أستخرج منه وحده ما يحتاج إليه للبناء. » وتكلّم على غيره بقريب من ذلك. فسلّم الجميع إليه. فحضرت مناظرة الوزير أبي محمّد للجماعة.

أمّا أبو مخلد فإنّه لما خوطب والتمس منه مال قال:

« إني خدمت الأمير معزّ الدولة ولا أملك إلّا طنفسة وكساء ودواة، وأنا اليوم نظير أكبر ملك من ملوك الأطراف مالا وضياعا وأثاثا وغلمانا روقة وفرشا، فإلى أن أعود إلى رأس مالي فأنا على الربح.

فألزمه الوزير خمسمائة ألف وجزّاه الخير وصرفه إلى منزله بعد أن أخذ خطّه بها.

فلمّا خرج التفت الوزير إلينا وقال:

« هذا رجل مقبل كنت أظنّه يتماتن ويخاطبني بحسب دالّته وموضعه من الأمير فقد اتّقانى بما قال وحمى نفسه وعرضه وماله وهكذا يصنع الإقبال بصاحبه. » وخاطب أبا على الخازن، فسلك سبيله المعروف وزعم أنّه لا يستبيت، ولم يستجب إلى شيء بتّة فنحى من بين يدي الوزير ووكّل به في ناحية من الدار.

وأمّا أبو سهل ديزويه فتمارض وشدّ رأسه بخرقة فأحضر كرّازا ووضعه عند رأسه وقال:

« أنا غريب. » فأضحك الناس من نفسه وأعرض الوزير عنه ذلك اليوم.

وأمّا أبو الفضل فلحقته عناية الوزير لما بينهما من الوصلة فأخذ خطّه بثلاثمائة ألف درهم وصرفه إلى منزله. وكذلك فعل بأبي الفرج صاحب الديوان أجراه مجرى أبي الفضل وأخذ خطّه بثلاثمائة ألف.

فلمّا كان بعد أيّام راسله ديزويه وسأله أن يعفو عنه ويجريه مجرى أبي الفضل ففعل ذلك به.

وبقي أبو عليّ الخازن على لجاجه لا يلتزم شيئا ثم أنعم بعد التهديد بشيء وراسل أخت معزّ الدولة يستقرض منها ما يشترى به نفسه من مكروه الوزير وظنّ أنّ ذلك يبلغ الأمير فيكون سبب إطلاقه فخاطب معزّ الدولة الوزير فيه وقال:

« ألم أقل لك إنّه لا يملك شيئا. » فقال: « أيّها الأمير لا تلتفت إلى مخاريقه وخدائعه ودعني أستخرج منه مالا عظيما. » فسكت عنه وراسل أبو عليّ الخازن كلّ من عرفه فاستقرض منه حتى شاع خبره في الدولة بالفقر وإنّ الوزير يقصده.

فلمّا كان في بعض الليالي لسعه في ظهره شيء أدماه وتألّم منه وكان موضعه الذي وكّل فيه من دار الوزير موضع غنم فيما تقدّم فظنّه الناس لسع طبّوع وقالوا: ليس شيء من الهوامّ يخرج بلسعته الدم إلّا هذا الحيوان أو الأفعى.

فاتّفق أن مات أبو عليّ الخازن بعد أيّام قلائل في اعتقاله وقامت على الوزير أبي محمّد المهلبي القيامة وخاف أن يتّهم به، ومع ذلك فلم يكن ارتفع من جهته إلّا شيء نزر قليل. ثم عرف أنّه قد وصل إليه من القروض أضعاف ما أدّاه في مصادرته فتعجّب من جلادته وتوقّع عتب الأمير معزّ الدولة في بابه ووطّن نفسه على مكروه.

ثم رأى أن يبتدئ معزّ الدولة ويستأذنه في البحث والتنقير عن أسبابه وأظهر أنّه على ثقة من تلك الأموال التي وعده بها من جهته حتى سكّن من معزّ الدولة وأخذ إذنه في ذلك ولم يكن يثق بشيء مما ضمنه من جهته ولكنّه برّد عن نفسه في الحال.

ثم أخذ في التفتيش فأثار له أموالا كثيرة بعضها جرى بحضرتى فكان من ذلك أن قبض على غلمانه وأسبابه وخلا بواحد واحد منهم فأرهبه وأرغبه وسأله هل يتّهم موضعا من داره بدفين أو يتّهم معاملا له بوديعة فقال له:

« إنّ هذا الرجل كان أدهى من أن يعمل شيئا ممّا تطلبه وتبحث عنه بحضرة أحد ولست أتّهم أحدا إلّا أنّه طرد غلاما له مزيّنا من حجرة مرسومة به وجلس في حجرته للخلوة أيّاما. » فعبر الوزير بنفسه إلى دار أبي على الخازن والتمس حجرة المزيّن وكان غلاما حبشيا أو نوبيا فجلس فيها فحفر مواضع فيها فظفر بمال لم أعرف مبلغه.

وكان في جملة المدفون آلة شبيهة بميزان، أعنى بيت الميزان من خشب الساج له طبق كطبق الميزان وليس فيه مواضع كفة ولا موضع السنج بل هو محفور من ترابيعه شبيها بحوض وعليه طبقة مهندما عليه وهو خال لا شيء فيه. فعجب منه ثم قلب ذلك الطبق ووجد عليه كتابة فحمل تلك الآلة إلى منزله وحمل المال إلى خزانة معزّ الدولة.

فعهدي به يقلّب تلك الآلة ويتأمّل تلك الكتابة وكانت بخطّه خط ردىء، فإذا هي أسماء قوم ورموز لا يفهم منها شيء وكانت تلك الأسماء مفردة لا يقترن بها شيء يستدلّ به على صاحبه.

فما شكّ الوزير أنّ تلك الأسماء أسماء قوم مودعين وأنّ تلك الرموز مبلغ ما عندهم من المال فاستعمل دهاءه فيه وقال:

« أجد هذا الاسم وهو « عليّ » مكررا فإن استخرجناه أخرج لنا باقى الأسماء. » فقيل له:

« كم من رجل اسمه عليّ كان يواصل هذا الرجل. » فقال: « لا تفعلوا فإنّ المعاملين الذين هذا اسم لهم قليلون فمن كان منهم يصلح للوديعة أقلّ منهم. » ثم تجاوز ذلك إلى اسم أظنّه « أحمد » فقال:

« هذا اسم صيرفى في دار أبي على وهو في درب عون فأحضرونيه. » فأحضر وقال له الوزير:

« قد وجدنا ثبتا باسمك وبخطّ أبي عليّ بمبلغ ما عندك، فأنفذ الساعة صاحبك ليحضره. » فاضطرب الرجل وأنكر أن يكون له عنده مال فبطش به ولحقه أذى ومكروه ثم أمر به فحبسه وقيّده بقيد ثقيل فيه ثلاثون منّا فتفسّخ فيه الرجل ودخل إليه المستخرج وهدّده فاعترف.

وكان باسمه سبعة أنوكى ولم يكن فينا أحد يعرف معنى « انوكى ».

فقال الوزير:

« فطالبوه بسبع بدر دنانير استظهارا. » ففعل ذلك فوافق تخمينه صحّة الأمر وأدّى خمسين ألف دينار.

ثم لم يزل يتتبع تلك الأسماء وقد صحت له الرموز فاستخرج نحو مائتي ألف دينار من هذه الوجوه سوى دفائنه.

وقامت حرمة الوزير أبي محمّد عند معزّ الدولة وانبسط لسانه وجاهه وصار مقبول القول عنده بعد أن ظنّ أنّ الذي فاته من خازنه شيء لا عوض له منه أمانة وثقة ودينا.

وتقلّد مكان أبي عليّ الخازن أبو محمّد عليّ بن العباس بن فسانجس للنصف من شعبان وأقطع إقطاع أبي عليّ.

وفيها تقلد القاضي أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب القضاء في جانبي بغداد ومدينة أبي جعفر المنصور وقضاء القضاة وخلع عليه من دار السلطان من حيث امتنع الخليفة من أن يصل إليه.

وركب بالخلع من دار معزّ الدولة وبين يديه الدبادب والكرك والبوقات وفي موكبه الغلمان الأتراك والجيش. وكان توصّل إلى تقلد ذلك بأن خدم أرسلان الجامدار فتى معزّ الدولة ووافقه على أن يحمل إلى خزانة الأمير في كل سنة مائتي ألف درهم وكتب عليه بها كتاب وجعلت على نجوم معروفة ولم يأذن الخليفة أن يصل إليه هذا القاضي في يوم موكب ولا غيره.

وكان فعل القاضي ما فعله من سماجته وقبح ذكره سببا لأن ضمّنت الحسبة ببغداد وضمّنت الشرطة بعشرين ألف درهم في كل شهر من شهور الأهلّة وهذا القاضي مع قبح فعله قبيح الصورة مشوّهها.

وفيها وافى أبو القاسم أخو عمران مستأمنا.

وفيها ورد الخبر بأنّ عبد الملك بن نوح صاحب خراسان تقطّر به فرسه فمات وافتتنت خراسان ونصب مكانه أخ له يسمّى منصورا.

وفيها حمل إلى إبراهيم السلّار من دار السلطان خلع، وعقد له على آذربيجان.

ودخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة

وفيها نقل الوزير أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي سنة خمسين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.

وفيها دخل الأمير ركن الدولة سارية من بلد طبرستان وانصرف عنها وشمكير إلى جرجان واستأمن من أصحابه إلى ركن الدولة ثلاثة آلاف رجل.

ورود الروم عين زربة

وفيها ورد الروم عين زربة في سفح جبل والجبل مطل عليها.

فلمّا جاءه الدمستق في هذا الجمع العظيم أنفذ قطعة من جيشه إلى الجبل ونزل هو على بابها فملك جيشه الجبل. فلمّا رأى أهل عين زربة أنّ الجبل قد ملك عليهم وأنّ جيشا آخر قد ورد إلى باب المدينة وأنّ مع الدمستق دبّابات كثيرة وأنّه قد أخذ في نقب السور، طلبوا منه الأمان، فآمنهم وفتحوا له باب المدينة فدخلها.

فوجد خيله الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة فندم على إعطائهم الأمان فنادى في البلد من أول الليل بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع وأنّ من تأخّر في منزله قتل. فخرج من أمكنه الخروج.

فلمّا أصبح أنفذ رجّالته في المدينة وكانوا ستين ألف رجل وكل من وجدوه في منزله قتلوه. فقتلوا عالما من الرجال والنساء والصبيان والأطفال وأمر بجمع ما في البلد من السلاح فجمع منه أمر عظيم وكان في جملته أربعون ألف رمح وقطع ما في البلد من النخل فقطع نحو خمسين ألف نخلة.

ونادى فيمن حصل في المسجد الجامع من الناس بأن يخرجوا عن البلد إلى حيث شاءوا وأنّ من أمسى ولم يخرج قتل.

فخرج الناس مبادرين وتزاحموا في الأبواب فمات بالضغط جماعة من الرجال والنساء والصبيان ومرّوا على وجوههم حفاة عراة لا يدرون إلى أين يتوجّهون، فماتوا في الطرقات ومن وجد في المدينة آخر النهار قتل، وأخذ كل ما خلّفه الناس من أمتعتهم وأموالهم وهدم السوران اللذان على المدينة وهدمت المنازل.

وبقي الدمستق مقيما في بلدان الإسلام أحدا وعشر يوما وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصنا منها بالسيف ومنها بالأمان.

فكان في بعض الحصون التي فتحت بالأمان حصن أمر أهله بالخروج منه فخرجوا فتعرّض بعض الأرمن للنساء اللواتي خرجن منه، فلحق رجالهن غيرة عليهن فجرّدوا سيوفهم فاغتاظ الدمستق منهم وأمر بقتل الجميع وكانوا أربعمائة رجل، وقتل النساء والصبيان ولم يترك إلّا جارية حدثة أو من يصلح أن يسترقّ.

فلمّا أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد الفطر وزعم أنّه يخلّف جيشه بقيسارية.

وكان ابن الزيات صاحب طرسوس خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين فأوقع به الدمستق وقتل جميع من كان معه وقتل أخاه وكان ابن الزيات قد قطع الخطبة لسيف الدولة وأنفذ إليه رسلا فلمّا وقف ابن الزيات على ذلك لبس سلاحه واعتمّ وخرج إلى روشن داره وكانت داره، على شاطئ نهر، فرمى بنفسه من داره إلى النهر فغرّقها.

حوادث عدة

وفيها دخل ركن الدولة جرجان وذلك في المحرم.

وفيها ورد الخبر بأنّ صاحب خراسان أنفذ جيشا كثيفا إلى غلام له شذّ عنه يقال له: الفتكين، وأنّ الفتكين أوقع بالجيش وهزمه واستأسر وجوه القوّاد وفيهم خال صاحب خراسان.

وفيها لقّب الخليفة الأمير أبا شجاع فناخسره بن ركن الدولة عضد الدولة وكتب به كتاب.

وفيها أسر الروم أبا فراس ابن أبي العلاء ابن حمدان من منبج وكان متقلدا لها.

ورود الدمستق حلب

وفيها ورد الخبر بأنّ الدمستق ورد إلى حلب وملكها وكان الدمستق وافاها ومعه ابن أخت الملك ولم يعلم سيف الدولة ولا أحد بخبره لأنّها كانت كبسة.

فلمّا علم سيف الدولة به أعجله الأمر فخرج نحوه وحاربه قليلا فقتل أكثر من معه وقتل جميع ولد داود بن حمدان وابن للحسين بن حمدان.

فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره وهي خارج مدينة حلب.

فوجد لسيف الدولة من الورق ثلاثمائة وتسعون بدرة فأخذها ووجد له ألف وأربعمائة بغل فتسلّمها ووجد له من خزائن السلاح ما لا يحصى كثرة فقبض جميعها وأحرق الدار وملك الربض.

وقاتله أهل حلب من وراء السور فقتل من الروم جماعة بالحجارة وسقطت ثلمة من السور على قوم من أهل حلب فقتلهم وطمع الروم في تلك الثلمة فأكبّوا عليها ودفعهم أهل البلد عنها.

فلمّا جنّهم الليل اجتمع المسلمون عليها فبنوها وأصبحوا وقد فرغوا وعلوا عليها وكبّروا وبعد الروم قليلا إلى جبل هناك يعرف بجبل جوشن.

وذهب رجالة الشرطة بحلب إلى منازل الناس وخانات التجار ينهبونها وقيل للناس:

« الحقوا بمنازلكم فإنّها قد نهبت » فنزلوا عن السور وأخلوه ومضوا إلى منازلهم مبادرين ليدافعوا عنها.

فلمّا رأى الروم السور خاليا وطالت المدة وتجاسر الروم صعدوا وأشرفوا على البلد ورأوا الفتنة فيه والنهب فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا فوضعوا السيف في الناس فقتلوا كل من لقيهم ولم يرفعوا السيف إلى أن كلّوا وضجروا.

وكان في البلد من أسارى الروم ألف ومائتا رجل. فتخلصوا وحملوا السلاح على المسلمين وكان سيف الدولة قد أعدّ من الروم سبعمائة رجل ليفادى بهم فأخذهم الدمستق وسبى من البلد من المسلمين والمسلمات بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأخذ من خزائن سيف الدولة وأمتعة التجار ما لا يحد ولا يوصف كثرة.

فلمّا لم يبق معه شيء يحمل عليه أحرق الباقي بالنار وعمد إلى الحباب التي يحرز فيها الزيت، فصب فيها الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض وأخرب المساجد وأقام فيها تسعة أيام.

وكان بذل لأهل البلد قبل أن يفتحه الأمان على أن يسلّموا إليه ثلاثة آلاف صبيّ وصبية ويحملوا إليه مالا وأمتعة حدّها وينصرف عنهم. فلم يستجيبوا له إلى ذلك.

وذكر أنّ عدّة رجاله كانت مائتي ألف رجل وأنّ عدة أصحاب الجواشن فيهم ثلاثون ألف رجل وفيهم ثلاثون ألف صانع للهدم ولتطريق الثلج أربعة آلاف بغل عليها حسك الحديد يطرحه حول عسكره بالليل وخركاهات عليها لبود مغربية فمن صعد قلعة حلب تخلّص بحشاشته.

ما فعله ابن أخت الملك

فلمّا كان بعد تسعة أيام أراد الدمستق أن ينصرف بما فاز به وحصل في يده فقال له ابن اخت الملك:

« هذا بلد قد حصل في أيدينا وليس بازائنا من يدفعنا عنه ومن كان فيه من العلوية وبنى هاشم والوزراء والكتّاب ومن لهم أموال مقيمون في القلعة فبأى سبب تنصرف عنه قبل فتح القلعة؟ » فقال له الدمستق:

« قد وصلنا إلى ما لم نكن نقدّره ولا يقدّرها الملك وقتلنا وسبينا وأسرنا وأحرقنا وهدمنا وخلّصنا أسراءنا وأخذنا من أردنا أن نفادى به بلا فدية وغنمنا غنيمة ما سمع بمثلها ومن حصل في القلعة فهم عراة وإذا نزلوا هلكوا لأنّهم لا يجدون قوتا والرأي أن ننصرف عنهم فإنّ طلب النهايات والغايات ردىء. » فأقام ابن أخت الملك على أمره ولجّ وقال:

« لا أنصرف أو أفتح القلعة. » فلمّا لجّ قال له الدمستق:

« فانزل عليها وحاصرها، فإنّ الصورة والضرورة تقود من فيها إلى فتحها. »

فقال: « لا أفتحها إلّا بالسيف. » فقال له:

« شأنك وما تريد، فإني أنا مقيم في عسكري على باب المدينة. » فلمّا كان من غد ترجّل وأخذ سيفا ودرقة وصعد راجلا والمسلك إلى باب القلعة ضيّق لا يحمل أن يسلكه أكثر من واحد فصعد وتبعه أصحابه واحدا واحدا.

وقد كان حصل في القلعة الجماعة من الديلم فتركوه حتى إذا قرب فتحوا الباب وأرسلوا عليه حجرا فوقع عليه وأنقلب ثم وثب وهو مدوّخ، فرماه واحد من الديلم بخشت فأنفذ صدره وركب رأسه فأخذه أصحابه وانصرفوا إلى الدمستق.

فلمّا رآه مقتولا أحضر من كان أسر من المسلمين فضرب أعناقهم بأجمعهم.

وسار إلى بلد الروم بما معه ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها وقال لأهلها:

« هذا البلد قد صار لنا فلا تقصروا في العمارة فإنّا بعد قليل نعود إليكم.

ودخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة

وفيها ورد الخبر بأنّ قوما من رجّالة الأرمن صاروا إلى الرّها فاستاقوا خمسة آلاف رأس من الغنم وخمسمائة رأس من البقر والدواب واستأسروا نفرا من المسلمين وانصرفوا موفورين.

وفيها قلّد القاضي أبو بشر عمر بن أكثم القضاء بمدينة السلام على أن يتولّى ذلك بلا رزق وأعفى مما كان يحمله أبو العباس ابن أبي الشوارب وخلع عليه وأمر بألّا يمضى شيئا من أحكام وسجلّات ابن أبي الشوارب ثم قلّد قضاء القضاة.

خروج أبي محمد المهلبي لفتح عمان وميتته العجيبة

وفيها خرج الوزير أبو محمّد المهلبي ومعه الجيش لفتح عمان وذلك يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الآخرة فانحدر وبلغ إلى هلتى من فم البحر واعتلّ.

فكنت أسمع من طبيبه فيروز بأنّه مسموم لا محالة وكنت أسأله عمّن سمّه فلا يصرح باسمه إلى أن كان بعد ذلك بمدة وانقضت تلك الأيام فذاكرته بذلك فقال:

« كان خرج معه فرج الخادم وكان أستاذ داره والمستولى على خاصّ أمره ومعه جماعة من الخدم يطيعونه وكان قد فارق نعمة ضخمة وخرج من خيش وثلج وتنعّم، إلى حرّ شديد وشقاء كثير وتوجّه إلى عمان فواطأ الخدم على سمّه وقتله والراحة من ذلك السفر وظنّوا أنّهم يسلمون ويعودون إلى نعمهم. » وكان فيروز الطبيب لما أحسّ بذلك استأذن في العود إلى بغداد وزعم أنّه لا يركب البحر فأرغب في مال كثير فامتنع ثم أرهب بالحبس فصبر وقال: لا أخرج البتة. فأذن له وانصرف.

فلمّا كان في النصف من شعبان ثقل وردّ إلى الأبلّه زائل العقل مسبوتا فيئس منه وعملت له آلة شبه المحفّة يحمله أربعون رجلا يتناوبون عليه وينام فيها وردّ على طريق البرّ. فلمّا كان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان وقت العصر مات رحمه الله بزاوطا.

وكان معزّ الدولة لما سمع بخبر علّته أنفذ أبا على حمولى إليه لتعرّف خبره وتقدم إليه إن وصل إليه وقد توفّى أن يحتاط على تركته وأسبابه. ففعل ذلك وقبض على كتّابه وأسبابه وحمل جميعه إلى الحضرة.

وورد تابوته مدينة السلام يوم الأربعاء لخمس خلون من شهر رمضان وقبض على عياله وولده ومن دخل يوما إليه مثلا وصودروا حتى المكارين والملاحين الذين كانوا يخدمون حاشيته وجرى من ذلك ما لا جرى مثله إلّا على عدوّ مكاشف واستفظع الناس ذلك واستقبحوه لمعزّ الدولة.

وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر ومات بموته عن الكتاب الكرم والفضل رحمه الله. ولما مات الوزير أبو محمّد المهلبي رحمه الله نظر أبو الفضل وأبو الفرج في الأمور من غير تسمية لواحد منهما بالوزارة.

دخول الطرسوسيين وغلام سيف الدولة بلد الروم

وفيها ورد الخبر بأنّ الطرسوسيين غزوا ودخلوا من درب من دروب الروم إلى بلد الروم ودخل نجا غلام سيف الدولة من درب آخر فغنم أهل طرسوس غنيمة يسيرة وأقام سيف الدولة على درب آخر ولم يدخل لأنّه كان عليلا من فالج لحقه قبل ذلك بسنتين فلمّا خرج نجا والطرسوسيون عاد سيف الدولة إلى حلب وهو عليل ولحقته غشية ظن معها أنّه قد تلف.

وجاء أبو الحسين ابن دنحا إلى هبة الله ابن ناصر الدولة ليسلّم عليه ويهنّئه بعيد الفطر، وكان هبة الله راكبا فاستجرّ أبا الحسين ابن دنحا الحديث إلى إزاء صخر ثم رماه بخشت كان في يده فوقع في لبّته ومضى يركض يريد الهرب فلحقه هبة الله وإنّما فعل ذلك لغيرة لحقته من تعرض ابن دنحا لغلام من غلمانه.

وبلغ هبة الله أنّ عمه لم يمت وأنّه أفاق من غشيته فخافه واستوحش مما فعله بابن دنحا فجدّ في السير إلى حرّان.

وابن دنحا هذا هو الذي كان استأمن إلى معزّ الدولة ثم أنصرف عنه إلى سيف الدولة لأنّه لم يصل ببغداد إلى ما كان يرجوه وما جسر أن يعود إلى ناصر الدولة فساقه الحين إلى ما ذكرت.

فتبع نجا غلام سيف الدولة هبة الله فلم يلحقه ولحق سواده فأخذه وانصرف به إلى سيف الدولة يستنجده لينجده بالرجال ويقيم بحرّان ويدفع كل من نازعه عليها وطالب أهل حرّان بأن يحلفوا له أن يكونوا معه حربا لمن حاربه وسلما لمن سالمه وظنّ أهل حرّان أنّ الذي خبرهم به صحيح، فحلفوا له على ما أراد واستثنوا في يمينهم: إلّا أن يكون الذي يحاربه عمّه سيف الدولة، فإنّهم لا يحاربونه، ورضى بذلك منهم.

فلمّا كان بعد أيام وافى نما أخو نجا غلام سيف الدولة فأغلق هبة الله وأهل حران أبواب حرّان في وجوههم وعلم نما أنّه لا يمكنه فيهم حيلة فأظهر أنّه لم يرد حرّان وإنّما أراد قصد ارزن وميّافارقين. فانصرف عن حرّان إليها وكتب إلى أخيه نجا [ يعرفه ما جرى ويغريه بأهل حران فسار نجا إلى حران فلمّا قرب منها هرب هبة الله إلى أبيه وأسلم أهل حران فنزل نجا ] خارج حران.

وخرج إليه وجوه أهلها وأشرافها وهم سبعون شيخا ليسلّموا عليه فوكّل بهم وتهددهم بالقتل وطالبهم عن البلد بألف ألف درهم أرش ما عملوه من غلق الأبواب في وجه أخيه ولم يسمع لهم عذرا وجرت لهم معه خطوب إلى أن قنع منهم بثلاثمائة ألف درهم وعشرين ألف درهم ووجّه معهم بالفرسان والرجالة وألزمهم الأجعال الثقيلة ورسم أن يستخرج له المال في يوم واحد وبعد الجهد إلى أن يكون المدة خمسة أيّام وقسط المال على أهل البلد وأدخل فيه الملّيّ والذّميّ والسوقة والنساء الأرامل وغيرهم ووضع عليهم العصيّ والضرب في دورهم بحضرة حرمهم وعيالاتهم.

فأخرجوا أمتعتهم وباعوا ما يساوى دينارا بدرهم ولم يجدوا من يشترى لأنّ أهل البلد كلّهم كانوا يبيعون. فاشترى أصحاب نجا الأمتعة والحليّ بحكمهم وبما أرادوا.

ولزم أهل البلد من الأجعال أمر عظيم وخرب بذلك البلد وافتقر أهله وأنصرف عنهم نجا إلى ميّافارقين بعد أن استوفى جميع المال وترك البلد شاغرا بلا سلطان فتسلط عليهم العيّارون.

وأظهر نجا الخلاف على مولاه سيف الدولة والخروج عن طاعته ولم يزرع في هذه السنة أحد بديار مضر كبير شيء للجور الذي كانوا فيه.

ودخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة

ذكر الغازي الخراساني

وفيها ورد الخبر من حرّان بأنّه اجتاز بهم الغازي الوارد من خراسان في نحو خمسة آلاف رجل ماضين إلى حلب إلى سيف الدولة.

وهذا الرجل وافى من خراسان على طريق آذربيجان ثم إلى أرمينية ثم إلى ميافارقين ثم إلى حرّان ثم إلى حلب ثم ورد بأنّ هذا الغازي اجتمع مع نجا غلام سيف الدولة.

وكان ببلاد أرمينية وملازجرد رجل يعرف بأبي الورد قد استولى عليها، فطمع نجا فيه ولم يلتفت إلى حديث الغزو ولا إلى الخراساني وقصد أبا الورد فأوقع به وملك قلاعه وبلده وحصل في يده من أمواله ما يكثر قدره فأقام في القلعة وحصل في يده من بلدان أرمينية وملازجرد وخلاط وموش.

ومضى الغازي الخراساني إلى سيف الدولة فلمّا اجتمع معه نفر إلى المصيصة وورد الخبر بنزول الروم على المصيصة في جيش ضخم وفيه الدمستق وأنّه أقام عليها سبعة أيام ونقب في سورها نيفا وستين نقبا ولم يصل إليها ودفعه أهلها عنها ثم انصرف لما ضاقت به المير وغلا السعر وبعد أن أقام في بلاد الإسلام خمسة عشر يوما.

وأحرق رستاق المصيصة وأذنة وطرسوس وذلك لمعاونتهم أهل مصيصة فظفر بهم الروم وقتل منهم خمسة آلاف رجل وقتل أهل أذنة من الروم عددا قليلا وكذلك أهل طرسوس.

ولما مضى سيف الدولة والخراسانية إلى المصيصة وجد جيش الروم قد انصرف عنها وتفرقت جموع الخراساني لشدة الغلاء في الثغور وبحلب ورجع أكثرهم إلى بغداد وعادوا منها الى خراسان.

وقبل انصراف الدمستق عن الضّبعة وجّه إلى أهلها بأنّى منصرف عنكم لا لعجز عنكم وعن فتح مدينتكم ولكن لضيق العلوفة وأنا عائد إليكم بعد هذا الوقت فمن أراد منكم الانتقال، الى بلد آخر قبل رجوعي فلينتقل ومن وجدته بعد عودي قتلته.

