الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مستخدم:Obayd/مسودة ه»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
ط تصليح
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
سطر 1:
 
 
=المجلد الأول=
 
المقدمة
 
{{بسملة}}
 
قال الشيخ الإمام العلامة الأوحد البارع أوحد الفضلاء وقدوة العلماء وارث الأنبياء شيخ الإسلام مفتي الأنام المجتهد المفسر ترجمان القرآن ذو الفوائد الحسان أبو عبداللهعبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية تغمده الله برحمته.
 
الحمد لله ولا قوة إلا بالله، هذه فوائد مختلفة الأنواع.
 
==فائدة: حقوق المالك والملك==
 
حقوق المالك شيء وحقوق الملك شيء آخر، فحقوق المالك تجب لمن له على أخيه حق وحقوق الملك تتبع الملك ولا يراعى بها المالك، وعلى هذا حق الشفعة للذمي على المسلم من أوجبه جعله من حقوق الأملاك، ومن أسقطه جعله من حقوق المالكين.
السطر 11 ⟵ 17:
والنظر الثاني أظهر وأصح، لأن الشارع لم يجعل للذمي حقًا في الطريق المشترك عند المزاحمة. فقال: إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه فكيف يجعل له حقًا في انتزاع الملك المختص به عند التزاحم وهذه حجة الإمام أحمد نفسه. وأما حديث لا شفعة لنصراني فاحتج به بعض أصحابه وهو أعلم من أن يحتج به، فإنه من كلام بعض التابعين.
 
==فائدة: تمليك المنفعة وتمليك الانتفاع==
==فائدة==
 
تمليك المنفعة شيء وتمليك الانتفاع شيء آخر، فالأول يملك به والمعاوضة، والثاني يملك به الانتفاع دون المعاوضة وعليها إجارة ما استأجره، لأنه ملك المنفعة بخلاف المعارضة على البضع، فإنه لم يملكه، وإنما ملك أن ينتفع به. وكذلك أجاره ما ملك أن ينتفع به من الحقوق، كالجلوس بالرحاب وبيوت المدارس والربط ونحو ذلك لا يملكها، لأنه لم يملك المنفعة، وإنما ملك الانتفاع وعلى هذا الخلاف تخرج إجارة المستعار فمن منعها كالشافعي وأحمد ومن تبعهما، قال: لم يملك المنفعة، وإنما ملك الانتفاع ومن جوزها كمالك ومن تبعه. قال: هو قد ملك المنفعة، ولهذا يلزم عنده بالتوقيت، ولو أطلقها لزمت في مدة ينتفع بمثلها عرفًا، فليس له الرجوع قبلها.
 
==فائدة: تقديم الحكم على سببه==
 
قولهم: إذا كان للحكم سببان جاز تقديمه على أحدهما. ليس بجيد وفي العبارة تسامح والحكم لا يتقدم سببه، بل الأولى أن يقال: إذا كان للحكم سبب وشرط جاز تقديمه على شرطه دون سببه. وأما تقديمه عليهما أو على سببه فممتنع، ولعل النزاع لفظي فإن شرط الحكم من جملة أسبابه المعتبرة في ثبوته، فلو قدمت الظهر مثلًا على الزوال والجلد على الشرب والزنا لم يجز اتفاقًا. وأما إذا كان له سبب وشرط فله ثلاثة أحوال،أحوال. أحدها: أن يتقدم عليهما فلغو، والثاني: أن يتأخر عنهما فمعتبر صحيح، الثالث: أن يتوسط بينهما فهو مثار الخلاف. وله صور.:
 
إحداها: كفارة اليمين سببها الحلف وشرطها الحنث، فمن جوز توسطها راعى التأخر عن السبب، ومن منعه رأى أن الشرط جزء من السبب.
السطر 35 ⟵ 41:
ونظيرها سواءً اسقاط الشفعة قبل البيع فمن لم ير سقوطها، قال: هو تقديم للحكم على سببه، وليس بصحيح بل هو إسقاط لحق كان بعرض الثبوت، فلو أن الشفعة ثبتت ثم سقطت قبل البيع لزم ما ذكرتم ولكن صاحبها رضي بإسقاطها وأن لا يكون البيع سببًا لأخذه بها، فالحق له وقد أسقطه. وقد دل النص على سقوط الخيار والشفعة قبل البيع وصار هذا كما لو أذن له في إتلاف ماله وأسقط الضمان عنه قبل الاتلاف، فإنه لا يضمن اتفاقًا فهذا موجب النص والقياس. وأما إذا أسقطت المرأة حقها من النفقة والقسم، فلها الرجوع فيه ولا يسقط، لأن الطباع لا تصبر على ذلك ولا تستمر عليه لتجدد اقتضائها له كل وقت، بخلاف اسقاط الحقوق الثابتة دفعة كالشفعة والخيار ونحوهما، فإنها قد توطن النفس على إسقاطها وأشباهها لا تتجدد فافهمه.
 
==فائدة: الفرق بين الشهادة والرواية==
 
الفرق بين الشهادة والرواية أن الرواية يعم حكمها الراوي وغيره على ممر الأزمان، والشهادة تخص المشهود عليه وله ولا يتعداهما إلا بطريق التبعية المحضة. فإلزام المعين يتوقع منه العداوة وحق المنفعة واللهمة الموجبة للرد، فاحتيط لها بالعدد والذكورية وردت بالقرابة والعداوة وتطرق التهم، ولم يفعل مثل هذا في الرواية التي يعم حكمها ولا يخص، فلم يشترط فيها عدد ولا ذكورية، بل اشترط فيها ما يكون مغلبًا على الظن. صدق المخبر وهو العدالة المانعة من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط. ولما كان النساء ناقصات عقل ودين لم يكن من أهل الشهادة، فإذا دعت الحاجة إلى ذلك قويت المرأة بمثلها، لأنه حينئذ أبعد من سهوها وغلطها لتذكير صاحبتها لها، وأما اشتراط الحرية ففي غاية البعد ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وقد حكى أحمد عن [[أنس بن مالك]] أنه قال: ما علمت أحدًا رد شهادة العبد والله تعالى يقبل شهادته على الأمم يوم القيامة. فكيف لا يقبل شهادته على نظيره على المكلفين ويقبل شهادته على الرسول {{صل}} في الرواية فكيف لا يقبل على رجل في درهم ولا ينتقض هذا بالمرأة؟ لأنها تقبل شهادتها مع مثلها لما ذكرناه، والمانع من قبول شهادتها وحدها منتف في العبد.
 
وعلى هذه القاعدة مسائل:
السطر 59 ⟵ 65:
ومنها الإخبار عن قدم العيب وحدوثه عند التنازع. والصحيح الاكتفاء فيه بالواحد كالتقويم والقائف. وقالت المالكية: لا بد من اثنين ثم تناقضوا. فقالوا: إذا لم يوجد مسلم قبل من أهل الذمة.
 
==فائدة: قول الواحد في هلال رمضان==
 
إذا كان المؤذن يقبل قوله وحده، مع أن لكل قوم فجرًا وزوالًا وغروبًا يخصهم، فلأن بقبل قول الواحد في هلال رمضان أولى وأحرى.
 
==فائدة: الهدية والاستئذان==
 
يقبل قول الصبي والكافر والمرأة في الهدية والاستئذان. وعليه عمل الأمة قديمًا وحديثًا، وذلك لما احتف بأخبارهم من القرائن التي تكاد تصل إلى حد القطع؟ في كثير من الصور مع عموم البلوى بذلك، وعموم الحاجة إليه. فلو أن الرجل لا يدخل بيت الرجل ولا يقبل هديته إلا بشاهدين عدلين يشهدان بذلك. حرجت الأمة. وهذا تقرير صحيح، لكن ينبغي طرده وإلا وقع التناقض. كما إذا اختلفا في متاع البيت، فإن القرائن التي تكاد تبلغ القطع تشهد بصحة دعوى الرجل لما هو من شأنه. والمرأة لما يليق بها ولهذا قبله الأكثرون وعليه تخرج حكومة سليمان بين المرأتين في الولد وهي محض الفقه. وقد حكى [[ابن حزم]] في [[مراتب الإجماع]] إجماع الأمة على قبول قول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس، وهو كما ذكر، وقد اجتمع في هذه الصورة من قرائن الأحوال من اجتماع الأهل والقرابات وندرة التدليس، والغلط في ذلك مع شهرته وعدم المسامحة فيه ودعوى ضرورات الناس إلى ذلك ما أوجب قبول قولها.
 
==فائدة: الخبر==
 
قبول قول القصاب في الذكاة ليس من هذا الباب بشيء، بل هو من قاعدة أخرى. وهي أن الإنسان مؤتمن على ما بيده وعلى ما يخبر به عنه، فإذا قال الكافر: هذه ابنتي جاز للمسلم أن يتزوجها، وكذا إذا قال: هذا مالي جاز شراؤه وأكله فإذا قال هذا ذكيته جاز أكله، فكل أحد مؤتمن على ما يخبر به مما هو في يده فلا يشترط هنا عدالة ولا عدد.
 
==فائدة: تقسيم الخبر==
 
الخبر إن كان عن حكم عام يتعلق بالأمة، فأمافإما أن يكون مستنده السماع فهو الرواية، وإن كان مستنده الفهم من المسموع فهو الفتوى. وإن كان خبرًا جزئيًا يتعلق بمعين مستنده المشاهدة، أو العلم فهو الشهادة وإن كان خبرًا عن حق يتعلق بالمخبر عنه، والمخبر به هو مستمعه أو نائبه فهو الدعوى. وإن كان خبرًا عن تصديق هذا الخبر، فهو الإقرار وإن كان خبرًا عن كذبه، فهو الإنكار وإن كان خبرًا نشأ عن دليل فهو النتيجة، وتسمى قبل أن يحصل عليها الدليل مطلوبًا، وإن كان خبرًا عن شيء يقصد منه نتيجته فهو دليل وجزؤه مقدمة.
 
==فائدة: معاني لفظ شهد==
 
شهد في لسانهم لها معان. أحدها الحضور ومنه قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } <ref>[ البقرة: 185 ]</ref> وفيه قولان: أحدهما من شهد المصر في الشهر. والثاني من شهد الشهر في المصر. وهما متلازمان. والثاني الخبر ومنه شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله {{صل}} نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح. والثالث الاطلاع على الشيء ومنه: { والله على كل شيء شهيد }، <ref>[ البروج: 9 ]</ref> ، وإذا كان كل خبر شهادة، فليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وعن أحمد فيها ثلاث روايات. إحداهن اشتراط لفظ الشهادة. والثانية الاكتفاء بمجرد الإخبار اختارها شيخنا. والثالثة الفرق بين الشهادة على الأقوال وبين الشهادة وعلى الأفعال، فالشهادة على الأقوال لا يشترط فيها لفظ الشهادة وعلى الأفعال يشترط، لأنه إذا قال: سمعته يقول فهو بمنزلة الشاهد على رسول الله {{صل}} فيما يخبر عنه.
 
==فائدة: حد الخبر==
 
اختلف [[أبو المعالي]] وابنو[[ابن الباقلاني]] في قولهم في حد الخبر إنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب. فقال أبو المعالي: يتعين أن يقال يحتمل الصدق أو الكذب، لأنهما ضدان فلا يقبل إلا أحدهما. وقال القاضي: بل يقال يحتمل الصدق والكذب، وقوله أرجح إذ التنافي إنما هو بين المقبولين لا بين القبولين ولا يلزم من تنافي المقبولات تنافي القبولات، ولهذا يقال: الممكن يقبل الوجود والعدم، وهما متناقضان. والقبولان يجب اجتماعهما له لذاته، لأنه لو وجد أحد القبولين دون الآخر لم يكن ممكنًا، فإنه لو لم يقبل الوجود كان مستحيلًا ولو لم يقبل العدم كان واجبًا فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين. وإن تنافى المقبولان، وكذلك نقول: الجسم يقبل الأضداد فقبولاتها مجتمعة والمقبولات متنافية.
 
==فائدة: الإنشاءات التي صيغها أخبار==
 
اختلف في الإنشاءات التي صيغها أخبار كبعت واعتقتوأعتقت. فقالت الحنفية: هي أخبار، وقالت الحنابلة والشافعية: هي إنشاءات لا أخبار لوجوه، أحدها: لو كانت خبرًا لكانت كذبًا، لأنه لم يتقدم منه مخبره من البيع والعتق، وليست خبرًا عن مستقبل. وفي هذا الدليل شيء، لأن لهم أن يقولوا: إنها إخبارات عن الحال، فخبرها مقارن للتكلم بها. الثاني: لو كانت خبرًا فإما صدقًا وإما كذبًا. وكلاهما ممتنع. أما الثاني فظاهر. وأما الأول فلأن صدقها متوقف على تقدم أحكامها، فأحكامها: إما أن تتوقف عليها فلزم الدور أو لا يتوقف، وذلك محال لأنه لا توجد أحكامها بدونها، ولقائل أن يقول: هو دور معية لا تقدم، فليس بممتنع، وثالثها: أنها لو كانت أخبارات فأما عن الماضي أو الحال، ويمتنع مع ذلك تعليقها بالشرط، لأنه لا يعمل إلا في مستقبل. وإما عن مستقبل وهي محال لأنه يلزم تجردها عن أحكامها في الحال، كما لو صرح بذلك. وقال ستصيرين طالقًا، ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون خبرًا عن الحال. قولكم يمتنع تعليقها بالشرط. قلنا: إذا علقت بالشرط لم تبق أخبارًا عن الحال، بل أخبارًا عن المستقبل. فالخبر عن الحال الإنشاء المطلق، وأما المعلق فلا. ورابعها: أنه لو قال لمطلقة رجعية: أنت طالق. لزمه طلقة أخرى مع أن خبره صدق، فلما لزمه أخرى دل على أنهما إنشاء ولقائل أن يقول: لما قلنا هي خبر عن الحال، بطل هذا الإلزام. وخامسها أن إمتثال قوله تعالى: { فطلقوهن لعدتهن } <ref>[ الطلاق: 1 ]</ref> أن يقول: أنت طالق. وليس هذا تحريمًا، فإن التحريم والتحليل ليس إلى المكلف، وإنما إليه أسبابهما. وليس المراد بالأمر أخبروا عن طلاقهن، وإنما المراد إنشاء أمر يترتب عليه تحريمهن ولا نعني بالإنشاء إلا ذلك. ولقائل أن يقول: المأمور به هو السبب الذي يترتب عليه الطلاق فهنا ثلاثة أمور، الأمر بالتطليق، وفعل المأمور به وهو التطليق. والطلاق وهو التحريم الناشىء عن السبب. فإذا أتى بالخبر عما في نفسه من التطليق فقد وفى الأمر حقه وطلقت. وسادسها أن الإنشاء هو المتبادر إلى الفهم عرفًا وهو دليل الحقيقة. ولهذا لا يحسن أن يقال فيه صدق أو كذب ولو كان خبرًا لحسن فيه أحدهما: وقد أجيب عن هذه الأدلة بأجوبة أخر. فأجيب عن الأول بأن الشرع قدر تقدم مدلولات هذه الأخبار قبل التكلم بها بالزمن الفرد ضرورة الصدق، والتقدير أولى من النقل. وعن الثاني: أن الدور غير لازم فإن هنا ثلاثة أمور مترتبة فالنطق باللفظ لا يتوقف على شيء. وبعده تقدير تقدم المدلول على اللفظ وهو غير متوقف عليه في التقدير وأن توقف عليه في الوجود وبعده لزوم الحكم ولا يتوقف اللفظ عليه وأن توقف هو على اللفظ. وعن الثالث أما يلزم أنها إخبارات عن الماضي ولا يتعذر التعليق، فانفإن الماضي نوعان: ماض تقدم مدلوله عليه قبل النطق به من غير تقدير فهذا يتعذر تعليقه. والثاني ماض بالتقدير لا التحقيق. فهذا يصح تعليقه. وبيانه أنه إذا قال: أنت طالق. إن دخلت الدار فقد أخبر عن طلاق امرأته بدخول الدار. فقدرنا هذا الارتباط قبل تطلقها بالزمن الفرد ضرورة الصدق، وإذا قدر الارتباط قبل النطق صار الخبر عن الارتباط ماضيًا، إذ حقيقة الماضي هو الذي تقدم مخبره خبره، إما تحقيقًا وإما تقديرًا. وعلى هذا فقد اجتمع الماضي والتعليق ولم يتنافيا. وعن الرابع أن المطلقة الرجعية أن أراد بقوله لها. أنت طالق. الخبر عن طلقة ماضية لم يلزمه ثانية، وإن أراد الخبر عن طلقة ثانية فهو كذب لعدم وقوع الخبر، فيحتاج إلى التقدير ضرورة التصديق فيقدر تقدم طلقة قبل طلاقه بالزمن الفرد. يصح معها الكلام فيلزمه. وعن الخامس أن الأمر متعلق بإيجاد خبر يقدر الشارع قبله الطلاق فيلزم به لا أنه متعلق بإنشاء الطلاق حتى يكون اللفظ سببًا كما ذكرتموه، بل هو علامة ودليل على الوقوع، وإنما ينتفي الطلاق عند انتفائه كانتفاء المدلول لانتفاء دليله وعلاماته. ولا يقال: لا يلزم من نفي الدليل نفي المدلول، فإن هذا لازم في الشرعيات لأنها إنما تثبت بأدلتها. فأدلتها أسباب ثبوتها. وأما السادس فهو أقواها وقد قيل إنه لا يمكن الجواب عنه إلا بالمكابرة فإنا نعلم بالضرورة أن من قال لأمرأته: أنت طالق. لا يحسن أن يقال له: صدقت ولا كذبت. فهذه نهاية أقدام الطائفتين في هذا المقام.
 
وفصل الخطاب في ذلك أن لهذه الصيغ نستبين نسبة إلى متعلقاتها الخارجية فهي من هذه الجهات إنشاءات محضة. كما قالت الحنابلة والشافعية ونسبة إلى قصد المتكلم وإرادته: وهي من هذه الجهة خبر عما قصد إنشاءه كما قالت الحنفية: فهي إخبارات بالنظر إلى معانيها الذهنية إنشاءات بالنظر إلى متلقاتها الخارجية. وعلى هذا فإنما لم يحسن أن يقال بالتصديق والتكذيب وإن كانت أخبارًا، لأن متعلق التصديق والتكذيب النفي والإثبات. ومعناهما مطابقة الخبر لمخبره أو عدم مطابقته وهنا المخبر حصل بالخبر حصول المسبب بسببه فلا يتصور فيه تصديق ولا تكذيب، وإنما يتصور التصديق والتكذيب في خبر لم يحصل مخبره ولم يقع به. كقولك: قام زيد فتأمله.
 
فإن قيل: فما تقولون في قول المظاهر أنت علي كظهر أمي هل هو إنشاء أو إخبار، فإن قلتم إنشاء كان باطلًا من وجوه. أحدها: إن الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب والله سبحانه قد كذبهم هنا في ثلاثة مواضع. أحدها في قوله: { ما هن أمهاتهم } <ref>[ المجادلة: 2 ]</ref> فنفى ما أثبتوه وهذا حقيقة التكذيب. ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال: ما هي مطلقة. الثاني قوله تعالى: { وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا } <ref>[ المجادلة: 2 ]</ref> والإنشاء لا يكون منكرًا، وإنما يكون المنكر هو الخبر، والثالث أنه سماه زورًا والزور هو الكذب. وإذا كذبهم الله دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء، الثاني: أن الظهار محرم وليس جهة تحريمه إلا كونه كذبًا والدليل على تحريمه خمسة أشياء. أحدها: ما وصفه بالمنكر. والثاني: وصفه بالزور. والثالث: أنه شرع فيه الكفارة ولو كان مباحًا لم يكن فيه كفارة. والرابع: أن الله قال: { ذلكم توعظون به } <ref>[ المجادلة: 3 ]</ref> والوعظ إنما يكون في غير المباحات. والخامس قوله: { وإن الله لعفو غفور } <ref>[ المجادلة: 2 ]</ref> والعفو والمغفرة إنما يكونان عن الذنب.
 
وإن قلتم: هو إخبار فهو باطل من وجوه. أحدها: أن الظهار كان طلاقًا في الجاهلية فجعله الله في الإسلام تحريمًا تزيله الكفارة وهذا متفق عليه بين أهل العلم. ولو كان خبرًا لم يوجب التحريم فإنه إن كان صدقًا فظاهر. إن كان كذبًا فأبعد له من أن يترتب عليه التحريم. والثاني: أنه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه وهو التحريم، وهذا حقيقه الإنشاء بخلاف الخبر فإنه لا يوجب حكمه بنفسه، فسلب كونه إنشاء مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه جمع بين النقيضين. وثالثها: إن أفادة قوله أنت علي كظهر أمي للتحريم كإفادة قوله: أنت حرة. وأنت طالق. وبعتك ووهبتك وتزوجتك ونحوها لأحكامها. فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار وما الفرق؟ قيل: أما الفقهاء فيقولون الظهار إنشاء ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك وقال: الصواب أنه إخبار. وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء.
 
قال: أما قولهم كان طلاقًا في الجاهلية، فهذا لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق، بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون العصمة عند النطق به. فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم، أو لكونه كذبًا وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه، وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك. قال: وأما قولكم إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار فلا نسلم أن ثم تحريمًا البتة، والذي دل عليه القرآن وجوب تقديم الكفارة على الوطء كتقديم الطهارة على الصلاة، فإذا قال الشارع: لا تصل حتى تتطهر لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه، بل ذلك نوع ترتيب سلمنا أن الظهار ترتب عليه تحريم، لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له ودلالته عليه. وهذا هو الإنشاء، وقد يكون عقوبة محضة كترتيب حرمان الإرث على القتل، وليس القتل إنشاء للتحريم وكترتيب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به، فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بد لآلة اللفظ. وحقيقة الإنشاء أن يكون ذلك اللفظ وضع لذلك الحكم ويدل عليه كصيغ العقود. فسببية القول أعم من كونه سببًا بالإنشاء أو بغيره. فكل إنشاء سبب وليس كل سبب إنشاء. فالسببية أعم فلا يستدل بمطلقها على الإنشاء، فانفإن الأعم لا يستلزم الأخص، فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق وترتبه على الظهار. قال: وأما قولكم إنه كالتكلم بالطلاق والعتاق والبيع ونحوها، فقياس في الأسباب فلا نقبله، ولو سلمناه فنص القرآن يدفعه.
 
وهذه الاعتراضات عليهم باطلة.
 
أما قوله: إن كونه طلاقًا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق إلى آخره. فكلام باطل قطعًا فإنهم لم يكونوا يقصدون الأخبار الكذب ليترتب عليه التحريم، بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادة للطلاق ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين ولا مخبرين، وإنما كانوا منشئين للطلاق به. ولهذا كان هذا ثابتًا في أول الإسلام حتى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة بنت ثعلبة. كانت تحت عبادة بن الصامت، فقال لها: أنت علي ظهر أمي. فأتت رسول الله {{صل}} فسألته عن ذلك فقال رسول الله {{صل}}: «حرمت عليه» فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق، وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي، فقال: «حرمت عليه» فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، فقال رسول الله {{صل}}: «ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أؤمر في شأنك بشيء»، فجعلت تراجع رسول الله {{صل}}. وإذا قال لها: حرمت عليه هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فنزل الوحي على رسول الله {{صل}} فلما قضى الوحي قال: «ادعي زوجك» فتلا عليه رسول الله {{صل}}: { قد سمع الله }. <ref>[ المجادلة: 1 ]</ref> . الآيات فهدافهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بالكفارة، وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند ولادها عشرة أبطن ونحوه، فإنه ليس هنا لفظ إنشاء يقتضي التحريم، بل هو شرع منهم لهذا التحريم عند هذا السبب.
 
وأما قوله إنا لا نسلم أنه يوجب تحريمًا فكلام باطل فإنه لا نزاع بين الفقهاء أن الظهار يقتضي تحريمًا تزيله الكفارة فلو وطئها قبل التكفير أثم بالإجماع المعروف من الدين والتحريم المؤقت هنا.هنا، كالتحريم بالإحرام وبالصيام والحيض. وأما تنظيره بالصلاة مع الطهر ففاسد فإن الله أوجب عليه صلاة بطهر، فإذا لم يأت بالطهر ترك ما أوجب الله عليه فاستحق الإثم، وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته وشبهها بمن تحرم عليه.عليه، فمنعه الله من قربانها حتى يكفر. فهنا تحريم مستند إلى طهارة وفي الصلاة لا تجزىتجزئ منه بغير طهر، لأنها غير مشروعة أصلًا. وقوله التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له وقد يكون عقوبة إلى آخره جوابه أنهما غير متنافيين في الظهار فإنه حرام، وتحرم به تحريمًا مؤقتًا حتى يكفر. وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء كجمع الثلاث عند من يوقعها، والطلاق في الحيض فإنه يحرم ويتعقبه التحريم، وقد قلتم: إن طلاق السكران يصح عقوبة له. مع أنه لو لم يأت بإنشاء السبب لم تطلق امرأته اتفاقًا فكون التحريم عقوبة لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها. قوله السببية أعم من الإنشاء إلى آخره جوابه أن السبب نوعان: فعل وقول فمتى كان قولًا لم يكن إنشاء. فإن أردتم بالعموم أن سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارًا فممنوع. وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول فمسلم. ولا يفيدكم شيئًا.
 
وفصل الخطاب أن قوله: "أنت علي كظهر أمي" يتضمن إنشاء وإخبارًا، فهو إنشاء من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ، وإخبار من حيث تشبيهها بظهر أمه. ولهذا جعله الله منكرًا وزورًا. فهو منكر باعتبار الإنشاء، وزور باعتبار الإخبار.
 
وأما قوله: إن المنكر هو الخبر الكاذب، فالخبر الكاذب من المنكر. والمنكر أعم منه، فالإنكار في الإنشاء والإخبار فإنه ضد المعروف، فما لم يؤذن فيه من الإنشاء فهو منكر، وما لم يكن صدقًا من الإخبار فهو زور.
 
==فائدة: المجاز والتأويل==
 
المجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص، وإنما يدخل في الظاهر المحتمل له. وهنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي أن كون اللفظ نصًا يعرف بشيئين. أحدهما: عدم احتماله لغير معناه وضعًا، كالعشرة. والثاني ما أطرد استعماله على طريقة واحدة في جميع موارده، فإنه نص في معناه لا يقبل تأويلًا ولا مجازًا. وإن قدر تطرق ذلك إلى بعض أفراده وصار هذا بمنزلة خبر المتواتر لا يتطرق احتمال الكذب إليه، وإن تطرق إلى كل واحد من أفراده بمفرده، وهذه عصمة نافعة تدلك على خطأ كثير من التأويلات السمعيات التي أطرد استعمالها في ظاهرها وتأويلها. والحالة هذه غلط، فإن التأويل إنما يكون لظاهر قد ورد شاذًا مخالفًا لغيره، ومن السمعيات فيحتاج إلى تأويله لتوافقها. فإما إذا أطردت كلها على وتيرة واحدة صارت بمنزلة النص وأقوى، فتأويلها ممتنع. فتأمل هذا.
 
==فائدة: إضافة الموصوف للصفة==
 
أضافوا الموصوف إلى الصفة وإن اتحدا، لأن الصفة تضمنت معنى ليس في الموصوف فصحت الإضافة للمغايرة. وهنا نكتة لطيفة وهي أن العرب، إنما تفعل ذلك في الوصف المعرفة اللازم للموصوف لزوم اللقب للأعلام، كما لو قالوا، زيد بطة أي صاحب هذا اللقب. وأما الوصف الذي لا يثبت كالقائم والقاعد ونحوه. فلا يضاف الموصوف إليه لعدم الفائدة المخصصة التي لأجلها أضيف الاسم إلى اللقب فإنه لما تخصص به كأنك قلت: صاحب هذا اللقب. وهكذا في مسجد الجامع وصلاة الأولى فإنه لما تخصص الجامع بالمسجد ولزمه كأنك قلت: صاحب هذا الوصف، فلو قلت: زيد الضاحك وعمرو القائم لم يجز. وكذا إن كان لازمًا غير معرفة. تقول: مسجد جامع وصلاة أولى.
 
==فائدة: الاسم والمسمى==
 
اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلًا له حقيقة متميزة متحصلة فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه، لأنه شيء موجود في اللسان مسموع بالآذان.
السطر 119 ⟵ 125:
فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلًا. واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان، وهو المسمى والمعنى. واللفظ الدال عليه الذي هو الزاي والياء والدال هو الاسم، وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه. فقد بان لك أن الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى. ولهذا تقول: سميت هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية. والحلية غير المحلى. فكذلك الاسم غير المسمى. وقد صرح بذلك سيبويه، وأخطأ من نسب إليه غير هذا وادعى أن مذهبه اتحادهما. والذي غر من ادعى ذلك قوله الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وهذا لا يعارض نصه قبل هذا. فإنه نص على أن الاسم غير المسمى. فقال الكلم: اسم وفعل وحرف، فقد صرح بأن الاسم كلمة. فكيف تكون الكلمة هي المسمى، والمسمى شخص.
 
ثم قال بعد هذا: تقول سميت زيد بهذا الاسم، كما تقول علمته بهذه العلامة. وفي كتابه قريب من ألف موضع أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى. ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير وإعراب وبناء، فذلك كله من عوارض الاسم لا تعلق لشيء من ذلك بالمسمى أصلًا وما قال نحوي قط ولا عربي أن الاسم هو المسمى، ويقولون: أجل مسمى يقولون أجل اسم، ويقولون: مسمى هذا الاسم كذا. ولا يقول أحد: اسم هذا الاسم كذا ويقولون هذا الرجل مسمى بزيد ولا يقولون: هذا الرجل اسم زيد ويقولون بسم الله ولا يقولون بمسمى الله. وقال رسول الله {{صل}}: «لي خمسة أسماء» ولا يصح أن يقال لي خمس مسميات وتسمواو «تسموا باسمي»، ولا يصح أن يقال تسموا بمسمياتي ولله تسعة وتسعون اسمًا ولا يصح أن يقال تسعة وتسعون مسمى.
 
وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمى فبقي ها هنا التسمية وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الاسم والمسمى. والتسمية عبارة عن فعل المسمى، ووضعه الاسم للمسمى. كما أن التحلية عبارة عن فعل المحلى ووضعه الحلية على المحلى. فهنا ثلاث حقائق اسم ومسمى وتسمية، كحلية ومحلى وتحلية وعلامة ومعلم وتعليم ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقها، وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد.
السطر 131 ⟵ 137:
وبلاء القوم من لفظة الغير فإنها يراد بها معنيين: أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار فلا يكون إلا مخلوقًا. ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها، فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام. كان المعنى صحيحًا، ولكن الإطلاق باطل، وإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره كان باطلًا لفظًا ومعنى.
 
وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن وقالوا: كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه. فالله تعالى اسم الذات الموصوفة بصفات الكمال، ومن تلك الصفات صفة الكلام، كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة. وإذا كان القرآن كلامه وهو صفة من صفاته فهو متضمن لأسمائه الحسنى، فإذا كان القرآن غير مخلوق ولا يقال: إنه غير الله، فكيف يقال أنإن بعض ما تضمنه وهو أسماؤه مخلوقة وهي غيره، فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الاشكال. وإن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه وكلامه غير مخلوق ولا يقال: هو غيره ولا هو هو وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون: أسماؤه تعالى غيره وهي مخلوقة ولمذهب من رد عليهم ممن يقول: اسمه نفس ذاته لا غيره، وبالتفصيل تزول الشهبه ويتبين الصواب والحمد لله.
 
حجة ثانية لهم، قالوا: قال تبارك وتعالى تبارك اسم ربك. وإذكر اسم ربك. سبح اسم ربك.
السطر 139 ⟵ 145:
أحدهما: أن رسول الله {{صل}} لم يفهم هذا المعنى وإنما قال: «سبحان ربي»، فلم يعرج على ما ذكرتموه.
 
الثاني: أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل وسائر ما يطلق على المسمى.المسمى، فيقال: الحمد لاسم الله ولا إله إلا اسم الله ونحوهونحوه؛ وهذا مما لم يقله أحد.
 
بل الجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان. والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعًا ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما فصار معنى الآيتين: سبح ربك بقليل ولسانك واذكر ربك بقلبك ولسانك. فاقحم الاسم تنبيهًا على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر، والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله، لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى.
 
وعبر لي شيخنا أبو العباس [[ابن تيمية]] قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: المعنى سبح ناطقًا باسم ربك متكلمًا به وكذا: سبح اسم ربك المعنى سبح ربك ذاكرًا اسمه. وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها. فالحمد الله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته.
 
حجة ثالثة لهم قالوا: قال تعالى: { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } <ref>[ يوسف: 4 ]</ref> وإنما عبدوا مسمياتها.
 
والجواب أنه كما قلتم: إنما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها. وهذا كمن سمى قشور البصل لحمًا وأكلها فيقال: ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه، وكمن سمى التراب خبزًا وأكله يقال: ما أكلت من إلا اسم الخبر. بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه، وما الحكمة ثم إلا مجرد الاسم. فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
 
فإن قيل: فما الفائدة في دخول الباء في قوله: { فسبح باسم ربك العظيم } <ref>[ الواقعة: 74 ]</ref> ولم تدخل في قوله: { سبح اسم ربك الأعلى }؟ <ref>[ الأعلى: 1 ]</ref> ؟
 
قيل: التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر، ويراد به ذلك مع الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل، ولهذا تسمى الصلاة تسبيحًا. فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء، لأنه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: سبحت بالله، وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء تنبيهًا على ذلك المراد كأنك قلت: سبح مفتتحًا باسم ربك أو ناطقًا باسم ربك، كما تقول صل مفتتحًا أو ناطقًا باسمه. ولهذا السر والله أعلم دخلت اللام في قوله تعالى: { سبح لله ما في السماوات والأرض } <ref>[الحديد؛ الحديد: 1، الحشر: 1،الحشر؛ الصف: 1 ]</ref> ، والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة ولم يقل في موضع سبح الله ما في السموات والأرض كما قال: { ولله يسجد من في السموات والأرض }، <ref>[ النحل: 49 ]</ref> ، وتأمل قوله تعالى: { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون }، <ref>[ الأعراف: 206 ]</ref> ، فكيف قال: ويسبحونه لما ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه.
 
شبهة رابعة: قالوا قد قال الشاعر:
السطر 161 ⟵ 167:
وهذه حجة عليهم لا لهم. أما قوله: ثم اسم السلام عليكما، فالسلام هو الله تعالى والسلام أيضا التحية، فإن أراد الأول فلا إشكال، فكأنه قال: ثم اسم السلام عليكما أي بركة اسمه وإن أراد التحية فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول وباسمه لفظه الدال عليه، والمعنى ثم اسم هذا المسمى عليكما، فيراد بالأول اللفظ، وبالثاني المعنى كما تقول زيد بطة ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه. وفيه نكتة حسنة كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما جار لا ينقطع مني بل أنا مراعيه دائمًا.
 
وقد أجاب السهيلي عن البيت بجواب آخر وهذا حكاية لفظه فقال: لبيد لم يرد إيقاع التسليم عليهم لحينه، وإنما أراد بعد الحول ولو قال: السلام عليكما كان مسلمًا لوقته الذي نطق فيه بالبيت، فكذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول وذلك أن السلام دعاء، فلا يتقيد بالزمان المستقبل، وإنما هو لحينه ألا نرى أنه لا يقال بعد الجمعة اللهم ارحم زيدًا ولا بعد الموت اللهم اغفر لي. إنما يقال: اللهم اغفر لي بعد الموت فيكون بعد ظرفًا للمغفرة والدعاء واقع لحينه، فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفًا للدعاء صرحت بلفظ الفعل. فقلت بعد الجمعة: ادعو بكذا أو أسلم أو ألفظ بكذا، لأن الظروف إنما يريد بها الأحداث الواقعة فيها خبرًا أوامرًا أو نهيًا، وأما غيرها من المعاني كالطلاق واليمين والدعاء والتمني والاستفهام وغيرها من المعاني، فإنما هي واقعة لحين النطق بها، وكذلك يقع الطلاق ممن قال بعد يوم الجمعة: أنت طالق وهو مطلق لحينه. ولو قال بعد الحول: والله لأخرجن انعقدت اليمين في الحال ولا ينفعه أن يقول أردت أن لا أوقع اليمين إلا بعد الحول فإنه لو أراد ذلك لقال بعد الحول أحلف أو بعد الجمعة أطلقك. فأما الأمر والنهي والخبر فإنما تقيدت بالظروف، لأن الظروف في الحقيقة إنما يقع فيها الفعل المأمور به والمخبر به دون الأمر والخبر فإنهما واقعان لحين النطق بهما، فإذا قلت: اضرب زيدًا يوم الجمعة، فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة، وأما الأمر فأنت في الحال آمر به، وكذلك إذا قلت: سافر زيد يوم الجمعة فالمتقيد باليوم المخبر به لا الخبر، كما أن قوله اضربه يوم الجمعة المقيد بالظرف المأمور به لا أمرك أنت فلا تعلق للظروف إلا بالأحداث، فقد رجع الباب كله بابًا واحدًا فلو أن لبيدًا قال: إلى الحول ثم السلام عليكما.عليكما، لكان مسلمًا لحينه، ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول، وكذلك ذكر الاسم الذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم ليكون ما بعد الحول ظرفًا له.
 
وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله.
السطر 167 ⟵ 173:
وأما قوله باسم الماء، والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة، ولهذا عرفه تعريف الحقيقة الذهينة والبيت لذي الرمة وصدره: * لا ينعش الطرف إلا ما تحونه * ثم قال داع يناديه باسم الماء، فظن الغالط إنه أراد حكاية صوت الظبية وإنها دعت ولدها بهذا الصوت وهو ماما، وليس هذا مراده، وإنما الشاعر ألغز لما وقع الاشتراك بين لفظ الماء المشروب وصوتها به، فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبر عن الماء المشروب فكأنها تصوت باسم هذا الماء المشروب، وهذا لأن صوتها ماما وهذا في غاية الوضوح.
 
==فائدة: اسم الله والاشتقاق==
 
زعم [[السهيلي]] وشيخه [[أبو بكر بن العربي]] أن اسم الله غير مشتق، لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها، واسمه تعالى قديم، والقديم لا مادة له فيستحيل الاشتقاق. ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى وإنه مستمد من أصل آخر فهو باطل. ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم، وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له. فما كان جوابكم عن هذه الأسماء؟ فهو جواب القائلين باشتقاق اسمه الله.
 
ثم الجواب عن الجميع أننا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلًا وفرعًا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة. وقول سيبويه أنإن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء هو بهذا الاعتبار لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولا ثم اشتقوا منها الأفعال، فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب بالأسماء لا فرق بينهما. فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي، وإنما هو اشتقاق تلازم سمى المتضمن بالكسر مشتقًا، والمتضمن بالفتح مشتقًا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى.
 
==فائدة: هل الرحمن في البسملة نعت==
 
استبعد قوم أن يكون الرحمن نعتًا لله، من قولنا: بسم الله الرحمن الرحيم، وقالوا الرحمن علم، والأعلام لا ينعت بها. ثم قالوا: هو بدل من اسم الله قالوا: ويدل على هذا أن الرحمن علم مختص بالله لا يشاركه فيه غيره، فليس هي كالصفات التي هي العليم والقدير والسميع والبصير، ولهذا تجري على غيره تعالى. قالوا: ويدل عليه أيضا وروده في القرآن غير تابع لما قبله كقوله: { الرحمن على العرش استوى }، <ref>[ طه: 5 ]</ref> ، { الرحمن * علم القرآن }، <ref>[ الرحمن: 2 ]</ref> ، { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن }، <ref>[ الملك: 20 ]</ref> ، وهذا شأن الأسماء المحضة، لأن الصفات لا يقتصر على ذكرها دون الموصوف. قال السهيلي: والبدل عندي فيه ممتنع، وكذلك عطف البيان لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، فإنه أعرف المعارف كلها وأبينها. ولهذا قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا: وما الله ولكنه، وإن جرى مجرى الإعلام فهو وصف يراد به الثناء، وكذلك الرحيم إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه، وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية. فإن التثنية في الحقيقة تضعيف. وكذلك هذه الصفة فكأن غضبان وسكران كامل لضعفين من الغضب والسكر فكان اللفظ مضارعًا للفظ التثنية لأن التثنية ضعفان في الحقيقة، ألا ترى أنهم أيضا قد شبهوا التثنية بهذا البناء إذا كانت لشيئين متلازمين. فقالوا: الحكمان والعلمان وأعربوا النون كأنه اسم لشيء واحد. فقالوا: اشترك باب فعلان وباب التثنية. ومنه قول فاطمة: يا حسنان يا حسينان برفع النون لابنيها ولمضارعة التثنية امتنع جمعه فلا يقال غضابين، وامنع تأنيثه فلا يقال غضبانة، وامتنع تنوينه كما لا ينون نون المثنى فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظًا ومعنى. وفائدة الجمع بين الصفتين الرحمن والرحيم الإنباء عن رحمة عاجلة وآجلة وخاصة وعامة. تم كلامه.
 
قلت: أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية. فالرحمن اسمه تعالى ووصفه لا تنافي اسميته وصفيته فمن حيث هو صفة جرى تابعًا على اسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورود الاسم العلم. ولما كان هذا الاسم مختصًا به تعالى حسن مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك، وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمن كاسم الله فإنه دال على صفة الألوهية ولم يجيء قط تابعًا لغيره، بل متبوعًا. وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة.
السطر 181 ⟵ 187:
فتأمل هذه النكتة البديعة يظهر لك بها أن الرحمن اسم وصفة لا ينافي أحدهما الآخر. وجاء استعمال القرآن بالأمرين جميعًا.
 
وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين ذكرهما، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف، والثاني للفعل. فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: { وكان بالمؤمنين رحيمًا }، <ref>[ الأحزاب: 43 ]</ref> ، { إنه بهم رؤوف رحيم }. <ref>[ التوبة: 117 ]</ref> . ولم يجىء قط رحمن بهم فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم ينجل لك صورتها.
 
==فائدة: حذف العامل في بسم الله==
 
لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة.
السطر 195 ⟵ 201:
ومن عجب قول العواذل من به ** وهل غير من أهوى يحب ويعشق
 
==فائدة: عطف الصلاة على البسملة==
 
اسثشكل طائفة قول المصنفين: "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله"، وقالوا: الفعل بعد الواو دعاء بالصلاة والتسمية قبله خبر، والدعاء لا يحسن عطفه على الخبر. لو قلت: مررت بزيد وغفر الله لك لكان غثًا من الكلام والتسمية في معنى الخبر، لأن المعنى افعل كذا باسم الله.
السطر 201 ⟵ 207:
وحجة من أثبتها الاقتداء بالسلف. والجواب عما قاله هوان الواو لم تعطف دعاء على خبر، وإنما عطفت الجملة على كلام محكي، كأنك تقول بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد أو أقول هذا وهذا، أو اكتب هذا وهذا.
 
==فائدة: بطلان أن الصلاة من الله بمعنى الرحمة==
==فائدة==
 
قولهم: الصلاة من الله بمعنى الرحمة باطل من ثلاثة أوجه:
 
أحدها: أن الله تعالى غاير ينهما في قوله: { عليهم صلوات من ربهم ورحمة }. <ref>[ البقرة: 157 ]</ref> .
 
الثاني: أن سؤال الرحمة تشرع لكل مسلم والصلاة تختص بالنبي {{صل}} وهي حق له ولآله. ولهذا منع كثير من العلماء من الصلاة على معين غيره، ولم يمنع أحد من الترحم على معين.
السطر 211 ⟵ 217:
الثالث: أن رحمة الله عامة وسعت كل شيء وصلاته خاصة بخواص عباده.
 
وقولهم الصلاة من العباد بمعنى الدعاء مشكل من وجوه.:
 
أحدها: أن الدعاء يكون بالخير والشر والصلاة لا تكون إلا في الخير.
السطر 219 ⟵ 225:
الثالث: أن فعل الدعاء يقتضي مدعوًا أو مدعوًا له، تقول: دعوت الله لك بخير، وفعل الصلاة لا تقتضي ذلك، لا نقول: صليت الله عليك، ولا لك. فدل على أنه ليس بمعناه، فأي تباين أظهر من هذا، ولكن التقليد يعمي عن إدراك الحقائق فإياك والإخلاد إلى أرضه.
 
ورأيت لأبي القاسم السهيلي كلامًا حسنًا في اشتقاق الصلاة وهذا لفظه قال: معنى الصلاة اللفظة حيث تصرفت ترجع إلى الحنو والعطف.والعطف، إلا أن الحنو والعطف يكون محسوسًا ومعقولًا فيضاف إلى الله منه ما يليق بجلاله وينفي عنه ما يتقدس عنه، كما أن العلو محسوس ومعقول. فالمحسوس منه صفات الأجسام. والمعقول منه صفة ذي الجلال والإكرام. وهذا المعنى كثير موجود في الصفات، والكثير يكون صفة للمحسوسات، وصفة للمعقولات وهو من أسماء الرب تعالى، وقد تقدس عن مشابهة الأجسام ومضاهاة الأنام. فالمضاف إليه من هذه المعاني معقولة غير محسوسة، ثم إذا ثبت هذا فالصلاة كما تسمى عطفًا وحنوًا. تقول: اللهم اعطف علينا أي ارحمنا، قال الشاعر:
 
وما زلت في ليني له وتعطفي ** عليه كما تحنو على الولد الأم
السطر 225 ⟵ 231:
ورحمة العباد رقة في القلب إذا وجدها الراحم من نفسه انعطف على المرحوم وانثنى عليه. ورحمة الله للعباد جود وفضل، فإذا صلى عليه فقد أفضل عليه وأنعم. وهذه الأفعال إذا كانت من الله أو من العبد فهي متعدية بعلى مخصوصة بالخير لا تخرج عنه إلى غيره، فقد رجعت كلها إلى معنى واحد إلا أنها في معنى الدعاء. والرحمة صلاة معقولة أي انحناء معقول غير محسوس ثمرته من العبد الدعاء لأنه لا يقدر على أكثر منه، وثمرته من الله الإحسان والإنعام فلم تختلف الصلاة في معناها، إنما اختلفت ثمرتها الصادرة عنها. والصلاة التي هي الركوع والسجود انحناء محسوس فلم يختلف المعنى فيها إلا من جهة المعقول والمحسوس وليس ذلك باختلاف في الحقيقة، ولذلك تعدت كلها بعلى واتفقت في اللفظ المشتق من الصلاة ولم يجز صليت على العدو أي دعوت عليه فقد صار معنى الصلاة أرق وأبلغ من معنى الرحمة وإن كان راجعًا إليه، إذ ليس كل راحم ينحني على المرحوم ولا ينعطف عليه.
 
==فائدة: اشتقاق الفعل من المصدر==
 
رأيت للسهيلي فصلًا حسنًا في اشتقاق الفعل من المصدر هذا لفظه. قال: فائدة اشتقاق الفعل من المصدر. إن المصدر اسم كسائر الأسماء يخبر عنه، كما يخبر عنها. كقولك: أعجبني خروج زيد، فإذا ذكر المصدر وأخبر عنه كان الاسم الذي هو الفاعل له مجرورًا بالإضافة، والمضاف إليه تابع للمضاف، فإذا أرادوا أن يخبروا عن الاسم الفاعل للمصدر لم يكن الإخبار عنه وهو مخفوض تابع في اللفظ لغيره، وحق المخبر عنه أن يكون مرفوعًا مبدوءًا به فلم يبق إلا أن يدخلوا عليه حرفًا يدل على أنه مخبر عنه، كما تدل الحروف على معاني في الأسماء. وهذا لو فعلوه لكان الحرف حاجزًا بينه وبين الحدث في اللفظ. والحدث يستحيل انفصاله عن فاعله كما يستحيل انفصال الحركة عن محلها. فوجب أن يكون اللفظ غير منفصل، لأنه تابع للمعنى فلم يبق إلا أن يشتق من لفظ الحدث لفظ يكون كالحرف في النيابة عنه دالًا على معنى في غيره، ويكون متصلًا اتصال المضاف بالمضاف إليه وهو الفعل المشتق من لفظ الحدث، فإنه يدل على الحدث بالتضمن ويدل على الاسم مخبرًا عنه لا مضافًا إليه، إذ يستحيل إضافة لفظ الفعل إلى الاسم كاستحالة إضافة الحرف، لأن المضاف هو الشيء بعينه. والفعل ليس هو الشيء بعينه ولا يدل على معنى في نفسه، وإنما يدل على معنى في الفاعل وهو كونه مخبرًا عنه فإن قلت: كيف لا يدل على معنى في نفسه وهو يدل على الحدث. قلنا: إنما يدل على الحدث بالتضمن. والدال عليه بالمطابقة هو الضرب والقتل لا ضرب وقتل، ومن ثم وجب أن لا يضاف ولا يعرف بشيء من آلات التعريف، إذ التعريف يتعلق بالشيء بعينه لا بلفظ يدل على معنى في غيره، ومن ثم وجب أن لا يثنى ولا يجمع كالحرف، ومن ثم وجب أن يبنى كالحرف، ومن ثم وجب أن يكون عاملًا في الاسم كالحرف كما أن الحرف لما دل على معنى في غيره وجب أن يكون له أثر في لفظ ذلك الغير. كما له أثر في معناه، وإنما أعرب المستقبل ذو الزوائد لأنه تضمن معنى الاسم إذ الهمزة تدل على المتكلم والتاء على المخاطب والياء على الغالب. فلما تضمن بها معنى الاسم ضارعه فاعرب. كما أن الاسم إذا تضمن معنى الحرف بني. وأما الماضي والأمر فإنهما وإن تضمنا معنى الحدث وهو اسم فما شار كافيه الحرف من الدلالة على معنى في غيره وهي حقيقة الحرف أوجب بناءهما حتى إذا ضارع الفعل الاسم من وجه آخر غير التضمن للحدث خرج عن مضارعة الحرف وكان أقرب شبهًا بالأسماء كما تقدم. ولما قدمناه من دلالة الفعل على معنى في الاسم وهو كون الاسم مخبرًا عنه وجب أن لا يخلو عن ذلك الاسم مضمرًا أو مظهرًا بخلاف الحدث، فإنك تذكره ولا تذكر الفاعل مضمرًا ولا مظهرًا نحو قوله تعالى: { أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة }، <ref>[ البلد: 14 ]</ref> ، وقوله: { وأقام الصلاة }، <ref>[ البقرة: 177 ،177، التوبة: 18 ]</ref> ، والفعل لا بد من ذكر الفاعل بعده كما لا بد بعد الحرف من الاسم. فإذا ثبت المعنى في اشتقاق الفعل من المصدر وهو كونه دالًا على معنى في الاسم، فلا يحتاج من الأفعال الثلاثة إلا إلى صيغة واحدة. وتلك الصيغة هي لفظ الماضى لأنه أخف وأشبه بلفظ الحدث إلا أن تقوم الدلالة على اختلاف أحوال المحدث فتختلف صيغة الفعل. ألا ترى كيف تختلف صيغته بعد ما الظرفية من قولهم: لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر لأنهم يريدون الحدث مخبرًا. عنه على الإطلاق من غير تعرض لزمن ولا حال من أحوال الحدث، فاقتصروا على صيغة واحدة وهي أخف أبنية الفعل. وكذلك فعلوا بعد التسوية نحو قوله: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم }، <ref>[ البقرة: 6 ]</ref> ، وقوله: { أدعوتموهم أم أنتم صامتون }، <ref>[ الأعراف: 193 ]</ref> ، لأنه أراد التسوية بين الدعاء والصمت على الإطلاق من غير تقييد بوقت ولا حال، فلذلك لم يحتج إلا إلى صيغة واحدة وهي صيغة الماضي كما سبق.
 
فالحدث إذًا على ثلاثة أضرب. ضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله وإلى اختلاف أحوال الحدث، فيشتق منه الفعل دلالة على كون الفاعل مخبرًا عنه، وتختلف أبنية دلالته على اختلاف أحوال الحدث. وضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله على الإطلاق من غير تقييد بوقت ولا حال فيشتق منه الفعل ولا تختلف أبنية نحو ما ذكرناه من الفعل الواقع بعد التسوية وبعد ما الظرفية. وضرب لا يحتاج إلى الإخبار عن فاعله بل يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق مضافًا إلى ما بعده نحو سبحان الله . وسبحان اسم ينبىء عن العظمة والتنزيه فوقع القصد إلى ذكره مجردًا من التقييدات بالزمان أو بالأحوال ولذلك وجب نصبه. كما يجب نصب كل مقصود إليه بالذكر نحو إياك وويله وويحه وهما مصدران لم يشتق منهما فعل حيث لم يحتج إلى الإخبار عن فاعلهما ولا احتيج إلى تخصيصهما بزمن، فحكمها حكم سبحان ونصبهما كنصبه، لأنه مقصود إليه ومما انتصب لأنه مقصود إليه بالذكر زيدًا ضربته في قول شيخنا أبي الحسن وغيره من النحويين، وكذلك زيدًا ضربت بلا ضمير لا نجعله مفعولًا مقدمًا لأن المعمول لا يتقدم على عامله وهو مذهب قوي، ولكن لا يبعد عندي قول النحويين أنه مفعول مقدم وإن كان المعمول لا يتقدم على العامل والفعل كالحرف، لأنه عامل في الاسم ودال على معنى فيه فلا ينبغي للاسم أن يتقدم على الفعل كما لا يتقدم على الحرف، ولكن الفعل في قولك زيدًا ضربت قد أخذ معموله وهو الفاعل فمعتمده عليه ومن أجله صيغ. وأما المفعول فلم يبالوا به إذ ليس اعتماد الفعل عليه كاعتماده على الفاعل، ألا ترى أنه يحذف والفاعل لا يحذف فليس تقديمه على الفعل العامل فيه بأبعد من حذفه. وأما زيدًا ضربته فينتصب بالقصد إليه كما قال الشيخ.
 
و هذا الفصل من أعجب كلامه. ولم أعرف أحدًا من النحويين سبقه إليه.
 
==فائدة: المصدر عند الكوفيين==
 
قولهم للضرب ونحوه مصدر؛ إن أريد بحروف مصدر مصدر صدر يصدر مصدرًا فهو يقوي قول الكوفيين إن المصدر صادر عن الفعل مشتق منه والفعل أصله، وأصله على هذا صادر، ولكن توسعوا فيه كصوم وزوز وعلل في صائم وبابه.
السطر 243 ⟵ 249:
قال: ولا بد من المجاز على القولين: فالكوفي يحتاج أن يقول الأصل صادر، فإذا قيل: مصدر قدر فيه حذف أي ذو مصدر، كما يقدر في صوم وبابه. ونحن نسميه مصدر استعارة من المصدر الذي هو المكان.
 
==فائدة: عمل الحروف==
 
أصل الحروف أن تكون عاملة، لأنها ليس لها معان في أنفسها، وإنما معانيها في غيرها، وأما الذي معناه في غيره وهو الاسم، فأصله أن لا يعمل في غيره، وإنما وجب أن يعمل الحرف في كل ما دل على معنى فيه، لأن اقتضاءه معنى فتقتضيه عملًا لأن الألفاظ تابعة للمعاني، فكما تشبث الحرف عما دخل عليه معنى وجب أن يتشبث به لفظًا، وذلك هو العمل.
السطر 253 ⟵ 259:
وكذلك الهمزة نحو أعمرو خارج فإن الحرف دخل لمعنى في الجملة ولا يمكن الوقوف عليه ولا يتوهم انقطاع الجملة عنه، لأنه حرف مفرد لا يوقف عليه ولو توهم ذلك فيه لعمل في الجمله ليؤكدوا بظهور أثره فيها تعلقه بها ودخوله عليها واقتضاؤه لها، كما فعلوا في إن وأخواتها حيث كانت كلمات من ثلاثة أحرف فصاعدًا يجوز الوقف عليها كأنه وليته ولعله فأعملوها في الجملة إظهارًا لارتباطها وشدة تعلقها بالحديث الواقع بعدها، وربما أرادوا توكيد تعلق الحرف بالجملة إذ كان مؤلفًا من حرفين. نحو هل فربما توهم الوقف عليه أو خيف ذهول السامع عنه، فأدخل في الجملة حرف زائد ينبه السامع عليه وقام ذلك الحرف مقام العمل نحو هل زيد بذاهب وما زيد بقائم. فإذا سمع المخاطب الباء وهي لا تدخل في الثبوت تأكد عنده ذكر النفي والاستفهام وأن الجملة غير منفصلة عنده، ولذلك أعمل أهل الحجاز ما النافية لشبهها بالجملة. ومن العرب من اكتفى في ذلك التعلق وتأكيده بإدخال الباء في الخبر ورآها ثابتة في التأثير عن العمل الذي هو النصب. وإنما اختلفوا في ما ولم يختلفوا في هل لمشاركة ما لليس في النفي. فحين أرادوا أن يكون لها أثر في الجملة يؤكد تشبهها بها جعلوا ذلك الأثر كأثر ليس وهو النصب والعمل في باب ليس أقوى، لأنها كلمة كليت ولعل وكأن. والوهم إلى انفصال الجملة عنها أسرع منه إلى توهم انفصال الجملة عن ما وهل فلم يكن بد من إعمال ليس وإبطال معنى الابتداء السابق، ولذلك إذا قلت: ما زيد إلا قائم لم يعملها أحد منهم، لأنه لا يتوهم انقطاع زيد عن ما، لأن إلا لا تكون إيجابًا إلا بعد نفي فلم يتوهم انفصال الجملة عن ما. ولذلك لم يعملوها عند تقديم الخبر نحو ما قائم زيد إذ ليس من رتبة النكرة أن يكون مبدوءًا بها مخبرًا عنها إلا مع الاعتماد على ما قبلها، فلم يتوهم المخاطب انقطاع الجملة عما قبلها، لهذا السبب فلم يحتج إلى إعمالها وإظهارها كما كان قبل دخولها مستغنيًا عن تأثيرها فيه.
 
وأما حرف لا فإن كان عاطفًا فحكمه حكم حروف العطف ولاشيء فها عامل. وإن لم تكن عاطفة نحو لا زيد قائم ولا عمرو، فلا حاجة إلى إعمالها في الجملة، لأنه لا يتوهم انفصال الجملة بقوله: ولا عمروعمرو، لأن الواو مع لا الثانية تشعر بالأولى لا محالة وتربط الكلام بها فلم يحتج إلى إعمالها وبقيت الجملة عاملًا فيها الابتداء كما كانت قبل دخول لا. فإن قلت: فلو لم يعطف وقلت: لا زيد قائم، قلت: هذا لا يجوز لأن لا ينفي بها في أكثر الكلام ما قبلها تقول هل قام زيد؟ فيقال: لا، وقال سبحانه: { لا أقسم بيوم القيامة } <ref>[ القيامة: 1 ]</ref> وليست نفيًا لما بعدها هنا بخلاف ما لو قيل: ما أقسم فإن ما لا تكون أبدًا إلا نفيًا لما بعدها، فلذلك قالوا: ما زيد قائم، ولم يخشوا توهم انقطاع الجملة عنها. ولو قالوا: لا زيد قائم لخيف أن يتوهم أن الجملة موجبة وأن لا كهي في النكرات نحو: { لا لغو فيها ولا تأثيم }، <ref>[ الطور: 23 ]</ref> ، إلا أنهم في النكرات قد أدخلوها على المبتدأ والخبر تشبيهًا لها بليس، لأن النكرة أبعد في الابتداء من المعرفة، والمعرفة أشد استبدادًا بأول الكلام.
 
وأما التي للتنزيه،للتنزيه فللنحويين فيها اختلاف أهي عاملة أم لا. فإن كانت عاملة فكما اعملوا أن حرصًا على اظهار تشبثها بالحديث. وإن كانت غير عاملة كما ذهب إليه [[سيبويه]] والاسم بعدها مركب معها مبني على الفتح فليس الكلام فيه.
 
وأما حرف النداء فعامل في المنادى عند بعضهم قال: والذي يظهر لي الآن أن النداء تصويت بالمنادى نحوها. وأن المنادى منصوب بالقصد إليه وإلى ذكره، كما تقدم من قولنا في كل مقصود إلى ذكره مجردًا عن الإخبار عنه أنه منصوب، ويدلك على أن حرف النداء ليس بعامل وجود العمل في الاسم دونه نحو صاحب زيد أقبل ويوسف أعرض عن هذا، وإن كان مبنيًا عندهم فإنه بناء كالعمل. ألا تراه ينعت على اللفظ كما ينعت المعرب ولو كان حرف النداء عاملًا لما جاز حذفه وإبقاء عمله.
السطر 263 ⟵ 269:
فالجواب من وجهين:
 
أحدهما أن العامل في المبتدإ وإن كان معنويا كما أن الرافع للفعل المضارع معنوي، ولكنه أقوى منه، لأن حق كل مخبر عنه أن يكون مرفوعًا لفظًا وحسًا، كما أنه مرفوع معنى وعقلًا، ولذلك استحق الفاعل الرفع دون المفعول لأنه المحدث عنه بالفعل فهو أرفع رتبة في المعنى فوجب أن يكون اللفظ، كذلك لأنه تابع للمعنى. وأما رفع الفعل المضارع فلوقوعه موقع الاسم المخبر عنه والاسم التابع له، فلم يقو قوته في استحقاق الرفع. فلم يمنع شيئًا من الحروف اللفظية عن العمل، إذ اللفظي أقوى من المعنوي وامتنع ذلك في بعض الأسماء المبتدأة لضعف الحروف وقلة العامل السابق للمبتدأللمبتدإ.
 
الجواب الثاني أن هذه الحروف لم تدخل لمعنى في الجملة إنما دخلت لمعنى في الفعل المتضمن للحدث من نفي أو إنكار أو نهي أو جزاء أو غيره، وذلك كله يتعلق بالفعل خاصة لا بالجملة فوجب عملها فيها كما وجب عمل حروف الجر في الأسماء من حيث دلت على معنى فيها ولم تكن داخلة على جملة، وقد سبق إليها عامل معنوي ولا لفظي.
السطر 279 ⟵ 285:
لأنه حين قال: لأمنحك علم أنه قد أقسم، فلذلك قال: قسمًا وهذا الأصل محيط بجميع أصول أعمال الحروف وغيرها من العوامل وكاشف عن أسرار العمل للأفعال وغيرها من الحروف في الأسماء، ومنبهة على سر امتناع الأسماء أن تكون عاملة في غيرها، هذا لفظ السهيلي والله أعلم.
 
==فائدة: اختصاص الإعراب بالأواخر==
 
اختص الإعراب بالأواخر، لأنه دليل على المعاني اللاحقة للمعرب، وتلك المعاني لا تلحقه إلا بعد تحصيله وحصول العلم بحقيقته، فوجب أن يترتب الإعراب بعده كما ترتب مدلوله الذي هو الوصف في المعرب.
 
==فائدة: وصف الحرف بالحركة==
 
قولهم حرف متحرك وتحركت الواو ونحو ذلك تساهل منهم، فإن الحركة عبارة عن انتقال الجسم من حيز إلى حيز، والحرف جزء من المصوت ومحال أن تقوم الحركة بالحرف، لأنه عرض والحركة لا تقوم بالعرض، وإنما المتحرك في الحقيقة هو العضو من الشفتين أو اللسان أو الحنك الذي يخرج منه الحرف.
السطر 295 ⟵ 301:
وأما المناسبة إلى ذكرها في اختصاص الألقاب فحسنة. غير أن كثيرًا من النحاة يطلقون كلًا منها على الآخر. ولهذا يقولون: في قام زيد مرفوع علامة رفعه ضمة آخره ولا يقولون رفعه آخره فدل على إطلاق كل منهما على الآخر.
 
==فائدة: تقول نونت الكلمة وسينتها وكوفتها وزويتها==
==فائدة==
 
تقول: نونت الكلمة ألحقت بها نونًا، وسينتها ألحقت بها سينًا، وكوفتها ألحقت بها كافًا. فإن ألحقت بها زايًا. قلت: زويتها لأن ألف الزاي منقلبة عن واو لأن باب طويت أكثر من باب حوة وقوة. وقال بعضهم زييتها وليس بشيء.
 
==فائدة: التنوين في الكلمة==
 
التنوين فائدته التفرقة بين فصل الكلمة ووصلها فلا تدخل في الاسم إلا علامة على انفصاله عما بعده، ولهذا كثر في النكرات لفرط احتياجها إلى التخصيص بالإضافة، فإذا لم تضف احتاجت إلى التنوين تنبيهًا على أنها غير مضافة، ولا تكاد المعارف تحتاج إلى ذلك إلا فيما قل من الكلام لاستغنائها في الأكثر عن زيادة تخصيصها وما لا يتصور فيه الإضافة بحال، كالمضمر والمبهم لا ينون بحال، وكذلك المعرف باللام وهذه علة عدم التنوين وقفًا إذ الموقوف عليه لا يضاف. واختصت النون الساكنة بالدلالة على هذا المعنى لأن الأصل في الدلالة على المعاني الطارئة على الأسماء أن تكون بحروف المد واللين وأبعاضها وهي الحركات الثلاث فمتى قدر عليها فهي الأصل. فإن تعذرت فأقرب شبهًا بها وآخر الأسماء المعربة قد لحقها حركات الإعراب فلم يبق لدخول حركة أخرى عليها سبيل ولا لحروف المد واللين، لأنها مشبعة من تلك الحركات ولأنها عرضة الإعلال والتغير. فأشبه شيء بها النون الساكنة لخفائها وسكونها وإنها من حروف الزيادة وإنها من علامات الإعراب، ولهذه العلة لا ينون الفعل لاتصاله بفاعله واحتياجه إلى ما بعده.
 
==فائدة: الحكمة في علامة التصغير==
 
جعلت علامة التصغير ضم أوله وفتح ثانيه وياء ثالثة.
السطر 311 ⟵ 317:
وأما الواو فلا معنى لها في التصغير لوجهين. أحدهما: دخولها في ضرب من الجموع نحو المفعول فلم يكونوا يجعلونها علامة في التصغير فيلتبس التقليل بالتكثير. والثاني: أنه لا بد من كسر ما بعد علامة التصغير إذا لم يكن حرف إعراب كما كسر ما بعد علامة التكسير في مفاعل ليتقابل اللفظان، وإن تضادا كما قابلوا علم بجهل وروى بعطش، ووضع فهو وضيع بشرف فهو شريف. فلم يمكن إدخال الواو لئلا يخرجوا منها إلى كسرة واستبقيت الألف لأجل أصل الجمع لها بقيت الياء وفتح ما قبلها لأجل ضم أول الكلمة لئلا يخرج من ضم إلى كسر.
 
==فائدة: تنوع الأفعال==
 
الأفعال واجب وممكن ومنتف أو في حكمه. فالرفع للواجب والنصب للممكن، والجزم الذي هو عدم الحركة للمنفي، أو ما في حكمه هذا هو الأصل، وقد يخالف وإن شئت قلت: الأفعال ثلاثة أقسام: واقع موقع الاسم فله الرفع نحو هل تضرب واقع موقع ضارب. وفعل في تأويل الاسم فله النصب نحو أريد أن تقوم أي قيامك. وفعل لا واقع موقع اسم ولا في تأويله فله الجزم نحو لم يقم.
 
==فائدة: إضافة ظروف الزمان للأحداث==
 
إنما أضيفت ظروف الزمان إلى الأحداث الواقعة فيها نحو، يوم يقوم زيد، لأنها أوقات لها وواقعة فيها فهي لاختصاصها بها أضيف إليها وهذا بخلاف ظروف المكان لأنها لا تختص بتلك الأحداث. فإن اختصت غالبًا حسنت الإضافة نحو هذا مكان يجلس القاضي ويكون بمنزلة يوم يجلس القاضي سواء، وربما أضيفت أسماء الزمان إلى أحداث لا تقع فيها لاتصالها بها كقوله تعالى: { ليلة الصيام }. <ref>[ البقرة: 187 ]</ref> . فالليلة من ظروف الزمان وقد أضيفت إلى الصيام، وليس بواقع فيها. فلما جاز في بعض الكلام أن يضاف الظرف إلى الاسم الذي هو الحدث وإن لم يكن واقعًا فيه أضافوه إلى الفعل لفظًا وهو مضاف إلى الحدث معنى. واقحم لفظ الفعل إقرارًا للمعنى وتخصيصًا للغرض ورفعًا لشوائب الاحتمال، حتى إذا سمع المخاطب قولك يوم قام زيد علم أنك تريد اليوم الذي قام فيه زيد، ولو قلت مكان قولك ليلة الصيام ليلة صيام زيد ما كان له معنى إلا وقوع الصيام في الليل، فهو الذي حملهم على إقحام لفظ الفعل عند إرادتهم. إضافة الظروف إلى الأحداث وقس على ذلك المبتدأ والخبر. وأما ريث فبمنزلة الظرف وقد صارت في معناه، وكذلك حيث وذي تسلم أن المعنى في قول بعضهم اذهب لوقت ذي تسلم، أي سلامتك. فلما حذفت المنعوت وأقمت النعت مقامه أضفته إلى ما كنت تضيف إليه المنعوت وهو الوقت. قال السهيلي: وهو عندي على الحكاية حكوا قول الداعي تسلم كما تعيش وتبقي فقولهم، اذهب بذي تسلم. أي اذهب بهذا القول مني. ولم يقولوا اذهب بتسلم لئلا يكون اقتصارًا على دعوة واحدة، ولكن قالوا: بذي تسلم أي بقول يقال فيه تسلم يريدرن هذا المعنى وحذفوا القول المنعوت بذي اكتفاء بدلالة الحال عليه. وأما قوله * بآية ما يحبون الطعام * فالآية هي العلامة وهي ههنا بمعنى الوقت، لأن الوقت علامة للوقت والذي يجوز إضافته من ظروف الزمان إلى الفعل، ما كان منها مفردًا متمكنًا جاز إضافته إليها، وما كان مثنى كيومين ونحوه لم يضف إليها، لأن الحدث إنما يقع مضافًا لظرفه الذي هو وقت له فلا معنى لذكر وقت آخر. وأيضا فالجملة المضاف إليها نعت للظرف في المعنى. فقولك: يوم قام زيد، كقولك يوم قام زيد فيه في المعنى، والفعل لا يدخله التثنية فلا يصح أن يضاف إليه الاثنان، كما لا يصح أن ينعت الاثنان بالواحد.
 
وجه ثالث وهو أن قولك: قام زيد يوما قام عمر. ولم يصح إلا أن يكون جوابًا لمتى. واليومان جواب لكم وما هو جواب لكم لا يكون جوابًا لمتى أصلًا فإن أضفت اليومين إلى الفعل صرت مناقضًا لجمعك بين الكمية وبين ما لا يكون إلا لمتى. وأما الأيام فربما جاء إضافتها مجموعة إلى الفعل لأنها قد يراد بها معنى الفرد، كالشهر والأسبوع والحول وغيره، وكذلك غير المتمكن كقبل وبعد لا يضاف إلى الفعل، لأنك لو أضفتها إليه لاقتضت إضافتها إليه ما يقتضيه قولك يوم قام زيد أي اليوم الذي قام فيه، وذلك محال في قبل وبعد لأنه يؤول إلى إبطال معنى القبلية والبعدية. وأما سحر يوم بعينه فيمتنع من إضافته إلى الفعل لما فيه من معنى اللام فقس على هذا.
 
==(فائدة: قياس الأسماء الخمسة أن تكون مقصورة)==
==(فائدة)==
 
وقال السهيلي قياس الأسماء الخمسة أن تكون مقصورة لأن أصلها أبو أخو والواو إذا تحركت وانفتح ما قبلها تقلب ألفًا تكون مقصورة كما هو إحدى لغاتها، ولكن هذه الأسماء حذفت أواخرها في حال الإفراد والإنفصال عن الإضافة. وقال لي بعض أشياخنا في بعلبك: إن التنوين لما أوجب حذف الألف المنقلبة لالتقاء الساكنين حذفوها رأسًا كما قيل:
السطر 361 ⟵ 367:
وفيها مباحث وقواعد عزيزة نافعة تحررت بعد فكر طويل بحمد الله.
 
==فائدة: الروابط بين جملتين==
 
الروابط بين جملتين هي الأدوات التي تجعل بينهما تلازمًا لم يفهم قبل دخولها وهي أربعة أقسام:
السطر 375 ⟵ 381:
وتفصيل هذا الباب برسم عشرة مسائل.
 
المسألة الأولى: المشهور أن الشرط والجزاء لا يتعلقان إلا بالمستقبل، فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى. كقولك: إن مت على الإسلام دخلت الجنة، ثم للنحاة فيه تقدير إن أحدهما: إن الفعل ذو تغير في اللفظ وكان الأصل إن تمت مسلمًا تدخل الجنة، فغير لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلًا له منزلة المحقق. والثاني أنه ذو تغير في المعنى وإن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال. وبقي لفظه على حاله. والتقدير الأول أفقه في العربية لموافقته تصرف العرب في إقامتها الماضي مقام المستقبل وتنزيلها المنتظر منزلة الواقع المتيقن نحو: { أتى أمر الله }، <ref>[ النحل: 1 ]</ref> ، { ونفخ في الصور }، <ref>[ ق: 2 ]</ref> ، ونظائره، فإذا تقرر ذلك في الفعل المجرد فليفهم مثله المقارن لأداة الشرط. وأيضا فإن تغيير الألفاظ أسهل عليهم من تغيير المعاني، لأنهم يتلاعبون بالألفاظ مع محافظتهم على المعنى. وأيضا فإنهم إذا أعربوا الشرط أتوا بأداته ثم اتبعوها فعله يتلوه الجزاء، فإذا أتوا بالأداة جاؤوا بعدها بالفعل وكان حقه أن يكون مستقبلًا لفظًا ومعنى، فعدلوا عن لفظ المستقبل إلى الماضي لما ذكرنا فعدلوا عن صيغة إلى صيغة. وعلى التقدير الثاني كأنهم وضعوا فعل الشرط والجزاء أولا ماضيين، ثم أدخلوا عليهما الأداة فانقلبا مستقبلين والترتيب والقصد يأبى ذلك فتأمله.
 
المسألة الثانية: قال تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام: { إن كنت قلته فقد علمته }، <ref>[ المائدة: 116 ]</ref> ، فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ، وهو ماضي المعنى قطعًا، لأن المسيح إما أن يكون صدر هذا الكلام منه بعد رفعه إلى السماء أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة. وعلى التقديرين فإنما تعلق الشرط وجزاؤه بالماضي وغلط على الله من قال: إن هذا القول وقع منه في الدنيا قبل رفعه. والتقدير إن أكن أقول: هذا فإنك تعلمه. وهذا تحريف للآية، لأن هذا الجواب إنما صدر منه بعد سؤال الله له عن ذلك، والله لم يسأله وهو بين أظهر قومه ولا اتخذوه وأمه إلهين إلا بعد رفعه بمئين من السنين فلا يجوز تحريف كلام الله انتصارًا لقاعدة نحوية هدم مائة أمثالها أسهل من تحريف معنى الآية. وقال ابن السراج في أصوله: يجب تأويلهما بفعلين مستقبلين تقديرهما إن ثبت في المستقبل. أني قلته في الماضي يثبت أنك علمته. وكل شيء تقرر في الماضي كان ثبوته في المستقبل فيحسن التعليق عليه.
 
وهذا الجواب أيضا ضعيف جدًا ولا ينبىء عنه اللفظ. وليت شعري ما يصنعون بقول النبي {{صل}}: «إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه»، هل يقول عاقل إن الشرط هنا مستقبل. أما التأويل الأول فمنتف هنا قطعًا. وأما الثاني فلا يخفي وجه التعسف فيه، وإنه لم يقصد أنه يثبت في المستقبل إنك أذنبت في الماضي فتوبي ولا قصد هذا المعنى، وإنما المقصود المراد ما دل عليه الكلام إن كان صدر منك ذنب فيما مضى فاستقبليه بالتوبة. لم يرد إلا هذا الكلام.
 
وإذا ظهر فساد الجوابين فالصواب أن يقال جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقًا محضًا غير متضمن جوابًا لسائل. هل كان كذا ولا؟ يتضمن لنفي قول من قال: قد كان كذا فهذا يقتضي الاستقبال، وتارة يكون مقصوده ومضمنه جواب سائل، هل وقع كذا؟ أو رد قوله قد وقع كذا، فإذا علق الجواب هنا على شرط لم يلزم أن يكون مستقبلًا لا لفظًا ولا معنى، بل لا يصح فيه الاستقبال بحال كمن يقول لرجل: هل أعتقت عبدك؟ فيقول: إن كنت قد أعتقته فقد أعتقه الله، فما للاستقبال هنا معنى قط، وكذلك إذا قلته: لمن قال صحبت فلانًا. فيقول: إن كنت صحبته فقد أصبت بصحبته خيرًا. وكذلك إذا قلت له: هل أذنبت؟ فيقول: إن كنت قد أذنبت فإني قد تبت إلى الله واستغفرته. وكذلك إذا قال: هل قلت لفلان كذا وهو يعلم أنه علم بقوله له؟ فيقول إن كنت قلته فقد علمته. فقد عرفت أن هذه المواضع كلها مواضع ماض لفظًا ومعنى ليطابق السؤال الجواب ويصح التعليق الخبري لا الوعدي. فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال. وأما التعليق الخبري فلا يستلزمه. ومن هذا الباب قوله تعالى: { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين }، <ref>[ يوسف: 26،26 - 27 ]</ref> ، وتقول: إن كانت البينة شهدت بكذا وكذا فقد صدقت، وهذه دقيقة خلت عنها كتب النحاة والفضلاء وهي كما ترى وضوحًا وبرهانًا ولله الحمد.
 
المسألة الثالثة: المشهور عند النحاة والأصوليين والفقهاء أن أداة إن لا يعلق عليها إلا محتمل الوجود والعدم. كقولك: إن تأتني أكرمك، ولا يعلق عليها محقق الوجود فلا نقول: إن طلعت الشمس أتيتك، بل تقول: إذا طلعت الشمس أتيتك وإذا يعلق عليها النوعان.
 
واستشكل هذا بعض الأصوليين فقال: وقد وردت إن في القران في معلوم الوقوع قطعًا كقوله: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا }، <ref>[ البقرة: 23 ]</ref> ، وهو سبحانه يعلم أن الكفار في ريب منه. وقوله: { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار }، <ref>[ البقرة: 24 ]</ref> ، ومعلوم قطعًا انتفاء فعلهم.
 
وأجاب عن هذا بأن قال: إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق. والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب وعلى منوالهم فكل ما كان في عادة العرب حسنًا أنزل القرآن على ذلك الوجه أو قبحًا لم ينزل في القرآن. فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه بين الناس حسن تعليقه بأن من قبل الله ومن قبل غيره سواء كان معلومًا للمتكلم أو للسامع أم لا. ولذلك يحسن من الواحد منا أن يقول: إن كان زيد في الدار فأكرمه، مع علمه بأنه في الدار لأن حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه، فهذا هو الضابط لما تعلق على إن فاندفع الإشكال.
 
قلت: هذا السؤال لا يرد، فإن الذي قاله القوم: إن الواقع ولا بد لا يُعلق بأن. وأما ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع، فهو الذي يعلق بها وإن كان بعد وقوعه متعين الوقوع. وإذا عرفت هذا فتدبر قوله تعالى: { وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور }، <ref>[ الشورى: 48 ]</ref> ، كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة أصابتها من الله تعالى بإذا وأتى في إصابة السيئة بأن فإن ما يعفو الله عنه أكثر، وأتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الوقوع. وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولا بد، وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرحمة لهم وإنها مذوقة لهم. والذوق هو أخص أنواع الملابسة وأشدها وكيف أتى في الرحمة بحرف ابتداء الغاية مضافة إليه؟ فقال: { منا رحمة } <ref>[ الشورى: 48 ]</ref> وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم. وكيف أكد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف؟ إن دون الجملة الثانية وأسرار القرآن أكثر وأعظم من أن يحيط بها عقول البشر.
 
وتأمل قوله تعالى: { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه }، <ref>[ الإسراء: 67 ]</ref> ، كيف أتى بإذا ههنا؟ لما كان مس الضر لهم في البحر محققًا بخلاف قوله: { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط }، <ref>[ فصلت: 51 ]</ref> ، فإنه لم يقيد مس الشر هنا بل أطلقه ولما قيده بالبحر الذي هو متحقق فيه ذلك أتى بأداة إذا.
 
وتأمل قوله تعالى: { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا }، <ref>[ الإسراء: 83 ]</ref> ، كيف أتى هنا بإذا المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس؟ فإن اليأس، إنما حصل عند تحقق مس الشر له. فكان الإتيان بإذا ههنا أدل على المعنى المقصود من إن بخلاف قوله: { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض }، <ref>[ فصلت: 51 ]</ref> ، فإنه بقلة صبره وضعف احتماله مني توقع الشر أعرض وأطال في الدعاء، فإذا تحقق وقوعه كان يؤوسًا. ومثل هذه الأسرار في القرآن لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله وفهم يؤتيه عبدًا في كتابه.
 
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك،ترك } <ref>[ النساء: 176 ]</ref> والهلاك محقق.
 
قلت: التعليق ليس على مطلق الهلاك، بل على هلاك مخصوص، وهو هلاك لا عن ولد.
 
فإن قلت: فما تصنع بقوله: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون }، <ref>[ الأعراف: 160 ]</ref> ، وقوله: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين }، <ref>[ الأنعام: 118 ]</ref> ، وتقول العرب: إن كنت ابني فأطعني. وفي الحديث في السلام على الموتى: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، واللحاق محقق. وفي قول الموصي: إن مت فثلث مالي صدقة.
 
قلت: أما قوله: { إن كنتم إياه تعبدون } <ref>[ الأعراف: 160 ]</ref> ، الذي حسن مجيء إن ههنا الاحتجاج والإلزام. فإن المعنى إن عبادتكم لله تستلزم شكركم له، بل هي الشكر نفسه، فإن كنتم ملتزمين لعبادته داخلين في جملتها فكلوا من رزقه واشكروه على نعمه وهذا كثيرًا ما يورد في الحجاج. كما تقول للرجل: إن كان الله ربك وخالقك فلا تعصه. وإن كان لقاء الله حقًا فتأهب له. وإن كانت الجنة حقًا فتزود إليها، وهذا أحسن من جواب من أجاب بأن إن هنا قامت مقام إذا وكذا قوله: { إن كنتم بآياته مؤمنين }، <ref>[ الأنعام: 118 ]</ref> ، وكذا قولهم: إن كنت ابني فأطعني ونظائر ذلك.
 
وأما قوله: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون فالتعليق هنا ليس لمطلق الموت، وإنما هو للحاقهم بالمؤمنين ومصيرهم إلى حيث صاروا.
 
وأما قول الموصي: إن مت فثلمث مالي صدقة فلأن الموت وإن كان محققًا، لكن لما لم يعرف تعين وقته وطال الأمد وانفردت مسافة أمنية الحياة نزل منزلة المشكوك كما هو الواقع الذي يدل عليه أحوال العباد فإن عاقلًا لا يتيقن الموت ويرضى بإقامته على حال لا يحب الموت عليها أبدًا. كما قال بعض السلف ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت، وعلى هذا حمل بعض أهل المعاني: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } <ref>[ المؤمنون: 16 ]</ref> فأكد الموت باللام وأتى فيه باسم الفاعل الدال على الثبوت وأتى في البعث بالفعل ولم يؤكده.
 
