تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة الرعد

{ الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } * { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } * { ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } * { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ } * { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلْلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ } * { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } * { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } * { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ } * { لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } * { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } * { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } * { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } * { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } عدل

العمد: اسم جمع، ومن أطلق عليه جمعاً فلكونه يفهم منه ما يفهم منالجمع، وهي الأساطين. قال الشاعر:

وجيش الجن إني قد أذنت لهم     يبغون تدمر بالصفاح والعمد

والمفردعماد وعمد، كإهاب وأهب. وقيل: عمود وعمد كأديم وأدم، وقضيم وقضم. والعماد والعمود ما يعمد به يقال: عمدت الحائط أعمدهعمداً إذا أدعمته، فاعتمد الحائط على العماد أي: امتسك بها. ويقال: فلان عمدة قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما يخزيهم. ويجمععماد على عمد بضمتين كشهاب وشهب، وعمود على عمد أيضاً كرسول ورسل، وزبور وزبر هذا في الكثرة، ويجمعان في القلةعلى أعمدة. الصنو: الفرع يجمعه، وآخر أصل واحد، وأصله المثل ومنه قيل: للعم صنو، وجمعه في لغة الحجاز صنوانبكسر الصاد كقنو وقنوان، ويضمها في لغة تميم وقيس، كذئب وذؤبان. ويقال: صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمعتكسير، لأنه ليس من أبنيته. الجديد ضد الخلق والبالي، ويقال: ثوب جديد أي كما فرغ من عمله، وهو فعيلبمعنى مفعول كأنه كما قطع من النسج. المثلة: العقوبة، ويجمع بالألف والتاء كسموة وسماوات. ولغة الحجاز مثلة بفتح الميموسكون الثاء، ولغة تميم بضم الميم وسكون الثاء، وسميت العقوبة بذلك لما بين العقاب والمعاقب من المماثلة كقوله تعالى: {وَجَزَاءسَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } أو لأنها من المثال بمعنى القصاص. يقال: أمثلت الرجل من صاحبه، وأقصصته، أو لأنها لعظم نكالهايضرب بها المثل. السارب اسم فاعل من سرب أي تصرف كيف شاء. قال الشاعر:

إني سربت وكنت غير سروب     وتقرب الأحلام غير قريب

وقال الآخر:

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم     ونحن حللنا قيده فهو سارب

أي فهو منصرف كيف شاء، لا يدفع عن جهة، يفتخر بعزة قومه. المحال: القوةوالإهلاك قال الأعشى:

فرع نبع يهش في غصن المجـ     ـد غزير الندى شديد المحال

وقال عبدالمطلب:

لا يغلبن صليبهم     ومحالهم أبداً محالك

ويقال: محل الرجل بالرجل مكر به وأخذهبسعاية شديدة، والمماحلة المكايدة والمماكرة ومنه: تمحل لكذا أي: تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. وقال أبو زيد: المحال النقمة، وقالابن عرفة: المحال الجادل ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتبي: أي شديد الكيد، وأصله من الحيلة، جعل ميمهكميم مكان وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وغلطه الأزهري في زيادة الميم قال: ولو كان مفعلاً لظهر من الواومثل مرود ومحول ومحور، وإنما هو مثال كمهاد ومراس. الكف: عضو معروف، وجمعه في القلة أكف كصك وأصك، وفيالكثرة كفوف كصكوك، وأصله مصدر كف. ظل الشيء ما يظهر من خياله في النور، وبمثله في الضوء. الزبد:قال أبو الحجاج الأعلم هو ما يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أموالجه. وقال ابن عطية: هو ما يحمله السيلمن غثاء ونحوه، وما يرمي به على ضفتيه من الحباب الملتبك. وقال ابن عيسى: الزبد وضر الغليان وخبثه. قال الشاعر:

فما الفرات إذا هب الرياح له     ترمي غواريه العبرين بالزبد

الجفاء: اسم لما يجفاه السيل أييرمي، يقال: جفأت القدر بزبدها، وجف السيل بزبده، وأجفأ وأجفل. وقال ابن الأنباري: جفاء أي متفرقاً من جفأت الريحالغيم إذا قطعته، وجفأت الرجل صرعته. ويقال: جف الوادي إذا نشف. {المر تِلْكَ ايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنرَّبّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَىٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ لَعَلَّكُمْ }: هذه السورة مكية في قول: الحسن،وعكرمة، وعطاء، وابن جبير. وعن عطاء إلا قوله:

{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً }

وعن غيره إلا قوله: {هُوَ ٱلَّذِىيُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ } إلى قوله:

{ لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقّ }

ومدنية في قوله: الكلبي، ومقاتل، وابن عباس، وقتادة، واستثنيا آيتين قالا:نزلتا بمكة وهما

{ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ }

إلى آخرهما وعن ابن عباس إلا قوله:

{ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }

إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله:

{ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }

الآية حكاه المهدوي. وقيل: السورةمدنية حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب. قال الزمخشري: تلك إشارة إلى آيات السورة، والمرادبالكتاب السورة أي: تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها. وقال ابن عطية: من قال حروف أوائل السور مثال الحروفالمعجم قال: الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم، ويصح على هذا أنْ يكون الكتاب يراد به القرآن، ويصح أنيراد به التوراة والإنجيل. والمر على هذا ابتداء، وتلك ابتداء ثان، وآيات خبر الثاني، والجملة خبر الأول انتهى. ويكون الرابطاسم الإشارة وهو تلك. وقيل: الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار إليه بقوله: تلك من أنباءالغيب، والذي قال: ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل، هو قريب من قول مجاهد وقتادة، والإشارة بتلك إلى جميع كتبالله تعالى المنزلة. ويكون المعنى: تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذيأنزلته إليك. والظاهر أن قوله: والذي مبتدأ، والحق خبره، ومن ربك متعلق بانزل. وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر،والحق مبتدأ محذوف، أو هو خبر بعد خبر، أو كلاهما خبر واحد انتهى. وهو إعراب متكلف. وأجاز الحوفي أيضاً أنيكون والذي في موضع رفع عطفاً على آيات، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض. وعلى هذينالإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي: هو الحق، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيءواحد كما تقول: جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصاً واحداً. ومن ذلك قول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهام     وليث الكتيبة في المزدحم

وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني: إذا جعلت والذيمعطوفاً على آيات. وأكثر الناس قيل: كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند الله تعالى. وقيل: المرادبه اليهود والنصارى، والأولى أنه عام. ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيدوالمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع. والجلالة مبتدأ، والذي هو الخبربدليل قوله تعالى:

{ وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلاْرْضَ }

ويجوز أن يكون صفة. وقوله: يدبر الأمر يفصل الآيات خبراً بعد خبر،وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور: عمد بفتحتين. وقرأ أبو حيوة، ويحيـى بن وثاب: بضمتين، وبغيرعمد في موضع الحال أي: خالية عن عمد. والضمير في ترونها عائد على السموات أي: تشاهدون السموات خالية عن عمد.واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً، واحتمل أن يكون جملة حالية أي: رفعها مرئية لكم بغير عمد. وهيحال مقدرة، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين. وقيل: ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي: بغير عمد مرئية،فترونها صفة للعمد. ويدل على كنه صفة لعمد قراءة أبي: ترونه، فعاد الضمير مذكراً على لفظ عمد، إذ هو اسمجمع. قال أي ابن عطية: اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى. وهو وهم،وصوابه: بضم الحرفين، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع. هذا التحريج يحتمل وجهين: أحدهما أنهالها عمد، ولا ترى تلك العمد، وهذا ذهب إليه مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس: وما يدريك أنها بعمد لا ترى؟وحكى بعضهم أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض، والسماء عليه كالقبة. والوجه الثاني: أن يكون نفي العمد، والمقصود نفي الرؤيةعن العمد، فلا عمد ولا رؤية أي: لا عمد لها فترى. والجمهور على أن السموات لا عمد لها البتة، ولوكان لها عمد لاحتاجت تلك العمد إلى عمد، ويتسلسل الأمر، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية. ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى ٱلاْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }

ونحو هذا من الآيات. وقال أبو عبد الله الرازي: العماد مايعتمد عليه، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى، فعمدها قدرة الله تعالى، فلها عماد في الحقيقة. إلاأن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي، وأنتم لا ترون ذلك التدبير، ولا تعرفونكيفية ذلك الإمساك انتهى. وعن ابن عباس: ليست من دونها دعامة تدعمها، ولا فوقها علاقة تمسكها. وأبعد من ذهب إلىأنّ ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي: رها وانظروا هل لها من عمد؟ وتقدم تفسير

{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ }

قال ابن عطية: ثم هنا العطف الجمل لا للترتيب، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات. وفي الصحيح عنالنبي أنه قال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض انتهى. وسخر الشمس والقمر أي: ذللهما لما يريد منهما. وقيل: لمنافع العباد. وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة،وكل مضافة في التقدير، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي: كليهما يجري إلى أجل مسمى. وقال ابن عطية:والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب، ولذلك قال: كل يجري لأجل مسمى، أي: كل ما هو في معنى الشمسوالقمر من المسخر، وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى. وشرح كل بقوله أي: كل ما هو في معنىالشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى، وتحريره أن يقول على زعمه: إن الكواكب فيضمن ذكرهما أي، ومما هو في معناهما إلى أجل مسمى. وقال ابن عباس: منازل الشمس والقمر وهذ الحدود التي لاتتعداها، قدر لكل منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء. وقيل: الأجل المسمى هو يوم القيامة،فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى:

{ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوّرَتْ }

وقال: وجمع الشمس والقمر، ومعنى تدبير الأمرإنفاذه وإبرامه، وعبر بالتدبير تقريباً للإفهام، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر، والأمرأمر ملكوته وربوبيته، وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك.وقال مجاهد: يدبر الأمر يقضيه وحده، ويفصل الآيات يجعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها من بعض. والآيات هنا دلائله وعلاماته فيسمواته على وحدانيته، أو آيات الكتب المنزلة، أو آيات القرآن أقوال. وقرأ النخعي، وأبو رزين، وابان بن ثعلب، عنقتادة: تدبر الأمر نفصل بالنون فيهما، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما، وافق في نفصل بالنون الخفاف، وعبدالواحد عن أبي عمرو، وهبيرة عن حفص. وقال صاحب اللوامح: جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون فقط. وقال المهدوي: لميختلف في يدبر، أو ليس كما قال؟ إذ قد تقدمت قراءة ابان. ونقل الداني عن الحسن: والذي تقتضيه الفصاحة أنهاتين الجملتين استفهام إخبار عن الله تعالى. وقيل: يدبر حال من الضمير في وسخر، ونفصل حال من الضمير في يدبر،والخطاب في لعلكم للكفرة، وتوقنون بالجزاء أو بأنّ هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه. {وَهُوَ ٱلَّذِىمَدَّ ٱلاْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَـٰراً وَمِن كُلّ ٱلثَّمَرٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ إِنَّ }: لما قررالدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية. ومد الأرض: بسطها طولاً وعرضاً ليمكن التصرف فيها، والاستقرار عليها. قيل: مدها ودحاها منمكة من تحت البيت، فذهبت كذا وكذا. وقيل: كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها: اذهبي كذا وكذا. قال ابنعطية: وقوله مد الأرض، يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهذا هو ظاهر الشريعة. قال أبو عبد الله الداراني: ثبت بالدليلأنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبركان قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى. ألا ترى أنه قال:

{ وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً }

مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا. وأيضاً إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجودالصانع، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع. فتأويل مد الأرضأنه جعلها بمقدار معين، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أنيكون بتخصيص مخصص، وتقدير مقدر، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى. ملخصاً. وقال أبو بكر الأصم: المد البسط إلىما لا يرى منتهاه، فالمعنى: جعل الأرض حجماً يسيراً لا يقع البصر على منتهاه، فإن الأرض لو كانت أصغر حجماًمما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى. وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غيرمسلم، لأن المنتفع به من الأرض المعمور، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير. فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمورالمنتفع به لم يكن ذلك ممتنعاً، فتحصل في قوله: مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة، واختصاصها بمقدارمعين وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه. والرواسي الثوابت، ومنه قول الشاعر:

به خالدات ما يرمن وهامد     وأشعت أرسته الوليدة بالقهر

والمعنى: جبالاً رواسي، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث، إلا أنّ جمعالتكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث. وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي، وصارت الصفة تعنيعن الموصوف، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل. وقيل: رواسي جمع راسية، والهاء للمبالغة، وهو وصف الجبل. كانت الأرضمضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم. قيل: من جهة أنّطبيعة الأرض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم، ومن جهة مايحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّذلك بتقدير قاد قاهر متعالى عن مشابهة الممكنات، ومن جهة تولد الأنهار منها. وقيل: وذلك لأنّ الجبل جسم صلب، ويتصاعدبخاره من قعر الأرض إليه ويحتب هناك، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل علىوجه الأرض، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية. وكقوله:

{ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَـٰمِخَـٰتٍ وَأَسْقَيْنَـٰكُم مَّاء فُرَاتاً }

{ وَأَلْقَىٰ فِى ٱلاْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَـٰراً }

فقال المفسرون: الأنهار المياه الجارية في الأرض.وقال الكرماني: مسيل الماء، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة. والظاهر أنّ قوله: من كل الثمرات متعلق بجعل.ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين، يعني أنه حينمد الأرض جعل ذلك، ثم تكثرت وتنوعت. وقيل: أراد بالزوجين الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك منالأصناف المختلفة. وقال ابن عطية: وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان، فإن اتفق أن يوجد من ثمرةأكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية. وقال الكرماني: الزوج واحد، والزوج اثنان، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوجهنا الفرد لا التثنية، فيكون أربعاً. وخص اثنين بالذكر، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل،إذ لا نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى. ويقال: إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء. وقالأبو عبد الله الرازي: لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط.فلو قال: خلق زوجين، لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص، فلما قال: اثنين علمنا أنه أول ما خلق منكل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. فالشجر والزرع كبني آدم، حصل منهم كثرة، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهماآدم وحواء. والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض، وشق أعلاها وأسفلها، فمن الشقالأعلى الشجرة الصاعدة، ومن الأسفل العروق الغائصة، وطبيعة تلك الجنة واحدة، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد. ثم يخرج منالأعلى على ما يذهب صعداً في الهواء، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدةطبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم. ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشباً، وبعضها لوزاً، وبعضها ثمراً، ثم تلكالثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم انتهى. وفيه تلخيص. وقيل: تم الكلام عند قوله: ومن كلالثمرات، فيكون معطوفاً على ما قبله من عطف المفردات، ويتعلق بقوله: وجعل فيها رواسي. فالمعنى: أنه جعل في الأرض منكل ذكر وأنثى اثنين، وقيل: الزوجان الشمس والقمر، وقيل: الليل والنهار، يغشى الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها فيالأعراف. وخص المتفكرين لأنّ ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر. {وَفِى ٱلاْرْضِ قِطَعٌمُّتَجَـٰوِرٰتٌ وَجَنَّـٰتٌ مّنْ أَعْنَـٰبٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوٰنٌ وَغَيْرُ صِنْوٰنٍ يُسْقَىٰ بِمَاء وٰحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ }: قطع جمع قطعةوهي الجزء. ومتجاورات متلاصقة متداينة، قريب بعضها من بعض. قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك: أرض طيبة وأرض سبخة،نبتت هذه، وهذه إلى جنبها لا تنبت. وقال ابن قتيبة وقتادة: يعني القرى المتجاورة. وقيل: متجاورة في المكان، مختلفة فيالصفة، صلبة إلى رخوة. وسحراً إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة، وصالحة للزرع لا للشجر، وعكسها مع انتظام جميعها فيالأرضية. وقيل: في الكلام حذف معطوف أي: وغير متجاورات. والمتجاورات المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غيرعامر. قال ابن عطية: والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة، ونوع واحد. وموضع العبرة فيهذا أبين، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض، كما قال النبي صلى اللهعليه وسلم حين سئل عن هذه الآية فقال: «الدقل، والقارس، والحلو، والحامض» وقال ابن عطية: وقيد منها في هذه المثالما جاور وقرب بعضه من بعض، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب. وفي بعض المصاحف: قطعاً متجاورات بالنصب على جعل.وقرأ الجمهور: وجنات بالرفع، وقرأ الحسن: بالنصب، بإضمار فعل. وقيل: عطفاً على رواسي. وقال الزمخشري: بالعطف على زوجين اثنين، أوبالجر على كل الثمرات انتهى. والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج، والفصل بينهما بجمل كثيرة. وقرأابن كثير، وأبو عمرو، وحفص: وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع. وقال ابن عطية: عطفاًعلى أعناب، وليست عبارة محررة أيضاً، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله: صنوان. وقرأ باقي السباعة: بخفض الأربعة علىمراعاة من أعناب قال: وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب، وفيذلك تجوز ومنه قول الشاعر:

كأن عيني في غربي مقبلة     من النواضح تسقي جنة سحقه

أينخيل جنة إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل. ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده، لأنهلا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات. وقرأ الجمهور: صنوان بكسر الصاد فيهما، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي:بضمها، والحسن وقتادة بفتحها، وبالفتح هو اسم للجمع، كالسعدان. وقرأ عاصم، وابن عامر، وزيد بن علي: يسقى بالياء، أي: يسقىما ذكر. وباقي السبعة بالتاء، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة. أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم، ولقوله:ونفضل بالنون. وحمزة والكسائي بالياء، وابن محيصن بالياء في تسقي، وفي نفضل. وقرأ يحيـى بن يعمر، وأبو حيوة، والحلبي عنعبد الوارث: ويفضل بالياء، وفتح الضاد بعضها بالرفع. قال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيـى بن يعمر، وهو أولمن نقط المصاحف. وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها. والأكل بضم الهمزة المأكول كالنقض بمعنىالمنقوض، وبفتحها المصدر. والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله: صنوان، صفة لقوله: ونخيل. ومن فسره منهم بالمثلجعله وصفاً لجميع ما تقدم أي: أشكال، وغيره إشكال. قيل: ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان، ولا يوجد لهما ثالث ونصعلى العنوان لأنها بمثال التجاور في القطع، فظهر فيها عرابة اختلاف الأكل. ومعنى بماء واحد: ماء مطر، أو ماء بحر،أو ماء نهر، أو ماء عين، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض. وخص التفضيل في الأكل وإن كانتمتفاضلة في غيره، لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات. ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال، والألوان، والروائح، والمنافع، وما يجريمرجى ذلك؟ قيل: نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته، وأنه المدبر للأشياء كلها، وذلك أن الشجرة تخرجأغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس منطبعه إلا التسفل، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه، ثم تختلف طعوم الثماروالماء واحد، والشجر جنس واحد. وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه، لا يشبه المخلوقات. قال الراجز:

والأرض فيها عبرة للمعتبر     تخبر عن صنع مليك مقتدر تسقى بماء واحد أشجارها
وبقعة واحدة قرارها والشمس والهواء ليس يختلف     وأكلها مختلف لا يأتلف لو أن ذا من عمل الطبائع
أو أنه صنعة غير صانع لم يختلف وكان شيئاً واحدا     هل يشبه الأولاد إلا الوالدا الشمس والهواء يا معاند
والماء والتراب شيء واحد فما الذي أوجب ذا التفاضلا     إلا حكيم لم يرده باطلا

. وقال الحسن: هذا مثل ضربهالله تعالى لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة فسطحها، فصارت قطعاً متجاورات، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرجهذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً وكذلك الناس خلقوا من آدم. فنزلت عليهم من السماء مذكرة، قربت قلوبوخشعت قلوب، وقست قلوب ولهت قلوب. وقال الحسن: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان. قال تعالى:

{ وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }

، وهو شبيه بكلام الصوفية. إن فيذلك قال ابن عباس: في اختلاف الألوان والروائح والطعوم، لآيات: لحججاً ودلالات لقوم يعقلون: يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانيةالصانع القادر. ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع، والجنات وسقيها وتفضيلها، جاءختمها بقوله: لقوم يعقلون، بخلاف الآية التي قبلها، فإن الاستدلال بها يحتاج إلى تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوميتفكرون. {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلاْغْلَـٰلُ فِىأَعْنَـٰقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدونَ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلَـٰتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُومَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }: ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب فيملكوته التي لا يقدر عليها سواه، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل.وإن تعجب قال ابن عباس: وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين، فهذا أعجب. وقيل:وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد، فهذاأعجب. قال الزمخشري: وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه، لأن منقدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة، ولم يعي بخلقهن، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهمأعجوبة من الأعاجيب انتهى. وليس مدلول اللفظ ما ذكر، لأنه جعل متعلق عجبه هو قولهم فيإنكار البعث، فاتحذ الجزاء والشرط، إذ صار التقدير: وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكارالبعث، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب، فليكن من قولهم: أئذا كنا الآية. وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجبمنه: هو إنكار البعث، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء. ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً علىالإعادة، كما قال تعالى:

{ وَهُوَ ٱلَّذِى ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }

وهو أهون عليه أي: هين عليه. وقالابن عطية: هذه الآية توبيخ للكفرة، أي: إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق، فهم أهل لذلك، وعجيبوغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقاً جديداً. ويحتمل اللفظ منزعاً آخر: إن كنت تريد عجباً فهلم، فإنّ منأعجب العجب قولهم انتهى. واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً، هنا موضع، وكذا في المؤمنين، وفيالعنكبوت، وفي النمل، وفي السجدة، وفي الواقعة، وفي والنازعات، وفي بني إسرائيل موضعان، وكذا في والصافات. وقرأ نافع والكسائي بجعلالأول استفهاماً، والثاني خبراً، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع. وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت، وأما في النمل فعلىأصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ:

{ إِنَّنَا لَمُخْرَجُونَ }

وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً، والثاني استفهاماً، إلا فيالنمل والنازعات فعكس، وزاد في النمل نوناً كالكسائي. وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب،إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين منتخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه. وقولهم: فعجب، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة، لأنه لا يتمكنالمعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره ـ والله أعلم ـ: فعجب أي عجب، أو فعجب غريب. وإذا قدرناه موصوفاًجاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف، وقد وقعت موقع الابتداء، ولا يضر كون الخبر معرفةذلك. كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام، وفي نحو: اقصد رجلاً خير منه أبوه،لمسوغ الابتداء أيضاً، وهو كونه عاملاً فيما بعده. وقال أبو البقاء: وقيل عجب بمعنى معجب، قال: فعلى هذا يجوز أنيرتفع قولهم به انتهى. وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمهفي العمل كحكمه، فمعجب يعمل، وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلاً كذبح، وفعلاً كقبض، وفعلة كغرفة، هي بمعنى مفعول،ولا يعمل عمله، فلا تقول: مررت برجل ذبح كبشه، ولا برجل قبض ماله، ولا برجل غرف ماءه، بمعنى مذبوح كبشهومقبوض ماله ومعروف ماؤه. وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول. وقد حصر النحويونما يرفع الفاعل، والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكى به. وقال الزمخشري: أئذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكونفي محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى. هذا إعراب متكلف، وعدول عن الظاهر. وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط،فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره: أنبعث، أو أنحشر. أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة، وهوتقرير مصمم على إنكار البعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء. ولما حكمعليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم.والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، كما قال: إذ الأغلال فيأعناقهم والسلاسل. وقيل: يحتمل أن يكون مجازاً أي: هم مغلولون عن الإيمان، فتجري إذاً مجرى الطبع والختم على القلوب كماقال تعالى:

{ إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنـٰقِهِمْ أَغْلَـٰلاً }

وكما قال الشاعر:

لهـم عـن الرشـد أغـلال وأقيـاد    

وقيل: الأغلال هنا عبارةعن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهمرادة عليهم ما أنكروه من البعث، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر. ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصرواعلى الكفر، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاءكما قالوا:

{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً }

وقالوا:

{ أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا }

. قال ابن عباس: السيئةالعذاب، والحسنة العافية. وقال قتادة: بالشر قبل الخير. وقيل: بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، وهذه الأقوال متقاربة. وقد خلت منقبلهم المثلات أي: يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة، وهذا يدل على سخفعقولهم، هذ يستعجلون بالعذاب. والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر، ولكنهم لا يعتبرونفيستهزؤون. قال ابن عباس: المثلات العقوبات المستأصلات، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما. وقال السدي: النقمات. وقال قتادة: وقائع الله الفاضحة،كمسخ القردة والخنازير. وقال مجاهد: الأمثال المضروبة. وقرأ الجمهور: بفتح الميم، وضم التاء، ومجاهد والأعمش بفتحهما. وقرأ عيسى بن عميروفي رواية الأعمش وأبو بكر: بضمهما، وابن وثاب: بضم الميم وسكون الثاء، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء. ولذو مغفرةللناس على ظلمهم ترجية للغفران، وعلى ظلمهم في موضع الحال والمعنى: أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم. باكتساب الذنوب أي:ظالمين أنفسهم. قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه. وقال الطبري: ليغفر لهم في الآخرة. وقال القاسمبن يحيـى وقوم: ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف. وقيل: ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر. وقيل: ليغفر لهم بسترةوإمهاله، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية. قال ابن عطية: والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا،وإمهاله للكفرة. ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة، وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى:

{ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ }

ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار. ثم قال: ويستعجلونك، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفسالسامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة انتهى. ولشديد العقاب: تخويف وارتقاب بعد ترجية. وقال سعيدبن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله : لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش، ولولا عقابه لا تكل كل أحد وفي حديث آخر: إن العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله عز وجل . {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌمّن رَّبّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ }: عن ابن عباس: لما نزلت وضع رسول الله صلى الله عليهوسلم يده على صدره فقال: أنا منذر وأومأ بيده إلى منكب عليّ وقال: أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدى من بعدي ، وقال القشيري: نزلت في النبي وعليّ بن أبي طالب، والذين كفروا مشركو العرب، أو منأنكر نبوته من مشركيهم والكفار، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، وانقلاب العصا سيفاً، ونبع الماء منبين الأصابع، وأمثال هذه. فاقترحوا عناداً آيات كالمذكورة في سبحان، وفي الفرقان كالتفجير للينبوع، والرقي في السماء، والملك، والكنز، فقالتعالى لنبيه : إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة، وناصح كغيرك من الرسل، ليس لك الإتيانبما اقترحوا. إذ قد أتى بآيات عدد الحصا، والآيات كلها متماثلة في صحة الدعوى، لا تفاوت فيها. فالاقتراح إنما هوعناد، ولم يجر الله العادة بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها. وهاد: يحتمل أن يكون قدعطف على منذر، وفصل بينهما بقوله لكل قوم، وبه قال: عكرمة، وأبو الضحى. فإن أخذت: ولكل قوم هاد، على العمومفمعناه: وداع إلى الهدى، كما قال: {بعثت إلى الأسود والأحمر} فإن أخذت هاد على حقيقته فلكل قوم مخصوص أي: ولكلقوم قائلين هاد. وقيل: ولكل أمة سلفت هاد أي: نبي يدعوهم، والقصد: فليس أمرك ببدع ولا منكر، وبه قال: مجاهد،وابن زيد، والزجاج قال: نبي يدعوهم بما يعطي من الآيات، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات. وتبعهم الزمخشري. فقال: هادمن الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأشياء شرعاً واحداً فيآيات مخصوصة. وقالت فرقة: الهادي في هذه الآية هو الله تعالى، روي أن ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير،وهاد: على هذا مخترع للإرشاد. قال ابن عطية: وألفاظ تتعلق بهذا المعنى، وتعرف أن الله تعالى هو الهادي من غيرهذا الموضع. وقال الزمخشري: في هذا القول وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آياتويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر، لا أنْ تثبت الإيمان بالإلجاء، والذي يثبته بالإلجاءهو الله تعالى انتهى. ودلّ كلامه على الاعتزال. وقال في معنى القول الذي تبع فيه مجاهد، وابن زيد ما نصه:ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته، أن أعطاء كل منذر آيات أمر مدبربالعلم النافذ، مقدر بالحكمة الربانية. ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً أو مصلحة لأجابهم إليه. وقال الزمخشري أيضاً فيمعنى أن الهادي هو الله تعالى أي: بالإلجاء على زعمه ما نصه: وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به علىأنّ من هذه القدرة قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلكلغيره انتهى. وقالت فرقة: الهادي علي بن أبي طالب، وإن صح ما روي عن ابن عباس مما ذكرناه في صدرهذه الآية، فإنما جعل الرسول علي بن أبي طالب مثالاً من علماء الأمّة وهداتها إلى الدين،فكأنه قال: أنت يا علي هذا وصفك، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالىعنهم، ثم كذلك علماء كل عصر، فيكون المعنى على هذا: إنما أنت يا محمد منذر، ولكل قوم في القديم والحديثدعاة هداة إلى الخير. وقال أبو العالية: الهادي العل. وقال علي بن عيسى: ولكل قوم سبقهم إلى الهدى إلى نبيأولئك القوم. وقيل: هود قائد إلى الخير أو إلى الشر قال تعالى في الخير:

{ وَهُدُواْ إِلَى ٱلطَّيّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْحَمِيدِ }

وقال في الشر:

{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ }

قاله أبو صالح. ووقف ابن كثير على هادوواق حيث واقعا، وعلى وال هنا وباق في النخل بإثبات الياء، وباقي السبعة بحذفها. وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذشعن ابن مجاهد: الوقف على ميع الباب لابن كثير بالياء، وهذا لا يعرفه المكيون. وفيه عن أبي يعقوب الأزرق عنورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب، بين أن يقف بالياء، وبين أن يقف بحذفها. والباب هو كل منقوصمنون غير منصرف. {ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ *عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ * سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيْلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ* لَهُ مُعَقّبَـٰتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ}: مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل علىالرسول آية وكم آية نزلت، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر، وقدرته النافذة، وحكمته البليغة، وأنما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر، فلا يقترحون غيرها، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره اللهتعالى. وقيل: مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها، نبهعلى إحاط علمه، وأن من كان عالماً بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ. وقيل: مناسبة ذلك أنهم لمااستعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة. قال ابن عطية: قصفي هذا المثل المنبه عل قدرة الله القاضية بتجويز البعث، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني:التي لا يعلمها إلا هو، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان. وهذا البدء يبين أنه لايتعذر على القادر عليها الإعادة. والله يعلم: كلام مستأنف مبتدأ وخبر، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون الله خبرمبتدأ محذوف أي: هو الله تعالى، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال: يعلم. ويعلم هنا متعدية إلى واحد، لأنه لا يرادهنا النسبة، إنما المراد تعلق بالمفردات. وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي، والعائد عليها في صلاتها محذوف، ويكون تغيض متعدياً.وأن تكون مصدرية، فيكون تغيض وتزداد لا زمان. وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب. وأن تكون استفهاماً مبتدأ، وتحملخبره ويعلم متعلقه، والجملة في موضع المفعول. وتحمل هنا من حمل البطن، لا من الحمل على الظهر. وفي مصحف أبي:ما تحمل كل أنثى، وما تضع وتحمل على التفسير، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف. قال ابن عباس:تغيض تنقص من الخلقة، وتزداد تتم. وقال مجاهد: غيض الرحم أن ينهرق دماً على الحمل، فيضعف الولد في البطن ويسحب،فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم، انتهىكلام ابن عباس. وقال عكرمة: تغيض بطهور الحيض في الحبل، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع. وقال قتادة: الغيض السقط، والزيادةالبقاء فوق تسعة أشهر. وقال الضحاك: غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة. وعن الضحاكأيضاً: الغيض النقص من تسعة أشهر، والزيادة إلى سنتين. وقيل: من عدد الأولاد، فقد تحمل واحداً، وقد تحمل أكثر. وقالالجمهور: غيض الرحم الدم على الحمل. قال الزمخشري: إن كانت ما موصولة فالمعنى: أن يعلم ما تحمل من الولد علىأي حال هو من ذكورة وأنوثة، وتمام وخدج، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقية. ويعلم ماتغيضه الأرحام تنقصه، وما تزداد أي تأخذه زائداً تقول: أخذت منه حقي وازددت منه كذا، ومنه:

{ وَٱزْدَادُواْ تِسْعًا }

ويقال:زدته فزاد بنفسه وازداد. وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة.ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاماً ومخدجاً، ومنه مدة ولادته فإنهاتكون أقل من تسعة أشهر، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عندمالك. وقيل: إن الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً ومنه الدمفإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية فالمعنى: أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، فلا يخفى عليه شيءمن ذلك من أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها،على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن: الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن يزيدعلى تسعة أشهر. وعنه: الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام، والازدياد ولد التمام انتهى. وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقاً.وبمقدار يقدر، ويطلق المقدار على القدر، وعلى ما يقدر به الشيء. والظاهر عموم قوله: وكل شيء عنده بمقدار، أي: بحدلا يتجاوزه ولا يقتصر عنه. وقال ابن عباس: وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي: بقدر الطاعة والمعصية. وقالالضحاك: من الغيض والازدياد. وقال قتادة: من الرزق والأجل. وقيل: صحة الجنين ومرضه، وموته، وحياته، ورزقه، وأجله. والأحسن حمل هذهالأقوال على التمثيل لا على التخصيص، لأنه لا دليل عليه. والمراد من العندية العلم أي: هو تعالى عالم بكميةكل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات. وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كلحادث بوقته بعينه، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وكانتأشياء جزئية من خفايا علمه، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيبعنهم. وقيل: الغائب المعدوم، والشاهد الموجود. وقيل: الغائب ما غاب عن الحس، والشاهد ما حضر للحس. وقرأ زيد بن علي:عالم الغيب بالنصب، الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عنصفات المحدثين وتعالى عنها. وأثبت ابن كثير وأبو عمر وفي رواية: ياء المتعال وقفاً ووصلاً، وهو الكثير في لسان العرب،وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، لأنها كذلك رسمت في الخط. واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي، وأجاز غيره حذفها مطلقاً.ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين، وإن تعاقب التنوين، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب. ولما ذكر أنهتعالى عالم الغيب والشهادة على العموم، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين، فقال: سواء منكم الآية. والمعنى:سواء في علمه المسر القول، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله. وسواء تقدم الكلام فيه، وفي معانيه، وهوهنا بمعنى مستو، وهو لا يثني في أشهر اللغات. وحكى أبو زيد تثنيته فتقول: هما سواآن. وقيل: هو على حذفأي: سواء منكم سرّ من أسرّ القول، وجهر من جهر به، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر، والمعطوف عليهمبتدأ. ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله: منكم، ومن المعطوف الخبر. وكذا أعرب سيبويه قول العرب: سواء عليهالخير والشر. وقول ابن عطية: إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة، وهو لا يصح. وقال ابن عباس: مستخفمستتر وسارب ظاهر. وقال مجاهد: مستخف بالمعاصي. وتفسير الأخفش وقطرب: المستخفي هنا بالظاهر. وإن كان موجوداً في اللغة ينبو عنهاقترانه بالليل، واقتران السارب بالنهار. وتقابل الوصفان في قوله: ومن هو مستخف، إذ قابل من أسر القول. وفي قوله: سارببالنهار إذ قابل ومن جهر به. والمعنى ـ والله أعلم ـ إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم، لا يعزبعنه شيء من ذلك. وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من، لكنه حذف للعلم به، إذ تقدم قوله: من أسرّ القول ومنجهر به، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين، وأجازه الكوفيون. ويجوز أن يكون: وسارب، معطوفاً على من، لا علىمستخف، فيصح التقسيم. كأنه قيل: سواء شخص هو مستخف بالليل، وشخص هو سارب بالنهار. ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف.وأريد بمن اثنان، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو، وعلى لفظ من في إفراد هو. والمعنى:سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار، وليرى نصرفه في الناس. قال ابنعطية: فهذا قسم واحد، جعل الله نهار راحته. والمعنى: هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب، سواء في اطلاعالله تعالى على الكل. ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر. وتحتمل الآيةأن تتضمن ثلاثة أصناف. فالذي يسر طرف، والذي يجهر طرف مضاد للأول، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر البراءةبالنهار انتهى. وقيل: ومن هو مستخف بالليل بظلمته، يريد إخفاء عمله فيه كما قال: أزورهم وسواد الليل يشفع لي. وقال:

وكم لظلام الليل عندي من يـد    

والظاهر عود الضمير في له على من، كأنه قيل لمن أسرّ، ومن جهر، ومناستخفى، ومن سرب: معقبات. وقال ابن عباس: هو عائد على من قوله: ومن هو مستخف، وكذلك في باقي الضمائر التيفي الآية. قال ابن عطية: والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قال: والآية على هذا في الرؤساءالكافرين. واختار هذا القول الطبري، وهو قول عكرمة وجماعة. وقال الضحاك: هو السلطان المحرس من أمر الله انتهى. وحذف لا،لا في الجواب قسم بعيد. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من الله على ظنه وزعمه. وقيل: الضميرفي له عائد على الله تعالى أي: لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه، والمعقبات على هذا الملائكةالحفظة على العباد وأعمالهم، والحفظة لهم أيضاً. وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي ، وهو قولمجاهد والنخعي. وقيل: الضمير في له عائد على الرسول وإن لم يجر له ذكر قريب، وقدجرى ذكره في قوله:

{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ }

والمعنى: أنّ الله تعالى جعل لنبيه صلى اللهعليه وسلم حفظة من متمردي الجن والإنس. قال أبو زيد: الآية في النبي نزلت في حفظالله له من أربد بن قيس، وعامر بن الطفيل، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق. والقول الأولفي عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر. ويقول: لما تقدم أنّ من أسر القول ومنجهر به، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار، مستوفي علم الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، ذكر أيضاً أنلذلك المذكور معقبات: جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته. ومعقب: وزنه مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقبالآخر، لأن بعضهم يعقب بعضاً، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه. وقال الزمخشري: والأصل معتقبات، فأدغمت التاء في القافكقوله:

{ وَجَاء ٱلْمُعَذّرُونَ }

يعني المعتذرون. ويجوز معقبات بكسر العين، ولم يقرأ به انتهى. وهذا وهم فاحش، لا تدغم التاءفي القاف، ولا القاف في التاء، لا من كلمة ولا من كلمتين. وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغمكل منهما في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يدغم غيرهما فيهما. وأما تشبيهه بقوله: وجاء المعذرون، فلا يتعين أنيكون أصله المعتذرون، وقد تقدم في براءة توجيهه، وأنه لا يتعين ذلك فيه. وأما قوله: ويجوز معقبات بكسر العين، فهذالا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات، فأدغمت التاء في القاف. وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش، والمعقبات جمعمعقبة. وقيل: الهاء في معقبة للمبالغة، فيكون كرجل نسابة. وقيل: جمع معقبة، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى، جمعت باعتباركثرة الجماعات، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري. وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات، وليس الأمر كما ذكر، لأنّ ذلككجمل وجمال وجمالات، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله: ابن عطية. وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أرادبقوله: جمع معقب، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب، وصارمثل الواردة للجماعة الذين يردون، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد، من حيث أنْ يجمع جموع التكسير للعامليجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار. وفي عود الضمير لقوله: العلماء قائلة كذا، وقولهم الرجال وأعضادها، وتشبيه الطبريذلك برجل ورجالات من حيث المعنى، لا من حيث صناعة النحويين، فبين أنّ معقبة من حيث أريد به الجمع كرجالمن حيث وضع للجمع، وأن معقبات من حيث استعمل جمعاً لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال. وقرأ عبيدبن زياد على المنبر له المعاقب، وهي قراءة أبي وإبراهيم. وقال الزمخشري: وقرىء له معاقيب. قال أبو الفتح: هو تكسيرمعقب بسكون العين وكسر القاف، كمطعم ومطاعم، ومقدم ومقاديم، وكان معقباً جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاًمن الهاء المحذوفة في ممعاقبة. وقال الزمخشري: جمع معقب أو معقبة، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير. وقرىءله معتقبات من اعتقب. وقرأ أبي من بين يديه، ورقيب من خلفه. وقرأ ابن عباس: ورقباء من خلفه، وذكر عنهأبو حاتم أنه قرأ معقبات من خلفه، ورقيب من بين يديه. وينبغي حمل هذه القراآت على التفسير، لا أنها قرآنلمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. والظاهر أن قوله تعالى: من أمر الله متعلق بقوله: يحفظونه. قيل: مِن للسببكقولك: كسرته من عرى، ويكون معناها ومعنى الباء سواء، كأنه قيل: يحفظونه بأمر الله وبإذنه، فحفظهم إياه متسبب عن أمرالله لهم بذلك. قال ابن جريج: يحفظون عليه عمله، فحذف المضاف. وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله. وقراءة علي، وابن عباس،وعكرمة، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد: يحفظونه بأمر الله، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا التأويل. قال الزمخشري:يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أي: من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه. وقال ابن عطية، وقتادة: معنى منأمر الله، بأمر الله أي: يحفظونه بما أمر الله، وهذا تحكم في التأويل انتهى. وليس بتحكم وورود من للسبب ثابتمن لسان العرب. وقيل: يحفظونه من بأس الله ونقمته كقولك: حرست زيداً من الأسد، ومعنى ذلك: إذا أذن الله لهمفي دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله تعالى:

{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ }

يصيرمعنى الكلام إلى التضمين أي: يدعون له بالحفظ من نقمات الله رجاء توبته. ومن جعل المعقبات الحرس، وجعلها في رؤساءالكفار فيحفظونه معناه: في زعمه وتوهمه من هلاك الله، ويدعون قضاءه في ظنه، وذلك لجهالته بالله تعالى، أو يكون ذلكعلى معنى التهلك به، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلاً الثبوت في ذلك الوصف، وفي الحقيقة هو منتصف،ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به: لا يحفظونه، فحذف لا. وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة ـكما ذكرنا ـ بيحفظونه، وهي في موضع نصب. وقال الفراء وجماعة: في الكلام تقديم وتأخير أي: له معقبات من أمرالله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. وروي هذا عن مجاهد، والنخعي، وابن جريج، فيكون من أمر الله في موضعرفع لأنه صفة لمرفوع، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي: كائنة من أمر الله تعالى، ولا يحتاج في هذا المعنى إلىتقدير تقديم وتأخير، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر: أحدها: من بين يديه ومن خلفه أي: كائنة من بينيديه. والثانية: يحفظونه أي: حافظات له. والثالثة: كونها من أمر الله، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله:يحفظونه، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين: إحداهما: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثانية: قوله: من أمر الله أي:كائنة من أمر الله. غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور، وذلك شائع فصيح، وكانالوصف بالجملة الدالة على الديمومة، في الحفظ آكد، فلذلك قدم الوصف بها. وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلينعلينا، وفي الكتبة منهم أقوالاً عن المنجمين وأصحاب الطلمسات، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره. ولما ذكرتعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم، وإن كان الصادر منهم خيراًوشراً، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلابكفر تلك النعم، وإهمال أمره بالطاعة، واستبدالها بالمعصية. فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة، وتحذير لو بال المعصية.والظاهر أنْ لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي. قال ابن عطية: وهذا الموضع مؤول، لأنه صحالخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس، ومنه قوله تعالى:

{ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ }

الآية. وسؤالهمللرسول : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة فمعنى الآية: حتى يقعتغيير إما منهم، وإما من الناظر لهم، أو ممن هو منهم تسبب، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم أحد بسببتغيير الرماة ما بأنفسهم، إلى غير هذا في أمثله الشريعة. فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأنيتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير. وثم أيضاً مصائب يزيد الله بها أجر المصاب، فتلك ليست تغييراًانتهى. وفي الحديث: إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب وقيل: هذا يرجع إلى قوله:

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ }

فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي،إلا إن علم الله تعالى أنّ فيهم، أو في عقبهم من يؤمن، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال. وماموصولة صلتها بقوم، وكذا ما بأنفسهم. وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها: إلا بسياق الكلام، واعتقاد محذوف يتبين بهالمعنى، والتقدير: لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى تواليمعصيته. والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب، وغير ذلك من البلاء. ولما كان سياق الكلام فيالانتقام من العصاة اقتصر على قوله: سوء، وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئاً منها فلا مرد له، فذكرالسواء مبالغة في التخويف. وقال السدي: من وال من ملجأ. وقال الزمخشري: ممن يلي أمرهم، ويدفع عنهم. وقيل: من ناصريمنع من عذابه. {هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىء ٱلسَّحَابَ ٱلثّقَالَ وَيُسَبّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلْـٰئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِوَيُرْسِلُ ٱلصَّوٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَـٰدِلُونَ فِى ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ }: لما خوف تعالى العباد بقوله:

{ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ }

أتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرة الله تعالى، وحكمته تشبهالنعم من وجه، والنقم من وجه. وتقدم الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة. قال ابن عباس والحسن: خوفاًمن الصواعق، وطمعاً في الغيث. وقال قتادة: خوفاً للمسافرين من أذى المطر، وطمعاً للمقيم في نفعه. وقريب منه ما ذكرهالزجاج وهو: خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر له، وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به، وذكر الماوردي: خوفاً من العقاب، وطمعاًفي الثواب. وعن ابن عباس وغيره: أنه كنى بالبرق عن الماء، لما كان المطر يقاربه غالباً وذلك من باب إطلاقالشيء مجازاً على ما يقاربه غالباً. قال الحوفي: خوفاً وطمعاً مصدران في موضع الحال من ضمير الخطاب، وجوزه الزمخشري أي:خائفين وطامعين، قال: ومعنى الخوف والطمع، أن وقوع الصواعق يخوف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب:

فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى     يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق

. وقيل: يخاف البرذ المطر من لهمنه ضرر كالمسافر، ومن في جرينته التمر والزبيب، ومن له بيت يكف، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهلمصر انتهى. وقوله الأول في تفسير الخوف والطمع، هو قول ابن عباس والحسن الذي تقدم، وقوله: كأهل مصر، ليس كماذكر، بل ينتفعون بالمطر في كثير من أوقات نمو الزرع، وأنه به ينمو ويجود، بل تمر على الزرع أوقات يتضرروينقص نموه بامتناع المطر. وأجاز الزمخشري أن يكونا منصوبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع، أو علىذا خوف وطمع. وقال أبو البقاء: خوفاً وطمعاً مفعول من أجله. وقال الزمخشري: لا يصح أن يكون مفعولاً لهما، لأنهماليسا بفعل الفاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي: إرادة خوف وطمع، أو على معنى إخافة وإطماعاً انتهى.وإنما لم يكونا على ظاهرهما بفعل الفاعل الفعل المعلل لأن الإرادة فعل الله، والخوف والطمع فعل للمخاطبين، فلم يتحد الفاعلفي الفعل في المصدر. وهذا الذي ذكره الزمخشري من شرط اتحاد الفاعل فيهما ليس مجمعاً عليه، بل من النحويين منلا يشترط ذلك، وهو مذهب ابن خروف. والسحاب اسم جنس يذكر ويؤنث، ويفرد ويجمع، قال: «والنخل باسقات» ولذلك جمع فيقوله: الثقال، ويعني بالماء، وهو جمع ثقيلة. قال مجاهد وقتادة: معناه تحمل الماء، والعرب تصفها بذلك. قال قيس بن أخطم:

فما روضة من رياض القطا     كأن المصابيح جودانها بأحسن منها ولا مزنة

والدلوج المثقلة، والظاهر إسناد التسبيح إلى الرعد. فإن كان يصح منه التسبيح فهو إسنادحقيقي، وإن كان مما لا يصح منه فهو إسناد مجازي. وتنكيره في قوله:

{ فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }

ينفي أنيكون علماً لملك. وقال ابن الأنباري: الإخبار بالصوت عن التسبيح مجاز كما يقول القائل: قد غمني كلامك. وقال الزمخشري: ويسبحسامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له، أي: يضجون بسبحان الله والحمد لله. وفي الحديث: سبحان من يسبح الرعد بحمده وعن علي: سبحان من سبحت له إذا اشتد الرعد قال رسول الله : اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ومن بدع المتصوفة: الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم انتهى. وقالابن عطية: وقيل في الرعد أنه ريح يختنق بين السحاب، روى ذلك عن ابن عباس. وهذا عندي لا يصح لأنّهذا نزغات الطبيعيين وغيرهم من الملاحدة. وقال أبو عبد الله الرازي: إعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثارالعلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره، وكذا القول في الرياح، وفي سائر الآثارالعلوية. وهذا عين ما قلناه أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارةهو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فكيف بالعاقل الإنكار؟ انتهى. وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهجالشريعة، وذلك لا يكون أبداً، وقد تقدم أقوال المفسرين في الرعد في البقرة، فلم يجمعوا على أنّ اسم لملك. وعلىتقدير أن يكون اسماً لملك، لا يلزم أن يكون ذلك الملك يدبر لا للسحاب ولا غيره، إذ لا يستفاد مثلهذا إلا من النبي المشهود له بالعصمة، لا من الفلاسفة الضلال. والظاهر عود الضمير في قوله:من خيفته، على الله تعالى كما عاد في قوله: بحمده. ومعنى خيفته: من هيبته وإجلاله. وقيل: يعود على الرعد. والملائكةأعوانه جعل الله له ذلك فهم خائفون خاضعون طائعون له. والرعد وإن كان مندرجاً تحت لفظ الملائكة، فهو تعميم بعدتخصيص انتهى. وهو قول ضعيف. ومن مفعول فيصيب، وهو من باب الإعمال، أعمل فيه الثاني إذ يرسل يطلب من وفيصيبيطلبه، ولو أعمل الأول لكان التركيب: ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء، لكن جاء على الكثير في لسان العربالمختار عند البصريين وهو إعمال الثاني. ومفعول يشاء محذوف تقديره: من يشاء إصابته. وفي الخبر أنّ الرسول صلى الله عليهوسلم بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال: أخبرني عن إله محمد؟ أمن لؤلؤ هو أم من ذهب؟ فنزلت عليهصاعقة ونزلت الآية فيه. وقال مجاهد: ناظر يهودي الرسول ، فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحفرأسه، فنزلت الآية فيه. وقال ابن جريج: سبب نزولها لها قصة أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل، وذكر قصتهما المشهورة،مضمونها أن عامراً توعد الرسول إذا لم يجبه إلى ما طلب، وأنه وأربداً ما الفتك به،فعصمه الله تعالى، وأصاب عامراً بغدّة فمات غريباً، وأريد بصاعقة فقتلته، ولأخيه لبيد فيه عدة مرات. منها قوله:

أخشى على أربد الحتوف ولا     أرهب نوء السماك والأسد فجعني البريق والصواعق بالفا

وهذه الضلالات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة، والتصرف التام فيالعالم العلوي والسفلي، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه، وأن يعتقد ما هو عليه من الصفات العلوية، والضمير فيوهم يجادلون، عائد على الكفار المكذبين للرسول ، المنكرين الآيات، يجادلون في قدرة الله على البعث وإعادةالخلق بقولهم:

{ مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ }

وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والانداد. ونسبة التوالد إليه بقولهم: الملائكة بنات اللهتعالى والمعنى: أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف، ومع ذلك رتبوا عليها غير مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى،وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به الأنبياء. وقيل: وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي: فيصيب بها من يشاء فيحال جدالهم كما جرى لليهودي. وكذلك الجبار، ولا ربد. وهو شديد المحال، جملة حالية من الجلالة. وقرأ الجمهور: المحال بكسرالميم. فعن ابن عباس: المحال العداوة، وعنه الحقد. وعن عليّ: الأخذ، وعن مجاهد: القوة. وعن قطرب: الغضب. وعن الحسن: الهلاكبالمحل، وهو القحط. وقرأ الضحاك والأعرج: المحال بفتح الميم. فعن ابن عباس: الحول. وعن عبيدة: الحيلة. يقال: المحال والمحالة وهيالحيلة، ومنه قول العرب في مثل: المرء يعجز لا المحالة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى شديد العقاب، ويكون مثلاًفي القوة والقدرة، كما جاء: فساعد الله أشد، وموساه أحدّ، لأنّ الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتاً بشدّة القوة والاضطلاعبما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر، وذلك أنّ الفقار عمود الظهر وقوامسه. والضمير في له عائدعلى الله تعالى، ودعوة الحق قال ابن عباس: دعوة الحق لا إله إلا الله، وما كان من الشريعة في معناها.وقال علي بن أبي طالب، دعوة الحق التوحيد. وقال الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: دعوة الحقدعاؤه عند الخوف، فإنه لا يدعي فيه إلا هو، كما قال:

{ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ }

قال الماوردي: وهوأشبه بسياق الآية. وقيل: دعوة الطلب الحق أي: مرجو الإجابة، ودعاء غير الله لا يجاب، وقال الزمخشري: فيه وجهان. أحدهما:أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قوله: «كلمة الحق» للدلالة على أنّالدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل، والمعنى: أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤله إنكانت مصلحة له، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلافما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه. والثاني: أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعوالحق الذي يسمع فيجيب. وعن الحسن رحمه الله: الحق هو الله تعالى، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى. وهذا الوجهالثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر، لأنّ مآله إلى تقدير: لله دعوة لله، كما تقول: لزيد دعوة زيد، وهذا التركيبلا يصح. والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله: ولدار الآخرة على أحد الوجهين، والتقدير:لله الدعوة الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة، والمعنى: أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق. ولما ذكر تعالىجدال الكفار في الله تعالى، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي: من يدعوله فدعوته هي الحق، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء. فقال:

{ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ }

. قال الزمخشري: والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابةباسط كفيه أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه، يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيهولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه. وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيعإجابتهم، ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهماناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى. فالضمير في يدعون عائد على الكفار، والعائدعلى الذين محذوف أي: يدعونهم. ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر. وقيل: الذينأي: الكفار الذين يدعون، ومفعول يدعون محذوف أي: يدعون الأصنام. والعائد على الذين الواو في يدعون، والواو في لا يستجيبونعائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف، وعلى القول الأول على الذين. قال ابن عباس: كالناظر إلى خياله فيالماء يريد تناوله، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه. وقال الضحاك: كمن بسط يديه إلى الماءليص إليه بلا اغتراف. وقال أبو عبيدة: أي كالقابض على الماء ليس على شيء، قال: والعرب تضرب المثل في الساعيفيما لا يدركه بالقابض على الماء، وأنشد سيبويه:

فأصبحت فيما كان بيني وبينها     من الود مثل القابض الماء في اليد

وقال آخر:

وإني وإياكم وشوقاً إليكم     كقابض ماء لم تسعه أنامله

. وقيل: شبهالكفار في دعائهم لأصنامهم عند ضرورتهم برجل عطشان لا يقدر على الماء، جلس على شفير بئر يدعو الماء ليبل غلته،فلا هو يبلغ قعر البئر إلى الماء، ولا الماء يرتفع إليه لأنه جماد ولا يحس بعطشه ودعائه، كذلك ما يدعوالكفار من الأوثان جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم انتهى. والكاف في موضع نصب أي:مثل استجابة، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط، وهي إضافة المصدر إلى المفعول. وفاعل المصدر محذوف تقديره: كإجابة الماء منيبسط كفيه إليه، فلما حذف أظهر في قوله: إلى الماء، ولو كان ملفوظاً به لعاد الضمير إليه، فكان يكون التركيبكفيه إليه. هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري في هذا التشبيه، وتبعه أبو البقاء. وقال ابن عطية: ومعنى الكلام الذييدعونهم الكفار إلى حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون، ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط كفيه إلى الماء ويشير إليه بالإقبال،فهو لا يبلغ فمه أبداً، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع انتهى. وفاعل ليبلغ ضمير الماء، وليبلغ متعلق بباسط،وما هو أي: وما الماء يبالغه، أي: يبالغ الفم. ويجوز أن يكون هو ضمير الفم، والهاء في ببالغه للماء أي:وما الفم ببالغ الماء، لأنّ كلاًّ منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالة. وقرىء: كباسط كفيه بتنوين باسط. وما دعاءالكافرين إلا في ضلال أي: في حيرة، أو في اضمحلال، لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد، فقد ضل ذلك الدعاءعنهم كما ضل المدعون. قال تعالى:

{ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قالوا ضلوا }

قالوا ضلوا. قال الزمخشري:إلا في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم نستطع إجابتهم. وقال ابنعباس: أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاؤهم. {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَـٰلُهُمبِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ * قُلْ مَن رَّبُّ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْنَفْعًا وَلاَ ضَرّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلاْعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ }: إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد، فمن عمومها ينقاد كلهمإلى ما أراده تعالى بهم شاؤوا أو أبوا، وتنقاد له تعالى ظلالهم حيث هي على مشيئته من الامتداد والتقلص، والفيءوالزوال، وإن كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة: وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع، فيكون عاماً مخصوصاً إذيخرج منه من لا يسجد، ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة والمؤمنين، وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلىالإسلام كما قاله قتادة: فيسجد كرهاً وإما نفاقاً، أو يكون الكره أول حاله، فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد.وقيل: طوعاً لا يثقل عليه السجود، وكرهاً يثقل عليه، لأنّ إلزام التكاليف مشقة. وقيل: من طالت مدة إسلامه، فألف السجود.وكرهاً من بدا بالإسلام إلى أن يألف السجود قاله ابن الأنباري. وقيل: هو عام على تقدير كون السجود عبارة عنالهيئة المخصوصة، وذلك بأن يكون يسجد صيغته صيغة الخبر، ومدلولة أثراً. أو يكون معناه: يجب أن يسجد له كل منفي السموات والأرض، فعبر عن الوجوب بالوقوع. والذي يظهر أنّ مساق هذه الآية إنما هو أنّ العالم كله مقهور للهتعالى، خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته، لا يكون منه إلا ما قدر تعالى. فالذين تعبدونهم كائناً ما كانواداخلون تحت القهر، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود. والظلال ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة، ولكنهاداخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها على ما أراد، إذ هي من العالم. فالعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قالتعالى:

{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظِلَـٰلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ }

وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف، وأضعف منه قول ابن الأنباري: إنه تعالى جعل للظلال عقولاً تسجدبها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهاماً حتى خاطبت وخوطبت، لأنّ الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة،وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به، وإنما معنى سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب كما أراد تعالى.وقال الفراء: الظل مصدر يعني في الأصل، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وطوله بسبب انحطاط الشمس، وقصره بسببارتفاعها، فهو منقاد لله تعالى في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب. وخص هذان الوقتان بالذكر لأنّ الظلال إنماتعظم وتكثر فيهما، وتقدم شرح الغدوّ والآصال في آخر الأعراف. روي أن الكافر إذا سجد لصنمه كان ظله يسجد للهحينئذ. وقرأ أبو مجلز: والإيصال. قال ابن جني: هو مصدر أصل أي: دخل في الأصيل كما تقول: أصبح أيدخل في الاصباح. ولما كان السؤال عن أمر واضح لا يمكن أن يدفع منه أحد، كان جوابه من السائل. فكانالسبق إليه أفصح في الاحتجاج إليهم وأسرع في قطعهم في انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقعتالمبادرة إليه، كما قال تعالى:

{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ *ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ قُلِ ٱللَّهُ }

ويبعد ما قال مكي من أنهمجهلوا الجواب فطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، لأنه قال تعالى:

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }

فإذا كانوا مقرين بأنّ منشىء السموات والأرض ومخترعها هو الله، فكيف يقال: بأنهم جهلوا الجواب فطلبوه من السائل؟وقال الزمخشري: قل الله حكاية لاعتراقهم تأكيد له عليهم، لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض؟ لم يكن لهمبد من أن يقولوا: الله، كقوله

{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ ٱللَّهِ }

وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ فإذا قال: هذا قولي، قال: هذا قولك، فيحكي إقراره تقريراً عليه واستئنافاً منه،ثم يقول له: فيلزمك على هذا القولكيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً أي: إن كفوا عن الجواب فلقنهم، فإنهم يتلقنونهولا يقدرونن أن ينكروه. وقال الكرماني: قل يا محمد للكفار من رب السموات والأرض؟ استفهام تقرير واستنطاق بأنهم يقولون الله،فإذا قالوها قل: الله، أي هو كما قلتم. وقيل: فإن جابوك وإلا قل: الله، إذ لا جواب غير هذا انتهى.وهو تلخيص القولين اللذين قالهما الزمخشري. وقال البغوي: روي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت، فأمرهالله فقال: قل الله انتهى. واستفهم بقوله: قل أفاتخذتم؟ على سبيل التوبيخ والإنكار، أي: بعد أن علمتم أنه تعالى هورب السموات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبباً للتوحيد من علمكم وإقراركم سبباًللإشراك، ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لا نفسها نفعاً ولا ضراً، ومن بهذه المثابة فكيفيملك لهم نفعاً أو ضراً؟ ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن، ثم حالة الكفر والإيمان، وأبرز ذلك في صورة الاستفهامللذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله: قل هل يستوي الأعمى والبصير؟ ثم انتقل إلىالاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو: الظلمات، وبالمؤمن وهو النور. وتقدم الكلام في جمع الظلمات وإفراد النور في سورة البقرة.وقرأ الأخوان وأبو بكر: أم هل يستوي بالياء، والجمهور بالتاء، أم في قوله: أم، هل منقطعة تتقدر ببل؟ والهمزةعلى المختار، والتقدير: بل أهل تستوي؟ وهل وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قولالشاعر:أهل رأونا بوادي القفر ذي الاكم وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأنّ تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، وهلبعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الإسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله:

{ أمَّنْ يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلاْبْصَـٰرَ }

ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة، لأن أم تتضمنها، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزةلذلك. وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها:

هل ما علمت وما استودعت مكتوم     أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم أم هل كبير بكى لم يقض عبرته

ثم انتقلمن خطابهم إلى الإخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم، وتنبيهاً على توبيخهم في جعل شركاء لله، وتعجيباً منهم، وإنكاراً عليهم. وتضمنهذا الاستفهام التهكم بهم، لأنه معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام وما اتخذوها من دون الله أولياء، وجعلوهم شركاء لا تقدرعلى خلق ذرة، ولا إيجاد شيء البتة، والمعنى: أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئاً حت يستحقوا العبادة، وجعلهم شركاء للهأي: جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله، فتشابه ذلك عليهم، فيعبدونهم. ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقونفكيف يشركون في العبادة؟

{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }

ثم أمره تعالى فقال: قل الله خالق كل شيء أي:موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرها، وهم أيضاً مقرون بذلك،

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }

واحتملأن يكون قوله: وهو الواحد القهار، داخلاً تحت الأمر بقل، فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى هو الواحد المفردبالألوهية، القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره. واحتمل أن يكون استئناف إخبار فيه يقال بهذين الوصفين: الوحدانية، والقهر. فهوتعالى لا يغالب، وما سواه مقهور مربوب له عز وجل. {أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُزَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى ٱلنَّارِ ٱبْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ }: قال الزمخشري: هذا مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطلوحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير، والظلمات والنور، مثلاً لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أوديةللناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لميكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً يثبت الماء فيمنافعه، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبهالباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذاأذيب. وقال ابن عطية: صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى، وإقامة الحجة على الكفرة به، فلما فرغ ذكرذلك جعله مثالاً للحق والباطل، والإيمان والكفر، والشك في الشرع واليقين به انتهى. وقيل: هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن،والقلوب، والحق، والباطل. فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب، ومعنى بقدرها علىسعة القلوب وضيقها، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه، ومنها دون ذلك بطبقة،ومنها دونه بطبقات. والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله، ودفعهم إياه بالباطل. والماء الصافي المنتفع به مثلالحق انتهى. وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله : مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثلما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به وقال ابن عطية: وروي عن ابن عباس أنهقال: قوله تعالى أنزل من السماء ماء، يريد به الشرع والدين، فسالت أودية يريد القلوب، أي: أخذ النبيل بحظه، والبليدبحظه، وهذا قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزاليوأهل تلك الطريق، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب. وإنصح هذا القول عن ابن عباس، فإنما قصد أن قوله تعالى: {كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ }، معناه: الحق الذييتقرر في القلوب، والباطل الذي يعتريها أيضاً انتهى. والماء المطر. ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة، فتسيلبعض الأودية دون بعض. ومعنى بقدرها أي: على قدر صغرها وكبرها، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطورعليهم لا ضررهم. ألا ترى إلى قوله: وأما ما ينفع الناس، فالمطر مثل للحق، فهو نافع خال من الضرر.وقرأ الجمهور: بقدرها بفتح الدال. وقرأ الأشهب العقيلي، وزيد بن علي، وأبو عمرو في رواية: بسكونها. وقال الحوفي: بقدرها متعلقبسالت. وقال أبو البقاء: بقدرها صلة لا ودية، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل، والذي يتضمنه الفعلمن المصدر هو نكرة، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة، ولذلك تضمن إذا عادما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شراً له أي: كان الكذب شراً له، ولو جاء هنامضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت. واحتمل بمعنى حمل، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر. ورابياًمنتفخاً عالياً على وجه السبيل، ومنه الربوة. ومما توقدون عليه أي: ومن الأشياء الت توقدون عليها وهي الذهب، والفضة، والحديد،والنحاس، والرصاص، والقصدير، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن محيصن، ومجاهد، وطلحة، ويحيـى، وأهل الكوفة:يوقدون بالياء على الغيبة، أي يوقد الناس. وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة: بالتاء على الخطاب وعليه متعلقبتوقدون وفي النار. قال أبو علي، والحوفي: متعلق بتقدون. وقال أبو علي: قد يوقد على كل شيء وليس في الناركقوله:

{ فَأَوْقِدْ لِى يٰهَـٰمَـٰنُ يٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطّينِ }

فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه، وليس في النار، لكن يصيبهلهبها. وقال مكي وغيره: في النار متعلق بمحذوف تقديره: كائناً، أو ثابتاً. ومنعوا تعليقه بقوله: توقدون، لأنهم زعموا أنه لايوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى. ولو قلنا:إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، لجاز أن يكون متعلقاً بتوقدون، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كماقالوا في قوله: يطير بجناحيه، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه. وقال الحوفي:هو مصدر في موضع الحال أي: مبتغين حلية، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدونعليه. والحلية ما يعملللنساء مما يتزين به من الذهب والفضة، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوامالعيش كالأواني، والمساحي، وآلات الحرب، وقطاعات الأشجار، والسكك، وغير ذلك. وزبد مرفوع بالابتداء، وخبره في قوله: ومما توقدون. ومِن الظاهرأنها للتبعيض، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن. وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء الغايةأي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار، والحق والباطل على حذف مضاف أي:مثل الحق والباطل. شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها، وشبه الباطل بالزبدوالمجتمع من الخبث والأقذار، ولا بقاء له ولا قيمة. وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد، فبدأ بالزبدإذ هو المتأخر في قوله: زبداً رابياً، وفي قوله: زبد مثله، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر، وهي طريقة فصيحةيبدأ في التقسيم بما ذكر آخراً كقوله:

{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ }

والبداءة بالسابق فصيحةمثل قوله:

{ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ }

{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ٱلنَّارِ }

وكأنه ـ والله أعلم ـ يبدأ في التفصيلبما هو أهم في الذكر. وانتصب جفاء على الحال أي: مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له. والزبد يرادبه ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن، وإن تقدم زبدانلاشتراكهما في مطلق الزبدية، فهما واحد باعتبار القدر المشترك. وقرأ رؤبة: جفالاً باللام بدل الهمزة من قولهم: جفلت الريح السحابإذا حملته وفرقته. وعن أبي حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفار بمعنى: أنه كان أعرابياً جافياً. وعنأبي حاتم أيضاً: لا تعتبر قراءة الإعراب في القرآن. وأما ما ينفع الناس أي: من الماء الخالص من الغناء ومنالجوهر المعدني الخالص من الخبث أي: مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل. يضرب الله الأمثال، والظاهر أنه لما ضرب هذاالمثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب، وأهل الباطل من العقاب، فقال: للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي:الذين دعاهم الله على لسان رسوله فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى،وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمة الله، ودخول الجنة في الآخرة. فالحسنى مبتدأ، وخبره في قوله:للذين. والذين لم يستجيبوا مبتدأ، خبره ما بعده. وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناءوالاهتمام، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي: لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم. ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله الأمثال، ويبتدئون للذين.وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي السني مبتدأ، وللذين خبره، وفسر ابن عطية وفهم السلف. قال ابن عباس: جزاء الحسنى وهيلا إله إلا الله. وقال مجاهد: الحياة الحسنى ما في الطيبة. وقيل: الجنة لأنها في نهاية الحسنى. وقيل: المكافأة أضعافاً.وعلق الزمخشري للذين بقوله يضرب فقال: للذين استجابوا متعلقة بيضرب أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذينلم يستجيبوا أي: هما مثلاً الفريقين. والحسنى صفة لمصدر استجابوا أي: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقولهم: لو أن لهم كلام مبتدأ،ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى. والتفسير الأول أولى، لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قدضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما، ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبينمن العقاب، ذكر ما للمستجيبين من الثواب. ولأنّ تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة، ومقابلتها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنمامقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً. ولأنه على قوله يكون قوله: لو أن لهم ما فيالأرض جميعاً، كلاماً مفلتاً مما قبله، أو كالمفلت، إذ يصير المعنى: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين. لو أن لهمما في الأرض، فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت، وأيضاً فيوهم الاشتراك في الضمير، وإن كانتخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم. وأيضاً فقد جاء هذا التركيب، وتقدم تفسير مثل قوله: لو أن لهم ما في الأرضجميعاً ومثله معه لافتدوا به، وسوء الحساب قال ابن عباس: أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم. وقال النخعي: وشهدووفرقران يحاسب على ذنوبه كلها، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء. وقال أبو الجوزاء: المناقشة. وقيل: للتوبيخعند الحساب والتقريع، وتقدم تفسير مثل {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ }.

{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } * { ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ } * { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } * { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } * { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } * { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } * { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ } * { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ } * { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } * { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } * { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } * { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } * { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } * { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآُخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ } * { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ } * { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } * { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } * { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } * { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ } * { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } عدل

القارعة: الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي: تضربه بشدة، كالقتل، والأسر، والنهب، وكشفالحريم. وقال الشاعر:

فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه     ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

أي ضربنا بقوة.وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم. المحو الإزالة محوت الخط أذهبت أثره ومحا المطر رسم الدارأذهبه وأزاله ويقال في مضارعه يمحو ويمحي لأن عينه حرف حلق والإثبات ضد المحو. {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَمِن رَبّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ ٱلْمِيثَـٰقَ وَٱلَّذِينَيَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَوَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيّئَةَ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ جَنَّـٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْءابَائِهِمْ وَأَزْوٰجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }: قال ابن عباس:نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقيل: في عمار بن ياسر وأبيجهل. قرأ زيد بن علي: أو من بالواو بدل الفاء، إنما أنزل مبنياً للفاعل. ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر،وذكر ما للمؤمن من الثواب، وما للكافرين من العقاب، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال: أفمن يعلم أنماأنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي: ليسا مشتبهين، لأنّ العالم بالشيء بصير به، والجاهل به كالأعمى، والمرادأعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم. والهمزة للاستفهام المراد به: إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حالمن علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب، كبعد ما بينالزبد والماء، والخبث والإبريز. ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول. والفاء للعطف، وقدمت همزة الاستفهاملأنه صدر الكلام والتقدير: فأمن يعلم، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل،كما قدره الزمخشري في قوله:

{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ }

وقوله:

{ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }

وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أولو، أو صفة له، وصفة لمن من قوله: أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله:

{ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ }

ثم قال:

{ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ }

والظاهر عموم العهد. وقيل: هو خاص، فقال السدي: ماعهد إليهم في القرآن. وقال قتادة: في الأول، وهو قوله:

{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }

وقال القفال: ما في حيلتهموعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات. وقيل: في الكتب المتقدمة والقرآن. وقيل: المأخوذ على ألسنة الرسل. وقيل: الإيمان بالله وملائكته وكتبهورسله واليوم الآخر، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي: بما عهد الله. والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيدبه لقوله: يوفون بعهد الله، لأن العهد هو الميثاق، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه. وقال الزمخشري: وعهد الله ماعقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ولا ينقضون الميثاق، ولا ينقضون كل ماوثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيصانتهى. فأضاف العهد إلى المفعول، وغاير بين الجملتين بكونن الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى. إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبينالله وبين العباد. وقال ابن عطية: بعهد الله اسم الجنس أي: بجميع عهود الله، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بهاعبيده. ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: ولا ينقضون الميثاق. أي: إذا اعتقدوا في طاعةالله عهداً لم ينقضوه. قال قتادة: وتقدم وعيد الله إلى عبادة في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية،ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى. وقال ابنالعربي: من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر، ومرور الناسعليه، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال، ولم ير من أخرجه، وهتفبه هاتف: كيف رأيت ثمرة التوكل؟ قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام، فاقتدوا به. وقدأنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال. وذكرأنّ سفيان الثوري وغيره قالوا: إن إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار. ولا ينكر أن يكون اللهتعالى لطف بأبي حمزة الجاهل. وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به فيكتابه وعلى لسان نبيه . وقال الحسن: المراد به صلة الرسول بالإيمان به،وقال نحوه ابن جبير. وقال قتادة: الرحم. وقيل: صلة الإيمان بالعمل. وقيل: صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام، وعيادة المرضى، وشهودالجنائز، ومراعاة حق الجيران، والرفقاء، والأصحاب، والخدم. وقيل: نصرة المؤمنين. وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به، والأول محذوفتقديره: ما أمرهم الله به. وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي: بوصله. ويخشون ربهم أي: وعيده كله.ويخافون سوء الحساب أي: استقصاء فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل: يخشون ربهم يعظمونه. وقيل: في قطع الرحم. وقيل: فيجميع المعاصي. وقيل: فيما أمرهم بوصله. وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال، وميثاق التكليف. وجاءت الصلةهنا بلفظ الماضي، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون، والذين يصلون، وما عطف عليهما على سبيل التفننفي الفصاحة، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط، فكذلك فيما أشبهه، ولذلك قال النحويون:إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي، وأن يراد به الاستقبال. فمن المراد بهالمضي في الصلاة

{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ }

ومن المراد به الاستقبال

{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ }

. ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً، وهذه الصلةقصد بها تقدمها على تينك الصلتين، وما عطف عليهما، لأنّ حصول تلك الصلاة إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمهعليها، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم. وانتصبابتغاء قيل: على أنه مصدر في موضع الحال، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي: إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه اللهخالصاً، لا لرجاء أن يقال: ما أصبره، ولا مخافة أن يعاب بالجزع، أو تشمت به الأعداء، كما قال:

وتجلدي للشامتين أريهم     أني لريب الدهر لا أتضعضع

ولأنّ الجزع لا طائل تحته، أو يعلم أنه لامرد لما فات ولا لما وقع. والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي: الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسناتلتقع عليها المثوبة، كما تقول: خرج زيد لوجه كذا. ونبه على هاتين الخصلتين: العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ هما عمودالدين، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال. ونبه على حالتي الإنفاق، فالسر أفضل حالات إنفاقالتطوع كما جاء في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها والعلانيةأفضل حالات إنفاق الفروض، لأنّ الإظهار فيها أفضل. وقال الزمخشري: مما رزقناهم من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً، ولايسند إلى الله انتهى. وهذا على طريق المعتزلة. وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة. قال ابن عباس: صبروا علىأمر الله. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب. وقال ابن زيد: صبروا علىالطاعة وعن المعصية، ويدرؤون يدفعون. قال ابن زيد: الشر بالخير. وقال قتادة: ردوا عليهم معروفاً كقوله:

{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }

وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وقال القتبي: إذا سفه عليهم حلموا، وقالابن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. وقال ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب،وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه. وقيل: يدفعون بلا إله إلا الله شركهم. وقيل: بالسلام غوائل الناس.وقيل: من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن. وقيل: بالصالح من العمل السيـىء، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذاًقال: أوصني يا رسول الله فقال: {إِذَا عَمِلَتْ سَيّئَةٌ فَٱعْمَلْ إِلَىٰ } السر بالسرّ والعلانية بالعلانية. وقيلالعذاب: بالصدقة. وقيل: إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا. وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز. وبالجملة لا يكافئون الشربالشر كما قال الشاعر:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة     ومن إساءة أهل السوء إحساناً

وهذا بخلاف خلق الجاهليةكما قال:

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم    

. وروي أنّ هذه الآية نزلت فيالأنصار، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات. وعقبي الدار: عاقبة الدنيا، وهي الجنة، لأنها التيأراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها. وجنات عدن بدل من عقبى الدار، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرةلدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف. وقرأ الجمهور: جنات،والنخعي: جنة بالإفراد. وروي عن ابن كثير، وأبي عمرو: يدخلونها مبنياً للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلة: ومن صلح بضم اللام،والجمهور بفتحها، وهو أفصح. وقرأ عيسى الثقفي: وذريتهم بالتوحيد، والجمهور بالجمع. وقرأ ابن يعمر: فنعم بفتح النون وكسر العين وهيالأصل، كما قال الراجز:

نعـم الساعون في اليـوم الشطـر    

وقرأ ابن وثاب: فنعم بفتح النون وسكون العين، وتخفيف فعللغة تميميمة، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين، وهي أكثر استعمالاً. قال مجاهد وغيره: ومن صلح أي عمل صالحاً وآمنانتهى. وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع، إنما تنفع الأعمال الصالحة. وقيل: يحتمل قوله: ومن صلحأي: لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه. قال ابن عباس: هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول ،وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة. والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول.وقيل: يجوز أن يكون مفعولاً معه أي: يدخلونها مع من صلح. ويشتمل قوله: من آبائهم، أبوي كل واحد والده ووالدته،وغلب الذكور على الإناث، فكأنه قيل: ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي: بالتحف والهدايامن الله تعالى تكرمة لهم. قال أبو بكر الورّاق: هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة، من عملها دخلهامن أي باب شاء. قال الأصم: نحو هذا قال: من كل باب باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الصبر. ولأبي عبدالله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر: أن الملائكة طوائف منهم روحانيون، ومنهم كروبيون، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضاتكالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص، فعند الموتإذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة، فيفيض عليهامن ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلافي مقام الشكر، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى. وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب، ولا جاءت به الأنبياء، فهوكلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون. قال ابن عطية: وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطولبها لضعف أسانيدها انتهى. وارتفع سلام على الابتداء، وعليكم الخبر، والجملة محكية بقول محذوف أي: يقولون سلام عليكم. والظاهرأن قوله تعالى: سلام عليكم تحية الملائكة لهم، ويكون قوله تعالى: بما صبرتم، خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الثواب بسببصبركم في الدنيا على المشاق، أو تكون الباء بمعنى بدل أي: بدل صبركم أي: بدل ما احتملتم من مشاق الصبر،هذه الملاذ والنعم. وقيل: سلام جمع سلامة أي: إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا. وقالالزمخشري: ويجوز أن يتعلق بسلام أي: يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم، والمخصوص بالمدح محذوف أي: فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم،والدار: تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة. وقالت فرقة: المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم. قال ابن عطية: وهذا التأويل مبني علىحديث ورد وهو: أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله تعالى عنه إلىالنعيم فيعرض عليه ويقال له: «هذا مكان مقعدك، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك» انتهى. ولما كان الصبر هوالذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر، ولم يأت التركيب بالإيفاءبالعهد، ولا بغير ذلك. {فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِأَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلاْرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ }: قال مقاتل نزلت: والذين ينقضون في أهل الكتاب. وقال ابن عباس: نزلتالله يبسط في مشركي مكة، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة، ذكر حال الأشقياءوما ترتب لهم من الأمور المخزية. وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله بهأن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة، وإكرام الملائكة لهم بالسلام، وذلك غايةالقرب والتأنيس. وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله. وسوء الدار أي: الدار السوء وهي النار، وسوء عاقبة الدار، وتكوندار الدنيا. ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمنيشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق. قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه. ويقدرمقابل يبسط، وهو التضييق من قوله:

{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }

وعليه يحمل

{ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ }

وقولذلك الذي أحرق وذري في البحر: {لَئِنْ قُدِرَ ٱللَّهُ عَلَىَّ } أي لئن ضيق. وقيل: يقدر يعطي بقدر الكفاية.وقرأ زيد بن علي: ويقدر بضم الدال، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون، وهو استئناف إخبار عنجهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوهبالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي. ويبعدقول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات. والذين ينقضون أي: يفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا. وفي الكلام تقديموتأخير. ومتاع: معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى. كما قال الشاعر:

تمتع يا مشعث إن شيئا     سبقت به الممات هو المتاع

وقال آخر:

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى     غير أن لا بقاء للإنسان

وقال آخر:

تمتع من الدنيا فإنك فان     من النشوات والنسأ الحسان

قال الزمخشري: خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نذراً، يتمتع بهكعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى. وهذا مني قول الحسن: أعلم اللهنبيه أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع بهكعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك. وقال ابن عباس: زاد كزاد الرعي. وقالمجاهد: قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال. {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِءايَةٌ مّن رَّبّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }: نزلت: ويقول الذين كفروا، في مشركيمكة، طلبوا مثل آيات الأنبياء. والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، رد تعالى على مقترحي الآيات منكفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفاً. وقولهم: سير علينا الأخشبين، واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً كالأردن، وأحي لنا مضينا وأسلافنا،ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لايقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال الزممشري: (فإن قلت): كيفيطابق قولهم: لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء؟ (قلت): هو كلام يجري مجرى التعجبمن قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله لم يؤتها نبي قبله، وكفىبالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجبوالاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء، فمن كان علىصفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية، ويهدي إليه من كان علىخلاف صفتكم. وقال أبو علي الجبائي: يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره، ويهدي إليه من أنابأي: إلى جنته من أناب أي: من تاب. والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل علىأنه يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الدين بالكفر، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى. وهي على طريقة الاعتزال.والضمير في إليه عائد على القرآن، أو على الرسول . والظاهر أنه عائد على الله تعالىعلى حذف مضاف أي: إلى دينه وشرعه. وأناب أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في توبة الخير. والذين آمنوا: بدل منأناب. واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته. وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلقالشبه. أو تطمئن بالقرآن، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه. ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصلالطمأنينة ترغيباً في الإيمان، والمعنى: أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كماسلف في بعض الأمم. وجوزوا في الذين أن يكون بدلاً من الذين، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي: قلوبالذين، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده. وطوبى: فعل من الطيب،قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر، واختلفوا في مدلولها: فقال أبو الحسن الهنائي: هي جمع طيبةقالوا في جمع كيسة كوسى، وصيفة صوفى. وفعلى ليست من ألفاظ الجموع، فلعله يعني بها اسم جمع. وقال الجمهور: هيمفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى، واختلف القائلون بهذا في معناها. فقال الضحاك: المعنى غبطة لهم. وعنه أيضاً: أصبت خيراً. وقالعكرمة: نعمى لهم. وقال ابن عباس: فرح وقرة عين. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال النخعي: خير لهم، وعنه أيضاً كرامةلهم. وعن سميط بن عجلان: دوام الخير. وهذه أقوال متقاربة، والمعنى العيش الطيب لهم. وعن ابن عباس، وابن جبير: طوبىاسم للجنة بالحبشية. وقيل: بلغة الهند. وقال أبو هريرة، وابن عباس أيضاً، ومعتب بن سمي، وعبيد بن عمير، ووهب بنمنبه: هي شجرة في الجنة. وروي مرفوعاً إلى رسول الله من حديث عتبة بن عبيد السلميأنه قال. وقد سأله أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى وذكر الحديث. قالالقرطبي: الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي.وطوبى: مبتدأ، وخبره لهم. فإن كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء، وإن كانت نكرة فمسوع الابتداءبها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك، إلا أنه التزم فيه الرفع علىالابتداء، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال: ابن مالك. ويرده أنه قرىء: وحسن مآب بالنصب، قرأه كذلك عيسى الثقفي، وخرجذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى، وأنها في موضع نصب، وحسن مآب معطوف عليها. قال ثعلب: وطوبى على هذامصدر كما قالوا: سقيا. وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال: بتقدير يا طوبى لهم، ويا حسن مآب. فحسن معطوف علىالمنادى المضاف في هذه القراءة، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال: يا أسفي على الفوت والندبة انتهى. ويعني بقوله: معطوفعلى المنادى المضاف، أنّ طوبى مضاف للضمير، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله: يا بؤس للجهل ضراراً الأقوام، وقول الآخر:يا بؤس للحرب التي، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل: يا طوباهم وحسن مآب أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم،كما تقول: يا طيبها ليلة أي: ما أطيبها ليلة. وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء، لتسلم الياء من القلب، وإنكان وزنها فعلي، كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنها فعلاً كحمر. وقال الزمخشري: أصبت خيراً وطيباً، ومحلهاالنصب أو الرفع كقولك: طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلام لك، والقراءة في قوله: وحسن مآب بالرفع والنصب بذلكعلى محلها، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك. وقرىء: وحسن مآب بفتح النون، ورفع مآب. فحسن فعل ماضأصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذاأدباً. {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ قُلْهُوَ رَبّى لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }: قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل: لما رأوا كتاب الصلحيوم الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة، فنزلت. وقيل: سمعأبو جهل الرسول يقول: يا رحمن، فقال: إن محمداً ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهينفنزلت. ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري، وعن ابن عباس: لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن فنزلت.قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني: أرسلناك آرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى. ولم يتقدم إرسال يشارإليه بذلك، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك. وقال الحسن: كإرسالنا الرسل أرسلناك، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل.وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله:

{ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }

كما أنفذالله هذا كذلك أرسلناك. وقال ابن عطية: والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ الله يضل من يشاءويهدي بالآيات المقترحة، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي، لا بالآيات المقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي منيشاء انتهى. وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسهمن أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أبو البقاء: كذلك التقدير الأمر كذلك. قد خلت من قبلها أممأي: تقدمتها أمم كثيرة، والمعنى: أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك. ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أنّالإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن، ولتتلو أي: لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك. وعلة الإرسال هي الإبلاغللدين الذي أتى به الرسول وهم يكفرون أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي:أرسلناك في أمة رحمة لها معنى وهم، يكفرون بي أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة. والظاهر أنّ الضميرفي قوله: وهم، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهيتكفر، والمعنى: أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر، فهدى الله بك من أراد هدايته. وقيل: يعود على الذين قالوا:

{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ }

وقيل: يعود على أمة وعلى أمم، والمعنى: الإخبار بأنّ الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل،وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به. قل: هو أي الرحمن الذي كفروا به هوربي الواحد المتعال عن الشركاء، عليه توكلت في نصرتي عليكم، وجميع أموري، وإليه مرجعي، فيثبتني على مجاهدتكم. {وَلَوْ أَنَّقُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ ٱلاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلاْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ }: قال ابنعباس ومجاهد وغيرهما: إن الكفار قالوا للنبي : سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضاًقطعاً غراساً، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا، وفلاناً وفلاناً، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله. ولما ذكر تعالىعلة إرساله، وهي تلاوة ما أوحاه إليه، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها،أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية فيالتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. كما قال:

{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ }

الآية فجواب لو محذوف وهو ماقدرناه، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى:

{ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ }

{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ }

وقال الشاعر:

وجدك لو شيء أتانا رسوله     سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا

وقيل: تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى:

{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ }

قال الزجاج. وقال الفراء: هو متعلق بما قبله، والمعنى: وهم يكفرون بالرحمن. ولو أنقرآناً سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض، وعلى قول الفراء: يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا، لأنّ قولهم وهميكفرون بالرحمن ليس جواباً، وإنما هو دليل على الجواب. وقيل: معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً. ويترتب علىأن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله: بل لله الأمر جميعاً أي: الإيمان والكفر، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما. وأماعلى تقدير لكان هذا القرآن، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر: لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهموما تضمنه من التكاليف، ثم قال: بل لله الأمر جميعاً أي: الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء. وقال الزمخشري:بل لله الأمر جميعاً على معنيين: أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلاأن علمه بأن إظهارها مفسدة. والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء. لولا أنه بنى أمرالتكليف على الاختيار، ويعضده قوله تعالى: أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميعانتهى. وهو على طريقة الاعتزال. واليأس القنوط في الشيء، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم، كأنه قيل: ألم يعلمالذين آمنوا. قال القاسم بن معن هي: لغة هوازن، وقال ابن الكلبي: هي لغة من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيمبن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي:

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني     ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم

وقالرباح بن عدي:

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه     وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

وقال آخر:

حتى اذا يئس الرماة وارسلوا     غضفا دواجن قافلا أعصامها

إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا. وأنكر الفراءأن يكون يئس بمعنى علم، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول: يئست بمعنى علمت انتهى. وقد حفظ ذلكغيره، وهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم نقل أنها لغة هوزان، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي منالنخع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأنّ اليائس من الشيءعالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك. وحمل جماعة هنا اليأس على المعروففيه في اللغة وهو: القنوط من الشيء، وتأولوا ذلك. فقال الكسائي: المعنى أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكفار منقريش المعاندين لله ورسوله؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم اللهتعالى منهم أنهم لا يؤمنون، فقال الذين آمنوا من إيمانهم. وقال الفراء: وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعاًفقال: أفلم ييأسوا؟ علمنا بقول آبائهم، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام: يئست منك أن لا تفلح كأنه قال: علمتهعلماً قال: فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل. وقال أبو العباس: أفلم ييأسوابعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون: أن لو يشاء الله متعلقاً بآمنوا أي: أفلم يقنطعن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة. وقال ابنعطية:ةّويحتمل أن يكونن اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: ولو أن قرآناً الآيةعلى التأويل في المحذوف المقدر. قال في هذه: أفلم ييأس المؤمنون انتهى. وهذا قول الفراء الذي ذكرناه، وقال الزمخشري: ويجوزأن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاءالله لهدى الناس جميعاً انتهى. وهذا قول أبي العباس، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه، وهو أن الكلام تامعند قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا، إذ هو تقرير أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين. وأنْ لو يشاءجواب قسم محذوف أي: وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لوكقول الشاعر:

أما والله أن لو كنت حرا     وما بالحر أنت ولا القمين

وقولالآخر:

فاقسم أن لو التقينا وأنتم     لكان لنا يوم من الشر مظلم

وقد ذكر سيبويه أنّأن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففةمن الثقيلة أي: أنه لو يشاء الله. وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره، وعكرمة،وابن أبي مليكة، والجحدري، وعلي بن الحسين، وابنه زيد، وأبو زيد المزني، وعلي بن نديمة، وعبد الله بن يزيد: أفلميتبين من بينت كذا إذا عرفته. وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم، كما تظافرت النقولأنها لغة لبعض العرب. وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: أفلم ييأس، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هيقراءة مسندة إلى الرسول ، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة، وهذا كقراءة: {فَتَبَيَّنُواْ} و {فتثبتوا} وكلتاهما في السبعة. وأما قول من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، فسوى أسنان السين فقول زنديقملحد. وقال الزمخشري: وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا منخلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دينالله المهتمين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه واللهفرية ما فيها مرية انتهى. وقال الفراء: لا يتلى إلا كما أنزل: أفلم ييأس انتهى. والكفار عام في جميعالكفار، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله: الحسن، وابن السائب، أو هو ظاهر اللفظ. وقال ابن عطية: كفارقريش، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله وغزواته. وقال مقاتل والزمخشري: كفار مكة.قال الزمخشري: تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت منصنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها، وتتعدى إليهم شرورهاحتى يأتي وعد الله وهو موتهم، أو القيامة انتهى. وقال الحسن: حال الكفرة هكذا هو أبداً، ووعد الله قيام الساعة.والظاهر أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن. وقالت فرقة: التاء للخطاب، والضمير للرسول ،أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حلّ بالحديبية، وعزاه الطبري إلى: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقالهعكرمة. ويكون وعد الله فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك، وقاله ابن عباس ومجاهد. وقرأ مجاهد، وابن جبير: أويحل بالياء على الغيبة، واحتمل أن يكون عائداً على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء، أو تكونالهاء في قارعة للمبالغة، فذكر واحتمل أن يكون عائداً على الرسول أي: ويحل الرسول قريباً. وقرأأيضاً من ديارهم على الجمع. وقال ابن عباس: القارعة العذاب من السماء. وقال عكرمة: السرايا والطلائع. وفي قوله: ولقد استهزىءالآية، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل، وأنّ المستهزئين يملى لهم أي: يمهلون ثميؤخذون. وتنبيه على أنّ حال من استهزأ بك، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم. وفي قوله: فكيف كانعقاب استفهام معناه التعجب بما حل، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول من الكفار. {أَفَمَنْ هُوَقَائِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى ٱلاْرْضِ أَم بِظَـٰهِرٍمّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ }: من موصولة صلتها ما بعدها، وهي مبتدأوالخبر محذوف تقديره: كمن ييئس، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، كما حذف من قوله:

{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ }

تقديره: كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة. ودل عليه قوله تعالى: وجعلوالله شركاء، كما دل على القاسي

{ فَوَيْلٌ لّلْقَـٰسِيَةِ قُلُوبُهُمْ }

ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف،وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى:

{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }

{ أَفَمَن يَعْلَمُ }

ثم قال:

{ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ }

. والظاهر أنّ قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم، وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلحللألوهية. نعى عليهم هذا الفعل القبيح، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها. ونبه على بعض حالاتها وهوالكسب، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر، وما يترتب على الكسب في الجزاء، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التيلا يغفل عنها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي: وجعلوا، وتمثيله: أفمنهو بهذه الصفة لم يوحدوه، وجعلوا له شركاء، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده انتهى. وفي هذا التوجيه إقامة الظاهرمقام المضمر في قوله: وجعلوا لله أي: وجعلوا له، وفيه حذف الخبر عن المقابل، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلاً.وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال: الشديد صاحب العقد، الواو في قوله تعالى: وجعلوا واو الحال، والتقدير: أفمن هوقائم على كل نفس بما كسبت موجود، والحال أنهم جعلوا له شركاء، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديراًلألوهيته وتصريحاً بها، كما تقول: معطي الناس ومغنيهم موجود، ويحرم مثلي انتهى. وقال ابن عطية: أفمن هو قائم على كلنفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع؟ هذا تأويل. ويظهر أنّ القول مرتبط بقوله: وجعلوالله شركاء، كأنّ المعنى: أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك، هل ينتقم ويعاقب أم لا؟ وأبعد من ذهب إلىأنّ قوله: أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم، حكاه القرطبي عن الضحاك. والخبر أيضاً محذوف تقديره: كغيرهمن المخلوقين. وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن قوله: وجعلوا معطوفاً على استهزىء، أي: استهزؤوا وجعلوا، ثم أمره تعالى أنيقول لهم: سمرهم أي: اذكروهم بأسمائهم، والمعنى: أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضرّ، وهذامثل من يذكر لك أن شخصاً يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره: سمه حتى أبين لك زيفهوأنه ليس كما تذكر. وقريب من هذا قول من قال في قوله: قل سموهم، إنما يقال ذلك في الشيء السمتحقرالذي يبلغ في الحقارة إلى أنْ لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال له: سمه إن شئت أي:هو أخس من أن يذكر ويسمى. ولكن إن شئت أن تضع له اسماً فافعل، فكأنه قال: سموهم بالآلهة على جهةالتهديد. والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها.وقيل: سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة. وقيل: طالبوهم بالحجة على أنها آلهة. وقيل: صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلۤهية؟وقال الزمخشري: جعلتم له شركاء فسموهم له من هم، وبينوهم بأسمائهم. وقيل: هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شربالخمر: سم الخمر بعد هذا. وأم في قوله: أم تنبؤونه منقطعة، وهو استفهام توبيخ. قال الزمخشري: بل أتنبؤونه بشركاء لايعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم على أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمرادنفي أن يكون له شركاء، ونحوه:

{ قُلْ أتنبؤون الله بما لا يعلم فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَلاَ فِى ٱلاْرْضِ }

انتهى. فجعلالفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائداً على الله. والعائد على بما محذوف أي: بما لا يعلمه الله. وكنا قدخرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائد على ما، وقررنا ذلك هناك، وهو يتقرر هنا أيضاً.أي: أتنبؤون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة. وذكر نفي العلم في الأرض، إذ الأرض هي مقر تلكالأصنام، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه، فانتفاؤه في السموات أحرى. وقرأ الحسن: تنبؤونه من أنبأ. وقيل: المرادتقدرون أنْ تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة، لأنهمادَّعوا أنَّ لله شريكاً في الأرض لا في غيرها. والظاهر في أم في قوله: أم، بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي:بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير ن يكون لذلك حقيقة أي: أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولاحقيقة لها، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله:

{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا }

وقال مجاهد: أم بظاهر من القول. وقال قتادة: بباطل من القول، لا باطن له في الحقيقة. ومنه قولالشاعر:

أعيرتنا ألبانها ولحومها     وذلك عار يابن ريطة ظاهر

أي باطل. وقيل: أم متصلة، والتقدير: أم تنبئونه بظاهرمن القول لا حقيقة له كقوله:

{ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوٰهِهِمْ }

ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما همعليه: بل زين للذين كفروا مكرهم. وقال الواحدي: لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال: دع ذلك الدليل لأنهم لاينتفعون به، لأنه زيّن لهم مكرهم. وقرأ مجاهد: بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب. والجمهور: زين على النباء للمفعولمكرهم بالرفع أي: كيدهم للإسلام بشركهم، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع. وقرأ الكوفيون: وصدّوا هنا، وفي غافر بضمالصاد مبنياً للمفعول، فالفعل متعد. وقرأ باقي السبعة: بفتحها، فاحتمل التعدّي واللزوم أي: صدوا أنفسهم أو غيرهم. وقرأ ابن وثاب:وصدوا بكسر الصاد، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء. وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر وصدوا بالكسر لغة، وفي الضم أجراهبحرف الجر نحو قبل، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق: وصد بالتنوين عطفاً على مكرهم.قال الزمخشري: ومن يضلل الله، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي، فما له من هاد فما له من واحد يقدرعلى هدايته انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلةوالحروب والبلايا في أجسامهم، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار. وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس، لأنه إحراق بالنار دائماً

{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا }

ومن واق: من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم، ولما ذكر ما أعد للكفارفي الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال: {مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَاتِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَـٰفِرِينَ ٱلنَّارُ }: مثل الجنة أي: صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفع مثل علىالابتداء في مذهب سيبويه، والخبر محذوف أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل. تقول:مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى:

{ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلاعْلَىٰ }

أي الصفةالعليا، وأنكر أبو عليّ أن يكون مثل بمعنى صفة قال: إنما معناه التنبيه. وقال الفراء: أي صفتها أنها تجري منتحتها الأنهار، ونحو هذا موجود في كلام العرب انتهى. ولا يمكن حذف أنَّها، وإنما فسر المعنى ولم يذكر الإعراب. وتأولقوم على القرآن مثل مقحم، وأنّ التقدير: الجنة التي وعد المتقون تجري، وإقحام الأسماء لا يجوز. وحكوا عن الفراء أنّالعرب تقحم كثيراً المثل والمثل، وخرج على ذلك:

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء }

أي: كهو شيء. فقال غيرهما: الخبر تجري، كماتقول: صفة زيد اسمر، وهذا أيضاً لا يصح أن يكون تجري خبراً عن الصفة، وإنما يتأول تجري على إسقاط أنْورفع الفعل، والتقدير: أنْ تجري خبر ثان الأنهار. وقال الزجاج: معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلاً لماغاب عنا بما نشاهد انتهى. وقال أبو علي: لا يصح ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنىالشبه، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصّفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث، والجنةجنة فلا تكون المماثلة. وقرأ علي وابن مسعود: مثال الجنة على الجمع أي: صفاتها. وفي اللوامح على السلمى أمثال الجنةجمع، ومعناه: صفات الجنة. وذلك لأنها صفات مختلفة، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال. والأكل ما يؤكل فيها، ومعنى دوامه: أنهلا ينقطع أبداً، كما قال تعالى:

{ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ }

وقال إبراهيم التيمي: أي لذاته دائمة لا تزاد بجوعولا تمل من شبع. وظلها أي: دائم البقاء والراحة، لا تنسخه شمس، ولا يميل لبرد كما في الدنيا. أي: تلكالجنة عاقبة الذين اتقوا أي: اجتنبوا الشرك. {وَٱلَّذِينَ اتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلاْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُقُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلا }: نزلت في مؤمني أهل الكتابين، ذكره الماوردي، واختاره الزمخشري فقال: من أسلممن اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعون من نجران، وثمانية مناليمنن، وإثنان وثلاثون من الحبشة. ومن الأحزاب يعني: ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليهوسلم بالعداوة نحو: كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما، من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيصوبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام، ونعت رسول الله صلىالله عليه وسلم مما حرفوه وبدلوه انتهى. وعن ابن عباس، وابن زيد: في مؤمني اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه،وعن قتادة في أصحاب الرسول ، مدحهم الله تعالى بأنهم يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين.وعن مجاهد، والحسن، وقتادة: أن المراد بأهل الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن، إذ فيه تصديق كتبهم، وثناء علىأنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما السلام. وضعف هذا القول بأنّ همهم به أكثر من فرحهم،فلا يعتد بفرحهم. وأيضاً فإنّ اليهود والنصارى ينكرون بعضه، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب.والأحزاب قال مجاهد: هم اليهود، والنصارى، والمجوس. وقالت فرقة: هم أحزاب الجاهلية من العرب. وقال مقاتل: الأحزاب بنو أمية، وبنوالمغيرة، وآل أبي طلحة. ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة الله ونفي الشريك، أمر بجواب المنكرين، فقيل له: قلإنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، فإنكاركم لبعض القرآن الذي أنزل لعبادة الله وتوحيده، وأنتم تدعون وجوب العبادةونفي الشريك إليه، أدعوا إلى شرعه ودينه، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي في الدنيا والآخرة. وقرأأبو جليد عن نافع: ولا أشرك بالرفع على القطع أي: وأنا لا أشرك به. وجوز أن يكون حالاً أي: أنْأعبد الله غير مشرك به. وكذلك أي: مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك، لأن قوله: والذين آتيناهم الكتاب، يتضمن إنزالهالكتاب، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب، كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه:

