الفرق بين المراجعتين لصفحة: «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (الجزء الأول)»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل
لا ملخص تعديل
سطر 1:
== صفحة : 88 ==
وعلى ساحل البحر منها رابطة، تعرف بالنسبة إلى الخضر وإلياس عليهما السلام. وبإزائها زاوية يسكنها أربعة من الفقراء بأولادهم يخدمون الرابطة والزاوية، ويتعيشون من فتوحات الناس وكل من يمر بهم يتصدق عليهم. وذكر لي أهل هذه الزاوية، أن بعبادان عابدا كبير القدر ولا أنيس له، يأتي هذا البحر مرة في الشهر، فيصطاد فيه ما يقوته شهرا، ثم لايرى إلا بعد تمام شهر. وهو على ذلك منذ أعوام. فلما وصلنا عبادان لم يكن لي شأن إلا طلبه، فاشتغل من كان معي بالصلاة في المساجد والمتعبدات، وانطلقت طالبا له. فجئت مسجدا خربا فوجدته يصلي فيه، فجلست في جانبه، فأوجز في صلاته. ولما سلم أخذ بيدي وقال لي: بلغك الله مرادك في الدنيا والآخرة، فقد بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا، وهو السياحة في الارض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه، وبقيت الأخرى. والرجاء قوي في رحمة الله وتجاوزه وبلوغ المراد من دخول الجنة. ولما أتيت أصحابي أخبرتهم خبر الرجل وأعلمتهم بموضعه، فذهبوا إليه فلم يجدوه، ولا وقعوا له على خبر. فعجبوا من شأنه، وعدنا بالعشي إلى الزاوية فبتنا بها، ودخل علينا أحد الفقراء الأربعة بعد صلاة العشاء الآخرة. ومن عادة ذلك الفقير أن يأتي عبادان كل ليلة فيسرج السرج بمساجدها، ثم يعود إلى زاويته. فلما وصل إلى عبادان وجد الرجل العابد فأعطاه سمكة طرية وقال له: أوصل هذه إلى الضيف الذي قدم اليوم. فقال لنا الفقير عند دخوله علينا: من رأى منكم الشيخ اليوم ? فقلت له: أنا رأيته. فقال: يقول لك هذه ضيافتك. فشكرت الله على ذلك، وطبخ لنا الفقير تلك السمكة، فأكلنا منها أجمعون، وما أكلت قط سمكا أطيب منها. وهجس في خاطري الإقامة بقية العمر في خدمة ذلك الشيخ، ثم صرفتني النفس اللجوج عن ذلك، ثم ركبنا البحر عند الصبح بقصد بلدة ماجول. ومن عادتي في سفري أن لا أعود على طريق سلكتها ما أمكنني ذلك. وكنت أحب قصد بغداد العراق، فأشار علي بعض أهل البصرة بالسفر إلى أرض اللور، ثم إلى عراق العجم، ثم إلى عراق العرب. فعملت بمقتضى إشارته، ووصلنا بعد أربعة ايام إلى بلدة ماجول، على وزن فاعول وجيمها معقودة، وهي صغيرة على ساحل الخليج الذي ذكرنا أنه يخرج من بحر فارس، وأرضها سبخة لا شجر فيها ولا نبات، ولها سوق عظيمة من أكبر الأسواق. وأقمت بها يوما واحدا، ثم اكتريت دابة لركوبي من الذين يجلبون الحبوب من رامز إلى ماجول، وسرنا ثلاثا في صحراء يسكنها الأكراد في بيوت الشعر. ويقال: إن اصلهم من العرب، ثم وصلنا إلى مدينة رامز، وأول حروفها راء وآخرها زاي وميمها مكسورة ، وهي مدينة حسنة ذات فواكه وأنهار نزلنا بها عند القاضي حسام الدين محمود، ولقيت عنده رجلا من أهل العلم والدين والورع، هندي ألأصل، يدعى بهاء الدين، ويسمى إسماعيل، وهو من أولاد الشيخ بهاء الدين أبي زكريا الملتاني، وقرأ على مشايخ توريز وغيرها. وأقمت بمدينة رامز ليلة واحدة، ثم رحلنا منها ثلاثا في بسيط فيه قرى يسكنها الاكراد. وفي كل مرحلة منها زاوية فيها للوارد الخبز واللحم والحلواء، وحلواؤهم من رب العنب مخلوط بالدقيق والسمن. وفي كل زاوية الشيخ والإمام والمؤذنون والخادم للفقراء والعبيد يطبخون الطعام. ثم وصلت مدينة تستر، وهي آخر البسيط من بلاد أتابك، وأول الجبال مدينة كبيرة رائقة نضرة، وبها البساتين الشريفة والرياض المنيفة، ولها المحاسن البارعة والأسواق الجامعة، وهي قديمة البناء افتتحها خالد بن الوليد. ووالي هذه المدينة ينسب إلى سهل بن عبد الله ويحيط بها النهر المعروف بالأزرق، وهو عجيب في نهاية من الصفاء شديد البرودة في أيام الحر، ولم أر كزرقته إلا نهر بلخشان. ولها باب واحد للمسافرين يسمى دراوزة دسبول، والدراوزة عندهم الباب. ولها أبواب غير شارعة إلى النهر. وعلى جانبي النهر البساتين والدواليب. والنهر عميق، وعلى باب المسافرين منه جسر على القوارب كجسر بغداد واحلة. قال ابن جزي: وفي هذا النهر يقول بعضهم:
أنظر لشاذروان تستر واعجب من جمعه ماء لري بـلاده
ككمي قوم جمعت أمـوالـه فغدا يفرقه علـى أجـنـاده
 
