حرب في الكنائس/الفصل الثاني: الاعتراض على الأيقونات والنهي عنها وإخراجها من الكنائس ٧٢٦ - ٧٥٤


الفصل الثاني
الاعتراض على الأيقونات والنهي عنها وإخراجها من الكنائس
٧٢٦ - ٧٥٤

خلع يوستنيانوس الثاني: واستنزفت حروب هذا الفسيلفس كل ما في الخزينة. وبرغم هذا ظل يوستنيانوس الثاني يحذو حذو سميه يوستنيانوس الكبير فأراد أن يقوم هو أيضاً بإنشاءات تخلد اسمه، فاغتصب الأموال وصادر الأملاك فجر على نفسه كراهية الطبقات الشعبية بعد أن نفر الأشراف والكنيسة ورجال الجيش. وبعد الذي أصيب به من مس في الحرب العربية بدأ يقتل ضباطه ويحبسهم. فتجرأ عليه لاونديوس القائد الأعلى (٦٩٥) وجدع أنفه ونفاه إلى الخرسون. وسلَّم وزيري يوستنيانوس إلى الجماهير فطافوا بهما وأحرقوهما.

واندلعت نيران الثورة في الحجاز والعراق وغيرهما، فاستطاع الروم أن يستعيدوا ما كان لهم من نفوذ وسلطة في إفريقية. ثم أعاد المسلمون الكرة عليها في صيف السنة ٦٩٨ فدخلوها آمنين. ونجا القسم الأكبر من جيش إفريقية ودبروا مؤامرة لخلع لاونديوس ونادوا بطيباريوس عبسيمروس ورونغاريوس الأسطول فسيلفساً. فاستولوا على القسطنطينية. وجدع طيباريوس الثالث هذا أنف لاونديوس وحبسه في أحد الاديرة (٦٩٨ – ٧٠٥). ووفق طيباريوس في صد المسلمين واسترد مناطق الحدود الجنوبية وغزا سورية الشمالية. ولكن الأهالي والجيش كانوا قد أصبحوا لا يخضعون لأحد. وباتت أدنى هزة كافية لقلب عرش الروم.

وفر يوستنيانوس الثاني من منفاه واستعان بتربيل ملك البلغار فعاد إلى العرش في السنة ٧٠٥. وكان قد عول ألا يفعل شيئاً إلا أن يثأر لأنفه المبتور. فقطع رأسي لاونديوس وطيباريوس وسمل عيني البطريرك ووضع كثيرين من الوجهاء في أكياس وأغرقهم في البوسفور. وفي السنة ٧١١ ثار فيليبيكوس البرداني فقتل يوستنيانوس وابنه. ولكنه لم يكن سوى رجل لهو ولذة فقضى وقته (۷۱۱-۷۱۳) منصرفاً إلى المتع. وكان من أصحاب المشيئة الواحدة فعزل البطريرك كيروس وأقام يوحنا السادس بطريركاً محله. ثم اتفق قائدان فعزلا فيليبيتكوس. وأقام الشعب رئيس كتاب القصر فسيلفساً باسم أنسطاسيوس الثاني. فضبط زمام الملك وعزل البطريرك يوحنا السادس وأقام جرمانوس عوضه. ولكن في السنة ٧١٦ تمرد الجند وأعلنوا خلعه ونادورا بثيودوسيوس الثالث فسيلفساً.

لاوون الثالث والأمويون: (۷۱۷ - ٧٤٠) وكان البلغاريون والمسلمون في أثناء هذا كله يغزون ولايات الحدود كل من صوبه. وكانت غزواتهم تزداد حدة وتوغلاً. ولكن الروم أنجبوا لاوون الأسوري رجل الساعة. فتبوأ العرش برضى ثيودوسيوس الثالث وموافقة البطريرك ومجلس الشيوخ. وكان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي (٧١٥-۷۱۷) يحسب أنه هو المقصود بالحديث القائل أن خليفة يحمل اسم نبي سيفتح القسطنطينية. فجيش جيشاً عظيماً بقيادة مسلمة وأعد أسطولاً كبيراً عقد لواءه لوزيره سليمان. فقام مسلمة من طرسوس إلى الدردنيل والتقى في أبيدوس بسليمان وعمارته. وقطع المسلمون الدردنيل وزحفوا على القسطنطينية براً. وقامت عمارتهم بالعمل نفسه من البحر. واعتمد مسلمة على تجويع المدينة ولكن لاوون كان قد حسب لهذا المحذور. أما مسلمة فإنه لم يحسب الحساب لشتاء قارس. وجاء شتاء السنة ٧١٧-٧١٨ بثلج دام ثلاثة أشهر. فمات عدد كبير من جنود مسلمة بالبرد وداء الزحار. ثم جاء البلغاريون من الوراء فقتلوا من المسلمين عشرين ألفاً. وتسللت سفن النار الرومية إلى مرسى الأسطول المصري فأحرقته. فتراجع مسلمة بعد أن فقد معظم جيشه. وتعرض الباقي من عمارته لعاصفة في بحر إيجه فلم يعد إلى شواطئ الشام سوى خمس سفن فقط. وكانت محاولة مسلمة الأخيرة من نوعها في تاريخ الخلفاء الأمويين فلم يتسن لهم بعدها الدخول إلى أوروبة الشرقية. بيد أن غزوات المسلمين لم تنته عند الفشل الذي حل حول أسوار القسطنطينية. فقد أغاروا في السنة ٧٢٥ على قبدوقية وهددوا نيقية. وفي السنة ٧٣٧ عادوا إلى الحرب وبلغوا تيانة فضربوا عليها الحصار في السنة ٧٣٩. ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في يوم أكروبينون. ووافق هذا كله ظهور الخزر في أقصى الشمال فاستغل لاوون هذا العنصر الجديد لصالح الدولة وتعاون مع الخزر وأزوج ابنه قسطنطين من إيرينة ابنة خاقان الخزر فهدد الدولة الإسلامية في أذربيجان في حدودها الشرقية الشمالية.

لاوون والاستقرار في الداخل: وأحب لاوون أن يأمن شر الفوضى التي كانت قد انتشرت في الدولة قبيل وصوله إلى الحكم. فضرب بيد من حديد ستراتيجوس صقلية وأنسطاسيوس الثاني وأشرك ابنه قسطنطين في الملك منذ ولادته. وعني بالجيش وأعاد النظر في الثبات على ضوء السياسة الداخلية ولا سيما في آسية. وكانت الأوبئة وهجمات البرابرة قد أنقصت عدد الفلاحين في الريف وعـدد السكان في العاصمة نفسها وفي غيرها فنقل إليها جميعها شرقيين من مناطق الحدود الجنوبية والشرقية الآسيوية.