الأكراد وقافلة الحاج

وفيها اجتمع الأكراد على قافلة الحاجّ الصادرة إلى خراسان فملكوها واجتاحوها فوق حلوان ورجع الحاج إلى حلوان.

اشتداد الغلاء بأنطاكية

وورد الخبر بأنّ الغلاء اشتدّ بأنطاكية وجميع الثغور حتى لم يقدر أحد على الخبز وأكل الناس الرطبة والحشيش وانتقل قوم من الثغور إلى الرملة ودمشق وغيرها نحو خمسين ألف انسان هربا من الغلاء فإنّ الدمستق قد جمع الجموع للخروج إلى بلدان الإسلام وإنّ السلطان بحرّان مقيم بعد الذي جرى على أهلها من نجا على ظلمهم وطرح الأمتعة عليهم والجور في معاملتهم وإنّ الغلاء بها وبالرقّة شديد جدّا.

الهجريون يستهدون الحديد من سيف الدولة

وفيها استهدى الهجريون من سيف الدولة حديدا فقلع سيف الدولة أبواب الرقة وهي من حديد وسدّ مكانها وأخذ حديدا بديار مضر حتى أخذ سنجات الباعة والبقالين ثم كتبوا إليه: إنّا قد استغنينا عن الحديد.

فأخذ القاضي أبو حصين الأبواب فكسرها وعمل منها أبوابا لداره. ثم كتب الهجريون يلتمسون الحديد فأخذ الأبواب التي عملها أبو حصين وسائر ما قدر عليه من الحديد وحمله في الفرات إلى هيت ثم منها إليهم في البرّية.

ورود رسالة ناصر الدولة

وفيها ورد أبو الحسين الباهلي برسالة ناصر الدولة ليقرّر ما بينه وبين معزّ الدولة فتقرّر على أن يحمل ناصر الدولة عن سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ألف ألف درهم يقدّم منها ثلاثمائة ألف درهم وعن سنتي ثلاث وأربع ألفي ألف درهم يقدّم منها مائتي ألف درهم والباقي في نجوم.

ولما تقرر الأمر بذل ناصر الدولة زيادة عشرة آلاف دينار على أن يعقد لابنه أبي تغلب فضل الله الغضنفر فلم يستجب معزّ الدولة إلى ذلك.

فلمّا كان مستهلّ جمادى الآخرة وردت الخمسمائة الألف الدرهم التي وقع الاتفاق عليها مع الباهلي وقبضت وصحّت في الخزانة.

وأظهر معزّ الدولة الإصعاد إلى الموصل وأخذ يستعدّ له فسأله الباهلي التوقف عن المسير إلى أن يمضى برسالة إلى ناصر الدولة ويعود. فقيل له: تمضى وتلتمس ردّ ما لزم من النفقة على التأهب للسفر.

فمضى وأخرج معزّ الدولة مضاربه إلى باب الشماسية وخرج الحاجب سبكتكين وجماعة من القوّاد على المقدمة إلى الموصل وتبعه معزّ الدولة.

ومدّ الجسر الذي ببغداد إلى السن وعقد هناك وعبر عليه مع الجيش إلى الجانب الغربي وسار على الظهر إلى الموصل.

وكان الباهلي قد عاد بجواب الرسالة وبذل أن يحمل ثلاثمائة ألف درهم عوضا عمّا لزمه من النفقة على السفر فلم يقبل منه وانصرف الباهلي من تكريت وتمم معزّ الدولة المسير.

ولما بلغ ناصر الدولة أن معزّ الدولة قد قرب من الموصل ولم يكن له عزم على لقائه رحل من الموصل إلى نصيبين ورحل معزّ الدولة من الموصل إلى بلد في آخر النهار وخلّف بالموصل أبا العلاء صاعد بن ثابت ليحمل الغلات ويستخرج الأموال وخلّف بكتوزون وسبكتكين العجمي ووهرى وجماعة من الأتراك والديلم لضبط البلد.

ولمّا بلغ ناصر الدولة مسير معزّ الدولة نحوه سار من نصيبين إلى ميافارقين ورحل ناصر الدولة عنها ورجع الحاجب إلى نصيبين وعرف معزّ الدولة أن العدو قد رحل لمّا قرب منه وأنّه لا يدرى أين قصد فرحل معزّ الدولة للوقت من نصيبين يريد الموصل خوفا من مخالفة ناصر الدولة إليها وخلف الحاجب وجماعة من القواد بنصيبين.

وكان صار أبو تغلب ابن ناصر الدولة واخوته إلى الموصل ووقع بينهم وبين من خلّفهم معزّ الدولة بها حرب شديدة وكانت على أولاد ناصر الدولة وانصرفوا إلى الموصل وأحرقوا زبازب معزّ الدولة التي كانت ببلد وزواريق العسكر التي كانت بالموصل وبلغ ذلك معزّ الدولة فسكنت نفسه إلى ظهور أصحابه بالموصل على بنى حمدان.

فلمّا كان بعد ذلك اجتمع ناصر الدولة مع أولاده وقصدوا الموصل فأوقعوا ببكتوزون وسبكتكين العجمي وعسكر معزّ الدولة الذي كان خلفه بالموصل واستأمن الديلم إلى ناصر الدولة فأخذ تراسهم وأحرقها ووهب لكل واحد منهم عشرة دراهم وصرفهم وأسر بكتوزون وسبكتكين وسائر الأتراك ووهرى وصاعدا وأحمد الطويل غلام موسى فياذه وكان قد أصعد من الأهواز ليتظلم إلى معزّ الدولة من وضيعة لحقته في ضمان كان في يده.

وأخذ بنو حمدان ما كان لمعزّ الدولة بالموصل من كراع وسلاح وثياب خز ومائتي ألف درهم كانت [ حملت إليه من بغداد ومائتي ألف درهم كانت ] للحاجب وحمل جميع ذلك مع الأسارى إلى القلعة.

وبلغ ناصر الدولة وأولاده مسير معزّ الدولة من نصيبين فلم يقيموا ومضوا إلى سنجار وصار معزّ الدولة إلى برقعيد ولم يكن عنده ما جرى على أصحابه بالموصل وبلغه ببرقعيد أنّ ناصر الدولة قد صار بالجزيرة فعدل من برقعيد إلى الجزيرة.

فبلغه إقبال حمدان بن ناصر الدولة إليه فوقف له فإذا هو مستأمن إليه مع علوان القشيري وسار معزّ الدولة إلى الجزيرة فلم يجد بها ناصر الدولة فسار إلى الموصل وبلغه في طريقه ما جرى على أصحابه بالموصل فكتب إلى الحاجب وهو بنصيبين أن يصير إلى بلد وعبر هو إلى بلد وأنفذ سواده إلى تكريت.

ووافاه الحاجب وأبو الهيجاء حرب بن أبي العلاء ابن حمدان مستأمنا وسار يريد نصيبين ووافاه أبو جعفر العلوي النصيبينى برسالة ناصر الدولة يلتمس الصلح فلم يجبه.

وكان أبو تغلب قد صار إلى الموصل ونزل في الدير الأعلى ولم يهج في أيام مقامه أسباب معزّ الدولة ولا عرض لهم وأظهر جميلا.

ومضى حمدان إلى الرحبة وكان بها الفتكين فحاربه هناك وأقبل معزّ الدولة إلى الموصل فرحل أبو تغلب من الدير الأعلى وجاء معزّ الدولة فنزل مكانه واستأمن إليه هزارمرد الصغير من غلمان أبي تغلب وجاء المسيّب والمهيّأ بكشمرد أسيرا فخلع على المسيب والمهيّأ وطوّقا وسوّرا.

وراسل أبو تغلب معزّ الدولة بصاحبه أبي الحسن عليّ بن عمرو بن ميمون وجرت له خطوب استقرّت على أن ضمن أبو تغلب ما كان في يد أبيه ناصر الدولة من الموصل وديار ربيعة والرحبة على أن يحمل عن بقايا سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ستمائة ألف درهم وعن أربع سنين مستأنفة آخرها سنة سبع وخمسين لكل سنة ستة آلاف ألف ومائتي ألف درهم وأن يعجّل حمل الستمائة الالف مع الأسارى الذين في يده إلى الحديثة إذا حصل الأمير معزّ الدولة بها وضمن أن يرد من جملة ما حصل في أيديهم من المال والأمتعة التي أخذت في وقت الإيقاع ببكتوزون ما حصل في يده بقسطه ووعد بطلب الباقي وحمله وتقرر ذلك وأشهد معزّ الدولة على نفسه القوّاد والعدول وقاضى البلد بإمضاء ذلك وكتب إلى الفتكين بالانصراف من الرحبة وكتب عليّ بن عمرو خطه بضمان ما تقرّر عليه الأمر ورهن نفسه على إمضاء أبي تغلب ذلك.

وسار معزّ الدولة إلى الحديثة وورد صاحب أبي تغلب بالمال ثم وافاه بكتوزون وسبكتكين العجمي وسار إلى بغداد.

خروج الداعي الحسني من بغداد سرا إلى بلد الديلم

وفيها ورد الخبر بالموصل بانّ أبا عبد الله محمّد بن الحسين المعروف بابن الداعي الحسني خرج من بغداد سرّا إلى بلد الديلم وخلّف والدته وابنه وعياله في داره ببغداد ظاهرين.

سيف الدولة يصير إلى ميافارقين

وصار سيف الدولة إلى ميّافارقين واحتال أصحابه على القلعة التي كانت حصلت له من أبي الورد وهرب نجا فحصل لسيف الدولة القلاع وأسارى [ الروم ] وأخ لنجا.

وأقام الدمستق على المصيصة وهادي سيف الدولة ببغال ودوابّ وثياب وديباج روميّة وصياغات ذهب وقابله سيف الدولة بهدايا. فصار سببا لمقام الدمستق في بلدان الإسلام ثلاثة أشهر لا ينازعه أحد ولا يمكنه فتح المصيصة وانصرف عنها لأنّ البلد لم يحمله ووقع في أصحابه الوباء فاضطر إلى الانصراف بعد أن حمل إليه مال من المصيصة.

ظهور علوي مبرقع بالكوفة

وفيها ظهر بالكوفة رجل ذكر أنّه علويّ وكان مبرقعا فوقعت بينه وبين أبي الحسن محمّد بن عمر العلوي وقائع، فلمّا دخل معزّ الدولة هرب المبرقع.

وورد الخبر بأنّ نجا صار إلى مولاه سيف الدولة فأعاده إلى مرتبته.

ودخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة

الفتك على نجا بالسيوف

وفيها فتك غلمان سيف الدولة بحضرته على نجا بالسيوف فقتلوه ولحق سيف الدولة في الوقت غشية مكث فيها نحو الساعة فأمرت زوجته وهي بنت أبي العلاء سعيد بن حمدان أن يجرّ برجل نجا ففعل ذلك إلى أن أخرج من قصرها وفيه كان جرى على نجا ما جرى وطرح في مجرى ماء ينصبّ إليه المياه والأقذار وبقي فيه إلى الغد وقت العصر ثم أخرج وكفّن ودفن.

وفيها وصل أبو أحمد خلف بن أبي جعفر ابن بانو إلى الخليفة أوصله معزّ الدولة فقلّده سجستان وخلع عليه وعقد له لواء.

وورد الخبر بأنّ الأتراك نزلوا على بلد الخزر واستنصروا أهل خوارزم فامتنعوا من نصرتهم وقالوا:

« أنتم يهود فإن أحببتم أن نعاونكم فأسلموا ».

فأسلموا إلّا ملكهم.

وصول ابن الداعي بلد الديلم وما كان بعده

وورد الخبر بأنّ أبا عبد الله ابن الداعي لمّا وصل إلى بلد الديلم اجتمع إليه منهم عشرة آلاف رجل وأنّ ابن الناصر العلوي هرب من بين يديه. ثم أوقع بقائد كبير من قوّاد وشمكير وأنّه تلقّب بالمهدي لدين الله.

بين الروم وأهل طرسوس

وورد الخبر بأنّ نقفور ملك الروم بنى بقيساريّة مدينة وهي تقرب من [ بلاد ] الإسلام فأقام بها ونقل إليها عياله ليقرب عليه ما يريد من بلدان الإسلام وأنّ أهل المصيصة وطرسوس أنفذوا إليه رسولا يسألونه أن يقبل منهم إتاوة يؤدونها إليه على أن ينفذ إليهم صاحبا له ليقيم فيهم. فعمل على إجابتهم إلى ذلك.

فورد عليه الخبر بأن أهل هذه البلدان قد ضعفوا جدّا وأنّه لا ناصر لهم ولا دافع له عنها وأنّه لم تبق أقوات وأنّه قد آل الأمر بأهل طرسوس إلى أكل الكلاب الميّتة وأنّه يخرج منها في كل يوم ثلاثمائة جنازة.

فانصرف رأيه عمّا كان عمل عليه وأحضر رسولهم وضرب له مثلا وقال:

« مثلكم مثل الحية في الشتاء إذا لحقها البرد وذبلت وضعفت حتى يقدّر من رآها أنّها قد ماتت فإن أخذها انسان وأحسن إليها وأدفأها انتعشت ولد غته وأنتم إنّما بخعتم بالطاعة لما ضعفتم وإن تركتكم حتى تستقيم أحوالكم تأذّيت بكم. » وأخذ الكتاب الذي أورده فأحرقه على رأسه فاحترقت لحيته. وقال:

« امض إليهم وعرّفهم أنّه ليس عندي إلّا السيف. » فانصرف وجمع الملك جيوشه وعمل على أن ينفذ جيشا إلى الشام وجيشا إلى الثغور وجيشا إلى ميّافارقين وكان سيف الدولة بميّافارقين يخلّص البطارقة الذين في يد نجا وكان بميافارقين نحو ألف كرّ حنطة فمزّقها وفرّقها لئلا تأخذها الروم.

ثم إنّ ملك الروم أنفذ إلى المصيصة قائدا من قوّاده فأقام عليها يحارب أهلها. ثم جاء الملك بنفسه فأقام عليها وفتحها عنوة بالسيف ووضع السيف في أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم رفع السيف وأمر أن يساق من بقي في المدينة من الرجال والنساء والصبيان إلى بلد الروم وكانوا نحو مائتي ألف انسان. ثم سار عنها إلى طرسوس فحاصرها فأذعن أهلها بالطاعة فأعطاهم الملك الأمان وفتحوا له أبوابها فدخلها ولقي أهلها بالجميل ودعا رؤساءهم إلى طعامه فأكلوا معه وأمرهم بالانتقال عنها وأن يحمل كلّ واحد من ماله وسلاحه ما أطاق حمله ويخلّف الباقي ففعلوا وساروا وسيّر معهم ثلاثة نفر من البطارقة يحمونهم فعرض لهم قوم من الأرمن فأوقع الملك بهم وعاقهم وقطع آنافهم لمخالفتهم أمره.

ولم يزل طول طريقهم يتعرّف أخبارهم بكتبه ورسله إلى أن عرف سلامتهم وحصولهم بأنطاكية وحمل بعضهم في البحر في شليذيّات له إلى حيث أرادوا.

ثم جعل الملك المسجد الجامع بطرسوس اصطبلا لدوابّه ونقل ما كان فيه من قناديل إلى بلده وأحرق المنبر وقلّد البلد بطريقا من بطارقته في خمسة آلاف رجل وقلّد المصيصة بطريقا آخر وتقدّم بعمارة طرسوس وتحصينها وجلب الميرة إليها من كل جهة فعمرت ورخص السعر بها حتى صار الخبز بها رطلين بدانق فتراجع أهلها إليها ودخلوا في طاعة الملك وتنصّر بعضهم وعمل الملك على أن يجعلها حصنا ومعقلا له لحصانتها وليقرب عليه ما يريد من بلدان الإسلام.

معز الدولة وأمير عمان والهجريون القرامطة

وكان معزّ الدولة قد أنفذ كردك النقيب إلى عمان فلقى أميرها نافعا وواقفه على الدخول في طاعة الأمير معزّ الدولة وإقامة الخطبة له وكتب اسمه على الدنانير والدراهم واستجاب نافع إلى ذلك وكتب اسم معزّ الدولة على الدراهم والدنانير.

فلمّا انصرف كردك عنه وقف أهل البلد على ما عمله نافع من ذلك فوثبوا به وأخرجوه من البلد وأدخلوا أصحاب الهجريين القرامطة وسلّموا البلد إليهم فهم يقيمون فيه نهارهم ويروحون إلى معسكرهم في آخر النهار وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرّفونهم الخبر ليرد عليهم الأمر بما يعملون به.

عود ملك الروم إلى قسطنطينية

وورد الخبر بأنّ نقفور ملك الروم عاد إلى قسطنطينية وأنّ الدّمستق وهو ابن الشمشقيق كتب إليه يستأذنه في قصد سيف الدولة إلى ميّافارقين.

فكتب إليه بالتوقف إلى أن يلحق به بقسطنطينية فمضى إليه. وكان سيف الدولة قلّد رشيقا النسيمى وهو من وجوه أهل طرسوس فلمّا حصل سيف الدولة بديار بكر وسلم رشيق هذا طرسوس في جملة من سلّمها إلى ملك الروم خرج إلى أنطاكية.

فالتصق به انسان صغير القدر يعرف بابن الأهوازى كان يتضمن الأرجاء بأنطاكية وكان قد اجتمع عنده مال فأغوى رشيقا وسلّم إليه ما اجتمع عنده من المال وأطمعه في أنّ سيف الدولة لا يعود إلى الشام وخرج معه إلى حلب.

وجرت بينه وبين قرعويه حروب كثيرة وصعد قرعويه إلى قلعة حلب فتحصن فيها فأنفذ سيف الدولة خادما له أسود ويعرف ببشارة ليكون مع قرعويه في القلعة فنزل هذا الخادم في بعض الأيام وانضم إليه قطعة من الأعراب كانوا قد وافوه وجماعة من الجند والغلمان. فلمّا أحس بهم رشيق انهزم وسقط عن دابته فنزل إليه رجل من الأعراب من بنى معاوية عرفه فحزّ رأسه وصار به إلى قرعويه وبشارة وانهزم أصحاب رشيق وتركوا كلّ ما لهم في ظاهر حلب وهرب ابن الأهوازى إلى أنطاكية وكان أخوه مقيما بها.

فنصب رجلا من الديلم اسمه دزبر وسمّاه: الأمير، واعتضد برجل علويّ أفطسى ووعده العلوي إن تمّ له الأمر أن يجعله الرئيس والمدبّر وتسمّى بالأستاذ. فظلم الناس بأنطاكية وجمع الأموال وقصده قرعويه إلى انطاكية وجرت بينهما وقعة فكانت على الأهوازى أكثر الليل وقطعة من النهار ثم صارت له على قرعويه لأنّ أهل البلد عاونوه.

وقد كان سيف الدولة كتب إلى قرعويه ألّا يخرج إلى أنطاكية فانهزم قرعويه وعاد إلى حلب وانصرف سيف الدولة من الفداء ودخل حلب وأقام بها ليلة وخرج من غد فواقع دزبر وأسر دزبر وابن الأهوازى في ضيعة في طريق بالس يعرف بتسعين، فانهزم أصحاب دزبر وأسر دزبر ومضى ابن الأهوازى فطرح نفسه في بيوت بنى كلاب فوجّه إليهم سيف الدولة يطالبهم به ووهب لهم ثلاثين ألف درهم فسلّموه إليه وقتل دزبر واعتقل ابن الأهوازى مدّة.

ثم خرج ملك الروم إلى الشام واشتغل سيف الدولة به وأمر بإحضار ابن الأهوازى فقتل بحضرته.

معز الدولة يقبل المال ويرد الثياب

وفي هذه السنة أنفذ أبو تغلب ابن ناصر الدولة إلى الأمير معزّ الدولة شيئا كثيرا من المال والثياب التي كانت أخذت بالموصل وقت القبض على بكتوزون فأمّا المال فإنّه قبله وأمّا الثياب فإنّه ردّها عليهم وقال:

« لعلّ فيها شيئا استحسنتموها وقد وهبتها لكم. » وكانت لها قيمة عظيمة ولكنه ترفّع عن ارتجاعها.

ودخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة

بنو سليم يقطعون الطريق على قافلة عظيمة

وفيها ورد الخبر بأنّ بنى سليم قطعوا الطريق على قافلة المغرب ومصر والشام الحاجّة إلى مكة في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وكانت قافلة عظيمة وكانت فيها من الحاج والتجار والمنتقلين من الشام إلى العراق هربا من الروم ومن الأمتعة التي لهم نحو عشرين ألف جمل منها دقّ مصر ألف وخمسمائة جمل ومن أمتعة العرب اثنا عشر ألف جمل وكان في الأعدال الأمتعة من العين والورق ما يكثر مقداره جدّا. وكان فيها لرجل يعرف بالخواتيمي قاضى طرسوس مائة وعشرون ألف دينار عينا. وإنّ بنى سليم أخذوا الجمال مع الأمتعة فبقى الناس رجّالة منقطعا بهم كما أصاب الناس في الهبير سنة القرمطي فمن الناس من عاد إلى مصر ومنهم وهم الأكثر تلف.

ابن الداعي العلوي يدعو إلى الجهاد

وورد الخبر بأنّ أبا عبد الله العلوي ابن الداعي لبس الصوف وأظهر النسك والصوم وتقلّد المصحف وواقع ابن وشمكير فهزمه وأسر جماعة من أصحابه وقوّاده وعمل على المسير إلى طبرستان وكتب إلى العراق كتابا يدعوهم فيه إلى الجهاد.

وفيها لقب الحبشي بن معزّ الدولة بسند الدولة وكتب به كتاب عن الخليفة.

ذكر ما جرى في عمان

كنا حكينا من أمر عمان ما جرى في أمرها إلى وقت دخول القرامطة إليها باختيار أهلها وكان مع القرامطة كاتب يعرف بعليّ بن أحمد وكان هو الذي ينظر في أمر البلد والجيش. وكان قاضى البلد رجلا له عشيرة وعزّ منيع، فرأى مع وجوه البلد بعد نفى نافع من البلدان أن ينصبوا في الإمرة رجلا يعرف بابن طغان وكان من صغار القواد بعمان وأدناهم مرتبة فخاف من القوّاد الذين فوقه في المرتبة والمحل أن يغلبوه على أمره، فقبض على ثمانين قائدا منهم وقتل بعضهم وغرّق بعضهم.

وقدم إلى البلد ابنا أخت لرجل ممّن غرق وسألا عن حاله فعرفا أنّه غرق فأمسكا وأقاما مدة. فلمّا كان يوم من أيام السلام دخلا في جملة المسلمين على ابن طغان فلمّا تقوّض المجلس فتكا به وقتلاه.

فأجمع رأى الناس على عقد الأمر لعبد الوهاب بن أحمد بن مروان قرابة القاضي، فوجّهوا يلتمسونه فاستتر. فألزموا القاضي إحضاره وإلزامه تقلّد إمارة البلد. ففعل القاضي ذلك وراسله فظهر وتقلّد الأمر وبويع له واستكتب له علي بن أحمد الكاتب الذي كان وافى مع الهجريين وواقف علي بن أحمد الجيش على أن يطلق لهم رزقتين صلة. فأخرجت الأموال وابتدأ عليّ بن أحمد ينفق في الناس رزقتين فلمّا انتهى إلى الزنج وهم ستة آلاف رجل لهم بأس وقوّة قال لهم:

« إنّ الأمير عبد الوهاب أمرنى أن أطلق لكم أنتم رزقة واحدة فقط. » واضطربوا من هذا، فقال لهم:

« امضوا إليه وخاطبوه. » فمضوا فلمّا بعدوا منه قليلا استردّهم إلى مجلسه وقال لهم:

« إنّكم إذا مضيتم لم يوصلكم إليه ولم يزدكم على رزقة واحدة. فهل لكم أن تبايعوني وأطلق لكم رزقتين وتكون الإمارة لي؟ »

فقالوا: « نعم. » فأطلق لهم رزقتين فاضطرب البيضان من ذلك ووقع بينهم وبين الزنج مناوشة فقتل من البيضان جماعة فسكنوا وصارت كلمتهم وكلمة الزنج واحدة وبايعوا عليّ بن أحمد ثم راسلوا عبد الوهاب بن أحمد بن مروان: بأنّا قد عقدنا الأمر لغيرك فاخرج عن البلد. فخرج وحصل الأمر لعليّ بن أحمد.

خروج معز الدولة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين

وفيها خرج الأمير معزّ الدولة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين وأنفذ جيشا إلى عمان وكان خروجه من بغداد يوم الثلاثاء الحادي عشر من رجب ورحل إلى واسط وهو محموم. فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من رجب وافى نافع الأسود مولى يوسف بن وجيه مستأمنا إليه فقبله.

ونظر معزّ الدولة فيما يحتاج إليه من أمر عمان مما سنذكره وانحدر من واسط إلى الأبلّة ونزل في شاطئها في شاطئ عثمان في دار البريديين وأخذ في الاستعداد لإنفاذ جيش إلى عمان وبنى الشذاءات والمراكب قبل ذلك وطالب الديلم بالخروج إلى عمان فاستجابوا إلّا قوما وهم بضعة عشر رجلا، فإنّهم امتنعوا فأمر بطردهم فانقاد الديلم والأتراك إلى ما أراد وندب أبا الفرج محمّد بن العباس للخروج مع الجيش إلى عمان لرياستهم وتدبير الحرب وولاية البلد إذا فتحه.

فلمّا كان يوم الخميس للنصف من شوال نفذ الجيش في المراكب والشذاءات وهي مائة قطعة ومعهم المعروف بأبي عبد الله جبّ ونافع الأسود، فلمّا صاروا بسيراف انضم إليه جيش عضد الدولة في مراكب وشذاءات وكان أعدّهم هناك نجدة لعمّه. فلمّا وصل أبو الفرج إلى عمان مع الجيش دخلها وملكها وقتل بها مقتلة عظيمة وأحرق مراكب أهل عمان وهي تسعة وسبعون مركبا.

فأمّا عمران بن شاهين فإنّه أنفذ معزّ الدولة إليه أبا الفضل العباس بن الحسين الشيرازي مع جيش فابتدأ أبو الفضل يسدّ الأنهار عن البطائح وأصعد معزّ الدولة إلى واسط ومنها إلى بغداد وخلف بواسط عسكره وغلمانه والحاجب الكبير على أن يعود إلى واسط بعد عشرين يوما فيستتمّ ما شرع فيه من أمر عمران. فلمّا وصل إلى بغداد مات فدفعت الضرورة إلى مصالحة عمران كما سنشرحه من أخباره في سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة.

انهزام إبراهيم السلار

وفي هذه السنة انهزم إبراهيم السلّار من بين يدي أبي القاسم ابن ميشكى بآذربيجان وورد حضرة ركن الدولة بدابّته وسوطه ولم يفلت معه أحد، فأكرمه ركن الدولة للوصلة التي كان عقدها المرزبان، وكان ركن الدولة قد رزق من أخت إبراهيم ابنه أبا العباس وبالغ ركن الدولة في إعظام إبراهيم وأجزل له العطاء وحمل إليه من كلّ صنف يكون عند الملوك وفي خزائنهم.

وكنت حاضرا بالريّ فركبت للنظر إلى الهدايا المحمولة إلى إبراهيم فوقفت مع جماعة النظارة قريبا من دار الامارة وابتدأت الهدايا تحمل من تخوت الثياب والرّزم والأسفاط من جميع أصناف الثياب فكانت مع مائة رجل يحملونها على رؤوسهم ثم ابتدأت هدايا الطيب [ وكانت على صوانى فضة وآلاتها من الأدراج وغيرها وكانت على أيدى ثلاثين رجلا ثم ابتدأت بدرّ الأموال ] فكانت على صدور الرجال مع صرار الذهب. أما أكياس الدراهم فكانت مع خمسين رجلا وأمّا صرر الدنانير فكانت من حرير أحمر مع عشرين رجلا ليفرّق بينهما، وكانت أكياس الورق بيضاء. ثم ابتدأت خزائن الفرش على البغال فلم أحصها، وتبعها جنائب الدوابّ بمراكب ذهب وفضة وجلال ثم تبعها الجمال مزيّنة موقّرة بآلات الفرش الثقيل والخيم والخركاهات والشُّرع والسرادقات. فكانت كثيرة حسنة لم أر مثلها هدية في وقت واحد يسمح بها.