المسألة الرابعة: قد تعلق الشرط بفعل محال ممتنع الوجود فيلزمه محال آخر وتصدق الشرطية دون مفرديها. أما صدقها فلاستلزام المحال المحال، وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما وعليه: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } <ref>[ الزخرف: 81 ]</ref> ومنه قوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }، <ref>[ الأنبياء: 22 ]</ref> ، ومنه: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا }، <ref>[ الإسراء: 42 ]</ref> ، ونظائره كثيرة.
 
وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران. أحدهما: بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى. والثاني: أن اللازم منتف. فالملزوم كذلك فقد تبين من هذا. أن الشرط تعلق به المحقق الثبوت والممتنع الثبوت والممكن الثبوت.
 
المسألة الخامسة: اختلف سيبويه ويونس في الاستفهام الداخل على الشرط فقال سيبويه: يعتمد على الشرط وجوابه فيتقدم عليهما ويكون بمنزلة القسم نحو قوله: { أفإن مت فهم الخالدون }، <ref>[ الأنبياء: 34 ]</ref> ، وقوله: { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم }، <ref>[ آل عمران: 144 ]</ref> ، وقال يونس: يعتمد على الجزاء فتقول: إن مت أفأنت خالد والقرآن مع سيبويه. والقياس أيضا كما يتقدم القسم ليكون جملة الشرط والجزاء مقسمًا عليها ومستفهمًا عنها، ولو كان كما قال يونس لقال: { أفإن مت فهم الخالدون }
 
المسألة السادسة: اختلف الكوفيون والبصريون فيما إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء، ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جزاء نحو أقوم إن قمت فقال ابن السراج: الذي عندي أن الجواب محذوف يغني عنه الفعل المتقدم قال: وإنما يستعمل هذا على وجهين. إما أن يضطر إليه شاعر. وإما أن يكون المتهكلم به محققًا بغير شرط ولا نية فقال: أجيئك ثم يبدو له أن لا يجيئه إلا بسبب فيقول: إن جئتني فيشبه الإستثناء ويغني عن الجواب ما تقدم وهذا قول البصريين وخالفهم أهل الكوفة وقالوا: المتقدم هو الجزاء، والكلام مرتبط به وقولهم في ذلك هو الصواب، وهو اختيار الجرجاني قال: الدليل على أنك إذا قلت؟ آتيك إن اتيتني كان الشرط متصلًا بآتيك وإن الذي يجري في كلامهم لا بد من إضمار الجزاء ليس على ظاهره. وأما إن عملنا على ظاهره وتوقفنا أن الشرط متقدم في النفس على الجزاء، صار من ذلك شيئان ابتداء كلام ثان، ثم اعتقاد ذلك يؤدي إلى ابطال ما اتفق عليه العقلاء في الإيمان من افتراق الحكم بين أن يصل الشرط في نطقه وبين أن يقف ثم يأتي بالشرط وإنه إذا قال لعبده: أنت حر إن شاء الله فوصل لم يعتق ولو وقف. ثم قال: إن شاء الله فإنه يعتق. فإذا سمعت ما قلنا عرفت خلاف المسألة. فالمشهور من مذهب البصريين امتناع تقديم الجزاء على الشرط هذا كلامه.
السطر 419 ⟵ 425:
وقوله: إن شاء الله ليس تعليقًا لها عندكم. فإن التعليق، إنما يعمل في الجزاء وهذه ليست بجزاء، وإنما هي خبر محض، والجزاء عندكم محذوف فلما قالوا: إنه لا يعتق، دل على أن المتقدم نفسه جزاء معلق هذا تقرير الدلالة ولكن، ليس هذا باتفاق فقد ذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أن الشرط، إنما يعمل في تعليق الحكم إذا تقدم على الطلاق فتقول: إن شاء الله فأنت طالق. فأما إن تقدم الطلاق ثم عقبه بالتعليق فقال، أنت طالق إن شاء الله طلقت ولا ينفع التعليق، وعلى هذا فلا يبقى فيما ذكر حجة، ولكن هذا المذهب شاذ والأكثرون على خلافه وهو الصواب لأنه إما جزاء لفظًا ومعنى قد اقتضاه التعليق على قول الكوفيين، وأما أن يكون جزاء في المعنى وهو نائب الجزاء المحذوف ودال عليه، فالحكم تعلق به على التقديرين والمتكلم إنما بنى كلامه عليه.
 
وأما قول ابن السراج إنه قصد الخبر جزمًا، ثم عقبه بالجزاء فليس كذلك، بل بنى كلامه على الشرط كما لو قال له: علي عشرة إلا درهمًا فإنه لم يقر بالعشرة ثم أنكر درهمًا، ولو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء، ومن هنا قال بعض الفقهاء: إن الاستثناء لا ينفع في الطلاق، لأنه إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة فقد أوقع الثلاثة ثم رفع منها واحدة وهذا مذهب باطل. فإن الكلام مبني على آخره مرتبط أجزاوه بعضها ببعض، كارتباط التوابع من الصفات وغيرها بمتبوعاتها والاستثناء لا يستقل بنفسه فلا يقبل إلا بارتباطه بما قبله فجرى مجرى الصفة والعطف . ويلزم أصحاب هذا المذهب أن لا ينفع الاستثناء في الإقرار، لأن المقربة لا يرفع ثبوته وفي إجماعهم على صحته، دليل على إبطال هذا المذهب، وإنما احتاج الجرجاني إلى ذكر الفرق بين أن يقف أو يصل، لأنه إذا وقف عتق العبد ولم ينفعه الاستثناء، وإذا وصل لم يعتق فدل على أن الفرق بين وقوع العتق وعدمه هو السكوت. والوصل هو المؤثر في الحكم لا تقدم الجزاء وتأخره فانه لا تأثير له بحال كما ذكره ابن السراج أنه إنما يأتي في الضرورة، ليس كما قال فقد جاء في أفصح الكلام وهو كثير جدًا. كقوله تعالى: { واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون }، <ref>[ الأعراف: 160 ]</ref> ، وقوله: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين }، <ref>[ الأنعام: 118 ]</ref> ، وقوله: { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون }، <ref>[ آل عمران: 118 ]</ref> ، وهو كثير.
 
فالصواب المذهب الكوفي، والتقدير إنما يصار إليه عند الضرورة بحيث لا يتم الكلام إلا به، فإذا كان الكلام تامًا بدونه فأي حاجة بنا إلى التقدير، وأيضا فتقديم الجزاء ليس بدون تقديم الخبر والمفعول والحال ونظائرها.
السطر 431 ⟵ 437:
المسألة الثامنة: المشهور أن لو إذا دخلت على ثبوتين نفتهما أو نفيين أثبتتهما أو نفي وثبوت أثبتت المنفي ونفت المثبت، وذلك لأنها تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، لم إذا امتنع النفي صار اثباتًا فجاءت الأقسام الأربعة وأورد على هذا أمور.
 
أحدها قوله تعالى: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله }، <ref>[ لقمان: 27 ]</ref> ، ومقتضى ما ذكرتم. أن تكون كلمات الله تعالى قد نفدت وهو محال، لأن الأول ثبوت وهو كون أشجار الأرض أقلامًا، والبحار مدادًا لكلماته وهذا منتف. والثاني: وهو قوله ما نفدت كلمات الله فيلزم أن يكون ثبوتًا.
 
الثاني: قول عمر نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. فعلى ما ذكرتم يكون الخوف ثابتًا، لأنه منفي والمعصية كذلك، لأنها منفية أيضا. وقد اختلف أجوبة الناس عن ذلك.
السطر 437 ⟵ 443:
فقال أبو الحسن بن عصفور: لو في الحديث بمعنى إن لمطلق الربط فلا يكون نفيها إثباتًا ولا إثباتها نفيًا. فاندفع الإشكال. وفي هذا الجواب ضعف بين فإنه لم يقصد في الحديث مطلق الربط كما قال، وإنما قصد ارتباط متضمن لنفي الجزاء ولو سيق الكلام إلا لهذا ففي الجواب إبطال خاصية لو التي فارقت بها سائر أدوات الشرط.
 
وقال غيره: لو في اللغة لمطلق الربط، وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيًا وبالعكس. والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة. حكى هذا الجواب [[القرافي]] عن الخسروشاهي، وهو أفسد من الذي قبله بكثير، فإن اقتضاء لو لنفي الثابت بعدها وإثبات المنفي متلقى من أصل وضعها لا من العرف الحادث، كما أن معاني سائر الحروف من نفي أو تأكيد أو تخصيص أو بيان أو ابتداء أو انتهار، إنما هو متلقى من الوضع لا من العرف فما قاله ظاهر البطلان.
 
الجواب الثالث: جواب الشيخ أبي محمد بن عبد السلام وغيره وهو أن الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه وقد يكون له سببان فلا يلزم من عدم أحدهما عدمه، لأن السبب الثاني يخلف السبب الأول كقولنا في زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجًا لورث أي بالتعصيب فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر، وكذلك الناس ههنا في الغالب، إنما لم يعصوا لأجل الخوف فإذا ذهب الخوف عنهم عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر عمر أن صهيبًا اجتمع له سببان يمنعانه المعصية الخوف والإجلال فلو انتفى الخوف في حقه لانتفى العصيان للسبب الآخر وهو الإجلال. وهذا مدح عظيم له.
 
قلت وبهذا الجواب بعينه يجاب عن قوله {{صل}} في ابنة حمزة: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت ليلي، إنها ابنة أخي من الرضاعة»، أي فيها سببان يقتضيان التحريم فلو قدر انتفاء أحدهما لم ينتف التحريم للسبب الثاني. وهذا جواب حسن جيد.
 
الجواب الرابع: ذكره بعضهم بأن قال: جواب لو محذوف وتقديره لو لم يخف الله لعصمه فلم يعصه بإجلاله ومحبته إياه، فإن الله يعصم عبده بالخوف تارة، والمحبة والإجلال تارة. وعصمة الإجلال والمحبة أعظم من عصمة الخوف، لأن الخوف يتعلق بعقابه، والمحبة والإجلال يتعلقان بذاته وما يستحقه تبارك وتعالى، فأين أحدهما من الآخر؟ ولهذا كان دين الحب أثبت وأرسخ من دين الخوف وأمكن وأعظم تأثيرًا. وشاهد ما نراه من طاعة المحب لمحبوبه وطاعة الخائف لمن يخافه. كما قال بعض الصحابة: أنه ليستخرج حبه مني من الطاعة ما لا يستخرجه الخوف، وليس هذا موضع بسط هذا الشأن العظيم القدر، وقد بسطته في كتاب الفتوحات القدسية. <ref>مفقود</ref>
السطر 447 ⟵ 453:
الجواب الخامس: أن لو أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين كما تقدم، ثم أنها قد تستعمل لقطع الربط فتكون جوابًا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط. كما لو قال القائل: إن لم يكن زيد زوجًا لم يرث، ققول أنت: لو لم يكن زوجًا لورث زيد. إن ما ذكره من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق، فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربطه. وتقول: لو لم يكن زيد عالمًا لأكرم أي لشجاعته جوابًا لسؤال سائل يتوهم أنه لو لم يكن عالمًا لما أكرم. فتربط بين عدم العلم والإكرام فتقطع أنت ذلك الربط، وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام، لأن ذلك ليس بمناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلامك إلا على عدم الربط.
 
كذلك الحديث، لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوفهم، وأن ذلك في الأوهام، قطع عمر هذا الربط. وقال: لو لم يخف الله لم يعصه.
 
وكذلك لما كان الغالب على الأوهام أن الشجر كلها إذا صارت أقلامًا والبحار المذكورة كلها تكتب به الكلمات الإلهية، فلعل الوهم يقول: ما يكتب بهذا شيء إلا نفد كائنًا ما كان، فقطع الله تعالى هذا الربط ونفى هذا الوهم وقال: { ما نفدت.
السطر 459 ⟵ 465:
فاعلم أن لو حرف وضع للملازمة بين أمرين، يدل على أن الحرف الأول منهما ملزوم والثاني لازم، هذا وضع هذا الحرف وطبيعته، وموارده في هذه الملازمة فإنه إما أن يلازم بين نفيين أو ثبوتين أو بين ملزوم مثبت ولازم منفي أو عكسه. ونعني بالثبوت والنفي هنا الصوري اللفظي لا المعنوي.
 
فمثال الأول: { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق }، <ref>[ الإسراء: 100 ]</ref> ، { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما }، <ref>[ النساء: 64 ]</ref> ، { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا }، <ref>[ النساء: 66 ]</ref> ، ونظائره.
 
ومثال الثاني لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي ولو لم يخف الله لم يعصه.
 
ومثال الثالث: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله }. <ref>[ لقمان: 27 ]</ref> .
 
ومثال الرابع: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم. فهذه صورة وردوها على النفي والإثبات.
السطر 473 ⟵ 479:
والثاني تحقق الثاني لتحقق الأول، لأن تحقق الملزوم يستلزم تحقق لازمه.
 
فإذا عرفت هذا، فليس في طبيعة لو ولا وضعها ما يؤذن بنفي واحد من الجزأين ولا إثباته، وإنما طبعها وحقيقتها الدلالة على التلازم المذكور، لكن إنما يؤتى به للتلازم المتضمن نفي اللازم أو الملزوم أو تحققها. ومن هنا نشأت الشبهة فلم يؤت بها لمجرد التلازم مع قطع النظر عن ثبوت الجزأين أو نفيهما، فإذا دخلت على جزأين متلازمين قد انتفى اللازم منهما. استفيد نفي الملزوم من قضية اللزوم لا من نفس الحرف. وبيان ذلك أن قوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }، <ref>[ الأنبياء: 22 ]</ref> ، لم يستفد نفي الفساد من حرف لو، بل الحرف دخل على أمرين قد علم انتفاء أحدهما حسًا فلازمت بينه وبين من يريد نفيه من تعدد الآلهة، وقضية الملازمة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، فإذا كان اللازم منتف قطعًا وحسًا انتفى ملزومه لانتفائه لا من حيث الحرف.
 
فهنا أمران:أمران؛ أحدهما: الملازمة التي فهمت من الحرف. والثاني انتفاء اللازم المعلوم بالحس. فعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم انتفاء اللازم والملزوم بلو. فمن هنا قالوا: إن دخلت على مثبتين صارا منتفيين بمعنى أن الثاني منهما قد علم انتفاؤه من خارج فينتفي الأول لانتفائه. وإذا دخلت على منفيين أثبتتهما لذلك، أيضا لأنها تدخل على ملزوم محقق الثبوت من خارج فيتحقق ثبوت ملزومه كما في قوله: لو لم تذنبوا فهذا الملزوم وهو صدور الذنب متحقق في الخارج من البشر فتحقق لازمه وهو بقاء النوع الإنساني وعدم الذهاب به، لأن الملازمة وقعت بين عدم الذنب وعدم البقاء، لكن عدم الذنب منتف قطعًا، فانتفى لازمه وهو عدم الذهاب بنا فثبت الذنب وثبت البقاء، وكذلك نفيه الأقسام الأربعة يفهم على هذا الوجه.
 
وإذا عرف هذا؛ فاللازم الواحد قد يلزم ملزرمات متعددة، كالحيوانية اللازمة للإنسان والفرس وغيرهما، فيقصد المتكلم إثبات الملازمة بين بعض تلك الملزومات، واللازم على تقدير انتفاء البعض الآخر فيكون مقصوده أن الملازمة حاصلة على تقدير انتفاء ذلك الملزوم الآخر، فلا يتوهم المتوهم انتفاء اللازم عند نفي ملزوم معين. فإن الملازمة حاصلة بدونه وعلى هذا يخرجه لو لم يخف الله لم يعصه. ولو لم تكن ربيبتي لما حلت لي فإن عدم المعصية له ملزومات فهي الخشية والمحبة والإجلال، فلو انتفى بعضها وهو الخوف مثلًا لم يبطل اللازم، لأن له ملزومات أخر غيره، وكذلك لو انتفى كون البنت ربيبة لما انتفى التحريم لحصوا الملازمة بينه وبين وصف آخر وهو الرضاع، وذلك الوصف ثابت وهذا القسم، إنما يأتي في لازم له ملزومات متعددة فيقصد المتكلم تحقق الملازمة على تقدير نفي ما نفاه منها.
 
وأما قوله تعالى: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } <ref>[ لقمان: 27 ]</ref> فإن الآية سيقت لبيان أن أشجار الأرض. لو كانت أقلامًا والبحار مدادًا فكتبت بها كلمات الله لنفدت البحار والأقلام، ولم تنفد كلمات الله. فالآية سيقت لبيان الملازمة بين عدم نفاد كلماته، وبين كون الأشجار أقلامًا والبحار مدادًا يكتب بها، فإذا كانت الملازمة ثابتة على هذا التقدير الذي هو أبلغ تقدير يكون في نفاد المكتوب، فثبوتها على غيره من التقادير أولى.
 
ونوضح هذا بضرب مثل يرتقى منه إلى فهم مقصود الآية. إذا قلت لرجل: لا يعطي أحدًا شيئًا لو أن لك الدنيا بأسرها ما أعطيت أحدًا منها شيئًا. فإنك إذا قصدت أن عدم إعطانه ثابت على أعظم التقادير التي تقتضي الإعطاء، فلازمت بين عدم إعطائه وبين أعظم أسباب الإعطاء، وهو كثرة ما يملكه. فدل هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير، وإن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير فافهم نظير هذا المعنى في الآية، وهو عدم نفاد كلمات الله تعالى على تقدير أن الأشجار أقلام والبحار مداد يكتب بها. فإذا لم تنفد على هذا التقدير كان عدم نفادها لازمًا له. فكيف بما دونه من التقديرات!
السطر 503 ⟵ 509:
الثامنة: أن يدخل الشرط على الشرط ويكون الثاني معطوفًا بالواو. نحو إن لبست وإن خرجت فهذا يحنث بأحدهما فإن قيل: فكيف لم تحنثوه في صورة العطف على الفعل وحده إلا بهما وحنثتموه ههنا بأيهما كان؟ قيل: لأن هناك جعل الشرط مجموعهما. وهنا جعل كل واحد منهما شرطًا برأسه. وجعل لهما جوابًا واحدًا وفيه رأيان. أحدهما: أن الجواب لهما جميعًا وهو الصحيح. والثاني: أن جواب أحدهما حذف لدلالة المذكور عليه وهي أخت مسألة الخبر عن المبتدإ بجزأين.
 
التاسعة: أن يعطف الشرط الثاني بالفاء نحو قوله تعالى: { فإما يأتينكم مني هدى }، <ref>[ البقرة: 38 ]</ref> ، فالجواب المذكور جواب الشرط الثاني، وهو وجوابه جواب الأول. فإذا قال: إن خرجت فإن كلمت أحدًا فأنت طالق. لم تطلق حتى تخرج وتكلم أحدًا.
 
العاشرة: وهي أن المسألة التي تكلم فيها الفقهاء دخول الشرط على الشرط بلا عطف. نحو إن خرجت، إن لبست واختلف أقوالهم فيها فمن قائل إن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى وإنه لا يحنث حتى يتقدم اللبس على الخروج ومن قائل بل المقدم لفظًا هو المقدم معنى. وذكر كل منهم حججًا لقوله.
السطر 509 ⟵ 515:
وممن نص على المسألة الموفق الأندلسي في شرحه، فقال: إذا دخل الشرط على الشرط وعيد حرف الشرط توقف وقوع الجزاء على وجود الشرط الثاني قبل الأول. كقولك: إن أكلت، إن شربت فأنت طالق، فلا تطلق حتى يوجد الشرب منها قبل الأكل، لأنه تعلق على أكل معلق على شرب. وهذا الذي ذكره أبو إسحق في المهذب وحكى ابن شاس في الجواهر عن أصحاب مالك عكسه والوجهان لأصحاب الشافعي.
 
ولا بد في المسألة من تفصيل وهو أن الشرط الثاني إن كان متأخرًا في الوجود عن الأول كان مقدرًا بالفاء. وتكون الفاء جواب الأول والجواب المذكور جواب الثاني مثاله: إن دخلت المسجد إن صليت فيه فلك أجر تقديره، فإن صليت فيه وحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها. وإن كان الثاني متقدمًا في الوجود على الأول فهو في نية التقدم وما قبله جوابه والفاء مقدرة فيه ومثله قوله عز وجل: { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }، <ref>[ هود: 34 ]</ref> ، أي فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي. وتقول: إن دخلت المسجد إن توضأت فصل ركعتين. تقديره إن توضأت فإن دخلت المسجد فصل ركعتين. فالشرط الثاني هنا متقدم وإن لم يكن أحدهما متقدمًا في الوجود على الآخر، بل كان محتملًا للتقدم والتأخر لم يحكم على أحدهما بتقدم ولا تأخر، بل يكون الحكم راجعًا إلى تقدير المتكلم ونيته فأيهما قدره شرطًا كان الآخر جوابًا له وكان مقدرًا بالفاء. تقدم في اللفظ أو تأخر وإن لم يظهر نيته ولا تقديره احتمل الأمرين فمما ظهر فيه تقديم المتأخر قول الشاعر:
 
إن تستغيثوا بنا أن تذعروا تجدوا ** منا معاقل عز زانها الكرم
السطر 517 ⟵ 523:
فإن عثرت بعدها إن وألت ** نفسي من هاتا فقولا لا لعا
 
ومعلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد الذعر. ومن المحتمل قوله تعالى: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين }، <ref>[ الأحزاب: 50 ]</ref> ، يحتمل أن تكون الهبة شرطًا، ويكون فعل الإرادة جوابًا له ويكون التقدير إن وهبت نفسها للنبي. فإن أراد النبي أن يستنكحها فخالصة له ويحتمل أن تكون الإرادة شرطًا والهبة جوابًا له، والتقدير إن أراد النبي أن يستنكحها فإن وهبت نفسها فهي خالصة له يحتمل الأمرين. فهذا ما ظهر لي من التفصيل في هذه المسألة وتحقيقها. والله أعلم.
 
==فائدة عظيمة المنفعة: تقديم بعض الألفاظ الواو لا تدل على الترتيب ولا التعقيب==
 
قال سيبويه: الواو لا تدل على الترتيب ولا التعقيب تقول: صمت رمضان وشعبان وإن شئت شعبان ورمضان بخلاف الفاء، وثم إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم، وهم ببيانه أعني وإن كانا جميعًا يهمانهم ويغنيانهم هذا لفظه.
السطر 527 ⟵ 533:
قال: والجواب أن هذا الأصل يجب الاعتناء به لعظم منفعته في كتاب الله وحديث رسوله، إذ لا بد من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر نحو السميع والبصير والظلمات والنور والليل والنهار والجن والإنس في الأكثر، وفي بعضها الإنس والجن وتقديم السماء على الأرض في الذكر، وتقديم الأرض عليها في بعض الآي ونحو سميع عليم ولم يجيء علهيم سميع، وكذلك عزيز حكيم وغفور رحيم. وفي موضع واحد الرحيم الغفور إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر، وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة، لأنه كلام الحكيم الخبير وسنقدم بين يدي الخوض في هذا الغرض أصلًا يقف بك على الطريق الأوضح.
 
فنقول: ما تقدم من الكلم فتقديمه في اللسان على حسب تقدم المعاني في الجنان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء.: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب، وإما بالفضل والكمال، فإذا سبق معنى من المعاني إلى الخفة والثقل بأحد هذه الأسباب الخمسة أو بأكثرها. سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق وكان ترتب الألفاظ بحسب ذلك نعم، وربما كان ترتب الألفاظ بحسب الخفة والثقل، لا بحسب المعنى كقولهم: ربيعة ومضر وكان تقديم مضر أولى من جهة الفضل، ولكن آثروا الخفة لأنك لو قدمت مضر في اللفظ كثرت الحركات وتوالت، فلما أخرت وقف عليها بالسكون.
 
قلت: ومن هذا النحو الجن والإنس، فإن لفظ الإنس أخف لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة. فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وجمامه. وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر والأغلب وسنشير إليها في آخر الفصل إن شاء الله.
 
أما ما تقدم بتقدم الزمان فكعاد وثمود والظلمات والنور، فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول وتقدمها في المحسوس معلوم بالخبر المنقول، وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل قال سبحانه: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة }، <ref>[ النحل: 78 ]</ref> ، فالجهل ظلمة معقولة وهي متقدمة بالزمان على نور العلم ولذلك قال تعالى: { في ظلمات ثلاث }. <ref>[ الزمر: 6 ]</ref> . فهذه ثلاث محسوسات ظلمة الرحم وظلمة البطن وظلمة المشيمة. وثلاث معقولات وهي عدم الادراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة إذ لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع، وفي الحديث: «إن الله خلق عباده في ظلمة، ئم ألقى عليهم من نوره». <ref>الصحيحة 1076</ref>
 
ومن المتقدم بالطبع نحو مثنى وثلاث ورباع ونحو: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم }، <ref>[ المجادلة: 7 ]</ref> ، الآية.
 
وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدم بالطبع كتقدم الحيوان على الإنسان والجسم على الحيوان. ومن هذا الباب تقدم العزيز على الحكيم، لأنه عز فلما عز حكم. وربما كان هذا من تقدم السبب على المسبب ومثله كثير في القرآن نحو: { يحب التوابين ويحب المتطهرين }، <ref>[ البقرة: 222 ]</ref> ، لأن التوبة سبب الطهارة. وكذلك: { كل أفاك أثيم }، <ref>[ الجاثية: 7 ]</ref> ، لأن الإفك سبب الإثم، وكذلك: { كل معتد أثيم }. <ref>[ المطففين: 12 ]</ref> .
 
وأما تقدم هماز على مشاء بنميم، فبالرتبة لأن المشي مرتب على القعود في المكان. والهماز هو العياب، وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه بخلاف النميمة.
السطر 541 ⟵ 547:
وأما تقدم مناع للخير على معتد، فبالرتبة أيضا، لأن المناع يمنع من نفسه والمعتدي يعتدي على غيره ونفسه قبل غيره.
 
ومن المقدم بالرتبة: { يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر } <ref>[ الحج: 27 ]</ref> لأن الذي يأتي راجلًا يأتي من المكان القريب، والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد. على أنه قد روى عن [[ابن عباس]] أنه قال: وددت أني حججت راجلًا لأن الله قدم الرجالة على الركبان، في القرآن فجعله ابن عباس من باب تقدم الفاضل على المفضول، والمعنيان موجودان، وربما قدم الشيء لثلاثة معان وأربعة وخمسة، وربما قدم لمعنى واحد من الخمسة .
 
ومما قدم للفضل والشرف: { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم }، <ref>[ المائدة: 6 ]</ref> ، وقوله: النبيين والصديقين ومنه تقديم السميع على البصير وسميع على بصير، ومنه تقديم الجن على الإنس في أكثر المواضع، لأن الجن تشتمل على الملائكة وغيرهم، مما اجتن عن الإبصار قال تعالى: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا } <ref>[ الصافات: 158 ]</ref> وقال الأعشى:
 
وسخر من جن الملائك سبعة ** قيامًا لديه يعملون بلا أجر
 
وأما قوله تعالى: { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان }، <ref>[ الرحمن: 56 ]</ref> ، وقوله: { لا يُسئل عن ذنبه إنس ولا جان }، <ref>[ الرحمن: 39 ]</ref> ، وقوله: { ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبًا }، <ref>[ الجن: 5 ]</ref> ، فإن لفظ الجن ههنا لا يتناول الملائكة بحال لنزاهتهم عن العيوب، وأنهم لا يتوهم عليهم الكذب ولا سائر الذنوب، فلما لم يتناولهم عموم لفظ لهذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم.
 
وأما تقديم السماء على الأرض فبالرتبة أيضا، وبالفضل والشرف.
 
وأما تقديم الأرض في قوله: { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء }، <ref>[ يونس: 61 ]</ref> ، فبالرتبة أيضا، لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه وهم المخاطبون بقوله: { ولا تعملون من عمل } <ref>[ سورة يونس: 61 ]</ref> فاقتضى حسن النظم تقديمها مرتبة في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها بخلاف الآية التي في سبأ، فإنها منتظمة بقوله عالم الغيب.
 
وأما تقديمه المال على الولد في كثير من الآي فلأن الولد بعد وجود المال نعمة ومسرة، وعند الفقر وسوء الحال هم ومضرة، فهذا من باب تقديم السبب على المسبب، لأن المال سبب تمام النعمة بالولد.
السطر 561 ⟵ 567:
وأما تقديم الغفور على الرحيم فهو أولى بالطبع، لأن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة تطلب قبل الغنيمة. وفي الحديث أن النبي {{صل}} قال لعمرو بن العاص: «ابعثك وجهًا يسلمك الله فيه ويغنمك وارغب لك رغبة من المال»، فهذا من الترتيب البديع بدأ بالسلامة قبل الغنيمة وبالغنيمة قبل الكسب.
 
وأما قوله: وهو الرحيم الغفور في سبأ فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة، فإما بالفضل والكمال، وإما بالطبع، لأنها منتظمة بذكر أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم من الحيوان. فالرحمة تشملهم والمغفرة تخصهم والعموم بالطبع قبل الخصوص كقوله: { فاكهة ونخل ورمان }، <ref>[ الرحمن: 68 ]</ref> ، وكقوله: { وملائكته ورسله وجبريل وميكال }. <ref>[ البقرة: 98 ]</ref> .
 
ومما قدم بالفضل قوله: { واسجدي واركعي مع الراكعين }، <ref>[ آل عمران: 43 ]</ref> ، لأن السجود أفضل وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة، لأنه انتقال من علو إلى انخفاض، والعلو بالطبع قبل الانخفاض، فهلا قدم الركوع؟ فالجواب أن يقال: انتبه لمعنى الآية من قوله: { اركعي مع الراكعين } <ref>[ آل عمران: 43 ]</ref> ، ولم يقل اسجدي مع الساجدين، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتها في بيتها، لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها. ثم قال لها: اركعي مع الراكعين، أي صلي مع المصلين في بيت المقدس، ولم يرد أيضا الركوع وحده دون أجزاء الصلاة، ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة، كما تقول: ركعت ركعتين وأربع ركعات، يريد الصلاة لا الركوع بمجرده؛ فصارت الآية متضمنة لصلاتين: صلاتها وحدها، عبر عنها بالسجود لأن السجود أفضل حالات العبد، وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها، ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع، لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها. وهذا نظم بديع وفقه دقيق وهذه نبذ تشير لك إلى ما وراء أو تنبذك وأنت صحيح بالعراء.
 
قالوا: ومما يليق ذكره بهذا الباب قوله: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود }. <ref>[ الحج: 26 ]</ref> . بدأ بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين، وجمعهم جمع السلامة، لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير، ولو كان مكان الطائفين الطواف لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله للطائفين ألا ترى أنك تقول: تطوفون، كما تقول: طائفون، فاللفظان متشابهان.
 
فإن قيل: فهلا أتى بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: وطهر بيتي للذين يطوفون.
السطر 571 ⟵ 577:
قيل: إن الحكم يعلل بالفعل لا بذوات الأشخاص، ولفظ الذين ينبىء عن الشخص والذات، ولفظ الطواف يخفي معنى الفعل ولا يبينه فكان لفظ الطائفين أولى بهذا الموطن.
 
ثم يليه في الترتيب والقائمين، لأنه في معنى العاكفين وهو في معنى قوله: { إلا ما دمت عليه قائمًا } <ref>[ آل عمران: 75 ]</ref> أي مثابرًا ملازمًا، وهو كالطائفين في تعلق حكم التطهر به. ثم يليه بالرتبة لفظ الراكع، لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصمون بما قرب منه كالطائفين والعاكفين، ولذلك لم يتعلق حكم التطهير بهذا الفعل الذي هو الركوع وإنه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجىء بلفظ جمع السلامة لأنه لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل، كما احتيج فيما قبله.
 
ثم وصف الركع بالسجود ولم يعطف بالواو كما عطف ما قبله لأن الركع هم السجود. والشيء لا يعطف بالواو على نفسه ولفائدة أخرى وهو أن السجود أغلب ما يجيء عبارة عن المصدر، والمراد به ههنا الجمع، فلو عطف بالواو لتوهم أنه يريد السجود الذي هو المصدر دون الاسم الذي هو النعت. وفائدة ثالثة أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة، فلو عطفت ههنا بالواو لتوهم أن الركوع حكم يجري على حياله.
السطر 577 ⟵ 583:
فإن قيل: فلم قال السجود على وزن فعول ولم يقل السجد كالركع، وفي آية أخرى ركعًا سجدًا ولم جمع ساجد على السجود ولم يجمع راكع على ركوع.
 
فالجواب إنأن السجود في الأصل مصدر كالخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن. ولو قال: السجد في جمع ساجد لم يتناول إلا المعنى الظاهر، وكذلك الركع ألا تراه يقول: تراهم ركعًا سجدًا وهذه رؤية العين وهي لا تتعلق إلا بالظاهر. والمقصود هنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قبله مما يراد به قصد البيت والبيت لا يتوجه إليه إلا بالعمل الظاهر. وأما الخشوع والخضوع الذي يتناوله لفظ الركوع دون لفظ الركع، فليس مشروطًا بالتوجه إلى البيت، وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن جعل وصفًا للركع ومتممًا لمعناه، إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن ومن حيث تناول لفظه. أيضا السجود الظاهر الذي يشترط فيه التوجه إلى البيت حسن انتظامه أيضا مع ما قبله مما هو معطوف على الطائفين الذين ذكرهم بذكر البيت، فمن لحظ هذه المعاني بقلبه وتدبر هذا النظم البديع بلبه ارتفع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصر بعين اليقين أنه تنزيل من حكيم حميد تم كلامه.
 
قلت: وقد تولج رحمة الله مضائق تضايق عنها أن تولجها الإبر وأتى بأشياء حسنة وبأشياء غيرها أحسن منها.
السطر 585 ⟵ 591:
وأما ما ذكره في تقديم الجن على الإنس من شرف الجن فمستدرك عليه، فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة قد ذكرناها في غير هذا الموضع.
 
وأما قوله: إن الملائكة منهم أو هم أشرف، فالمقدمتان ممنوعتان. أما الأول فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خلقوا منها هي النور، كما ثبت ذلك مرفوعًا عن النبي {{صل}} في [[صحيح مسلم]]. وأما الجان فمادتهم النار بنص القرآن ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغة ولا شرعًا ولا عقلًا. وأما المقدمة الثانية وهي كون الملائكة خيرًا وأشرف من الإنس فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر والجمهور على تفضيل البشر. والذين فضلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم، بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا إنه تقديم بالزمان لقوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم }. <ref>[ الحجر: 26 ]</ref> .
 
وأما تقديم الإنس على الجن في قوله: { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان }، <ref>[ الرحمن: 56 ]</ref> ، فلحكمة أخرى سوى ما ذكره، وهو أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الاثبات فيرد النفي عليه، وعلم النفوس بطمث الإنس ونفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف. فجاء النفي على مقتضى ذلك. وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهم.
 
وأما قوله: { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا فهذا يعرف سره من السياق، فإن هذا حكاية كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن كما قال تعالى: { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا } <ref>[ الجن: 1 ]</ref> الآيات. وكان القرآن أول ما خوطب به الإنس ونزل على نبيهم وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن فجاء قول مؤمني الجن: { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } <ref>[ الجن: 5 ]</ref> بتقديم الإنس لتقدمهم في الخطاب بالقرآن، وتقديمهم في التصديق والتكذيب.
 
وفائدة ثالثة وهي أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقولهم بعد أن رجعوا إليهم بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس والجن يقولون على الله كذبًا، فذكرهم الإنس هنا في التقديم أحسن في الدعوة وأبلغ في عدم التهمة، فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس والجن لما تبين لهم كذبهم فبدأتهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغرض والتهمة وأن لا يظن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنس عليهم، فإنهم أول ما أقروا بتقولهم الكذب على الله، وهذا من ألطف المعاني وأدقها، ومن تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحته.
السطر 597 ⟵ 603:
وأما تقديم العزيز على الحكيم فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر، فما ذكره من المعنى صحيح، وإن كان من الحكمة وهي كمال العلم والإرادة المتضمنين اتساق صنعه وجريانه على أحسن الوجوه وأكملها. ووضعه الأشياء مواضعها وهو الظاهر من هذا الاسم، فيكون وجه التقديم أن العزة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم، وهو سبحانه الموصوف من كل صفة كمال بأكملها وأعظمها وغايتها، فتقدم وصف القدرة لأن متعلقه أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته. وأما الحكمة فمتعلقها بالنظر والفكر والاعتبار غالبًا وكانت متأخرة عن متعلق القدرة. ووجه ثان أن النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه من الحكم والمعاني. ووجه ثالث أن الحكمة غاية الفعل، فهي متأخرة عنه تأخر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلق بإيجاده. والحكمة تتعلق بغايته فقدم الوسيلة على الغاية، لأنها أسبق في الترتيب الخارجي.
 
وأما قوله تعالى: { يحب التوابين ويحب المتطهرين }، <ref>[ البقرة: 222 ]</ref> ، ففيه معنى آخر سوى ما ذكره. وهو أن الطهر طهران طهر بالماء من الأحداث والنجاسات وطهر بالتوبة من الشرك والمعاصي، وهذا الطهور أصل لطهور الماء وطهور الماء لا ينفع بدونه، بل هو مكمل له معد مهيىء بحصوله فكان أولى بالتقديم، لأن العبد أول ما يدخل في الإسلام فقد تطهر بالتوبة من الشرك ثم يتطهر بالماء من الحدث.
 
وأما قوله: { كل أفاك أثيم }، <ref>[ الجاثية: 7 ]</ref> ، فالإفك هو الكذب وهو في القول والإثم هو الفجور وهو في الفعل. والكذب يدعو إلى الفجور كما في الحديث الصحيح أن الكذب يدعو إلى الفجور، وأن الفجور يدعو إلى النار، فالذي قاله صحيح.
 
وأما كل معتد أثيم ففيه معنى ثاني غير ما ذكره وهو أن العدوان مجاوزة الحد الذي حد للعبد فهو ظلم في القدر والوصف. وأما الإثم فهو محرم الجنس ومن تعاطى تعدى الحدود تخطى إلى الجنس الآخر وهو الإثم. ومعنى ثالث وهو أن المعتدي الظالم لعباد الله عدوانًا عليهم، والأثيم الظالم لنفسه بالفجور فكان تقديمه هنا على الأثيم أولى، لأنه في سياق ذمه والنهي عن طاعته. فمن كان معتديًا على العباد ظالمًا لهم فهو أحرى بأن لا تطيعه وتوافقه. وفيه معنى رابع وهو أنه قدمه على الأثيم ليقترن بما قبله وهو وصف المنع للخير، فوصفه بأنه لا خير فيه للناس وأنه مع ذلك معتد عليهم، فهو متأخر عن المناع لأنه يمنع خيره أولًا، ثم يعتدي عليهم ثانيًا، ولهذا يحمد الناس من يوجد لهم الراحة ويكف عنهم الأذى وهذا هو حقيقة التصوف وهذا لا راحة يوجدها ولا أذى يكفه.
السطر 607 ⟵ 613:
وأما تقديم الرجال على الركبان ففيه فائدة جليلة وهي أن الله شرط في الحج الاستطاعة، ولا بد من السفر إليه لغالب الناس، فذكر نوعي الحجاج لقطع توهم من يظن أنه لا يجب إلا على راكب. وقدم الرجال اهتمامًا بهذا المعنى وتأكيدًا. ومن الناس من يقول: قدمهم جبرًا لهم، لأن نفوس الركبان تزدريهم وتوبخهم. وتقول: إن الله لم يكتبه عليكم ولم يرده منكم، وربما توهموا أنه غير نافع لهم، فبدأ بهم جبرًا لهم ورحمة.
 
وأما تقديم غسل الوجه ثم اليد ثم مسح الرأس ثم الرجلين في الوضوء.الوضوء، فمن يقول إن هذا الترتيب واجب هو [[الشافعي]] وأحمد ومن وافقهما. فالآية عندهم اقتضت التقديم وجوبًا لقرائن عديدة.
 
أحدها: أنه أدخل ممسوحًا بين مغسولين وقطع النظير عن نظيره، ولو أريد الجمع المطلق لكان المناسب أن يذكر المغسولات متسقة في النظم والممسوح بعدها، فلما عدل إلى ذلك دل على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله.
 
الثاني: أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحد مأمور به وهو الوضوء، فدخلت الواو عاطفة لإجزائه بعضها إلى بعض. والفعل الواحد يحصل من ارتباط أجزائه بعضها ببعض. فدخلت الواو بين الأجزاء للربط فأفادت الترتيب إذ هو الربط المذكور في الآية، ولا يلزمه من كونها لا تفيد الترتيب بين أفعال لا ارتباط بينهما.بينهما، نحو: { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }، <ref>[ المزمل: 20 ،20، المجادلة: 13 ]</ref> . أن لا تفيده بين أجزاء فعل مرتبطة بعضها ببعض. فتأمل هذا الموضع ولطفه. وهذا أحد الأقوال الثلاثة في إفادة الواو للترتيب وأكثر الأصوليين لا يعرفونه ولا يحكونه. وهو قول ابن أبي موسى من أصحاب أحمد ولعله أرجح الأقوال.
 