ورأى أن القوانين والأنظمة أصبحت تفتقر إلى إعادة نظر وتعديل وأن اللغة اليونانية باتت لغة السكان الوحيدة فانتقى في السنة ٧٢٦ لجنة من كبار رجال القانون لإعادة النظر في قوانين يوستنيانوس اللاتينية واصطفاء المفيد منها وتحسينه ووضعه باليونانية. وأطلق على مجموعته هذه اسم الأكلوغة ومعناه المنتخبات. وحض القضاة على التجرد من العاطفة وعلى الحكم بالعقل والعدل وعلى احترام حقوق الفقراء والمساكين. واستمد من العرف الذي ساد الأوساط الريفية الذي لم تشمله الأكلوغة فاشترع قانوناً للمزارعين.

لاوون واليهود: وأدى نزوع لاوون إلى الاستقرار واندفاعه في سبيله إلى النظر في أمر اليهود الذين حرموا المساواة في الحقوق مع النصارى فشكوا من مركب نقص داووه بانتقاد النصارى والنصرانية. وشاركهم في هذا الانتقاد بقية باقية من أتباع موانتانوس الإفريجي الذي طالب بالعودة إلى نصرانية القرن الأول وبتطبيق الناموس كما نصت عليه الأسفار العتيقة. وخشي لاوون، فيما يظهر هذه الروح الهدامة وما قد يتأتى عنها من مركب خيبة وانهزام فأمر في السنة ٧٢٢ بوجوب تنصر اليهود والمونتانيين1.

أمس التحريم والتحطيم: وقال فيليبيكوس البرداني (۷۱۱ – ۷۱۳) الأرمني بالطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة. فلما تسنم عرش الفسالسة بعث قضية المشيئة الواحدة من قبرها بعد أن مضى على دفنها ثلاثون عاماً فنبذ قرارات المجمع المسكوني السادس (٦٨١) وأعلن القول بالمشيئة الواحدة قولاً أرثوذكسياً قويماً. ثم حطم صورة المجمع المسكوني السادس التي قامت في القصر المقدس وطمس الكتابة التذكارية التي كانت قد نقشت فوق مدخل المليون Milion تخليداً لأعمال المجمع السادس وأمر برسم شخصه الإمبراطوري وشخص سرجيوس البطريرك على جدار القصر2. وفي مطلع السنة ٧١٢ خلع البطريرك القويم الرأي كيروس ورفع الخارتوفيلاكس يوحنا إلى السدة القسطنطينية باسم يوحنا السادس. ثم كتب إلى قسطنطين الأول بابا رومة موجباً الاعتراف بالمشيئة الواحدة وإعادة أسماء البطريرك سرجيوس والبابا أونوريوس وغيرهما إلى الذبتيغة. وأمر بحرق أعمال المجمع السادس ونفي كل من اعترض على هذه الاجراءات3. فلما وصل أمير الفسيلفس إلى رومة ومعه صورة فيليبيكوس ورأس يوستنيانوس رفض البابا قبول الأمر الإمبراطوري والصورة المرفقة. ولما علم بتحطيم صورة المجمع السادس وحرق أعماله أمر بصنع صندوق لأعمال المجامع الستة برسومها وأدخله باحتفال ديني إلى كنيسة القديس بطرس4.

وقُتل فيليبيكوس في الثالث من حزيران سنة ٧١٣ وتولى العرش بعـده أنسطاسيوس الثاني (٧١٣-٧١٦). وقال أنسطاسيوس قولاً قويماً ونبذ القول بالمشيئة الواحدة. فحطم صورة سرجيوس وفيليبيكوس وأعاد رسم المجمع السادس وكتب بذلك إلى البابا وأرسل صورته أيضاً فتقبل البابا الرسالة والصورة بالإكرام اللائق بها وأدخل اسم الفسيلفس في الذبتيغة5. وكتب البطريرك يوحنا أيضاً مؤكداً أنه لم يقبل الترقية في عهد فيليبيكوس إلا ليضمن أهون الشرين لأن الفسيلفس كان يضمر نبذ أعمال المجمع الخلقيدوني6. وتوفي بعد حين فخلفه جرمانوس الأول (۷۱٥-۷۲۹).

يزيد أول المحطين: وكان ما كان من أمر عبد الملك بن مروان (٦٨٥-٧٠٥) فلما استتب له الأمر وأخضع من أخضع من الثوار والمتمردين وكافح من كافح من الأعداء الفاتحين عني بتعميم قواعد الإسلام وتطبيقها على نظم الدولة ومنظماتها. فاستبدل اسم المسيح وعبارة التثليث في أعلى الطوامير بالعبارة: «قل هو الله أحـد». وكتب في صدور كتبه إلى الروم قل هو الله أحد وذكر النبي مع التاريخ. فكتب إليه يوستنيانوس: إنكم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون. فأشار خالد بن يزيد على عبد الملك بالتمسك بما أحدثه في القراطيس وقال: حرم دنانيرهم واضرب للناس سككاً ولا تعف هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير7. وسك عبد الملك دنانيره الأولى في السنة ٦٩٢ وعليها العبارة: «ومحمد رسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله» وعرب عبد الملك الدواوين وأخرج منها عدداً كبيراً من النصارى مستعيضاً بالمسلمين8.

ثم جاء الوليد بن عبد الملك (٧٠٥-٧١٥) فاستولى على كتدرائية دمشق وغير فيها وبدل وجعل لها صحناً يتفق ومراسيم الصلاة. وبذل بسخاء لتزيين الأروقة فغشى جدرانها في حوالي السنة ٧٠٦ بالفسيفساء. وجرى على أسلوب والده الديني فخلت هذه الفسيفساء من صور المخلوقات الحية9.

وفي السنة ٧٣٠ تولى الخلافة الأموية يزيد الثاني (٧٢٠-٧٢٤) ابن عبد الملك. فذهب مذهب أخيه الوليد ووالده عبد الملك وأمر في السنة ٧٢٣ بتحطيم جميع الصور في جميع الكنائس والبيوت والمحلات العامة. وأنفذ من يحطمها فحطمت10. ولا تزال آثار هذا التحطيم ماثلة للعيان في بعض ما تبقى من آثار كنائس القرن الثامن11.