== صفحة : 8999 ==
والفواكه بتستر كثيرة، والخيرات متيسرة، ولا مثل لأسواقها في الحسن وبخارجها تربة معظمة يقصدها أهل تلك الأقطار للزيارة، وينذرون لها النذور. ولها زاوية بها جماعة من الفقراء. وهم يزعمون أنها تربة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان نزولي في مدينة تستر في مدرسة الشيخ الإمام الصالح المتفنن شرف الدين موسى ابن الشيخ الصالح الإمام العالم صدر الدين سليمان، وهو من ذرية سهل بن عبد الله. وهذا الشيخ ذو مكارم وفضائل، جامع بين العلم والدين والصلاح والإيثار، وله مدرسة وزاوية، وخدامها فتيان، له أربعة أولاد: سنبل وكافور وجوهر وسرور أحدهم موكل بأوقاف الزاوية، والثاني متصرف فيما يحتاج إليه من النفقات في كل يوم، والثالث خديم السماط بين أيدي الواردين ومرتب الطعام لهم، والرابع موكل بالطباخين والسقائين والفراشين. فأقمت عنده ستة عشر يوما، فلم أر أعجب من ترتيبه، ولا أرغد من طعامه. يقدم بين يدي الرجل ما يكفي الأربعة من الأرز المفلفل المطبوخ في السمن والدجاج المقلي والخبز واللحم والحلواء. وهذا الشيخ من أحسن الناس صورة وأقومهم سيرة، وهو يعظ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع. ولما شاهدت مجالسه في الواعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر، ولم ألق فيمن لقيته مثله. حضرت يوما عنده ببستان له على شاطئ النهر، وقد اجتمع فقهاء المدينة وكبراؤها، وأتى الفقهاء من كل ناحية، فأطعم الجميع، ثم صلى بهم صلاة الظهر، وقام خطيبا وواعظا، بعد أن قرأ القراء أمامه بالتلاحين المبكية والنغامت المحركة المهيجة، وخطب خطبة بسكينة ووقار، وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله وإيراد حديث رسول الله والتكلم على معانيه، ثم ترامت عليه الرقاع من كل ناحية. ومن عادة الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع، ويرموا بها إلى الواعظ، فيجيب عنها. فلما رمي إليه بتلك الرقاع جمعها في يده، وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه. وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا. وكان مجلسه مجلس علم ووعظ وبركة وتبادر التائبون فأخذ عليهم العهد وجز نواصيهم، وكانوا خمسة عشر رجلا من الطلبة قدموا من البصرة برسم ذلك، وعشرة رجال من عوام تستر.
 
=== حكاية ===
لما دخلت هذه المدينة أصابني مرض الحمى، وهذه البلاد يحم داخلها في زمان الحر، كما يعرض في دمشق وسواها من البلاد كثيرة المياه والفواكه. وأصابت الحمى أصحابي أيضا. فمات منهم شيخ اسمه يحيى الخراساني، وقام الشيخ بتجهيزه من كل ما يحتاج إليه الميت، وصلى عليه. وتركت بها صاحبا يدعي بهاء الدين الخشني، فمات بعد سفري. وكنت حين مرضي لا أشتهي الأطعمة التي تصنع لي بمدرسته، فذكر لي الفقيه شمس الدين السندي من طلبتها طعاما فاشتهيته، ودفعت له دراهم وطبخ لي ذلك الطعام بالسوق وأتى به إلي فأكلت منه. وبلغ ذلك الشيخ فشق عليه، وأتى إلي وقال لي: كيف تفعل هذا وتطبخ الطعام في السوق? وهلا أمرت الخدم أن يصنعوا لك ما تشتهيه. ثم أحضر جميعهم وقال لهم: جميع ما يطلب منكم من أنواع الطعام والسكر وغيره فأتوه به واطبخوا له ما يشاء وأكد عليهم في ذلك أشد التأكيد جزاه الله خيرا.
ثم سافرنا من مدينة تستر ثلاثا في جبال شامخة. وبكل منزل زاوية، كما تقدم ذكر ذلك. ووصلنا إلى مدينة إيذج وضبط اسمها بكسر الهمزة وياء مد وذال معجم مفتوح وجيم، وتسمى أيضا مال الأمير، وهي حضرة السلطان أتابك. وعند وصولي إليها اجتمعت بشيخ شيوخ العالم الورع نور الدين الكرماني، وله النظر في كل الزوايا، وهي يسمونها المدرسة. والسلطان يعظمه وبقصد زيارته، وكذلك أرباب الدولة وكبراء الحضرة، يزورونه غدوا وعشيا، فأكرمني وأضافني وأنزلني زاوية تعرف باسم الدينوري، وأقمت بها أياما، وكان وصولي في أيام القيظ، وكنا نصلي صلاة الليل، ثم ننام بأعلى سطحها، ثم ننزل إلى الزاوية ضحوة. وكان في صحبتي اثنا عشر فقيرا، منهم إمام وقارئان مجيدان وخادم، ونحن على أحسن ترتيب.
 
== صفحة : 90 ==
 
=== ذكر ملك إيذج وتستر ===
وملك إيذج في عهد دخولي إليها السلطان أتابك افراسياب بن السلطان أتابك أحمد وأتابك عندهم سمة لجميع من يلي تلك البلاد من ملك. وهي تسمى بلاد اللور. وولي هذا السلطان بعد أخيه أتابك يوسف، وولي يوسف بعد أبيه أحمد، وكان احمد المذكور ملكا صالحا، سمعت من الثقات ببلاده أنه عمر أربعمائة وستين زاوية ببلاده، منها بحضرة إيذج أربع وأربعون، وقسم الخراج أثلاثا: ثلث لنفقة الزوايا والمدارس، وثلث لمراتب العسكر، وثلث لنفقته ونفقة عياله وعبيده وخدامه، ويبعث منه هدية لملك العراق في كل سنة، وربما وفد عليه بنفسه، وشاهدت من أثاره الصالحة ببلاده أن أكثرها في جبال شامخة، وقد نحتت الطرق في الصخور، وسويت ووسعت، بحيث تصعدها الدواب بأحمالها. وطول هذه الجبال مسيرة سبعة عشر في عرض عشرة، وهي شاهقة متصل بعضها ببعض، تشقها الأنهار، وشجرها البلوط، وهم يصنعون من دقيقه الخبز، وفي كل منزل من منازلها زاوية يسمونها المدرسة، فإذا وصل المسافر إلى مدرسة منها أتي بما يكفيه من الطعام والعلف لدابته سواء طلب ذلك أو لم يطلبه فإن عادتهم أن يأتي خادم المدرسة فيعد من نزل بها من الناس، ويعطي كل واحد منهم قرصين من الخبز ولحما وحلواء، وجميعم من أوقاف السلطان عليها. وكان السلطان أتابك أحمد زاهدا صالحا كما ذكرناه، يلبس تحت ثيابه مما يلي جسده ثوب شعر.
==== حكاية ====
قدم السلطان أتابك أحمد مرة على ملك العراق أبي سعيد، فقال له بعض خواصه إن أتابك أحمد يدخل عليك وعليه الدرع، وظن ثوب الشعر الذي تحت ثيابه درعا، فأمره بإختبار ذلك على جهه من الانبساط ليعرف حقيقته، فدخل عليه يوما فقام إليه الأمير الجوبان عظيم الأمراء العراق، والأمير سويته أمير ديار بكر، والشيخ حسن الذي هو الآن سلطان العراق، وأمسكوا بثيابه كأنهم يمازحونه، فوجدوا تحت ثيابه ثوب الشعر، ورآه السلطان أبو سعيد وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جواره وقال له: سن أطا بالتركية، ومعناه أنت أبي، وعوضه عن هديته بأضعافها، وكتب له اليرليغ، وهو الظهير، أن لا يطالبه بهدية بعدها هو ولاأولاده وفي تلك السنة توفي وولي ابنه أتابك يوسف عشرة أعوام، ثم ولي أخوه افراسياب. ولما دخلت مدينة إيذج أردت رؤية افراسياب المذكور فلم يتأت لي ذلك، بسبب أنه لا يخرج إلى يوم الجمعة لإدمانه على الخمر وكان له ابن هو ولي عهده، وليس له سواه فمرض في تلك الأيام، وفي إحدى الليالي أتاني أحد خدامه، وسألني عن حالي فعرفته، وذهب ثم جاء بعد صلاة المغرب، ومعه طيفوران كبيران: أحدهما بالطعام والآخر بالفاكهة، وخريطة فيها دراهم، ومعهم أهل السماع بآلاتهم وقال: اعملوا السماع حتى يهزج الفقراء، ويدعون لابن السلطان فقلت له: إن اصحابي لا يدرون بالسماع ولا بالرقص، ودعونا للسلطان ولولده وقسمت الدراهم على الفقراء. ولما كان نصف الليل سمعنا الصراخ، وقد مات المريض المذكور وفي الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل البلد وقالوا: إن كبراء المدينة من القضاة والفقهاء والأشراف والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطان للعزاء، فينبغي لك أن تذهب في جملتهم فأبيت، فعزموا علي فلم يكن لي بد من المسير، وسرت معهم فوجدت مشوار دار السلطان ممتلئا رجالا وصبيانا من المماليك، وأبناء الملوك والوزراء والأجناد قد لبسوا التلابيس، وجلال الدواب، وجعلوا فوق رؤوسهم التراب والتبن، وبعضهم قد جز ناصيته وانقسموا فرقتين فرقة بأعلى المشور، وفرقة بأسفله وتزحف كل فرقة إلى الأخرى، وهم ضاربون بأيديهم على صدورهم قائلين خوند كارما، ومعنا مولاي أنا، فرأيت من ذلك أمرا هائلا ومنظرا فظيعا لم أعهد مثله.
==== حكاية ====
ومن غريب ما اتفق لي يومئذ أني دخلت فرأيت القضاة والخطباء والشرفاء، قد استندوا إلى حيطان المشور، وهو غاص بهم من جميع جهاته، وهم بين باك ومتباك ومطرق، وقد لبسوا فوق ثيابهم ثيابا خامة من غليظ القطن غير محكمة الخياطة بطائنها إلى أعلى ووجوهها مما يلي أجسادهم، وعلى رأس كل واحد منهم خرقة أو مئزر أسود، وهكذا يكون فعلهم إلى تمام أربعين يوما وهي نهاية الحزن عندهم، وبعدها يبعث السلطان لكل من فعل ذلك كسوة كاملة.
 