ذكر السبب في هزيمة إبراهيم من آذربيجان على تلك الصورة القبيحة ووروده إلى حضرة ركن الدولة

لما انهزم إبراهيم من بين يدي إسماعيل بن وهسوذان وأبي القاسم ابن ميشكى إلى أرمينية ابتدأ في أهبة أخرى واستعداد آخر فبالغ واجتهد وكاتب ملوك أطرافه من الأرمن وغيرهم وجمع الأكراد واستصلح ناحية جستان بن شرمزن ورغب الناس في الولايات والاقطاعات وبذل خطّه لهم بها.

واتّفق أن توفّى إسماعيل بن وهسوذان فسار إبراهيم إلى أردبيل وملكها وانصرف ابن ميشكى مع جماعة إلى طاعة وهسوذان فزحف إبراهيم إلى الطّرم منازعا عمّه وطالبا بثأر أخويه جستان وناصر فأحجم وهسوذان عن لقائه والثبات له وشجّعه أبو القاسم ابن ميشكى فأبى عليه ورأى أن يسير إلى بلاد الديلم، فسار معه أبو القاسم بن ميشكى ودخل إبراهيم إلى أعماله فخبط أسبابه ودوّخ دياره وبحث عن أمواله وبالغ في الإضرار به مدة ثم عاد إلى آذربيجان.

وجمع وهسوذان وابن ميشكى الرجال من سائر بلدان الديلم فاحتفلا واحتشدا ورجعا إلى الطرم وسار أبو القاسم ابن ميشكى إلى آذربيجان وقد قوّاه وهسوذان بالمال والرجال، فنزل إليهم إبراهيم وجرت بينهما حروب كانت على إبراهيم. فانهزم على تلك الحال وتبعه الطلب من قبل عمّه وهسوذان فتقطّع الناس عنه حتى بلغ الريّ إلى حضرة ركن الدولة على حاله لائذا به.

من حوادث السنة

وفي هذه السنة تمّ الفداء بين سيف الدولة والروم وتسلم سيف الدولة أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وأبا الهيثم ابن القاضي أبي حصين.

وفيها لقّب الخليفة أبا منصور بويه بن ركن الدولة بمؤيّد الدولة وكتب بذلك إلى الأمصار.

وفيها ورد جيش من خراسان عظيم.

ذكر خبر الغزاة الواردين من خراسان وما دبّروه بالريّ على الديلم وما انعكس عليهم من الأمر بعد استعلائهم

ورد الخبر على ركن الدولة بالريّ بخروج قوم من خراسان يحزرون عشرين ألفا ويظهرون أنّهم غزاة واستراب بهم صاحب الحدّ وهو إسفوزن بن إبراهيم وذلك أنّهم عاثوا لما دخلوا الحدّ وخاطبهم وراسل رؤساءهم فلم يجد عندهم نكيرا ولم ير سيرتهم سيرة الغزاة ولم يكن لهم رئيس واحد بل كان لأهل كلّ بلد من بلادهم رئيس منهم.

فلمّا ورد كتاب إسفوزن بصورتهم أشار الأستاذ الرئيس حقّا على ركن الدولة ألّا يأذن لهم في دخولهم مجتمعين وأن يراسلهم في أن تصير منهم عدة نحو ألفى رجل إلى الريّ فإذا خرجت هذه العدّة منها ورد مثلها حتى يتتابعوا على ذلك فلا تكون منهم معرّة ولا يحدّثوا أنفسهم بسوء أدب. فامتنع ركن الدولة من قبول رأيه [ وقال ]:

« ولا يتحدّث الملوك أنّى احترزت من لفيف خراسان وخشيت نايرتهم. » فقال له وزيره أعنى الأستاذ الرئيس حقّا:

« فإن لم تفعل هذا فكاتب عساكرك فإنّهم متفرّقون عنك بالجبل وإصبهان وغيرها حتى تتوافى إليك، فإنّ معك بالريّ عدّة يسيرة وأنت غير مستظهر بالرجال ولا آمن أن يكون لهؤلاء القوم مواطأة مع صاحب خراسان وعددهم كثير وهم مستعدّون بعلة الغزو ونحن على غير أهبة ولا استعداد.

« فأبى عليه في هذا الرأي ولم يحفل بالقوم وكاتب صاحب الحدّ بأن يأذن لهم ويفرج عن وجوههم ولا يصيّر للشر مبدأ. » فسار القوم بأجمعهم ومعهم فيل عظيم من بين الفيلة حتى نزلوا بالريّ واجتمع رؤساؤهم إلى مجلس الأستاذ الرئيس يخاطبونه في مسئلة الأمير ركن الدولة أن يطلق لهم مالا يستعينون به على أمرهم. فوعدهم بذلك وظنّ أنّ القليل يسعهم على رسم الغزاة فإذا هم يطمعون في شيء كثير وقالوا:

« نحتاج إلى مال خراج هذه البلدان كلّها التي في أيديكم فإنّكم إنّما جبيتموها لبيت مال المسلمين لنائبة إن نابتهم ولا نائبة أعظم من طمع الروم والأرمن فينا واستيلائهم على ثغورنا وضعف المسلمين عن مقاومتهم. »

وسألوا مع ذلك أن يخرج معهم جيش ينضمّون إليهم وأخذوا في هذا النحو من الكلام وتبسّطوا في الاقتراح ورفع الأصوات وكان معهم فقهاء خراسان وشيوخها مثل المعروف بالقفّال وغيره.

فتبين الأستاذ الرئيس خبث سرائرهم وتيقّن ما كان ظنّه بهم من الشرّ وطلب الفتنة ولكنه كان يداريهم ويرفق بهم. فلمّا لم يجدوا سبيلا من طريق القول إليه والشغب به عدلوا إلى مشافهة الديلم فكانوا يكفّرونهم ويلعنونهم، وكان ذلك في شهر رمضان وكانوا يخرجون ليلا ومعهم آلاتهم من السيوف والحراب والقسيّ والسهام ويزعمون أنّهم يأمرون بالمعروف فيسلبون العامّة مناديلهم وعمائمهم وإذا تمكنوا من تفتيشه وأخذ جميع ما معه لم يقصّروا فيه والناس مع ذلك يدارونهم.

فاتفق أن وقعت بينهم وبين بعض أصحاب إبراهيم بن بابى خصومة لم يحتملها منهم فتأدى إلى القتال فقتل ذلك الرجل الديلمي واجتمع رفقاؤه للقتال فاجتمع من الغزاة نحو ألف رجل على باب إبراهيم بن بابى فخرج إليهم محاميا على أصحابه وقاومهم مدة إلى أن راسله ركن الدولة بالكفّ وراسلهم بمثل ذلك فأبوا. فتسرّع الديلم ومن كان قريبا لنصرة الديلم فاشتبكت الحرب وحجز بينهم الليل ورجع الخراسانية إلى معسكرهم يضربون بطبولهم الليل كلّه ويتواعدون القتال.

بروز الأستاذ الرئيس للقتال

فلمّا أصبحوا باكروا الحرب ودخلوا المدينة من ناحية اجران وفيها دار الأستاذ الرئيس [ وبرز للقائهم وبين يديه حاجبه روين وكان شهما شجاعا فحمل عليهم في غلمان دار الأستاذ الرئيس ] فحاربهم وكسرهم حتى رجعوا إلى الدرب الذي دخلوا منه ثم كثروا عليه ولم يولّ عنهم حتى طعنه بعضهم بحربة دخلت في كمّ درعه وأفضت إلى ساعده فخرقته وكثر الناس عليه وحامى عليه الأتراك الذين معه حتى ردّ إلى منزله وقد نزفه الدم وضعف وانكسر الأستاذ الرئيس ومضى كلّ من معه وثبت بنفسه على عادته.

فتعلّق به السلّار وكان حاضرا معه وقال له:

« أيّها الأستاذ ارجع إلى الأمير ولا تفجعه بنفسك فإنّه لم يبق حواليك أحد. » وأخذ بلجامه وردّه وسمعته يقول:

« عصّبها بي وأنت بريء من عارها. » فرجعا إلى دار الامارة واشتغل الخراسانية بنهب داره واصطبلاته وخزائنه وكانت موفورة جامّة إلى أن أتى الليل وانصرفوا وكان إليّ خزانة كتبه فسلمت من بين خزائنه ولم يتعرض لها.

أمسى الأستاذ ولا فرش لمنزله ولا آلة إلا دفاتره وكتبه

فلمّا انصرف إلى منزله ليلا لم يجد فيه ما يجلس عليه ولا كوزا واحدا يشرب فيه ماء. فأنفذ إليه ابن حمزة العلويّ فرشا وآلة. واشتغل قلبه بدفاتره ولم يكن شيء أعزّ عليه منها وكانت كثيرة فيها كلّ علم وكلّ نوع من أنواع الحكم والآداب يحمل على مائة وقر وزيادة. فلمّا رآني سألنى عنها فقلت:

« هي بحالها لم تمسّها يد. » فسرّى عنه وقال:

« أشهد أنّك ميمون النقيبة. امّا سائر الخزائن فيوجد منها عوض وهذه الخزانة هي التي لا عوض منها. » ورأيته قد أسفر وجهه وقال:

« باكر بها في غد إلى الموضع الفلاني. » ففعلت. وسلمت بأجمعها من بين جميع ماله.

واجتمع الخراسانية من غد ذلك اليوم وكانوا قد كسروا ركن الدولة في آخر نهار امسه وقويت نفوسهم وكانوا قصدوا باب روين الحاجب لينتهبوا داره وكان طريحا فيها غير مستقل فأمر غلمانه بطرح الحطب المعدّ للشتاء خلف الباب وإشعاله بالنار. ففعل ذلك فلم يصلوا إلى الدار من نحو الباب وراموا أن يتسوّروا سورها فرماهم الغلمان بالسهام فتراجعوا عنها. وعملوا على مباكرتها من الغد.

فلمّا أصبحوا راسلهم ركن الدولة وداراهم وعرض على أن ينقلعوا من مملكته فلم تكن فيهم حيلة وكان الأمر قد أبرم معهم بخراسان وكانوا ينتظرون مددا يلحقهم.

وأشار على ركن الدولة نصحاؤه بالمسير إلى إصبهان مع أولاده وحرمه وبترك هؤلاء والري حتى يجتمع إليه عساكره ويقصدهم بعديد وعتاد فأبى عليهم وخاطر بنفسه ودولته فإنّه كان في خمسمائة من قوّاده وخواصه ونحو ثلاثمائة من الغلمان وباقى عسكره كما ذكرنا متفرقون في ولاياتهم.

فلمّا كان من غد ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان تفرق الخراسانية على أبواب المدينة وهجموا من كل وجه فامتلأت منهم الشوارع والمحالّ ونادوا في البلد بما يسكن الناس والرعية وقصدوا دار الامارة وفيها الأمير وأولاده وخزائنه.

وكان الأستاذ الرئيس أمر بتحميل ما أمكن والمبادرة بالحرم وصغار الأولاد إلى طريق إصبهان لينتظروا ما يكون من أمر الحرب وهم على ظهور الدوابّ مستعدّين للتوجّه إلى حيث شاءوا.

فاغتصّ الميدان الذي في الدار بالبغال التي عليها صناديق الخزائن والعماريات فلم يكن للأمير ركن الدولة مخلص من بينها وكان قد ركب في غلمان داره والأستاذ الرئيس معه وجماعة من قوّاده وحاشيته فلم يجدوا طريقا إلى الخروج لتزاحم من ذكرت فوضع بينهم الدبابيس وكسرت عدة من الصناديق والبغال حتى أفرج للفرسان على ضغط شديد وزحمة منكرة فخلصوا إلى الطريق وكنت مع القوم.

وكان الخراسانية قد دنوا من الباب ومعهم السلاليم وعندهم أنّ ركن الدولة يتحصّن في داره. فخرج ركن الدولة من نحو الميدان وخرج حجّابه من الأبواب الاخر وصدموا القوم وصدقهم الديلم في المضايق حتى ردّوهم إلى الصحراء من الناحية المعروفة بالشجرة بعد أن أشرفنا على ذهاب النفس وزوال الدولة. فلمّا حصلوا في السعة صافّوا رجالهم للحرب.

ذكر مكيدة لركن الدولة في الوقت نفذت له

كان ديلم ركن الدولة ضعفت نفوسهم لما رأوا كثرة الرجال من أعدائهم وقلّة عددهم وأقبلوا يقولون:

« أتينا من ورائنا. » فأشفق ركن الدولة إشفاقا شديدا وقال لأصحابه:

« طيبوا نفسا فإنّ الذين وراءنا هم أصحابنا. » وبشّرهم بورود عليّ بن كامه وتقدم إلى الركابية والمجرين أن يبادروا إلى نحو طريق عليّ بن كامه الذي يقبل منه وأمرهم أن يركضوا هناك ويثيروا الغبرة ما استطاعوا ففعل القوم ذلك وارتفع الرهج وكبّر الناس وقالوا:

« هذا عليّ بن كامه. » ونشط الناس ركن الدولة وقال لهم:

« احملوا حملة قبل وروده. » فحمل الديلم بنشاط واستبشار بورود المدد فكانت إيّاها، وركب الخراسانية بعضهم بعضا، فدسّ ركن الدولة إلى بعض رؤساء الخراسانية بالانحياز إليه فآمنه وبذّل له، ففعل وتحطّم ذلك العسكر وقتلوا كل مقتلة وطلبوا الأمان فآمنهم على أن يخلّى لهم الطريق فأجابهم إلى ذلك. وكان قد حصل منهم عدد كثير بالبلد يذبحون كلّ من وجدوه على زيّ الديلم فإذا ذبحوه كبّروا كما يفعل في بلد الكفر بالكفار.

فبينما هم كذلك إذا انكفأ إليهم الديلم ظافرين فهمّوا بهم وقتلوا بعضهم حتى نادى فيهم ركن الدولة بالأمان وأمر الديلم بالكفّ فلمّا كان بالليل تحملوا وانصرفوا على سمت قزوين هائمين على وجوههم لا يلوى بعضهم على بعض.

ثم وردت بعدهم خيل أخرى نحو ألفى رجل بالعدة والسلاح ولم يلحقوا أصحابهم إلّا مفلولين هاربين فراسلهم ركن الدولة بأن يتوقّفوا ولا يرحلوا وأشفق أن يكون لهم بقزوين أو في بعض الممالك عيث واجتماع آخر فلم يفعلوا وتعجّلوا بالرحيل في أثر أصحابهم فأسرع في طلبهم وركض خلفهم حتى أدركهم فصافّوا الحرب فقتل منهم عددا كثيرا وردّ الباقين إلى الريّ بعد أن طلبوا الأمان. ثم أذن لهم في الخروج وأطلق أساراهم وأقر لهم بنفقات فخرجوا وقد ذهبت حشمتهم وزالت هيبتهم عن صدور الناس ولو أنّهم خرجوا بالماء الذي كان لهم لبلغوا من الروم كل مبلغ ولكثرت غزاة المسلمين معهم ولله أمر هو بالغه.

فسمعت الأستاذ الرئيس رحمه الله بعد ذلك يقول: لم أر قوما أشد من هؤلاء وما فرق جمعهم إلّا كثرة رؤسائهم وتحاسدهم وقد كانت لهم فرص لو انتهزوا بعضها لتمّ لهم أمرهم.

منها يومهم الذي دخلوا فيه الري فإنّهم اجتازوا بأجمعهم وفي مواكبهم على باب الأمير وهو غارّ وليس ببابه كبير أحد فلو هجموا عليه ما حال بينهم وبينه أحد.

ومنها ليلة دخلوا البلد لو أقاموا وقصدوا دار الامارة ما تحرّك في وجوههم أحد وكانت ليلة مقمرة وهي ليلة النصف وهي كنهار غدها إشراقا وإضاءة ولكن القوم عملوا على دخول البلد يوم عيد الفطر والناس مشغولون [ بالصلاة ] بمصلاهم غارّون وانتظروا أيضا المدد الذي وعدوا به وكانت الأخبار والرسل تأتيهم بقربهم منهم فعملوا على ذلك. وأبت المقادير إلّا صنع الله لركن الدولة وذلك بحسن نيته ودعاء رعيته له ونظر الله تعالى للناس.

وكان لإبراهيم السلّار في هذه الأيّام مواقف حسنة وآثار جميلة وأصابت بطنه حربة لم تصل إلى أحشائه لكثرة شحمه لأنّه كان سمينا بطينا ولكنها صارت فتقا فكان يشدّها بعصائب ورفائد إلى أن توفى بعد ذلك بسنتين.

وفي هذه السنة أخرج ركن الدولة الأستاذ الرئيس مع إبراهيم السلّار مددا له في نخب الرجال من الديلم والعرب وأصناف العسكر حتى فتح بلاد آذربيجان وأصلح الأستاذ الرئيس له قلوب أصحاب الأطراف وطوائف الأكراد وقاد جستان بن شرمزن إلى طاعته فلمّا فرغ من جميع ذلك ووطّأ له النواحي ومكّنه منها خرج عائدا إلى حضرة ركن الدولة.

ذكر تدبير جيد ورأي صواب رآه الأستاذ الرئيس ابن العميد ولم يقبل وعاقبة ذلك

لما صار الأستاذ الرئيس حقّا إلى آذربيجان رأى زكاء أرضها وكثرة ريعها وسعة مياهها واحتمالها للعمارة وحسب ما يرجى من ارتفاعها فوجده مالا عظيما مثل ارتفاع ممالك ركن الدولة أو قريبا منه ونظر إلى ما تحصّل لإبراهيم السلّار منه فوجده شيئا نزرا قليلا جدا وذلك لسوء تدبير إبراهيم وإهماله الأمور واشتغاله باللعب والنساء والسكر الدائم وطمع ضروب المعاملين فيه ولا سيما الأكراد الذين قد استأكلوا تلك النواحي. ثم قد عرف بالتزيد وقلة الوفاء فليس يوثق بيمينه ولا عهوده.

فعلم الأستاذ الرئيس أنّه إذا فارق الناحية عادت الصورة مع إبراهيم إلى ما كانت ولم يلبث أن يطمع فيه ويخرج من المدينة ثم من الناحية كلّها أو يقتل فيضيع سعى ركن الدولة وسعيه.

فكتب إلى ركن الدولة بصورة الناحية وصورة إبراهيم فيها وعرّفه مقدار ما يصل إليه منها وأشار عليه أن يدبّر الناحية لنفسه ليرفع له [ منها خمسون ألف ألف درهم ويعوض إبراهيم مما يحصل له وكان مقدار ما يرتفع له ] من هذه الجملة بعد ما يخرج في إقطاعات الديلم والأكراد وبعد ما يستولى عليه قوم متعززون لا يتمكن من استيفاء الحقوق عليهم وبعد ما يضيع بالأهمال وترك العمارة من ألفي ألف درهم فرأى أن يعوض إبراهيم من ارتفاع الري أو أصبهان أو همذان هذا المقدار ويجلس آمنا فارغ البال ويشتغل بما يؤثره من صحبة المغنّين والمساخر ويتسلّم الأستاذ الرئيس آذربيجان فيرفع منها لركن الدولة ما ذكرت مبلغه وكان يرجوا أكثر منه ولكنه استظهر عليه. فأبى عليه ركن الدولة وفكر في شيء يفكر فيه مثله من أصحاب الهمم الكبار وقال:

« يتحدّث الناس أنّى افتتحت البلاد لرجل لجأ إليّ ثم طمعت فيه! » وأمر الأستاذ الرئيس بالانصراف إليه مع عسكره وتسليم البلاد إلى إبراهيم.

كلام لابن العميد قاله لمسكويه صاحب هذا الكتاب

فأذكر يوما كنت جالسا فيه بين يدي الأستاذ الرئيس وهو يحدّثني بالشدّة التي قاساها هو وعسكره في سفرته وقلّة جدواها وثمرتها وأنّها لو أثمرت نعمة باقية عند إبراهيم لكان محتملا لها وراغبا فيما ينشر من الأحدوثة الجميلة عنه بعدها. ثم قال:

« ولكني سأضرب لك مثلا لما نحن فيه وتأمّله الآن لتتذكّره فيما بعد.

أما شهدت من يغزل الأبريسم ويفتله بالمغازل الكثيرة المعلّقة بالصنّارات على شبيه الصوالجة من الزجاج. »

قلت: « بلى. » قال: « أما تعلم أنّ الصانع إنّما يتعب حتى ينصب هذه الآلة وينظمها ثم يكفيه بعد ذلك أن يتتبع أذناب تلك المغازل ويتعاهدها بالفتل؟ فنحن قد أحكمنا الآلة والمغازل دائرة والإبريسم ممدود والفتل مستمرّ به، فإذا فارقنا الموضع ابتدأت القوة التي في الدوران تضعف وليس لها من يمدها بحركة فيبتدئ في الاسترخاء وتضعف سرعة دوران المغازل ثم تبتدئ في الانتكاث وتنقلب راجعة بعكس ما كانت تدور، ثم لا تجد أيضا من يتعاهدها فيتساقط أولا أولا حتى لا يبقى منها شيء. » فكأنّ هذا المثل كان وحيا فإنّه ما أخطأ شيئا من صورة إبراهيم بعد خروجنا وانتهى أمره بعد ذلك النظم الذي نظم له إلى أن طمع في ملكه حتى انسلخ منه شيئا بعد شيء إلى أن أسر وحبس في بعض تلك القلاع كما سنحكيه فيما بعد إن شاء الله.

ودخلت سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة

وفيها قصد معزّ الدولة عمران بن شاهين صاحب البطائح

وكان قد صمّم على مناجزته وأبي أن يقبل منه صلحا ومالا أو يرضى منه إلّا بحضور بساطه.

فاتّفق أن اعتل من ذرب لحقه وأحسّ بالضعف، فعاد إلى واسط وخلّف على عسكره سبكتكين الحاجب، وظنّ أنّه يتماثل فيعاود، واشتدت به العلة وكان لا يثبت في معدته طعام وأحسّ بالموت ورجع إلى بغداد.

عهد معز الدولة إلى ابنه

وعهد إلى ابنه بختيار عزّ الدولة وأظهر التوبة وأحضر وجوه المتكلمين والفقهاء وسألهم عن حقيقة التوبة وهل تصح له فأفتوه بصحّتها ولقّنوه ما يجب أن يقول ويفعل، وتصدّق بأكثر ماله وأعتق مماليكه وردّ شيئا كثيرا من المماليك وتوفّى في شهر ربيع الآخر سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة وكانت له أخبار وأحوال منها إنفاذه جيش الماء والديلم إلى عمان حتى فتحت له ولم يكن فيها ما يستفاد منه تجربة فطويناها.

وكان اتفق عند موته اتفاق حسن لعزّ الدولة فرأينا إثباته ليكون معدودا في جملة أمثالها من الاتفاقات العجيبة.

ذكر اتفاق حسن

لما مات معزّ الدولة ألحّ المطر ببغداد ثلاثة أيّام بلياليها إلحاحا شديدا منع الناس من الحركة ولم يتمكن الديلم من اطلاع رؤوسهم ومنع سائر الناس من البروز وتردّد النقباء إلى رؤسائهم فأرضى كل أحد بما سكن إليه وانجلت السماء عن سكون الجند ورضا الكافّة. فكاتب عزّ الدولة سبكتكين وسائر العسكر بمصالحة عمران بن شاهين والانصراف عنه إلى بغداد ففعل ونفّس خناق عمران. وصولح صاحب الموصل واستقرّت الأمور بيده.

وفيها وردت الأخبار بإقبال جيش قويّ من خراسان مع ابن سمجور ليجتمع مع وشمكير.

ذكر السبب في ذلك

لما اعتلّ أبو عليّ [ محمّد ] بن الياس وفلج بكرمان وخالفه أولاده وقصده عضد الدولة رحل إلى خراسان ولقي صاحب خراسان وبرئ بعض البرء وصار نديما له يعاشره ويؤانسه. فسوّل له قصد ممالك الديلم وأطمعه فيها وزعم أنّ أصحاب جيوشه ليس يناصحونه ويقبلون الهدايا والرّشى.

فوافق ذلك ما كان يشكوه إليه وشمكير حالا بعد حال فاتصلت المكاتبة بين وشمكير وصاحب خراسان وكذلك الحسن بن الفيرزان إلى أن وقعت المعاضدة والموافقة على أن يدبّر جميع الجيوش وشمكير.

وأنفذ صاحب خراسان إلى وشمكير وإلى الحسن بن الفيرزان هدايا كثيرة من دوابّ وغلمان وآلات وسرّب إليهما أمداد الجيوش مع صاحب جيشه محمّد بن إبراهيم بن سمجور وعلى أن يكون الرئيس على الجميع وشمكير.

فورد من ذلك على ركن الدولة ما لم يكن في الحساب وعلم أنّ الأمر قد بلغ الغاية وليس إلّا الفيصل. فكاتب عضد الدولة يستمدّه الرجال والمعونة وكاتب عزّ الدولة بمثل ذلك.

فأمّا عضد الدولة فأمدّه بخيل عليها أبو جعفر ابن رزمان وشخص بنفسه إلى إصطخر ليسير إلى خراسان وسيّر أحد حجّابه في جيش المقدّمة إلى طريثيث وأظهر في عسكره أنّ جيش خراسان قد ساروا بأجمعهم مع لفيف البلدان وغزاتهم إلى الريّ وخراسان خالية وليس دون ملكها شيء، واتصل ذلك بالقوم فأحجموا قليلا. واتفق سقوط وشمكير بضربة الخنزير وموته فانتقض ذلك الأمر كله.

سقوط وشمكير بضربة الخنزير وموته ذكر هذا الاتفاق العجيب

اتّفق أن استعرض وشمكير خيله وما قيد إليه من جهة صاحب خراسان فكان في جملتها فرس أدهم حسن الصورة فأعجبه وأمر بإسراجه وعزم على ركوبه والتصيّد في ذلك اليوم.

فدخل إليه منجّمه فنهاه عن الركوب فخالفه. فلمّا أصحر عارضه خنزير قد أفلت من أصحابه وقد رمى بحربة فثبتت فيه فحمل الخنزير على وشمكير وهو كالغافل فضربه وفرسه، فشبّ الفرس وسقط وشمكير على دماغه فخرج من أنفه وأذنيه دم وحمل ميّتا وذلك يوم السبت في أوّل يوم المحرّم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.

وقد كان بختيار عزّ الدولة اجتهد في إخراج سبكتكين مع جيش كثيف على الرسم فامتنع سبكتكين عليه فأوحشه بذلك واضطرب بختيار لأنّه لم يجد من يطيعه في الخروج إلى أن انتدب ألفتكين وقد كان يتلو سبكتكين في المرتبة وأحبّ أن يظهر في تلك الحالة فضلا وحسن طاعة للمنافسة التي كانت بينه وبين سبكتكين، فضم إليه جيشا وورد الريّ وقد استغنى عنه فعاد.

ذكر سوء تدبير بختيار لمملكته ولنفسه حتى فسد جنده وطمعوا فيه ثم طمع أعداؤه أيضا فيه وأفضى أمره إلى الهلاك

كان أبوه معزّ الدولة حين أيقن بالتلف وصّاه بطاعة ركن الدولة واستشارته في كلّ ما يعرض له من مهمّ، وكذلك بطاعته لابن عمّه عضد الدولة لأنّه أسنّ منه وأقوم بالسياسة. ووصّاه بإقرار كاتبيه أبي الفضل العباس بن الحسين وأبي الفرج محمّد بن العباس فإنّهما أكفى من غيرهما وأعرف بوجوه الخدمة.

ووصّاه بمداراة الديلم وإزاحة عللهم عند أوقات استحقاقاتهم لئلّا يخرقوا هيبته بالشغب وطلب الفتن. ووصّاه بالإحسان إلى الأتراك فإنّهم جمرة عسكره وإذا رابه من الديلم ريب أمكنه أن يقمعهم به. ووصّاه بعد الإحسان إلى الأتراك بكبار الحاشية وصغارهم وأن يجريهم على عادتهم ورسومهم.

فخالف هذه الوصايا كلّها واشتغل باللهو واللعب ومعاشرة المساخر والمغنّين والنساء، وأوحش كاتبيه وضرّب بينهما حتى استوحشا جميعا منه وطمع في إقطاعات كبار حاشيته وفي سبكتكين خاصّة وهو صاحب جيشه وكان معزّ الدولة وصّاه بألّا يقطع أمرا دونه وكان ذا أرب وسياسة وله رئاسة في العسكر قديمة متمكنة يهابه الجميع ويطيعونه، واحتجب عن عسكره بما ذكرته من الشغل باللعب والسكر الدائم.