وقال الراهب يوحنا ممثل البطاركة الشرقيين في مجمع نيقية الثاني في السنة ٧٨٧ أن يهودياً عملاقاً فاحش الطول حض يزيد الثاني على تحطيم الأيقونات مؤكداً أنه إن فعل طال ملكه ثلاثين عاماً، وفصَّل العملاق فأوجب تحطيم كل تمثيل للحياة في الكنائس أنى وجد إن على أغطية المذابح أو على الآنية المقدسة أو على اللوحات أو في الفسيفساء12. وما كاد ينتهي يوحنا من روايته هذه حتى انتصب شاهد عيان فأثبت وقوع التحطيم بأمر من يزيد13.

أيقونات القرن السابع الثامن: وكانت أيقونات القرن السابع الثامن قد تنوعت وتكاثرت وأصبحت عادية وعجائبية. واشتهرت من بين هذه أيقونات أخبروبيتية Acheiropoietes لم ترسمها يد بشرية بل انطبعت انطباعاً من جراء ملاصقتها لجسم الشخص الذي مثلت. ففاخرت الرها بمنديل المخلص الذي حمل صورة وجهه الكريم لمجرد وقوعه عليه. واحتفظت رومة وأكرمت منديل القديسة فيروتيقية الامرأة اليهودية التي مسحت وجه السيد قبيل الصلب فغنمت بصورته مطبوعة على منديلهـا طبعاً14. وتبركت كنيسة سيدة خالكوبراتية Chalcopratia في القسطنطينية بمافوريون السيدة وزنارها ورسمها فأصبحت مزاراً كبيراً يؤمه المؤمنون والمؤمنات في كل صباح وكل مساء. وعرفت أيقونة سيدة بلاخيرنة Blachernes في القسطنطينية ببركاتها المجيدة وقدرتها الفائقة15.

واستعان آخرون برسالة لنتلوس إلى مجلس شيوخ رومة للتعرف إلى أوصاف السيـد وأشكاله16 واعتبروا هذه الرسالة صحيحة فزادوا أيقوناته مكانةً وإكراماً. واندفع المؤمنون في التكريم والتعظيم فأثاروا بذلك انتقاد من أكبَّ على درس بعض أسفار العهد العتيق ومن احتك باليهود ومن جاور المسلمين.

وكان فيلوكسينس Philoxenes أسقف منبج قد احتج على تصوير السيد والقديسين منذ السنة ٤٨٨17. وكان أغاثيوس الذي توفي في السنة ٥٨٢ قد اضطر أن يدافع عن إكرام أيقونة مار ميخائيل ضد وابل من الانتقاد18. وكان أسقف رومة غريغوريوس الكبير قد اضطر بدوره أن يعظ سيرينوس أسقف مرسيلية، الذي حطم الأيقونات، بالاتزان والتروي وذلك في السنة ٥٩٩19. وكان الجدل بين اليهود والنصارى قد اشتد في قبرص في عهد لاونديوس أسقف نيابوليس (٥٩٠-٦٦٨) فاستعان هذا الأسقف بقوزما الراهب المصري صاحب المكتبة الكبيرة راجياً إمداده بما يدفع به حجج اليهود في موضوع الأيقونات20. ولم تخل القسطنطينية نفسها من شيء من هذا. فإن أركولفوس شاهد بأم عينه تحطيم إحدى الأيقونات فيها في السنة ٦٧٠21.

قسطنطين وتوما: وكثر المحتجون على إكرام الأيقونات في آسية الصغرى. وتكتلوا فيما يظهر في الربع الأول من القرن الثامن في فريجية. وتبنى آراءهم بعض الأساقفة. وأشهر هؤلاء قسطنطين نقولية وتوما كلوذيوبوليس وثيودوسيوس أفسس ابن الفسيلفس طيباريوس المخلوع. فلما أعلن يزيد الخليفة الأموي موقفه من الأيقونات وبدأ بتحطيمها أو تشويهها في كنائس أنطاكية وأورشليم والإسكندرية انبسطت آمال قسطنطين وتوما وقاما إلى القسطنطينية واتصلا ببطريرکها جرمانوس الأول. وبسط قسطنطين موقفه من الأيقونات أمام البطريرك فتدبر هذا الحبر حججه وناقشه فقطعه عن الكلام وأعاده إلى أبرشيته. وكان يوحنا متروبوليت سيناذة ورئيس قسطنطين قد كتب إلى جرمانوس الأول يشكو من موقف هذا الأسقف، فظن جرمانوس أنه أقنع قسطنطين فكتب إلى متروبوليت سيناذة يطمئنه ويشير إلى قسطنطين بالعبارة «المحبوب من الله». ودفع برسالته هذه إلى قسطنطين نفسه وطلب إليه أن يوصلها إلى رئيسه المتروبوليت22. ولكن قسطنطين احتفظ برسالة البطريرك ولم يوصلها الى رئيسه! فكتب جرمانوس إليه يهدده بالربط. فأشار توما بإخفاء رسالة البطريرك والسكوت عنها! فكتب البطريرك إلى توما يدافع عن إكرام الأيقونات ويوجب الشغب والقلاقل ويذكر باحترام الفسالسة للأيقونات وإكرامهم لها23.

لاوون الثالث والأيقونات: ويستدل من رسالة جرمانوس إلى توما ومن قوله فيها أن الفسالسة أكرموا الأيقونات واحترموها أنه لم يدرِ آنئذٍ أن لاوون الفسيلفس كان يبطن أي كره للصور المقدسة. ويستدل أيضاً من الرسائل التي تبودلت بين لاوون الفسيلفس وبين البابا غريغوريوس الثاني قبل بدء التحطيم أن البابا أيضاً لم يلمس أي اعوجاج في عقيدة لاوون24. ولا تزال أختام لاوون الأولى تحمل صورة عذراء هوديغيتريا الأيقونة الشهيرة25. فكيف أمسى هذا الفسيلفس المسيحي القويم الرأي في عرف البطريرك جرمانوس الأول والبابا غريغوريوس الثاني قبل السنة ٧٢٦ عدواً لدوداً للأيقونات بعدها؟ وهل يعزى ذلك إلى أصله المرعشي، الى احتكاك والديه بالمسلمين عند الحدود26، أو إلى عطفه على بسر Beser واحتكاكه به بعد السنه ۷۲۳؟ وبسر هذا جندي نصراني أسره الأمويون فدخل في الإسلام، ثم جرى تبادل الأسرى فعاد بسر إلى بلاد الروم. ولا نعلم ما إذا كان عاد إلى النصرانية أم لا. ولكن المراجع تشير إلى اتصاله بلاوون في السنة ٧٢٣ أو ٧٢٤ وإلى عطف الفسيلفس عليه وتقديره لقوته الجسدية وآرائه الدينية في موضوع الأيقونات27.