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ }

وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. وقال ابن عطية: وقوله وكذلك المعنى: كمايسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك أنزلناه حكماً عربياً انتهى. وانتصب حكماً على الحال من ضمير النصب في أنزلناه،والضمير عائد على القرآن، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني. ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها. ولئن اتبعت:الخطاب لغير الرسول ، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم. وقال الزمخشري: هذا من باب الإلهاب والتهييج والبعثللسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه. أن لا يزال زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله من شدة الشكيمة بمكان. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً وَمَا كَانَلِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِـئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ لِكُلّ }: قال الكلبي: عيرت اليهود الرسول وقالوا: ماترى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فنزلت هذه الآية.قيل: وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ، فرد الله تعالى عليهم بأنّ الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية، وماكان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم، ولا يأتون بما يقترح عليهم. ومن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقتحكم يكتب فيه على العباد أي: يفرض عليهم ما يريده تعالى. وقوله: لكل أجل كتاب، لفظ عام في الأشياء التيلها آجال، لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته، وذلك الأجل مكتوب محصور. وقال الضحاك والفراء:المعنى لكل كتاب أجل، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكسولا قلب بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها،لا أجل لها. والظاهر أنّ المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام، والإثبات عبارة عن دوامها وتقريرها وبقائها أي: يمحوما يشاء محوه، ويثبت ما يشاء إثباته. وقيل: هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، ونسب هذا إلى: عمر، وابنمسعود، وأبي وائل، والضحاك، وابن جريج، وكعب الأحبار، والكلبي. وروي عن عمر، وابن مسعود، وأبي وائل في دعائهم ما معناه:أنْ يتأول على أن المعنى: إنْ كنت أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة. ومعلوم أنّ الشقاء والسعادة والرزق والخلق والأجل لايتغير شيء منها. وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال، فإنه لا محوفيها. وقال الحسن وفرقة: هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر. وقيل: في ليلة نصف شعبان آجال الموتى، فتمحىناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات. وقال قيس بن عباد: في العاشر من رجب يمحو الله ما يشاءويثبت. وقال ابن عباس: والضحاك: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل،ويثبت غيره. وقيل: يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي، وسائرالحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها. وقال الزمخشري: يمحو الله ما يشاء، ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت به له ما يرىالمصلحة في اتباعه، أو يتركه غير منسوخ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى. وهو وقول: قتادة، وابن جبير، وابنزيد قالوا: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه. وقال مجاهد: يحكم اللهأمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة. وقال الكلبي: يمحو من الرزقويزيد فيه. وقال ابن جبير أيضاً: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفر. وقال عكرمة: يمحويعني بالتوبة جميع الذنوب، ويثبت بدل الذنوب حسنات. قال تعالى:

{ إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ }

وقيل: ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسى. وقال الحسن: يمحو الله ما يشاء أجله، ويثبت من يأتيأجله. وقال السدي: يمحو الله يعني القمر، ويثبت يعني الشمس بيانه

{ فَمَحَوْنَا ءايَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً }

الآية.وقال ابن عباس: إنّ لله لوحاً محفوظاً وذكر وصفه في كتاب التحبير، ثم قال: لله تعالى فيه في كليوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وقال الربيع: هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النومإذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه، بيانه قوله تعالى:

{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلاْنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا }

الآية. وقال علي بن أبي طالب: يمحو الله ما يشاء من القرون لقوله:

{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ ٱلْقُرُونِ }

ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى:

{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ }

فيمحو قرناً ويثبت قرناً. وقالابن عباس: يمحو يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه. وقيل: يمحو الدنيا ويثبتالآخرة. وفي الحديث عن أبي الدرداء: أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وقال الغزنوي: ما في اللوح المحفوظ خرج عنالغيب لإحاطة بعض الملائكة، فيحتمل التبديل وإحاطته الخلق بجميع علم الله تعالى، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لايبدل انتهى. وقيل: غير ذلك مما يطول نقله. وقد استدلت الرافضة بقوله: يمحو الله ما يشاء ويثبت، على أنّ البدءجائز على الله تعالى، وهو أنْ يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر خلاف ما اعتقده، وهذا باطل لأنّ علمهتعالى من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلاتالمتقدمة، فليست نصاً فيما ادعوه، ولو كانت نصاً وجب تأويله. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: ويثبت مخففاً منأثبت، وباقي السبعة مثقلاً من ثبت. وأما قوله «ام الكتاب » فقال ابن عباس ام الكتاب الذكره وقال ايضا وهوكعب هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون. وقالت فرقة: الحلال والحرام، وهو قول الحسن. وقال الزمخشري: أصل كلكتاب وهو اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه انتهى. وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب، أمّا كقولهم: أمالرأس للدماغ، وأم القرى مكة. وقال ابن عطية: وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قدسبق في القضاء أن تبدل وتمحى، أو تثبت. وقال نحوه قتادة: إنّ جواب الشرط الأول محذوف، وكلام ابن عطية فيما ونون التوكيد. وقال الزمخشري: وإما نرينك، وكيفما دات الرحال أريناك مصارعهم، وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، أو نتوفينكقبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجلبعذابهم انتهى. وقال الحوفي وغيره: فإنما عليك البلاغ جواب الشرط، والذي تقدم شرطان، لأنّ المعطوف على الشرط شرط. فأما كونهجواباً للشرط الأول فليس بظاهر، لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنماعليك البلاغ. وأما كونه جواباً للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك، لأنه يصير التقدير: إنّ ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ،ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته عليه السلام، لأنّ التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو: أن يتقدرلكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه. وذلك أن يكون التقدير ـ والله أعلم ـ وأنّ مانرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك، ودليل على صدقك، إذا أخبرت بما يحل بهم. ولميعين زمان حلوله بهم، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك، واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أي: أوأن نتوفينك قبل حلوله بهم، فلا لوم عليك ولا عتب، إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به علىلسانك من عذابهم، فإنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم. إذ ذاك راجع إليّ، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك، وكفرهمبما جئت به. {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى ٱلاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَسَرِيعُ ٱلْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّـٰرُ لِمَنْ عُقْبَىٱلدَّارِ وَيَقُولُ }: الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا، وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ، نبهوا علىأنْ ينظروا بعض الأرض من أطرافها. ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله: {فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَـٰنَهُمْ }والأرض أرض الكفار المذكورين، ويعني بنقصهامن أطرافها للمسلمين: من جوانبها. كان المسلمون يغزون من حوالى أرض الكفار مما يلي المدينة، ويغلبون على جوانب أرض مكة،والأطراف: الجوانب. وقيل: الطرف من كل شيء خياره، ومنه قول علي بن أبي طالب: العلوم أودية، في أي واد أخذتمنها خسرت، فخذوا من كل شيء طرفاً يعني: خياراً قاله ابن عطية، والذي يظهر أن معنى طرفاً جانباً وبعضاً، كأنهأشار إلى أنّ الإنسان يكون مشاركاً في أطراف من العلوم، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها، ولم يشر إلى أنه يستغرقزمانه في علم واحد. وقال ابن عباس والضحاك: نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك، فتنقصها بما يدخل في دينك منالقبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم. وهذا التفسير لا يتأتى إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة.وقيل: الأرض اسم جنس، والانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً، ومجاهد،وعنهما أيضاً: الانتقاص هو بموت البشر، وهلاك الثمرات، ونقص البركة. وعن ابن عباس أيضاً: موت أشرافها وكبرائها، وذهاب الصلحاء والأخيار،فعلى هذا الأطراف هنا الأشراف. وقال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم. وعن عطاء بنن أبي رباح: ذهاب فقهائها وخيارأهلها. وعن مجاهد: موت الفقهاء والعلماء. وقال عكرمة والشعبي: هو نقص الأنفس. وقيل: هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش،وهلاك أرضهم بعدهم. والمناسب من هذه الأقوال هو الأول. ولم يذكر الزمخشري إلا ما هو قريب منه قال: نأتي الأرضأرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين من بلادهم، فينقص دار الحرب، ويزيد في دار الإسلام، وذلك منآيات الغلبة والنصرة. ونحوه:

{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى ٱلاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ }

{ سَنُرِيهِمْ ءايَـٰتِنَا فِى ٱلاْفَاقِ }

والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه، ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره،فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر.ويتجه قول من قال: النقص بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره: أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراباًبعد عماره، وموتاً بعد حياة، ذلا بعد عز، ونقصاً بعد كمال، وهذه تغييرات مدركة بالحس. فما الذي يؤمنهم أن يقلبالله الأمر عليهم ويصيرون دليلين بعد أن كانوا قاهرين. وقرأ الضحاك: ننقصها مثقلاً، من نقص عداه بالتضعيف من نقصاللازم، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يعقبه أي: بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: والمعقب الذي يكرعلى الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يعقبه أي: بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب. قاللبيد:

طلب المعقب حقــه المظلـوم    

والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس. وقيل: تتعقب أحكامه أي: ينظرفي أعقابها أمصيبة هي أم لا، والجملة من قوله: لا معقب لحكمه في موضع الحال أي: نافذ حكمه، وهو سريعالحساب تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلتقريش، وأنّ ذلك عادة المكذبين للرسل، مكر بابراهيم نمروذ، وبموسى فرعون، وبعيسى اليهود، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضافالمكر كله تعالى. ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم، سماها مكراً إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } ثم فسر قوله فللَّه المكر، بقوله: يعلم ما تكسب كل نفس، والمعنى: يجازي كل نفس بماكسبت. ثم هدد الكافر بقوله: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه، فحينئذيعلم لمن هي العاقبة المحمودة. وقرأ جناح بن حبيش: وسيعلم الكافر مبنياً للمعفول من أعلم أي: وسيخبر. وقرأ الحرميان،وأبو عمرو: الكافر على الإفراد والمراد به الجنس، وباقي السبعة الكفار جمع تكسير، وابن مسعود: الكافرون جمع سلامة وأبي الذينكفروا، وفسر عطاء الكافر بالمستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس: يريد بالكافر أبا جهل. وينبغي أنيحمل تفسيره عطاء على التمثيل، لأنّ الإخبار بعلم الكافر لمن عقبى الدار معنى يعم جميع الكفار، ولما قال الكفار: لستمرسلاً أي: إنما أنت مدع ما ليس لك، أمره تعالى أن يكتفي بشهادة الله تعالى بينهم، إذ قد أظهر علىيديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق، ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب.والكتاب هنا القرآن، والمعنى: إنّ من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك.وقيل: الكتاب التوراة والإنجيل، والذي عنده علم الكتاب: من أسلم من علمائهم، لأنهم يشهدون نعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم.قال قتادة، كعبد الله بن سلام، وتميم الداري، وسلمان الفارسي. وقال مجاهد: يريد عبد الله بن سلام خاصة. وهذان القولانلا يستقيمان إلا على أن تكون الآية مدنية، والجمهور على أنها مكية. وقال محمد بن الحنفية، والباقر: هو علي بنأبي طالب. وقيل: جبريل، والكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو الله تعالى قاله: الحسن، وابن جبير والزجاج، وعن الحسن: لا واللهما يعني إلا الله، والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم.قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف، وذلك لا يجوز، وإنما تعطف الصفات بعضها علىبعض انتهى. وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف، لأنّ من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولاتإلا بالذي والتي وفروعهما، وذو وذوات الطائيتين. وقوله: وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه، بل له شرطوهو أن تختلف مدلولاتها. ويعني ابن عطية: لا تقول مررت بزيد. والعالم فتعطف، والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظمنه معنى صفة، وكذلك الله علم. ولما شعر بهذا الاعتراض من جعله معطوفاً على الله قدر قوله: بالذي يستحق العبادة،حتى يكون من عطف الصفات بعضها على بعض، لا من عطف الصفة على الاسم. ومن في قراءة الجمهور في موضعخفض عطفاً على لفظ الله، أو في موضع رفع عطفاً على موضع الله، إذ هو في مذهب من جعل الباءزائدة فاعل بكفى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولاً ونحوهذا مما يدل عليه لفظة شهيداً، ويراد بذلك الله تعالى. وقرىء: وبمن بدخول الباء على من عطفاً على بالله. وقرأعلي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمرو بنأبي إسحاق، ومجاهد، والحكم، والأعمش: ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر، وجر ما بعده به، وارتفاع علم بالابتداء،والجار والمجرو في موضع الجر. وقرأ علي أيضاً وابن السميقع، والحسن بخلاف عنه. ومن عنده بجعل من حرف جر علمالكتاب، بجعل علم فعلاً مبنياً للمفعول، والكتاب رفع به. وقرىء ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشدداً مبنياً للمفعول، والضميرفي عنده في هذه القراآت الثلاث عائد على الله تعالى. وقال الزمخشري في القراءة التي وقع فيها عنده صلة برتفعالعلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعملعلى الفعل كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه انتهى. وهذا الذيقاله الزمخشري ليس على وجه التحتم، لأنّ الظرف والجار والمجرور إذا وقعا صلتين أو حالين أو خبرين، إما في الأصل،وإما في الناسخ، أو تقدمهما أداة نفي، أو استفهام، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهوالأجود، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ، والظرف أو الجار والمجرور في مضوع رفع خبره، والجملة من المبتدأ والخبر صلةأو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل. فكما جاز ذلك في اسم الفاعل، وإن كان الأحسنإعماله في الاسم الظاهر، فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور. وقد نص سيبويه على إجازة ذلكفي نحو: مررت برجل حسن وجهه، فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم، وهكذا تلقفنا هذه المسألةعن الشيوخ. وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكرناه يتحتم إعماله فيالظاهر، وليس كذلك. وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأ وخبراً في صلة من. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونخبراً يعني عنده، والمبتدأ علم الكتاب انتهى. ومن قرأ: ومن عنده، على أنه حرف جر فالكتاب في قراءته هو القرآن،والمعنى: أنه تعالى من جهة فضله وإحسانه علم الكتاب، أو علم الكتاب على القراءتين، أي: علمت معانيه وكونه أعظم المعجزاتالباقي على مر الأعصار، فتشريف العبد بعلوم القرآن إنما ذلك من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه على كونه معجزاً، وتوفيقهلإدراك ذلك.