== صفحة : 91 ==
فلما رأيت جهات المشور غاصة بالناس نظرت يمينا وشمالا، أرتاد موضعا لجلوسي فرأيت هنالك سقيفة مرتفعة من الأرض بمقدار شبر، وفي إحدى زواياها رجل منفرد عن الناس قاعد، عليه ثوب صوف مثل اللبد يلبسه بتلك البلاد ضعفاء الناس أيام المطر والثلج وفي الأسفار، فتقدمت منه، وانقطع عني أصحابي لما رأوا إقدامي نحوه، وعجبوا مني وأنا لا علم لي بشيء من حاله فصعدت السقيفة وسلمت على الرجل، فرد علي السلام، وارتفع عن الأرض كأنه يريد القيام، وهم يسمون ذلك نصف القيام وقعدت في الركن المقابل له، ثم نظرت إلى الناس، وقد رموني بأبصارهم جميعا فعجبت منهم، ورأيت الفقهاء والمشايخ وألأشراف مستندين إلى الحائط تحت السقيفة، وأشار إلي أحد القضاة أن أنحط إلى جانبه فلم أفعل، وحينئذ استشعرت أنه السلطان فلما كان بعد ساعة أتى شيخ المشايخ نور الدين الكرماني الذي ذكرناه قبل، فصعد إلى السقيفة وسلم على الرجل فقام إليه وجلس فيما بيني وبينه، فحيئذ علمت أنه السلطان.
ثم جيء بالجنازة، وهي بين أشجار الأترج والليمون وقد ملأوا أغصانها بثمارها، وهي بأيدي الرجال فأكان الجنازة تمشي في بستان، والمشاعل في رماح طوال بين يديها، والشمع كذلك، فصلى عليها، وذهب الناس معها إلى مدفن الملوك، وهو بموضع يقال له: هلا فيجان، على اربعة أميال من المدينة، وهنالك مدرسة عظيمة يشقها نهر، وبداخلها مسجد تقام فيه الجمعة وبخارجها حمام، ويحف بها بستان عظيم وبها الطعام للوارد والصادر، ولم أستطع أن أذهب معهم إلى المدفن لبعد الموضع فعدت إلى المدرسة.
فلما كان بعد ايام بعث إلي السلطان رسوله الذي أتاني بالضيافة اولا يدعوني إليه، فذهبت معه إلى باب يعرف بباب السر، وصعدنا في درج كثيرة إلى أن انتهينا إلى موضع لا فرش به، لأجل ما هم فيه من الحزن، والسلطان جالس فوق مخدة، وبين يديه آنيتان قد غطيتا، إحداهما من الذهب وألأخرى من الفضة، وكانت بالمجلس سجادة خضراء، ففرشت لي بالقرب منه، وقعدت عليها وليس بالمجلس إلا حاجبه الفقيه محمود، ونديم له لا أعرف اسمه فسألني عن حالي وبلادي، وسألني عن الملك الناصر وبلاد الحجاز، فأجبته عن ذلك، ثم جاء فقيه كبير، وهو رئيس فقهاء تلك البلاد، فقال لي السلطان، هذا مولانا فضيل، والفقيه ببلاد الأعاجم كلها إنما يخاطب بمولانا وبذلك يدعوه السلطان وسواه، ثم أخذ في الثناء على الفقيه المذكور، وظهر لي أن السكر غالب عليه، وكنت قد عرفت إدمانه على الخمر، ثم قال لي باللسان العربي، وكان يحسنه تكلم فقلت له: إن كنت تسمع مني أقول لك: أنت من أولاد السلطان أتابك احمد المشهور بالزهد والصلاح، وليس فيك ما يقدح في سلطنتك غير هذا، وأشرت إلى الآنيتين فخجل من كلامي وسكت، وأردت الأنصراف فأمرني بالجلوس، وقال لي: الاجتماع مع أمثالك رحمة، ثم رأيته يتمايل ويريد النوم، فانصرفت وكنت تركت نعلي بالباب فلم أجده، فنزل الفقيه محمود في طلبه، وصعد الفقيه فضل يطلبه في داخل المجلس، فوجده في طاق هنالك فأتى به فأخجلني بره واعتذرت إليه، فقبل نعلي ووضعه على رأسه وقال لي: بارك الله فيك هذا الذي قلته لسلطاننا لا يقدر أحد أن يقوله له غيرك، والله أني لأرجو أن يؤثر ذلك فيه.
ثم كان رحيلي من حضرة إيذج بعد ايام، فنزلت بمدرسة السلاطين التي بها قبورهم، وأقمت بها أياما، وبعث إلي السلطان بجملة دنانير، وبعث بمثلها لأصحابي وسافرنا في بلاد هذا السلطان عشرة ايام في جبال شامخة، وفي كل ليلة تنزل بمدرسة فيها الطعام، فمنها ما هو في العمارة، ومنها ما لا عمارة حوله ولكن يجلب إليها جميع ما تحتاج إليه. وفي اليوم العاشر نزلنا بمدرسة تعرف بمدرسة كريو الرخ، وهي آخر بلاد الملك وسافرنا منها في بسيط من الأرض كثير المياه من عمالة مدينة أصفهان.
 