لاوون والرهبان والدولة: وقد يكون موقف لاوون من الأيقونات سياسياً إدارياً. فانتصار النصرانية على الوثنية كان قد تم واكتمل في القرن السادس. وكانت موجة الإسلام قد سلخت عن جسم الدولة كل من قال بالطبيعة الواحدة. وكان الفسيلفس قد أصبح حراً طلقاً يقول بعقيدة يجمع عليها رعاياه. ولكن نفوذ الكنيسة كان قد تزايد في الأوساط الشعبية. فبهرت عظمة طقوسها العقول وحرك وعظها الأفئدة والصدور. وكان الشعب قد تعلق برهبان الكنيسة وعقد على صلواتهم وتضرعاتهم الآمال بالسعادة والنجاح. وكان الناس قد أقبلوا على الترهب زرافات زرافات. وكانوا قد رأوا في ارتداء الثوب أفضل السبل إلى خلاص النفس فتعددت الأديرة وحوت منها العاصمة وحدهـا عدداً عظيماً28. وأدى ازدياد عدد الرهبان وتعاظم أمرهم إلى نقص في دخل الخزينة لأن القانون أعفى الرهبان من دفع الضرائب كما منع جبايتها عن الأوقاف الكنسية. وتوافرت ثروة الرهبانيات وقوي نفوذها فأصبحت عنصراً سياسياً هاماً يتدخل فيعرقل سير السياسة ويعقد مشاكلها. ومن جراء الانسياق غير الواعي في موجة من التعبد الشديد ساد النفوس ضرب من القدرية الغاشمة أفضت بدورها إلى فقدان النشاط والعزم وروح المبادرة ولا سيما إزاء الحوادث الكبرى29. ومن هنا قول المؤرخ الروسي أوسينسكي أن السبب الحقيقي الذي دفع بلاوون وخلفائه إلى خوض غمار حرب الأيقونات إنما كان خوفهم من ازدياد ثروة الرهبان وتزايد نفوذهم. فالمشادة في نظر أوسبنسكي كانت زمنية سياسية فجعلهـا الرهبان دينية ليوغروا صدور المؤمنين ويحضوهم على مقاومة برنامج الحكومة30. ويذهب المؤرخ اليوناني باباريغوبولو إلى أبعد من هذا فيرى في كتابه تاريخ الحضارة اليونانية أن حرب الأيقونات كانت في أساسها حرب، إصلاح سياسي اجتماعي وأن لاوون وخلفاءه أرادوا أن يحرروا التعليم والتربية من سيطرة الإكليروس وأن العناصر المستنيرة المتحررة في الدولة وبعض كبار رجال الدين والجيش أيدوا هذه الحركة لأنهم رأوا فيها إصلاحاً مفيداً31.

تمهيد وتليين: (٧٢٦) وبدأ لاوون بالدعاية. فحدَّث كبار الشعب في موضوع الأيقونات وحبَّذ رفعها عن محلاتها وقبح السجود لها وإكرامها. وجاء في بعض المراجع أنه كان يؤيد كلامه بالبراهين فـإذا لمس اعتراضاً شديداً أو امتعاضاً غيَّر موضوع الكلام وانتقل إلى بحث آخر32! ثم زلزلت الأرض وأرجفت فظهرت جزيرة سانتورينو بين ثيرة وثيراسية من جزر الكيكلانس في بحر إيجة. فاعتبر لاوون هذه الظاهرة الطبيعية إنذاراً من الله يوجب الرجوع إليه والابتعاد عن السجود للأيقونات33.

ثم رغب لاوون في تسجيل الأمور فأمر في السنة ٧٢٧ بإنزال أيقونة السيد المخلص عن باب خالكي أحد مداخل القصر المقدس. فاندلعت في الحال ثورة اشتركت فيها النساء اشتراكاً فعلياً. ومزقت الجماهير الموظف الذي نفذ إرادة الفسيلفس وقضوا ايضاً على ضباط القصر الذين أحاطوا بهذا الموظف. فتعددت الاعتقالات وكثر الجلد والتشويه وقضى البعض أياماً صعبة في المنفى34. وضجت الأوساط بما جرى وتناقلتـه الألسن وانتشر بريده فوصل إلى رومة فكتب غريغوريوس الثاني إلى لاوون رسالته الأولى35 وذكر الأحفاد هذا الحادث فيما بعد فأعجبوا بقدرة الأيقونة ووصولها إلى رومة سالمة عبر البحر واعتبروا بعض الضحايا شهداء قديسين36. وفي هذه السنة عينها أفسد لاوون انتظام الجامعة في القسطنطينية37. ولعله لم يرض عن موقف بعض الأساتذة من برنامجه الإصلاحي فعاملهم بالقساوة. ولا صحة فيما يظهر لما جاء بعدئذ في كتاب جاورجيوس الراهب عن أن لاوون أحرق مكتبة الجامعة وأساتذتها38.

تمرد الجند: ونادى الجند في ثيمة الجزر الإيجية39 بقوزمة فسيلفساً محتجين بذلك على موقف الأيقونات. وأقلعت سفنهم إلى القسطنطينية فوصلت إلى مياهها في الثامن عشر من نيسان سنة ٧٢٧ واصطدمت بسفن لاوون ففتكت النار الإغريقية بالسفن الثائرة وألقي القبض على بعض زعماء الحركة وسقط الباقون مجاهدين40.

لاوون والبطريرك والبابا: وكان لاوون لا يزال يدعو إلى رفع الأيقونات دعاية سلمية. ولعله بدأ منذ السنة ٧٢٧ يفكر بإصدار إرادة ملكية تحرم استعمال الأيقونات في الكنائس فرأى أن يستميل البطريرك القسطنطيني وبابا رومة إلى جانبه تحاشياً وتفادياً. فاستدعى جرمانوس الأول وفاجأه بالقول إن جميع الأباطرة والبطاركة السابقين ضلوا بسجودهم للأيقونات41. وكتب إلى البابا غريغوريوس الثاني يحضه على إلغاء استعمال الأيقونات وعلى تحريمها واعداً بالعطف والمساعدة ومهدداً بالخلع في حال الامتناع. فاشمأز غريغوريوس وكتب إلى جميع الجهات مندداً بمعصية لاوون وإلحاده موجباً التيقظ والتحفز42.