الثالث: أن لبداءة الرب تعالى بالوجه دون سائر الأعضاء خاصة فيجب مراعاتها، وأن لا تلغى وتهدر فيهدر ما اعتبره الله ويؤخر ما قدمه الله. وقد أشار النبي {{صل}} إلى أن ما قدمه الله. فإنه ينبغي تقديمه ولا يؤخر، بل يقدم ما قدمه الله ويؤخر ما أخره الله. فلما طاف بين الصفا والمروة. بدأ بالصفا وقال: «نبدأ بما بدأ الله به»، وفي رواية للنسائي: «ابدؤا بما بدأ الله به» على الأمر، فتأمل بداءته بالصفا معللًا ذلك، يكون الله بدأ به. فلا ينبغي تأخيره، وهكذا يقول المرتبون للوضوء: سواء نحن نبدأ بما بدأ الله به ولا يجوز تأخير ما قدمه الله. ويتعين البداءة بما بدأ الله به، وهذا هو الصواب لمواظبة المبين عن الله مراده {{صل}} على الوضوء المرتب، فاتفق جميع من نقل عنه وضوءه كلهم على إيقاعه مرتبًا ولم ينقل عنه أحد قط. أنه أخل بالترتيب مرة واحدة فلو كان الوضوء المنكوس مشروعًا لفعله، ولو في عمره مرة واحدة لتبين جوازه لأمته وهذا بحمد الله أوضح.
السطر 617 ⟵ 623:
وأما تقديم النبيين على الصديقين فلما ذكره، ولكون الصديق تابعًا للنبي فإنما استحق اسم الصديق بكمال تصديقه للنبي فهو تابع محض. وتأمل تقديم الصديقين على الشهداء لفضل الصديقين عليهم، وتقديم الشهداء على الصالحين لفضلهم عليهم.
 
وأما تقديم السمع على البصر فهو متقدم عليه حيث وقع في القرآن مصدرًا أو فعلًا أو اسمًا. فالأول كقوله تعالى: { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }، <ref>[ الإسراء: 36 ]</ref> ، الثاني كقوله تعالى: { إنني معكما أسمع وأرى }، <ref>[ طه: 46 ]</ref> ، والثالث كقوله تعالى: { سميع بصير }، <ref>[ الإسراء: 36 ]</ref> ، { إنه هو السميع البصير }، <ref>[ غافر: 56 ]</ref> ، { وكان الله سميعًا بصير } <ref>[ النساء: 134 ]</ref> فاحتج بهذا من يقول إن السمع أشرف من البصر وهذا قول الاكثرين، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل ونصبوا معهم الخلاف وذكروا الحجاج من الطرفين. ولا أدري ما يترتب على هذه المسألة من الأحكام حتى تذكر في كتب الفقه! وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين وحكى أبو المعالي عن [[ابن قتيبة]]: تفضيل البصر ورد عليه. واحتج مفضلو السمع بأن الله تعالى يقدمه في القرآن حيث وقع وبأن بالسمع تنال سعادة الدنيا والآخرة. فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان بما جاءوا به، وهذا إنما يدرك بالسمع. ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع: ثلاثة كلهم يدلي على الله بحجته يوم القيامة فذكر منهم رجلًا أصم يقول: يا رب لقد جاء الإسلام وأنا لا أسمع شيئًا واحتجوا بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة من البصر. فإن البصر لا يدرك إلا بعض الموجودات المشاهدة بالبصر القريبة، والسمع يدرك الموجودات والمعدومات والحاضر والغائب والقريب والبعيد والواجب والممكن والممتنع، فلا نسبة لإدراك البصر إلى إدراكه. واحتجوا بأن فقد السمع يوجب ثلم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خلقة لا ينطق في الغالب. وأما فقد البصر فربما كان معينًا على قوة إدراك البصيرة وشدة ذكائها. فإن نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطنًا فيقوى إدراكها ويعظم، ولهذا تجد كثيرًا من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقاد والفطنة، وضياء الحس الباطن، ما لا تكاد تجده عند البصير. ولا ريب أن سفر البصر في الجهات والأقطار ومباشرته للمبصرات على اختلافها يوجب تفرق القلب وتشتيته. ولهذا كان الليل أجمع للقلب والخلوة أعون على إصابة الفكرة. قالوا: فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر، ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإسلام من هو أعمى ولم يعرف فيهم واحد أطرش بل لا يعرف في الصحابة أطرش. فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل البصر.
 
قال منازعوهم: يفصل بيننا وبينكم أمران.
السطر 627 ⟵ 633:
وأما ما ذكرتم من سعة إدراكاته وعمومها فيعارضه كثرة الخيانة فيها ووقوع الغلط. فإن الصواب فيما يدركه السمع بالإضافة إلى كثرة المسموعات قليل في كثير ويقابل كثير مدركاته صحة مدركات البصر وعدم الخيانة. وإنما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، وإذا تقابلت المرتبتان بقي الترجيح بما ذكرناه.
 
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: وفصل الخطاب: أن إدراك السمع أعم وأشمل وإدراك البصر أتم وأكمل فهذا له التمام والكمال. وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص به. تم كلامه.
 
وقد ورد في الحديث المشهور أن النبي {{صل}} قال لأبي بكر وعمر: «هذان السمع والبصر» وهذا يحتمل أربعة أوجه.
السطر 639 ⟵ 645:
والثاني: الشركة فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاستين ثابتًا لكل واحد منهما، فكل منهما بمنزلة السمع والبصر فعلى احتمال التوزيع والتقسيم تكلم الناس. أيهما هو السمع وأيهما هو البصر؟ وبنوا ذلك على أي الصفتين أفضل. فهي صفة الصديق.
 
والتحقيق أن صفة البصر للصديق وصفة السمع للفاروق. ويظهر لك هذا من كون عمر محدثًا كما قال النبي {{صل}}: «قد كان في الإمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة أحد فعمر»، والتحديث المذكور هو ما يلقى في القلب من الصواب والحق وهذا طريقة السمع الباطن وهو بمنزلة التحديث والإخبار في الأذن. وأما الصديق فهو الذي كمل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول ما باشر قلبه فلم يبق بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يكرم بها، وليس بعد درجة النبوة إلا هي ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } <ref>[ النساء: 69 ]</ref> وهذا هو الذي سبق به الصديق لا بكثرة صوم ولا بكثرة صلاة. وصاحب هذا يمشي رويدًا ويجيء في الأول. ولقد تعنى من لم يكن سيره على هذا الطريق وتشميره إلى هذا العلم، وقد سبق من شمر إليه وإن كان يزحف زحفًا ويحبو حبوًا، ولا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام فليعد إليه.
 
فقيل: تقديم السمع على البصر له سببان:
 
أحدهما: أن يكون السياق يقتضيه بحيث يكون ذكرها بين الصفتين متضمنًا للتهديد والوعيد كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة كقوله: { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم }، <ref>[ البقرة: 209 ]</ref> ، وقوله: { من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعًا بصيرًا }، <ref>[ النساء: 134 ]</ref> ، والقرآن مملوء من هذا وعلى هذا، فيكون في ضمن ذلك أني أسمع ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي وأبصر ما يفعلون.
 
ولا ريب أن المخاطبين بالرسالة بالنسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان.
السطر 649 ⟵ 655:
أحدهما: قابلوها بقولهم صدقت ثم عملوا بموجبها.
 
والثاني: قابلوها بالتكذيب ثم عملوا بخلافها، فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر. فقدم ما يتعلق به على ما يتعلق بالمبصر. وتأمل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى: { إنني معكما أسمع وأرى } <ref>[ طه: 46 ]</ref> هو يسمع ما يجيبهم به، ويرى ما يصنعه. وهذا لا يعم سائر المواضع، بل يختص منها بما هذا شأنه.
 
والسبب الثاني أن إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام مع غاية البعد بين السامع والمسموع أشد من إنكارها لرؤيته مع بعده.
 
وفي الصحيحين عن [[ابن مسعود]] قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول. فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا. ولم يقولوا: أترون الله يرانا، فكان تقديم السمع أهم والحاجة إلى العلم به أمس.
 
وسبب ثالث وهو أن حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثيرًا في الخير والشر والصلاح والفساد، بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان. فكان تقديم الصفة المتعلقة به أهم وأولى وبهذا يعلم تقديمه على العليم حيث وقع.
السطر 659 ⟵ 665:
وأما تقديم السماء على الأرض ففيه معنى آخر غير ما ذكره، وهو أن غالبًا تذكر السمرات والأرض في سياق آيات الرب الدالة على وحدانيته وربوبيته، ومعلوم أن الآيات في السموات أعظم منها في الأرض لسعتها وعظمها وما فيها من كواكبها وشمسها وقمرها وبروجها وعلومها واستغنائها عن عمد تقلها، أو علاقة ترفعها إلى غير ذلك من عجائبها التي الأرض وما فيها كقطرة في سعتها، ولهذا أمر سبحانه بأن يرجع الناظر البصر فيها كرة بعد كرة، ويتأمل استواءها واتساقها وبراءتها من الخلل والفطور. فالآية فيها أعظم من الأرض، وفي كل شيء له آية سبحانه وبحمده.
 
وأما تقديم الأرض عليها في قوله: { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء }، <ref>[ يونس: 61 ]</ref> ، وتأخيرها عنها في سبأ فتأمل. كيف وقع هذا الترتيب في سبأ في ضمن قول الكفار: { لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } <ref>[ سبأ: 3 ]</ref> كيف قدم السموات هنا، لأن الساعة إنما تأتي من قبلها وهي غيب فيها ومن جهتها تبتدىء وتنشأ، ولهذا قدم صعق أهل السموات على أهل الأرض عندها فقال تعالى: { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض }. <ref>[ الزمر: 68 ]</ref> .
 
وأما تقديم الأرض على السماء في [[سورة يونس]] فإنه لما كان السياق سياق تحذير وتهديد للبشر وإعلامهم أنه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقها وجليلها، وإنه لا يغيب عنه منها شيء. اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء فتبارك من أودغ كلامه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنه كلام الله وإن مخلوقًا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبدًا.
 
وأما تقديم المال على الولد فلم يطرد في القرآن، بل قد جاء مقدمًا كذلك في قوله: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم }، <ref>[ سبأ: 37 ]</ref> ، وقوله: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة }، <ref>[ الأنفال: 28 ]</ref> ، وقوله: { لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله }، <ref>[ المنافقون: 9 ]</ref> ، وجاء ذكر البنين مقدمًا كما في قوله: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها }، <ref>[ التوبة: 24 ]</ref> ، وقوله: { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة }. <ref>[ آل عمران: 14 ]</ref> . فأما تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة فلأنها ينتظمها معنى واحد وهو التحذير من الاشتغال بها، والحرص على تحصيلها حتى يفوته حظه من الله والدار الآخرة. فهي في موضع الالتهاب بها وأخبر في موضع أنها فتنة وأخبر في موضع آخر أن الذي يقرب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح لا أموالهم ولا أولادهم ففي ضمن هذا النهي عن الاشتغال بها عما يقرب إليه. ومعلوم أن اشتغال الناس بأموالهم والتلاهي بها، أعظم من اشتغالهم بأولادهم، وهذا هو الواقع حتى أن الرجل ليستغرقه اشتغاله بما له عن مصلحة ولده وعن معاشرته وقربه. وأما تقديمهم على الأموال في تينك الآيتين فلحكمة باهرة وهي أن براءة متضمنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أن تصور المجاهد فراق أهله وأولاده وآبائه وإخوانه وعشيرته تمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقته ماله، فإن تصور مع هذا أن يقتل فيفارقهم فراق الدهر، نفرت نفسه عن هذه أكثر وأكثر، ولايكاد عند هذا التصور يخطر له مفارقة ماله بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال، فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.
 
وتأمل هذا الترتيب البديع في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر يطلعك على عظمة هذا الكلام وجلالته. فبدأ أولا بذكر أصول العبد وهم آباؤه المتقدمون طبعًا وشرفًا ورتبة، وكان فخرًا لقوم بآبائهم ومحاماتهم عنهم أكثر من محاماتهم عن أنفسهم وأموالهم، وحتى عن أبنائهم. ولهذا حملتهم محاماتهم عن آبائهم ومناضلتهم عنهم إلى أن احتملوا القتل وسبي الذرية ولايشهدون على آبائهم بالكفر والنقيصة ويرغبون عن دينهم لما في ذلك من ازرائهم بهم، ثم ذكر الفروع وهم الأبناء لأنهم يتلونهم في الرتبة وهم أقرب أقاربهم إليهم وأعلق بقلوبهم وألصق بأكبادهم من الإخوان والعشيرة، ثم ذكر الإخوان وهم الكلالة وحواشي النسب، فذكر الأصول أولًا، ثم الفروع ثانيًا، ثم النظراء ثالثًا، ثم الأزواج رابعًا. لأن الزوجة أجنبية عنده ويمكن أن يتعوض عنها بغيرها، وهي إنما تراد للشهوة، وأما الأقارب من الآباء والأبناء والإخوان فلا عوض عنهم ويرادون للنصرة والدفاع. وذلك مقدم على مجرد الشهوة، ثم ذكر القرابة البعيدة. خامسًا: وهي العشيرة وبنو العم، فإن عشائرهم كانوا بني عمتهم غالبًا. وإن كانوا أجانب فأولى بالتأخير، ثم انتقل إلى ذكر الأموال بعد الأقارب سادسًا: ووصفها بكونها مقترفة أي مكتسبة، لأن القلوب إلى ما اكتسبته من المال أميل، وله أحب وبقدره أعرف لما حصل له فيه من التعب والمشقة، بخلاف مال جاء عفوًا بلا كسب من ميراث أو هبة أو وصية، فإن حفظه للأول ومراعاته له وحرصه على بقائه أعظم من الثاني والحس شاهد بهذا، وحسبك به، ثم ذكر التجارة سابعًا لأن محبة العبد للمال أعظم من محبته للتجارة التي يحصله بها، فالتجارة عنده وسيلة إلى المال المقترف. فقدم المال على التجارة تقديم الغايات على وسائلها، ثم وصف التجارة بكونها مما يخشى كسادها، وهذا يدل على شرفها وخطرها وإنه قد بلغ قدرها إلى أنها مخوفة الكساد، ثم ذكر الأوطان ثامنًا آخر المراتب، لأن تعلق القلب بها دون تعلقه بسائر ما تقدم، فإن الأوطان تتشابه. وقد يقوم الوطن الثاني مقام الأول من كل وجه ويكون خيرًا منه فمنها عوض. وأما الآباء والأبناء والأقارب والعشائر فلا يتعوض منها بغيرها. فالقلب وإن كان يحن إلى وطنه الأول فحنينه إلى آبائه وأبنائه وزوجاته أعظم. فمحبة الوطن آخر المراتب وهذا هو الواقع. إلا لعارض يترجح عنده إيثار البعيد على القريب، فذلك جزئي لا كلي فلا تناقض به. وأما عند عدم العوارض فهذا هو الترتيب المناسب والواقع.
 
وأما آية آل عمران فإنها لما كانت في سياق الإخبار بما زين للناس من الشهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها قدم ما تعلق الشهوة به أقوى والنفس إليه أشد سعرًا، وهو النساء التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا. وهي القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله، ثم ذكر البنين المتولدين منهم فالإنسان يشتهي المرأة للذة والولد، وكلاهما مقصود له لذاته، ثم ذكر شهوة الأموال لأنها تقصد لغيرها، فشهوتها شهوة الوسائل. وقدم أشرف أنواعها وهو الذهب، ثم الفضة بعده، ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد. فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بها. وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل، فإنها حصون القوم ومعاقلهم وعزهم وشرفهم. فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث، لأن الجمال بها والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث كما قال تعالى: { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون }، <ref>[ النحل: 6 ]</ref> ، والانتفاع بها أكثر من الحرث فإنها ينتفع بها ركوبًا وأكلًا وشربًا ولباسًا وأمتعة وأسلحة ودواء وقنية إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع، وأيضا فصاحبها أعز من صاحب الحرث وأشرف، وهذا هو الواقع فإن صاحب الحرث لا بد له من نوع مذلة، ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سكة ما دخل: هذا دار قوم إلا دخلهم الذل. فجعل الحرث في آخر المراتب وضعًا له في موضعه.
 
ويتعلق بهذا نوع آخر من التقديم لم يذكره وهو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد، حيث ما وقع في القرآن إلا في موضع واحد. وهو قوله: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله }. <ref>[ التوبة: 111 ]</ref> .
 
وأما سائر المواضع فقدم فيها المال نحو قوله: { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم }، <ref>[ الصف: 11 ]</ref> ، وقوله: { وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم }، <ref>[ التوبة: 25 ]</ref> ، وهو كثير فما الحكمة في تقديم المال على النفس؟ وما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده؟
 
وهذا لم يتعرض له السهيلي رحمه الله، فيقال:
السطر 681 ⟵ 687:
والمقصود تقديم المال في الذكر وإن ذلك مشعر بإنكار وهم من يتوهم أن العاجز بنفسه إذا كان قادرًا على أن يغزى بماله لا يجب عليه شيء، فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال. فكيف يقال: لا يجب به. ولو قيل: إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى وجوبه بالنفس، لكان هذا القول أصح من قول من قال: لا يجب بالمال وهذا بين وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذكر. وفائدة ثانية على تقدير عدم الوجوب وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه. وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها فندب الله تعالى محبيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته. فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحب إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبهم في حبه، نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها. وهي بذل نفوسهم له، فهذا غاية الحب. فإن الإنسان لا شيء أحب إليه من نفسه، فإذا أحب شيئًا بذل له محبوبه من نفعه وماله، فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضن بنفسه وآثرها على محبوبه. هذا هو الغالب وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية، ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده، فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه فر وتركهم، فلم يرض الله من محبيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتها، وأيضا فبذل النفس آخر المراتب فإن العبد ييذل ماله أو لا يقي به نفسه، فإذا لم يبق له مال بذل نفسه، فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقًا للواقع.
 
وأما قوله: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم }. <ref>[ التوبة: 111 ]</ref> . فكان تقديم الأنفس هو الأولى، لأنها هي المشتراة في الحقيقة وهي مورد العقد وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنته. فكانت هي المقصود بعقد الشراء والأموال تبع لها، فإذا ملكها مشتريها ملك مالها. فإن العبد وما يملكه لسيده ليس له فيه شيء. فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها، فحصن تقديم النفس على المال في هذه الآية حسنًا لا مزيد عليه.
 
فلنرجع إلى كلام السهيلي رحمه الله وأما ما ذكره من تقديم الغفور على الرحيم فحسن جدًا. وأما تقديم الرحيم على الغفور في موضع واحد وهو أول سبأ ففيه معنى غير ما ذكره يظهر لمن تأمل سياق أوصافه العلي وأسمائه الحسنى في أول السورة إلى قوله وهو الرحيم الغفور. فإنه ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمن لجميع صفات كماله، ونعوت جلاله مستلزم لها. كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره. فهو المحمود على كل حال وعلى كل ما خلقه وشرعه، ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: { الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض }، <ref>[ سبأ: 1 ]</ref> ، ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدًا، فإنه حمد يستحقه لذاته وكمال أوصافه. وما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدًا. وقرن بين الملك والحمد على عادته تعالى في كلامه. فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما. فله كمال من ملكه وكمال من حمده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر. فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصًا، والحمد بلا ملك يستلزم عجزًا، والحمد مع الملك غاية الكمال. ونظير هذه العزة والرحمة والعفو والقدرة والغنى والكرم فوسط الملك بين الجملتين فجعله محفوفًا بحمد قبله وحمد بعده، ثم عقب هذا الحمد والملك باسم الحكيم الخبير الدالين على كمال الإرادة، وإنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال العلم. وإنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبره. فنسبة الحكمة إلى الإرادة، كنسبة الخبرة إلى العلم. فالمراد ظاهر والحكمة باطنة والعلم ظاهر والخبرة باطنة، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفًا عن الخبرة. فالخبرة باطن العلم وكماله، والحكمة باطن الإرادة وكمالها فتضمنت الآية إثبات حمده وملكه وحكمته وعلمه على أكمل الوجوه.
 
ثم ذكر تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العلوي والسفلي فقال: يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها.
 
ثم ختم الآية بصفتين تقتضيان غاية الإحسان إلى خلقه وهما الرحمة والمغفرة فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتم الوجوه برحمته، ويعفو عن زلتهم ويهب لهم ذنوبهم ولا يؤاخذهم بها بمغفرته. فقال: { وهو الرحيم الغفور }، <ref>[ سبأ: 2 ]</ref> ، فتضمنت هذه الآية سعة علمه ورحمته وحكمه ومغفرته.
 
وهو سبحانه يقرن بين سعة العلم والرحمة. كما يقرن بين العلم والحلم. فمن الأول قوله: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا }، <ref>[ غافر: 7 ]</ref> ، ومن الثاني: { والله عليم حليم }، <ref>[ النساء: 12 ]</ref> ، فما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، ومن رحمة إلى علم.
 
وحملة العرش أربعة.أربعة؛ اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك.علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم والرحمة بالعلم، لأن العفو إنما يحسن عند القدرة، وكذلك الحلم والرحمة، إنما يحسنان مع العلم. وقدم الرحيم في هذا الموضع لتقدم صفة العلم. فحسن ذكر الرحيم بعده ليقترن به فيطابق قوله: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا }. <ref>[ غافر: 7 ]</ref> .
 
ثم ختم الآية بذكر صفة المغفرة لتضمنها دفع الشر وتضمن ما قبلها جلب الخير، ولما كان دفع الشر مقدمًا على جلب الخير قدم اسم الغفور على الرحيم حيث وقع. ولما كان في هذا الموضع تعارض يقتضي تقديم اسمه الرحيم لأجل ما قبله قدم على الغفور.
 
وأما قوله تعالى: { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين }، <ref>[ آل عمران: 43 ]</ref> ، فقد أبعد النجعة فيما تعسفه من فائدة التقديم وأتى بما ينبو اللفظ عنه. وقال غيره: السجود كان في دينهم قبل الركوع. وهذا قائل ما لا علم له به. والذي يظهر في الآية والله أعلم بمراده من كلامه أنها اشتملت على مطلق العبادة وتفصيلها، فذكر الأعم، ثم ما هو أخص منه، ثم ما هو أخص من الأخص. فذكر القنوت أولا وهو الطاعة الدائمة فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء وأنواع الطاعة، ثم ذكر ما هو أخص منه وهو السجود الذي يشرع وحده، كسجود الشكر والتلاوة ويشرع في الصلاة فهو أخص من مطلق القنوت، ثم ذكر الركوع الذي لا يشرع إلا في الصلاة فلا يسن الإتيان به منفردًا فهو أخص مما قبله.
 
ففائدة الترتيب النزول من الأعم إلى الأخص إلى أخص منه. وهما طريقتان معروفتان في الكلام: النزول من الأعم إلى الأخص وعكسها وهو الترقي من الأخص إلى ما هو أعم منه إلى ما هو أعم.
 
ونظيرها: { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير }، <ref>[ الحج: 77 ]</ref> ، فذكر أربعة أشياء أخصها الركوع، ثم السجود أعم منه، ثم العبادة أعم من السجود، ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله.
 
والذي يزيد هذا وضوحًا الكلام على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله: { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } <ref>[ الحج: 126 ]</ref> فإنه ذكر أخص هذه الثلاثة وهو الطواف الذي لا يشرع إلا بالبيت خاصة، ثم انتقل منه إلى الاعتكاف وهو القيام المذكور في الحج وهو أعم من الطواف، لأنه يكون في كل مسجد ويختص بالمساجد لا يتعداها، ثم ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثني شرعًا.
 
وإن شئت قلت: ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت، ثم الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد، ثم الصلاة التي تكون في البلد كله، بل في كل بقعة، فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة وله رحمه الله مزيد السبق وفضل التقدم.
السطر 708 ⟵ 714:
 
==(مسائل في المثنى والجمع)==
 
==(الواو والألف في يفعلون وتفعلان)==
 
الواو والألف في يفعلون وتفعلان أصل للواو والألف في الزيدون والزيدان، فإنما جعلنا ما هو من الأفعال أصلًا لما هو في الأسماء، لأنها إذا كانت في الأفعال كانت أسماء وعلامة جمع. وإذا كانت في الأسماء كانت علامة محضة لا أسماء، وما يكون اسمًا وعلامة في حال هو الأصل لما يكون حرفًا في موضع آخر. إذا كان اللفظ واحدًا نحو كاف الضمير وكاف المخاطبة في ذلك، وهذا أولى بنا من أن نجعل الحرف أصلًا والاسم فرعًا له، يدلك على هذا أنهم لم يجمعوا بالواو والنون من الأسماء إلا ما كان فيه معنى الفعل، كالمسلمون والصالحون دون رجلون وخيلون.
السطر 747 ⟵ 755:
قلنا: قد تقدم ما في يفعلون ويفعلان من وجوه الشبه بينه وبين جمع السلامة في الأسماء فمنها الوقوع موقع الاسم، ومنها المضارعة في اللفظ من جهة حروف المد واللين. وهذا الشبه معدوم في يفعلن من جهة اللفظ، لأنه ليس مثل لفظ فاعلين ولا فاعلات وإن كان واقعًا موقعه في حال الرفع.
 
==فائدة: أسماء الأيام==
 
لما كانت الأيام متماثلة لا يتميز يوم من بوم بصفة نفسية ولا معنوية. لم يبق تمييزها إلا بالأعداد، ولذلك جعلوا أسماء أيام الأسبوع مأخوذة من العدد، نحو الاثنين والثلاثاء والأربعاء، أو بالأحداث الواقعة فيها كيوم بعاث ويومو[[يوم بدر]] ويومو[[يوم الفتح،الفتح]]، ومنه يوم الجمعة. وفيه قولان: أحدهما لاجتماع الناس فيه للصلاة. والثاني، وهو الصحيح، لأنه اليوم الذي جمع فيه الخلق وكمل. وهو اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لفصل القضاء. وأما يوم السبت فمن القطع كما تشعر به هذه المادة، ومن السبات لانقطاع الحيوان فيه عن التحرك والمعاش. والنعال السبتية التي قطع عنها الشعر، وعلة السبات التي تقطع العليل عن الحركة والنطق، ولم يكن يومًا من أيام تخليق العالم بل ابتداء أيام التخليق الأحد وخاتمتها الجمعة. هذا أصح القولين، وعليه يدل القرآن وإجماع الأمة. على أن أيام تخليق العالم ستة، فلو كان أولها السبت لكانت سبعة.
 
وأما حديث أبي هريرة الذي رواه [[مسلم في صحيحه]] خلق الله التربة يوم السبت فقد ذكر [[البخاري في تاريخه]] أنه حديث معلول وأن الصحيح إنه قول كعب وهو كما ذكر، لأنه يتضمن أن أيام التخليق سبعة والقرآن يرده.
 
واعلم: أن معرفة أيام الأسبوع لا يعرف بحس ولا عقل ولا وضع يتميز به الأسبوع عن غيره، وإنما يعلم بالشرع. ولهذا لا يعرف أيام الأسبوع إلا أهل الشرائع ومن تلقى ذلك عنهم وجاورهم. وأما الأمم الذين لا يدينون بشريعة ولا كتاب، فلا يتميز الأسبوع عندهم من غيره، ولا أيامه بعضها من بعض. وهذا بخلاف معرفة الشهر والعام فإنه أمر محسوس.
 
==فائدة: الأمس واليوم والغد==

في اليوم وأمس وغد وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه==
 
اعلم أن أقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه، فيقال: فعلت اليوم فذكر الاسم العام، ثم عرف بأداة العهد ولا شيء أعرف من يومك الحاضر. فانصرف إليه ونظيره الآن من آن والساعة من ساعة. وأما أمس وغد فلما كان كل واحد منهما متصلًا بيومك اشتق له اسم من أقرب ساعة إليه، فاشتق لليوم الماضي أمس الملاقي للمساء، وهو أقرب إلى يومك من صاحبه، أعني صباح غد، فقالوا: أمس. وكذلك غد، اشتق الاسم من الغدو وهو أقرب إلى يومك من مسائه أعني مساء غد.
السطر 775 ⟵ 785:
الثالث الجنس المتصور في الذهن المنطبق على كل فرد من أفراده وله علم الجنس كأسامة، فنظير هذا أمس في الزمان، ولهذا وصف بالمعرفة فاعلق بهذه الفائدة التي لا تجدها في شيء من كتب القوم. والحمد الله الوهاب المان بفضله.
 
==فائدة: حذف لام يد ودم وغد==
 
المشهور عند النحاة أن حذف لام يد ودم وغد وبابه حذف اعتباطي لا سبب له، لأنهم لم يروه جاريًا على قياس الحذف، وقد يظهر فيه معنى لطيف وهو أن الألفاظ أصلها المصادر الدالة على الأحداث فأصل غد مصدر غدًا يغدو غدوًا بوزن رمى وأصل دم دمي بوزن فرح مصدر دمي يدمى كبقي يبقى. وأصل يد كذلك يدي من يديت إليه يديا، ثم حذفوا: فقالوا: يدًا وكذلك سم أصله سمو من سما يسمو سموًا كعلم يعلم علمًا. فلما زحزحت على أصل موضوعاتها وبقي فيها من المعنى الأول ما يعلم أنها مشتقة منه. حذفت منها لاماتها بإزاء ما نقص من معانيها ليكون النقص في اللفظ موازيًا للنقص في المعنى، فلا يستوفي حروف الكلمة بأسرها إلا عند حصول المعنى بأسره.
 
==فائدة: دخول الزوائد على الحروف==
 
دخول الزوائد على الحروف الأصلية منبئة معان زائدة على معنى الكلمة التي وضعت الحروف الأصلية عبارة عنه. فإن كان المعنى الزائد آخرًا كانت الزيادة آخرًا كنحو التاء في فعلت، لأنها تنبىء عما رتبته بعد الفعل، وإن كان المعنى الزائد أولًا، كانت الزيادة الدالة عليه سابقة على حروف الكلمة كالزوائد الأربع، فإنها تنبىء أن الفعل لم يحصل بعد لفاعله، وإن بينه وبين تحصيله جزءًا من الزمان. وكان الحرف الزائد السابق للفظ مشيرًا في اللسان إلى الجزء من الزمان مرتبًا في البيان على حسب ترتب المعنى في الجنان. وكذلك حكم جميع ما يرد عليك في كلامهم.
السطر 793 ⟵ 803:
ومن ههنا ضارعت الأسماء حتى أعربت وجرت مجراها في دخول لام التوكيد وغير ذلك، لأنها ضمنت معنى الأسماء بالحروف التي في أوائلها. فهي من حيث دلت على الحدث والزمان فعل محض، ومن حيث دلت بأوائلها على المتكلم والمخاطب وغير ذلك متضمنة معنى الاسم. فاستحقت الإعراب الذي هو من خواص الاسم، كما استحق الاسم المتضمن معنى الحرف البناء.
 
==فائدة: فعل الحال==
 
فعل الحال لا يكون مستقبلًا وإن حسن فيه عد. كما لا يكون المستقبل حالًا أبدًا ولا الحال ماضيًا. وأما جاءني زيد يسافر غدًا، فعلى تقدير الحكاية له إذا وقع وهي حال مقدرة. ومنه قوله تعالى: { ولو ترى إذ وقفوا }، <ref>[ الأنعام: 27، 30 ]</ref> ، والوقوف مستقبل لا محالة، ولكن جاء بلفظ الماضي حكاية لحال يوم الحساب فيه لا يترتب على وقوف، قد ثبت وكذلك: { قال الذين حق عليهم القول }، <ref>[ القصص: 63 ]</ref> ، { وقال الذين في النار }، <ref>[ غافر: 49 ]</ref> ، وهو كثير والوقت مستقبل والفعل بلفظ الماضي ونحوه: { فوجد فيها رجلين يقتتلان }، <ref>[ القصص: 15 ]</ref> ، حكاية للحال، فكذلك يقوم زيد غدًا هو على التقرير والتصوير لهيئته إذا وقع، وهذا لأن الأصل أنه لا يحكم للفظين متغايرين بمعنى واحد إلا بدليل، ولا للفظ واحد بمعنيين إلا بدليل.
 
==فائدة: حروف المضارعة==
 
حروف المضارعة وإن كانت زوائد فقد صارت كأنها من أنفس الكلم، وليست كذلك السين وسوف وإن كانوا قد شبهوهما بحروف المضارعة والحروف الملحقة بالأصول، ولذلك تقول غدًا يقوم زيد فتقدم الظرف على الفعل، كما تفعل ذلك في الماضي الذي لا زيادة فيه، نحو أمس قام زيد ولا يستقيم هذا في المقرون بالسين وسوف لا تقول غدًا سيقوم زيد لوجوه.
السطر 805 ⟵ 815:
الثاني: أن السين وسوف من حروف المعاني الداخلة على الجمل ومعناها في نفس المتكلم، وإليه يسند لا إلى الاسم المخبر عنه. فوجب أن يكون له صدر الكلام كحروف الاستفهام والنفي والنهي وغير ذلك، ولذلك قبح زيد سأضرب وزيد سيقوم. مع أن الخبر عن زيد، إنما هو بالفعل لا بالمعنى الذي دلت عليه السين. فإن ذلك المعنى مستند إلى المتكلم لا إلى زيد. فلا يجوز أن يخلط بالخبر عن زيد. فتقول: زيد سيفعل.
 
فإن أدخلت إن على الاسم المبتدأ، جاز دخول السين في الخبر لاعتماد الاسم على أن ومضارعتها للفعل، فصارت في اللفظ مع اسمها كالجملة التامة فصلح دخول السين فيم بعدها. وأما مع عدم أن فيقبح ذلك، وهذا مذهب أبي الحسن شيخ السهيلي. قال السهيلي: فقلت له: أليس قد قال الله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات }، <ref>[ النساء: 57، 122 ]</ref> ، فقال لي: اقرأ ما قبل الآية فقرأت: { إن الذين كفروا } <ref>[ النساء: 56 ]</ref> الآية. فضحك وقال: قد كنت أفزعتني أليست هذه إن في الجملة المتقدمة وهذه الأخرى معطوفة بالواو عليها، والواو تنوب مناب تكرار العامل فسلمت له وسكت.
 
قال: ونظير هذه المسألة. مسألة اللام في إن تقول: إن زيدًا لقائم، ولا تقول زيد لقائم، والمصحح لتقديم الظرف على الفعل الماضي. أن معنى المضي مستفاد من لفظه لا من حرف زائد على الجملة منفصل عن الفعل كالسين وقد. وأما فعل الحال فزوانده ملحقة بالأصل، فإن أدخلت على الماضي قد التي للتوقع كانت بمنزلة السين التي للاستئناف، وقبح حينئذ أمس قد قام زيد، كما قبح غدًا يقوم زيد والعلة حذو النعل بالنعل.
 
==فائدة: السين تشبه حروف المضارعة==
 
السين تشبه حروف المضارعة، ونقرر قبل ذلك مقدمة وهي لم لم تعمل في الفعل وقد اختصت به؟
السطر 827 ⟵ 837:
فهذه "ثم" حرف عطف ولفظها كلفظ الثم وهو زم الشيء بعضه إلى بعض. كما قال: كنا أهل ثمة وزمة، وأصله من ثممت البيت إذا كانت فيه فرج فسدد بالثمام، والمعنى الذي في ثم العاطفة قريب من هذا، لأنه ضم شيء إلى شيء بينهما مهلة. كما أن ثم البيت ضم بين شئين بينهما فرجة. ومن تأمل هذا المعنى في الحروف والأسماء المضارعة لها الفاه كثيرًا.
 
==فائدة بديعة: دخول أن على الفعل==
 
في دخول أن على الفعل دون الاكتفاء بالمصدر ثلاث فوائد:
السطر 843 ⟵ 853:
واحتمل أيضا أنك تريد أنه أعجبك سرعته أو بطؤه أو حالة من حالاته. فإذا قلت: أعجبني أن قدمت كانت أن على الفعل بمنزلة الطبايع. والصواب من عوارض الاجمالات المتصورة في الأذهان، وكذلك زادوا أن بعد لما في قولهم لما أن جاء زيد أكرمتك، ولم يزيدوها بغير ظرف سوى لما وذلك أن لما ليست في الحقيقة ظرف زمان، ولكنه حرف يدل على ارتباط الفعل الثاني بالأول، وأن أحدهما كالعلة للآخر بخلاف الظرف. إذا قلت: حين قام زيد قام عمرو فجعلت أحدهما وقتًا للآخر على اتفاق لا على ارتباط. فلذلك زادوا أن بعدها صيانة لهذا المعنى وتخليصًا له من الاحتمال العارض في الظرف، إذ ليس الظرف من الزمان بحرف فيكون قد جاء لمعنى كما جاءت لما.
 
وقد زعم الفارسي أنها مركبة من لم وما. قال السهيلي : ولا أدري ما وجه قوله، وهي عندي من الحروف التي في لفظها شبه من الاشتقاق وإشارة إلى مادة هي مأخوذة منها نحو ما تقدم في سوف وثم لأنك تقول: لممت الشيء لما إذا ضممت بعضه إلى بعض. وهذا نحو من هذا المعنى الذي سيقت إليه، لأنه ربط فعل بفعل على جهة التسبيب أو التعقيب فإذا كان التسبيب حسن إدخال إن بعدها زائدة إشعارًا بمعنى المفعول من أجله. وإن لم يكن مفعولًا من أجله نحو قوله: { ولما جاءت رسلنا لوطًا }، <ref>[ هود: 77 ]</ref> ، و { فلما أن جاء البشير }، <ref>[ يوسف: 96 ]</ref> ، ونحوه وإذا كان التعقيب مجردًا من التسبيب لم يحسن زيادة إن بعدها وتأمله في القرآن. وأما أن التي للتفسير فليست مع ما بعدها بتأويل المصدر، ولكنها تشارك أن التي تقدم ذكرها في بعض معانيها لأنها تحصين لما بعدها من الاحتمالات وتفسير لما قبلها من المصادر المجملات التي في معنى المقالات والإشارات. فلا يكون تفسيرًا إلا لفعل في معنى التراجم الخمس الكاشفة عن كلام النفس، لأن الكلام القائم في النفس والغائب عن الحواس في الأفئدة يكشفه للمخاطبين خمسة أشياء: اللفظ والخط والإشارة والعقد والنصب وهي لسان الحال وهي أصدق من لسان المقال، فلا تكون أن المفسرة إلا تفسيرًا لما أجمل من هذه الأشياء. كقولك: كتبت إليه أن اخرج، وأشرت إليه أن اذهب، { نودي أن بورك من في النار }، <ref>[ النمل: 8 ]</ref> ، وأوصيته أن أشكر. وعقدت في يدي أن قد أخذت بخمسين. وزربت على حائطي أن لا يدخلوه. ومنه قول الله عز وجل: { ووضع الميزان * أن لا تطغوا في الميزان }، <ref>[ الرحمن: 7 - 8 ]</ref> ، هي ههنا لتفسير النصبة التي هي لسان الحال.
 
وإذا كان الأمر فيها كذلك، فهي بعينها التي تقدم ذكرها، لأنها إذا كانت تفسيرًا فإنما تفسر الكلام. والكلام مصدر فهي إذًا في تأويل مصدر إلا أنك أوقعت بعدها الفعل بلفظ الأمر والنهي وذلك مزيد فائدة ومزيد الفائدة لا تخرج الفعل عن كونه فعلًا. فلذلك لا تخرج عن كونها مصدرية كما لا يخرجها عن ذلك صيغة المضي والاستقبال بعدها. إذا قلت: يعجبني أن تقوم وإن قمت فكأنهم، إنما قصدوا إلى ماهية الحدث مخبرًا عن الفاعل لا الحدث مطلقًا، ولذلك لا تكون مبتدأة وخبرها في ظرف أو مجرور، لأن المجرور لا يتعلق بالمعنى الذي يدل عليه أن ولا الذي من أجله صيغ الفعل واشتق من المصدر، وإنما يتعلق المجرور بالمصدر نفسه مجردًا من هذا المعنى كما تقدم. فلا يكون خبرًا عن أن المتقدمة وإن كانت في تأويل اسم، وكذلك أيضا لا يخبر عنها بشيء مما هو من صفة للمصدر. كقولك: قيام سريع أو بطيء ونحوه. لا يكون مثل هذا خبرًا عن المصدر.
السطر 869 ⟵ 879:
وتأمل حرف لا كيف تجدها لامًا بعدها ألف يمتد بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس. فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها ولن يعكس ذلك. فتأمله فإنه معنى بديع.
 
وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله: { ولا يتمنونه أبدًا } <ref>[ الجمعة: 7 ]</ref> بحرف لا في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل فصار من صيغ العموم فانسحب على جميع الأزمنة. وهو قوله عز وجل: { إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت } <ref>[ الجمعة: 6 ]</ref> كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات، أو زمن من الأزمان. وقيل لهم: تمنوا الموت فلا يتمنونه أبدًا. وحرف الشرط دل على هذا المعنى وحرف لا في الجواب بإزاء صيغة العموم لاتساع معنى النفي فيها.
 
وقال في سورة البقرة: { ولن يتمنوه } <ref>[ البقرة: 95 ]</ref> فقصر من سعة النفي وقرب لأن قبله: { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } <ref>[ البقرة: 94 ]</ref> لأن إن وكان هنا ليست من صيغ العموم، لأن كان ليست بدالة على حدث وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث فكأنه يقول عز وجل: إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة وثبتت لكم في علم الله فتمنوا الموت الآن. ثم قال في الجواب: ولن يتمنوه فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعًا.
 
وليس في قوله أبدًا ما يناقض ما قلناه. فقد يكون أبدًا بعد فعل الحال تقول : زيد يقوم أبدًا .
 
ومن أجل ما تقدم من قصور معنى النفي في لن وطوله في لا يعلم الموفق قصور المعتزلة في فهم كلام الله حيث جعلوا لن تدل على النفي على الدوام واحتجوا بقوله: { لن تراني }، <ref>[ الأعراف: 143 ]</ref> ، وعلمت بهذا أن بدعتهم الخبيثة حالت بينهم وبين فهم كلام الله كما ينبغي. وهكذا كل صاحب بدعة تجده محجوبًا عن فهم القرآن.
 