وابتدأ بمناوأة عضد الدولة، وذلك أنّه منع صاحبه المقيم ببغداد من شرى الدوابّ وآلات خدمته التي كان يستدعيها وجرت عادته بالتمكن منها وترك استشارة عمّه ركن الدولة في كلّ ما عرض له.

عاقبة ذلك فكان من عاقبة ذلك أن سبكتكين صاحب جيشه لما أحسّ بطمعه فيه وفي نعمته انقبض عنه فصار لا يركب إليه ولا يثق، به واقتصر على التراسل على أيدى المتوسطين وكان لسبكتكين أصحاب أخبار في العسكر وفي دار بختيار خاصّة وله عيون وجواسيس من خاصّة حاشيته وبطانته فكان لا يخفى عليه شيء من حركاته فضلا عن تدابيره.

فأمّا كاتباه أبو الفضل العباس بن الحسين وأبو الفرج محمّد بن العبّاس فإنّهما لما عرفا قصده في إفساد نيّة بعضهما لبعض - فقد كان بينهما قبل ذلك منافسة في المرتبة وتحاسد في النعمة - أخذا جميعا أهبة التحرّز منه وأخذ هو في الحيلة عليهما حتى أزال بأحدهما نعمة الآخر. ثم قبض عليه بأصاغر الحاشية وأدانى الحشم ومكّن منهما الأوغاد والسفلة فاضطربت أحوال المملكة واضطرّ إلى الاستعانة بمن رفعه من السقّاط ومن لا يكمل للنظر في قرية ولا يصلح للتوسط بين نفسين فضلا عن العسكر المضطرب فاختلّت أصول أمره وفروعها.

وأما كبار الديلم ووجوههم فإنّه نفاهم عن مملكته طمعا في اقطاعاتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم فتبسّط أصاغرهم واستلانوا جانبه وتحالفوا عليه وطالبوه بزيادة في رسومهم واضطر إلى النزل على حكمهم ثم عجز عن إرضائهم.

وأمّا الأتراك فإنّهم نظروا إلى ما تمّ للديلم من التحكّم فعملوا مثل عملهم من الاشتطاط والتسحّب والمواجهة بالمخاطبة الغليظة واضطرّ إلى التدبير عليهم والراحة منهم.

وابتدأ بسبكتكين وكان متحرزا متيقّظا، فما تمّ له عليه شيء من تدبيراته فتحزّب الأتراك وصاروا يدا واحدة.

وتحركت الأحقاد والحفائظ التي كانت في نفوس الديلم على معزّ الدولة، فبرزوا إلى الصحراء مع الأسلحة والجنن وساموه أن يثبت من أسقطه معزّ الدولة وأن يعطيهم أرزاقهم ويعجّل لهم رزقة منسوبة إلى البيعة غير محسوبة.

فجمع بختيار الأتراك إلى داره مع أسلحتهم ليعتصم بهم وترك الديلم في الصحراء ثلاثة أيّام. فغاظهم ذلك وازدادوا تباعدا في الاشتطاط عليه وفي الاشتداد بالمطالبة إلى أن نزل على بعض حكمهم وأعطاهم ثلث رزقة غير محتسب به.

وخيّر أصحاب الإقطاعات بين الإقامة في أيديهم والتمسك بنواحيهم وبين تعريضهم منها وأثبت من الديلم الساقطين كلّ من كان صريحا في الديلم أو صريحا في الجبل دون من اختلط بهم ممن ليس منهم.

فلمّا تمّ لهم ودخلوا البلد اجتمع الأتراك أيضا على الشغب فخرجوا إلى الصحراء واستدعوا الأصاغر من غلمان الحجر في دار بختيار حتى برزوا معهم وتحالفوا وتعاهدوا أن تكون كلمتهم متفقة وأن ينصر كبيرهم صغيرهم وقويّهم ضعيفهم وقد كانت اجتمعت لهم أموال مسبّبه من تلك الزيادات المضافة إلى الأصول التي زادها معزّ الدولة، فطالبوا بتوفيتهم ذلك كلّه، وأن يسلك فيهم سبيل أبيه في الاستحجاب والتقويد والتنقيب والزيادة في المنازل والمراتب.

ثم اتفق الديلم والأتراك على ألّا يعارض كل فريق منهم صاحبه في طلب الحظّ لنفسه، وتعاهدوا على ذلك. فقادته الضرورة إلى أن ضمن لهم جميع ما التمسوه وإزاحة العلل فيه ولم يتسع لذلك ولا لبعضه. فاضطروا إلى مناظرة وزرائه على الاحتيال لهذا المال والنظر في جمعه من أين كان وكيف كان.

وكان أبو الفضل العباس أشدّ جسارة وإقداما من أبي الفرج، فضمن ذلك لهم واستعان بكاتب الفارسية شيرزاد بن سرخاب، وكان متمكنا من بختيار قريبا منه يسمع كلامه ويتدبّر برأيه، وضمن له مرفقا على ذلك ومالا يحمله إليه في كل سنة. فسعى له شيرزاد في الوزارة ووعد بها وقيل له:

« إذا ظهرت كفايتك فيما ضمنته من إرضاء الجند وغيره كانت الوزارة مقصورة عليك. » فأخذ في مصادرة الحاشية وألزمهم أموالا علم أنّهم يفون بها ولا يجحف بهم، وافتتح الخراج واجتهد حتى وفّى الديلم ما ضمن لهم وفرّق الأتراك في النواحي لتنجّز تسبيباتهم. فتمّ لهم أيضا ما التمسوه وذلك لجمام الأمر وأنّه كان مبدأ فوجد أموال الحاشية جامّة والنواحي في بقايا العمارة، فمشى أمره في هذه السنة.

واتّصل خبره بأبي الفرج محمّد بن العباس وهو يومئذ بعمان وكان خرج إليها في حياة معزّ الدولة وكانت له بها وقائع بين العمانيين حتى استوسقوا له. فلمّا عرف وفاة معزّ الدولة وطمع أبي الفضل في الوزارة وسعى شيرزاد له فيها، لم يلبث أن سلّم الناحية إلى رجل من أهل عمان يعرف بابن نبهان، وأظهر أنّ الأمر ورد عليه بالإفراج عن البلد وتسليمه إلى صاحب عضد الدولة، وأقبل مسرعا إلى العراق. فلمّا قرب منها استقبله أصحاب أخيه أبي محمّد علي بن العباس الخازن وكتّابه وكتبه يشيرون عليه بالمبادرة وترك التأخر عن الحضرة قبل أن يتمّ لأبي الفضل العبّاس بن الحسين تقلد الوزارة، فورد وصار الناس حزبين وطلب كل واحد منهما عثرات صاحبه وخطب الوزارة لنفسه. ثم تمكن أبو الفضل بمعاونة شيرزاد إلى أن تمّت له الوزارة.

ذكر رأي صواب لبنى حمدان رءاه ناصر الدولة فخولف

لما سمع أولاد ناصر الدولة باضطراب بختيار وسوء سياسته وشغله عن تدبير الملك باللعب والسكر الدائم وشغب جنده وانخراق هيبته همّوا بإخراج الأموال والانحدار إلى بغداد ومقارعة بختيار عن سرير الملك، فقال لهم أبوهم ناصر الدولة:

« لا تعجلوا فإنّ معزّ الدولة قد خلّف لابنه خميرة من المال يسيرة وسيفرّقها على جنده هؤلاء وسيجذب أيضا كتّابه وعمّاله من نواحيه ومن مصادرات أسبابه ما أمكنهم ولستم بمستظهرين عليه ولا متمكّنين من دولته إلّا بعد أن تفنى حيله وتخلو يده. فإذا كان ذلك الوقت فانحدروا إليه وكاثروه بالمال وأفسدوا عليه قلوب الرجال، فإنّكم تملكونه لا محالة. » وكان الرأي ما قال، فإنّ معزّ الدولة كان أتلف ماله على البناء الذي أحدثه وعلى الأتراك الذين اصطنعهم وكان مقدار ما خلّفه أربعمائة ألف دينار فأخرجها بختيار شيئا بعد شيء عند الضرورات وعند اجتداد المطالبات.

وكان كتّابه يستقرضون منه لهذه المهمات على أن يردّوا العوض عنه ثم لا يتمكنون من الوفاء حتى استغرقت النفقات والنوائب جميع ذلك بعد مديدة يسيرة.

واختلفت كلمة بنى حمدان فشغلوا عن مشورة أبيهم وكان مبدأ الشر بينهم أنّ أبا تغلب قبض على أبيه ناصر الدولة لما رءاه قد كبر ولم يبق فيه بقية غير سوء الخلق والتقتير على أولاده وعلى حاشيته. فلما قبض عليه أصعده إلى قلعته ووكّل به من يخدمه ويزيح علّته في حاجاته. فامتنع بعض إخوته وانتثر النظام الذي كان يجمعهم فشغلهم حفظ ما في أيديهم عن طلب ما ليس لهم.

واحتاج أبو تغلب إلى مداراة السلطان وتجديد عقد الضمان والتماس الخلع والعهد والعقد ليحتجّ بذلك على الجند ويستظهر به على إخوته المخالفين والموافقين، فأنفذ كاتبه أبا الحسن عليّ بن عمرو بن ميمون حتى أخذ له من السلطان ذلك، وبذل لبختيار ألف ألف ومائتي ألف درهم في كلّ سنة على الرسم وانصرف إلى صاحبه بقضاء حاجاته قرير العين بما تمّ على يده غير مفكر في شيء مما كان يهمّ به.

تلاحق مشايخ الملوك بالموت

وفي هذه السنة تلاحق مشايخ الملوك بالموت وتتابعوا وكان مدخل القران التاسع: فهلك معزّ الدولة أحمد بن بويه، وقبض أبو تغلب على أبيه ناصر الدولة، وهلك سيف الدولة، وهلك نقفور ملك الروم، وهلك كافور صاحب مصر، وهلك وشمكير بن زيار، وهلك الحسن بن الفيرزان، وهلك أبو عليّ محمّد بن الياس، وجماعة أمثالهم، وبقي ركن الدولة من بينهم وعمّر إلى أن استوفى أجله.

ودخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة

ذكر ما دبر كل واحد من الكاتبين في خطبة الوزارة وسعى كل واحد منهما على صاحبه

قد ذكرنا ما كان من أبي الفضل العباس بن الحسين من تمشيته للأمور في السنة التي مدّ يده فيها إلى الحاشية وما وجده في النواحي وما تأوّل به على العمّال حتى أرضى الجند. فاستطال على بختيار وانطلق لسانه وزعم أنّه قد أظهر الكفاية التي وعده بها وذكر أنّ دخل المملكة يعجز عن خرجها وأنّه إن قلّد الوزارة جبر هذا العجز وقام بالأمر كما قام به في تلك السنة وضمن لشيرزاد إذا تمّم له الوزارة مآلا.

وشخص إلى الكوفة لتقرير أمور المقطعين بسقى الفرات فاجتهد له شيرزاد في الوزارة حتى أنعم له وبلغ أبا الفرج ذلك فشمّر عن ساقه في فسخ نيّة بختيار وزعم أنّ الذي ذكره أبو الفضل من عجز الدخل عن الخرج لا حقيقة له وأنّ الأموال التي استخرجها ومشّى بها الأمور إنّما كانت من مصادرات الناس ومن بقايا في النواحي وأنّه لم يؤثّر أثرا ولا فتح فتحا ولا استحقّ من المراتب ما لا يستحقّ مثله.

واتصل ذلك بأبي الفضل فوافى من الكوفة ركضا وجرت بينهما مناظرات استقرّت على أن يعمل كل واحد منهما عملا لأصول الارتفاعات وما ينضاف إليها وعملا لأصول النفقات الراتبة وما ينضاف إليها من الحوادث لتعرف الصورة فيما اختلفا فيه ولازما الديوان مع كتابهما حتى ارتفعت هذه الأعمال.

فامّا أبو الفرج محمد بن العباس فإنّه أورد في عمله أصول العقود على عبرها وأبوابا ينكسر بعضها، ثم خفف النفقات الحادثة وحذف الاستظهار لها حتى لم يظهر العجز وقام الدخل بالخرج.

وأما أبو الفضل فإنّه وضع من الأصول ما نسبه إلى المنكسر وما ينظر به للضمناء واعتدّ بالزاجى دون التاوي واستظهر في تقدير النفقات الحادثة وزاد في مبلغه حتى أوجب في عمله عجزا في الدخل عن الخرج.

ثم حكى في عمله أنّه يقيم وجوها لهذا العجز وأنّه إن بقيت منه بقيّة نقلها في كل سنة إلى التي تليها على الرسم الجاري في ذلك.

وتقابلا على حسابهما وتناظرا على الخلاف بينهما ووقف الكلام بين المتوسطين - وفيهم شيرزاد - على إبطال الوزارة والتراضي بالاشتراك في الكتابة. ثم جدّ شيرزاد سرّا في أوقات خلواته ببختيار في السعى لأبي الفضل وبذل عنه لبختيار مالا على سبيل الهديّة وأعلمه أنّ فيه إقداما وبسالة يحتاج إليهما في الوقت وأنّه ذو مال ويسار يزيد على مال أبي الفرج إضعافا وأنّه ذو حيلة وتأويل وبطش، وأبو الفرج صاحب تقشّف وتوقّف وتعقّد وأن الأمر بمثله لا يمشى فلم يزل بهذا وأشباهه حتى أمضى بختيار العزيمة.

وقلد أبا الفضل الوزارة وخلع عليه القباء والسيف والمنطقة المحلّيين بالذهب وحمله على فرس بمركب ذهب وأقطعه إقطاعا بخمسين ألف دينار على رسم الوزراء وضم إليه عددا كثيرا من الديلم على رسوم الوزراء. فصار إليه أبو الفرج مسلّما وأظهر الامتناع من العمل وكره أبو الفضل ذلك لأنّه أحب أن يجرى على رسمه في تقلد الديوان ليشغله عن تتبعه والطعن عليه وأيضا ليراه بعين من يغدو ويروح إليه وينحطّ عن رتبة المساواة التي كان فيها إلى رتبة الأتباع. وكره أبو الفرج جميع ذلك فخوطب فيه وأعلم أنّه [ إن ] لم يصبر على هذه الحال والقناعة بها انقطعت العلائق بينه وبين صاحبه بختيار ونصب للديوان غيره ثم يكون مطّرحا بعرض النكبة وربما تأدى الأمر إلى أكثر من ذلك من تسلط أعدائه عليه وانبساط أيديهم فيه وفي أعزته فاستجاب إلى عمل الديوان واستونف بتقليده إيّاه وخلع عليه الدراعة على رسم الكتابة.

وكان مما وفّره أبو الفضل في وزارته إقطاعات استرجعها من قوم مثل أبي الفتح أخي عمران بن شاهين ومثل أبي عبد الله الأيسر المعروف بالجبّ ثم تجرد للأهواز ومحاسبة آزاذرويه وكتّابه.

واتفق في وزارته أن أظهر الحبشي بن معزّ الدولة عصيان أخيه وطمع في البصرة والتفرّد بها.

ذكر السبب في عصيان الحبشي وتمكن أبي الفضل منه وحصول أمواله وذخائره وأسبابه له

لما توفّى معزّ الدولة احتوى على الحبشي ابنه بالبصرة جماعة من حاشيته وجند البلد وأطمعوه في البصرة وأقاموا في نفسه أنّ المال الذي يرتفع من البصرة ينصرف معظمه إلى الجيش المقيمين بها وباقيه مصروف إلى نفقاته وليس يبقى بعد ذلك إلّا ما لا يستكثر أن يجعل حظّه من ميراث أبيه ويغضى عنه.

ثم أوهموه مع ذلك أنّ أخاه بختيارا لا يتمكن من الوصول إليه مع حصانتها لوهم بذلك فابتدأ يستبدّ بالأموال والأمور ويستولى على العمال ويتحيّفهم. وكان مغيظا على عامل البصرة الحسين بن الحسن المكنّى أبا طاهر فعمل على القبض عليه والتشفي منه وإزالة الحشمة فيه، ونمى الخبر إلى العامل فهرب إلى الحضرة.

وكتب الحبشي في أثره إلى بختيار يذمّه ويطعن عليه وينسبه إلى الخرق والجهل وأنّه لم يخفّف شيئا أنكره ولكن قصد التشنيع وذكر في الكتاب أنّه قد تقدّم بحفظ الأعمال والأموال إلى أن يعود فيجري على رسمه في التدبير لها.

ثم سأل في هذا الكتاب أن تسلّم إليه المدينة ويخلّى بينه وبين تدبيره وأن يواقف على ارتفاعه ويحتسب له بنفقاته التي تخصّه وبأموال الجند المقيمين بحضرته وإن بقيت بقية سبّب عليه ليزيح العلّة فيها. فأجابه بختيار بالتصديق لقوله ووعده أن يعمل بمحبته.

ثم زاد تبسّط الحبشي حتى كان يشرق الأمر ويظهر الخلاف. وكتب إليه بختيار بالتأنيس والاستمالة والمعاتبة اللطيفة وأعلمه أن وزيره العباس بن الحسين شاخص إلى الأهواز وأنه سيراسله منها ويبلغ محابّه في الأمور التي التمسها. وندب وزيره العباس للشخوص وأمره بالحيلة عليه حتى ينتزع البصرة من يده إمّا مكرا وخديعة وإمّا حربا ومكاشفة.

فاستخلف أبا العلاء صاعد بن ثابت النصراني بالحضرة وانحدر وأخذ معه أبا الفرج محمّد بن العباس صاحب الديوان وأبا سهل ديزويه العارض وجرّد معه عسكرا وأزاح علّته في السلاح والجنن والآلات سرا.

فلمّا وصل إلى واسط أقام بها شهرا ونظر في أمورها ومصالح أعمالها ومظالم أهلها وأظهر أنّه راحل إلى الأهواز، وكتب إلى ليلى بن موسى فياذه وكان بالأهواز يأمره بالاستعداد لقصد البصرة والمسير إلى بيّان وقدم حديدياته وسفنه على أنّ فيها أثقاله وكانت مملوّة بالسلاح وأمر أصحابه المنحدرين فيها بأن يتجاوزوا الأبلّة ولا يدخلوها ويقصدوا بيان ويظهروا أنّهم يحملون ما معهم إلى الأهواز على طريق حصن مهدى وحدر الطيارات والزبازب تفاريق.

وكتب إلى أحمد بن محمد المعروف بالطويل بأن يصير إلى بيّان وكان يتقلد حصن مهدى وأن يحفظ هذه الآلات وأطلعه على التدبير.

وكتب إلى الحبشي بن معز الدولة من واسط بأنّه يفعل كلّ ما يؤثره ويهواه ويتحمد عليه بأنّ مصيره عاجلا إلى الأهواز ليستدعى كاتبه إليها ويواقفه على ارتفاع البصرة ويسلّمها إليه. وأومأ في آخر الكتاب إلى التماس صلح منه على ذلك ويقول في جملة تعريضاته: « أنّه قد التزم عن الوزارة غرما ثقيلا » ويسأله معونة بما يحمله إليه. فسكن الحبشي إلى قوله ووعده وحمل إليه عاجلا مائتي ألف درهم ولم يشكّ أنّه قد اشترى بها منه البصرة. فلمّا وصلت إليه أنفذها إلى بختيار، ورحل كأنّه يريد الأهواز إلى الحويزة ونهر العباس. ثم عدل عنها إلى نهر البصرة وكان للحبشى رسل قد أنفذهم بأطيار ليكاتبوه بخبره فأرسلت الأطيار إليه بخبره فثار الحبشي وهاج ولم يملك نفسه وأظهر المنابذة والخلاف.

واستوحش من كان بالبصرة مقيما من الغلمان الأتراك في تسبيباتهم، فهربوا إلى بيّان فصادفوا بها عسكرا قويّا مع ليلى بن موسى فياذه وأحمد الطويل فانضمّوا إليهما وكانت قد حصلت الزبازب عندهم والملاحون والجنن والآلات والسلاح.

وأخرج الحبشي عسكره إلى الابلّة ورتّب غلمانه وأثبت من عشائر العرب قوما رتّبهم على أفواه الأنهار وقلّد حاجبا له تركيّا يقال له، بكتيجور رياسة عسكر الماء وجعل اسفهسلّار الديلم في عسكر الظهر صعلوك بن باطاهر أحد وجوه قوّاد البصريين.

فلمّا ورد الوزير أبو الفضل عسكر أبي جعفر وجّه إلى ليلى بن موسى فياذه وإلى أحمد الطويل ومن معهما يأمرهم أن يشحنوا تلك الزبازب والطيارات بالرجال والسلاح ويصعد إليه على تعبية من جانب دجلة الشرقي المعروف بالفرات ولا يعبروا في طريقهم إلى الأبلّة ولا يقاتلوا أصحاب الحبشي ولا يهيجوهم إلى أن يصلوا إليه فيضيف إليهم من معه من الخواصّ والغلمان وقد كانوا مستقلّين بنفوسهم ومن حصل عندهم من الأتراك الذين هربوا إليهم من البصرة وأقام ليلته ينتظرهم وتعذّرت الميرة عليه وانقطعت المادّة عن عسكره وتحيّر في أمره حتى لو تأخّر الفتح يوما لما أمكنه المقام ولاحتاج إلى الرحيل فتكون هزيمة عليه.

فلمّا كان الغد أصعد ليلى بن موسى والجماعة على أهبة وتعبية وعملوا على امتثال الأمر وترك التعرض لمن في طريقهم من أصحاب الحبشي. فلمّا جازوا الأبلّة خرج أولئك نحوهم وبدءوهم بالحرب فعدل حينئذ ليلى بن موسى ومن معهم إليهم وواقعوهم وغرّقوا عدة من زبازبهم واستأمنت عدة أخرى وهرب بكتيجور صاحب الحبشي ناجيا بحشاشته واشتملوا على بقية عسكر الماء.

ثم طمعوا في الظهر فتقدموا إلى الديلم هناك وقاتلوهم ساعة ثم تهيّأ لطائفة أن صعدوا إلى شاطئ الأبلّة وصاروا في ظهورهم فاضطربوا وانهزموا وقتل منهم نفر وانهزم قوم واستأمن آخرون وملكت الأبلّة.

وأنفذ ليلى غلاما له في بعض الزبازب إلى الوزير أبي الفضل مبشّرا بالفتح، فالتمس السفن والزبازب وعبر إلى قرية فوق الأبلّة وعسكر بها وكتب إلى الحبشي يشير عليه بالخروج إلى الأهواز فالتمس منه الأمان والتوثقة، فآمنه على النفس والولد والحرم وتوقّف عن ذكر المال والحال.

فتنبّه الحبشي على ذلك وتردّدت فيه الرسل فلم يسكن ولم يخرج.

فعبّى الوزير أبو الفضل عسكره وزبازبه وزحف إلى البصرة وملك منها الموضع المعروف بالسيالجة ولم يزل ينفذ إليه رسولا بعد رسول من شجعان الأتراك والديلم ويأمرهم أن يقيموا عنده ويتوكّلوا به ولا ينصرفوا بالجواب، إلى أن أحاط به منهم بضعة عشر رجلا بالسلاح ثم أنفذ أبا سهل ديزويه العارض في طائفة وافرة من العسكر فدخلوا إليه وأخرجوه إخراجا بين الجميل والقبيح وحمل معه أهله وولده وما خفّ من ماله وجواهر كانت له فلم يوصله الوزير إليه وأمر بأن يسلّم إلى أحمد الطويل ليصير به إلى حصن مهدى ففعل ذلك وأقام هناك معتقلا أيّاما ثم حمل إلى الأهواز وبقي مدّة أخرى ثم إلى رامهرمز واعتقل بها اعتقالا جميلا ثم أزيل التوكيل عنه وحمل إلى عمّه ركن الدولة بحديث يطول ولا فائدة في ذكره. ثم حصل عند عضد الدولة فأقطعه إقطاعا يسعه ومن معه، وأمره أن يحصل بسابور وهي كورة من كور فارس نزهة كثيرة العيون والأشجار والصيد، فأقام بها إلى أن توفّى في آخر سنة تسع وستّين وثلاثمائة.

الوزير أبو الفضل يملك البصرة ويصادر أصحاب الحبشي

وملك الوزير أبو الفضل البصرة عنوة وأنفذ إليه بختيار خلعا جليلة فلبسها وركب فيها ونصبت له القباب فانبسطت يده وقوى سلطانه وصادر أصحاب الحبشيّ وكتّابه وحاشيته ومعامليه وارتجع منه ما كان حمله معه من المال والجواهر، واستخرج من الأموال شيئا كثيرا وظفر بخزائنه كلّها. فكان في جملتها خزانة كتبه وفيها خمسة عشر ألف مجلّد سوى الأجزاء والمشرّس غير المجلد ووجد له من خزائن الأسلحة والفرش والثياب الفاخرة والآلات شيئا يستكثر لمثله فحمل ذلك كلّه إلى بختيار.

وقلّد بختيار ابنه المرزبان البصرة وسنّه ثمان سنين واستكتب له أبا الغنائم المفضّل بن أبي محمد المهلّبي وهو خال ولد الوزير أبي الفضل.

ذكر الدعوة إلى محمد بن عبد الله القائم من أهل البيت (ص)

وفي هذه السنة ظهرت دعوة بين الخاصّ والعامّ يدعى فيها إلى محمد بن عبد الله القائم من أهل بيت رسول الله وقيل إنّه الرجل الذي ورد بذكره الخبر وأنّه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد أعداء المسلمين ويجدّد ما عفا من رسوم الدين. فتطلّعت إليه نفوس العامة وجعل دعاته يأخذون البيعة على الرجل بعد الرجل فمن كان من أهل السنّة قيل له: إنّه عباسيّ. ومن كان من أهل التشيع قيل له: إنّه علويّ.

وكتبت عنه رسالة على عدّة نسخ وطرحت في المساجد والمحافل يدعو فيها إلى مثل ما حكيناه عنه، فحصلت نسخة منها عند الوزير أبي الفضل في أول وزارته فتقدم بإذكاء العيون على الطائفة الخائضة في هذا الباب والقبض على من يوجد منها. ثم انحدر قبل أن يظفر بأحد منهم وتقدم إلى خليفته أبي العلاء صاعد بن ثابت بالجدّ في طلبهم.

فلمّا نظر في ذلك وجد جماعة من وجوه الكتّاب وأماثل الناس قد دخلوا في هذا الأمر وبايعوا الدعاة إليه، وكذلك وجدوا خلقا كثيرا من الديلم والأتراك والعرب قد بايعوه وكان فيهم سبكتكين العجمي أحد أكابر القوّاد: قواد معزّ الدولة، ممن قاد الجيوش وتقلّد الأعمال وكان شجاعا مطاعا جوادا نازلا عند الأتراك بمنزلة من لا يخالف في الرضا والسخط وكان يتشيّع وقيل له إنّ الرجل علويّ، وإنّه يقلّدك إمرة الأمراء. فاستجاب واستفحل أمر القوم.

ذكر السبب في اضمحلال أمره حتى ظفر به وبأسبابه ودعاته وجميع من دخل معه في بيعته

كان هذا الرجل محمد بن المستكفي طرأ إلى مصر فتقبّله كافور الإخشيدي الخادم وأحسن إليه وأجرى عليه رزقا سنيّا. فكاتب جماعة من أصحابه بالدعاء إليه فجرى أمره كما حكينا.

فلمّا كثر المستجيبون له وهم لا يعرفونه وتقوّوا بمكان سبكتكين العجمي كاتبوه بالحضور وكتب إليه سبكتكين: إني أقوم لك بالأمر.

فورد هيت وهو لا يشك أنّ الأمر مستقرّ له ومستتبّ على إرادته. وخرج سبكتكين العجمي وكان يتقلّد حماية طريق الفرات إلى الأنبار وأظهر للسلطان أنّه ينظر في مصالح عمله، فتلقّاه وترجّل له وأكرمه ثم أدخله البلد مستترا وأنفذ إليه فرشا فاخرا وثيابا نفيسة وطعاما كثيرا وشرابا. وعمل على إيقاع حريق وفتنة في ليلة النيروز المعتضدي لتشاغل الناس بذلك ويهجم على بختيار ويوقع به وواطأه على ذلك خلق من الجند فظهر له قبل النيروز أنّه عباسي وليس بعلويّ فتغيّرت نيّته، وتصوّره بصورة المحتال وواجه بعض أولئك الدعاة بذلك وأعلمه أنّه كذّاب مموّه وتثاقل عن نصرته وأظهر الندم.