وقد أثبت العلامة جورج أوستروغورسكي الأستاذ في جامعة بلغراد صحة هذه الرسائل التي تعزى إلى غريغوريوس الثاني بعد أن اعتبرها بعض العلماء مزورة43. فيصح والحالة هذه الرجوع إليها والوقوف على مضمونها لتفهم موقف لاوون من الأيقونات.

ويستدل من المقاطع التي استشهد بها غريغوريوس ورد عليها في هذه الرسائل أن لاوون أراد أن يقتفي أثر حزقيا بن آماز ملك يهوذا الذي صنع القويم في عيني الرب «فأزال المشارف وحطم الأنصاب وسحق حية النحاس التي كان موسى صنعها لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يقترون لها وسموها نَخُشْتَان»44.

ويستدل من هذه الرسائل أيضاً أن لاوون اعتبر نفسه كاهناً وإمبراطوراً، فأجاب البابا مؤاخذاً الفسيلفس على استئثاره بالسلطة في هذه الأمور وعلى عدم اتصاله مسبقاً بالسلطات المختصة. وأضاف أن التحريم جاء لردع اليهود عن عبادة الأوثان. أما النصارى فإنهم لا يعبدون الصور45.

وهاج الإيطاليون بين أنكونة والبندقية ورفعوا لواء العصيان وبايعوا زعماء لهم وكادوا ينادون بإمبراطور غير لاوون لولا تدخل غريغوريوس في الأمر ونهيه46. ومما زاد في الطين بلة أن الإيطاليين كانوا قد استثقلوا ضرائب لاوون فلما أطل عليهم بسياسته الدينية الجديدة ازدادوا غضباً ونقمة. وظل غريغوريوس موالياً رادعاً. ولا عبرة بما جاء في كتاب المؤرخ الألماني كسبار عن نعرة غريغوريوس القومية الإيطالية47.

وعاد لاوون إلى جرمانوس الأول فحاول اجتذابه باللطف والملاينة والمالقة ولكن البطريرك أصر على موقفه وأوجب إبقاء الأيقونات في الكنائس وتكريمها وأدلى بحججه.

وأصغى إلى حجج البطريرك وسكت عنها فظن جرمانوس الذي كان يصدق كل شيء أنه أقنع الفسيلفس بوجوب إبقاء القديم على قدمه، وكتب إلى غريغوريوس بذلك في أواخر السنة ٧٢٩48.

الإرادة السنية: (٧٣٠) وسئم لاوون المفاوضة والإقناع والدعاية والملاطفة. فدعا في السابع عشر من كانون الثاني سنة ٧٣٠ المجلس الاستشاري الإمبراطوري أي السيلانتيون Silention إلى الانعقاد في قاعة التسعة عشر سريراً في قصر دفنة. فضم المجلس كبار الموظفين الإداريين في العاصمة وكبار الشيوخ49. وجلس في كرسي الرئاسة لاوون نفسه. ومثل أمام الإمبراطور الفسيلفس البطريرك القسطنطيني جرمانوس الأول. وتلي نص إرادة ملكية سنية تحرم احترام الأيقونات وإكرامها50. وطلب إلى جرمانوس أن يوقع هذا التحريم. فأبى البطريرك ووضع الأموفوريون عن عاتقه وصاح بالمجلس: «أنا يونان اطرحوني في البحر! وليس لي أي إيمان آخر سوى ذاك الذي أقره المجمع المسكوني!» وخرج البطريرك وذهب تواً إلى البيت الذي ولد فيه وما زال حتى وفاته51. ويلاحظ هنا أن العلامة الإفرنسي لويس براهيه يؤثر القول ببيان بطريركي لا إرادة سنية. فهو يرى أنه لو كان لاوون أصدر إرادة بالتحريم لامتنع ابنه قسطنطين الخامس عن إصدار إرادته فيما بعـد. ولكنه لا يصرّ على هذا الرأي52.

وشغر المنصب البطريركي شغوراً فاعتلاه أنسطاسيوس السنكلوس باسم أنسطاسيوس الأول (۷۳۰-۷٥۲) وذلك في الثاني والعشرين من كانون الثاني سنة ٧٣٠53. وفي هـذا الحدث ما يثير التفكير في أن لاوون كان قد نجح في استمالة عدد كبير من أساقفة المجمع ولا سيما وأن هذا المجمع اتخذ فوراً قراراً بتحريم الأيقونات وأن غريغوريوس بابا رومة احتج على عمل هذا المجمع وهدد أنسطاسيوس بعدم الاعتراف به أخاً له في الشركة54.

اضطهادات لاوون: وتتوافق المراجع على اتخاذ إجراءات منظمة في حق من عارض التحريم منذ وصول أنسطاسيوس إلى الكرسي القسطنطيني55. ولكنها تختلف في التفصيل. فنيقيفوروس يذكر التنكيل والتعذيب الذي حل بالمؤمنين الحسني العبادة. ورسائل رومة تشير إلى التشويه وقطع الرؤوس. وثيوفانس يؤكد أن عدداً كبيراً من الإكليروس والشعب والراهبات نالوا إكليل الظفر. وتضيف رسائل رومة أنه توجب على كل من اقتنی أيقونة أن يحملها إلى باحة من باحات العاصمة لإحراقها. ويؤكد صاحب حياة القديس أسطفانوس أن كثيرين هجروا القسطنطينية وأن والدي أسطفانوس قاما إلى خلقيدونية ومنها إلى جبل القديس أوكسنذيوس لإيفاء النذر56.

وفي هذه الظروف عينها هبَّ يوحنا الدمشقي يشارك أبناء الكنيسة في الدفاع عن الأيقونات بخطب ثلاث شرح فيها معتقد الكنيسة الجامعة ودعم تعاليمها ببراهين قاطعة وبلغة بليغة وقلم سيال. فراع لاوون ما رآه من ظهور هذا الخصم الجديد ولا سيما وأن يده لا تستطيع أن تناله بسوء فحصل كتابة من خط يوحنـا وزوَّر على لسانه رسالة كأنها مكتوبة منه ومرسلة إلى الفسيلفس يشرح فيها حالة النصارى السيئة ويبين مواطن الضعف في الدولة الأموية ويستحث الفسيلفس على استعادة سورية ويعده بالمساعدة. وخطب لاوون ود عمر بن عبد العزيز ثم أطلعه على «خيانة» يوحنا. فاستشاط عمر غضباً وأمر بقطع يد يوحنا57.