== صفحة : 92 ==
ثم وصلنا إلى بلدة أشتركان وضبط اسمها بضم الهمزة وإسكان الشين المعجم وضم التاء المعلوة وإسكان الراء وآخره نون وهي بلدة حسنة كثيرة المياه والبساتين، ولها مسجد بديع يشقه النهر. ثم رحلنا منها إلى مدينة فيروزان، واسمها: كأنه تثنية فيروز، وهي مدينة صغيرة ذات أنهار وأشجار وبساتين وصلناها بعد صلاة العصر فرأينا أهلها قد خرجوا لتشييع جنازة، وقد أوقدوا خلفها وأمامها المشاعل، وأتبعوها بالمزامير والمغنين بأنواع ألأغاني المطربة، فعجبنا من شأنهم، وبتنا بها ليلة. ومررنا بالغد بقرية يقال لها نبلان، وهي كبيرة على نهر عظيم، وإلى جانبه مسجد على النهاية من الحسن، تصعد إليه في درج، وتحفه البساتين. وسرنا يومنا فيما بين البساتين والمياه والقرى الحسان وأبراج الحمام، ووصلنا بعد العصر إلى مدينة أصفهان من عراق العجم واسمها بقال بالفاء الخالصة ويقال بالفاء المعقودة المفخمة، ومدينة أصفهان من كبار المدن وحسانها إلا أنها الآن قد خرب أكثرها بسبب الفتنة الي بين أهل السنة والروافض، وهي متصلة بينهم حتى الآن، فلا يزالون في قتال وبها الفواكه الكثيرة، ومنها المشمش الذي لا نظير له، يسمونه بقمر الدين، وهم ييبسونه ويدخرونه، ونواه ينكسر عن لوز حلو، ومنها السفرجل الذي لامثيل له في طيب المطعم وعظم الجرم، والأعناب الطيبة والبطيخ العجيب الشأن الذي لا مثيل له في الدنيا إلا ما كان من بطيخ بخارى وخوارزم، وقشره أخضر وداخله أحمر ويدخر كما تدخر الشريحة بالمغرب وله حلاوة شديدة ومن لم يكن ألف أكله فإنه أول أمره يسهله وكذلك أتفق لي ما أكلته بأصفهان وأهل أصفهان حسان الصور وألوانهم بيض زاهرة، مشوبة بالحمرة والغالب عليهم الشجاعة والنجدة، وفيهم كرم وتنافس عظيم فيما بينهم في الأطعمة تؤثر عنهم فيه أخبار غريبة، وربما دعا أحدهم صاحبه فيقول له: اذهب معي لنأكل نان وماس، والنان بلسانهم الخبز والماس اللبن فإذا ذهب معه أطعمه أنواع الطعام العجيب مباهيا له بذلك وأهل كل صناعة يقدمون على أنفسهم كبيرا منهم يسمونه الكلو وكذلك كبار المدينة من غير أهل الصناعات وتكون الجماعة من الشبان الأعزاب، وتفاخر تلك الجماعات، ويضيف بعضهم بعضا مظهرين لما قدروا عليه من الإمكان، محتفلين في الأطعمة وسواها الاحتفال العظيم، ولقد ذكر لي أن طائفة منهم أضافت أخرى، فطبخوا طعامهم بنار الشمع ثم أضافتها الأخرى فطبخوا طعامهم بالحرير. وكان نزولي بأصفهان في زاوية تنسب للشيخ علي بن سهل تلميذ الجنيد، وهي معظمة بقصدها أهل تلك الآفاق، ويتبركون بزيارتها وفيها الطعام للوارد والصادر وبها حمام عجيب مفروش بالرخام وحيطانه بالقاشاني وهو موقوف في السبيل لا يلزم أحدا في دخوله شيء وشيخ هذه الزاوية الصالح العابد الورع قطب الدين حسين ابن الشيخ الصالح ولي الله شمس الدين محمد بن محمود ابن علي المعروف بالرجاء، وأخوه العالم المفتي شهاب الدين أحمد أقمت عند الشيخ قطب الدين بهذه الزاوية أربعة عشر يوما، فرأيت من اجتهاده في العبادة وحبه في الفقراء والمساكين وتواضعه لهم ما قضيت منه العجب وبالغ في إكرامي وأحسن ضيافتي وكساني كسوة حسنة وساعة وصولي الزاوية بعث إلي بالطعام وبثلاث بطيخات من البطيخ الذي وصفناه آنفا، ولم أكن رأيته قبل ولا أكلته.
 
== صفحة : 93 ==
 
=== كرامة لهذا الشيخ: ===
دخل علي يوما بموضع نزولي من الزاوية، وكان ذلك الموضع يشرف على بستان للشيخ، وكانت ثيابه قد غسلت في ذلك اليوم، ونشرت في البستان، ورأيت في جملتها جبة بيضاء مبطنة، تدعى عندهم هزرميخي، فأعجبتني، وقلت في نفسي: مثل هذه كنت أريد فلما دخل علي الشيخ نظر في ناحية البستان، وقال لبعض خدامه، ائتني بذلك الثوب الهزرميخي، فأتوا به فكساني إياه فأهويت إلى قدميه أقبلهما، وطلبت منه أن يلبسني طاقية من رأسه ويجيزني في ذلك بما أجازه والده عن شيوخه، فألبسني إياه في الرابع عشر لجمادى الأخيرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة، بزاويته المذكورة، كما لبس من والده شمس الدين، ولبس والده من أبيه تاج الدين محمود، ولبس محمود من أبيه شهاب الدين علىالرجاء، ولبس علي من الإمام شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي، ولبس عمر من الشيخ الكبير ضياء الدين أبي النجيب السهروردي، ولبس أبو النجيب من عمه الإمام وحيد الدين عمر، ولبس عمر من والده محمد ابن عبد الله المعروف بعمويه، ولبس محمد من الشيخ أخي فرج الزنجاني، ولبس أخو فرج من الشيخ أحمد الدينوري، ولبس أحمد من الإمام ممشاد الدينوري، ولبس ممشاد من الشيخ المحقق علي بن سهل الصوفي، ولبس علي بن أبي القاسم الجنيد، ولبس الجنيد من سري السقطي، ولبس سري السقطي من داود الطائي، ولبس داود من الحسن ابن أبي الحسن البصري، ولبس الحسن ابن أبي الحسن البصري من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قال ابن جزي: هكذا أورد الشيخ أبو عبد الله هذا السند، والمعروف فيه أن سريا السقطي صحب معروفا الكرخي، وصحب معروف داود الطائي، وكذلك داود الطائي بينه وبين الحسن حبيب العجمي، وأخوه فرج الزنجاني إنما المعروف أنه صحب أبا العباس النهاوندي، وصحب النهاوندي أبا عبد الله بن خفيف، وصحب ابن خفيف أبا محمد وربما صحب روبم أبا القاسم الجنيد وأما محمد بن عبد الله عمويه فهو الذي صحب الشيخ أحمد الدينوري الأسود، وليس بينهما أحد والله أعلم والذي صحب أخا فرج الزنجاني هو عبد الله بن ابن محمد بن عبد الله والد أبي النجيب.
 