وخاف محمد بن المستكفي أن يقبض عليه وأحسّ أصحابه ودعاته بذلك فاستوحشوا وتفرقوا، فبعضهم هرب إلى ناحية السواد وبعضهم أمعن في الهرب. وعرف السلطان خبرهم فكاتب العمال بالتيقظ في طلبهم وإذكاء العيون عليهم فظفر ببعضهم فأمر بتقريره بالسوط فأقرّ على جماعة أخذوا ولم يزل التتبع يقع حتى حصل محمد بن المستكفي وأخوه فأوصله بختيار إليه واستشرحه الأمر فشرحه بعد أن آمنه على نفسه.

فالتمس المطيع لله من بختيار أن يسلمه إليه مع أخيه، فأبى عليه ودافع عنه وقال:

« قد آمنته. » فبذل المطيع لله لهما الأمان على النفس. فلمّا حصل الجميع في يده تقدم بجدع أنف محمد بن المستكفي وقطع أنف أخيه وحبسهما مدّة. ثم هربا وخفى خبرهما ووقع الاستقصاء على كل من دخل في بيعته، فصودروا وأدّبوا ضروب التأديب ولم يقع الإقدام على سبكتكين العجمي ولا على أحد من وجوه الجملة وإنّما خوطب سبكتكين خطابا خفيفا فجنح في الجواب إلى الإنكار وأغضى عنه وعن الجند.

عضد الدولة يملك كرمان

وفي هذه السنة صفت كرمان لعضد الدولة وملكها وفتح قلعة بردسير وهي خزانة أبي على ابن الياس التي جمع فيها ذخائره على مرّ السنين من الأموال والجواهر والأمتعة الفاخرة.

ذكر السبب في ذلك

كان أبو على ابن الياس لما عاود كرمان بعد إبراهيم بن كاسك جرى مجرى بعض المتصعلكين وآمن ناحية عماد الدولة عليّ بن بويه لما ذكرناه فيما تقدّم فشارك اللصوص وصعاليك القفص والبلوص فحصل عنده على طول السنين من جهتهم مال عظيم في القلعة التي وصفناها.

ولما مات عليّ بن بويه عماد الدولة وترعرع عضد الدولة فنّاخسره كان في نفسه من هذه القلعة ما لا يظهره فلمّا استوحش اليسع بن محمد بن الياس من أبيه صار إلى عضد الدولة وأقام عنده حتى أصلح له نية أبيه وعاد إليه فوعده بولاية العهد ورياسة العسكر.

ولما كان في هذه السنة وقع القفص على قافلة عظيمة وغنموا أموالا عظيمة للتجار فخرج إليهم محمد بن الياس يطلب نصيبه من غنيمتهم فأصابه في الطريق علة الفالج وردّ إلى منزله واستمرت به العلة فجمع أكابر أولاده وهم ثلاثة: اليسع وسليمان والياس، فخاطبهم بما ظنّ أنّه يجمع كلمتهم واعتذر إلى اليسع من النبوة التي سبقت منه حتى فارقه ثم جمع إليه تدبيره عسكره وولاية عهده ومن بعده الياس.

فأمّا سليمان فإنّه أشار عليه بأن يرجع إلى بلده وهو الصغد وأظهر له تذكرة فيها ثبت دفائنه وودائعه هناك وأراد بذلك أبعاده عن اليسع لعداوة كانت بينهما فأظهرت الجماعة قبول أمره والانتهاء إلى رأيه.

وشخص سليمان نحو الصغد بما قسمه له. فلمّا صار بظاهر المدينة عدل عن ذلك السمت وقصد القفص وطلب منهم ذلك القسم الذي كان أبوه شخص لتسلمها، فتمّ له الوصول إليه وأخذ منهم مالا جليلا واستضم إلى نفسه جماعة منهم ليقوى بهم ثم عاد إلى السيرجان وكان يتولاها من جهة أبيه.

فلمّا بلغ أباه ما صنع، غضب من مخالفته إيّاه واغتاظ منه فأمر اليسع بطلبه وقوّاه بالرجال وقد كان العسكر مطيعين له وأمره إن يضطرّه إلى الخروج إلى الصغد أو معاودة حضرته ليقبض عليه ووصّاه إن خرج نحو الصغد أن يخلّى له الطريق ولا يتبعه.

فخرج اليسع إلى السيرجان وتحصّن سليمان منه واقتتلا أيّاما. ثم استظهر اليسع فحمل سليمان جميع ما كان حصل له وخرج من باب من أبواب المدينة قاصدا خراسان فتركه اليسع امتثالا لأمر أبيه وعاقب جماعة من أهلها الذين كانوا عاونوا سليمان عليه ثم صفح عنهم.

ذكر اضطراب أمر اليسع مع أبيه حتى استبدل به وما آل إليه أمره حتى أخرج أباه إلى خراسان مكرها

كان في جملة محمد بن الياس رجل يعرف بعبد الله بن مهدى ويلقب ببسّويه شديد الغلبة عليه والتمكن منه وبينه وبين اليسع وحشة متأكدة.

فخافه على نفسه فاجتمع مع إسرائيل المتطبب وكان أيضا مكينا عنده، ومهندس كان معه يقال له: المرزبان على إفساد نية أبي على ابن الياس على ابنه اليسع وشككوه فيه وحركوا ما كان في نفسه قديما منه وأشاروا عليه بأن ينقض ما عقده له من تدبير جيشه ويجعله لحاجب من حجابه يقال له:

ترمش، ليكون الأمر غير خارج عن يده ما دام حيّا. وليكن غلامه صاحب جيشه فيتصرف معهم على رأيه. فقبل منهم هذا الرأي وكتب إلى اليسع بأن ينكفئ إليه واستدعاه إلى القلعة وكان لا يصعدها إلّا وحده دون كل أحد على رسم القلاع.

فلمّا حصل عنده وليس فيها إلّا هو وهؤلاء الثلاثة ونفر من ثقات أصحابه وجماعة حرمه وجواريه قبض عليه وقيّده وفوّض أمر الجيش إلى ترمش الحاجب فلم يجتمعوا عليه ولا رضوا به.

فمشت والدة اليسع إلى والدة الياس وقالت لها:

« إنّ صاحبنا كان عقد لولدينا عقدا هو الصواب، لكنّه قد اختلّ عقله وعزب رأيه بهذه العلة وغلب عليه هؤلاء الثلاثة وتمّ لهم على ابني ما سيتمّ مثله على ابنك وحينئذ تخرج هذه المملكة عن آل الياس وتنتقل إليهم وإلى من نصبوه [ يعنى ترمش الحاجب ] والصواب أن تساعديني على تخليص ولدي ليكون الأمر جاريا مجراه الأول. » فساعدتها وقبلت رأيها.

وكان ابن الياس ربما أغمى عليه في علّته فاتفقت المرأتان على أن جمعتا الجواري وكان عددهن كثيرا وقصدن عبد الله بن مهدى بسّويه ليوقعن به.

فاتفق له أن أفلت وهرب واستنقذن اليسع وعالجن قيده فلم يكملن لكسره وخشين فوت الأمر فاتخذت له أمّه حبالا متينة من ثياب ديباج حتى تدلّى من القلعة إلى الأرض لأنّها لم تتمكن من إخراجه من باب القلعة. فلمّا حصل في الأرض رآه بعض الجند فكسر قيده وأعطاه دابّته فركب وتوسّط العسكر فاستبشروا به وعادوا إلى طاعته وخدمته.

وهرب ترمش الحاجب وجمع اليسع الجيش ليسير بهم إلى تحت القلعة ويحاصرها ويتغلّب عليها، وكان الشيخ في جميع ذلك مغمى عليه لا يعقل شيئا مما جرى. فلمّا أفاق من غمرته وعرف الصورة راسل اليسع واطلع عليه وسأله أن يكفّ عنه ويؤمنه على نفسه وحرمه ومن معه حتى يسلم إليه القلعة مع جميع أعمال كرمان ويرحل إلى خراسان ويكون عونا له هناك متى احتاج إليه.

فأجابه ابنه إلى ذلك ومكنه من جميع ما أراد فاحتمل مائة وقر من المال والثياب والجوهر وفاخر المتاع واستصحب ثلاثمائة غلام من غلمانه وما احتاج إليه من الآلات والكراع وشعّث القلعة وأحرق بقية ما كان فيه من الآلات والكسوة ورحل فلم يؤاخذه اليسع بما فعل بل احتمله ووفّى له بالأمان الذي بذله وتركه حتى نفذ إلى مقصده.

وتسلم اليسع القلعة وظفر بأولئك النفر الثلاثة وسلّمهم إلى كاتبه ومدبر أمره أبي نصر محمد بن إسماعيل البمّى وأمره بمطالبتهم فاستخرج منهم مالا عظيما.

وتلف إسرائيل الطبيب ثم وجه للمعروف ببسّويه كتابا كتبه إلى خراسان فيه الإغراء به والذم له وكان قد عفا عنه فأعاده إلى العقوبة حتى هلك فيها.

وابتدأ فنّاخسره عضد الدولة في تخبيب رجال ابن الياس فاستأمن إليه أكثر الديلم والأتراك وكان حينئذ أبو على ابن الياس بخراسان يطمع صاحبها في مملكة الديلم فكان من عاقبته ما شرحناه من موت وشمكير وغير ذلك.

وتفرّغ عضد الدولة لقصد كرمان ودسّ إلى كلّ من له رأى أو نجدة من خبّبه وأصلح قلبه له. ثم توجّه إليها فافتتحها ودخلها في شهر رمضان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، واستولى على جميع أعمالها وملك قلعة بردسير وهي عظيمة فيها عدة قلاع متصلة بعضها ببعض، وانهزم اليسع إلى خراسان وصادف وصول اليسع إلى خراسان موت والده، فاحتوى صاحب خراسان على ما سلم معه من بقية ماله وكراعه.

ولما تمّ لعضد الدولة فتح كرمان واتصل خبره بصاحب سجستان كاتبه وترددت بينهما الرسل حتى صالحه وخطب له وهو أبو أحمد خلف بن أبي جعفر المعروف بابن بانويه.

وأنفذ إلى عضد الدولة من الحضرة ببغداد عهد الخليفة وخلعه من الطوق والسوارين والعقد على أعمال كرمان كلّها. فقلد عضد الدولة هذه الأعمال أكبر أولاده أبا الفوارس شيرزيل واستخلف له عليها كوركير بن جستان وكان وجه قوّاد عسكره وانصرف إلى شيراز.

ودخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة

وفيها استأمن حمدان بن ناصر الدولة إلى بختيار ودخل إلى مدينة السلام.

ذكر السبب في ذلك

كان ناصر الدولة قلّد حمدان ابنه الرحبة وسوّغه ارتفاعها وكان أبو تغلب وأخوه أبو البركات - وأختهما المسماة جميلة - بنى زوجته فاطمة بنت أحمد الكردي وكانت مالكة أمر أبيهم. فاستولى أبو تغلب على مالها وأموال ناصر الدولة وقلاعه وكانت هي مدبّرة جميع ذلك وتطابقت الجماعة على الشيخ وغلبوه على جميع ذلك ولم يكن له بهم طاقة لتناهيه في الكبر والضعف. فابتدأ يدبر القبض عليهم وكاتب ابنه حمدان ليستظهر به ويعتمده فيما همّ به، فظفروا بكتابه هذا ولم ينفذوه وزاد ما بينهم شروقا وانفراجا حتى خافوه، ودخل معهم في الخوف كاتبه وأكابر غلمانه الذين تابعوا أبا تغلب، فاجتمعوا وقبضوا عليه ليلا وحملوه إلى القلعة. واتصل ذلك بحمدان فامتعض لأبيه وكان عدوّا مباينا لإخوته هؤلاء وهو أشجع أولاد ناصر الدولة وأفرسهم وكان قد سار عند وفاة عمّه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقّة فملكها ثم سار من الرقة إلى نصيبين. واستفزّ على أبي تغلب من أطاعه من أهله وإخوته وجندهم وطالبهم بالإفراج عن أبيه وردّه إلى منزله وأمره فتوجّه إليه أبو تغلب فانهزم حمدان من بين يديه قبل اللقاء وتحصّن بالرقّة ومنها في الرافقة ونازله أبو تغلب عليها طويلا ثم اصطلحا على دخل وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.

موت ناصر الدولة

وعاش ناصر الدولة شهورا ومات في سنة ثمان وخمسين واستعمل أبو تغلب وعمّاله كلّ قبيح مع حمدان في ضياعه وأملاكه وطرد عنها وكلاؤه وانخرقت الحشمة بينهما فأنفذ إليه أخاه أبا البركات في جيش كثيف فلمّا قرب منه استأمن إليه معظم أصحاب حمدان فخرج عن البلد منهزما واحتمل حرمه وعياله وغلمانه ومن تبعه وورد هيت مستأمنا إلى بختيار وكتب إليه يستأذنه في الدخول فأجابه بالإذن والقبول وخرج فتلقّاه ومعه سبكتكين الحاجب وجماعة جيشه وأنزله في دار حسناء وفرشها فرشا فاخرا وحمل إليه هدايا من مال وافر وثياب فاخرة وطيب وفرش وبغال ودوابّ بمراكب ذهب وفضّة وتكفّل بالتوسّط بينه وبين أخيه أبي تغلب وأنفذ إليه أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي نقيب الطالبيّين برسالة في الصلح فتم بينهما وحلف لكل واحد صاحبه وشخص حمدان إلى الرحبة وحمل إليه بختيار هدية مثل الأولى وزيادة مع جمال وآلات السفر فرحل وشيّعه بختيار مع جيشه ثم عاد مستأمنا دفعة ثانية على ما سنذكره.

دخول جوهر مصر

وفي هذه السنة ورد الخبر بدخول جوهر صاحب أبي تميم العلوي صاحب المغرب مصر فاشتمل عليها وتقطع جيش كافور وجماعة الأخشيدية وتمزّقوا.

وفيها نفى شيرزاد بن سرخاب كاتب الفارسية عن مدينة السلام

ذكر السبب في ذلك

كان شيرزاد مستوليا على بختيار كما حكيناه وأسرف في التجبر وحلف بختيار على أن لا ينفذ عزما ولا يقرّر أمرا إلّا بعد مشاورته ورضاه وتحقق بالجندية وادّعى الشجاعة وأعاره الناس من ذلك ما لم يكن عنده تقرّبا إليه وكثر تعلقه بالأموال والتلاجى وشره إلى اكتساب الأرباح من غير وجوهها ولم ينقبض عن شيء همّ به ولم يمكن أحدا أن يعتصم منه. ومنع بختيار من عطاياه التي كان يبذلها للديلم والأتراك وقوّى عزيمته على الثبات والتماسك وخاض معه في إيقاع حيلة على سبكتكين الحاجب وقيل إنّه واطأ بعض الديلم على الفتك به إذا حضر الدار ليتسع بأمواله ونعمته. وعزم على تقلد الجيش والتسمية بالاسفهسلار فبلغ ذلك سبكتكين وامتنع أن يلقى بختيار أو يدخل داره إلّا في الأحايين البعيدة على تحرّز واستظهار.

وثقل أمر شيرزاد على الجند لأنّ بختيار كان عوّدهم ألّا يردّهم عن شيء يلتمسونه من واجب ومحال وقليل وكثير، فمنعه شيرزاد من ذلك وناصبه الكتّاب أيضا العداوة للخوف من شرّه وانقباض أيديهم عمّن يلتجئ إليه وكثر الدعاء عليه من أفناء الناس.

واجتمع الأتراك على عداوته وصاروا ينسبون كلّ حال يكرهونها وينكرونها إليه. وأخذ الوزير أبو الفضل يتحرّز منه لما فسد بينه وبينه ويستمل الأتراك ويوسع عليهم فمشى بعضهم إلى بعض وتوافقوا على الفتك به، ثم رأوا أن يستأذنوا سبكتكين الحاجب فقصده جماعة لذلك.

ونمى الخبر إلى بختيار فتقدم إليه بالمصير إلى سبكتكين واستصلاحه وطرح النفس عليه ومسألته كفّ القوم وضم إليه الوزير أبا الفضل ليعاونه وبينهما إذ ذاك منافقة لم ينهتك سترها. فقصدا سبكتكين ووجدا طائفة كثيرة من الأتراك عنده يستأمرونه في قتل شيرزاد فلم يأذن لهم ولكن أمرهم بتخويفه حتى يهرب وألّا يقارّوه بالحضرة. فأمسكوا عن قتله بعد أن همّوا به. وكان يجرى أمره مجرى صالح بن وصيف بسرّ من رأى أيام المهتدي بالله.

فلمّا وصل شيرزاد وأبو الفضل الوزير إليه وخاطباه وتضرّعا إليه صدّقهما عن الصورة وأعلمهما أنّه لولا خطره على الأتراك لقتل شيرزاد ولما تركوه أن يصل إليه وأشار عليه بالرحيل من ساعته إلى حيث شاء.

فخرج وهو يائس من صلاح حاله وخائف على مهجته فصادف الأتراك مجتمعين في دار سبكتكين يموجون في أمره ويتوعدونه ويغلظون له ويشتمونه، فأسرع الخروج إلى حضرة بختيار وعرّفه ما جرى، ثم التفت إلى الوزير فأسمعه غليظ ما يكره وقال له:

« هذا من عملك وتدبيرك. » فحلف له بالطلاق على براءته مما ظنّه به فأجابه بيمين الطلاق أنّه كاذب في جحوده.

ثم خلا بختيار بشيرزاد فحذّره شيرزاد من الوزير أبي الفضل وعقد معه عقدا وعهد إليه عهدا في صرفه عن الوزارة والقبض عليه واستصفاء نعمته ونعم أسبابه وواقفه على أن يحرس عليه بعد خروجه داره وأهله وولده وضياعه وأن يوقع عليه اسم ابنه سلّار بن بختيار لتنحسم عنها أطماع الديلم والجند إلى أن يستصلح نيّات الأتراك ونيّات سائر العسكر ثم يعود إلى حاله ويجرى على رسمه في الخدمة وانحدر في الوقت إلى الأهواز ثم صار منها إلى أرجان وبها يومئذ الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد. وكان حاجبه روين قريبا لشيرزاد وكان قد توفّى ففجع به جدا ووجد به وجدا شديدا. فلمّا وصل إليه شيرزاد رأى فيه شبها منه وتخيل فيه شمائله فعطف عليه وتحفّى له وأكرمه وحمل إليه مالا وكسوة وكتب له إلى ركن الدولة كتبا مؤكّدة ووعده بتوسط أمره وأشار عليه أن يخرج إلى حضرة ركن الدولة بكتبه ويقيم ببابه إلى أن يرد بنفسه فيتوسط أمره فاتفق أن خرج إلى الريّ وتوفّى بها.

وكان من سوء ملكة بختيار وقلة وفائه أنّه ثاني يوم خروجه قبض إقطاعه وضياعه وأملاكه وجواريه ودوره ونكب كاتبه وأسبابه واستثار أمواله وودائعه ونقل ابنه سلّار الى داره وسلّم إليه إقطاعه لا على الأصل الذي قرّره معه شيرزاد بل على أن يصير له ذلك خاصة يتوفر عليه.

القبض على الوزير أبي الفضل العباس

وحكى أيضا أنّ نفى شيرزاد كان في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. ثم أنّه بعد شهرين من نفى شيرزاد قبض على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين وكتّابه وأسبابه واستصفى أموالهم وقلّد الوزارة أبا الفرج محمد بن العباس وقلّد الديوان أبا قرّة الحسين بن محمد القنّائى.

ودخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة

ذكر السبب في القبض عليه

كان أبو الفضل الوزير استخدم أبا قرّة وهو رجل من دير قنّى حسن الذكاء قد نشأ بين كتّاب واسط وعمّالها وتخرّج معهم واختصّ بأحمد ابن عليّ القنّائى فتمهّر ولم يزل يتدرّج في التصرف حتى تقلد واسط رئاسة من قبل السلطان فاقتنى أموالا جليلة وصارت له نعمة ضخمة وكان شديد الجرأة على السلطان يقدم على أمواله إقداما لا يقدم عليها غيره هذا مع اهتداء إلى وجوه الحيل عليه ومعرفة بوجوه الارتفاق والارفاق فإنّه كان يرفق الوزراء والعمال باليسير ويتوصل به إلى الارتفاق الكثير.

فاضطرّ أبو الفضل في وزارته لبختيار عند الحاجة والإضافة إلى معاملته وكان يسعرها في وقت البيدر فربما قام عليه الكرّ بثلاثة أكرار. هذا إلى أمثال ذلك في معاملات الحنطة وغيرها وعظمت نعمته وتمكن من رعيّته بواسط فانبسطت يده عليهم فتأوّل عليهم وقوى بأموالهم. وكان الواحد منهم إذا تظلّم منه لم ينصف وردّ إليه أمره فيبسط المكروه عليه فصارت رعيته تشكره على طريق الخوف منه.

ولما غاب أبو الفضل الوزير إلى الموصل أيّام معز الدولة مكّنه واستخلفه ببغداد ووصل بينه وبين شيرزاد كاتب الفارسية ليعزّه ويمنع منه مراغمة أبي الفرج محمد بن العباس. فكان أبو قرّة يهدى إلى شيرزاد ويلاطفه ويكثر وجوه المرافق والمبارّ له ليمنع من الاستيفاء عليه وتأكدت الحال بينهما حتى انقطع إليه ولم يتمكّن أحد من الرجلين منه أعنى أبا الفرج وأبا الفضل وكانا يومئذ كاتبين لا يتسمى أحد منهما بالوزارة طول أيّام معز الدولة.

وكان أبو قرّة يرفع حسابه على ما يريد ولا يتمكّن أحد من الكتّاب أن يستوفيها عليه فيقرر بأكثر ارتفاع ضمانه سوى الأرباح التي ذكرناها وسوى ما يستغلّه من أملاكه وسوى ما يستخرجه من المصادرات والمصانعات.

وكان شيرزاد يطالب الوزير أبا الفضل بما كان واقفه عليه إذا تمّم له الوزارة وكان أبو الفضل يعتدّ عليه بما يصل إليه من جهة أبي قرّة وقال له:

« هذا الرجل عاملي وإنّما ضممته إليك لينوب عني عند غيبتي عن مدينة السلام وقد حصل لك من جهته ما ينبغي ان أحتسب به عليك وتعتدّه لي. » ويستجيبه شيرزاد بأنه لا يحتسب له إلّا بما يصل إليه من صلب ماله وخاص إقطاعه وارتفاقاته. ولم يزل ذلك يتردد بينهما حتى استوحش كل واحد من صاحبه واستوحش أبو قرة أيضا واختص زيادة اختصاص بشيرزاد.

فطمع في المنازل العالية لما يرجع إليه من الكفاية في نفسه ثم للحال المتأثلة واليسار العظيم واضطر الوزير إلى مغالطته عن نفسه وإيناسه والاستعانة به على شيرزاد وهو كان سبب اتصاله به. فلمّا تمّ على شيرزاد ما تمّ من النفي همّ الوزير بالقبض عليه ثم أمهله ودبّر أمره على أن تدرك غلّاته وخشي في الحال إن مدّ يده، أن تنقطع مادة ما كان يقيمه من قضيم الكراع وواقف بختيار على أنّه يستخرج منه عند حضور الوقت مائتي ألف دينار.

وكان بختيار لا يضبط لسانه ولا يكتم شيئا من أسرار نفسه ولو فيما جرّ عليه ذهاب النفس والملك فأخرج حديثه وسرّه فبلغ أبا قرة ما جرى وكان يخشى عداوة أبي الفرج فصار يخشى عداوة الوزير ولم يكن له وزر غير شيرزاد وكان قد نفى فاضطرب واحتال حتى توصل إلى سبكتكين الحاجب وبذل له على يد أبي بكر الإصبهاني صاحبه وثقته ذلك المال الذي كان يرتفق به شيرزاد بن سرخاب. فنصره سبكتكين نصرة زادت على نصرة شيرزاد فصار في ظل أحصن من الظل الأول وتعذّر على الوزير أن يملأ عينه منه فضلا [ عن ] أن يمدّ يده إليه.

فحينئذ اجتمعت على أبي الفضل الوزير أمور منها: الإضاقة وانقباض يده عن استيفاء الحقوق ومنها مطالبة بختيار له بالقروض التي كان اقترضها ولم يتسع لردّها عليه ومنها: عداوة سبكتكين له وخوفه من حيله ومكايده ومنها: حسده له على ظاهر حاله وما جمع من الغلمان والحجاب والمروءة الظاهرة ومنها: استمالته وجوه الأتراك ومكاثرته إياه في الإحسان إليهم ومنها: عداوة بختكين آزاذرويه وكاتبه سهل بن بشر إيّاه لقصده إيّاهما بالأهواز واستقصائه عليهما ومصادرته إيّاهما ومنها: عداوة صاحب الديوان أبي الفرج وأخيه عليّ بن العبّاس على قديم الأيّام ومنها: انقلاب أبي قرّة للأسباب التي ذكرناها، فخلا من كل صديق ومعين واصطلحت هذه الطائفة عليه.

ثم اضطرّ أبو الفرج محمد بن العبّاس إلى مصادقة أبي قرّة ليتعاضد على أبي الفضل لا لمودّة حقيقية فاتّفقا على أن يخاطبا سبكتكين الحاجب في مراسلة بختيار ومواقفته على القبض على أبي الفضل وضمنه أبو الفرج محمد بن العبّاس تسعة آلاف ألف درهم يستخرجها منه ومن خلفائه وكتّابه وجميع المتصلين به على أن يتقلّد الوزارة ويتقلّد أبو قرّة الديوان. ففعل ذلك وقبض على أبي الفضل كما سبق القول فيه.

فلم يلبث محمد بن العبّاس أبو الفرج في وزارته إلّا يسيرا حتى اضطربت أموره ولم يف بما ضمنه لبختيار وتمكن أبو قرة من السعى عليه وردّ أبي الفضل إلى وزارته وضمن لبختيار تصحيح سبعة آلاف ألف من جهته بضمان سبكتكين عنه.

شرح الحال في ذلك وسبب تمكن أبي الفضل بعد نكبه حتى أعيد إلى الوزارة ومكن من أبي الفرج

لما خلع على أبي الفرج الخلعة التي تخلع على الوزراء ومكن من أبي الفضل وسلّم إليه مع جميع أسبابه والمتصلين به اتسع بما راج له من جهاتهم وحبس أبا الفضل في داره وضيّق عليه وبحث عن أمواله وأموال أهله وحرمه بغاية ما أمكنه.

فلمّا وقف عليه الأمير طالبه بالمال وناظره فاستقرّ ما بينهما على أن التزم ثلاثة آلاف ألف درهم يحتسب منها بما صحّ من خاص أمواله وأثمان غلّاته وآلاته وكراعه ويوفّى ما يبقى واشترط أن يوسع عليه ويسهل الاذن لمن يدخل إليه ليستسعفهم ويقرض منهم. فأحجم أبو الفرج محمد ابن العبّاس عن التنفيس عنه خوفا من نفاذ حيلته عليه وأعاده إلى الحبس والتضييق وانفسخ ما قرّره معه وعطف على أسبابه فثنّى المصادرات عليهم وعسفهم وأرهقهم وجازفهم ومات في حبسه صهر لأبي الفضل العباس بن الحسين يقال له: إبراهيم بن محمد الدهكى، فاتهم به وأنّه قتله بالعذاب والمطالبة.

وخلع على أبي قرة لتقلّد الديوان بعد أن أرفق بختيار بمال على ذلك وأقرّت واسط في يده فصار ضامنا لها خاصة مستوفيا على غيره من الضمناء وتلقّب بالرئيس لأن أبا الفرج كان أيّام تقلّده الديوان متلقّبا بهذا اللقب فأنكر أبو الفرج ذلك على أبي قرة وأمر الناس أن يخاطبوه بالوزير الرئيس تحصينا لهذا اللقب عن أبي قرة.