«وعاد يوحنا إلى بيته يجر أذيال العار والدم يقطر من يده البريئة الطاهرة. وجاء وانطرح أمام أيقونة البتول وأخذ يكلمها بلهجة العاتب المحب ويقول: كيف سمحت يا سيدتي بأن يقع في هوة الذل السحيقة ولدك هذا الذي إنما دافع عن عبادتك وعن أيقوناتك ويفقد يده النقية ويخسر مقامه الرفيع! وبكى كثيراً وصلى وتضرع. وأخذه النعاس فنام. فتراءت له البتول وشجعته وطيبت قلبه واقتربت إليه وأعادت إليه يده المقطوعة صحيحة مثل الأخرى. وذهب يوحنا إلى الخليفة وأراه يده كاملة. فدهش الخليفة وسأل يوحنا عن الخبر. فقص عليه ما جرى وكيف أن لاوون أراد الانتقام فلجأ إلى التزوير وكيف أن البتول مريم نظرت إلى صدقه وإخلاصه فأعادت إليه يده، فسُرَّ الخليفة سروراً لا يوصف وأمر أن يعود يوحنا إلى ديوانه وإلى مكانته»58 - سنكسار عساف.

رومة نستنكر وتقاوم: وتوفي البابا غريغوريوس الثاني في الحادي عشر من شباط سنة ٧٣١ وخلفه على السدة الرومانية غريغوريوس الثالث في الثامن عشر من آذار من السنة نفسها. فأوفد هذا الحبر الجديد الكاهن جاورجيوس إلى القسطنطينية ولكنه لم يجرؤ على تقديم الرسالة الباباوية فعاد إلى رومة دون إنجاز مهمته. فعاقبه البابا ورده إلى القسطنطينية مرة ثانية. ولكنه منع عن متابعة السير بأمر من الفسيلفس وحجز في صقلية فانقطعت العلاقات بين رومة والقسطنطينية59.

وكان غريغوريوس الثالث قد دعا إلى مجمع محلي في رومة في أول تشرين الثاني من السنة ٧٣١. فأم العاصمة الأولى ثلاثة وتسعون أسقفاً إيطالياً. وتداولوا في أمر الأيقونات فاتخذوا قراراً قضى بقطع كل من خالف تقليد الكنيسة وعارض في احترام الأيقونات المقـدسة أو حقرها أو حطمها. وانفض المجمع عند نهاية السنة ٧٣١60. وأنفذ غريغوريوس هذه المرة المحامي بطرس إلى القسطنطينية وحمله رسالتين واحدة إلى لاوون والثانية إلى أنسطاسيوس وفيها نبأ قرارات المجمع المحلي الإيطالي بشأن الأيقونات61.

لاوون يضيق مدى سلطة البابا: واغتاظ لاوون وتنمّر فأنفذ قوة عبر الأدرياتيك لفرض سلطته ورأيه ولكن عاصفة هوجاء حطمت بعض سفنها وشتت الباقي. فزاد الفسيلفس ضريبة العنق المفروضة في ثيمتي كلابرية وصقلية بمقدار ثلثها62. وسلخ عن بطريركية رومة أبرشيات كريت وصقلية وسردينية وكلابرية وإبيروس وإليرية وضمها إلى بطريركية القسطنطينية63. ويلاحظ هنا أن باسيليوس الأرمني ينص أن هذه الأبرشيات سلخت عن كنيسة رومة عندما دخل البابا في حكم البرابرة64. ويرى العلامة غي أنها سلخت في عهد قسطنطين الخامس65.

قسطنطين الخامس: (٧٤٠-٧٧٥) وتوفي لاوون في حزيران السنة ٧٤٠ فتولى الحكم بعـده ابنه قسطنطين الخامس. وهو الذي أطلق عليه لقب الزبلي Copronymos إما لأنه أفرز في جرن العماد أو لأنه كان يحب الخيل. وعرف أيضاً بلقب Caballinos لشدة عنايته بالخيل وتعلقه بها66. وورث قسطنطين عن والده نشاطاً نادراً ومقدرة عظيمة في الإدارة والحرب. ولكنه غالى في نظرياته الدينية وسخر سلطته الزمنية لتطبيق هذه النظريات.

وما كاد قسطنطين يستوي على عرشه حتى تزعم صهره آرتافن دوس العناصر الصاخبة في الولايات الأوربية وزحف على العاصمة فحطم القوة التي قادها بسر ضـده وأعلن نفسه فسيلفساً وتسلم التاج من يد البطريرك أنسطاسيوس وأعـاد الأيقونات إلى سابق عزها وكرامتها67.

وكان قسطنطين قد لجأ إلى ولايات آسية إلى موطن حركة التحطيم فاعتصم في العمورية. فجد قسطنطين في أثره حتى بلغ سهل الكايستروس Caystros بالقرب من ساردس فأوقع بصهره هزيمة حاسمة واضطره إلى الفرار شمالاً. وما فتئ يطارده حتى كيزيكة، وعبر أرتافن دوس البحر إلى القسطنطينية. ثم أنفذ جيشين آخرين إلى آسية ولكن قسطنطين تمكن من التغلب عليها. وفي السنة ٧٤٢ قام قسطنطين بدوره على رأس جيش الى أوروبة وحصر صهره في القسطنطينية. وقل القوت في العاصمة فاستسلمت في الثاني من تشرين الثاني من السنة ٧٤٢ نفسها. وفر آرتافزدوس إلى آسية فألقي القبض عليه وسملت عيناه وأعين أولاده. واحتفل قسطنطين بالنصر في ميدان الهيبودروم فاستعرض آرتافن دوس وأولاده مكبلين بالحديد والبطريرك أنسطاسيوس راكباً حماراً مواجهاً ذيله68.

قسطنطين وبابا روما: وتوفي غريغوريوس الثالث بابا رومة في العاشر من كانون الأول سنة ٧٤١ فتولى السدة الرسولية بعده زخريا (٧٤١-٧٥٢). وطبق هـذا البابا العرف الكنسي فأوفد أبوكريساريين إلى القسطنطينية حاملين أوراق انتخابـه. وكان أرتافردوس قد تسنم العرش فتريث الوفد الروماني ولم يقدم أوراقه حتى استتب الأمر لقسطنطين69. وقضت ظروف إيطالية السياسية بالتعاون بين البابا والفسيلفس فاعتبر زخريا أرتافردوس ثائراً مغتصباً واستوسط الفسيلفسُ قسطنطين البابا في علاقاته مع اللومبارديين. ثم وهب الفسيلفس الكنيسة الرومانية الأملاك الأميرية في نمفية ونورمية70. وتوفي زخريا في السنة ٧٥٢ وأطل الإفرنج على إيطالية ورضي قسطنطين عن تدخلهم في شؤونها فارتبطت كنيسة رومة بهؤلاء ومالت عن الفسالسة ثم حالت عن ممالقتهم والخضوع لهم71.