== صفحة : 94 ==
ثم سافرنا من أصفهان بقصد زيارة الشيخ مجد الدين بشيراز وبينهما مسيرة عشرة ايام فوصلنا إلى بلدة كليل، وضبطها بفتح الكاف وكسر اللام وياء مد وبينها وبين أصفهان مسيرة ثلاثة وهي بلدة صغيرة ذات أنهار وبساتين وفواكه، ورأيت التفاح يباع في سوقها خمسة عشر رطلا عراقيا بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة ونزلنا منها بزاوية عمرها كبير هذه البلدة المعروف بخواجه كافي، وله مال عريض قد اعانه الله على إنفاقه في سبيل الخيرات من الصدقة وعمارة الزوايا وإطعام الطعام لأبناء السبيل ثم سرنا من كليل يومين ووصلنا إلى قرية كبيرة تعرف بصوماء، وبها زاوبة فيها الطعام للوارد والصادر عمرها خواجة كافي المذكور، ثم سرنا منها إلى يزدخاص وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف واسكان الزاي وضم الدال المهمل وخاء معجم والف وصاد مهمل ، بلدة صغيرة متقنة العمارة حسنة السوق: والمسجد الجامع بها عجيب مبني بالحجارة مسقف بها والبلدة على صفة خندق فيه بساتينها ومياهها، وبخارجها رباط ينزل به المسافرون، عليه باب حديد، وهو في النهاية من الحصانة والمنعة، وبداخله حوانيت يباع فيها كل ما يحتاجه المسافرون. وهذا الرباط عمره الأمير محمد شاه ينجو، والد السلطان أبي إسحاق ملك شيراز، وفي يزدخاص يصنع الجبن اليزد خاصي، ولا نظير له في طيبه وزن الجبنة منه من أوقيتين إلى أربع، ثم سرنا منها على طريق دشت الروم، وهي صحراء يسكنها الأتراك. ثم سافرنا إلى مايين واسمها بياءين مسفولتين أولاهما مكسورة وهي بلدة صغيرة كثيرة الأنهار والبساتين حسنة الأسواق، وأكثر أشجارها الجوز. ثم سافرنا منها إلى مدينة شيراز، وهي مدينة أصلية البناء فسيحة الأرجاء شهيرة الذكر منيفة القدر، لها البساتين المونقة والأنهار المتدفقة والأسواق البديعة والشوارع الرفيعة وهي كثيرة العمارة متقنة المباني عجيبة الترتيب وأهل كل صناعة في سوقها لا يخالطهم غيرهم حسان الصور نظاف الملابس وليس في المشرق بلدة تداني مدينة دمشق في حسن أسواقها وبساتينها وأنهارها وحسن صور ساكنيها الا شيراز، وهي في بسيط من الأرض تحف فيها البساتين من جميع الجهات، وتشقها خمسة أنهار، أحدها النهر المعروف بركن آباد وهو عذب الماء شديد البرودة في الصيف، سخن في الشتاء فينبعث من عين في سفح جبل هنالك يسمى القليعة ومسجدها الأعظم يسمى بالمسجد العتيق، وهو أكبر المساجد ساحة وأحسنها بناء، وصحنه متسع مفروش بالمرمر، ويغسل في أوان الحر كل ليلة ويجتمع فيه كبار أهل المدينة كل عشية ويصلون به المغرب والعشاء وبشماله باب يعرف بباب حسن، يفضي إلى سوق الفاكهة وهي من أبداع الأسواق، وأنا أقول بتفضيلها على باب البريد من دمشق. وأهل شيراز أهل صلاح ودين وعفاف، وخصوصا نساؤها وهن يلبسن الخفاف، ويخرجن ملتحفات متبرقعات فلا يظهر منهم شيء ولهن الصدقات والإيثار، ومن غريب حالهن أنهن يجتمعن لسماع الواعظ في كل يوم اثنين وخميس وجمعة بالجامع الأعظم، فربما اجتمع منهن الألف والألفان بأيديهن المراوح، يروحن بها على أنفسهن من شدة الحر. ولم أر اجتماع النساء في مثل عددهن في بلدة من البلاد. وعند دخولي إلى مدينة شيراز لم يكن لي هم الا قصد الشيخ القاضي الإمام قطب الأولياء فريد الدهر ذي الكرامات الظاهرة مجد الدين إسماعيل بن محمد بن خداد، ومعنى خداد عطية الله فوصلت إلى المدرسة المجدية المنسوبة إليه وبها سكناه، وهي من عمارته، فدخلت إليه رابع أربعة من أصحابي، ووجدت الفقهاء وكبار أهل المدينة في انتظاره فخرج إلى صلاة العصر ومعه محب الدين وعلاء الدين ابنا أخي شقيقه روح الدين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وهما نائباه في القضاء لضعف بصره وكبر سنه فسلمت عليه وعانقني وأخذ بيدي إلى أن وصل إلى مصلاه، فأرسل يدي وأومأ إلي أن أصلي إلى جانبه ففعلت وصلى العصر ثم قرئ بين يديه من كتاب المصابيح وشوارق الأنوار للصاغاني، وطالعه نائباه بما جرى لديهما من القضايا، وتقدم كبار المدينة للسلام عليه، وكذلك عادتهم معه صباحا ومساء ثم سألني عن حالي وكيفية قدومي، وسألني عن المغرب ومصر والشام والحجاز فأخبرته بذلك وأمر خدامه فأنزلوني بدويرة صغيرة بالمدرسة وفي غد ذلك اليوم وصل إليه رسول ملك العراق السلطان أبي سعيد وهو ناصر الدين الدرقندي من كبار الأمراء، خراساني الأصل.
 