ذكر فساد الحال بين الوزير وبين أبي قرة وما تم له من عزله وتولية أبي الفضل

وابتدأ أبو قرّة يطالب بجميع مراتب أبي الفرج التي كانت له قبل الوزارة وزعم أنها من حقوق صاحب الديوان ويجب أن يستوفيها. فاضطربت الحال بينه وبين الوزير أبي الفرج ولم يزل يتزيد حتى ترامت إلى نهاية الفساد وضمن أبو قرّة عن هذا اللقب مالا ثانيا حتى أمضى له وخرج الأمر بأن يخاطب به.

وكان معزّ الدولة أطلق لأبي الفرج وأبي الفضل عند إخراجه إيّاهما إلى جهتي عمان والبطيحة للحرب عليهما أن يضربا على أبوابهما بالدبادب في أسفارهما عند حضور أوقات الصلوات. فصار ذلك رسما لهما استمرّا عليه ولم يقطعاه عند انصرافهما من وجه الحرب. فلمّا تقلّد أبو قرة الديوان أجراه مجرى حقوق العمل التي تستوفى واحبّ أن يضرب على بابه بالدبادب.

فسأل بختيار ذلك فأجابه إليه ومنعه أبو الفرج الوزير منه وأنكر، ثم بذل فيه أبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك.

ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة في التنافس إلى أبعد غاية وفي العداوة إلى أقصى نهاية. وكان صاحبهما لاهيا عنهما واتصلت المنازعة بينهما في أمثال هذه الأشياء ولم تحفظ مرتبة الوزارة وفضلها على غيرها حتى لم تتميز من سواها.

فتقدّم الوزير أبو الفرج إلى كتّابه بعمل لأبي قرة ومؤامرة تشتمل على ما يجب عليه في مردود حسباناته التي عملها في سنى ضمانه وإثارة جميع ما غبن فيه السلطان ومرافقه القديمة والحديثة فعملت هذه المؤامرة واشتملت على ستة آلاف ألف درهم ونسبت هذه الأموال إلى جهاتها وعرضت على بختيار وأطمع في وجوبها وأن حاله تفي بها فأمر بمطالبته.

واعتصم بسبكتكين الحاجب فحامى عليه واغتاظ بختيار من تعززه عليه ووجد خصومه الطريق إلى إغرائه به وأقاموا في نفسه أنّه سيحمل سبكتكين على خلع طاعته وإزالته عن مملكته. فأنفذ بختيار إليه نقيبا ووكّله به في دار سبكتكين ثم أنفذ ثانيا يستدعيه وضعف سبكتكين عن مقاومة صاحبه بختيار ومنابذته وكان شاع عنه أنّه إنّما يحامى على أبي قرة لمرفق يأخذه منه، فترك الإغراق في نصرته وسلمه إلى بختيار على موجدة في نفسه وحمية في قلبه ووعد أبا قرة أنّه سيتكلم فيه ويستنقذه.

فلمّا صار عند بختيار سلّمه إلى الوزير أبي الفرج وأمره باستخراج المال فضعف الوزير عن منابذة سبكتكين فيه ولم يقدم على عسفه ولم يسكن إلى إطلاقه فحصل معتقلا اعتقالا جميلا ووقفت الأمور التي كان ينظر فيها من إقامة القضيم للكراع ومهمات التسبيبات عليه.

وندم سبكتكين على تقليد أبي الفرج الوزارة ومساعدته على نكبة أبي الفضل وتذكر ما كان يعامله به من المجاملة والنفاق ورأى أنّه على علّاته كان أصلح له من أبي الفرج وضعف قلب أبي الفرج بفساد رأيه.

وكان أخوه أبو محمد علي بن العبّاس الخازن مستوليا على بختيار مالكا لقياده لا يفارق مجلسه عند الأنس والمنادمة فأشفق أن يجرى عليه من سبكتكين ما جرى على شيرزاد منه فاتفقا على إرضاء سبكتكين بإطلاق أبي قرّة وتقرير أمره على مال قليل لا يؤثر في حاله وأن يصير إلى واسط على رسمه الأوّل ويعتزل الديوان. فلمّا أفرج عنه أقام القضيم ونفذ الأمور المتعلّقة به وانحدر إلى واسط بعد أن واطأ سبكتكين على السعى لأبي الفضل في الوزارة وإنقاذه من محبسه والقبض على أبي الفرج وأبي محمد علي بن العبّاس وأسبابهما.

وقد كان الوزير أبو الفرج عطّل ديوان أبي قرّة ونقل الأعمال عنه واستبد بمكاتبة العمال وكان له كاتب أهوازيّ يعرف بابن السكر قد اتسمت حاله فشرع في تقلّد هذا الديوان وبذل لبختيار مالا يصحّحه له في كلّ سنة من حقوق المحاسبات وأعلمه أنّ هذا الديوان زمام له على الوزراء وأنّ الوزير الآن مستبدّ بالجميع وفي ذلك ضياع الدخل والخرج وفساد الأصل والفرع.

واتّصل الخبر بأبي الفرج فغلظ عليه وعظم في نفسه وراسل بختيار بأنه لا يصبر على أن يتقلّد كاتبه هذا الديوان على مراغمته فأجابه بأنّه لا بدّ من صاحب ديوان يكون معه « فاختر أنت من تحب » فهان عليه ردّ أبي قرة إلى نفسه وكان أخفّ على قلبه وأيسر محملا من نظر ابن السكر فيه فكوتب بالاصعاد فورد وجددت له الخلع وقلد الديوان.

وكانت المراسلات بينه وبين أبي الفضل متصلة وذلك أن أبا الفضل كان واسع الصدر فأفضل على الموكلين به من غلمان الوزير أبي الفرج ووسّع عليهم وأكثر في برّهم والإحسان إليهم فلم يمنعوه من مكاتبة من يريد مكاتبته وأوصلوا إليه كتب من كاتبه فاحتال ضروب الحيل وتمّ له أكثر ما حاوله. فلمّا ورد أبو قرّة بغداد تمكن من إتمام أمره والسعى له.

واشتدت الإضاقة بأبي الفرج ووقفت عليه أموره ومطالبه. لأنّ واسط انغلقت عليه بأبي قرة والبصرة والأهواز انغلقتا عليه بالأتراك الذين استبدّوا بأموالهما في تسبيباتهم ولم ينهض بما ضمنه عن أبي الفضل لأنّه اقتصر على أخذ ظاهره وخاف أن يطلقه ليضطرب فيحتال عليه ويسعى في الوزارة وهو لا يعلم انه قد سعى وفرغ واجتمعت عليه مطالبات كثيرة وصارت حاله في انحراف بختيار عنه وعداوة سبكتكين الحاجب له ولأخيه وتعصّب الجند عليهما كحال أبي الفضل لمّا قبض عليه.

ذكر ما احتال به في هذه الحال وما عرض له من سوء الاتفاق

لمّا أحسّ باضطراب أمره خاف أن يعاجله بختيار بالقبض عليه فأحال على أموال وقفت عليه بالأهواز وأنّه يريد الشخوص إليها فمنعه بختيار من الخروج إلّا بعد إقامة الوجوه للنفقات التي بحضرته لئلا تتوجه عليه المطالبات بعد خروجه ويقع إخلال بالإقامات فاحتاج أن يستخلف أخاه بحضرته حتى ضمن له ذلك. وواقفه على وجوه ظن أنّها زاجية وأضاف إليه ابن أخته المعروف بأبي القاسم عليّ بن الحسين المشرف على أنّه ناظر في الدواوين والحسبانات وشخص إلى واسط.

وشخص أبو قرّة على أثره بعد أن قرر أمر أبي الفضل وفرغ منه ولكن تعلق طمع بختيار بالمواعيد التي وعده بها أبو الفرج والضمانات التي ضمنها أخوه. فلما حصلا بواسط ضايقه أبو قرّة في الأمور وعارضه في التدبير وكان مستوليا على البلد بالضمان، ثم على سائر الأعمال بحق النظر في الديوان ثم بالعناية التي كانت له من سبكتكين. فخفف الوزير أبو الفرج المقام بواسط وبرز عنها يريد الأهواز.

فحدث عند تدبيره وعمله على المسير أن توفّى رجل كان متغلبا على أسافل واسط وهي أعمال نهر الصلة ونهر الفضل وكان يعرف هذا الرجل بأحمد بن خاقان وهو جار محمد بن عمران بن شاهين واستولى على هذه النواحي وكان يقاطع عنها السلطان كما يريد ولا يمكن الاستيفاء عليه وله حال قوية ونعمة عظيمة. فقدّر محمد بن العباس الوزير أن يصل إلى أمواله فانتقل إلى هذا الوجه وسبقه ابن له يقال له: خاقان، فاحتمل غلات أبيه وأمواله ودخل إلى مضايق البطيحة.

ووجد أبو قرّة فرصته فأخذ في مراسلته وتقويته وتشجيعه وأعلمه أنّه معه وعونه ثم عمل أعمالا أوجب بها لنفسه بحق الضمان الذي له في واسط على هذا المتوفى شيئا كثيرا من الغلة والمال. ثم قال للوزير أبي الفرج محمد بن العباس انّه لا حقّ له في شيء مما يصل إليه من أموال هذا المتوفى إلّا بعد أن يستوفى منه هذه البقايا أو يحتسب بها له من مال ضمانه.

فسار الوزير أبو الفرج إلى بلاد لم يجد فيها شيئا ولو وجده لنازعه فيه أبو قرّة، وحصل منازلا لخاقان بحيث لا يمكنه الدخول إليه ولم يصادف في تلك الأعمال إنسانا بكلمة ولا حبّة من غلّة ولا أثرا من مال، فجنح إلى مراسلة خاقان والتماس مصالحته. فامتنع عليه ونازله أياما كثيرة حتى ملّ وساءت حاله وحال من معه وانقطعت عنهم الموادّ فاضطرّ إلى الرحيل ورضى بمال يسير لم يتمكن من استيفائه وحصل من هذا اليسير شيء يسير ووقعت المنازعة فيه بينه وبين أبي قرّة حتى اتفقا على اقتسامه وبادر بالخروج إلى الأهواز.

وكاتب أبو قرّة بختيار يعلمه أنّه ليس له وجه درهم واحد وأنّه خرج « مستروحا إلى البعد عنك لتندفع عنه النكبة التي خافها من جهتك » وكتب إلى بختكين آزاذرويه يحذّره منه فكتب بختكين إلى بختيار بانّه لم يبق عليه شيء وأنّ تسبيبات الأتراك وأنزالهم تستغرق الواجب وزيادة كثيرة وأنّ محمد بن العباس الوزير إنّما يصير إلى أعماله ليتأول عليه بالمحالات ويعمل له المؤامرات ويمدّ يده إلى أموال السنة المقبلة.

ووافق ذلك أن أخاه أبا محمد علي بن العباس الخازن صحّح البعض من تلك الوجوه التي أقيمت بالحضرة ووقف عليه الباقي لضعف يده ولكثرة الأراجيف بأخيه وبه وبأنّ بختيار قد تمت المواقفة بينه وبين أبي الفضل على إعادته إلى الوزارة وأخذ خطه في أبي الفرج وأبي محمد أخيه وأسبابهما بسبعة آلاف ألف درهم وأنّه يطلق الاستحقاقات ويدرّ النفقات.

فكتب بختيار إلى بختكين بالقبض على أبي الفرج ومن معه في يوم وصولهم إلى الأهواز وكتب إلى أبي قرة بمثل ذلك وبالاحتياط عليهم حتى لا يفوت أحد منهم وقبض بختيار على أبي محمد الخازن أخيه وكان جالسا معه يشرب على رسم كان له في منادمته وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وكان في دار أبي الفرج وخلع عليه للوزارة.

خروج ابن العميد إلى الجبل

وفي هذه السنة خرج الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد إلى الجبل في خيل عظيمة لتدبير أمرها وتقرير أمر حسنويه بن الحسين الكردي.

ذكر السبب في ذلك

كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوى واستفحل أمره لما وقع من الشغل عنه بالفتوح الكبار ولأنّه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار في جملتهم وخدم خدمة يستحق بها الإحسان إلّا أنّه مع ما أقطع وأغضى عنه من الأعمال التي يتبسّط فيها والإضافات التي يستولى عليها ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها فيضطر الناس إلى إجابته ولا يناقشه السلطان فكان يزيد أمره على الأيام وتتشاغل الولاة عنه إلى أن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف ومشاحّة تلاحّا فيها إلى أن قصده ابن مسافر بالحرب فهزمه حسنويه وكان يظن ابن مسافر أنّه لا يكاشفه ولا يبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه فلم تقف الحرب حيث ظنّ وانتهى الأمر بينهما إلى أن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضع شبيه بالحصار ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرّقوا بإزائهم.

ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كلّ فارس منهم على رأس رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريد بذلك فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير في أيام كثيرة تقدم بطرح النار فيه من عدّة مواضع فالتهب وكان الوقت صيفا وحميت الشمس عليهم مع حرّ النهار فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف فصاحوا وطلبوا الأمان فرفق بهم وأمسك عمّا همّ به.

وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل هذا كلّه له وتقدم إلى وزيره أبي الفضل محمد بن الحسين العميد - وهو الأستاذ الرئيس - بقصده واستئصال شأفته، وأمره بالاستقصاء والمبالغة.

فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج في عدّة وزينة وخرج ركن الدولة مشيّعا له وخلع على القواد ووقف حتى اجتاز به العسكر قائد بعد قائد وكوكبة بعد كوكبة، ورضى العدة والقوة فودع حينئذ الوزير ابن العميد وعاد إلى الري.

وسار الوزير ومعه ابنه أبو الفتح وكان شابّا قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند فهو بذكائه وحدّة ذهنه وسرعة حركته قد نفق نفاقا شديدا على ركن الدولة وهو مع ذلك لقلّة حنكته ونزق شبابه وتهوره في الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه ويحبّ أن يسير في خواص الديلم ويمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط من يستميل بقلوبهم ويخلع عليهم خلعا كثيرة ويحمل رؤساءهم وقوّادهم على الخيول الفرّه بالمراكب الثقال ويريد بجميع ذلك أن يسلموا له الرئاسة حتى لا يأنف أحد من تقبيل الأرض بين يديه والمشي قدّامه إذا ركب وكان جميع ذلك مما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أنّ ذلك لو كان مما يترخص فيه لكان هو بنفسه قد سبق إليه.

ابن العميد يصف الديلم

ولقد سمعته في كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم في الحسد والجشع وأنّه ما ملكهم أحد قطّ إلّا بترك الزينة وبذل مالا يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد ولا يتكبّر عليهم ولا يكون إلّا في مرتبة أوسطهم حالا وأنّ من دعاهم واحتشد لهم وحمل على حالة فوق طاقته لم يمنعهم ذلك من حسد على نعمته والسعى على إزالتها وترقّب أوقات الغرّة في آمن ما يكون الإنسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت.

وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى يظنّ أنّه قد ملأ قلبه رعبا وأنّه سيكفّ عن السيرة التي شرع فيها. فما هو إلّا أن يفارق مجلسه ذاك حتى يعاود سيرته تلك فأشفق الأستاذ الرئيس في سفرته هذه أن يتركه بحضرة صاحبه فيلج في هذه الأخلاق ويغترّ بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهى إلى ما لا يتلافاه فسيّره معه واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا عليّ محمد بن أحمد المعروف بابن البيع، وكان فاضلا أديبا ركينا حسن الصورة مقبول الجملة حسن المخبر خلقا وأدبا.

ابن العميد وابنه أبو الفتح

فلمّا كان في بعض الطريق - وكان يركب العماريّات ولا يستقلّ على ظهور الدوابّ لإفراط علة النقرس وغيرها عليه - التفت حوله فلم ير في موكبه أحدا وسأل عن الخبر فلم يجد حاجبا يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيري فسألنى عن الخبر فقلت له:

« إنّ الجماعة بأسرهم مالت مع أبي الفتح إلى الصيد. » فأمسك حتى نزل في معسكره ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام وكان يحضره كل يوم عشرة من القوّاد على مائدته التي تخصّه وعدّة من القوّاد على أطباق توضع لهم وذلك على نوبة معروفة يسعى فيها نقباؤهم.

فلمّا كان في ذلك اليوم لم يحضره أحد واستقصى في السؤال فقيل:

« إنّ أبا الفتح أضافهم في الصحراء. » فاشتطّ من ذلك وساءه أن يجرى مثل هذا ولا يستأذن فيه.

وقد كان أنكر خلوّ موكبه وهو في وجه حرب ولم يأمن أن يستمر هذا التشتت من المعسكر فتتمّ عليه حيله. فدعا أكبر حجّابه ووصّاه بان يحجب عنه ابنه أبا الفتح وأن يوصى النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته وظنّ أنّ هذا المبلغ من الإنكار سيغضّ منه وينهى العسكر من اتباعه على هواه فلم يؤثّر كلامه هذا كبير أثر.

وعاد الفتى إلى عادته واتّبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب وكان لا يخليهم من الخلع والألطاف. فشقّ ذلك على الأستاذ الرئيس جدّا ولم يحبّ أن يخرق هيبة نفسه بإظهار ما في قلبه ولا أن يبالغ في الإنكار وهو في مثل ذلك الوجه فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوّه. فدارى أمره وتجرّع غيظه، وأدّاه ذلك إلى زيادة في مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول في مجلس خلواته:

« ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلّا هذا الصبى. »

- يعنى ابنه - ويقول في مرضه:

« ما قتلني إلّا جرع الغيظ التي تجرّعتها منه. » ومما حصّلته عنه في وجهه هذا وقد سألته عن عاقبة أمر حسنويه معه وهل إلى استئصاله سبيل فقال:

« أمّا بهذه السرعة وفي هذا الزمان فلا، ولكنا سنعود عنه ونحن كما كنّا وزيادة شيء، ويعود حسنويه وهو كما كان ونقصان شيء، ثم يدبر أمره على الأيّام. »

وفاة ابن العميد بهمذان وانتصاب ابنه أبي الفتح مكانه

فلمّا حصل بهمذان اشتدّت علته فتوفّى بها - رحمه الله - وانتصب ابنه أبو الفتح مكان أبيه وكان العسكر كما ذكرت مائلا إليه فزاد في بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومنّاهم وبذل لهم طعامه ومنادمته وأكثر من الخلع عليهم وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضّه على الطاعة وأومأ إلى مصالحته على مال يحمله يقوم بما أنفق على العسكر وتتوفّر بعد ذلك بقيّته على خزانة السلطان ويضمن إصلاح حاله إذا فعل [ ذلك ] مع ركن الدولة.

وكان يشقّ على سهلان بن مسافر لما في نفسه من حسنويه ولأنّه يحبّ الانتقام منه ويكره أن ينصرف مثل ذلك العسكر عنه ولم يؤثّر في أمره أثرا يسمع به وليّه وعدوّه إلّا أنّ أبا الفتح كان يرى أنّ مقاربة حسنويه والعود إلى صاحبه ببابه لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم وأن يلحق مكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه أولى وأشبه بالصواب - وقد كان أبو عليّ محمد بن أحمد خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد - فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرّر أمره على خمسين ألف دينار ينكسر بعضها وجبى كورة الجبل وجمع من الدواب والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينار ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوّى نفسه وشدّ منّته وأحمد جميع ما كان دبّره وأمر بالعود إلى الحضرة بالريّ.

وكانت وفاة الأستاذ الرئيس بهمذان في صفر ليلة الخميس السادس منه سنة ستين وثلاثمائة ففقد به الفضل أجمع وعدمت المحاسن التي ما اجتمعت لغيره في الإسلام.

ذكر جملة من فضائل أبي الفضل ابن العميد وسيرته

كان هذا الرجل قد أدّى من الفضائل والمحاسن ما بهر به أهل زمانه حتى أذعن له العدوّ وسلم الحسود ولم يزاحمه أحد في المعاني التي اجتمعت له وصار كالشمس التي لا تخفى على أحد وكالبحر الذي يتحدّث عنه بلا حرج ولم أر أحدا قطّ زادت مشاهدته على الخبر عنه غيره.

فمن ذلك أنّه كان أكتب أهل عصره وأجمعهم لآلات الكتابة حفظا للغة والغريب وتوسّعا في النحو والعروض واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات وحفظا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام.

ما حدثني أبو الحسن علي بن القاسم في فضائل ابن العميد

ولقد حدثني أبو الحسن علي بن القاسم رحمه الله قال:

« كنت أروّى ابني أبا القاسم القصائد الغريبة من دواوين القدماء لأنّ الأستاذ الرئيس كان يستنشده إذا رءاه وكان لا يخلو إذا أنشده من رد عليه في تصحيف أو لحن مما يذهب علينا. فكان ذلك يشق عليّ وأحبّ أن تصح له قصيدة لا يعرفها الأستاذ الرئيس أو لا يردّ عليه فيها شيئا.

فأعيانى ذلك حتى وقع إليّ ديوان الكميت وهو مكثر جدا فاخترت له ثلاث قصائد غريبة ظننت أنّها ما وقعت إلى الأستاذ الرئيس وحفّظته إيّاها وتوخّيت الحضور معه. فلما وقع بصره عليه قال:

« هات أبا القاسم أنشدنى شيئا مما حفظته بعدي. » « فابتدأ ينشده، فلمّا استمر في قصيدة من هذه القصائد قال له:

« قف، فقد تركت من هذه القصيدة عدّة أبيات. » « ثم أنشده إيّاها. فخجلت خجلة لم أخجل مثلها. ثم استزاد فأنشده القصيدة الأخرى فأسقط فيها كما أسقط في الأولى واستدركه عليه أيضا. » قال: « فعلمت أنّ الرجل بحر لا ينزف ولا يوبّى ما عنده. » فهذا ما حدثني به هذا الرجل وكان أديبا كاتبا.

ما شاهدته أنا من ابن العميد من مقدرته العجيبة على الحفظ

وأما ما شاهدته منذ مدة صحبتي إيّاه - وكانت سبع سنين لازمته فيها ليلا ونهارا - أنّه ما أنشد شعر قطّ لم يحفظ ديوان صاحبه ولا غرّب عليه بشعر قديم ولا محدث ممن يستحق أن يحفظ شعره. ولقد سمعته ينشد دواوين قوم مجهولين أتعجب من تعاطيه حفظ مثلها حتى سألته يوما وقلت:

« أيّها الأستاذ كيف تفرغ زمانك لحفظ شعر هذا الرجل. » فقال: « وكأنّك تظنّ أنّى أتكلّف حفظ مثل هذا. إنّما ينحفظ لي إذا مرّ بسمعي مرّة. » وقد صدق رحمه الله فإني كنت أنشده لنفسي الأبيات التي تبلغ عدتها ثلاثين وأربعين فيعيدها بعد ذلك مستحسنا وربما سألنى عنها ويستنشدنى شيئا منها فلا أقوم بإعادة ثلاثة أبيات منتظمة على نسق حتى يذكّرنيها ويعيدها.

وحدّثني غير مرّة أنّه كان في حداثته يخاطر رفقاءه والأدباء الذين يعاشرهم على حفظ ألف بيت في يوم واحد وكان - رحمه الله - أثقل وزنا وأكثر قدرا من أن يتزيّد فقلت له:

« كيف كان يتأتّى لك ذلك. » فقال: « كانت لي شريطة، وهي أن يقترح عليّ من شعر لم أسمع به ألف بيت في يوم واحد، يكتب وأحفظ منه عشرين عشرين وثلاثين ثلاثين أعيدها وأبرأ من عهدتها. » فقلت: « وما معنى البراءة من عهدتها. » قال: « لا أكلّف إعادتها بعد ذلك. » قال: « فكنت أنشدها مرّة أو مرتين وأسلمها ثم اشتغل بغيرها حتى أفرغ من الجميع في اليوم الواحد. »

أما أدبه وعلمه

وأمّا كتابته فمعروفة من رسائله المدونة ومن كان مترسلا لم يخف عليه علوّ طبقته فيها، وكذلك شعره الذي جدّ فيه وهزل. فإنّه في أعلى درجات الشعر وأرفع منازله.

فأمّا تأويل القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار فكان منه في أرفع درجة وأعلى رتبة ثم إذا ترك هذه العلوم وأخذ في الهندسة والتعاليم فلم يكن يدانيه فيها أحد.

أبو الحسن العامري يستأنف القراءة على ابن العميد

فأمّا المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد في زمانه أن يدعيها بحضرته إلّا أن يكون مستفيدا أو قاصدا قصد التعلم دون المذاكرة.

وقد رأيت بحضرته أبا الحسن العامري - رحمه الله - وكان ورد من خراسان وقصد بغداد وعاد وعنده أنّه فيلسوف تامّ وقد شرح كتب أرسطاطاليس وشاخ فيها. فلمّا اطّلع على علوم الأستاذ الرئيس وعرف اتساعه فيها وتوقّد خاطره وحسن حفظه للمسطور برك بين يديه واستأنف القراءة عليه، وكان يعدّ نفسه في منزلة من يصلح أن يتعلّم منه، فقرأ عليه عدّة كتب مستغلقة ففتحها عليه ودرّسه ايّاها.

وكان الأستاذ الرئيس - رضي الله عنه - قليل الكلام نزر الحديث إلّا إذا سئل ووجد من يفهم عنه فإنّه حينئذ ينشط فيسمع منه ما لا يوجد عند غيره مع عبارة فصيحة وألفاظ متخيرة ومعان دقيقة لا يتحبس فيها ولا يتلعثم.

ثم رأيت بحضرته جماعة ممن يتوسل إليه بضروب من الآداب والعلوم فما أحد منهم كان يمتنع من تعظيمه في ذلك الفن الذي قصده به واطلاق القول بأنّه لم ير مثله ولا ظنّ أنّه يخلق.

ابن العميد وفن الإصغاء

وكان رحمه الله لحسن عشرته وطهارة أخلاقه ونزاهة نفسه إذا دخل إليه أديب أو عالم متفرد بفن سكت له وأصغى إليه واستحسن كل ما يسمعه منه استحسان من لا يعرف منه إلّا قدر ما يفهم به ما يورد عليه حتى إذا طاوله وأتت الشهور والسنون على محاضرته واتفق له أن يسأله عن شيء أو يجرى بحضرته نبذ منه فرغب إليه في إتمامه، تدفق حينئذ بحره وجاش خاطره وبهت من كان عند نفسه أنّه بارع في ذلك الفن والمعنى وما أكثر من خجل عنده من المعجبين بأنفسهم ولكن بعد أن يمدّ لهم في الميدان ويرخى من أعنّتهم ويمسك عنهم مدة حتى ينفد ما عندهم ويجزل لهم العطاء عليه.

اختصاصه بغرائب العلوم

فهذه كانت مرتبته في العلوم والآداب المعروفة ثم كان يختصّ بغرائب من العلوم الغامضة التي لا يدعيها أحد كعلوم الحيل التي يحتاج فيها إلى أواخر علوم الهندسة والطبيعة والحركات الغريبة وجرّ الثقيل ومعرفة مراكز الأثقال وإخراج كثير مما امتنع على القدماء من القوة إلى الفعل وعمل آلات غريبة لفتح القلاع والحيل على الحصون وحيل في الحروب مثل ذلك واتخاذ أسلحة عجيبة وسهام تنفذ أمدا بعيدا وتؤثر آثارا عظيمة ومرائى تحرق على مسافة بعيدة جدّا ولطف كف لم يسمع بمثله ومعرفة بدقائق علم التصاوير وتعاط له بديع. ولقد رأيته يتناول من مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته وأهل مؤانسته التفاحة وما يجرى مجراها فيعبث بها ساعة ثم يدحرجها وعليه صورة وجه قد خطها بظفره لو تعمّد لها غيره بالآلات المعدة في الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها ولا تأتّى له مثلها.

شجاعته في الحرب

فإذا حضر المعارك وباشر الحروب فإنّما هو أسد في الشجاعة لا يصطلى بناره ولا يدخل في غباره ولا يناويه قرن ولا يبارزه بطل مع ثبات جأش وحضور رأى وعلم بمواضع الفرص وبصر بسياسة العساكر والجيوش ومعرفة بمكايد الحروب.