وتأمل قوله تعالى: { لا تدركه الأبصار }، <ref>[ الزخرف: 77 ]</ref> ، كيف نفى الإدراك بلا الدالة على طول النفي ودوامه في أنه لا يدرك أبدًا وإن رآه المؤمنون فأبصارهم لا تدركه تعالى عن أن يحيط به مخلوق وكيف نفى الرؤية بلن فقال: { لن تراني } <ref>[ الأعراف: 143 ]</ref> لأن النفي بها لا يتأيد وقد أكذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي بلن صريحًا بقوله وقالوا: { يا مالك ليقض علينا ربك }، <ref>[ الزخرف: 77 ]</ref> ، فهذا تمن للموت فلو اقتضت لن دوام النفي تناقض الكلام كيف وهي مقرونة بالتأبيد بقوله: { ولن يتمنوه أبدًا }، <ref>[ البقرة: 95 ]</ref> ، ولكن ذلك لا ينافي تننيه في النار، لأن التأبيد قد يراد به التأبيد المقيد والتأبيد المطلق. فالمقيد كالتأبيد بمدة الحياة مقيد كقولك: والله لا أكلمه أبدًا والمطلق كقولك: والله لا أكفر بربي أبدًا. وإذا كان كذلك فالآية إنما اقتضت نفي تمني الموت أبد الحياة الدنيا، ولم يتعرض للآخرة أصلًا. وذلك لأنهم لحبهم الحياة وكراهتهم للجزاء لا يتمنون. وهذا منتف في الآخرة.
 
فهكذا ينبغي أن يفهم كلام الله لا كفهم المحرفين له عن مواضعه.
السطر 883 ⟵ 893:
قال أبو القاسم السهيلي: على أني أقول إن العرب، إنما تنفي بلن ما كان ممكنًا عند المخاطب مظنونًا أن سيكون، فتقول له: لن يكون، لما ظًن أن يكون، لأن لن فيها معنى أن؛ وإذا كان الأمر عندهم على الشك لا على الظن كأنه يقول أيكون أم لا، قلت في النفي: لا <ref>الأصل: لن، والتصويب من نتائج الفكر. </ref> يكون، وهذا كله مقو لتركيبها من لا، وإن وتبين لك وجه اختصاصها في القرآن بالمواضع التي وقعت فيها دون لا.
 
==فائدة: إذا الظرفية الشرطية==
 
قولهم: إذن أُكرمك، قال السهيلي: هي عندي إذا الظرفية الشرطية خلع منها معنى الاسمية، كما فعلوا ذلك بإذا وبكاف الخطاب وبالضمائر المنفصلة، وكذلك فعلوا بإذا إلا أنهم زادوا فيها التنوين فذهبت الألف والقياس إذا وقفت عليها أن يرجع الألف لزوال العلة، وإنما نونوها لما فصلوها عن الإضافة إذ التنوين علامة الانفصال. كما فصلوها عن الإضافة إلى الجملة فيه فصار التنوين معاقبًا للجملة إلا أن إذ في ذلك الموضع لم تخرج عن الاسمية في نحو قوله: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } <ref>[ الزخرف: 39 ]</ref> جعلها سيبويه ههنا حرفًا بمنزلة أن.
 
فإن قيل: ليس شيء من هذه الأشياء التي صيرت حروفًا بعد أن كانت اسمًا إلا وقد بقي فيها معنى من معانيها، كما بقي في كاف الخطاب معنى الخطاب وفي على معنى الاستعلاء. فما بقي في إذا إذًا من معانيها في حال الاسمية؟
السطر 891 ⟵ 901:
فالجواب أنك إذا قلت: سأفعل كذا إذا خرج زيد. ففعلك مرتبط بالخروج مشروط به، وكذلك إذا قال لك القائل: قد أكرمتك. فقلت: إذا أحسن إليك ربطت إحسانك بإكرامه وجعلته جزاء له، فقد بقي فيها طرف من معنى الجزاء وهي حرف كما كان فيها معنى الجزاء وهو اسم.
 
وأما "إذ" من قوله: { إذ ظلمتم } <ref>[ الزخرف: 39 ]</ref> ففيها معنى الاقتران بين الفعلين. كما كان فيها ذلك في حال الظرفية تقول: لأضربن زيدًا إذ شتمني فهي وإن لم تكن ظرفًا ففيها معنى الظرف. كأنك تنبهه على أنك تجازيه على ما كان منه وقت الشتم، فإن لم يكن الضرب واقعًا في حال الشتم فله رد إليه وتنبيه عليه، فقد لاح لك قرب ما بينها وبين أن التي هي للمفعول من أجله، ولذلك شبهها سيبويه بها في سواد كتابه.
 
وعجبًا للفارسي حيث غاب ذلك عنه وجعلها ظرفًا، ثم تحيل في إيقاع الفعل الذي هو النفع فيها وسوقه إليها.
السطر 901 ⟵ 911:
فإن قيل: فهلا فعلوا بها ما فعلوا بإذ حين نونوها وحذفوا الجملة بعدها فيضيفوا إليها ظروف الزمان، كما يضيفونها إلى إذ في نحو يومئذ، لأن الإضافة في المعنى إلى الجملة التي عاقبها التنوين.
 
فالجواب أن إذ قد استعملت مضافة إلى الفعل في المعنى على وجه الحكاية للحال. كما قال تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } <ref>[ البقرة: 165 ]</ref> ولم يستعملوا إذا مضافة إلى الماضي بوجه ولا على الحال، فلذلك استغنوا بإضافة الظروف إلى إذ، وهم يريدون الجملة بعدها عن إضافتها إلى إذا، مع أن إذ في الأصل حرفان وإذا ثلاثة أحرف فكان ما هو أقل حروفًا في اللفظ أولى بالزيادة فيه، وإظافة الأوقات إليه زيادة فيه، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد. وأقوى من هذا أن إذا فيها معنى الجزاء وليس في إذ منه رائحته فامتنع إضافة ظرف الزمان إلى إذا، لأن ذلك يبطل ما فيها من معنى الجزاء، لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فلو أضيف إليه والحين إليهما لغلب عليهما حكمه لضعفهما عن درجة حرف الجزاء فتأمله.
 
==فائدة بديعة: لام كي ولام الجحود==
 
لام كي والجحود حرفان ماضيان بإضمار أن إلا أن لام كي هي لام العلة فلا يقع فيها إلا فعل يكون علة لما بعدها. فإن كان ذلك الفعل منفيًا لم يخرجها عن أن تكون لام كي. كما ذهب إليه الصيمري، لأن معنى العلة فيها باق، وإنما الفرق بين لام الجحود ولام كي وذلك من ستة أوجه:
السطر 915 ⟵ 925:
والفرق السادس جواز إظهار أن بعد لام كي ولا يجوز إظهارها بعد لام الجحود، لأنها جرت في كلامهم نفيًا للفعل المستقبل بالسين أو سوف فصارت لام الجحود بإزائها فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدها.
 
وفي هذه النكتة مطلع على فوائد من كتاب الله ومرقاة إلى تدبره كقوله: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } <ref>[ الأنفال: 33 ]</ref> فجاء بلام الجحد حيث كان نفيًا لأمر متوقع وسبب مخوف في المستقبل، ثم قال: { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } <ref>[ الأنفال: 33 ]</ref> فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي وقوع العذاب بالمستغفرين على العموم في الأقوال لا يخص مضيًا من استقبال. ومثله: { ما كان ربك ليهلك القرى }، <ref>[ هود: 117 ]</ref> ، ثم قال: { وما كنا مهلكي القرى }، <ref>[ القصص: 59 ]</ref> ، فالحظ هذه الآية من مطلع الأخرى تجدها كذلك.
 
وأما لام العاقبة ويسمونها لام الصيرورة في نحو: { ليكون لهم عدوًا } <ref>[ القصص: 8 ]</ref> فهي في الحقيقة لام كي، ولكنها لم تتعلق بالخبر لقصد المخبر عنه وإرادته، ولكنها تعلقت بإرادة فاعل الفعل على الحقيقة وهو الله سبحانه أي فعل الله ليكون كذا وكذا. وكذلك قولهم: أعتق ليموت لم يعتق لقصد الموت، ولم بتعلق اللام بالفعل، وإنما المعنى قدر الله أنه يعتق ليموت فهي متعلقة بالمقدور وفعل الله. ونظيره إني أنسى لاسن ومن رواه أنسى بالتشديد فقد كشف قناع المعنى.
 
وسمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول: يستحيل دخول لام العاقبة في فعل الله، فإنها حيث وردت في الكلام فهي لجهل الفاعل لعاقبة فعله، كالتقاط آل فرعون لموسى فإنهم لم يعلموا عاقبته، أو لعجز الفاعل عن دفع العاقبة نحو "لدوا للموت وابنوا للخراب". فأما في فعل من لا يعزب عنه مثقال ذرة. ومن هو على كل شيء قدير، فلا يكون قط إلا لام كي وهي لام التعليل.
السطر 923 ⟵ 933:
ولمثل هذه الفوائد التي لا تكاد توجد في الكتب يحتاج إلى مجالسة الشيوخ والعلماء.
 
==فائدة: نفي الماضي ونفي المستقبل==
 
كما أن لن لنفي المستقبل كان الأصل أن يكون لا لنفي الماضي وقد استعملت فيه نحو: { فلا اقتحم العقبة } <ref>[ البلد: 11 ]</ref> ونحوه: * وأي عبد لك لا ألمّا * ولكن عدلوا في الأكثر إلى نفي الماضي بلم لوجوه:
 
منها أنهم خصوا المستقبل بلن. فأرادوا أن يخصوا الماضي بحرف، ولا لا تخص ماضيًا من مستقبل، ولا فعلًا من اسم. فخصوا نفي الماضي بلم.
 
ومنها أن "لا" يتوهم انفصالها مما بعدها، إذ قد تكون نافية لما قبلها ويكون ما بعدها في حكم الوجوب، مثل لا أقسم. حتى لقد قيل في قول عمر: "لا نقضي ما تجانفنا لإثم" إن لا رد لما قبلها ونقضي واجب لا منفي. وقال بعض الناس في قوله {{صل}}: «لا ترآى ناراهما». أن لا رد وما بعدها واجب، وهذا خطأ في الأثرين وتلبيس لا يجوز حمل النصوص عليه. وكذلك: { لا أقسم بيوم القيامة } <ref>[ القيامة: 1 ]</ref> أيضا، بل القول فيها أحد قولين، إما أن يقال هي للقسم وهو ضعيف. وإما أن يقال أقحمت أول القسم إيذانًا بنفي القسم عليه وتوكيدًا لنفيه كقول الصديق لاها الله لا تعمد إلى أسد من أسد الله الحديث.
 
ومما يدل على حرصهم على إيصال حرف النفي بما بعده قطعًا لهذا التوهم، إنما قلبوا لفظ الفعل الماضي بعد لم إلى لفظ المضارع حرصًا على الاتصال وصرفًا للوهم عن ملاحظة الانفصال.
السطر 935 ⟵ 945:
فإن قيل: وأي شيء في لفظ المضارع مما يؤكد هذا المعنى، أو ليسا سواء هو والماضي؟
 
قلنا : لا سواء، فاعلم أن الأفعال مضارعة للحروف من حيث كانت عوامل في الأسماء كهي ومن هناك استحقت البناء، وحق العامل أن لا يكون مهيئًا لدخول عامل آخر عليه قطعًا للتسلسل الباطن. والفعل الماضي بهذه الصورة وهو على أصله من البناء ومضارعة الحروف العوامل في الأسماء فليس يذهب الوهم عند النطق به إلا إلى انقطاعه عما قبله إلا بدليل يربطه وقرينة تجمعه إليه. ولا يكون في موضع الحال البتة إلا مصاحبًا لقيد ليجعل هذا الفعل في موضع الحال.
 
فإن قلت: فقد يكون في موضع الصفتين النكرة، نحو مررت برجل ذهب.
السطر 941 ⟵ 951:
قيل: افتقار النكرة إلى الوصف وفرط احتياجها إلى التخصيص تكملة لفائدة الخبر هو الرابط بين الفعل وبينها بخلاف الحال فإنها تجيء بعد استغناء الكلام وتمامه.
 
وأما كونه خبرًا للمبتدأللمبتدإ فلشدة احتياج المبتدأ إلى خبره جاز ذلك حتى أنك إذا أدخلت أن على المبتدأ بطل أن يكون الماضي في موضع الخبر إذ قد كان في خبرها اللام لما في الكلام من معنى الابتداء والاستئناف لما بعدها، فاجتمع ذلك مع صيغة الماضي وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبرًا لما قبلها، وليس ذلك في المضارع.
 
وليس المضارع كالماضي، لأن مضارعته للاسم هيأته لدخول العوامل عليه والتصرف بوجوه الإعراب كالاسم وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام وصيرته كالأسماء المعمول فيها، فوقع موقع الحال والوصف وموقع خبر المبتدأ وإن لم يقطعه دخول اللام عن أن يكون خبرًا في باب أن. كما قطع الماضي من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام كما تقدم.
السطر 949 ⟵ 959:
قيل: دخول الزوائد ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء كالمتكلم والمخاطب فما تضمن معنى الاسم أعرب كما بني من الأسماء ما تضمن معنى الحرف. ومع هذا فإن الأصل في دخول الزوائد شبه الأسماء وصلح فيها من الوجوه ما لا يصلح في الماضي.
 
==فائدة بديعة: لام الأمر ولا الناهية==
 
لام الأمر ولا في النهي وحروف المجازاة داخلة على المستقبل فحقها أن لا يقع بعدها لفظ الماضي، ثم لم يوجد ذلك إلا لحكمة. أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك كي لا يلتبس بالنفي لعدم الجزم، ولكن إذا كانت لا في معنى الدعاء. جاز وقوع الفعل بعدها بلفظ الماضي، ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوه:
السطر 965 ⟵ 975:
وفيه طريقة أخرى وهي أفقه معنى من هذه وهو أن هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة وكأنهم يريدون بقولهم أنجز حر ما وعد، أي ثبت ذلك في المروءة واستقر في الفطرة. وقول عمر صلى رجل في إزار ورداء الحديث أي هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقق من الشريعة، فالإشارة إلى هذه المعاني حسنت صرفه إلى صورة الخبر وإن كان أمرًا زائدًا لا يكاد يجيء الاسم بعده إلا نكرة لعموم هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها، فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال أسماء معرفة تمحض فيها معنى الخبر وزال معنى الأمر، فقلت: اتق الله زيد وأنجز عمر وما وعد فصار خبرًا لا أمرًا.
 
وهذا موضع المسألة المشهورة وهي مجيء الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله: { والوالدات يرضعن }، <ref>[ البقرة: 233 ]</ref> ، { والمطلقات يتربصن }، <ref>[ البقرة: 238 ]</ref> ، ونظائره. فمن سلك المسلك الأول جعله خبرًا بمعنى الأمر ومن سلك المسلك الثاني قال: بل هو خبر حقيقة غير مصروف من جهة الخبرية، ولكن هو خبر عن حكم الله وشرعه ودينه ليس خبرًا عن الواقع ليلزم ما ذكروه من الأشكال، وهو احتمال عدم وقوع مخبره، فإن هذا، إنما يلزم من الخبر عن الواقع، وأما الخبر عن الحكم والشرع فهو حق مطابق لمخبره لا يقع خلافه أصلًا .
 
وضد هذا مجيء الأمر بمعنى الخبر نحو قوله: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»، فإن هذا صورته صورة الأمر ومعناه معنى الخبر المحض، أي من كان لا يستحي فإنه يصنع ما يشتهي، ولكنه صرف عن جهة الخبرية إلى صورة الأمر لفائدة بديعة. وهي أن العبد له من حيائه آمر يأمره بالحسن وزاجر يزجره عن القبيح، ومن لم يكن من نفسه هذا الأمر لم تنفعه الأوامر، وهذا هو واعظ الله في قلب العبد المؤمن الذي أشار إليه النبي {{صل}} ولا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن، فمن لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ، فإذا فقد هذا الآمر الناهي بفقد الحياء فهو مطيع لا محالة لداعي الغي، والشهوة طاعة لا انفكاك له منها. فنزل منزلة المأمور، وكأنه يقول: إذا لم تأتمر لأمر الحياء فأنت مؤتمر لأمر الغي والسفه وأنت مطيعه لا محالة. وصانع ما شئت لا محالة فأتي بصيغة الامر تنبيهًا على هذا المعنى ولو أنه عدل عنها إلى صيغة الخبر المحض. فقيل: إذا لم تستح صنعت ما شئت لم يفهم منها هذا المعنى اللطيف فتأمله. وإياك والوقوف مع كثافة الذهن وغلظ الطباع فإنها تدعوك إلى إنكار هذه اللطائف وأمثالها فلا تأتمر لها.
السطر 985 ⟵ 995:
وإذا كان الكلام معتمدًا على الجزاء والقصد إليه والشرط جعل تابعًا ووسيلة إليه كان الإتيان فيه بلفظ الماضي حسنًا أو أحسن من المستقبل، فزن بهذه القاعدة ما يرد عليك من هذا الباب.
 
فمنه قوله تعالى: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين }، <ref>[ الفتح: 27 ]</ref> ، فانظر كيف جعل فعل الشرط ماضيًا والجزاء مستقبلًا، لأن القصد كان إلى دخولهم المسجد الحرام، وعنايتهم كلها مصروفة، وهمهم معلقة به دون وقوع الأفعال بمشيئة الله تعالى. فإنهم لم يكونوا يشكون في ذلك ولا يرتابون.
 
وأكد هذا المعنى تقديم الجزاء على الشرط. وهو إما نفس الجزاء على أصح القولين دليلًا كما تقدم تقريره، وإما دال على الجزاء وهو محذوف مقدر تأخيره وعلى القولين فتقدم الجزاء، أو تقديم ما يدل عليه اعتناء بأمره وتجريدًا للقصد إليه.
 
ويدل عليه أيضا تأكيده باللام المؤذنة بالقسم المضمر كأنه قيل: والله لتدخلن المسجد الحرام، فهذا كله يدلك على أنه هو المقصود المعنى به ومثل هذا قوله تعالى: { لئن شكرتم لأزيدنكم }، <ref>[ إبراهيم: 7 ]</ref> ، ونحوه: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } <ref>[ الإسراء: 86 ]</ref> ومثله: { لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } <ref>[ الإسراء: 88 ]</ref> وهذا أصل غير منخرم، وفيه نكتة حسنة. وهي اعتماد الكلام في هذا النوع على القسم كما رأيت. فحسن الإتيان بلفظ الماضي إذ القسم أولى به لتحققه ولا يكون الإلغاء مستشنعًا فيه، لأنه مبني. ولما كان الفعل بعد حرف الجزاء يقع بلفظ الماضي لما ذكرناه من الفائدة حسن وقوع المستقبل المنفي بلم بعدها نحو، وان لم تنتهوا وهما جازمتان ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان من جنس واحد، ولكن لما كان الفعل بعدها ماضيًا في المعنى وكانت متصلة به حتى كأن صيغته صيغة الماضي لقوة الدلالة عليه بلم جاز وقوعه بعد إن، وكان العمل والجزم لحرف لم، لأنها أقرب إلى الفعل وألصق به، وكان المعنى في الاستقبال لحرف إن، لأنها أولى وأسبق لكان اعتبارها في المعنى واعتبار لم في الجزم. ولا ينكر إلغاء إن هنا، لأن ما بعدها في حكم صيغة الفعل الماضي. كما لا ينكر إلغاؤها قبله.
 
وقد أجازوا في إن النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوا في إن التي للشرط كما قال تعالى: { ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد } <ref>[ فاطر: 41 ]</ref> ولو جعلت مكان إن ههنا غيرها من حروف النفي لم يحسن فيه مثل هذا، لأن الشرطية أصل للنافية كأن المجتهد في النفي، إذا أراد توكيده يقول: إن كان كذا وكذا فعلى كذا أو فأنا كذا، ثم كثر هذا في كلامهم حتى حذف الجواب وفهم القصد. فدخلت أن في باب النفي والأصل ما ذكرناه والله أعلم.
 
==فائدة بديعة: المفرد والجمع وأسباب اختلاف علامات الجمع==
 
في ذكر المفرد والجمع وأسباب اختلاف العلامات الدالة على الجمع واختصاص كل محل بعلامته ووقوع المفرد موقع الجملة وعكسه، وأين يحسن مراعاة الأصل وأين يحسن العدول عنه. وهذا فصل نافع جدا يطلعك على سر هذه اللغة العظيمة القدر، المفضلة على سائر لغات الأمم.
السطر 1٬069 ⟵ 1٬079:
وليس هذا بشيء، فإن السماوة هي أعلا الشيء خاصة ليست باسم لشيء عال، وإنما هي اسم لجزئه العالي. وأما السماء فاسم لهذا السقف الرفيع بجملته، فالسموات جمعه لا جمع أجزاء عالية منه على أنه كل عال.
 
وأحسن من هذا الفرق أن يقال: لو جمعوا أرضًا على قياس جموع التكسير، لقالوا: آرض كأفلس أو آراض كأجمال أو آروض كفلوس فاستثقلوا هذا اللفظ. إذ ليس فيه من الفصاحة والحسن والعذوبة ما في لفظ السموات وأنت تجد السمع ينبو عنه بقدر ما يستحسن لفظ السموات، ولفظ السموات يلج في السمع بغير استئذان لنصاعته وعذوبته. ولفظ الأراضي لا يأذن له السمع إلا على كره، ولهذا تفادوا من جمعه إذا أرادوه بثلاثة ألفاظ تدل على التعدد كما قال تعالى: { خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن }، <ref>[ الطلاق: 12 ]</ref> ، كل هذا تفاديًا من أن يقال أراض وآرض.
 
وأما الفرق المعنوي فإن الكلام متى اعتمد به على السماء المحسوسة التي هي السقف وقصد به إلى ذاتها دون معنى الوصف صح جمعها جمع السلامة، لأن العدد قليل، وجمع السلامة بالقليل أولى لما تقدم من قربه من التثنية القريبة من الواحد. ومتى اعتمد الكلام على الوصف ومعنى العلا والرفعة جرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: قوم عَدل وزور.
 
وأما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودًا بها معنى التحت والسفل دون أن يقصد ذواتها وأعدادها. وحيث جاءت مقصودًا بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على البعد كقوله: { ومن الأرض مثلهن } <ref>[ الطلاق: 12 ]</ref> .
 
وفرق ثان وهو أن الأرض لا نسبة لها إلى السموات وسعتها، بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت وتكبرت فهي بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس.
السطر 1٬079 ⟵ 1٬089:
وفرق ثالث أن الأرض هي دار الدنيا التي بالإضافة إلى الآخرة، كما يدخل الإنسان أصبعه في اليم فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة، والله سبحانه لم يذكر الدنيا إلا مقللًا لها محقرًا لشأنها.
 
وأما السموات فليست من الدنيا هذا على أحد القولين في الدنيا فإنه اسم للمكان فإن السموات مقر ملائكة الرب تعالى ومحل دار جزائه ومهبط ملائكته ووحيه، فإذا اعتمد التعبير عنها عبر عنها بلفظ الجمع. إذ المقصود ذواتها لا مجرد العلو والفوق، وأما إذا أريد الوصف الشامل للسموات وهو معنى العلو والفوق أفردوا ذلك بحسب ما يتصل به من الكلام والسباق فتأمل. قوله: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور }، <ref>[ الملك: 16 ]</ref> ، { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا }، <ref>[ الملك: 17 ]</ref> ، كيف أفردت هنا، لما كان المراد الوصف الشامل والفوق المطلق ولم يرد سماء معينة مخصوصة، ولما لم تفهم الجهمية هذا المعنى أخذوا في تحريف الآية عن مواضعها.
 
وكذا قوله تعالى: { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء } <ref>[ يونس: 61 ]</ref> بخلاف قوله في سبأ: { عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض }، <ref>[ سبأ: 3 ]</ref> ، فإن قبلها ذكر سبحانه سعة ملكه ومحله، وهو السموات كلها والأرض، ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي أفردها إرادة للجنس.
 
وتأمل كيف أتت مجموعة في قوله تعالى: { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم }، <ref>[ الأنعام: 3 ]</ref> ، فإنها أتت مجموعة هنا لحكمة ظاهرة وهي تعلق الظرف بما في اسمه تبارك وتعالى من معنى الإلهية. فالمعنى وهو الإله وهو المعبود في كل واحدة واحدة من السموات ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود، فذكر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد.
 
ولما عزب هذا المعنى عن فهم بعض المتسننة فسر الآية بما لا يليق بها، <ref>[[الطبري]]</ref> فقال: الوقف التام على السموات ثم يبتدىء بقوله: { وفي الأرض يعلم }، <ref>[ الأنعام: 3 ]</ref> ، وغلط في فهم الآية. وإن معناها ما أخبرتك به، وهو قول محققي أهل التفسير. <ref>[[تفسير القرطبي]] ومجموعو[[مجموع الفتاوى]]. </ref>
 
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون }، <ref>[ الذاريات: 23 ]</ref> ، إرادة لهذين الجنسين أي رب كل ما علا وكل ما سفل، فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم الشامل لكل ما يسمى سماء وكل ما يسمى أرضًا، وهو أمر حقيقي لا يتبدل ولا يتغير. وإن تبدلت عين السماء والأرض. فانظر كيف جاءت مجموعة في قوله: { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض } <ref>[ التغابن: 1 ، الجمعة: 1 ]</ref> ، في جميع الصور. لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم.
 
ونظير هذا جمعها في قوله: { وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون }، <ref>[ الأنبياء: 19 ]</ref> ، وكذلك جاءت في قوله: { تسبح له السموات السبع }، <ref>[ الإسراء: 44 ]</ref> ، مجموعة إخبارًا بأنهاى تسبح له بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها، وأكد هذا المعنى بوصفها بالعدد ولم يقتصر على السموات فقط، بل قال: السبع.
 
وانظر كيف جاءت مفردة في قوله: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } <ref>[ الذاريات: 22 ]</ref> فالرزق المطر وما وعدنا به الجنة وكلاهما في هذه الجهة لا أنهما في كل واحدة واحدة من السموات فكان لفظ الأفراد أليق بها.
 
ثم تأمل كيف جاءت مجموعة في قوله: { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله،الله }، <ref>[ النمل: 65 ]</ref> ، لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل من هو في واحدة واحدة من السموات أتى بها مجموعة.
 
وتأمل كيف لم يجىء في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت. لما لم يكن المراد نزوله من ذات السماء بنفسها، بل المراد الوصف.
 
وهذا باب قد فتحه الله لي ولك، فلجه وانظر إلى أسرار الكتاب وعجائبه وموارد ألفاظه جمعًا له إفرادًا وتقديمًا وتأخيرًا إلى غير ذلك من أسراره فلله الحمد والمنة لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه .
 
فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار } <ref>[ يونس: 31 ]</ref> وبين قوله في [[سورة سبأ]]: { قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله }؟ <ref>[ سبأ: 24 ]</ref> ؟
 
قيل: هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها وألطفها فرقًا فتدبر السياق تجده نقيضًا لما وقع، فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الاحتجاج عليهم بما أقروا به، ولم يمكنهم إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم وغيرها، ومخرج الحي من الميت، والميت من الحي. فلما كانوا مقرين بهذا كله، حسن الاحتجاج به عليهم. إن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره، فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئًا من هذا ولا يستطيعون فعل شيء منه. ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى: { فسيقولون الله } <ref>[ يونس: 41 ]</ref> أي لا بد أنهم يقرون بذلك، ولا يجحدونه، فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون به.
 
والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى تنتهي إليهم ولم يصل علمهم إلى هذا. فأفردت لفظ السماء هنا فإنهم لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها، لا سيما والرزق ههنا إن كان هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب، فإنه يسمى سماء لعلوه.
 
وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب في السماء بقوله: { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء } <ref>[ الروم: 48 ]</ref> والسحاب إنما هو مبسوط في جهة العلو لا في نفس الفلك، وهذا معلوم بالحس فلا يلتفت إلى غيره. فلما انتظم هذا بذكر الاحتجاج عليهم، لم يصلح فيه إلا إفراد السماء لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح ولا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية. فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية والتنزلات الإلهية، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق، ولكن القوم لم يكونوا مقرين به فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم، بحيث لا يمكنهم إنكاره.
 
وأما الآية التي في سبأ فلم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من السموات ولهذا أمر رسوله بأن يتولى الجواب فيها ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون فقال: { قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله } <ref>[ سبأ: 24 ]</ref> ولم يقل: سيقولون الله فأمر تعالى نبيه {{صل}} أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه، ومنافعه من السموات السبع. وأما الأرض فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الاثنين إذ يقربه كل أحد مؤمن وكافر وبر وفاجر.
 
ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعًا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة، وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع، وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها، فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات، فكل ريح منها في مقابلها ما يعد لها ويرد سورتها فكانت في الرحمة ريحًا، وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها، حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها، فتمتثل ما أمرت به، وتصيب ما أرسلت إليه. ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال: { أرسلنا عليهم الريح العقيم }، <ref>[ الذاريات: 41 ]</ref> ، وهي التي لا تلقح ولا خير فيها، والتي تعقم ما مرت عليه.
 
ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس: { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف }، <ref>[ يونس: 22 ]</ref> ، فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الأفراد، لأن تمام الرحمة هناك، إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها، فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها. فإذا اختلف عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك. فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح، وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعًا لتوهم أن تكون ريحًا عاصفة، بل هي مما يفرح بها لطيبها فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحًا، ويتغذى بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم. فمثل هداهذا الفصل يعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله. والله الموفق للصواب.
 
ومما يدخل في هذا الباب جمع الظلمات وإفراد النور وجمع سبل الباطل، وإفراد سبل الحق وجمع الشمائل وإفراد اليمين.
 
أما الأول فكقوله: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور }. <ref>[ الأنعام: 1 ]</ref> .
 
وأما الثاني فكقوله: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }. <ref>[ الأنعام: 153 ]</ref> .
 
وأما الثالث فكقوله: { يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل }. <ref>[ النحل: 48 ]</ref> .
 
والجواب عنها يخرج من مشكاة واحدة، وسر ذلك والله أعلم أن طريق الحق واحد وهو على الواحد للأحد، كما قال تعالى: { هذا صراط علي مستقيم }، <ref>[ الحجر: 41 ]</ref> ، قال [[مجاهد]]: الحق طريقه على الله ويرجع إليه كما يقال: طريقك علي، ونظيره قوله: { وعلى الله قصد السبيل } <ref>[ النحل: 9 ]</ref> في أصح القولين أي السبيل القصد الذي يوصل إلى الله وهي طريق عليه. قال الشاعر:
 
فهن المنايا أي واد سلكنه ** عليها طريقي أو علي طريقها
السطر 1٬129 ⟵ 1٬139:
والمقصود أن طريق الحق واحد إذ مرده إلى الله الملك الحق، وطرق الباطل متشعبة متعددة فإنها لا ترجع إلى شيء موجود ولا غاية لها يوصل إليها، بل هي بمنزلة بنيات الطريق. وطريق الحق بمنزلة الطريق الموصل إلى المقصود، فهي وإن تنوعت فأصلها طريق واحد.
 
ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق الباطل والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما هما أفرد النور وجمعت الظلمات وعلى هذا جاء قوله: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات }، <ref>[ البقرة: 257 ]</ref> ، فوحد ولي الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد، وجمع الذين كفروا لتعددهم وكثرتهم، وجمع الظلمات وهي طرق الضلال، وألغي لكثرتها واختلافها، ووحد النور وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه.
 
ولما كانت اليمين جهة الخير والفلاح وأهلها هم الناجون أفردت. ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل وهم أصحاب الشمال جمعت في قوله: { عن اليمين والشمائل }. <ref>[ النحل: 48 ]</ref> .
 
فإن قيل: فهلا كذلك في قوله: { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال }، <ref>[ الواقعة: 41 ]</ref> ، وما بالها جاءت مفردة؟
 
قيل: جاءت مفردة لأن المراد أهل هذه الجهة ومصيرهم ومآلهم إلى جهة واحدة وهي جهة الشمال مستقر أهل النار، والنار من جهة الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة، لأن الطرق الباطلة وإن تعددت، فغايتها المرد إلى طريق الجحيم وهي جهة الشمال، وكذلك مجيئها مفردة في قوله: { عن اليمين وعن الشمال قعيد } <ref>[ ق: 17 ]</ref> لما كان المراد أن لكل عبد قعيدين: قعيدًا عن يمينه، وقعيدًا عن شماله، يحصيان عليه الخير والشر، فلكل عبد من يختص بيمينه وشماله من الحفظة، فلا معنى للجمع ههنا، وهذا بخلاف قوله تعالى حكاية عن إبليس: { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم }، <ref>[ الأعراف: 17 ]</ref> ، فإن الجمع هنا في مقابلة كثرة من يريد إغواءهم، فكأنه أقسم أن يأتي كل واحد واحد من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله ولا يحسن هنا عن يمينهم وعن شمالهم. بل الجمع ههنا من مقابلة الجملة بالجملة المقتضي توزيع الأفراد ونظيره: { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق }. <ref>[ المائدة: 6 ]</ref> .
 
وقد قال بعض الناس: إن الشمائل، إنما جمعت في الظلال وأفرد اليمين، لأن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول، يبدو كذلك ظلأً واحدًا من جهة اليمين، ثم يأخذ في النقصان. وأما إذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئًا فشيئًا. والثاني منه غير الأول، فلما زاد منه شيئًا فهو غير ما كان قبله، فصار كل جزء منه كأنه ظل، فحسن جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال، وهذا معنى حسن.
 
ومن هذا المعنى مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة مجموعين، وتارة مثنيين، وتارة مفردين لاختصاص كل محل بما يقتضيه من ذلك. فالأول كقوله: { فلا أقسم برب المشارق والمغارب }، <ref>[ المعارج: 40 ]</ref> ، والثاني كقوله: { رب المشرقين ورب المغربين * فبأي آلاء ربكما تكذبان }، <ref>[ الرحمن: 13 ]</ref> ، والثالث كقوله: { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا }، <ref>[ المزمل: 9 ]</ref> ، فتأمل هذه الحكمة البالغة في تغاير هذه المواضع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب موادها. يطلعك على عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
 
فحيث جمعت كان المراد بها مشارق الأرض ومغاربها في أيام السنة وهي متعددة، وحيث أفردا كان المراد أفقي المشرق والمغرب، وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها وهبوطها ومغربيهما. فإنها تبتدىء صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها، فهذا مشرق صعودها، وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء. فجعل مشرق صعدوها بجملته مشرقًا واحدًا، ومشرق هبوطها بجملته مشرقًا واحدًا، ويقابلها مغرباها. فهذا وجه اختلاف هذه في الإفراد والتثنية والجمع.
 
وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع فيه فلم أر أحدًا تعرض له ولا فتح بابه وهو بحمد الله بين من السياق، فتأمل وروده مثنى في [[سورة الرحمن،الرحمن]]، لما كان مساق السورة مساق المثاني المزدوجات، فذكر أولا نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعظيم، ثم ذكر سراجي العالم ومظهري نوره: وهما الشمس والقمر، ثم ذكر نوعي النبات ما قام منه على ساق، وما انبسط منه على وجه الأرض: وهما النجم والشجر، ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة، والأرض الموضوعة وأخبر أنه رفع هذه، ووضع هذه، ووسط بينما ذكر الميزان، ثم ذكر العدل والظلم في الميزان فأمر بالعدل ونهى عن الظلم، ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما الحبوب والثمار، ثم ذكر خلق نوعي المكلفين وهما: نوع الإنسان ونوع الجان، ثم ذكر نوعي المشرقين ونوعي المغربين، ثم ذكر بعد ذلك البحرين الملح والعذب.
 
فتأمل حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجلالة ورودهما لذلك، وقدر موضعهما اللفظ مفردًا ومجموعًا، تجد السمع ينبو عنه ويشهد العقل بمنافرته للنظم.
 
ثم تأمل ورودهما مفردين في [[سورة المزمل]] لما تقدمهما ذكر الليل والنهار فأمر رسوله بقيام الليل، ثم أخبره أن له في النهار سبحًا طويلًا. فلما تقدم ذكر الليل وما أمر به فيه وذكر النهار وما يكون منه فيه عقب ذلك بذكر المشرق والمغرب الذين هما مظهر الليل والنهار. فكان ورودهما مفردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع، لأن ظهور الليل والنهار هما واحد فالنهار أبدًا يظهر من المشرق والليل أبدًا يظهر من المغرب، ثم تأمل مجيئهما مجموعين في سورة المعارج في قوله: { فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين }، <ref>[ المعارج: 41 ]</ref> ، لما كان هذا القسم في سياق سعة ربوبيته وإحاطة قدرته والمقسم عليه أرباب هؤلاء، والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمنهما انتقال الشمس التي هي أحد آياته العظيمة الكبيرة، ونقله سبحانه لها، وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب. فمن فعل هذا، كيف يعجزه أن يبدل هؤلاء وينقل إلى أمكنتهم خيرًا منهم؟
 
وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهور، وقد جعل الله تعالى ذلك بحكمته سببًا لتبدل أجسام النبات، وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى غيره، ويبدل الحر بالبرد. والبرد بالحر. والصيف بالشتاء، والشتاء بالصيف إلى سائر تبدل أحوال الحيوان والنبات والرياح والأمطار والثلوج، وغير ذلك من التبدلات والتغيرات الواقعة في العالم. بسبب اختلاف مشارق الشمس ومغاربها. كان ذلك تقدير العزيز العليم. فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه من ذلك على أن يبدل خيرًا منهم؟ وأكد هذا المعنى بقوله: { وما نحن بمسبوقين } <ref>[ المعارج: 41 ]</ref> فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظة الجمع.
 
ثم تأمل كيف جاءت أيضا في [[سورة الصافات]] مجموعة في قوله: { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } <ref>[ الصافات: 5 ]</ref> لما جاءت مع جملة المربوبات المتعددة وهي السموات والأرض وما بينهما. كان الأحسن مجيئها مجموعة لينتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد، ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال، لذلك فإن المشارق مظهر الأنوار وأسباب انتشار الحيوان وحياته وتصرفه ومعاشه وانبساطه فهو إنشاء مشهود، فقدمه بين يدي الرد على منكري البعث، ثم ذكر تعجب بنيه من تكذيبهم واستبعادهم البعث بعد الموت، ثم قدر الموت وحالهم فيه وكان الاقتصار على ذكر المشارق ههنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب والله أعلم.
 
==فائدة: علامة التثنية والجمع==
 
إنما ظهرت علامة التثنية والجمع في الفعل دون علامة الواحد، لأن الفعل يدل على فاعل مطلق ولا يدل على تثنية ولا جمع، لأنهما طارئان على الأفراد وهو الأصل. ففعل الواحد مستغن عن علامة الإضمار لعلم السامع أن له فاعلًا، ولا كذلك في التثنية والجمع لأن السامع لا يعلم أن الفاعل مثنى ولا مجموع.
السطر 1٬167 ⟵ 1٬177:
قيل: الضمير في زيد قام. لم ينطق به، ثم حذف، ولكنه مضمر في الإرادة، ولا كذلك الضمير المحذوف للعلم به، لأنه قد لفظ به في النطق، ثم حذف تخفيفًا. فلما كان قد لفظ به، ثم قطع من اللفظ تخفيفًا. عبر عنه بالحذف، والحذف هو القطع من الشيء فهذا هو الفرق بينهما.
 
==فائدة بديعة: تقدم علامة التثنية والجمع للفعل==
 
لحاق علامة التثنية والجمع للفعل مقدمًا، جاء في لغة قوم من العرب حرصًا على البيان وتوكيدًا للمعنى.للمعنى، إذ كانوا يسمون بالتثنية والجمع نحو فلسطين وقنسرين وحمدان وسلمان مما يشبه لفظه. لفظ المثنى والجمع، فهذا ونحوه دعاهم إلى تقديم العلامة في قولهم: أكلوني البارغيث، وقد ورد في الحديث: «يتعاقبون فيكم ملائكة» وكما أن هذه العلامة ليست للفعل، إنما هي للفاعلين، وكذلك التاء في قامت هند ليست للفعل إذ هو حيث يذكر لا يلحقه تأنيث إلا في نحو ضربه وقتله. والفعل لم يشتق من المصدر محدودًا، وإنما يدل عليه مطلقًا. فالتاء إذًا بمنزلة علامة التثنية والجمع، إلا أنها ألزم للفعل منها.
 
وقد ذكر النحاة في ذلك فروقًا وعللًا مشهورة فراجعها، ولكن ينبغي أن تتنبه لأمور تجب مراعاتها.
السطر 1٬181 ⟵ 1٬191:
فإن قلتم: أنت مخير، فإن راعيت لفظ التأنيث أنثت، وإن راعيت لفظ التذكير ذكرت.
 
قيل لهم: هذا باطل. فانفإن أحدًا من العرب لم يقل الهنداتُ ذهب، ولا الجمال انطلق، ولا الأعراب تكلم، مراعاة للفظ الجمع فبطلت العلة.
 