== صفحة : 95 ==
فعند وصوله إليه نزع شاشيته عن رأسه، وهم يسمونها الكلا، وقبل رجل القاضي، وقعد بين يديه، ممسكا أذن نفسه بيده، وهكذا فعل أمراء التتر عند ملوكهم. وكان هذا الأمير قد قدم في نحو خمسمائة فارس من مماليكه وخدامه وأصحابه ونزل خارج المدينة، ودخل إلى القاضي في خمسة نفر، ودخل مجلسه وحده منفردا متأدبا.فعند وصوله إليه نزع شاشيته عن رأسه، وهم يسمونها الكلا، وقبل رجل القاضي، وقعد بين يديه، ممسكا أذن نفسه بيده، وهكذا فعل أمراء التتر عند ملوكهم. وكان هذا الأمير قد قدم في نحو خمسمائة فارس من مماليكه وخدامه وأصحابه ونزل خارج المدينة، ودخل إلى القاضي في خمسة نفر، ودخل مجلسه وحده منفردا متأدبا.
=== حكاية ===
هي السبب في تعظيم هذا الشيخ وهي من الكرامات الباهرة.
كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهر. فلما أسلم السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر، زاد في تعظيم هذا الفقيه. فزين له مذهب الروافض وفضله في غيره. وشرح له حال الصحابة والخلافة، وقرر لديه أن أبا بكر وعمر كانا وزيرين لرسول الله، وأن عليا ابن عمه وصهره، فهو وارث الخلافة، ومثل له ذلك بما هو مألوف عنده من أن الملك الذي بيده إنما هو إرث عن أجداده وأقاربه مع حداثة عهد السلطان بالكفر، وعدم معرفته بقواعد الدين. فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض، وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وأذربيجان وأصفهان وكرمان وخراسان، وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أول بلاد وصل إليها بغداد وشيراز وأصفهان. فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم وهم أهل السنة وأكثرهم على مذهب الامام أحمد بن حنبل، وقالوا لا سمع ولا طاعة. وأتوا المسجد الجامع في يوم الجمعة ومعهم السلاح وبه رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر قاموا إليه وهم اثنا عشر ألفا من سلاحهم، وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها. فحلفوا له أنه إن غير الخطبة المعتادة، إن زاد فيها أو نقص منها، فإنهم قاتلوه، وقاتلو رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاءه الله. وكان السلطان أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة، ولا يذكر إلا اسم علي ومن تبعه كعمار رضي الله عنهم. فخاف الخطيب من القتل، وخطب الخطبة المعتادة. وفعل أهل شيراز وأصفهان كفعل أهل بغداد. فرجعت الرسل إلى الملك فأخبروه بما جرى في ذلك فأمر أن يؤتى بقضاة المدن الثلاث. فكان أول من أتي به منهم القاضي مجد الدين قاضي شيراز والسلطان إذ ذاك في موضع يعرف بقراباغ، وهو موضع مصيفه. فلما وصل القاضي أمر أن يرمي به إلى الكلاب التي عنده، وهي كلاب ضخام في أعناقها السلاسل معدة لأكل بني آدم. فإذا أوتي بمن يسلط عليه الكلاب جعل في رحبة كبيرة مطلقا غير مقيد، ثم بعثت تلك الكتاب عليه فيفر أمامها ولا مفر له، فتدركه فتمزقه، وتأكل لحمه. فلما أرسلت الكلاب على القاضي مجد الدين ووصلت إليه، بصبصت إليه وحركت أذنابها بين يديه، ولم تهجم عليه بشيء، فبلغ ذلك السلطان، فخرج من داره حافي القدمين فأكب على رجل القاضي يقبلهما، وأخذ بيده وخلع عليه جميع ما كان عليه من الثياب، وهي أعظم كرامات السلطان عندهم، وإذا خلع ثيابه كذلك على أحد، كانت شرفا له ولبنيه وأعقابه يتوارثونه، مادامت تلك الثياب أو شيء منها، وأعظمها في ذلك السراويل. ولما خلع السلطان ثيابه على القاضي مجدالدين أخذ بيده وأدخله إلى داره وأمر نساءه بتعظيمه والتبرك به. ورجع السلطان عن مذهب الرفض، وكتب إلى بلاده ان يقر الناس على مذهب أهل السنة والجماعة، وأجزل العطاء للقاضي وصرفه إلى بلاده مكرما معظما، وأعطاه في جملة عطاياه مائة قرية من قرى جمكان، وهو خندق بين جبلين طوله أربعة وعشرون فرسخا، يشقه نهر عظيم. القرى منتظمة بجانبيه، وهو أحس موضع بشيراز. ومن قراه العظيمة التي تضاهي المدن قرية ميمن، وهي للقاضي المذكور. ومن عجائب هذا الموضع المعروف بجمكان أن نصفه مما يلي شيراز وذلك مسافة اثني عشر فرسخا شديد البرد وينزل فيه الثلج وأكثر شجره الجوز، والجزء الآخر مما يلي بلاد هنج وبال وبلاد اللار في طريق هرمز شديد الحر وفيه شجر النخيل.
 
== صفحة : 96 ==
وقد تكرر لي لقاء القاضي مجد الدين ثانية حين خروجي من الهند. قصدته من هرمز متبركا بلقائه، وذلك سنة ثمان وأربعين. وبين هرمز وشيراز مسيرة خمسة وثلاثين يوما. فدخلت عليه وهو قد ضعف عن الحركة، فسلمت عليه فعرفني وقام إلي فعانقني ووقعت يدي على مرفقه، وجلده لاصق بالعظم لا لحم بينهما. وأنزلني بالمدرسة حيث أنزلني أول مرة. وزرته يوما فوجدت ملك شيراز السلطان أبا إسحاق، وسيقع ذكره، قاعدا بين يديه، ممسكا بإذن نفسه، وذلك هو غاية الأدب عندهم، ويفعله الناس إذا قعدوا بين يدي الملك. وأتيت مرة أخرى إلى المدرسة، فوجدت بابها مسدودا. فسألت عن سبب ذلك فأخبرت أن أم السلطان وأخته نشأت بينهما خصومة في ميراث، فصرفهما إلى القاضي مجد الدين. فوصلتا إليه إلى المدرسة، وتحاكمتا عنده. وفصل بينهما بواجب الشرع. وأهل شيراز لا يدعونه بالقاضي، وإنما يقولون له مولانا أعظم. وكذلك يكتبون في التسجيلات والعقود التي تفتقر إلى ذكر اسمه فيها. وكان آخر عهدي به في شهر ربيع الثاني من عام ثمانية وأربعين وسبعمائة. ولاحت علي أنواره وظهرت لي بركاته نفع الله به وبأمثاله.
 