قسطنطين يمنع ويردع: (٧٤٢-٧٥٤) ونهى قسطنطين عن إكرام الأيقونات متبعاً في ذلك سياسة والده. وباحث وجادل وردع ولكنه لم يقدم في السنوات العشر الأولى من حكمه على أي عمل بارز في الإساءة إلى الأيقونات. فقد جاء في سيرة القديس إسطفانوس أن عمال قسطنطين وأتباعه بيضوا بالكلس، في هذه الآونة، جميع الصور المقدسة التي كانت تزين جدران المعابد وأبقوا على ما لم يكن له علاقة بالدين منها. وكانت جدران بعض الكنائس القديمة لا تزال مزينة بمشاهد علمانية غير دينية كصيد الحيوانات وإظهار غرائبها الحقيقية والخرافية وسباقات الخيل وما شاكل ذلك72.

وجاء في هذه السيرة نفسها أيضاً أن القديس إسطفانوس الذي كان قد أصبح رئيس دير القديس أوكسنديوس كان في هذه الآونة يخطب في الرهبان المجتمعين حوله في موضوع الأيقونات فيعزو ما حل بها من ضيم إلى اليهود والسوريين ويحض الرهبان على المقاومة دون أن يذكر اسم الفسيلفس73. ومما تفيده هذه السيرة أن القديس إسطفانوس الذي ألقي خطبه هذه في السنة ٧٥٣ كان ينصح الرهبان المعارضين أن ينزحوا إلى القرم والخرسون وسائر أنحاء البحر الأسود وإلى إيطالية ورومة وإلى جزيرة قبرص وشاطئ لبنان والخليج الفارسي. ويستدل من هذا المرجع أيضاً أن بابا رومة وبابا الإسكندرية وبطريرك أنطاكية وضعوا الفسيلفس تحت الحرم74.

وأشهر ما يروى عن أساليب قسطنطين السلمية المحاورة التي دارت في حوالي السنة ٧٥٣ بين قوزمة أسقف مرعش وبين جاورجيوس الراهب الناسك في جبل الزيتون في قيليقية. وكان قوزمة من عمال قسطنطين يدعو إلى عبادة الله بالروح فقط. وألح المؤمنون على جاورجيوس بتدوين ردوده على قوزمة فأمر تلميذه تيوسيبس بذلك فخلف النونثيزية وهي «نصح الشيخ الجليل في موضوع الأيقونات المقدسة». وقد جاء في هذا الدفاع أن الأيقونات من إنشاء المسيح نفسه وأن القول أن الكنيسة تعبد الأصنام يجر إلى القول أن المسيح نفسه أنشأ الأصنام. وتذرع قوزمة بما جاء في العهد القديم ضد الأيقونات فأجابه جاورجيوس بأن التجسد الإلهي أبطل الوصية الثانية وما ماثلها75. وألقي القبض على جاورجيوس ومثل أمام الفسيلفس ففر تلميذه ثيوسييس إلى سورية.