فهذه عللهم قد انتقضت كما ترى. فاسمع الآن سر المسألة وكشف قناعها: الأصل في هذا الباب أن الفعل متى اتصل بفاعله، ولم يحجز بينهما حاجز، لحقت العلامة ولا نبالي أكان التأنيث حقيقيًا أم مجازيًا. فتقول: طابت الثمرة وجاءت هند، إلا أن يكون الاسم المؤنث في معنى اسم آخر مذكر كالحوادث والحدثان والأرض والمكان. فلذلك جاء: * فإن الحوادث أودى بها * فإن الحوادث في معنى الحدثان. وجاء: * ولا أرض أبقل إبقالها * فإنه في معنى ولا مكان أبقل إبقالها. وإذا فصلت الفعل عن فاعله فكلما بعد عنه قوي حذف العلامة، وكلما قرب قوي إثباتها وإن توسط توسط فحضر القاضي اليوم امرأة أحسن من حضرت، وفي القرآن: { وأخذ الذين ظلموا الصيحة }. <ref>[ هود: 67 ]</ref> .
 
ومن هنا كان إذا تأخر الفعل عن الفاعل وجب ثبوت التاء طال الكلام أم قصر، لأن الفعل إذا تأخر كان فاعله مضمرًا متصلًا به اتصال الجزء بالكل. فلم يكن بد من ثبوت التاء لفرط الاتصال. وإذا تقدم الفعل متصلًا بفاعله الظاهر فليس مؤخر الاتصال كهو مع المضمر، لأن الفاعل الظاهر كلمة، والفعل كلمة أخرى، كان حذف التاء في تأنيث هند وطابت الثمرة أقرب إلى الجواز منه، في قولك الثمرة طابت.
السطر 1٬197 ⟵ 1٬207:
قيل: ثبوت التاء إنما كان مراعاة لمعنى الجماعة، فإذا أردت ذلك المعنى أثبت التاء، وإن تأخر الفعل لم يجز حذفه لاتصال الضمير. وإن لم ترد معنى الجماعة حذفت التاء إذا تقدم الفعل ولم يحتج إليها، إذا تأخر لأن ضمير الفاعلين لجماعة في المعنى وليسوا جمعًا، لأن الجمع مصدر جمعت أجمع. فمن قال إن التذكير في ذهب الرجال، وقام الهندات مراعاة لمعنى الجمع فقد أخطأ.
 
وأما حذف التاء من { وقال نسوة } ، فلانة اسم جمع كرهط وقوم، ولولا أن فيه تاء التأنيث لقبحت التاء في فعله. ولكنه قد يجوز أن تقول: قالت نسوة، كما تقول: قالت فِتية وصِبية.
 
فإن قلت: إذا كانت النسوة باللام كان دخول التاء في الفعل أحسن كما كان ذلك في قالت الأعراب لأن اللام للعهد وكان الاسم قد تقدم ذكره فأشبهت حال الفعل حاله. إذا كان فيه ضمير يعود إلى مذكور من أجل الألف واللام فإنها ترد على معهود.
 
فإن قلت: فإذا استوى ذكر التاء وتركها في الفعل المتقدم وفاعله مؤنث غير حقيقي فما الحكمة في اختصاصها في قصة شعيب بالفعل وحذفها في قصة صالح: { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } .
 
قلت: الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه: { ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز }، <ref>[ هود: 66 ]</ref> ، فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي، وعن العذاب المذكور في الآية. فقوي التذكير بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك، وهذا جواب السهيلي.
 
وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله، وهو أن الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح فيحسن فيها التذكير ويراد بها الواحدة من المصدر فيكون التأنيث أحسن.
السطر 1٬209 ⟵ 1٬219:
وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ.
 
أحدها: الرجفة في قوله في الأعراف: { فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين }. <ref>[ الأعراف: 78 ]</ref> .
 
الثاني: الظلة بقوله: { فأخذهم عذاب يوم الظلة }. <ref>[ الشعراء: 189 ]</ref> .
 
الثالث: الصيحة: { وأخذت الذين ظلموا الصيحة }، <ref>[ هود: 94 ]</ref> ، وجمع لهم بين الثلاثة. فإن الرجفة بدأت بهم فأصحروا إلى الفضاء خوفًا من سقوط الأبنية عليهم فصهرتهم الشمس بحرها، ورفعت لهم الظلة فأهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس فنزل عليهم منها العذاب وفيه الصيحة، فكان ذكر الصيحة مع الرجفة، والظلة أحسن من ذكر الصياح وكان ذكر التاء والله أعلم.
 
فإن قيل: فإن قلتم إن التاء حرف ولم يجعلوها بمنزلة الواو والألف في قاما وقاموا؟
السطر 1٬219 ⟵ 1٬229:
قيل: لإجماع العرب على قولهم: الهندان قامتا بالتاء والضمير، ولا يجوز أن يكون للفعل ضميران فاعلان.
 
فإن قيل: فما الفرق بين قوله: { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } <ref>[ النحل: 36 ]</ref> وبين قوله: { فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة }. <ref>[ الأعراف: 30 ]</ref> .
 
قيل: الفرق من وجهين: لفظي ومعنوي. أما اللفظي فهو أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل في قوله: { حق عليهم الضلالة } <ref>[ الأعراف: 30 ]</ref> ، أكثر منها في قوله: { حقت عليه } <ref>[ النحل: 36 ]</ref> ، وقد تقدم أن الحذف مع كثرة الحواجز أحسن.
 
وأما المعنوي فإن من في قوله: { ومنهم من حقت عليه الضلالة } <ref>[ النحل: 36 ]</ref> واقعة على الأمة والجماعة وهي مؤنثة لفظًا، ألا تراه يقول: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا }، <ref>[ النحل: 36 ]</ref> ، ثم قال: { ومنهم من حقت عليه الضلالة } <ref>[ النحل: 36 ]</ref> أي من تلك الأمم أمم حقت عليه بم الضلالة. ولو قال بدل ذلك: ضلت. لتعينت التاء ومعنى الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامين واحدًا كان إثبات التاء أحسن من تركها، لأنها ثابتة فيما هو في معنى الكلام الآخر.
 
وأما: { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } <ref>[ الأعراف: 30 ]</ref> فالفريق مذكر. ولو قال: فريقا ضلوا لكان بغير تاء. وقوله تعالى: { حق عليهم الضلالة } <ref>[ الأعراف: 30 ]</ref> في معناه فجاء بغير تاء، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العربية تدغ العرب حكم اللفظ الواجب له في قياس لغتها إذا كان في معنى كلمة لا يجب لها ذلك الحكم تراهم يقولون: هو أحسن الفتيان وأجمله، لأنه في معنى هو أحسن فتى وأجمله.
 
ونظيره تصحيحهم حول وعور، لأنه في معنى أحول وأعور. ونظائره كثيرة جدًا فإذا حسن الحمل على المعنى فيما كان القياس لا يجوزه. فما ظنك به حيث يجوزه القياس والاستعمال.
 
وأحسن من هذا أن يقول: أنهمإنهم أرادوا أحسن شيء وأجمله. فجعلوا مكان شيء قولهم الفتيان تنبيهًا على أنه أحسن شيء من هذا الجنس، فلو اقتصروا على ذكر شيء لم يدل على الجنس المفضل عليه ومن هذا قوله {{صل}}: «أحناه على ولد في صغره، وأرعاه في ذات يده» فهذا يدل على أن التقدير هذا أحسن شيء وأجمله. لأنه أحسن فتى إذ لو كان التقدير أحسن فتى لكان نظيره هنا أحنى امرأة على ولد. وكان يقال: أحناها وأرعاها. فلما عدل إلى التذكير دل على أنهم أرادوا أحسن شيء من هذا الجنس وأرعاه.
 
==فائدة بديعة: قولهم ضرب القوم بعضهم بعضا==
 
قولك: ضرب القوم بعضهم بعضًا، هذه المسألة مما لم يدخل تحت ضبط النحاة ما يجب تقديمه من الفاعلين فإن كلاهما ظاهر إعرابه وتقديم الفاعل متعين. وسر ذلك وهو الضمير المحذوف فإن الأصل أن يقال: ضرب القوم بعضهم بعضهم، لأن حق البعض أن يضاف إلى الكل ظاهرًا، أو مقدرًا، فلما حذفوه من المفعول استغناء بذكره في الفاعل لم يجوروا تأخير الفاعل، فيقولوا: ضرب بعضًا بعضهم، لأن اهتمامهم بالفاعل قد قوي وتضاعف لاتصاله بالضمير الذي لا بد منه، فبعد أن كانت الحاجة إلى الفاعل مرة صارت الحاجة إليه مرتين.
السطر 1٬239 ⟵ 1٬249:
قلت: الأصل أن يذكر الضميران منهما جميعًا. فلما أرادوا حذفه من أحدهما تخفيفًا كان حذفه مع، المفعول الذي هو كالفضلة في الكلام. أولى من حذفه مع الفاعل الذي لا بد منه، ولا غناء عنه كقولك: خلطت القوم بعضهم ببعض، لأن رتبة المفعول ههنا التقدم على المجرور، كما كانت رتبة الفاعل التقديم على المفعول. فحق الضمير العائد على الكل أن يتصل بما هو أهم بالتقديم.
 
==فائدة: إنما للنفي والإثبات==
 
إذا قلت: إنما يأكل زيد الخبز، فحققت ما يتصل، ومحقت ما ينفصل هذه عبارة بعض النحاة وهي عبارة أهل سمرقند يقولون: في إنما وضعت لتحقيق المتصل، وتمحيق المنفصل. وتلخيص هذا الكلام أنها لنفي وإثبات. فأثبتت لزيد أكل الخبز المتصل به في الذكر، ونفت ما عداه فمعناه ما يأكل زيدًا إلا الخبز، فإن قدمت المفعول. فقلت: إنما يأكل الخبز زيد انعكس المعنى والقصد.
 
==فائدة بديعة: الوصلات الخمسة==
 
الوصلات في كلامهم التي وضعوها للتوصل بها إلى غيرها خمسة أقسام:
السطر 1٬289 ⟵ 1٬299:
وعندي فيه علة ثانية وهي أن التثنية في الذين خاصة من خواص الاسم قاومت شبه الحرف فتقابل المقتضيان، فرجع إلى أصله، فأعرب بخلاف الذين فإن الجمع وإن كان من خواص الأسماء، لكن هذه الخاصة ضعيفة في هذا الاسم لنقصان دلالته مجموعًا عما يدل عليه مفردًا فإن الذي يصلح للعاقل وغيره، والذي لا يستعمل إلا للعقلاء خاصة فنقصت دلالته فضعفت خاصية الجمع فيه، فبقي موجب بنائه على قوته وهذا بخلاف المثنى، فإنه يقال على العاقلين وغيرهما فإنك تقول: الرجلان اللذان لقيتهما، والثوبان اللذان لبستهما، ولا تقول: الثياب الذين لبستهم. وعلى هذا التعليل فلا حاجة بنا إلى ركوب ما تعسفه رحمه الله من مضارعة الجمع للواحد وشبهه به وتكلف الجواب عن تلك الإشكالات. والله أعلم.
 
==فائدة بديعة: ما الموصولة==
 
قول النحاة إن "ما" الموصولة بمعنى الذي، إن أرادرا به أنها بمعناها من كل وجه فليس بحق، وإن أرادوا أنها بمعناها من بعض الوجوه فحق. والفرق بينهما أن ما اسم مبهم في غاية الإبهام حتى أنها تقع على كل شيء، وتقع على ما ليس بشيء، ألا تراك تقول: إن الله يعلم ما كان وما لم يكن، ولفرط أبهامها لم يجز الإخبار عنها حتى توصل بما يوضحها، وكل ما وصلت به يجوز أن يكون صلة للذي فهو يوافق الذي في هذا الحكم، ويخالفها في إبهامها. فلا تكون نعتًا لما قبلها ولا منعوتة لأن صلتها بعينها غير النعت. وأيضا فلو نعتت بنعت زائد على الصلة لارتفع إبهامها وفي ارتفاع الأبهام منها جملة بطلان حقيقتها وإخراجها عن أصل موضوعها.
السطر 1٬299 ⟵ 1٬309:
وإذا وقعت على مفعول كان ضميرها مفعولا لفظًا ومعنى نحو: سرني ما أكلته، وأعجبني ما لبسته، فهي في المعنى مفعولة لأنها عبارة عن الملبوس، فضميرها مفعول في اللفظ والمعنى، وكذلك إذا وقعت على اللفظ كان ضميرها مجرورًا بفي، لأن الظرف كذلك في المعنى إلا أنها لا تقع على المصادر إلا على ما تختلف أنواعه للإبهام الذي فيها.
 
فإن قيل: فكيف وقعت على من يعقل كقوله: { لما خلقت بيدي }، <ref>[ ص: 75 ]</ref> ، { والسماء وما بناها }، <ref>[ الشمس: 5 ]</ref> ، { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، وأمثال ذلك؟
 
قيل: هي في هذا كله على أصلها من الأبهام والوقوع على الجنس العام لما يراد بما ما يراد بمن من التعيين لما يعقل، والاختصاص دون الشياع، ومن فهم حقيقة الكلام وكان له ذوق عرف هذا واستبان له.
 
أما قوله تعالى: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }، <ref>[ ص: 75 ]</ref> ، فهذا كلام ورد في معرض التوبيخ والتبكيت للعين على امتناعه من السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ حيث كان السجود لمن يعقل، ولكن للمعصية والتكبر على ما لم يخلقه. إذ لا ينبغي التكبر لمخلوق على مثله، إنما التكبر للخالق وحده فكأنه يقول: سبحانه لم عصيتني وتكبرت على ما لم تخلقه وخلقته أنا وشرفته وأمرتك بالسجود له. فهذا موضع ما، لأن معناها أبلغ ولفظها أعم وهو في الحجة أوقع وللعذر والشبهة أقطع.
 
فلو قال: ما منعك أن تسجد لمن خلقت لكان استفهامًا مجردًا من توبيخ وتبكيت ولتوهم أنه وجب السجود له من حيث كان يعقل.
السطر 1٬309 ⟵ 1٬319:
ولعله موجود في ذاته وعينه. وليس المراد كذلك، وإنما المراد توبيخه وتبكيته على ترك سجوده لما خلق الله وأمره بالسجود له، ولهذا عدل عن اسم آدم العلم مع كونه أخص وأتى بالاسم الموصول الدال على جهة التشريف المقتضية لإسجاده له كونه خلقه بيديه، وأنت لو وضعت مكان ما لفظة من، لما رأيت هذا المعنى المذكور في الصلة وإن ما جيء بها وصلة إلى ذكر الصلة. فتأمل ذلك فلا معنى إذًا للتعيين بالذكر. إذ لو أريد التعيين لكان بالاسم العلم أولى وأحرى.
 
وكذلك قوله: { والسماء وما بناها } <ref>[ الشمس: 5 ]</ref> لأن القسم تعظيم للمقسم به واستحقاقه للتعظيم من حيث ما. وأظهر هذا الخلق العظيم الذي هو السماء ومن حيث سواها، وزينها بحكمته فاستحق التعظيم، وثبتت قدرته. فلو قال: ومن بناها لم يكن في اللفظ دليل على استحقاقه للقسم من حيث اقتدر على بنائها، ولكان المعنى مقصورًا على ذاته ونفسه دون الإيماء إلى أفعاله الدالة على عظمته المنبئة عن حكمته المفصحة باستحقاقه للتعظيم من خليقته.
 
وكذلك قولهم: "سبحان ما يسبح الرعد بحمده"، لأن الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، والمسبَّح به لا محالة أعظم، فاستحقاقه للتسبيح من حيث سبَّحته <ref>الأصل: يستحقه، والمثبت من النتائج. </ref> العظيمات من خلقه لا من حيث كان يعلم، ولا تقل: يعقل في هذا الموضع.
السطر 1٬315 ⟵ 1٬325:
فإذا تأملت ما ذكرناه استبان لك قصور من قال: إن ما مع الفعل في هذا كله سوى الأول في تأويل المصدر، وإنه لم يصدر المعنى حق قدره فلا لصناعة النحو وفق، ولا لفهم التفسير رزق وإنه تابع الحز وأخطا المفصل وحام، ولكن ما ورد المنهل.
 
==(سورة الكافرون)==
وأما قوله عز وجل: { لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، فما على بابها، لأنها واقعة على معبوده {{صل}} على الإطلاق، لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به فقوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، أي لا أنتم تعبدون معبودي، ومعبوده هو {{صل}} كان عارفًا به دونهم وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم.
 
وأما قوله عز وجل: { لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد }، فما على بابها، لأنها واقعة على معبوده {{صل}} على الإطلاق، لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به فقوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد }، أي لا أنتم تعبدون معبودي، ومعبوده هو {{صل}} كان عارفًا به دونهم وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم.
 
وقال آخرون: إنها هنا مصدرية لا موصولة أي لا تعبدون عبادتي ويلزم من تنزيههم عن عبادته تنزيههم عن المعبود، لأن العبادة متعلقة به وليس هذا بشىء إذ المقصود براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى. فالمقصود المعبود لا العبادة.
السطر 1٬321 ⟵ 1٬333:
وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته {{صل}} حسدًا له، وأنفة من أتباعه، فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود، ولكن كراهية لأتباعه {{صل}} وحرصًا على مخالفته في العبادة. وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ ما لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.
 
وقيل في ذلك وجه رابع. وهو قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله: { نسوا الله فنسيهم }، <ref>[ التوبة: 67 ]</ref> ، { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه }، <ref>[ البقرة: 194 ]</ref> ، فكذلك: { لا أعبد ما تعبدون } ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في الإفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا من كقوله: { قل من ينجيكم قل من يرزقكم }، <ref>[ يونس: 31 ]</ref> ، { أمن يملك السمع }، <ref>[ يونس: 31 ]</ref> ، { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر }، <ref>[ النمل: 63 ]</ref> ، { أمن يجيب المضطر إذا دعاه }، <ref>[ النمل: 62 ]</ref> ، { أمن يبدأ الخلق }، <ref>[ النمل: 64 ]</ref> ، إلى أمثال ذلك.
 
وعندي فيه وجه خامس أقرب من هذا كله، وهو أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقًا لها، فأتى بما الدالة على هذا المعنى كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة من لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفًا لا أنه هو جهة العبادة ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلًا، لأن يعبد تعريف محض أو وصف مقتضي لعبادته. فتأمله فإنه بديع جدًا.
 
وهذا معنى قول محققي النحاة أن "ما" تأتي لصفات من يعلم، ونظيره: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } <ref>[ النساء: 3 ]</ref> لما كان المراد الوصف وإن هو السبب الله الداعي إلى الأمر بالنكاح وقصده وهو الطيب فتنكح المرأة الموصوفة به أتى بما دون من وهذا باب لا ينخرم وهو من ألطف مسالك العربية.
 
وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا. فلنذكر فائدة ثانية على ذلك وهي تكرير الأفعال في هذه السورة.
السطر 1٬339 ⟵ 1٬351:
وفائدة سابعة: وهي ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم، ثم نفي عبادتهم عن معبوده.
 
وفائدة ثامنة: وهي أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا والذين هادوا كقوله: { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم }، <ref>[ التحريم: 7 ]</ref> ، { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله }، <ref>[ الجمعة: 6 ]</ref> ، و { يا أيها الكافرون،الكافرون } في هذا الموضع فما وجه هذا الاختصاص؟
 
وفائدة تاسعة: وهي هل في قوله: { لكم دينكم ولي دين } ، معنى زائد على النفي المتقدم فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟ وفائدة عاشرة: وهي تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص. وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة.
 
وفائدة حادية عشرة وهي أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الإخبار.
السطر 1٬351 ⟵ 1٬363:
فهذه عشر مسائل في هذه السورة فقد ذكرنا منها مسألة واحدة وهي وقوع ما فيها بدل من. فنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله مستعينين بحوله وقوته متبرئين إليه من الخطأ. فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.
 
فأما المسألة الثانية: وهي فائدة تكرار الأفعال فقيل فيه وجوه أحدها إن قوله: { لا أعبد ما تعبدون } ، ، نفي للحال والمستقبل وقوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، مقابله أي لا تفعلون ذلك. وقوله: { ولا أنا عابد ما عبدتم } ، أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي. ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال: ما عبدتم فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، مقابله أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائمًا. وعلى هذا فلا تكرار أصلًا، وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيًا وحالًا ومستقبلًا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأخصره وأبينه. وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها فلنقتصر عليه، ولا نتعداه إلى غيره، فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها فعليك بها.
 
وأما المسألة الثالثة: وهي تكريره الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم. ففي ذلك سر وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله له عن الزيغ والإنحراف عن عبادة معبوده، والاستبدال به غيره. وأن معبوده واحد في الحال والمآل على الدوام لا يرضى به بدلًا ولا يبغي عنه حولًا بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم. فهم يصددان يعبدوا اليوم معبودًا وغدًا غيره فقال: { لا أعبد ما تعبدون } يعني الآن: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، أنا الآن أيضا، ثم قال: { ولا أنا عابد ما عبدتم } يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون. وأشبهت ما هنا رائحة الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي وهو مستقبل في المعنى. كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا.
 
فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل ولا جواب لها وهي موصولة. فما أبعد الشرط منها؟
 
قلنا: لم نقل أنها شرط نفسها، ولكن فيها رائحة منه وطرف من معناه لوقوعها على غير معين، وإبهامها في المعبودات وعمومها. وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديًا على صفحاته. فإذا قلت لرجل: ما تخالفه في كل ما يفعل أنا لا أفعل ما تفعل. ألست ترى معنى الشرط قائمًا في كلامك وقصدك. وإن روح هذا الكلام مهما فعلت من شيء فإني لا أفعله. وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى: { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا }، <ref>[ مريم: 29 ]</ref> ، كيف تجد معنى الشرطية فيه حتى وقع الفعل بعد من بلفظ الماضي، والمراد به المستقبل. وإن المعنى من كان في المهد صبيًا فكيف نكلمه؟ وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين: أنه كان نبيًا بمعنى يكون، لكنهم لم يأتوا إليه من بابه، بل ألقوه عطلًا من تقدير وتنزيل وعزب فهم غيرهم عن هذا للطفه ودقته. فقالوا: كان زائدة والوجه ما أخبرتك فخذه عفوًا لك عزمه، وعلى سواك غرمه. هل على من في الآية قد عمل فيها الفعل. وليس لها جواب. ومعنى الشرطية قائم فيها، فكذلك في قوله: { ولا أنا عابد ما عبدتم } ، وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره.
 
فإذا ثبت هذا، فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله: { ولا أنا عابد ما عبدتم } بخلاف قوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } لبعد ما فيها عن معنى الشرط. تنبيهًا من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن ينتقل في المعبودات تنقل الكافرين.
 
وأما المسألة الرابعة: وهي أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة، وباسم الفاعل أخرى، فذلك والله أعلم لحكمة بديعة وهي أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت، فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت. فأفاد في النفي الأول أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني أن هذا ليس وصفي ولا شأني فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلًا لي، ولا وصفًا، فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي. وأما في حقهم، فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوب دون الفعل. أي إن الوصف الثابت اللازم العائد لله ملتف عنكم. فليس هذا الوصف ثابتًا لكم، وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدًا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه وإن عبدوه في بعض الأحيان فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله } <ref>[ الكهف: 16 ]</ref> أي اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } <ref>[ الزمر: 3 ]</ref> فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم ونفي الوصف، لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتًا على عبادة الله موصوفًا بها.
 
فتأمل هذه النكتة البديعة كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد الله، وعبده المستقيم على عبادته إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلًا لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدًا في عبادته وإنه وإن عبده وأشرك به غيره، فليس عابدًا لله ولا عبدًا له. وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة التي هي إحدى سورتي الإخلاص التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهمًا من عنده فله الحمد والمنة.
السطر 1٬367 ⟵ 1٬379:
وأما المسألة الخامسة: وهي أن النفي في هذه السورة أتى بأداة لا دون لن فلما تقدم تحقيقه عن قرب إن النفي بلا أبلغ منه بلن، وإنها أدل على دوام النفي وطوله من لن وإنها للطول والمد الذي في نفيها طال النفي بها واشتد وإن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن لن إنما تنفي المستقبل، ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال. وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق. فالإتيان بلا متعين هنا والله أعلم.
 
وأما المسألة السادسة: وهي اشتمال هذه السورة على النفي المحض فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها أنها براءة من الشرك. <ref>أبو داود والترمذي. </ref> فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتي بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة مع أنها متضمنة للإثبات صريحًا فقوله: { لا أعبد ما تعبدون براءة محضة ولا أنتم عابدون ما أعبد إثبات أن له معبودًا يعبده وأنتم بريئون من عبادته فتضمنت النفي والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء: { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني }، <ref>[ الزخرف: 26 ]</ref> ، وطابقت قول الفئة الموحدين: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله } <ref>[ الكهف: 16 ]</ref> فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله ولهذا كان النبي {{صل}} يقرنها بسورة { قل هو الله أحد } في سنة الفجر وسنة المغرب، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد، ولا فلاح إلا بهما. وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد. وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد فيكون له نظير، ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها؛ فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلًا وفرعًا ونظيرًا، فهذا توحيد العلم والاعتقاد. والثاني: توحيد القصد والإرادة وهو أن لا يعبد إلا إياه فلا يشرك به في عبادته سواه بل يكون وحده هو المعبود وسورة { قل يا أيها الكافرون } مشتملة على هذا التوحيد، فانتظمت السورتان نوعي التوحيد، وأخلصتا له فكان {{صل}} يفتتح بهما النهار في سنة الفجر ويختم بهما في سنة المغرب، وفي السنن أنه كان يوتر بهما فيكونا خاتمة عمل الليل، كما كانا خاتمة عمل النهار.
 
ومن هنا تخريج جواب المسألة السابعة وهي تقديم براءته من معبودهم، ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده. فتأمله.
السطر 1٬373 ⟵ 1٬385:
وأما المسألة الثامنة: وهي إثباته هنا بلفظ يا أيها الكافرون. دون يا أيها الذين كفروا. فسره والله أعلم إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له لازمًا لا يفارقه، فهو حقيق أن يتبرأ الله منه، ويكون هو أيضا بريئًا من الله. فحقيق بالموحد البراءة منه، فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد، والمجانبة بحققة حاله التي هي غاية الكفر. وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة فكأنه يقول: كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة دائمًا أبدًا. ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر وهذا واضح.
 
وأما المسألة التاسعة: وهي ما هي الفائدة في قوله: { لكم دينكم ولي دين } ، وهل أفاد هذا معنى زائدًا على ما تقدم؟ فيقال في ذلك من الحكمة والله أعلم أن النفي الأول أفاد البراءة وأنه لا يتصور منه، ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك، والكفر الذي هو حظهم، وقسمهم ونصيبهم فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضًا. فقال له: لا تدخل في حدي، ولا أدخل في حدك، لك أرضك ولي أرضي. فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت إنا اقتسمنا خطتنا بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان فهو نصيبنا، وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به، فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصون به لا نشرككم به.
 
فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه. وهذه المعاني ونحوها، إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها فإنها تسبي القلوب وتأخذ بمجامعها، ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي: * خود تزف إلى ضرير مقعد * فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها ونسأله إتمام نعمته.
السطر 1٬395 ⟵ 1٬407:
الثاني: أنها لا تقع مع كل فعل في تأويل المصدر وإن وقع المصدر في ذلك الموضع. فإنك إذا قلت: يعجبني قيامك كان حسنًا. فلو قلت: يعجبني ما تقوم، لم يكن كلامًا حسنًا، وكذلك يعجبني ما تقوم وما تجلس، أي قيامك وجلوسك. ولو أتيت بالمصدر كان حسنًا، وكذلك إذا قلت: يعجبني ما تذهب لم يكن في الجوازة والاستعمال مثل يعجبني ذهابك.
 
فقال أبو القاسم السهيلي: الأصل في هذا أن ما. لما كانت اسمًا مبهمًا لم يصح وقوعها إلا على جنس تختلف أنواعه. فإن كان المصدر مختلف الأنواع جاز أن تقع عيه ويعبر بها عنه، كقولك: يعجبني ما صنعت، وما عملت، وما حكمت لاختلاف الصنعة والعلم والحكم. فإن قلت: يعجبني ما جلست، وما قعدت وما نطلق زيد كان غثًا من الكلام لخروج ما عن الإبهام ووقوعها على ما لا يتنوع من المعاني، لأنه يكون التقدير يعجبني الجلوس الذي جلست، والقعود الذي قعدت فيكون آخر الكلام مفسرًا لأوله رافعًا للأبهام. فلا معنى حينئذ لما فأما قوله تعالى: { ذلك بما عصوا } <ref>[ البقرة: 61 ]</ref> فلأن المعصية تختلف أنواعها. وقوله: { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }، <ref>[ التوبة: 77 ]</ref> ، فهو كقولك: لأعاقبنك بما ضربت زيدًا، وبما شتمت عمرًا أوقعتها على الذنب والذنب مختلف الأنواع ودل ذكر المعاقبة والمجازاة على ذلك وكأنك قلت: لأجزينك بالذنب الذي هو ضرب زيد، أو شتم عمرو فما على بابها غير خارجة عن إبهامها.
 
هذا كلامه، وليس كما زعم رحمه الله فإنه لا يشترط في كونها مصدرية ما ذكر من الإبهام، بل تقع على المصدر الذي لا تختلف أنواعه، بل هو نوع واحد فإن إخلافهم ما وعد الله كان نوعًا واحدًا مستمرًا معلومًا. وكذلك كذبهم.
 
وأصرح من هذا كله قوله تعالى: { كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } <ref>[ آل عمران: 79 ]</ref> فهذا مصدر معين خاص لا إبهام فيه بوجه وهو علم الكتاب ودرسه، وهو فرد من أفراد العمل والصنع، فهو كما منعه من الجلوس والقعود والانطلاق. ولا فرق بينهما في إبهام، ولا تعيبن إذ كلاهما معين متميز غير مبهم ونظيره: { بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون }، <ref>[ الأنعام: 93 ]</ref> ، فاستكبارهم وقولهم على الله غير الحق مصدر أن معيان غير مبهمين، واختلاف أفرادهما كاختلاف أفراد الجلوس والانطلاق، ولو أنك قلت: في الموضع الذي منعه هذا بما جلست، وهذا بما نطقت، كان حسنًا غير غث، ولا مستكره وهو المصدر بعينه فلم يكن الكلام غثًا بخصوص المصدر، وإنما هو لخصوص التركيب. فإن كان ما يقدر امتناعه واستكراهه إذا صغته في تركيب آخر زالت الكراهية والغثاثة عنه كما رأيت.
 
والتحقيق أن قوله: يعجبني ما تجلس، وما ينطلق زيد. إنما استكره وكان غثًا، لأن ما المصدرية والموصولة يتعاقبان غالبًا، ويصلح أحدهما في الموضع الذي يصلح فيه الآخر، وربما احتملها كلام واحد ولا يميز بينهما فيه إلا بنظر وتأمل. فإذا قلت: يعجبني ما صنعت فهي صالحة، لأن تكون مصدرية أو موصولة، وكذلك: { والله عليم بما يفعلون }، <ref>[ النور: 41 ]</ref> ، { والله بصير بما يعملون }، <ref>[ آل عمران: 163 ]</ref> ، فتأمله تجده كذلك.
 
ولدخول إحداهما على الأخرى. ظن كثير من الناس أن قوله تعالى: { والله خلقكم وما تعملون }، <ref>[ الصافات: 96 ]</ref> ، إنها مصدرية واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية، وإنما هي موصولة، والمعنى والله خلقكم، وخلق الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونه وهو مخلوق لله، ولو كانت مصدرية لكان الكلام إلى أن يكون حجة لهم أقرب من أن يكون حجة عليهم. إذ يكون المعنى: { أتعبدون ما تنحتون } <ref>[ الصافات: 95 ]</ref> والله خلق عبادتكم لها فأي معنى في هذا وأي حجة عليهم.
 
والمقصود أنه كثيرًا ما تدخل إحداهما على الأخرى ويحتملها الكلام سواء.
السطر 1٬417 ⟵ 1٬429:
أحدهما: أن تكون مصدرية وقتية والتقدير طال قيام زيد وقل إتيان عمرو. وإنما كان هذا أحسن، لأن حذف العائد من الصفة قبيح بخلاف حذفه إذا لم يكن عائدًا على شيء فإنه أسهل. وإذا جعلت مصدرية كان حذف الضمير حذف فضلة غير عائد على موصوف.
 
والتقدير الثالث وهو أحسنها: إن ما ههنا مهيئة لدخول الفعل على الفعل ليست مصدرية ولا نكرة، إنما أتى بها لتكون مهيئة لدخول طال على الفعل. فإنك لو قلت: طال يقوم زيد وقل يجنىء عمرو لم يجز. فإذا أدخلت ما استقام الكلام وهذا كما دخلت على رب مهيئة لدخولها على الفعل نحو قوله: { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين }، <ref>[ الحجر: 2 ]</ref> ، وكما دخلت على إن مهيئة لدخولها على الفعل نحو: { إنما يخشى الله من عباده العلماء }. <ref>[ فاطر: 28 ]</ref> . فإذا عرفت هذا فقول النبي {{صل}}: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، هو من هذا الباب ودخلت ما بين كاف التشبيه وبين الفعل مهيئة لدخولها عليه فهي كافة للخافض ومهيئة له أن تقع بعد الفعل، وهذا قد خفي على أكثر النحاة حتى ظن كثير منهم أن ما ههنا مصدرية. وليس كما ظن فإنه لم يقع التشبيه بالرؤية. وأنت لو صرحت بالمصدر هنا، لم يكن كلامًا صحيحًا فإنه لو قيل: صلوا كرؤيتكم صلاتي لم يكن مطابقًا للمعنى المقصود فلو قيل: إنها موصولة والعائد محذوف، والتقدير صلوا كالتي رأيتموني أصلي أي كالصلوات التي رأيتموني أصليها كان أقرب من المصدرية على كراهته. فالصواب ما ذكرته لك.
 
ونظير هذه المسألة قوله {{صل}} للصديق: «كما أنت»، فأنت مبتدأ والخبر محذوف فلا مصدر هنا إذ لا فعل، فمن قال إنها مصدرية فقد غلظ، وإنما هي مهيئة لدخول الكاف على ضمير الرفع، والمعنى كما أنت صانع أو كما أنت مصل فدم على حالتك.
 
ونظير ذلك أيضا وقوعها بين بعد والفعل نحو قوله تعالى: { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم }، <ref>[ التوبة: 117 ]</ref> ، ليست مصدرية كما زعم أكثر النحاة، بل هي مهيئة لدخول بعد على فعل كاد إذ لا يصاغ من كاد وما مصدر إلا أن يتشجم له فعل بمعناه يسبك منها. ومن ذلك الفعل مصدر، وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى ذلك ويؤيد هذا قول الشاعر:
 
أعلَاقَةٌ أمَّ الوليد بعدما ** أفنانُ رأسك كالثَّغام المُخلِس
السطر 1٬431 ⟵ 1٬443:
قلت: لا تكون ما كافة لأسماء الإضافة، وإنما تكون كافة للحروف وبعد أشد مضارعة للحروف من قبل، لأن قبل كالمصدر في لفظها ومعناها تقول: جئت قبل الجمعة تريد الوقت الذي تستقبل في الجمعة. فالجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابله كما قال الشاعر: * نحج معًا، قالت أعامًا وقابله * فإذا كان العام الذي بعد عامك يسمى قابلًا فعامك الذي أنت فيه قبل، ولفظه من لفظ قابل. فقد بان لك من جهة اللفظ والمعنى أن "قبل" مصدر في الأصل، والمصدر كسائر الأسماء لا يكف به ولا يهيأ لدخول الجمل بعد، وإنما ذلك في بعض العوامل لا في شيء من الأسماء، وأما "بعد" فهي أبعد عن شبه المصدر، وإن كانت تقرب من لفظ بعد ومن معناه. فليس قربها من لفظ المصدر كقرب قبل؛ ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسم فاعل فيقولون للعام الماضي الباعد، كما قالوا للمستقبل القابل.
 
فإن قلت: فما تقول في قوله: { كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم }، <ref>[ البقرة: 151 ]</ref> ، وقوله: { واذكروه كما هداكم }، <ref>[ البقرة: 198 ]</ref> ، وقوله: { وأحسن كما أحسن الله إليك }، <ref>[ القصص: 77 ]</ref> ، فإنها لا يمتنع فيها تقدير المصدر في هذه المواضع كلها فهل هي كافة مهيئة أو مصدرية؟
 
قلت: التحقيق أنها كافة لحرف التشبيه عن عمله مهيئة لدخوله على الفعل. ومع هذا فالمصدر ملحوظ فيها وإن لم تكن مصدرية محضة، ويدل على أن ما لا تقع مصدرية على حد أن إنك تجدها لا تصلح في موضع تصلح فيه أن. فإذا قلت: أريد أن تقوم كان مستقيمًا، فلو قلت: أريد ما تقوم لم يستقم، وكذلك أحب أن تأتيني. لا تقول موضعه أحب تأتيني.
السطر 1٬443 ⟵ 1٬455:
فإن قلت: فهلا جعلتها كافة لإضافة كل إلى الفعل مهيئة لدخولها عليه.
 
قلت: ما أحراها بذلك لو لالولا ظهور الظرف، والوقت، وقصده من الكلام فلا يمكن إلغاؤه مع كونه هو المقصود. ألا ترى أنك تقول: كل وقت يفعل كذا أفعل كذا. فإذا قلت: كلما فعلت فعلت. وجدت معنى الكلامين واحدًا، وهذا قول أئمة العربية وهو الحق.
 
==فصل: الرد على المعتزلة==
 
قال أبو القاسم السهيلي: اعلم أن ما إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه عمل أو صنع أو فعل وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري سبحانه فلا يصح وقوعها إلا على مصدر، لإجماع العقلاء من الأنام في الجاهلية والإسلام على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: عملت جملًا، ولا صنعت جبلًا ولا حديدًا ولا حجرًا ولا ترابًا. فاذا قلت: أعجبني ما عملت وما فعل زيد، فإنما يعني الحدث. فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله تعالى: { والله خلقكم وما تعملون } <ref>[ الصافات: 96 ]</ref> إلا قول أهل السنة أن المعنى والله خلقكم وأعمالكم، ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول لأنهم زعموا أن ما واقعة على الحجارة التي كانوا ينحتونها أصنامًا. وقالوا: تقدير الكلام خلقكم والأصنام التي تعلمون إنكارًا منهم أن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه، واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوا لأنه تقدم قوله: { أتعبدون ما تنحتون،تنحتون } فما واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو، ولا من جهة المعنى. أما النحو فقد تقدم أن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرًا. وأما المعنى فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإنما كانوا يعبدون المنحوتات، فلما ثبت هذا وجب أن تكون الآية التي هي رد عليهم وتقييد لهم واقعة على الحجارة المنحونة والأصنام المعبودة. ويكون التقدير تعبدون حجارة منحوتة والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون!
 
هذا كله معنى قول المعتزلة وشرح ما شبهوا به، والنظم على تأويل أهل الحق أبدع والحجة أقطع. والذي ذهبوا إليه فاسد محال، لأنهم أجمعوا معنا على أن أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام.
السطر 1٬455 ⟵ 1٬467:
قلنا: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب، وهي نفس العمل. وأما الجوهر المؤلف المركب فليس بمعمول لنا. فقد رجع العمل والفعل إلى الأحداث دون الجواهر. هذا إجماع منا ومنهم، فلا يصلح حملهم على غير ذلك.
 
وأما ما زعموا من حسن النظم وإعجاز الكلام فهو ظاهر، وتأويلنا معدوم في تأويلهم، لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق وهم يخلقون فقال: { أتعبدون ما تنحتون }، <ref>[ الصافات: 95 ]</ref> ، أي من لا يخلق شيئًا وهم يخلقون، وتدعون عبادة من خلقكم وأعمالكم التي تعملون، ولو لم يضف خلق الأعمال إليه في الآية وقد نسبها إليهم بالمجاز ما قامت له حجة من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق لأجناس أخر فيشركهم معه في الخلق تعالى الله عن قول الزائغين ولا لعا لعثرات المبطلين، فما أدحض حجتهم، وما أوهى قواعد مذهبهم، وما أبين الحق لمن اتبعه، جعلنا الله من أتباعه وحزبه.
 
وهذا الذي ذكرناه قاله أبو عبيد في قول حذيفة: إن الله يخلق صانع الخَزَم وصنعته واستشهد بالآية. وخالفه القتيبي في إصلاح الغلط فغلط أشد الغلط ووافق المعتزلة في تأويلها، وإن لم يقل بقيلها. هذا آخر كلام أبي القاسم.
السطر 1٬471 ⟵ 1٬483:
وقابلهم بعض المثبتين للقدر، وأن الله هو خالق أفعال العباد. فقالوا: الآية صريحة في كون أعمالهم مخلوقة الله فإن ما ههنا مصدرية والمعنى والله خلقهم وخلق أعمالهم. وقرروه بما ذكره السهيلي وغيره، ولما أورد عليهم القدرية كيف تكون ما مصدرية هنا وأي وجه يبقى للاحتجاج عليهم إذا كان المعنى والله خلقكم وخلق عبادتكم وهل هذا إلا تلقين لهم الاحتجاج بأن يقولوا: فإذا كان الله قد خلق عبادتنا للأصنام فهي مرادة له، فكيف ينهانا عنها؟ وإذا كانت مخلوقة مرادة فكيف يمكننا تركها؟ فهل يسوغ أن يحتج على إنكار عبادتهم؟ أجابهم المثبتون بأن قالوا: لو تدبرتم سياق الآية. ومقصودها لعرفتم صحة الاحتجاج، فإن الله سبحانه أنكر عليهم عبادة من لا يخلق شيئًا أصلًا، وترك عبادة من هو خالق لذواتهم وأعمالهم. فإذا كان الله خالقكم وخالق أعمالكم. فكيف تدعون عبادته وتعبدون من لا يخلق شيئًا لا ذواتكم ولا أعمالكم؟ وهذا من أحسن الاحتجاج.
 