=== ذكر سلطان شيراز ===
وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو إسحاق بن محمد شاه ينجو سماه أبوه باسم الشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به. وهو من خيار السلاطين، حسن الصورة والسيرة والهيئة، كريم النفس جميل الأخلاق متواضع، صاحب قوة وملك كبير. وعسكره ينيف على خمسين ألفا من الترك والأعاجم، وبطانته الادنون إليه أهل أصفهان. وهو لا يأتمن أهل شيراز على نفسه، ولا يستخدمهم ولا يقربهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح، لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجرأة على الملوك. ومن وجد بيده السلاح منهم عوقب. ولقد شاهدت رجلا مرة تجره الجنادرة، وهم الشرط إلى الحاكم، وقد ربطوه في عنقه. فسألت عن شأنه، فأخبرت أنه وجدت في يده قوس بالليل. فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل الأصفهانيين عليهم، لأنه يخافهم على نفسه. وكان أبوه محمد شاه ينجو واليا على شيراز من قبل ملك العراق، وكان حسن السيرة محببا إلى أهلها. فلما توفي ولى السلطان أبو سعيد مكانه الشيخ حسينا، وهو ابن الجويان أمير الأمراء، وسيأتي ذكره، وبعث معه العساكر الكثيرة، فوصل إلى شيراز وملكها وضبط مجابيها. وهي من أعظم بلاد الله مجبى.
 
== صفحة : 97 ==
ذكر لي الحاج قوام الدين الطمغجي، وهو والي المجبى بها، أنه ضمنها بعشرة آلاف دينار دراهم في كل يوم. وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار ذهبا. وأقام بها الأمير حسين مدة ثم أراد القدوم على ملك العراق، فقبض على أبي إسحاق بن محمد شاه ينجو، وعلى أخويه ركن الدين ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون، وأراد حملهم إلى العراق ليطالبوا بأموال أبيهم فلما توسطوا السوق بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة حياء ان ترى في تلك الحال. فإن عادة نساء الأتراك أن لا يغطين وجوههن، واستغاثت بأهل شيراز، وقالت: أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان ? فقام رجل من النجارين يسمى بهلوان محمود، قد رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز فقال: لا نتركها تخرج من بلدنا، ولا نرضى بذلك. فتابعه الناس على قوله وثارت عامتهم ودخلوا في السلاح وقتلوا كثيرا من العسكر وأخذوا الأموال وخلصوا المرأة وأولادها. وفر الأمير حسين ومن معه وقدم على السلطان أبي سعيد مهزوما، فأعطاه العساكر الكثيفة وأمره بالعودة إلى شيراز والتحكم في أهلها بما شاء. فلما بلغ أهلها ذلك، علموا أنهم لا طاقة لهم به فقصدوا القاضي مجد الدين، وطلبوا منه أن يحقن دماء الفريقين ويوقع الصلح، فخرج إلى الأمير حسين. فترجل له الأمير عن فرسه وسلم عليه ووقع الصلح. ونزل الأمير حسين ذلك اليوم خارج المدينة. فلما كان من الغد برز أهلها للقائه في أجمل ترتيب وزينوا البلد وأوقدوا الشمع الكثير، ودخل الامير حسين في أبهة وحفل عظيم وسار فيهم بأحسن سيرة. فلما مات السلطان أبو سعيد وانقرض عقبه، وتغلب كل أمير على ما بيده، خافهم الأمير حسين على نفسه وخرج عنهم، وتغلب السلطان أبو اسحاق عليها وعلى أصفهان وبلاد فارس، وذلك مسيرة شهر ونصف شهر. واشتدت شوكته وطمحت همته إلى تملك ما يليه من البلاد، فبدأ بالأقرب منها وهي مدينة بزد، مدينة حسنة نظيفة عجيبة الأسواق ذات أنهار مطردة وأشجار نضيرة وأهلها تجار شافعية المذهب؛ فحاصرها وتغلب عليها وتحصن الأمير مظفر شاه ابن الأمير محمد شاه بن مظفر بقلعة على ستة أميال منها منيعة، تحدق بها الرمال فحاصره بها. فظهر من الأمير مظفر من الشجاعة ما خرق المعتاد، ولم يسمع بمثله. فكان يضرب على عسكر السلطان أبي إسحاق ليلا، ويقتل ما شاء، ويخرق المضارب والفساطيط، ويعود إلى قلعته فلا يقدر على النيل منه. وضرب ليلة على دوار السلطان وقتل هنالك جماعة وأخذ من عتاق خيله عشرة وعاد إلى قلعته. فأمر السلطان أن تركب في كل ليلة خمسة آلاف فارس ويصنعون له الكمائن. وتلاحقت العساكر فقاتلهم، وخلص إلى قلعته ولم يصب من أصحابه إلا واحدا أتى به إلى السلطان أبي إسحاق فخلع عليه وأطلقه وبعث معه أمانا لمظفر لينزل إليه فأبى ذلك. ثم وقعت بينهما المراسلة ووقعت له محبة في قلب السلطان أبي إسحاق لما رأى من شجاعته. فقال: أريد أن أراه، فإذا رأيته انصرفت عنه. فوقف السلطان في خارج القلعة ووقف هو ببابها، وسلم عليه فقال له السلطان: إنزل على الأمان. فقال له مظفر: إني عاهدت الله أن لا أنزل إليك حتى تدخل أنت قلعتي وحينئذ أنزل إليك، فقال له أفعل ذلك. فدخل إليه السلطان في عشرة من أصحاب الخواص.
فلما وصل باب القلعة ترجل مظفر وقبل ركابه ومشى بين يديه مترجلا، فأدخله داره وأكل من طعامه ونزل معه إلى المحلة راكبا، فأجلسه السلطان إلى جانبه، وخلع عليه ثيابه وأعطاه مالا عظيما، ووقع الاتفاق بينهما ان تكون الخطبة باسم السلطان أبي إسحاق، وتكون البلاد لمظفر وأبيه. وعاد السلطان إلى بلاده.
 