اضطلاعه بتدبير الملك

فأمّا اضطلاعه بتدبير الممالك وعمارة البلاد واستغزاز الأموال فقد دلّت عليه رسائله ولا سيما رسالته إلى أبي محمد ابن هندو التي يخبر فيها باضطراب أمر فارس وسوء سياسة من تقدمه لها وما يجب أن يتلافى به حتى تعود إلى أحسن أحوالها. فإنّ هذه رسالة يتعلم منها صناعة الوزارة وكيف تتلافى الممالك بعد تناهى فسادها وما منعه من بسط العدل في ممالكه وعمارة ما يدبره منها.

إلّا أنّ صاحبه ركن الدولة مع فضله على أقرانه من الديلم كان على طريقة الجند المتغلبين يتغنّم ما يتعجل له ولا يرى النظر في عواقب أمره وعواقب أمور رعيته وكان يفسح لجنده وعسكره على طريق مداراتهم ما لا يمكن أحدا تلافيه وردّهم عنه. وكان مضطرّا إلى فعل ذلك لأنّه لم يكن من أهل بيت الملك ولا كانت له بين الديلم حشمة من يمتثل جميع أمره، وإنّما يرأس عليهم بسماحة كثيرة كانت فيه ومسامحة في أشياء لا يحتملها أمير عن مأمور.

وهذه سيرة إذا عوّدها الجند لم يمكن أن يفطموا عنها بل تزداد على الأيام وتتمادى حتى ينتهى إلى ما انتهى إليه جند عصرنا من تسحّبهم على الملوك واقتراحاتهم ما لا يفي به دخل المملكة وخروجهم في سوء الأدب إلى ما يخرج إليه السباع التي تضرأ ولا تقبل الأدب.

ثم كان الأستاذ الرئيس ابن العميد رحمه الله مع هذه السيرة قد دارى جنده ورعيته وصاحبه مداراة لو ادّعى له فيها المعجزة لاشتبه على قوم.

وذلك أنّه لمّا استوزر لركن الدولة كان تقدّمه قوم عجزة وباشروا مع عجزهم أمورا مضطربة وجندا متحكمين والدنيا في أيديهم يملكونها كيف شاءوا لا يمنعهم أحد منها وإنّما أميرهم يسمى بالأمرة ما دام يستجيب لهم إلى اقتراحاتهم ومتى خالفهم استبدلوا به.

وكان ركن الدولة وقبله عماد الدولة يوسعان عليهم في الإقطاعات ويبذلان لهم من الرغائب ما لا يبقى لهم معها حجة ولا موضع طلبة وهم مع ذلك يتحكمون ويبسطون أيديهم ويطمعون فيما لا مطمع فيه وكان قصارى الوزير والمدبر أن يقيم كل يوم وجها لنفقة الأمير يومه ذلك من مصادرة العامة أو قرض من الخاصة أو حيلة على من يتهم بيسار كائنا من كان، وربما تعذّر عليهم قضيم الكراع يوما ويومين. فاما نفقات الحشم وجراياتهم وما يقيم أرماقهم فكانت تتمحّل وربما امتنع عليهم إقامتها أياما، ومع ذلك فإنّ هؤلاء المدبّرين كانوا لا يتمكنون من الفكر في وجوه الحيل لكثرة من يزدحم عليهم من الجند - أعنى الديلم والأتراك - وخاصة من يطالبهم بالمحالات فيهربون منهم ويتواعدون من الليل إلى مواضع غامضة يجتمعون فيها وربما خرجوا إلى الصحراء ويجتمعون على ظهور دوابّهم ويثنون أرجلهم على أعناقها بقدر ما يديرون الرأي في وجه الحيلة واقامة وظيفة ذلك اليوم فإذا تمّ لهم ذلك فهو عيدهم ونشاطهم وغاية كفايتهم في صناعتهم.

فلمّا تولى الأستاذ الرئيس ابن العميد - رحمه الله - وزارة الأمير ركن الدولة استقام الأمر حتى رأيناه يركب إلى ديوانه من دار السلطان ولا يلقاه غير خاص كتّابه ثم يلقى صاحبه فلا يدور بينهما إلّا عوارض المهم الذي لا يخلو من مثله ملك ووزير، وضبط أعماله ونظم أموره ورتّب أسباب خدمته حتى كان أكثر نهاره مشغولا بالعلم وأهله. وبسط عدله وأقام هيبته في صدور الجند والرعية حتى كان يكفيه رفع الطرف إلى أحدهم على طريق الإنكار فترتعد الفرائص وتضطرب الأعضاء وتسترخي المفاصل.

وقد شاهدت من ذلك مواقف كثيرة لو شرحتها لأطلت هذا الفصل إطالة تخرج عن غرض الكتاب. ولولا أنّ صاحبه كان لا يستجيب إلى عمارة نواحيه كما حكيته في أول هذا الجزء خوفا من إخراج درهم واحد من الخزانة ويقنع بارتفاع ما يحصل للوقت ويرى أنّ دولته مقرونة بدولة الأكراد فلذلك لا يمنعهم من العيث ولا يطلق يد حماة الأطراف في قصدهم ويرضى أن يقال له:

« قطعت القافلة وسقيت المواشي » فيقول:

« لأنّ هؤلاء أيضا، يعنى الأكراد، يحتاجون إلى القوت ».

ولقد قيل مرة:

« إنّ الأكراد وقعوا على بغال له خرجت للعلوفة فساقوها وذلك بالقرب من البلد وبحيث يلحقون إن طلبوا. » فقال في الجواب:

« كم كانت البغال. » فقيل: « ستة. » فقال: « وكم كانت عدة الأكراد. » فقيل: « سبعة. » فقال: « سيقع بينهم الخلاف. كان يجب أن تكون البغال سبعة بعددهم. » فإذا كان هذا رأيه في الإنكار على أهل العيث وذلك رأيه في توفير العمارات واستغزار الأموال فما حيلة وزيره ومدبّره؟ فتأمل هذه الصورة وانظر إلى سيرة ملك قد عوّد وزراءه هذه العادات ورضى منهم بما تقدمت حكايتهم من تمشية أمره يوما بيوم.

ثم آلت الحال إلى النظام الذي ذكرته واطّردت الأمور اطرادها المشهور الذي دبّره الأستاذ الرئيس ابن العميد - رحمه الله - أى كفاية كانت له وأى سياسة مشت بين يديه ولكنه - رحمه الله - لما حصل بفارس علّم عضد الدولة وجوه التدابير السديدة وما تقوم به الممالك وصناعة الملك التي هي صناعة الصناعات ولقنه ذلك تلقينا فصادف منه متعلما لقنا وتلميذا فهما، حتى سمع من عضد الدولة مرارا كثيرة أنّ أبا الفضل ابن العميد كان أستاذنا، وكان لا يذكره في حياته الّا بالاستاذ الرئيس، وربما قال الأستاذ ولم يقل معه الرئيس، ولا يحفظ عليه أنّه ذكره قط بعد موته إلّا بالاستاذ. وكان يعتد له بجميع ما يتم من تدابيره وسياسته ويرى أنّ جميع ذلك مستفاد منه ومأخوذ عن رأيه وعلمه.

ولعلّنا نذكر منه طرفا إذا انتهينا إلى سيرة عضد الدولة وما تمّ له من حيازة الممالك وحفظ الأطراف وقمع الأعداء والحرص على العمارة مع الشدة على المريب وإطفاء نائرة الأكراد والأعراب وإعادة الملك إلى رسومه القديمة، إن أخّر الله في الأجل.

ولعلّ من يطّلع على هذا الفصل من كتابنا ممن لم يشاهده يظن أنّا أعرناه شهادة أو ادّعينا له أكثر من قدر علمه ومبلغ فضله. لا والذي أنطقنا بالحقّ وأخذ علينا ألّا نقول إلّا به.

ودخلت سنة ستين وثلاثمائة

عقد المصاهرات بين الأتراك والديلم

وفي هذه السنة رأى بختيار ورئي له أن يعقد بين رؤساء الأتراك ورؤساء الديلم مصاهرات لتزول العداوات التي نشأت بينهم. فابتدأ بعقد مصاهرة بين المرزبان بن عزّ الدولة وبين بختكين المعروف بآزاذرويه مولى معزّ الدولة، وثنّى بمصاهرة بين سالار بن عزّ الدولة وبين بكتيجور مولى معزّ الدولة. وفعل مثل ذلك بجماعة، وأصلح بين الديلم والأتراك، واستحلف كل فريق منهما لصاحبه فحلفوا جميعا على موالاة عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة وسبكتكين الحاجب، وحلف بختيار لسبكتكين الحاجب وسبكتكين لبختيار بعد وحشة كانت بينهما فزال الظاهر ولم يزل الباطن.

غلبة الفالج على المطيع لله

ثم غلبت علّة الفالج على المطيع لله فثقل لسانه وجانبه الأيمن وذلك في يوم السبت لليلة خلت من صفر سنة ستّين وثلاثمائة، ثم تماثل وتماسك وعاش على هذه الحال إلى الوقت الذي سلّم فيه الأمر الى أمير المؤمنين الطائع لله.

وفي هذه السنة ورد الحاجب لأبي تغلب ابن حمدان وهو عدّة الدولة.

فعقد مصاهرة بين أبي تغلب بإحدى بناته وبين عزّ الدولة بختيار على صداق مائة ألف دينار، وجدد على أبي تغلب عقد أعماله لأربع سنين حساب كل سنة ستة آلاف ألف درهم ومائتا ألف درهم وأنفذت إليه الخلع.

وزارة أبي الفضل العباس الثانية لعز الدولة

وفي هذه السنة كانت وزارة أبي الفضل العباس بن الحسين الثانية لعزّ الدولة والقبض على أبي الفرج محمد بن العباس.

ذكر السبب في ذلك

قد كنّا ذكرنا فيما تقدم أنّ معزّ الدولة كتب إلى آزاذرويه بالقبض على أبي الفرج ومن معه في يوم وصولهم إلى الأهواز وأنّه كتب أيضا إلى أبي قرّة بمثل ذلك وأنّه قبض على أبي محمد الخازن أخي أبي الفرج في مجلسه وكان يحضره للمنادمة وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وخلع عليه للوزارة وذلك يوم الثلاثاء آخر ليلة بقيت من رجب سنة ستين وثلاثمائة.

فلمّا تمكّن من الوزارة لم تكن له همة إلّا استصلاح سبكتكين وعوّل عليه وعلى كاتبه أبي عمرو ابن أدمى وصاحبه أبي بكر محمد بن عبد الله الاصبهاني وتقرب إليه في مظاهرة أبي قرة ومساعدته.

وقلد أخاه الحسن بن محمد القنائى خزانة عزّ الدولة مضافا إلى ما كان يتولاه من خلافة أخيه أبي قرّة على الدواوين، وقلد أبا أحمد ابن حفص ديوانا كانت تجرى فيه نواح اختصها بختيار لنفسه وسماه ديوان الخاص وكتب إلى أبي قرة يستدعيه من الأهواز إلى الحضرة وأمر بإنفاذ أبي الفرج محمد بن العباس إلى البصرة موكّلا به.

فورد أبو قرّة بغداد ومعه أسباب أبي الفرج المقبوض عليهم فبلغ الوزير أبو الفضل في إكرامه كلّ مبلغ وعظّمه وتجددت بينهما معاهدة ومحالفة بأمر عز الدولة وسبكتكين إيّاهما واتفقت كلمة الجماعة.

ثم نظر الوزير أبو الفضل في أمره وزيادة خرجه على دخله وقلبه ظهرا لبطن، فلم ير وجها غير إطماع عزّ الدولة في أموال عمران فحرّضه عليه وقرّب عليه أمره واتفق ورود أبي قرّة وقد تمت العزيمة.

فشخص بختيار متقدما وسار في الجانب الغربي على الظهر والوزير أبو الفضل وأبو قرّة انحدرا في الماء، واجتمعت الجماعة بواسط وذلك في شوال سنة ستّين وثلاثمائة.

وفي هذه السنة ارتفع امر ابن بقيّة مع عز الدولة وعلا شأنه حتى بلغ الوزارة كما سنحكيه بإذن الله.

ذكر ارتفاع ابن بقية

كان هذا الرجل من القرية المعروفة بأوانا وكان أبوه مزارعا وجدّه بقية واليه كان ينتسب، ونشأ في أيام الفتنة وغلبه أهل الرستاق على طريق دجلة العليا ودخل في غمارهم وانتسب إلى بعض عيّاريهم وكان جرى رسمه بتقلّد المآأصير (؟ ).

واتفق له أن اتصل بصاحب مطبخ معزّ الدولة المعروف بممله وكان ضامنا لتكريت وما يجرى معها من المآأصير العليا وأبواب المال فلما خدم ممله توجه معه وخفّ على قلبه فتدرج من حال إلى حال حتى استعمله على هذه الأعمال كلها وفوضها إليه. وكان فيه سماحة نفس وخفّة مع إقدام وتهوّر استفادهما من الحال التي نشأ عليها.

واتفق على ممله اتفاق سيىء من علل اتصلت به وإعراض من معزّ الدولة عنه. فشرع أبو طاهر ابن بقية في ضمان أعماله وعنى به جماعة من الكتّاب لأجل ما كان يبذله لهم فعقدت الأعمال عليه إلّا أنّه لم ينفق على معزّ الدولة ولا وثق به على مطبخه فقلده غيره ووفى بمال ضمانه وأقبلت حاله تتزايد وصدره يتسع للبذل حتى غلب على الوزير أبي الفضل وقرب منه وتعلّق منه بعناية.

وتوفى معزّ الدولة فنفق على عزّ الدولة بختيار وبذل له مرفقا يوصله إليه مما ينظر فيه. فقبل بختيار منه ذلك وردّت إليه الوكالة وقلد المطبخ فبلّغ بالمرفق الذي بذله لبختيار عشرة آلاف درهم في كل شهر واشترط أن ينصره على الكتّاب وأصحاب الدواوين ومنعهم من الاستقصاء عليه ويشدّ على يده في استيفاء أموال تسبيباته من الوكالة، فوفى له وكان يحمل إليه هذا المرفق الذي ذكرته مشاهرة. ثم أنس به في خلواته ومجالس لهوه وانبسط إليه بأنواع من المزاح كان يستعملها في مجالسه مع ندمائه.

فلطف موقفه ودخل معه كلّ مدخل.

ثم صار يهاديه بالخيل والبغال والجوارح والألطاف والجواري والعبيد ودخل في جلالة العزّ فعرض جاهه عنده حتى صار يتوسط بينه وبين كل رافع ظلامة وطالب حاجة. فلمّا أفضت هذه الوزارة الثانية التي نحن في ذكرها إلى أبي الفضل كان ابن بقية قد استولى غاية الاستيلاء وصار في مثل منزلة شيرزاد اختصاصا ومنزلة وغلبة على أمره واحتاج الوزير أبو الفضل إليه ليحفظ غيبه وانحدرت الجماعة إلى واسط لحرب عمران.

واستدعى الوزير أبو الفضل أبا الفرج محمد بن العباس إلى واسط وكان معتقلا بالبصرة وأخذ خطه بمال عظيم لا ينهض به وأنفذه إلى بغداد ليصححه هناك وكذلك فعل بأخيه أبي محمد فجرى عليهما ببغداد أمر قبيح يجرى مجرى التشفي من غير ضرب ولا مكروه في الجسم بل بضروب من الاستخفاف والإهانة والإسماع فتم لهما الهرب واستترا عند بعض أسباب سبكتكين.

فعادت الوحشة بين أبي الفضل وبين سبكتكين واتهم بأنّه يسفر له في العود إلى الوزارة وألجأته الحال إلى مطالبة عزّ الدولة بختيار باليمين الغموس على ألّا يستوزره أبدا ولا يستعين به في شيء من الأعمال إن لم يظهر بعد شهر من تاريخ اليمين فحلف له عزّ الدولة بحضرة القوّاد والقضاة والشهود ووجوه الحاشية وكان في اليمين كل ما يكون في أيمان البيعة ولقّنه بنفسه حرفا حرفا وبقي الأمر كذلك وأبو الفرج مستتر، إلى أن عاد عزّ الدولة إلى بغداد بعد سنتين وأخذ له ولأخيه أمان فظهر بعناية سبكتكين.

وضعف أمر الوزير أبي الفضل وضعفت منّته وتأدّى أمره إلى النكبة التي هلك فيها ووفى بختيار باليمين وقلد أبا طاهر ابن بقيّة الوزارة فكفّ عن أبي الفرج لأنّه علم أنّه لا يستوزر ولا يشرع في شيء من فساد حاله، ونفى أخاه أبا محمد إلى واسط وأجرى عليه رزقا.

ثم إنّ أبا محمد أصعد إلى بغداد بغير أمره وذلك لإرجاف أرجف عنده بالقبض على ابن بقيّة فاغتاظ لذلك وقبض عليه ونفاه إلى البطيحة فحصل عند عمران مدة ثم أصعد سرّا واستتر ببغداد في عرض الفتن التي كانت تجرى ثم تمكن ابن بقية منه ومن أخيه وطالبهما ثم نفاه ونفى أبا الفرج إلى سرّ من رأى واعتقله بها.

ذكر ما انتهى إليه أمر أبي قرة بعد حصوله بواسط وقوة أمره وعناية سبكتكين وأصحابه به

لما أنس أهل واسط بقرب عزّ الدولة منهم وطال مقامه بينهم، تظلموا إليه سرّا ولقيه نفر منهم، فأعلموه أنّه قد أخرب بلادهم وأفقرهم وظلمهم وغشمهم وصادرهم وملك عليهم ضياعهم وأنّه استحلّ منهم ما حرّمه الله وصححوا عنه سعة حاله وكثرة ماله وجلالة ضياعه. فاستعظم بختيار ذلك وغاظه فعله وتمكّنه من النعم الكثيرة حتى أزالها واستبدّ بها، فصرفه عن واسط وتقدّم إلى ابن بقيّة أن ينظر فيها على سبيل الأمانة.

فاتهم أبو قرّة الوزير أبا الفضل بأنّه عن رأيه ومساعدته ولم يكن كما ظن فكتب إلى سبكتكين الحاجب يعرفه ما جرى ويحرضه على أبي الفضل ويعلمه أنّه قد حنث في يمينه وعقوده التي بينهما وعاد إلى أسوأ فعله واعتقاده.

ثم عطف أبو قرة على أبي طاهر ابن بقية فخاطبه بكل ما كره وتوعده وهدده بالنكبة وطالبه بالحسبانات لما يجرى على يده دخلا وخرجا فاستطال عليه ابن بقيّة وانتصف منه ونصره بختيار فانخزل أبو قرّة.

واتصل بسهل بن بشر النصراني كاتب بختكين آزاذرويه وهو بالأهواز ما جرى على أبي قرة وضعف أمره وكانت بينهما عداوة قديمة فكتب إلى بختيار يضمنه بمال عظيم وساعده ابن بقيّة فقبض على أبي قرّة وأسبابه واستبيح ماله وقبضت ضياعه وغلّاته فسارع إلى التزام مصادرة ثقيلة عن نفسه وأسبابه وبذل بعد ذلك أموالا عظيمة يثيرها من محاسبات الضمناء، واستمال ابن بقية وعاهده على أن يكون كل واحد منهما ناصرا لصحابه.

ثم إنّ بختيار مال إلى ما بذله أبو قرة فأمر بأن يخلع عليه ولم يكره الوزير أبو الفضل ذلك لتزول التهمة التي سبقت إلى سبكتكين في أمره.

ذكر السبب في انتقاض أمر أبي قرة بعد تملكه وبعد إشرافه على الخلاص من النكبة

كانت الخلع أحضرت ليلبسها فكره المنجمون له الوقت وأشاروا عليه بالتوقف ليختار له يوم. فورد للوقت غلام لسهل بن بشر على البريد برسالة منه ومن بختكين آزاذرويه صاحبه يسألان تسليم أبي قرة إليه بزيادة بذلها وضمنه بها وصادف ذلك خوف الناس من عوده بعد سعايتهم به وأنّه عدوّ لهم يستأصلهم فسعوا إلى ابن بقية به حتى أشار على عزّ الدولة بتسليمه إلى سهل بن بشر وعرفه أنّه إنّما ضمن تلك الأموال حيلة في الخلاص والعود إلى التعزز عليه بسبكتكين. فسلّمه إلى رسل سهل بن بشر وحمل من ليلته إلى الأهواز وصودر هناك وتشفى منه وتلف في أنواع المكاره التي جرت عليه وقلّد ديوانه أبو أحمد ابن حفص.

ثم أفضت الوزارة إلى ابن بقية فضعفت يده وقلّ نظره لاستيلاء ابن بقية على المملكة فلم يبق من هذا الديوان إلّا الاسم.

وفي هذه السنة قتل حمدان أخاه أبا البركات

ذكر السبب في ذلك والاتفاق الحادث عن قصد وغير قصد

كنا ذكرنا ورود حمدان ورجوعه إلى الرحبة وتمام الصلح بينه وبين أخيه أبي تغلب ولم يلبث الأمر بينهما أن عاد إلى فساده فأنفذ أبو تغلب أخاه المكنى بأبي البركات إليه حتى دفعه عن الرحبة فسلك طريق البرية يريد دمشق وملك أبو البركات الرحبة فخلف بها طائفة من جيشه مع غلام من غلمانه وعامل من عماله ورحل منصرفا.

وانتهى حمدان إلى بعض طريق البرية ولحقه وأصحابه عطش ولم يمكنه الإتمام فرجع مخاطرا بنفسه ووصل إلى باب الرحبة ليلا والقوم الذين فيها غافلون نيام وتهيأ لنفر من غلمانه أن دخلوا البلد من ثلمة في السور غامضة كانوا يهتدون إليها وفتحوا له باب الرحبة فدخلها واستتر وراء السور وضرب بالبوق فبادر القوم إلى الباب متقطعين متفرقين وليس يعلمون بحصول حمدان من داخله فكان يوقع بهم أولا أولا وأسر عاملي الخراج والمعونة ووجد في أيديهم غلات قد وردت في السفن فغنمها وغنم سوادهم وآلاتهم وسلاحهم وكراعهم وصادرهم وأصعد على الفرات في الجانب الشامي إلى قرقيسيا.

واتصل خبره بأبي البركات وهو سائر إلى الموصل فعطف عليه وحاذاه من الجانب الجزري وتخاطبا وتراسلا فلم يتم بينهما صلح ولا اتفاق ولم يمكن أبا البركات المقام لضيق الميرة على عسكره، فرجع يريد الخابور.

فاتفق أن صار إلى حمدان مائتا فارس من بنى نمير مستأمنة وكانت عدته ثلاثمائة غلام فصار في خمسمائة فارس فتتبعت نفسه العبور في أثر أخيه والتصعلك على عسكره وكان فيه جرأة وإقدام. فخاطر وعبر في جريدة خيل وسار حتى أدركه بمنزل يقال له ماكسين وهو راحل مجتاز فنزل منه على فرسخين وبكّر في الغلس فزحف إليه فصادفه قد سبق بسواده وبعض جيشه وهو ماض على غير استعداد لأنّه لم يقع في ظنّه أنّ حمدان يقدم عليه مع التفاوت بين عدّتيهما.

فلمّا قيل له إنّه قد وافى، عطف إليه في طائفة من الرجال ليتلاحق به الباقون فبثّ حمدان أولئك العرب في الإغارة على سواده ومنع العسكر أن ينتظم شمله وحقق على أبي البركات في الحملة مع غلمانه فوجده متسرعا في أول الناس فاجتمعا متصادمين وعرف كل واحد منهما صاحبه فتضاربا بالسيوف ولم تكن على أبي البركات جنّة فضربه حمدان على رأسه فسقط إلى الأرض وأخذه أسيرا وبه رمق.

واستباح سواده واستأمن إليه جماعة من أصحابه وأسر جماعة وقتل بعض الأسارى واستبقى البعض وانكفأ إلى قرقيسيا ليعالج أخاه من ضربته وظنّ أنّه ينجو فتلف بعد ثلاث فأنفذه في تابوت إلى الموصل واستحكمت العداوة بينه وبين أخيه أبي تغلب.

واختلف باقى الإخوة وتخاذلوا وتنافسوا وكانوا متفرقين في أعمالهم. فبلغ أبا تغلب أنّ محمدا من بينهم المكنى أبا الفوارس وكان يتولى نصيبين قد كاتب حمدان وعمل على اللحاق به والاجتماع معه عليه فاحتال عليه واستدعاه وأطمعه في الإحسان والزيادة. فاغترّ محمد وصار إليه فقبض عليه واعتقله في قلعة أردمشت وضيّق عليه هناك وثقّله بالحديد حتى أطلقه عضد الدولة لمّا ملك تلك الديار.

وكنت مندوبا لنقل ما في تلك القلعة من الذخائر مأمونا على ما فيها فجرى ما سأذكره إذا انتهيت إليه.

واستوحش باقى إخوة أبي تغلب لما جرى على أخيهم محمد وأقبل أبو تغلب يستميلهم فخدعهم واحدا واحدا فصاروا إليه بعد أحوال تتقلب بهم سوى أبي طاهر إبراهيم فإنّه لم يسكن إليه ورحل إلى بغداد مستأمنا إلى عزّ الدولة بختيار على طريق دجلة.

وسار أبو تغلب إلى قرقيسيا وأنفذ منها أخاه أبا القاسم هبة الله سريّة في جيش كثيف إلى الرحبة تقديرا أن يكبس أخاه ويأخذه أسيرا فما أحس به حتى أطلّ عليه فخرج هاربا واتبعه ابنه وطائفة من غلمانه ولحقه هبة الله فابقى عليه حتى نجا.

ثم وقعت عليه سريّة للقرامطة كانت سائرة إلى الشام لقتال صاحب المغرب فأرادوا الإيقاع به فتعرف إليهم وكان متعلقا بينهم بذمام فكفّوا له وبذلوا له من نفوسهم ما أحبه فسألهم أن يسير معه نفر منهم إلى طريق عانة ففعلوا وعدل إلى مدينة السلام فاستقرّ الأخوان بها في ذي الحجة سنة ستّين وثلاثمائة وكتب بختيار إليهما بالانحدار إليه إلى واسط فانحدرا ووصلا إليه في صفر سنة إحدى وستّين وثلاثمائة وتلقاهما وأكرمهما وأمر بحمل أنزال كثيرة إليهما وردّهما إلى بغداد بعد أن حمل إلى كل واحد عند رحيلهما هدايا كثيرة من الثياب والورق والطيب والدواب والبغال والمراكب.

وسنذكر ما انتهت إليه أحوالهما بعد ذلك إن شاء الله.

ذكر تدبير دبره الوزير أبو الفضل على سبكتكين لما استوحش منه فانعكس عليه

قد قلنا انّ أبا الفضل اتهم سبكتكين بأنّه ستر أبا الفرج وأبا محمد وحامى عليهما وأنّه يريد أن يسعى لأبي الفرج في الوزارة وكان سبكتكين اتهم أبا الفضل بأنّه دبر على أبي قرّة حتى قتل بعد ذلك بالعذاب الطويل فشرع أبو الفضل في استصلاح سبكتكين بكل وجه وحيلة فلم يجد إلى ذلك سبيلا فصبر حينئذ على عداوته وأخذ في التدبير عليه.

فكان من ذلك أن أشار على بختيار بأن يستدعى آزاذرويه من الأهواز ويزيد في حاله ومحله ويقيمه كالضد لسبكتكين لينجذب الأتراك إلى هذا ويفلّهم عن ذلك فقبل بختيار بما أشار به عليه.

وورد بختكين واسطا فعظم أتم تعظيم وفخّم أمره أشد تفخيم وعقدت عليه واسط مضافة إلى الأهواز فلم يتم ما قدر من انفضاض الأتراك عن سبكتكين وذاك أنّهم تنبهوا على المقصد وعلموا أنّه إنّما دبر على تفريق شملهم وإيقاع التنافر بينهم وكانوا قد تحالفوا على المعاضدة وألّا يتفرقوا.

واشفق بختكين آزاذرويه من أن يعتزلهم وينفرد عنهم فصار واحدا منهم فانعكس تدبير الوزير أبي الفضل واضطر إلى العود إلى بابه والنزول تحت حكمه وطلب سلمه بعد معاتبات ومراسلات.