وقد تكرر في القرآن الإنكار عليهم أن يعبدوا ما لا يخلق شيئًا وسوى بينه وبين الخالق لقوله: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون }، <ref>[ النحل: 17 ]</ref> ، وقوله: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون }، <ref>[ النحل: 20 ]</ref> ، وقوله: { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه }، <ref>[ لقمان: 11 ]</ref> ، إلى أمثال ذلك فصح الاحتجاج وقامت الحجة بخلق الأعمال مع خلق الذوات، فهذا منتهى اقدام الطائفتين في الآية كما ترى.
 
والصواب أنها موصولة، وأنها لا تدل على صحة مذهب القدرية. بل هي حجة عليهم مع كونها موصولة، وهذا يتبين بمقدمة نذكرها قبل الخوض في التقرير. وهي أن طريقة الحجاج والخطاب أن يجرد القصد والعناية بحال ما يحتج له وعليه، فإذا كان المستدل محتجًا على بطلان ما قد ادعى في شيء وهو يخالف ذلك، فإنه يجرد العناية إلى بيان بطلان تلك الدعوى، وأن ما ادُّعي له ذلك الوصف هو متصف بضده لا متصف به. فأما أن يمسك عنه ويذكر وصف غيره فلا.
السطر 1٬477 ⟵ 1٬489:
وإذا تقرر هذا فالله سبحانه أنكر عليهم عبادتهم الأصنام، وبين أنها لا تستحق العبادة. ولم يكن سياق الكلام في معرض الإنكار عليهم ترك عبادته وأن ما هو في معرض الإنكار عبادة من لا يستحق العبادة، فلو أنه قال: لا تعبدون الله وقد خلقكم وما تعملون لتعينت المصدرية قطعًا، ولم يحسن أن يكون بمعنى الذي إذ يكون المعنى كيف لا تعبدونه وهو الذي أوجدكم وأوجد أعمالكم فهو المنعم عليكم بنوعي الإيجاد والخلق، فهذا وزان ما قرروه من كونها مصدرية، فأما سياق الآية فإنه في معرض إنكاره عليهم عبادة من لا يستحق العبادة فلا بد أن يبين فيه معنى ينافي كونه معبودًا. فبين هذا المعنى بكونه مخلوقًا له، ومن كان مخلوقًا في بعض مخلوقاته فإنه لا ينبغي أن يعبد ولا تليق به العبادة.
 
وتأمل مطابقة هذا المعنى لقوله: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون }، <ref>[ النحل: 20 ]</ref> ، كيف أنكر عليهم عبادة الهة مخلوقة له سبحانه وهي غير خالقة. فهذا يبين المراد من قوله: { والله خلقكم وما تعملون }، <ref>[ الصافات: 96 ]</ref> ، ونظيره قوله في [[سورة الأعراف]]: { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم }، <ref>[ الأعراف: 194 ]</ref> ، أي هم عباد مخلوقون كما أنتم كذلك. فكيف تعبدون المخلوق.
 
وتأمل طريقة القرآن لو أراد المعنى الذي ذكروه من حسن صفاته وانفراده بالخلق كقول صاحب يس: { وما لي لا أعبد الذي فطرني }، <ref>[ يس: 22 ]</ref> ، فهنا لما كان المقصود إخبارهم بحسن عبادته واستحقاقه لها. ذكر الموجب لذلك وهي كونه خالقًا لعابده فاطرًا له، وهذا إنعام منه عليه. فكيف يترك عبادته. ولو كان هذا هو المراد من قوله: { والله خلقكم وما تعملون }، <ref>[ الصافات: 96 ]</ref> ، كان يقتضي أن يقال ألا يعبدون الله وهو خالقهم وخالق أعمالهم. فتأمله فإنه واضح.
 
وقول أبي القاسم رحمه الله في تقرير حجة المعتزلة من الآية، إنه لا يصح أن تكون مصدرية وهو باطل. من جهة النحو ليس كذلك.
 
أما قوله: أن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرًا، فقد تقدم بطلانه إذ مصدريتها تقع مع الفعل الخاص المبهم لقوله تعالى: { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }، <ref>[ التوبة: 77 ]</ref> ، وقوله: { بما كنتم تعلمون الكتاب بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } <ref>[ غافر 75 ]</ref> إلى أضعاف ذلك، فإن هذه كلها أفعال خاصة وهي أخص من مطلق العمل فإذا جاءت مصدرية مع هذه الأفعال فمجيئها مصدرية مع العمل أولى .
 
قولهم إنهم لم يكونوا يعبدون النحت وإنما عبدوا المنحوت حجة فاسدة فإن الكلام في ما المصاحبة للفعل دون المصاحبة لفعل النحت فإنها لا تحتمل غير الموصولة ولا يلزم من كون الثانية مصدرية كون الأولى كذلك فهذا تقرير فاسد * وأما تقريره كونها مصدرية أيضا بما ذكره فلا حجة له فيه .
 
أما قوله أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام، فيقال ما معنى عدم وقوعها على الجواهر والأجسام؟ أتعني به أن أفعالهم لا تتعلق بإيجادها، أم تعني به أنها لا تتعلق بتغييرها وتصويرها، أم تعني به أعم من ذلك وهو المشترك بين القسمين؟
 
فإن عنيت الأول فمسلم لكن لا يفيدك شيئا ،شيئا، فإن كونها موصولة لا يستلزم ذلك ،ذلك، فإن كون الأصنام معمولة لهم يقتضي أن تكون مادتها معمولة لهم ،لهم، بل هو على حد قولهم "عملت بيتا، وعملت بابا، وعملت حائطا، وعملت ثوبا" وهذا إطلاق حقيقي ثابت عقلا ولغة وشرعا وعرفا لا يتطرق إليه رد ،رد، فهذا ككون الأصنام معمولة سواء.
 
وإن عنيت أن أفعالهم لا تتعلق بتصويرها فباطل قطعا . وإن عنيت القدر المشترك فباطل أيضا، فإنه مشتمل على نفي حق وباطل فنفي الباطل صحيح ونفي الحق باطل.
 
ثم يقال إيقاع العمل منهم على الجواهر والأجسام يجوز أن يطلق فيه العمل الخاص وشاهده في الآية: { أتعبدون ما تنحتون } <ref>[ الصافات 95 ]</ref> فما ههنا موصولة فقد أوقع فعلهم وهو النحت على الجسم وحينئذ فأي فرق بين إيقاع أفعالهم الخاصة على الجوهر والجسم وبين إيقاع أفعالهم العامة عليه لا بمعنى أن ذاته مفعولة له ،له، بل بمعنى أن فعلهم هو الذي صار به صنما واستحق أن يطلق عليه اسمه كما أنه بعملهم صار منحوتا واستحق هذا الاسم وهذا بين .
 
وأما قوله بجواب النقض بعملت الصحيفة وصنعت الجفنة أن الفعل متعلق بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي نفس العمل ،العمل، فكذلك هو أيضا متعلق بالتصوير الذي صار الحجر به صنما منحوتا سواء .
 
وأما قوله الآية في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق فقد تقدم جوابه وأن الآية وردت لبيان عدم استحقاق معبوديهم للعبادة لأنها مخلوقة لله وذكرنا شواهده من القرآن.
 
فإن قيل كان يكفي في هذا أن يقال أتعبدون ما تنحتون والله خالقه فلما عدل إلى قوله: { والله خلقكم وما تعملون } <ref>[ الصافات 96 ]</ref> علم أنه أراد الاحتجاج عليهم في ترك عبادته سبحانه وهو خالقهم وخالق أفعالهم.
 
قيل: في ذكر خلقه سبحانه لآلهتهم ولعابديها من بيان تقبيح حالهم وفساد رأيهم وعقولهم في عبادتها دونه تعالى ما ليس في الاقتصار على ذكر خلق الآلهة فقط فإنه إذا كان الله تعالى هو الذي خلقكم وخلق معبوديكم فهي مخلوقة أمثالكم، فكيف يعبد العاقل من هو مثله ويتألهه ويفرده بغاية التعظيم والإجلال والمحبة؟ وهل هذا إلا أقبح الظلم في حق أنفسكم وفي حق ربكم!
 
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم }، <ref>[ الأعراف 194 ]</ref> ، ومن حق المعبود أن لا يكون مثل العابد ،العابد، فإنه إذا كان مثله كان عبدا مخلوقا، والمعبود ينبغي أن يكون ربا خالقا. فهذا من أحسن الاحتجاج وأبينه . فقد أسفر لك من المعنى المقصود بالسياق صبحه ووضح لك شرحه وانجلى بحمد الله الإشكال وزال عن المعنى غطاء الإجمال وبان أن ابن قتبية في تفسير الآية وفق للسداد كما وفق لموافقة أهل السنة في خلق أعمال العباد. ولا تستطل هذا الفصل فإنه يحقق لك فصولا لا تكاد تسمعها في خلال المذاكرات ويحصل لك قواعد وأصولا لا تجدها في عامة المصنفات .
 
فإن قيل فأين ما وعدتم به من الاستدلال بالآية على خلق الله لأعمال العباد على تقدير كون ما موصولة ؟موصولة؟
 
قيل: نعم قد سبق الوعد بذلك وقد حان انجازه وآن ابرازه. ووجه الاستدلال بها على هذا التقدير أن الله سبحانه أخبر أنه خالقهم وخالق الأصنام التي عملوها وهي إنما صارت أصناما بأعمالهم فلا يقع عليها ذلك الاسم إلا بعد عملهم فإذا كان سبحانه هو الخالق اقتضى صحة هذا الإطلاق أن يكون خالقها بجملتها أعني مادتها وصورتها ،وصورتها، فإذا كانت صورتها مخلوقة لله كما أن مادتها كذلك ،كذلك، لزم أن يكون خالقا لنفس عملهم الذي حصلت به الصورة لأنه متولد عن نفس حركاتهم . فإذا كان الله خالقها كانت أعمالهم التي تولد عنها ما هو مخلوق الله مخلوقة له ،له، وهذا أحسن استدلالا وألطف من جعل ما مصدرية .
 
ونظيره من الاستدلال سواء قوله: { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون }. <ref>[ يس 41 42- 42]</ref> . والأصح أن المثل المخلوق هنا هو السفن وقد أخبر أنها مخلوقة وهي إنما صارت سفنا بأعمال العباد . وأبعد من قال إن المثل ههنا هو سفن البر وهي الإبل لوجهين:
 
أحدهما أنها لا تسمي مثلا للسفن لا لغة ولا حقيقة، فإن المثلين ما سد أحدهما مسد الآخر، وحقيقة المماثلة أن يكون بين فلك وفلك لا بين جمل وفلك.
 
الثاني أن قوله: { إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم }، <ref>[ يس 43 ]</ref> ، عقب ذلك دليل على أن المراد الفلك التي إذا ركبوها قدرنا على إغراقهم فذكرهم بنعمه عليهم من وجهين: أحدهما ركوبهم إياها، والثاني أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق .
 
ونظير هذا الاستدلال أيضا قوله تعالى: { والله جعل لكم مما خلق ظلالًا وجعل لكم من الجبال أكنانًا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } <ref>[ النحل 81 ]</ref> والسرابيل التي يلبسونها وهي مصنوعة لهم ،لهم، وقد أخبر بأنه سبحانه هو جاعلها، وإنما صارت سرابيل بعملهم . ونظيره: { والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا } <ref>[ النحل: 80 ]</ref> والبيوت التي من جلود الأنعام هي الخيام، وإنما صارت بيوتًا بعملهم.
 
فإن قلت: المراد من هذا كله المادة لا الصورة.
السطر 1٬521 ⟵ 1٬533:
قلت: المادة لا تستحق هذه الأسماء التي أطلق الخلق عليها، وإنما تستحق هذه الأسماء بعد عملها وقيام صورها بها، وقد أخبر أنها مخلوقة له في هذه الحال. والله أعلم.
 
==فائدة: ضمير من يكرمني==
 
الذي يدل على أن الضمير من يكرمني ونحوه الياء دون ما معها وجوه:
السطر 1٬531 ⟵ 1٬543:
الثالث: إدخالهم هذه النون في بعض حروف الجر وهي من وعن. ولو كانت جزءًا من الضمير لأطردت في إلي وفي وسائر حروف الجر. فإن قلت: فما وجه اختصاصها ببعض الحروف والأسماء، والجواب: أنهم أرادوا فصل الفعل والحروف المضارعة له من توهم الإضافة إلى الياء، فألحقوها علامة للانفصال. وهي في أكثر الكلام نون ساكنة وهو التنوين. فإنه لا يوجد في الكلام إلا علامة لانفصال الاسم. ولذلك ألحقوها في القوافي المعرفة باللام أبدًا بإتمام البيت وانفصاله مما بعده نحو العتابا والزرافا، ولذلك زادوها قبل علامة الإنكار حين أرادوا فصل الاسم من العلامة كي لا يتوهم أنها تمام الاسم، أو علامة جمع. ففصل بين الاسم وبينها بنون زائدة، وأدخل عليها ألف الوصل لسكونها، ثم حركتها بالكسر لالتقاء الساكنين. فلما كان من أصلهم تخصيص النون بعلامة الانفصال واجبًا وأرادوا فصل الفعل وما ضارعه عن الإضافة إلى الياء، جاؤوا بهذه النون الساكنة ولولا سكون الياء لكانت ساكنة كالتنوين، ولكنهم كسروها لالتقاء الساكنين.
 
==فائدة: حذف الألف من ما الاستفهامية==
 
السر في حذف الألف من ما الاستفهامية عند حرف الجر أنهم أرادوا مشاكلة اللفظ للمعنى فحذفوا الألف، لأن معنى قولهم فيم ترغب في أي شيء وإلى م تذهب إلى أي شيء، وحتام لا ترجع حتى أي غاية تستمر ونحوه، فحذفوا الألف مع الجار ولم يحذفوها في حال النصب والرفع كيلا تبقى الكلمة على حرف واحد. فإذا اتصل بها حرف الجر، أو اسم مضاف اعتمدت عليه، لأن الخافض والمخفوض بمنزلة كلمة واحدة.
 
وربما حذفوا الألف في غير موضع الخفض، ولكن إذا حذفوا الخبر. فيقولون: مه يا زيد؟ أي ما الخبر وما الأمر؟ فلما كثر الحذف في المعنى كثر في اللفظ، ولكن لا بد من هاء السكت لتقف عليها .
 
ومنه قولهم: مهيم كان الأصل ما هذا يا امرؤ؟ فاقتصروا من كل كلمة على حرف. وهذا غاية الاختصار والحذف. والذي شجعهم على ذلك أمنهم من اللبس لدلالة حال المسؤول والمسؤول عنه على المحذوف، فيهم المخاطب من قوله مهيم ما يفهم من تلك الكلمات الأربع. ونظير هذا قولهم "أيش" في "أي شيء"، و"م الله" في و"أيمين الله".
 
==فائدة بديعة: قوله ثم لننزعن من كل شيعة==
 
قوله عز وجل: { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيًا }، <ref>[ مريم: 69 ]</ref> ، الشيعة الفرقة التي شايع بعضها بعضًا أي تابعه. ومنه الأشياع أي الأتباع. فالفرق بين الشيعة والأشياع: أن الأشياع هم التبع. والشيعة القوم الذين شايعوا أي تبع بعضهم بعضًا، وغالب ما يستعمل في الذم، ولعله لم يرد في القرآن إلا كذلك كهذه الآية وكقوله: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا }، <ref>[ الأنعام: 159 ]</ref> ، وقوله: { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل }، <ref>[ سبأ: 54 ]</ref> ، وذلك والله أعلم لما في لفظ الشيعة من الشياع والإشاعة التي هي ضد الائتلاف والاجتماع، ولهذا لا يطلق لفظ الشيع إلا على فرق الضلال لتفرقهم واختلافهم. والمعنى لننزعن من كل فرقة أشدهم عتوًا على الله وأعظمهم فسادًا، فنلقيهم في النار. وفيه إشارة إلى أن العذاب يتوجه إلى السادات أولا ثم تكون الأتباع تبعًا لهم فيه، كما كانوا تبعًا لهم في الدنيا.
 
و { أيهم أشد } للنحاة فيه أقوال:
السطر 1٬557 ⟵ 1٬569:
الثاني: حذف الصلة.
 
الثالث: حذف العائد، لأن تقديره الذي يقال لهم: إنهم أشد، وهذا لا عهد لنا فيه باللغة. وأما ما يحذف من القول فإنه إنما يكون قولًا مجردًا عن كونه صلة لموصول نحو قوله: { والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم }، <ref>[ الأنعام: 93 ]</ref> ، أي: يقولون أو قائلين. ومثله: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }. <ref>[ الزمر: 3 ]</ref> .
 
الرابع: أنه إذا قدر المحذوف هكذا لم يستقم الكلام فإنه يصير { لننزعن من كل شيعة } <ref>[ مريم: 69 ]</ref> الذي يقال فيهم: { أيهم أشد } وهذا فاسد فإن ذلك المنزوع لا يقال فيه أيهم أشد بل هو نفسه أشد، أو من أشد الشيعة على الرحمن فلا يقع عليه الاستفهام بعد نزعه، فتأمله.
 
الخامس: أن الاستفهام لا يقع إلا بعد أفعال العلم والقول على الحكاية، ولا يقع بعد غيره من الأفعال. تقول: علمت أزيد عندك، أم عمرو، ولو قلت: ضربت أزيد أم عمرو ولم يجز وننزعن ليس من أفعال العلم. فإذا قلت: ضربت أيهم قام لم تكن إلا موصولة ولا يصح أن يقال ضربت الذي يقال فيه أيهم قال، وإنما توهم مثل ذلك لكون اللفظ صالحًا لجهة أخرى مستقيمة فيتوهم متوهم أن حمله على الجهة الأخرى يسقيم. والذي يدل عليه أنه لو قدرت موضعه استفهامًا صريحًا ليس له جهة أخرى لم يجز. فلو قلت: ضرب أزيد عندك أم عمرو لم يجز بخلاف ضرب أيهم عندك. فلو كان أيهم استفهامًا لجاز الكلام مع الاستفهام الذي بمعناهما، وإنما لم يقع الاستفهام إلا بعد أفعال العلم والقول. أما القول فلأنه يحكي به كل جملة خبرية كانت أو إنشائية. وأما أفعال العلم فإنما وقع بعدها الاستفهام لكون الاستفهام مستعلمًا به. فكأنك إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو كان معناه اعلمني. وإذا قلت: علمت أزيد عندك أم عمرو؟ كان معناه علمت ما يطلب استعلامه فلهذا صح وقوع الاستفهام بعد العلم. لأنه استعلام، ثم حمل الحسبان والظن عليهما لكونهما من بابه. ووجه آخر وهو كثرة استعمال أفعال العلم فجعل لها شأن ليس لغيرها.
السطر 1٬577 ⟵ 1٬589:
فإذا أتممت لفظة الصلة وقلت: ضربت أيهم أخوك، زالت مضارعة الاستفهام وغلب فيه معنى الخبر لوجود الصلة التامة بعده.
 
قال وأما قوله تعالى: { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }، <ref>[ الشعراء: 227 ]</ref> ، وإجماعهم على أنها منصوبة بينقلبون لا بسيعلم. وقد كان يتصور فيها أن تكون منصوبة بسيعلم على جهة الاستفهام، ولكن تكون موصولة والجملة صلتها والعائد محذوف. ولكن منع من هذا أصل أصلناه ودليل أقمناه على أن الاسم الموصول إذا عني به المصدر ووصل بفعل مشتق من ذلك المصدر لم يجز لعدم الفائدة المطلوبة من الصلة وهي إيضاح الموصول وتبيينه. والمصدر لا يوضح فعله المشتق من لفظه، لأنه كأنه هو لفظًا ومعنى إلا في المختلف الأنواع كما تقدم.
 
قال: ووجه آخر أقوى من هذا وهو أن أيًا لا تكون بمعنى الذي حتى تضاف إلى معرفة. فتقول: لقيت أيهم في الدار إذ من المحال أن يكون بمعنى الذي وهو نكرة. والذي لا ينكر وهذا أصل يبنى عليه في "أي".
 
==فائدة: تحقيق معنى أي==
 
فصل في تحقيق معنى أي
 
==فائدة: فصل في تحقيق معنى أي==
 
وهو أن لفظ الألف والياء المكررة راجع في جميع الكلام إلى معنى التعيين والتمييز للشيء من غيره، فمنه أياة الشمس لضوءها لأنه يبينها ويميزها من غيره، ومنه الآية العلامة، ومنه خرج القوم بآيهم أي بجماعتهم التي يتميزون بها عن غيرهم، ومنه تأييت بالمكان أي تثبت لتبيين شيء، أو تمييزه ومنه قول امرىء القيس:
السطر 1٬593 ⟵ 1٬605:
ومنه إياك في المضمرات، لأنه في أكثر الكلام مفعول مقدم، والمفعول إنما يتقدم على فعله قصدًا إلى تعيينه وحرصًا على تمييزه من غيره وصرفًا للذهن عن الذهاب إلى غيره، ولذلك تقدم في ( إياك نعبد ) إذ الكلام وارد في معرض الإخلاص وتحقيق الوحدانية ونفي عوارض الأوهام عن التعلق بغيره، ولهذا اختصت أي بنداء ما فيه الألف واللام تمييزًا له وتعيينًا، وكذلك أي زيد، ومنه إياك المراء والأسد أي ميز نفسك وأخلصها عنه. ومنه وقوع أي تفسيرًا كقولك: عندي عهن أي صوف.
 
وأما وقوعها نفيًا لما قبلها نحو مررت برجل أي رجل. فأي تدرجت إلى الصفة من الاستفهام كان الأصل أي رجل هو على الاستفهام الذي يراد به التفخيم والتهويل، وإنما دخله التفخيم لأنهم يريدون إظهار العجز والإحاطة لوصفه فكأنه مما يستفهم عنه بجهل كنهه. فأدخلوه في باب الاستفهام الذي هو موضوع لما يجهل. وكذلك جاء: { القارعة * ما القارعة } <ref>[ القارعة: 1، 2 ]</ref> و { الحاقة * ما الحاقة } <ref>[ الحاقة: 1، 2 ]</ref> أي أنها لا يحاط بوصفها. فلما ثبت هذا اللفظ في باب التفخيم والتعظيم للشيء قرب من الوصف حتى أدخلوه في باب النعت، وأخروه في الإعراب عن ما قبله ومنه: * جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط * أي كأنه في لون الذئب إن كنت رأيت الذئب. ومنه "مررت بفارس هل رأيت الأسد"، وهذا التقدير أحسن من قول بعض النحويين أنه معمول وصف مقدر، وهو قول محذوف أي مقول فيه هل رأيت كذا، وما ذكرته لك أحسن وأبلغ فتأمله.
 
==فائدة جليلة: ما يجري صفة أو خبرا على الرب==
 
ما يجري صفة أو خبرًا على الرب تبارك وتعالى أقسام.
السطر 1٬607 ⟵ 1٬619:
الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض ولا بد من تضمنه ثبوتًا إذ لا كمال في العدم المحض كالقدوس السلام.
 
الخامس: ولم يذكره أكثر الناس وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة بل هو دال على معناه لا على معنى مفرد نحو المجيد العظيم الصمد فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال ولفظه يدل على هذا فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة فمنه استمجد المرخ والغفار وأمجد الناقة علفًا. ومنه { ذو العرش المجيد } <ref>[ البروج: 15 ]</ref> صفة للعرض لسعته وعظمه وشرفه.
 
وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه {{صل}} لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء، وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم تقتضيه كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ولا يحسن أنك أنت السميع البصير فهو راجع إلى المتوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه.
 
ومنه الحديث الذي في [[المسند]] والترمذي: «ألظوا بياذا الجلال والإكرام». ومنه: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام». فهذا سؤال له وتوسل إليه وبحمده وإنه الذي لا إله إلا هو المنان. فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعًا عند المسؤول. وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة، وقد فتح لمن بصره الله.
 
ولنرجع إلى المقصود وهو وصفه تعالى بالاسم المتضمن لصفات عديدة. فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال. وكذلك الصمد قال ابن عباس: هو السيد الذي كمل في سؤدده. وقال ابن وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده. وقال [[عكرمة]]: الذي ليس فوقه أحد، وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السؤدد فقد صمد له كل شيء. وقال ابن الأنباري: "لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم". واشتقاقه يدل على هذا، فإنه في الجمع والقصد الذي اجتمع القصد نحوه، واجتمعت فيه صفات السؤدد وهذا أصله في اللغة كما قال:
 
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ** بعمرو بن يربوع وبالسيد الصمد
السطر 1٬621 ⟵ 1٬633:
السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو: الغني الحميد، العفو القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن. فإن الغني صفة كمال والحمد كذلك، واجتماع الغني مع الحمد كمال آخر. فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك العفو القدير والحميد المجيد والعزيز الحكيم فتأمله فإنه من أشرف المعارف.
 
وأما صفات السلب المحض فلا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية. والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يضاد كماله، وكذلك الإخبار عنه بالسلوب هو لتضمنها ثبوتًا كقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }، <ref>[ البقرة: 155 ]</ref> ، فإنه متضمن لكمال حياته وقيوميته وكذلك قوله تعالى: { وما مسنا من لغوب } <ref>[ ق: 38 ]</ref> متضمن لكمال قدرته. وكذلك قوله: { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة }، <ref>[ يونس: 62 ]</ref> ، متضمن لكمال علمه. وكذلك قوله: { لم يلد ولم يولد } متضمن لكمال صمديته وغناه وكذلك قوله: { ولم يكن له كفوًا أحد } متضمن لتفرده بكماله وأنه لا نظير له، وكذلك قوله تعالى: { لا تدركه الأبصار } <ref>[ الأنعام: 103 ]</ref> متضمن لعظمته. وأنه جل عن أن يدرك بحيث يحاط به. وهذا مطرد في كل ما وصف به نفسه من السلوب.
 
==(في أسماء الله وصفاته)==
 
ويجب أن يعلم هنا أمور:
السطر 1٬639 ⟵ 1٬653:
السابع: أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيًا كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه. فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية، أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع.
 
الثامن: أن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل، فيخبر به عنه فعلًا ومصدرًا نحو السميع البصير القدير، يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو: { قد سمع الله }، <ref>[ المجادلة: 1 ]</ref> ، { فقدرنا فنعم القادرون }. <ref>[ المرسلات: 23 ]</ref> . هذا إن كان الفعل متعديًا. فإن كان لازمًا لم يخبر عنه به نحو الحي. بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل فلا يقال حيي.
 
التاسع: أن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته. وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله. والمخلوق كماله عن فعاله فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل. فالرب لم يزل كاملًا فحصلت أفعاله عن كماله، لأنه كامل بذاته وصفاته فأفعاله صادرة عن كماله كمل ففعل والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به.
السطر 1٬653 ⟵ 1٬667:
المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها.
 
المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } <ref>[ الأعراف: 180 ]</ref> وهو مرتبتان: إحداهما: دعاء ثناء وعبادة. والثاني دعاء طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك لا يسأل إلا بها فلا يقال: يا موجود أو يا شيء أو يا ذات اغفر لي وارحمني، بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلًا إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية الرسل، ولا سيما خاتمهم وإمامهم، وجدها مطابقة لهذا. وهذه العبارة أولى من عبارة من قال: يتخلق بأسماء الله، فإنها ليست بعبارة سديدة وهي منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة. وأحسن منها عبارة أبي الحكم بن برجان وهي التعبد، وأحسن منها العبارة المطابقة للقرآن وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال. فمراتبها أربعة أشدها إنكارًا عبارة الفلاسفة وهي التشبه. وأحسن منها عبارة من قال التخلق. وأحسن منها عبارة من قال التعبد. وأحسن من الجميع الدعاء وهي لفظ القرآن.
 
الثالث عشر: اختلف النظار في الأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد، كالحي والسميع والبصير والعليم والقدير والملك ونحوها. فقالت طائفة من المتكلمين. هي حقيقة في العبد مجاز في الرب. وهذا قول غلاة الجهمية وهو أخبث الأقوال وأشدها فسادًا. الثاني: مقابله وهو أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد وهذا قول أبي العباس الناشي. الثالث: أنها حقيقة فيهما، وهذا قول أهل السنة وهو الصواب. واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما. وللرب تعالى منها ما يليق بجلاله وللعبد منها ما يليق به. وليس هذا موضع التعرض لمأخذ هذه الأقوال وإبطال باطلها وتصحيح صحيحها. فإن الغرض الإشارة إلى أمور ينبغي معرفتها في هذا الباب ولو كان المقصود بسطها لاستدعت سفرين أو أكثر.
السطر 1٬667 ⟵ 1٬681:
الثامن عشر: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال. وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالًا، ولا نقصًا، وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا وهو ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين. والرب تعالى منزه عن الأقسام الثلاثة وموصوف بالقسم الأول، وصفاته كلها كمال محض فهو موصوف من الصفات بأكملها، وله من الكمال أكمله. وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها، ولا يؤدي معناها. وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم. وإذا عرفت هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب، أو نقص، فله من صفة الإدراكات العلم الخبير دون العاقل الفقيه، والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر. ومن صفات الإحسان البر، الرحيم، الودود، دون الرفيق والشفوق ونحوهما، وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف. وكذلك الكريم دون السخي، والخالق البارىء المصؤر دون الفاعل الصانع المشكل، والغفور العفو دون الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم غيره مقامه، فتأمل ذلك فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا نعدل عما سمي به نفسه إلى غيره، كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون.
 
التاسع عشر: أن من أسمائه الحسنى ما يكون دالًا على عدة صفات ويكون ذلك الاسم متناولًا لجميعها تناول الاسم الدال على الصفة الواحدة لها كما. تقدم بيانه، كاسمه العظيم والمجيد والصمد كما قال ابن عباس فيما رواه عنه [[ابن أبي حاتم في تفسيره]]: الصمد السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته. والحليم الذي قد كمل في حلمه. والعليم الذي قد كمل في علمه. والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع شرفه وسؤدده وهو الله سبحانه. هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفوًا أحد وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار هذا لفظه.
 
وهذا مما خفي على كثير ممن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحسنى. ففسر الاسم بدون معناه، ونقصه من حيث لا يعلم، فمن لم يحط بهذا علمًا بخس الاسم الأعظم حقه وهضمه معناه فتدبره.
 
العشرون: وهي الجامعة لما تقدم من الوجوه، وهو معرفة الإلحاد في أسمائه حتى لا يقع فيه. قال تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } <ref>[ الاعراف: 180 ]</ref> والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادته ل ح د. فمنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط. ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل. قال ابن السكيت: الملحد المائل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. ومنه الملتحد: وهو مفتعل من ذلك. وقوله تعالى: { ولن تجد من دونه ملتحدًا } <ref>[ الكهف: 27 ]</ref> أي من تعدل إليه، وتهرب إليه، وتلتجىء إليه وتبتهل إليه فتميل إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عدل إليه.
 
==(أنواع الإلحاد في أسمائه تعالى)==
 
إذا عرف هذا. فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع:
السطر 1٬681 ⟵ 1٬697:
وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه، ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود أنه فقير. وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه.
 
وقولهم: { يد الله مغلولة }، <ref>[ المائدة: 64 ]</ref> ، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته.
 
ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: أنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات، ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلًا وشرعًا ولغة وفطرة وهو يقابل إلحاد المشركين. فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها فكلاهما ملحد في أسمائه.
السطر 1٬691 ⟵ 1٬707:
وأهل السنة وسط في النحل كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء. فنسأل الله تعالى أن يهدينا لنوره ويسهل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته ومتابعته رسوله إنه قريب مجيب.
 
فهذه عشرون فائدة مضافة إلى القاعدة التي بدأنا بها في أقسام ما يوصف به تبارك وتعالى فعليك بمعرفتها ومراعاتها ثم اشرح الأسماء الحسنى إن وجدت قلبًا عاقلًا ولسانًا قائلًا ومحلًا قابلًا وإلا فالسكوت أولى بك فجناب الربوبية أجل وأعز مما يخطر بالبال أو يعبر عنه المقال: { وفوق كل ذي علم عليم } <ref>[ يوسف: 76 ]</ref> حتى ينتهى العلم إلى من أحاط بكل شيء علمًا. وعسى الله أن يعين بفضله على تعليق شرح الأسماء الحسنى مراعيًا فيه أحكام هذه القواعد بريئًا من الإلحاد في أسمائه، وتعطيل صفاته فهو المان بفضله والله ذو الفضل العظيم.
 
==فائدة: المعنى المفرد لا يكون نعتا==
 
المعنى المفرد لا يكون نعتًا ونعني بالمفرد ما دل لفظه على معنى واحد نحو: علم وقدرة، لأنه لأ رابط بينه وبين المنعوت، لأنه اسم جنس على حياله. فإذا قلت: ذو علم وذو قدرة. كان الرابط ذو. فإذا قلت: عالم وقادر. كان الرابط الضمير فكل نعت وإن كان مفردًا في لفظه فهو دال على معلومين: حامل ومحمول. فالحامل هو الاسم المضمر، والمحمول هو الصفة، وإنما أضمر في الصفة، ولم يضمر في المصدر وهو الصفة في الحقيقة لأن هذا الوصف مشتق من الفعل، والفعل هو الذي يضمر فيه دون المصدر، لأنه إنما صيغ من المصدر ليخبر به عن فاعل. فلا بد له مما صيغ لأجله، إما ظاهرًا وإما مضمرًا. ولا كذلك المصدر لأنه اسم جنس فحكمه حكم سائر الأجناس، ولذلك ينعت الاسم بالفعل لتحمله الضمير.
السطر 1٬701 ⟵ 1٬717:
قلت: الاسم أصل للفعل في باب النعت، والفعل أصل لذلك الاسم لي غير باب النعت، وإنما قلنا: ذلك لأن حكم النعت أن يكون جاريًا على المنعوت في إعرابه، لأنه هو مع زيادة معنى ولأن الفعل أصله أن يكون له صدر الكلام لعمله في الاسم. وحق العامل التقدم لا سيما إن قلنا إن العامل في النعت هو العامل في المنعوت. وعلى هذا لا يتصور أن يكون الفعل أصلًا في باب النعت، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال فعلى هذا لا ينبغي أن ينعت النعت. فتقول: مررت برجل عاقل كريم على أن يكون كريمًا صفة للعاقل، بل للرجل لأن النعت ينبىء عن الاسم المضمر وعن الصفة والمضمر لا ينعت، ولأنه قد صار بمنزلة الجملة من حيث دل على الفعل والفاعل والجملة لا تنعت ولأنه يجري مجرى الفعل في رفع الأسماء، والفعل لا ينعت قاله ابن جني. وبعد فلا يمتنع أن ينعت النعت، إذا جرى النعت الأول مجرى الاسم الجامد ولم يرد به ما هو جار على الفعل.
 
==فصل: إقامة النعت مقام المنعوت==
==فصل==
 
ولما علم من افتقاره إلى الضمير لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت لوجهين:
السطر 1٬711 ⟵ 1٬727:
فإن أجريت الصفة مجرى الاسم مثل: جاءني الفقيه وجالست العالم، خرج عن الأصل الممتنع وصار كسائر الأسماء، وإن جئت بفعل يختص بنوع من الأسماء وأعملته في نوع يختص بذلك النوع، كان حذف المنعوت حسنًا، كقولك: أكلت طيبًا ولبست لينًا وركبت فارها ونحوه. أقمت طويلًا وسرت سريعًا، لأن الفعل يدل على المصدر والزمان فجاز حذف المنعوت ههنا لدلالة الفعل عليه.
 
وقريب منه قوله تعالى: { ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } <ref>[ الصافات: 113 ]</ref> لدلالة الذرية عليه الموصوف بالصفة.
 
وإن كان في كلامك حكم منوط بصفة اعتمد <ref>الأصل: احتمل، والمثبت من النتائج. </ref> الكلام على تلك واستغنى عن ذكر الموصوف كقولك: مؤمن خير من كافر، وغني أحظى من فقير، والمؤمن لا يفعل كذا، ولعنة الله على الظالمين، والمؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء، وقولهم وأبيض كالمخراق. . البيت، وقول الآخر وأسمر خطي. . لأن الفخر والمدح إنما يتعلق بالصفة دون الموصوف. فمضمون هذا الفصل ينقسم خمسة أقسام:
 
نعت لا يجوز حذف منعوته كقولك لقيت سريعًا وركبت خفيفًا.
السطر 1٬725 ⟵ 1٬741:
وقسم لا يجوز فيه البتة ذكر الموصوف كقوله: دابة أبطح وأجرع. وأبرق للمكان وأسود للحية وأدهم للقيد وأخيل للطائر. فهذه في الأصول نعوت ولكنهم لا يجرونها نعتًا على منعوت فنقف عند ما وقفوا، ونترك القياس إذا تركوا.
 
==فائدة بديعة: النعت السببي==
 
إذا نعت الاسم بصفة هي لسببه ففيه ثلاثة أوجه.
السطر 1٬735 ⟵ 1٬751:
وإنما حكمنا باختلاف المعاني في هذه الوجوه الثلاثة. من حيث اختلف اللفظ فيها، لأن الأصل أن لا يختلف لفظان إلا لاختلاف المعنى، ولا يحكم باتحاد المعنى مع اختلاف اللفظ إلا بدليل. فمعنى الوجه الأول تمييز الاسم من غيره بالجملة التي بعده. ومعنى الوجه الثاني تمييز الاسم من غيره مع انجرار الوصف إليه بمدح أو ذم. ومعنى الوجه الثالث نقل الصفة كلها إلى الأول على حذف المضاف مع تبيين السبب الذي صيره، كذلك وأكثر ما يكون هذا الوجه فيما قرب سببه جدًا. نحو عظيم القدر وشريف الأب، لأن شرف الأب شرف له، وكذلك القدر والوجه، وههنا يحسن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
 
==فائدة: اكتساب المضاف التعريف من المضاف إليه==
==فائدة==
 
إن قيل: لم اكتسب المضاف التعريف من المضاف إليه، ولم يكتسب المضاف إليه التنكير من المضاف وهو مقدم عليه في اللفظ، لا سيما والتنكير أصل في الأسماء والتعريف فرع عليه؟
السطر 1٬749 ⟵ 1٬765:
قيل: وإن استفاد منه التعريف لم يستفد منه خصوصية تعريفه، وإنما اكتسب منه تعريفًا آخر كما اكتسبه من لام التعريف. ألا ترى أنه إذا أضيف إلى المضمر لم يكتسب منه الإضمار، وإذا أضيف إلى المبهم لم يكتسب منه الإبهام، فلا الأول اقتبس من الثاني خصوصية تعريفه، ولا الثاني اقتبس من الأول تنكيره والمضاف إليه في ذلك كالآلة الداخلة على الاسم.
 
==فائدة: تفسير الكلام==
 
من كلام السهيلي: الكلام هو تعبير عما في نفس المتكلم من المعاني. فإذا أضمر ذلك المعنى في نفسه أي أخفاه، ودل المخاطب عليه بلفظ خاص، سمي ذلك اللفظ ضميرًا تسمية له باسم مدلوله. ولا يقال فكان ينبغي أن يسمي كل لفظ ضميرًا على ما ذكرتم، لأن هنا مراتب ثلاثة:
السطر 1٬759 ⟵ 1٬775:
والثالث: اللفظ المعبر عن هذا الاسم الذي إذا أطلق كان المراد به ذلك الاسم بخلاف قولك زيد وعمرو. فإنه ليس ثم إلا لفظ ومعنى فخصوا اسم الضمير بما ذكرناه. والمضمرات في كلامهم ستين ضميرًا وأحوالها معلومة، لكن ننبه على أسرارها من أحكام المضمرات.
 
اعلم أن المتكلم لما استغنى عن اسم الظاهر في حال الأخبار لدلالة المشاهدة عليه جعل مكانه لفظًا يومىء به إليه وذلك اللفظ مؤلف من همزة ونون. أما الهمزة فلأن مخرجها من الصدر وهو أقرب مواضع الصوت إلى المتكلم إذ المتكلم في الحقيقة محله وراء حبل الوريد. قال الله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }، <ref>[ ق: 16 ]</ref> ، ألا تراه يقول: { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }، <ref>[ ق: 18 ]</ref> ، يعني ما يلفظ المتكلم، فدل على أن المتكلم أقرب شيء إلى حبل الوريد، فإذا كان المتكلم على الحقيقة. محله هناك وأردت من الحروف ما يكون عبارة عنه. فأولاها بذلك ما كان مخرجه من جهته، وأقرب المواضع إلى محله وليس إلا الهمزة أو الهاء، والهمزة أحق بالمتكلم لقوتها بالجهر والشدة وضعف الهاء بالخفاء فكان ما هو أجهر أقوى وأولى بالتعبير عن اسم المتكلم الذي الكلام صفة له وهو أحق بالاتصاف به.
 
 
 
وأما تآلفها مع النون؛ فلما كانت الهمزة بانفرادها لا تكون اسمًا منفصلًا كان أولى ما وصلت به النون أو بحرف المد واللين إذ هي أمهات الزوائد. ولم يمكن حروف المد مع الهمزة لذهابها عند التقاء الساكنين نحو أنا الرجل فلو حذف الحرف الثاني لبقيت الهمزة في أكثر الكلام منفردة مع لام التعريف فتلتبس بالألف التي هي أخت اللام، فيختل أكثر الكلام، فكان أولى ما قرن به النون لقربها من حرف المد واللين ثم ثبتوا النون لخفائها بالألف في حال السكت، أو بهاء في لغة من قال: إنه.
السطر 1٬801 ⟵ 1٬815:
فتأمل هذه الأسرار ولا يزهدنك فيها نبو طباغ أكثر الناس عنها، واستغناؤهم بظاهر من الحياة الدنيا عن الفكر فيها، والتنبيه عليها. فإني لم أفحص عن هذه الأسرار وخفي التعليل في الظواهر والإضمار إلا قصد التفكر، والاعتبار في حكمة من خلق الإنسان وعلمه البيان، فمتى لاح لك من هذه الأسرار سر، وكشف لك عن مكنونها فكر فاشكر الواهب للنعمى وقل: رب زدني علمًا.
 