== صفحة : 98 ==
وكان السلطان أبو إسحاق طمح ذات مرة إلى بناء إيوان كإيوان كسرى وأمر أهل شيراز أن يتولوا حفر أساسه. فأخذوا في ذلك. وكان أهل كل صناعة يباهون من عداهم، فانتهوا في المباهاة إلى ان صنعوا القفاف لنقل التراب من الجلد، وكسوها ثياب الحرير المزركش، وفعلوا نحو ذلك في براذع الدواب، وإخراجها وصنع بعضهم الفؤوس من الفضة، وأوقدوا الشمع الكثير. وكانوا حين الحفر يلبسون أجمل ملابسهم، ويربطون فوط الحريرعلى أوساطهم. والسلطان يشاهد أفعالهم من منظرة له. وقد شاهدت هذا المبنى وقد ارتفع عن الأرض نحو ثلاثة أذرع. ولما بني أساسه رفع عن أهل المدينة التخديم فيه، وصارت القعلة تخدم فيه بالأجرة، ويحشر لذلك آلاف منهم. وسمعت والي المدينة يقول إن معظم مجباها ينفق في ذلك البناء. وقد كان الموكل به الأمير جلال الدين بن الفلكي التوريزي، وهو من الكبار. كان أبوه نائبا عن وزير السطان أبي سعيد المسمى علي شاه جيلان. ولهذا الأمير جلال الدين الفلكي أخ فاضل اسمه هبة الله، ويلقب بهاء الملك، وفد على ملك الهند حين وفودي عليه، ووفد معنا شرف الملك أمير يخت، فخلع ملك الهند علينا جميعا، وقدم كل واحد في شغل يليق به، وعين لنا المرتب والإحسان، وسنذكر ذلك. وهذا السلطان أبو إسحاق يريد التشبه بملك الهند المذكور في الإيثار وإجزال العطايا. ولكن أين الثريا من الثرى. وأظم ماتعارفنا من أعطيات أبي إسحاق أنه اعطى الشيخ زاده الخراساني الذي أتاه رسولا عن ملك هراة سبعين ألف دينار. وأما ملك الهند فلم يزل يعطي أضعاف ذلك لمن لا يحصى كثرة من أهل خراسان وغيرهم.
=== حكاية ===
ومن عجيب فعل ملك الهند مع الخراسانيين أنه قدم عليه رجل من فقهاء خراسان هروي المولد، من سكان خوارزم، يسمى بالأمير عبد الله، بعثته الخاتون ترابك زوج الأمير قطلود مور صاحب خوارزم بهدية إلى ملك الهند المذكور، فقبلها وكافأ عنها بأضعافها وبعث ذلك إليها، واختار رسولها المذكور الإقامة عنده فصيره في ندمائه فلما كان ذات يوم قال له: ادخل إلى الخزانة فارفع منها قدر ما تستطيع أن تحمله من الذهب. فرجع إلى داره فأتى بثلاث عشرة خريطة، وجعل في كل خريطة قدر ماوسعته وربط كل خريطة بعضو من أعضائه، وكان صاحب قوة وقام بها، فلما خرج من الخزانة وقع ولم يستطع النهوض. فأمر السلطان بوزن ما خرج به فكان جملته ثلاثة عشر منا بمنان دهلي، والمن الواحد منها خمسة وعشرون رطلا مصريا. فأمره أن يأخذ جميع ذلك فأخذه.
=== حكاية تناسبها ===
اشتكى مرة أمير يخت الملقب بشرف الدين الخراساني، وهو الذي تقدم ذكره آنفا بحضرة ملك الهند، فأتاه الملك عائدا. ولما دخل عليه أراد القيام، فحلف له الملك أن لا ينزل عن كته والكت: السرير. ووضع للسلطان متكأة يسمونها المورة، فقعد عليها. ثم دعا بالذهب والميزان فأحضرا. وأمر المريض أن يقعد في إحدى كفتي الميزان، فقال يا خوند عالم لو علمت أنك تفعل هذا للبست علي ثيابا كثيرة. فقال له البس الآن جميع ما عندك من الثياب. فلبس ثيابه المعدة للبرد المحشوة بالقطن، وقعد في كفة الميزان، ووضع الذهب في الكفة الآخرى حتى رجحه الذهب، وقال له: خذ هذا فتصدق به على رأسك وخرج عنه.
=== حكاية تناسبها == -
وفد عليه الفقير عبد العزيز الأردويلي، وكان قد قرأ علم الحديث بدمشق، فتفقه فيه. فجعل مرتبه مائة دينار دراهم في اليوم، وصرف ذلك خمسة وعشرون دينارا ذهبا. وحضر مجلسه يوما، فسأله السلطان عن حديث، فسرد له أحاديث كثيرة في ذلك المعنى، فأعجبه حفظه، وحلف له برأسه أنه لا يزول من مجلسه حاى يفعل معه ما يراه، ثم نزل الملك عن مجلسه، فقبل قدميه وأمر بإحضار صينية من ذهب، وهي مثل الطيفور الصغير، وأمر أن يؤتى فيها ألف دينار من الذهب، وأخذها السلطان بيده، فصبها عليه، وقال: هي لك مع الصينية. ووفد عليه مرة رجل خراساني يعرف بابن الشيخ عبد الرحمن الأسفراييني، وكان أبوه نزل بغداد، فأعطاه خمسين ألف دينار دراهم وخيلا وعبيدا وخلعا، وسنذكر كثيرا من أخبار هذا الملك عند ذكر بلاد الهند. وإنما ذكرنا هذا لما قدمناه من أن السلطان أبا إسحاق يريد التشبه به في العطايا. وهو وإن كان كريما فاضلا فلا يلحق بطبقة ملك الهند في الكرم والسخاء.
=== ذكر بعض المشاهد بشيراز ===
 
== صفحة : 99 ==
فمنها مشهد أحمد بن موسى أخي علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو مشهد معظم عند أهل شيراز يتبركون به، ويتوسلون إلى الله تعالى بفضله. وبنت عليه طاش خاتون أم السلطان أبي إسحاق مدرسة كبيرة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر. والقراء يقرأون القرآن على التربة دائما. ومن عادة الخاتون أنها تأتي إلى هذا المشهد في كل ليلة اثنين. ويجتمع في تلك الليلة القضاة والفقهاء والشرفاء. وشيراز من أكثر بلاد الله شرفاء. سمعت من الثقات أن الذين لهم بها المرتبات من الشرفاء ألف وأربعمائة ونيف بين صغير وكبير، ونقيبهم عضد الدين الحسيني. فإذا حضر القوم بالمشهد المذكور ختموا القرآن قراءة في المصاحف، وقرأ القراء بالأصوات الحسنة، وأتي بالطعام والفواكه والحلواء. فإذا أكل القوم، وعظ الواعظ. ويكون ذلك كله بعد صلاة الظهر إلى العشي والخاتون في غرفة مطلة على المسجد لها شباك. ثم ضرب الطبول والأنفار والبوقات على باب التربة، كما يفعل عند أبواب الملوك. ومن المشاهد بها مشهد الإمام القطب الولي أبي عبد الله ابن خفيف المعروف عندهم بالشيخ. وهو قدوة بلاد فارس كلها، ومشهد معظم عندهم، يأتون إليهم بكره وعشيا، فيتمسحون به. وقد رأيت القاضي مجد الدين أتاه زائرا واستلمته. وتأتي الخاتون إلى هذا المسجد في كل ليلة جمعة، وعليه زاوية ومدرسة ويجتمع به القضاة والفقهاء ويفعلون به كفعلهم في مشهد أحمد بن موسى وقد حضرت الموضعين جميعا. وتربة الأمير محمد شاه ينجو والد السلطان أبي إسحاق متصلة بهذه التربة. والشيخ أبو عبد الله بن خفيف كبير القدر في الأولياء شهير الذكر، وهو الذي أظهر طريق جبل سرنديب بجزيرة سيلان من أرض الهند.