ولمّا عاد بختيار إلى بغداد زاد في منزله سبكتكين وأمر بأن يخاطب بالاسفهسلّار وتموهت الوحشة واندرجت على غير وثيقة. ولما عزم بختيار والوزير على الإصعاد عن واسط قدّما أبا طاهر ابن بقية إلى سبكتكين ليصلح ما تشعث بينه وبين الوزير أبي الفضل ويستعيد له جميل رأيه. فجرى الأمر ايضا في ذلك على نفاق ووحشة في السر واندمل الجرح على فساد إلى أن تم على الوزير الصّرف والنكبة واتصل بقتله وإبادته.

هلاك أبي طاهر عامل البصرة وكل من اتصل به

وفي هذه السنة هلك أبو طاهر الحسين بن الحسن عامل البصرة وكل من اتصل به وعفت آثارهم وزالت نعمهم ولم يبق منهم على وجه الأرض نافخ ضرمة.

ذكر السبب في اجتياح الزمان له ولهم

كان هذا الرجل فيه شهامة وكفاية وتهور مع ذلك ومخاطرة، ولما حصل بختيار بواسط أكثر الناس من حديثه وما وصل إليه من الأموال حتى اتسعت فيه الظنون.

وكان الوزير أبو الفضل يعلم أنّ ذلك باطل وليس يجب أن يفسد نظام أمور البصرة بصرفه والطمع في يسير ماله وكانت البصرة معتدلة الحال مستقيمة الأمور. فأغرى بختيار بالمصير إلى البصرة وأقيم في نفسه أنّه يصل منها إلى مال كثير ولم يكن وراءها.

فسار إليها ولم يجد بها ما كان مولعا به من المتصيدات ولا تمكنت البزاة والجوارح من الصيد لكثرة نخلها وشجرها ولاطفه هذا العامل بالهدايا والتحف وواقفه على مرفق يرفقه به ومشاهرة يقيمها له وتجاوز ذلك إلى أن ضمن له إثارة مال من البصرة على طريق التأويلات على التجار والمعاملين وأراد بذلك الدفع عن نفسه.

ووافى الوزير أبو الفضل البصرة بعد أن رتّب عساكره على طفوف البطيحة لأنّ المد وافى وكثر فلم يمكن طلب عمران بن شاهين واحتيج إلى الانتظار إلى وقت النقصان فأمره بختيار بالخلع على أبي طاهر العامل وتقبّل ما بذله له. ولم يستطب البصرة لعدم الصيد الذي ذكرته فعاد إلى واسط ووصى الوزير بتقوية يد العامل والزيادة في بسطه والرفع منه. فاضطرّ الوزير إلى امتثال ما رسم له وهو لا يختاره ولا يستصوبه.

فبسط أبو طاهر العامل يده في القبض على التجار والعوامّ وتأول عليهم بالمحال واستخرج منهم أموالا كثيرة وظنّ أنّه قد تمسك من بختيار بعهد يثق به وأنّه ممن يعتمد على قوله وذمامه وحدّث نفسه بمنزلة أبي قرّة وأن يرتقى منها إلى منزلة الوزارة.

فساء رأى الوزير أبي الفضل فيه وأخذ في التدبير عليه والسعى على دمه فكتب إلى بختيار يعرفه أنّه قد أخرب البصرة وأفسد نيّات أهلها وأنّهم عرب لا يحملون ما يحمله غيرهم ويزعم أنّ أموالهم الآن قد حصلت والصواب يقتضى إرضاءهم بالقبض على هذا العامل والاستبدال به ومصادرته على مال ينضاف إلى مصادرتهم. ثم دس إلى عزّ الدولة من يغريه به ويعظّم عليه جناياته ويطمعه في ماله إلى أن أمر بالقبض عليه فقبض الوزير عليه وعلى أخيه والمتصلين به حتى زوجته وعياله وأقاربه وأسبابه كلّهم.

عقد البصرة على رأس أبي القاسم المشرف

وعقد البصرة على عليّ بن الحسين المعروف بأبي القاسم المشرف وسلّمه إليه لعداوة كان يعرفه بينهما، وأخذ خطه بأن يستخرج منه ومن أسبابه مالا عظيما وأصعد عن البصرة لاستتمام منازلة عمران بن شاهين.

وكان هذا العامل - أعنى أبا طاهر - من أهل الشر فكثر خصماؤه وطلاب الطوائل عنده فعسفه عليّ بن الحسين وسلّمه إلى مستخرج كان قد وتره، فنالته منه مكاره عظيمة خاف معها أن يسلم فيكون بواره على يده.

فأتى على نفسه ثم ألحق به أخاه وأقاربه وزوجته فأتلف الجماعة بأسرها وعفى آثارها.

ثم عطف عليّ بن الحسين على معامليه ومخالطيه وقوم تأول عليهم فصادرهم لصحة المال الذي ضمنه فما صحّ له من جميع الجهات إلّا البعض وانكسر الباقي وانمحت آثار أبي طاهر من الأرض فلم يبق له بقيّة.

ذكر سوء تدبير بختيار لأمر عمران منذ انحدر من بغداد إلى أن خرج عائدا إليها وما تمّ لعمران من الطمع فيه والاستظهار عليه

كان بختيار لما خرج عن بغداد لمحاربة عمران أظهر أنّه يريد الخروج إلى التصيّد بناحية النعمانية مغالطة لعمران وظنّ أنّه يرهقه عن التحرز منه والاستعداد له.

وقد تفعل الملوك مثل هذا ولكن مع إتمام العزائم والصبر على مطاولة العدو بالمكايد التي تشبه هذا الابتداء، لا بأن يكون مبدأ التدبير صوابا يشبه الآراء الوثيقة ثم يتبعه باللعب والاشتغال عنه بالعبث وبترك الاستظهار وإهمال الجند حتى تخرق الهيبة وتزول الحشمة ويظهر للعدو عصيان الجند وقلة النظر في الحرب والتعويل على الجدّ دون الجدّ حتى يطلع على الحيرة والتبلّد ومكان العورة والضرورة الداعية إلى مقاربته في طلب الصلح منه والجنوح إلى السلم بعد النزاع إلى الحرب. فإنّ بختيار عمل في المبدء ذلك العمل الواحد ثم أتبعه بجميع ما ذكرته وذلك أنّه استطاب التصيد الذي أظهره مكيدة لعدوّه وأقام بالنعمانية شهرا مع عساكره التي علم معها عمران أنّ قصده بهم إيّاه لا غير.

ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة وطفوف البطيحة وبنى أمره معه على أن يسدّ أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة ويعدل بها إلى غيره وأن يبنى مسنّاة عظيمة يمكن سلوك الديلم عليها مشيا إلى معقله وهذا ضد ما بنى عليه أمره في الابتداء ولا يشبه الحيلة التي تؤدى إلى إرهاق العدوّ ومنعه من الفكر. فإنّ الهجوم والكبس والبيات يتم بالمعاجلة والركض إلى الغاية دون التمهل والأخذ والتدابير البعيدة والأعمال الطويلة.

فلما طالت المدة في عمل هذه السدود وجرت في أضعافها وقائع لحقت المدود وغلب الماء والسيل علاج السكور فاحتيج إلى الإمساك عنها والانصراف عن إتمامها إلى حفظ ما عمل منها بالرجال حتى لا يفسدها العدو، لا سيما وعمران متدرب بذلك قد اعتاد في جميع حروبه أن يمسك عن عدوه حتى ينفق ماله ويكذ رجاله فإذا أحسّ بالمد ومجيء السيول احتال في تخريب ما يبنى له من السكور وإنّما يكفيه إيقاع ثلمة يسيرة في أحد نواحي السد ثم يحمل الماء فيتولى كفايته في الهدم والتخريب. فربما أفسد في ساعة من الليل أو النهار تعب سنة أو نحوها.

وذلك أنّ هذه السدود تكون من قصب وتراب يقام في وجوه المياه الجاريه عند ضعف جريانها وغاية نقصانها فإذا وردت المياه القوية ومنعت من حدورها كفى منها اليسير من المعونة حتى تنبعث ويدفع بعضها بعضا وربما كان سبب انبثاق الماء نقب فأرة ثم يوسعه الماء وينتهى فيه إلى حيث لا حيلة في سده. ولما عمل بختيار ووزيره ما ذكرته من السدود وأتى المد كان قصاراهما حفظ ما عمل بالرجال حتى لا يتم لعمران حيلة في هدمه فعدل عمران عن هدم سكوره إلى الانتقال إلى معقل آخر من معاقل البطيحة ونقل غلّاته وزواريقه وجميع أمتعته إلى هناك. فلما انحسر الماء وجاءت ايام الجفاف من السنة الثانية وجد مكان عمران خاليا منه ولم تكن له آلة يطلبه بها فطلب غلّاته فلم يجد فيها شيئا فانصرف خائبا.

وضجر العسكر من المقام على الشقاء ولم يصبروا على أذيّة البقّ وحرّ الهواء وانقطاع المواد التي ألفوها فشغبوا عليه وتناولوا الوزير بألسنتهم وهموا بالإيقاع به وتحالف الديلم والأتراك على التعصب واتفاق الكلمة وأبوا أن يقيموا أكثر مما أقاموا. فاضطر بختيار إلى طلب مصالحته على مال يلتمسه منه - وقد كان هابه في أول الأمر فبذل له خمسة آلاف ألف درهم - فلمّا طلب هذا المال بعد اضطراب الجند وطول المقام وانقطاع الحيلة امتنع عليه منها وبذل ألفي ألف درهم بوساطة سهل بن بشر كاتب بختكين آزاذرويه وكانت بينه وبين عمران صداقة فنجّم عليه هذا المبلغ ثم تماسك عمران وامتنع من التوثقة بما وافق عليه واقتصر منه على اليمين أيضا فاضطرّ الوسائط إلى أن يقولوا لبختيار أنّه قد حلف وما حلف. وانصرف بختيار عنه مع عسكره خائبين عليهم الزلّة.

وحدث للعسكر زيادة على المعهود من سوء الخدمة وقلّة الطاعة والاستطالة حتى وثبوا على سهل بن بشر مرّة لأجل مال كان حمله معه فأحسوا به وطمعوا فيه ونهبوه واجتهد بختيار في ارتجاع شيء منه، فما أمكنه ذلك.

ذكر الوثوب على الجرجرائي

ثم وثبوا أيضا على محمد بن أحمد الجرجرائي - وكان ينظر في أمورهم ويخلف الوزير عليهم - لأشياء كانوا نقموها عليه وأبوا أن يكون متوليا عليهم فأرضاهم الوزير بصرفه عنهم ووجد السبيل إلى مصادرته فاستخرج منه عشرة آلاف دينار كانت سبب حقده حتى صار في جملة من سعى به ودبر في هلاكه.

عضد الدولة يندب كوركير لمحاربة سليمان بن محمد بن إلياس

وقد كان قبل هذه السنة ندب عضد الدولة كوركير بن جستان لمحاربة سليمان بن محمد بن الياس وكان سليمان هذا بخراسان وأطمع صاحبها في كرمان والقفص والبلوص في طاعته. فضم إليه صاحب خراسان جيشا وجاء إلى كرمان فاستغوى هاتين الطائفتين وغيرهم من الأمم المفارقة لطاعة السلطان الأكبر فصارت هذه الطوائف يدا واحدة في شقّ العصا.

فلقيه كوركير بين جيرفت وبمّ وجرت بينهما حرب أجلت عن قتل سليمان وبكر والحسين ابني اليسع أخيه وعدد كثير من قواد خراسان والرجال المضمومين إليه وحملت رؤسهم إلى شيراز وأنفذها عضد الدولة إلى حضرة أبيه ركن الدولة.

واجتمعت المنوجانيّة وسائر القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد البلوصى وأولاده وغيرهم من الرؤساء على كلمة واحدة في الخلاف وتحالفوا على الثبات والاجتهاد فضمّ عضد الدولة إلى كوركير عابد بن عليّ فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر فوقعت الوقعة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من صفر سنة ستّين وثلاثمائة وأجلت عن هزيمتهم وقتل خمسة آلاف رجل من أشدائهم ووجوههم وقتل ابنان لأبي سعيد البلوصى وحصل المعروف بأبي الفوارس المنوجانى في الأسر وابن أخيه أبو الليث وجماعة يجرون مجراهم.

ثم صمد عابد بن عليّ لقصّ آثارهم والتولج إلى مكانهم ليبيد غضراءهم.

فتابع الإيقاع بهم والإثخان فيهم وانتهى إلى هرموز فملكها واستولى على بلاد التيز ومكران وحصل في يده بعد من هلك في الحروب ألفا أسير من رجالهم ونسائهم وذراريّهم. فلاذوا بطلب الأمان وبذلوا تسليم المعاقل والجبال على أن يدخلوا في السلم وينزعوا شعار الحرب ويقتنعوا بالأقوات التي تحل وتطيب ويتحلّوا بسيماء المسلمين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويتمسكوا بسائر شروط الإيمان. فعقدوا على أنفسهم بذلك عقدا وثيقا.

عدول عابد بن علي إلى الخرمية والجاسكية

ثم عدل عابد بن عليّ إلى طوائف أخر من الأمم المخالفة في حال تصاقبهم يعرفون بالخرّمية والجاشكية يخيفون السبل في البر والبحر وكانوا ضاموا سليمان بن محمد بن الياس فأوقع بهم وقتل كثيرا منهم وحصل في يده رئيسهم أبو علي بن كلاب فضرب عنقه وقبض على خلق منهم فأنفذهم إلى شيراز فتوطأت تلك الأعمال وصلحت مدّة من الزمان.

عضد الدولة يصير بنفسه إلى كرمان

ثم لم يلبث البلوص وكانوا أشد هذه الطوائف بأسا وأوعدهم جانبا وأشدهم كفرا أن اشتاقوا إلى عاداتهم من إخافة السبل وسفك الدماء الحرام ونقض ما كانوا تمسكوا به من تلك العهود. فلمّا فعلوا ذلك اعتقد عضد الدولة ألّا حيلة في صلاحهم ويئس منهم فرأى ألّا يبقى عليهم وعزم على المسير بنفسه إلى كرمان فسار في ذي القعدة سنة ستّين وثلاثمائة.

فلمّا انتهى إلى السيرجان وجد البلوص قد تبسطوا في الأعمال وسعوا فيها بالفساد ونصبوا للرئاسة عليهم عليّ بن محمد البارزى ولقي الناس منهم عنتا شديدا في جميع طرقات كرمان وسجستان وخراسان فجرّد عابد بن عليّ في عسكر كثيف من الديلم والجيل والأتراك والأعراب والأكراد والزطّ والرجال السّيفية وأنفذه إليهم فلمّا أحسّوا بإطلاله عليهم أوغلوا في الهرب وسلكوا طرقا ضيقة شاقة ظنّوا أنّ العسكر لا يمكنه سلوكها ولا اتباعهم فيها.

ثم إنّ عابدا أنفذ أخاه في سريّة قوية خلفهم وسار هو في باقى الجيش من طريق آخر إلى بلادهم التي يأوونها إلى جبال البارز ففتحها عنوة واستنزل عنها محمد بن عليّ البارزى وظفر بصهره أبي دارم وقد كانوا أنفذوا طلائع لهم وعيونا ليأتيهم بالأخبار فنذر بهم وقبض على جماعتهم فلم يرجع إليهم مخبر منهم.

فكانوا ساكنين غارّين إلى أن أطلّ الجيش في الموضع الذي ظنّوا أنّهم آمنون فيه فلم يجدوا مهربا ولا معدلا عن المجاهدة، فثبتوا سحابة يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستّين وثلاثمائة، منذ طلوع الشمس إلى غروبها. ثم انجلت الوقعة عن قتل الرجال المقاتلة إلّا القليل وعن الاحاطة بحرمهم وذراريّهم وأملاكهم ونجا في الوقت رئيسهم المعروف بابن أبي الرجال البلوصى مع جماعة من الوجوه ثم ظفر بهم من بعد فقتلوا جميعا ودخل نفر يسير ممن بقي تحت الأمان وتشبثوا بالعهد والذمام فنقلوا عن تلك الجبال. وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة المزارعين والمستورين من أجناس الرعية حتى طبّقوا تلك المواضع بالعمارات وطهرت تلك الجبال من معرّة أولئك المفسدين.

ثم عاد عابد بن عليّ إلى الامة المعروفة بالجاشكية ومن يجرى مجراها من الدعّار وكانوا وراء جبال القفص مما يلي التيز ومكران والسواحل إلى حدود عمان ولهم معرّة شديدة وفساد كثير وجنايات عظيمة على الناس وأنفذ عابد أخاه في عسكر قوى من الديلم والأتراك والعرب وغيرهم وحمل معه الزاد على الجمازات في البرّ وعلى الشذاآت والمراكب في البحر من سيراف إلى مكلّى هرموز وسواحل كرمان فقطع عدّة مضايق حتى وصل إليهم وهم غافلون لا يظنّون أنّ أحدا يصل إليهم. فأوقع بهم وقتل وأسر واصطلم ولم يبق من طبقات الدعّار في تلك النواحي أحدا.

وفي هذه السفرة تنكّر عضد الدولة لكوركير فقبض عليه وردّه إلى سيراف واعتقله اعتقالا جميلا فيه بقية للصلح.

ودخلت سنة احدى وستين وثلاثمائة

وزارة أبي الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد

وفيها تمكن الأستاذ الجليل أبو الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد رحمهما الله من الوزارة بعد أبيه وفوض إليه ركن الدولة تدبير ممالكه ومكّنه من أعنة الخيل فصار وزيرا وصاحب جيش على رسم والده، إلّا أنّ والده باشر هذه الأمور في كمال من أدواته وتمام من آلاته على ما شرحناه فيما تقدم، وكان لوفور عقله يدارى أمره مع صاحبه ومع عسكره ثم يسوس رعيّته والممالك التي يراعيها ويدبر الجميع تدبيرا ملائما لوقته موافقا لزمانه فلا يظهر من الزينة وأبّهة الوزارة إلّا بمقدار ما يقيم به مرتبته ولا يجاوز ذلك إلى ما يحسد عليه وينافس، ثم يتواضع تواضعا لا يخرج به إلى غضاضة تلحقه في جاهه أو تحطّه عن المنزلة العالية التي يرقى إليها وكانت سلامته طول مدته على أصناف الناس وطبقاتهم وقيام هيبته وتمام سياسته متصلة تزيد على الأيام ثناء وثباتا.

ذكر خصائص أبي الفتح في خلقه وسياسته

فأما ابنه أبو الفتح فكان فيه مع رجاحته وفضله في أدب الكتابة وتيقّظه وفراسته نزق الحداثة وسكر الشباب وجرأة القدرة، فتطلعت نفسه إلى اظهار الزينة الكثيرة واستخدام الديلم والأتراك والاحتشاد في المواكب التي يركب فيها واتخاذ الدعوات لصاحبه وسائر عسكره التي يلتزم فيها الخلع والحملان على الدواب والمراكب والإسراف في الصلات والنفقات تشبّها بوزراء عزّ الدولة بختيار الذين لا خبرة لهم بعواقب الأمور ولا نظر لهم في مصالح الملك وإنّما همة أحدهم في تناول شهواته والوصول إلى لذّاته وإثارة غيظ حسّادهم بإظهار الزينة التي فوق طاقته.

وليس يعلم أنّ أول من ينكر ذلك في نفسه وإن لم يبده له صاحبه فهو يحسده على مساواته له وعلى تمكنه مما يتمكن هو منه ثم مزاحمته له في الاستظهار والجمع وتبذير الأموال التي يرى أنّه أحق بها منه ثم خوفه من ميل الجند إليه وإجماعهم على جوده وسخائه واعتدادهم بما يصل إليهم له دون صاحبهم ووليّ نعمهم.

فكان أبو الفتح ابن العميد يسرف في ركوب هذه الأهواء ويحب أن يبلغ غاية ما يقدر عليه منها فجلب عليه ذلك ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام فكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند وأحب الراحة والدعة ففوض إليه الأمور ورآه شابّا قد استقبل الدنيا استقبالا فهو يحب التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم ملّه ويستلذّ فيه الانتصاب للأمر والنهى ومخالطة الجند والركوب إلى الصيد ومشى خواص الديلم وكبار الجند بين يديه ثم مشاربتهم ومؤانستهم والإحسان إليهم بالخلع والحملان.

فأول من أنكر عليه هذا الفعل عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة وكتّابهم ثم سائر مشايخ الدولة ورأوه يركب في موكب عظيم ويغشى الدار والديوان فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الامارة حتى لا يوجد فيها إلّا المستخدمون من الاتباع والحاشية فقط.

ثم ترقّى أمره في قيادة الجيش والتحقق بها إلى أن ندب للخروج إلى العراق في جيش كثيف من الريّ والإجماع مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة في الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه كما سنشرحه فيما بعد بإذن الله. فأقام هناك ونظم أمور بختيار وتلقّب بذي الكفايتين من جهة الطائع لله وأخذ الخلع وواطأ بختيار على أمور خالف فيها عضد الدولة وأوحشه وتأدّى أمره إلى الهلاك.

وإنّما ذكرنا هاهنا جملة من سوء تدبيره لنفسه ونحن نشرحها مفصلة في الأمور التي حدثت في سنة خمس وستّين وثلاثمائة ليعتبر بها المعتبرون ويجرى مجرى تجارب الأمم التي يتكرر مثلها فيتحرّز منها.

فأمّا الآن فإنّا نشرع في الأمور التي حدثت في هذا الزمان الذي نحن في ذكره ونستقصى أخبار بختيار وما عمله في عوده من البصرة إلى واسط ليتصل حديثه ولا ينقطع بدخول حديث غيره فيه.

ذكر السبب في تجاسر العامة على السلطان والفتن الثائرة بهم حتى خربت بغداد

وذاك أنّ الكتب وردت عليه بأنّ الروم غزوا نصيبين فملكوها وأحرقوها وقتلوا الرجال وسبوا الذراري ثم ورد خلق من ديار ربيعة وديار بكر مدينة السلام واستنفروا المسلمين في المساجد الجامعة والأسواق وحكوا انفتاح الطريق للروم وأنّه لا مانع لهم من تورّد ديارهم وهي متصلة بالعراق.

محاولة الهجوم على دار المطيع لله وإسماعه ما يقبح ذكره

فلمّا تجمّع معهم خلق من أهل بغداد صاروا إلى دار المطيع لله وحاولوا الهجوم عليها وقلعوا البعض من شبابيكها فأغلقت الأبواب دونهم بعد أن كانوا يصلون إليه ويأتون عليه فأسمعوه ما كره ونسبوه إلى العجز عمّا أوجب الله على الائمة وتجاوزوا ذلك إلى ما يقبح ذكره.

وكان بختيار في هذا الوقت بالكوفة مظهرا زيارة المشهد وغرضه التصيّد فخرج إليه وجوه أهل بغداد منكرين عليه اشتغاله عن مصالح المسلمين وانصرافه عن تدبيرهم إلى مجاهدة عمران وهو من أهل القبلة، وإمهاله الروم وهم أعداء الملة، ثم تشاغله بالصيد واللهو عن جميع مهمّات المملكة. ووعدهم بالعود إلى واسط ومصالحة عمران والانكفاء إلى الثغور فسكنوا وانصرفوا.

فلمّا عاد كاتب أبا تغلب وهو صاحب الموصل، يعلمه فيه أنّه عامل على الغزو ويلزمه أن يعدّ له من الزاد والعلوفة ما يسعه وجنده في الطريق وأنفذ في ذلك بعض خواصه فقضى ابن حمدان حقّه وردّه بالإنعام والمسارعة إلى ما سأل وهو يعلم أنّه لا يفي بوعد ولا وعيد وأنّه يقول ولا يفعل.

ثم أنفذ محمد بن بقيّة برسالته إلى سبكتكين الحاجب وهو ببغداد يستصلحه لوزيره العباس بن الحسين ويستنهضه للغزو معه ويأمره بأن يستنفر من يرغب في الجهاد. فتقبّل سبكتكين ذلك تقبل المنافق ثم ركب ببغداد في الجيش واستنفر المسلمين فثار من العامة عدد كثير بأصناف السلاح والسيوف والرماح والقسيّ حتى استعظم ما شاهده منهم ولم يوفق لتربيتهم وضمهم إلى رئيس يقوم بهم بل جعلهم كالعدة لنفسه فصاروا وبالا عظيما وضروا على المحارمات بينهم وأظهروا ضروب العصبية وأثاروا الفتن وأقدم بعضهم على بعض بالقتل واستباحة الأموال والهجوم على الحرم والفروج وتفاقم الأمر بينهم وبلغ كل المبلغ في الشر وعجز السلطان عن إصلاحهم وإطفاء ما أثاره من نائرتهم حتى صار ذلك سببا لخراب بغداد.

وسنذكر شرح هذه الأحوال عند دخول سنة ستّ بعون الله.

بختيار يصالح عمران ويعود إلى بغداد

وصالح بختيار عمران كما حكينا أمره فيما تقدم وطمع في مال الصلح واستضعفه. ورجع بختيار إلى بغداد وهي خراب بكثرة الفتن واستطالة العامة وحدوث الحروب فيها وإغارة بعضها على بعض وكثرة رؤسائهم الناجمين فيهم حتى حصل في كل محلة عدة رؤساء من العيّارين يحامون على محلتهم ويجبونهم الأموال ويحاربون من يليهم فهم لذلك متحاقدون يغزو بعضهم بعضا نهارا وليلا ويحرق بعضهم دور بعض ويغير كل قوم على إخوانهم وجيرانهم.

تسحب الأتراك

فأمّا الأتراك فمتسحّبون مقترحون ما لا يتمكّن منه متجاوزون حدود العامة في سفك الدماء والطمع في الأموال والفروج حتى قتلوا صاحب شرطة كان لبختيار يقال له خمار، لشيء حقير كان حقده على بعض أصاغر الأتراك فلقيهم راكبا في موكبه فحملوا عليه وألجئوه إلى الهرب والدخول إلى دار بختكين المعروف بجعدمويه وكان رئيسا معظما في الأتراك فهجموا عليه وأخرجوه وقتلوه قتلة الكلاب خفقا بالسيوف واللتوت ثم سلموا جثته إلى العامة ففصلوه آرابا حتى أخذ كبده بعض السفهاء وقلبه آخر وكل جارحة منه وجد في يد سفيه ثم أحرقوا باقى جثته بالنار.

وفتحوا السجون وأطلقوا أهل الدعارة منها وقلعوا أبوابها ونقضوا حيطانها وعجز بختيار عن تدبير أمرهم وخاف معرة الأتراك فاستدعى الديلم إلى داره فحضروه بالسلاح وتكلموا في أمر المقتول أعنى خمار وأنكروا تبسط الأتراك وتحركت الأحقاد بينهم وعمل الديلم على قصد دار سبكتكين الحاجب ومنازل الأتراك وأحسوا بهم فتحرزوا واستعدوا وتعصب العامة معهم فسكّن بختيار تلك الثورة وأغضى عن قتل صاحبه خمار.

تعصب سبكتكين للسنة على الشيعة

ثم عوّل على الحاجب سبكتكين في تسكين العامة لأن هيبته كانت في نفوسهم أكبر وقلّد سبكتكين الشرطة ببغداد حاجبا له فسكنت الفتنة مدة أيامه إلا أنّه تعصّب للطائفة المنتسبة إلى السنّة على الشيعة فثار أهل التشيع وعادت الحروب والفتن كأعظم ما كانت. فكانت الأموال تنتهب والقتل بين العامة يستمرّ في كل يوم حتى صار لا ينكر ولا يمكن حسمه، وظهر نقصان الهيبة وعجز السلطان.

وعطف بختيار على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين بمطالبة الأموال وإعطاء الرجال وإرضاء طبقات الجند وكان لا ينظر في دخل ولا خرج وإنّما يلزم وزيره تمشية الأمور من حيث لا يعينه ولا ينصره ولا يمنع أحدا من جنده شيئا يلتمسه ولا يقبض يده ولا لسانه عن كلّ ما يفسد حاله وشأنه ويحبّ أن تقضى أوقاته في الصيد والأكل والشرب والسماع واللهو واللعب بالنرد وتحريش الكلاب والديكة والقباج. فإذا وقفت أموره قبض على وزيره واستبدل به فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان.

فلمّا بلغ الأمر بوزيره أبي الفضل هذا المبلغ ولم تبق له حيلة في درهم يأخذه من وجهه عدل إلى طلب الأموال من الوجوه المذمومة التي تقبح الأحدوثة بها وتحرم ولا تحلّ في شيء من الأديان.

فبعث بختيار على مطالبة ا