  1. DOLGER, F., Regesten der Kaiserurkunden des Ostromischen Reiches, 286; THEOPHANES, Chronographia, a. 6214; OSTROGORSKY, G., Hist. of Byz. State, 142; STARR, J., The Jews in the Byzantine Empire, Athens, 1939.
  2. Agathonis Diaconi Peroratio, Mansi, XII, Col. 192; EBERSOLT, J., Le Grand Palais de Constantinople, 29.
  3. Mansi, XII, 190.
  4. Liber Pontificalis (Duchesne), 391; BREHIER, L., Derniers Heraclides; FLICHE et MAR- TIN, V, 206-207; OSTROGORSKY, G., Byz. State, 135-136.
  5. DOLGER, F., Reg., 273; Liber Pontificalis, 392-394; Mansi, XII, Col. 193-196.
  6. Mansi, XII, Col. 196-210; THEOPHANES, Chron., a. 6203; Nicephore, 48.
  7. فتوح البلدان للبلاذري ص ٢٤٩ والكامل لابن الأثير ج ٤ ص٥٣.
  8. البلاذري ص ۱۹۳ و۳۰۰-۳۰۱ والأحكام السلطانية للماوردي ص ٣٤٩-٣٥٠ وكتاب العقد لابن عبد ربه ج ۲ ص ۳۲۲.
  9. Eustache de LOREY, Les Mosaiques de la Mosquée des Omayades à Damas, Cahiers d'Art, 1929, 306 ff.; DIEHL, C., La Peinture Byzantine, Paris, 1939, 69.
  10. Denis de TELL-MAHRE (Chabot), 17.
  11. AVI-YONAH, Byzantine Church at Suhmata, Quarterly of Dept. of Antiq. in Palestine, 1934, 92-105; BARAMKI, D., Early Christian Basilica at Ain Hanniya, Ibid., 113-117; VAUX, R. de, Une Mosaique Byzantine à Main (Transjordanie), Rev. Biblique, 1938, QUIBELL, J.E., Selective Mutilation of Paintings and Sculptures, Excavations at Sqqara, 227-258; 1908-1910, PI. IV.
  12. Patr. Gr., Vol. 109, Col. 517-520; Mansi, XIII, Col. 196-200.
  13. Mansi, XIII, Col. 200; CRESWELL, K.A.C., Lawfulness of Painting in Early Islam, Ars Islamica, 1946, 159-166;WELLHAUSEN, J., Das Arabische Reich und sein Sturz, 221.
  14. BREHIER, L., Icones non faites des mains d'homme, Rev. Arch., 1932, 68-77; RUN- CIMAN, S., Some Remarks on the Image of Edessa, Camb. Hist. Journ., 1931, 238-252.
  15. EBERSOLT, J., Sanctuaires de Byzance, 50, 56-57.
  16. DIDRON, Manuel d'Iconographie Chrétienne, 452-454.
  17. THEOPHANES, Chron., a. 5982.
  18. Anthologie Grecque, Epigrammes Chrétiennes, (Waltz), I, 34-36.
  19. Reg. IX, 208.
  20. Mansi, XIII, Col. 44; BAYNES, N.H., Icons before Iconoclasm, Byzantine Studies and Other Essays, London, 1955, 230-231.
  21. ARCULFUS, Itinera Hierosolymitana, 200.
  22. Lettres du Patriarche Germain à Jean, Métropolite de Synnada, Patr. Gr., Vol. 98, Col. 156-161.
  23. Patr. Gr., Vol. 98, Col. 164-188; OSTROGORSKY, Q., Les Débuts de la Querelle des Images,238.
  24. Mansi, XII, Col. 959.
  25. BREHIER, L., La Querelle des Images; FLICHE et MARTIN, V, 448.
  26. Saint Etienne le Jeune, Patr. Gr., Vol. 100, Col. 1084; Denis de TELL-MAHRE, (Cha- 12 ,(bot والقول أن لاوون تكلم العربية قول ضعيف لأن صاحبه مؤلف كتاب العيون والحدائق مجهول ولأن الكتاب نفسه لم يدون قبل النصف الثاني من القرن الحادي عشر!
  27. THEOPHANES, Chron., a. 6215; BREHIER, L., BESER, Dict. Hist. Geog. Ecc., VIII, Col. 1171-1172; SCHENK K., Kaiser Leons III Walten im Inneren, Byz. Zeit., 1896, 257-301; STARR, J., An Iconodulic Legend and Its Hist. Basis, Speculum, 1933, 500-503.
  28. MARIN, E., Les Moines de Constantinople, Paris, 1896.
  29. PAPARIGOPOULO, K., Civilisation Hellénique, 184; DIEHL et MARCAIS, Monde Oriental, 228-231.
  30. USGENSKY, Th., Byzantine Empire, II, 22-53, 89-109, 157-174.
  31. PAPARIGOPOULO, K., op. cit., 188-191.
  32. Vita Stephani Junioris, Patr. Gr., Vol. 100, Col. 1084; THEOPHANES, Chron., a. 6217.
  33. THEOPHANES, Chron., a. 6218.
  34. THEOPHANES, Chron., a. 6218; Vita Stephani Junioris, P. G., Vol. 100, Col. 1085.
  35. GREG. PAP. EPIST., Mansi, XII, Col. 959.
  36. Actes des Martyrs de Constantinople; EBERSOLT, J., Sanctuaires de Byzance, 19-20.
  37. THEOPHANES, Chron., a. 6221.
  38. GEORGES LE MOINE, (de Boor), II, 742; FUCHS, Hohern Schulen von Konstantinopol, Byz. Arch., 1926, 9-13; BREHIER, L., Légende de Léon Incendiaire de l'Univ. de Const., Byzantion, 1927, 13-28.
  39. Thème des Helladiques et des Cyclades; DVORNIK, C., Les Légendes de Constantin et de Méthode, Prague, 1933, 4-6.
  40. THEOPHANES, Chron., a. 6218; Nicephore, Breviarum, 57-58.
  41. THEOPHANES, Chron., a. 6218.
  42. Liber Pontificalis (Duchesne), I, 404; THEOPHANES, Chron., a. 6221.
  43. OSTROGORSKY, G., Les Débuts de la Querelle des Images, Mélanges Diehl, 1930, I, 244-254.
  44. سفر الملوك الرابع ۱۸: ۱ - ٥
  45. MENGES, H., Die Bilderlehre des hl. Johannes von Damaskus, 1938, 33; DOLGER, F., Byz. Zeit., 1931, 458 ff.; HALLER, J., Das Papsttum, I, 328, 502.
  46. Liber Pontificalis (Duchesne), I, 404-409.
  47. OSTROGORSKY, G., The Byz. State, 145, n. 1; GASPAR, E., Papst Gregor II und der Bilderstreit, Zeit. fur Kirchengeschichte, 1933, 29-89.
  48. THEOPHANES, Chron., a. 6221; Vita Stephani, P.G., Vol. 100, Col. 1084-1085; Mansi, XIII, Col. 92-100.
  49. CHRISTOPHILOPOULO, E., Silention, Byz. Zeit., 1951, 79 ff.
  50. OSTROGORSKY, G., Mélanges Diehl, I, 254.
  51. Nicephore, Breviarum, 58.
  52. BREHIER, L., Querelle des Images; FLICHE et MARTIN, V, 454, n. 3.
  53. THEOPHANES, Chron., a. 6221; Nicephore, Breviarum, 58; Vita Stephani, P.G., Vol. 100, Col, 1085.
  54. Liber Pontificalis, (Duchesne), I, 408-409: «non censuit fratrem aut consacerdotem».
  55. Nicephore, Breviarum, 59; THEOPHANES, Chron., a. 6221; Liber Pontificalis, I, 409
  56. Vita Stephani Junioris, P.G., Vol. 100, Col. 1088.
  57. Patr. Gr., Vol. 94, Col. 1232-1284, 1284-1318, 1317-1420.
  58. JEAN DE JERUSALEM, Acta Sanctorum, II, Mai, 109-118; LE QUIEN, Joannis Damascen. Opera; P.G., Vol. 94, Col. 429-490.
  59. Liber Pontificalis (Duchesne), I, 415-416.
  60. Liber Pontificalis (Duchesne), 1, 416; Mansi, XII, Col. 299 ff.
  61. Liber Pontificalis (Duchesne), I, 416-417.
  62. THEOPHANES, Chron., a. 6224; DOLGER, F., Reg. 300.
  63. DOLGER, F., Reg., 301; Mansi, XIII, Col. 808, XV, Col. 167.
  64. PARTHEY, Hieroclis Synecdemus, 74.
  65. GAY, J., l'Italie Méridionale et l'Empire Byzantin, 8, 11-12.
  66. THEOPHANES, Chron., a. 6211; LOMBARD, A., Ztudes d'Hist. Byz., 10-21.
  67. THEOPHANES, Chron., a. 6233.
  68. Ibid., a. 6234; Nicephore, Breviarum, 61-62; Antirrheticus, P.G., Vol. 100, Col. 500.
  69. Liber Pontificalis (Duchesne), I, 432.
  70. Ibid., I, 426-427, 433; DIEHL, C., Exharchat de Ravenne, 415-416; DOLGER, F., Reg. 310.
  71. BREHIER, L., Querelles des Images; FLICHE et MARTIN, V, 462.
  72. Vita Stephani, P.G., Vol. 100, Col, 1112-1113; Sancti Nili Epist., Vol. 79, Col. 577; BREHIER, L., Art Chrétien, 58-60.
  73. Vita Stephani, P.G., Vol. 100, Col. 1112-1117.
  74. Vita Stephani, P.G., Vol. 100, Col. 1112-1114; VASILIEV, A., The Goths in the Crimea, 88.
  75. Nonthesia: Melioranski, B.M., GEORGII KIPRIANIN i Ioann Ierusalimlianin, Rev. by KURTZ, Ed., Byz. Zeit., 1902, 538-542.