==فائدة بديعة: اسم الإشارة==
 
الاسم من هذا الذال وحدها دون الألف على أصح القولين، بدليل سقوط الألف في التثنية والمؤنث. وخصت الذال بهذا الاسم، لأنها الخارج من طرف اللسان والمبهم مشار إليه، فالمتكلم يشير نحوه بلفظه أو بيده، ويشير مع ذلك بلسانه، فإن الجوارح خدم القلب فإذا ذهب القلب إلى شيء ذهابًا معقولًا. ذهبت الجوارح نحوه ذهابًا محسوسًا.
السطر 1٬819 ⟵ 1٬833:
وأصح من هذا أن يقال معنى الإشارة ليس هو العامل إذ الاسم الذي هو هذا ليس بمشتق من أشار يشير. ولو جاز أن تعمل أسماء الإشارة لجاز أن تعمل علامات الإضمار، لأنها أيضا إيماء وإشارة إلى مذكور. وإنما العامل فعل مضمر تقديره انظر، وأضمر لدلالة الحال عليه من التوجه واللفظ. وقد قالوا لمن الدار مفتوحًا بابها، فأعملوا في الحال معنى انظر وابصر، ودل عليه التوجه من المتكلم بوجهه نحوها وكذلك هذا بعلي شيخًا وهو قوي في الدلالة لاجتماع اللفظ مع التوجه. وإذا ثبت هذا فلا سبيل إلى تقديم الحال، لأن العامل المعنوي (لا يعمل) حتى يدل عليه الدليل اللفظي أو التوجه، أو ما شاكله.
 
==فائدة: العامل في النعت==
 
العامل في النعت هو العامل في المنعوت. وكان سيبوبه إلى هذا ذهب حين منع أن يجمع بين نعتين للاسمين إذا اتفق إعرابهما، واختلف عاملاهما نحو جاء زيد وهذا عمرو العاقلان.
السطر 1٬841 ⟵ 1٬855:
وسنبين بعد هذا إن شاء الله فصلًا عجيبًا في أن الفعل لا يعمل بنفسه إلا بثلاثة أشياء الفاعل، والمفعول به، والمصدر، أو ما هو صفة لأجل هذه الثلاثة في حيز وقوع الفعل ويخرج من هذا الفصل ظرفًا المكان والزمان والنعوت والإبدال والتوكيدات وجميع الأسماء المعمول فيها، ونقيم هنالك البراهين القاطعة على صحة هذه الدعوى.
 
==فائدة بديعة: حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفة==
 
حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفة أن تكون جارية عليها ليتفق اللفظ، وأما نصب الصفة على الحال فيضعف عندهم لاختلاف اللفظ من غير ضرورة. ورد بعض محققي النحاة هذا القول بالقياس والسماع. قال: أما القياس، فكما جاز أن يختلف المعنى في نعت المعرفة والحال، كما إذا قلت: جاء زيد الكاتب وكاتبًا بينهما من الفرق ما تراه فما المانع من الاختلاف؟ كذلك في النكرة. إذا قلت: مررت برجل كاتب أو كاتبًا، لأن الحاجة قد تدعو إلى الحال من النكرة، كما تدعو إلى الحال من المعرفة ولا فرق. وأما السماع فأكثر من أن يحصر فمنه وصلى خلفه رجال قيامًا. وأما نحو وقع أمر فجأة فحال من مصدر وقع لا من أمر، وكذلك أقبل رجل مشيًا. حال من الإقبال.
السطر 1٬861 ⟵ 1٬875:
قلت: والكلام معه في ثلاث مقامات: أحدها: ثحقيق مذهب الأخفش في أن قولك في الدار رجل ارتفاع رجل بالظرف لا بالابتداء. والمقام الثاني أن الحال من النكرة يمتنع أن يكون. حالًا من الضمير في الظرف: والمقام الثالث: الكلام فيما ذكره من الدور في المسألة النحوية وإنه ليس مطابقًا للدور في المسألة الفقهية.
 
فأما المقام الأول: فاعلم أن الأخفش مذهبه إذا تقدم الظر ف على الاسم المرفوع نحو قي الدار زيد. كان مرفوعًا ارتفاع الفاعل بفعله ومذهبه أيضا، أن المبتدأ إذا كان نكرة لا يسو غ الابتداء به إلا بتقديم الخبر عليه وجب تقديمه عليه نحو: في الدار رجل. تقديم الظرف عنده واجب وجوب تقديم الخبر على المبتدأ به وعلى هذا فلا ضمير في الظرف بحال لو كان مذهبه أن المسألتين سواء في أن الاسم مرفوع بالظرف لم يلزم سببويه أن يقول بقوله حتى يجعل الحال من النكرة، وذلك أن قولك: في الدار رجل ليس في الظرف ضمير فإنه ليس بمشتق، ولا يتحمل ضميرًا بوجه أقصى ما يقال: إن عامله وهو الاستقرار يتضمن الضمير وهذا لا يقتضي رجوع حكم الضمير إلى الظرف حتى ينصب عنه الحال، فإنه ليس واقعًا موقعه، ولا بدل من اللفظ به، . ألا ترى أنك لو صرحت بالعامل لم نستغن عن الظرف، فلو قلت: زيد مستقر، لم تستغن عن قولك في الدار. فعلم أنه إنما حذف حذفًا مستقرًا لمكان العلم به، وليس الظرف نائبًا عنه ولا واقعًا موقعه ليصح تحمله الضمير فتأمله فإنه من بديع النحو، وإذا كان كذلك فلا ضمير في الظرف فينصب عنه الحال بوجه فلم يبق معك ما يصح أن يكون صاحب الحال إلا تلك النكرة الموجودة فلهذا جعل الإمام أبو بشر وأئمة أصحابه الحال منها لا من غيرها.
 
وأما المقام الثاني: فاعلم أن الظرف إذا تقدم وقدرت فيه الضمير صار بمنزلة الفعل العامل. فإنه لا يتحمل الضمير إلا وهو بمنزلة الفعل أو ما أشبهه، وإذا صار بمنزلة الفعل وهو مقدم وجب أن يتجرد عن الضمير قضاء لحق التشبيه بالفعل وقيامه مقامه. فتعدي الضمير فيه ينافي تقديره.
السطر 1٬885 ⟵ 1٬899:
وإنما هذا من باب ما يقتضي إثباته إلى إسقاطه فهو من باب الفروع التي لا تعود على أصولها بالإبطال. وإذا بطلت أصولها بطلت هي فهي موقوفة على صحة أصولها، وصحة أصولها لا تتوقف عليها، ولكن وجه الدور في هذا أنها لو أبطلت أصولها لتوقف صحة أصولها على عدم إفسادها لها وهي متوقفة على اقتضاء أصولها لها. فجاء الدور من هذا الوجه. وكذلك نظائره.
 
==فائدة: النعت==
 
النعت إذا كان تمييزًا للمنعوت مثبتًا له لم يقطع برفع ولا نصب، لأنه من تمامه وإن كان غير تمييز له، بل هي من أداة المدح له، أو الذم المحض شاع قطعه تكررت النعوت، أو لم تتكرر. وإنما يشترط تكرر النعوت إذا كانت للتمييز والتبيين فيحصل الاتباع ببعضها ويسوغ قطع الباقي فتفطن لهذه النكتة، والذي يدلك على ذاك قول سيبويه سمعت العرب يقولون: ( الحمد لله رب العالمين ) فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية.
السطر 1٬891 ⟵ 1٬905:
وفائدة القطع من الأول أنهم إذا أرادوا تجديد مدح، أو ذم جددوا الكلام، لأن تجديد غير اللفظ الأول دليل على تجدد المعنى، وكلما كثرت المعاني وتجدد المدح كان أبلغ.
 
==فائدة بديعة: الشيء لا يعطف على نفسه==
 
القاعدة أن الشيء لا يعطف على نفسه، لأن حروف العطف بمنزلة تكرار العامل لأنك إذا قلت: قام زيد وعمرو فهي بمعنى قام زيد وقام عمرو. والثاني غير الأول فإذا وجدت مثل قولهم كذبًا ومينًا فهو لمعنى زائد في اللفظ الثاني، وإن خفي عنك.
السطر 1٬899 ⟵ 1٬913:
وأما في أسماء الرب تبارك وتعالى فأكثر ما يجيء في القرآن بغير عطف نحو السميع العليم، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، الملك القدوس، السلام إلى آخرها وجاءت معطوفة في موضعين:
 
أحدهما في أربعة أسماء: وهي { الأول والآخر والظاهر والباطن } .
 
والثاني: في بعض الصفات بالاسم الموصول مثل قوله: { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى }، <ref>[ الأعلى: 2 - 4 ]</ref> ، ونظيره: { الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون * والذي خلق الأزواج }، <ref>[ الزخرف: 10،10 11،- 12 ]</ref> ، فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء وقرب بعضها من بعض وشعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول. ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة، وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر وكذلك: { الخالق البارئ المصور }. <ref>[ الحشر: 24 ]</ref> .
 
وأما تلك الأسماء الأربعة فهي ألفاظ متباينة المعاني متضادة الحقائق في أصل موضوعها وهي متفقة المعاني متطابقة في حق الرب تعالى لا يبقى منها معنى بغيره. بل هو أول كما أنه آخر وظاهر كما أنه باطن. ولا يناقض بعضها بعضًا في حقه فكان دخول الواو صرفًا لوهم المخاطب قبل التفكر والنظر عن توهم المحال واحتمال الأضداد، لأن الشيء لا يكون ظاهرًا باطنًا من وجه واحد، وإنما يكون ذلك باعتبارين فكان العطف ههنا أحسن من تركه لهذه الحكمة هذا جواب السهيلي.
السطر 1٬913 ⟵ 1٬927:
والذي يوضح لك ذلك أنه إذا كان للبلد مثلًا قاض وخطيب وأمير فاجتمعت في رجل حسن أن تقول: زيد هو الخطيب والقاضي والأمير وكان للعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد. فعطف الصفات ههنا أحسن قطعًا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره.
 
وأما قوله تعالى: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو } <ref>[ غافر: 3 ]</ref> فعطف في الاسمين الأولين دون الآخرين. فقال السهيلي: إنما حسن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال وفعله سبحانه في غيره، لا في نفسه. فدخل حرف العطف للمغايرة الصحيحة بين المعنيين ولتنزلهما منزلة الجملتين، لأنه يريد تنبيه العياد على أنه يفعل هذا، ويفعل هذا ليرجوه ويؤملوه، ثم قال: { شديد العقاب } <ref>[ غافر: 3 ]</ref> بغير واو، لأن الشدة راجعة إلى معنى القوة والقدرة وهو معنى خارج عن صفات الأفعال فصار بمنزلة قوله: { العزيز العليم }، <ref>[ النمل: 78 ]</ref> ، وكذلك قوله: { ذي الطول } <ref>[ غافر: 3 ]</ref> لأن لفظ ذي عبارة عن ذاته.
 
هذا جوابه، وهو كما ترى غير شاف، ولا كاف. فإن شدة عقابه من صفات الأفعال. وطوله من صفات الأفعال، ولفظه ذي فيه لا تخرجه عن كونه صفة فعل كقوله: { عزيز ذو انتقام }، <ref>[ آل عمران: 4 ]</ref> ، بل لفظ الوصف بغافر وقابل أدل على الذات من الوصف بذي، لأنها بمعنى صاحب كذا. فالوصف المشتق أدل على الذات من الوصف بها فلم يشف جوابه، بل زاد السؤال سؤالًا.
 
فاعلم أن هذه الجملة مشثملة على ستة أسماء كل اثنين منها قسم. فابتدأها بالعزيز العليم وهما اسمان مطلقان، وصفتان من صفات ذاته، وهما مجردان على العاطف.
السطر 1٬921 ⟵ 1٬935:
ثم ذكر بعدهما اسمين من صفات أفعاله، فأدخل بينهما العاطف، ثم ذكر اسمين آخرين بعدهما وجردهما من العاطف، فاما الأولان فتجردهما من العاطف لكونهما مفردين صفتين جاريتين على اسم الله وهما متلازمان. فتجريدهما عن العطف هو الأصل وهو موافق لبيان ما في الكتاب العزيز من ذلك، كالعزيز العليم، والسميع والبصير والغفور الرحيم.
 
وأما: { غافر الذنب وقابل التوب } <ref>[ غافر: 3 ]</ref> فدخل العاطف بينهما، لأنهما في معنى الجملتين وإن كانا مفردين لفظًا فهما يعطيان معنى يغفر الذنب ويقبل التوب أي هذا شأنه ووصفه في كل وقت فأتى بالاسم الدال على أن وصفه ونعته المتضمن لمعنى الفعل الدال على أنه لا يزال يفعل ذلك فعطف أحدهما على الآخر على نحو عطف الجمل بعضها على بعض، ولا كذلك الاسمان الأولان، ولما لم يكن الفعل ملحوظًا في قوله: { شديد العقاب ذي الطول إذ لا يحسن وقوع الفعل فيهما وليس في لفظ ( ذي ) ما يصاغ منه فعل جرى مجرى المفردين من كل وجه، ولم يعطف أحدهما على الآخر كما لم يعطف في العزيز العليم، فتأمله فإنه واضح.
 
وأما العطف في قوله: { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } <ref>[ الأعلى: 2، 3 ]</ref> فلما كان المقصود الثناء عليه بهذه الأفعال وهي جملة دخلت الواو عاطفة جملة على جملة وإن كانت الجملة مع الموصول في تقدير المفرد. فالفعل مراد مقصود، والعطف يصير كلًا منها جملة مستقلة مقصودة بالذكر بخلاف ما لو أتى بها في خبر موصول واحد فقيل: { الذي جعل لكم الأرض مهدا } و { نزل من السماء ماء } و { خلق الأزواج كلها } <ref>[ الزخرف: 10، 11، 12 ]</ref> كانت كلها في حكم جملة واحدة. فلما غاير بين الجمل بذكر الاسم الموصول مع كل جملة دل على أن المقصود وصفه بكل من هذه الجمل على حدتها وهذا قريب من باب قطع النعوت، والفائدة هنا كالفائدة ثم وقد تقدمت الإشارة إليها فراجعها، بل قطع النعوت. إنما كان لأجل هذه الفائدة فذلك المقدر في النعوت المقطوعة لهذا المحقق به وأنعم، فإنه ذو الطول والإحسان.
 
==تتمة==
 
تأمل كيف وقع الوصف بشديد العقاب بين صفتي رحمة قبله وصفة رحمة بعده. فقبله: { غافر الذنب وقابل التوب } وبعده: { ذي الطول }، <ref>[ غافر: 3 ]</ref> ، ففي هذا تصديق الحديث الصحيح وشاهد له وهو قوله {{صل}}: «إن الله كتب كتابًا فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي»، وفي لفظ: «سبقت غضبي»، وقد سبقت صفتا الرحمة هنا وغلبت.
 
وتأمل كيف افتتح الآية بقوله: { تنزيل الكتاب } <ref>[ غافر: 2 ]</ref> والتنزيل يستلزم علو المنزل من عنده لا تعقل العرب من لغتها. بل ولا غيرها من الأمم السليمة الفطرة إلا ذلك. وقد أخبر أن تنزيل الكتاب منه. فهذا يدل على شيئين: أحدهما: علوه تعالى على خلقه. والثاني: أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده لا غيره. فإنه أخبر أنه منه. وهذا يقتضي أن يكون منه قولًا كما أنه منه تنزيلًا فإن غيره. لو كان هو ا لمتكلم به لكان الكتاب من ذلك الغير فإن الكلام، إنما يضاف إلى المتكلم به.
 
ومثل هذا: { ولكن حق القول مني }، <ref>[ السجدة: 13 ]</ref> ، ومثله: { قل نزله روح القدس من ربك }، <ref>[ النحل: 102 ]</ref> ، ومثله: { تنزيل من حكيم حميد } <ref>[ فصلت: 42 ]</ref> فاستمسك بحرف من في هذه المواضع فإنه يقطع حجج شعب المعتزلة والجهمية.
 
وتأمل كيف قال تعالى: { تنزيل من ولم يقل تنزيله فتضمنت الآية إثبات علوه وكلامه وثبوت الرسالة ثم قال: { العزيز العليم } <ref>[ فصلت: 12 ]</ref> فتضمن هذان الإسمان صفتي القدرة والعلم وخلق أعمال العباد وحدوث كل ما سوى الله لأن القدرة هي قدرة الله كما قال أحمد بن حنبل فتضمنمت إثبات القدر، ولأن عزته تمنع أن يكون في ملكه ما لا يشاؤه، أو أن يشاء ما لا يكون فكان عزته تبطل ذلك. وكذلك كمال قدرته توجب أن يكون خالق كل شيء. وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه، لأن كمال قدرته وعزته يبطل ذلك.
 
ثم قال تعالى: غافر الذنب وقابل التوب، والذنب مخالفة شرعه وأمره، فتضمن هذان الإسمان إثبات شرعه وإحسانه وفضله، ثم قال: شديد العقاب، وهذا جزاؤه للمذنبين وذو الطول جزاؤه للمحسنين فتضمنت الثواب والعقاب.
 
ثم قال تعالى: { لا إله إلا هو إليه المصير }، <ref>[ غافر: 3 ]</ref> ، فتضمن ذلك التوحيد والمعاد.
 
فتضمنت الآيتان إثبات صفة العلو والكلام والقدرة والعلم والقدر وحدوث العالم والثواب والعقاب والتوحيد والمعاد. وتنزيل الكتاب منه على لسان رسوله يتضمن الرسالة والنبوة، فهذه عشرة قواعد الإسلام والإيمان تجلي على سمعك في هذه الآية العظيمة، ولكن * خود تزف إلى ضرير مقعد *
السطر 1٬943 ⟵ 1٬957:
فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها، وسماعك إياها. وهكذا سائر آيات القرآن، فما أشدها من حسرة وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم يخرج من الدنيا، وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه. فالله المستعان.
 
==فائدة جليلة: تقدير العامل في المعطوف==
 
 
==فائدة جليلة==
 
العامل في المعطوف مقدر في معنى المعطوف عليه، وحرف العطف أغنى عن إعادته وناب منابه، وإنما قلنا ذلك للقياس والسماع.
السطر 1٬955 ⟵ 1٬967:
بل بنو النجار إن لنا ** فيهم قتلى وإن تره
 
يريد: لنا فيهم قتلى وترة، وهذا مطرد في سائر حروف العطف ما لم يمنع مانع كما منع في المعطوف على اسم لا يصح انفراده عنه نحو: اختصم زيد وعمرو، وجلست بين زيد وعمرو. فإن الواو هنا تجمع بين الاسمين في العالم. فكأنك قلت: اختصم هذان واجتمع الرجلان في قولك: اجتمع زيد وعمرو. ومعرفة هذه الواو أصل يبنى عليه فروع كثيرة فمنها. أنك تقول: رأيت الذي قام زيد وأخوه، على أن تكون الواو جامعة وإن كانت عاطفة لم يجز، لأن التقدير يصير قام زيد وقام أخوه فخلت الصلة من العائد. ومنها قوله سبحانه: { وجمع الشمس والقمر } <ref>[ القيامة: 9 ]</ref> غلب المذكر على المؤنث لاجتماعهما، ولو قلت طلع الشمر والقمر لقبح ذلك، كما يقبح قام هند وزيد إلا أن تريد الواو الجامعة لا العاطفة، وأما في الآية فلا بد أن تكون الواو جامعة، ولفظ الفعل يقتضي ذلك.
 
وأما الفاء فهي موضوعة للتعقيب وقد تكون للتسبيب والترتيب وهما راجعان إلى معنى التعقيب، لأن الثاني بعدهما أبدًا. إنما يجيء في عقب الأول، فالسبب نحو ضربته فبكى. والترتيب: { أهلكناها فجاءها بأسنا } <ref>[ الأعراف: 4 ]</ref> دخلت الفاء لترتيب اللفظ، لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر لأن الاهتمام به أولى وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود. ومن هذا:
 
إن من ساد، ثم ساد أبوه ** ثم قد ساد بعد ذلك جده
السطر 1٬967 ⟵ 1٬979:
أحدهما: أن يكون المراد بالإهلاك إرادة الهلاك. وعبر بالفعل عن الإرادة وهو كثير فترتب مجيء البأس على الإرادة ترتب المراد على الإرادة.
 
والثاني: وهو ألطف أن يكون الترتيب ترتيب تفصيل على جملة. فذكر الإهلاك ثم فصله بنوعين أحدهما مجيء البأس بياتًا أي ليلًا. والثاني: مجيئه وقت القائلة، وخص هذين الوقتين، لأنهما وقت راحتهم وطمأنيتهم، فجاءهم بأس الله أسكن ما كانوا وأروحه في وقت طمأنينتهم وسكونهم على عادته سبحانه في أخذ الظالم في وقت بلوغ آماله وكرمه وفرحه وركونه إلى ما هو فيه. وكذلك قوله تعالى: { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا }. <ref>[ يونس: 24 ]</ref> . والمقصود أن الترتيب هنا، ترتيب التفصيل على الجمل وهو ترتيب علمي لا خارجي، فإن الذهن يشعر بالشيء جملة أولًا، ثم يطلب تفصيله بعد ذلك. وأما في الخارج فلم يقع إلا مفصلًا، فتأمل هذا الموضع الذي خفي على كثير من الناس حتي ظن أن الترتيب في الآية كترتيب الأخبار. أي: إنا أخبرناكم بهذا قبل هذا.
 
وأما قوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } <ref>[ النحل: 98 ]</ref> فعلى ما ذكرنا من التعبير عن إرادة الفعل بالفعل هذا هو المشهور.
 
وفيه وجه ألطف من هذا، وهو أن العرب تعبر بالفعل عن ابتداء الشروع فيه تارة، وتعبر عن انتهائه تارة، فيقولون: فعلت عند الشروع، وفعلت عند الفراغ وهذا استعمال حقيقي وعلى هذا فيكون معنى قرأت في الآية ابتداء الفعل أي إذا شرعت وأخذت في القراءة فاستعذ فالاستعاذة مرتبة على الشروع الذي هو مبادىء الفعل ومقدمته وطليعته. ومنه قوله: فصلى الصبح حتى طلع الفجر أي أخذ في الصلاة عند طلوعه.
السطر 1٬981 ⟵ 1٬993:
وأما قوله: وصلى الظهر من الغد حين صار ظل الرجل مثله، فقيل: المراد به الفراغ منها أي فرغ منها في هذا الوقت، وقيل: المراد به الابتداء أي أخرها إلى هذا الوقت بيانًا لا آخر الوقت وعلى هذا. فتمسك به أصحاب مالك في مسألة الوقت المشترك والكلام في هذه المسائل ليس هذا موضعه.
 
==فصل: حتى==
 
وأما حتى. فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها، وغاية كل شيء حده. وذلك كان لفظها كلفظ الحد فإنها حاء قبل تاءين. كما أن الحد حاء قبل دالين والدال كالتاء في المخرج والصفة إلا في الجهر فكانت لجهرها أولى بالاسم لقوته. والتاء لهمسها أولى بالحرف لضفه ومن حيث كانت حتى كانت للغاية خفضوا بها كما يخفضون بإلى التي للغاية والفرق بينهما أن حتى غاية لما قبلها وهو منه وما بعد إلى ليس مما قبلها بل عنده انتهى من قبل الحرف، ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها ولم تكن إلى عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها بخلاف حتى. ومن ثم دخلت حتى في حروف. العطف ولم يجز دخولها على المضمر المخفوض. إذا كانت خافضة لا تقول قام القوم حتاك، كما لا تقول قاموا وك، ومن حيث كانت ما بعدها غاية لما قبلها لم يجز في العطف قام زيد حتى عمرو، ولا أكلت خبزًا حتى تمرًا، لأن الثاني ليس بحد للأول ولا ظرف.
 
==تنبيه==
 
ليس المراد من كون حتى لانتهاء الغاية وإن ما بعدها ظرفًا. أن يكون متأخرًا في الفعل عما قبلها، فإذا قلت: مات الناس حتى الأنبياء، وقدم الحاج حتى المشاه لم يلزم تأخر موت الأنبياء عن الناس، وتأخر قدوم المشاة عن الحاج.
 
ولهذا قال بعض الناس: إن حتى مثل الواو لا تخالفها إلا في شيئين. أحدهما: أن يكون المعطوف من قبيل المعطوف عليه فلا تقول: قدم الناس حتى الخيل بخلاف الواو. الثاني: أن تخالفه بقوة أو ضعف أو كثرة أو قلة، وأما أن يفهم منها الغاية والحد فلا والذي حمله على ذلك ما تقدم من المثالين، ولكن فاته أن يعلم المراد بكون ما بعدها غاية وظرفًا. فاعلم أن المراد به أن يكون غاية في المعطوف عليه لا في الفعل. فإنه يجب أن يخالفه في الأشد والأضعف والقلة والكثرة. وإذا فهمت هذا، فالأنبياء غاية للناس في الشرف والفضل، والمشاة غاية للحجاج في الضعف والعجز وأنت إذا قلت: أكلت السمكة حتى رأسها. فالرأس غاية لانتهاء السمكة، وليس المراد أن غاية أكلك كان الرأس فلا يجوز أن يتقدم أكلك للرأس. . وهذا مما أغفله كثير من النحويين لم ينبهوا عليه.
 
==فائدة: أو للدلالة على أحد الشيئين==
 
"أو" وضعت للدلالة على أحد الشيئين المذكورين معها ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث كان الشك ترددًا بين أمرين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر لا إنهاأنها وضعت للشك. فقد تكون في الخبر الذي لا شك فيه. إذا أبهمت على المخاطب ولم تقصد أن تبين له كقوله سبحانه: { إلى مائة ألف أو يزيدون }. <ref>[ الصافات: 47 ]</ref> . أي أنهم من الكثرة بحيث يقال فيهم: هم مائة ألف أو يزيدون. فأو على بابها دالة على أحد الشيئين. إما مائة ألف بمجردها وإما مائة ألف مع زيادة. والمخبر في كل هذا لا يشك.
 
وقوله: { فهي كالحجارة أو أشد قسوة }، <ref>[ البقرة: 74 ]</ref> ، ذهب في هذه الزجاج كالتي في قوله: { أو كصيب من السماء }، <ref>[ البقرة: 19 ]</ref> ، إلى أنها أو التي للإباحة أي أبيح للمخاطبين أن يشبهوا بهذا أو هذا، وهذا فاسدفاسد، فإن أو لم توضع للإباحة في شيء من الكلام، ولكنها على بابها. أما قوله: { أو كصيب من السماء } فإنه تعالى ذكر مثلين مضروبين للمنافقين في حالتين مختلفتين. فهم لا يخلون من أحد الحالتين فأو على بابها من الدلالة على أحد المعنيين. وهذا كما تقول: زيد لا يخلو أن يكون في المسجد، أو الدار ذكرت، أو لأنك أردت أحد الشيئين. وتأمل الآية بما قبلها وافهم المراد منها تجد الأمر كما ذكرت لك، وليس المعنى ابحت لكم أن تشبهوهم بهذا وهذا.
 
وأما قوله: فهي كالحجارة أو أشد قسوة فإنه ذكر قلوبًا ولم يذكر قلبًا واحدًا. فهي على الجملة قاسية أو على التعيين لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون كالحجارة. وإما أن تكون أشد قسوة. ومنها ما هو كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة منها، ومن هذا قول الشاعر:
السطر 2٬005 ⟵ 2٬017:
وأما أو التي للتخيير فالأمر فيها ظاهر.
 
وأما "أو" التي زعموا أنها للإباحة نحو جالس مر الذي هو للإباحة ويدل على هذا أن القائلين بأنها للإباحة يلزمهم أن يقولوا إنها للوجوب إذا دخلت بين شيئين لا بد من أحدهما نحو قولك للمكفر أطعم عشرة مساكين، أو اكسهم، فالوجوب هنا لم يوجد من "أو" وإنما اخذ من الأمر. فكذا جالس الحسن أو [[ابن سيرين]].
 
==فصل: لكن==
 
وأما لكن فقال السهيلي: أصح القولين فيها أنها مركبة من لا وإن وكاف الخطاب في قول الكوفيين. قال السهيلي: وما أراها إلا كاف التشبيه، لأن المعنى يدل عليها. إذا قلت: ذهب زيد، لكن عمرو مقيم تريد لا ينتقل عمرو فلا لتوكيد النفي عن الأول. وإن لإيجاب الفعل الثاني وهو النفي عن الأول، لأنك ذكرت الذاهب الذي هو ضده فدل على انتفائه به.
السطر 2٬039 ⟵ 2٬051:
قيل لك: وأي شيء يكون حينئذ إعراب عمرو وهو اسم مفرد ولم يدخل عليه عاطف يعطف على ما قبله. فهذا لا يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي بخبر. فتقول: ما قام زيد لا عمرو هو القائم. وإما إن أردت تشريكهما في النفي فلا بد من الواو إما وحدها. وإما مع لا فلا تكون الواو عاطفة ومعها لا.
 
وأما قوله: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، فإن معنى النفي موجود في غير.
 
فإن قيل: فهلا قال: لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
السطر 2٬047 ⟵ 2٬059:
فإن قيل: وأي شيء أكدت لا حتى أدخلت عليها الواو وقد قلت إنها لا تؤكد المنفي المتقدم، وإنما تؤكد نصبًا يدل عليه اختصاص الفعل الواجب بوصف ما كقولك: جاءني رجل عالم لا جاهل.
 
فالجواب إنكأنك حين قلت: ما جاءني زيد، لم يدل الكلام على نفي المجيء عن عمرو كما تقدم. فلما عطفت بالواو دل الكلام على انتفاء الفعل عن عمرو كما انتفى عن الأول لقيام الواو مقام تكرار حرف النفي، فدخلت لا لتوكيد النفي عن الثاني.
 
==فائدة بديعة: أم على ضربين==
 
"أمأمْ" تكون على ضربين؛ متصلة وهي المعادلة لهمزة الاستفهام وإنما جعلوها معادلة للهمزة دون هل ومتى وكيف، لأن الهمزة هي أم الباب والسؤال بها استفهام بسيط مطلق غير مقيد بوقت ولا حال، والسؤال بغيرها استفهام مركب مقيد، إما بوقت كمتى، وإما بمكان كأين، وإما بحال نحو كيف، وإما بنسبة نحو هل زيد عندك. ولهذا لا يقال "كيف زيد أم عمرو"، ولا "أين زيد أم عمرو"، ولا "من زيد أم عمرو".
 
وأيضا فلأن الهمزة وأم يصطحبان كثيرًا كقوله تعالى: { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم }، <ref>[ البقرة: 6 ]</ref> ، ونحو قوله تعالى: { أأنتم أشد خلقًا أم السماء }. <ref>[ النازعات: 27 ]</ref> .
 
وأيضا فلأن اقتران أم بسائر أدوات النفي غير الهمزة يفسد معناها فإنك إذا قلت كيف زيد فأنت سائل عن حاله. فإذا قلت: أم عمرو كان خلفًا من الكلام، وكذلك إذا قلت: من عندك فأنت سائل عن تعيينه، فإذا قلت: أم عمرو فسد الكلام، وكذلك الباقي.
السطر 2٬073 ⟵ 2٬085:
وسر ذلك كله أن السؤال قام عن تعيين أحد الأمرين أو للأمر. فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو كأنك قلت: أيهما عندك وإذا قلت: أزيد عندك؟ أم عندك عمر؟ وكان كل واحد منهما جملة مستقلة بنفسها، وإن سائل هل عنده زيد أو لا، ثم استأنفت سؤالا آخر هل عندك عمرو أم لا. فتأمله فإنه من دقيق النحو وفقهه، ولذلك سميت متصلة لاتصال ما بعدها بما قبلها وكونه كلامًا واحد.
 
وفي السؤال بها معادلة وتسوية، فأما المعادلة فهي بين الاسمين أو الفعلين، لأنك جعلت الثاني عديل الأول في وقوع الألف على الأول، وأم على الثاني. وأما التسوية فإن الشيئين المسؤول عن تعيين أحدهما مستويان في علم السائل وعلى هذا فقوله تعالى: { أأنتم أشد خلقًا أم السماء بناها } <ref>[ النازعات: 27 ]</ref> ، هو على التقرير والتوبيخ والمعنى أي المخلوقين أشد خلقًا وأعظم. ومثله: { أهم خير أم قوم تبع }. <ref>[ الدخان: 37 ]</ref> .
 
فإن قيل: هذا ينقض ما أصلتموه فإنكم ادعيتم أنها إنما يسأل بها عن تعيين ما علم وقوعه، وهنا لا خير فيهم ولا في قوم تبع.
السطر 2٬081 ⟵ 2٬093:
فتقول: أنت خير أم فلان؟ وقد عاقبته بهذا الذنب ولست خيرًا منه.
 
==فصل: أم المنقطعة للإضراب==
 
وأما أم التي للإضراب وهي المنقطعة فإنها قد تكون أم إضرابًا، ولكن ليس بمنزلة بل كما زعم بعضهم، ولكن إذا مضي كلامك على اليقين، ثم أدركك الشك مثل قولهم إنها لا بل أم شاء كأنك أضربت عن اليقين ورجعت إلى الاستفهام حين أدركك الشك.
السطر 2٬087 ⟵ 2٬099:
ونظيره قول الزباء: * عسى الغوير أبؤسا * فتكلمت بعسى الغوير، ثم أدركها اليقين فختمت كلامها بحكم ما غلب على ظنها لا بحكم عسى، لأن عسى لا يكون خبرها اسمًا عن حدث فكأنها لما قالت: عسى الغوير قالته متوقعة شرًا تريد الإخبار بفعل مستقبل متوقع كما تقتضيه عسى، ثم هجم عليها اليقين فعدلت إلى الإخبار باسم حدث يقتضي جملة ثبوتية محققة. فكأنها قالت: أصار الغوير؟ أبؤسا؟ فابتدأت كلامها على الشك، ثم ختمته بما يقتضي اليقين والتحقيق.
 
فكذا أم إذا قلت: إنها لأبل ابتدأت كلامك باليقين والجزم، ثم أدركك الشك في أثنائه فاتيت بام الدالة على الشك فهو عكس طريقة عسى الغوير أبؤسا، ولذلك قدرت ببل لدلالتها على الاضراب، فإنك أضربت عن الخبر الأول إلى الاستفهام والشك. فإنك أخبرت أولا عما توهمت، ثم أدركك الشك فأضربت عن ذلك الإخبار. وإذا وقع بعد أم هذا الاسم المفرد فلا بد من تقدير مبتدأ محذوف وهمزة استفهام. فإذا قلت: إنها لا بل أم شاء كان تقديره لا بل أهي شاء وليس الثاني خبرًا ثبوتيًا كما توهمه بعضهم وهو من أقبح الغلط. والدليل عليه قوله تعالى: { أم له البنات ولكم البنون }. <ref>[ الطور: 39 ]</ref> . ، وقوله تعالى: { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين }، <ref>[ الزخرف: 16 ]</ref> ، وقوله تعالى: { أم لهم إله غير الله أم لهم سلم يستمعون فيه }، <ref>[ الطور: 38 ]</ref> ، { أم لكم سلطان مبين } <ref>[ الصافات: 156 ]</ref> { أم خلقوا من غير شيء }، <ref>[ الطور: 35 ]</ref> ، فهذا ونحوه يدلك على أن الكلام بعدها استفهام محض وأنه لا يقدر ببل وحدها، ولا يقدر أيضا بالهمزة وحدها. إذ لو قدر بالهمزة وحدها لم يكن بينه وبين الأول علقة، لأن الأول خبر، وأم المقدرة بالهمزة وحدها لا تكون إلا بعد استفهام، فتأمله.
 
هذا شرح كلام التحاة وتقريره في هذا الحرف. والحق أن يقال: إنها على بابها، وأصلها الأول من المعادلة والاستفهام حيث وقعت وإن لم يكن قبلها أداة استفهام في اللفظ وتقديرها ببل. والهمزة خارج عن أصول اللغة والعربية فإن أم للإستفهامللاستفهام وبل للإضراب ويا بعد ما بينهما والحروف لا يقوم بعضها مقام بعض على أصح الطريقتين. وهي طريقة إمام الصناعة والمحققين من أتباعه. ولو قدر قيام بعضها مقام بعض فهو فيما تقارب معناهما كمعنى على وفي ومعنى إلى ومع. ونظائر ذلك، وأما في ما لا جامع بينهما فلا. ومن هنا كان زعم من زعم أن لا قد تأتي بمعنى الواو باطلًا لبعد ما بين معنيهما، وكذلك أو بمعنى الواو فأين معنى الجمع بين الشيئين إلى معنى الإثبات لأحدهما؟ وكذلك مسألتنا أين معنى أم من معنى بل، فاسمع الآن فقه المسألة وسرها:
 
اعلم أن ورود أم هذه على قسمين. أحدهما ما تقدمه استفهام صريح بالهمزة وحكمها ما تقدم وهو الأصل فيها والأخية التي يرجع إليها ما خرج عن ذلك كله. والثاني ورودها مبتدأة مجردة من استفهام لفظي سابق عليها نحو قوله تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا }، <ref>[ الكهف: 9 ]</ref> ، وقوله تعالى: { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون }، <ref>[ الطور: 30 ]</ref> ، وقوله: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة }، <ref>[ البقرة: 214 ،214، آل عمران: 142 ]</ref> ، { أم لم يعرفوا رسولهم }، <ref>[ الزخرف: 52 ]</ref> ، { أم اتخذ مما يخلق بنات }، <ref>[ المؤمنون: 69 ]</ref> ، { أم له البنات }، <ref>[ الطور: 39 ]</ref> ، { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } <ref>[ الزخرف: 52 ]</ref> { أم أنزلنا عليهم سلطانًا }، <ref>[ الروم: 35 ]</ref> ، وهو كثير جدًا تجد فيه أم مبتدأ بها ليس قبلها استفهام في اللفظ، وليس هذا استفهام استعلام بل تقريع وتوبيخ وإنكار. وليس بإخبار فهو إذًا متضمن لاستفهام سابق مدلول عليه بقوة الكلام وسياقه ودلت أم عليه لأنها لا تكون إلا بعد تقدم استفهام كأنه يقول: أيقولون صادق أم يقولون شاعر، وكذلك أم يقولون تقوله أي أتصدقونه أم تقولون تقوله. وكذلك: { أم حسبت أن أصحاب الكهف }، <ref>[ الكهف: 9 ]</ref> ، أي أبلغك خبرهم أم حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجبًا. وتأمل كيف تجد هذا المعنى باديًا على صفحات قوله تعالى: { ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين }، <ref>[ النمل: 20 ]</ref> ، كيف تجد المعنى: أحضَرَ أم كان من الغائبين. وهذا بظهر كل الظهور فيما إذا كان الذي دخلت عليه أم له ضد وقد حصل التردد بينهما، فإذا ذكر أحدهما استغنى به عن ذكر الآخر، لأن الضد يخطر بالقلب وهو عند شعوره بضده.
 
فإذا قلت: ما لي لا أرى زيدًا أم هو في الأموات كان المعنى الذي لا معنى للكلام سواه، أحي هو أم في الأموات؟ وكذلك قوله تعالى: { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } <ref>[ الزخرف: 52 ]</ref> معناه أهو خير مني أم أنا خير منه. وكذلك قوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم }، <ref>[ البقرة: 214 ]</ref> ، هو استفهام إنكار معادل لاستفهام مقدر في قوة الكلام، فإذا قلت: لم فعلت هذا أم حسبت أن لا أعاقبك؟ كان معناه أحسبت أن أعاقبك فأقدمت على العقوبة، أم حسبت أني لا أعاقبك فجهلتها.
 
وكذلك قوله: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم }، <ref>[ آل عمران: 142 ]</ref> ، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد فتكونوا جاهلين أم لم تحسبوا ذلك فتكونوا مفرطين. وكذلك إذا قلت: أم حسبت أن تنال العلم بغير جد واجتهاد معناه أحسبت أن تناله بالبطالة والهوينا؟ فأنت جاهل، أم لم تحسب ذلك؟ فأنت مفرط.
 
وكذلك: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات }، <ref>[ الجاثية: 21 ]</ref> ، أي أحسبوا هذا فهم مغترون أم لم يحسبوه فما لهم مقيمون على السيئات، وعلى هذا سائر ما يرد عليك من هذا الباب.
 
وتأمل كيف يذكر سبحانه القسم الذي يظنونه ويزعمونه فينكره عليهم وإنه مما لا ينبغي أن يكون ويترك ذكر القسم الآخر الذي لا يذهبون إليه. فتردد الكلام بين قسمين فيصرح بإنكار أحدهما وهو الذي سيق لإنكاره، ويكتفي منه بذكر الآخر. وهذه طريقة بديعة عجيبة في القرآن نذكرها في باب الأمثال وغيرها، وهي من باب الاكتفاء عن غير الأهم بذكر الأهم لدلالته عليه. فأحدهما مذكور صريحًا والآخر ضمنًا. ولذلك أمثلة في القرآن يحذف منها الشيء للعلم بموضعه.
 
فمنها قوله تعالى: { وإذ قلنا }، <ref>[ البقرة: 34 وغيرها ]</ref> ، { وإذ نجيناكم }، <ref>[ البقرة: 49 ]</ref> ،{ وإذ فرقنا }، <ref>[ البقرة: 50 ]</ref> ، وإذ فعلنا وهو كثير جدًا بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في إذ، لأن الكلام في سياق تعداد النعم وتكرار الأقاصيص فيشير بالواو العاطفة إليها كانها مذكورة في اللفظ لعلم المخاطب بالمراد. ولما خفي هذا على بعض ظاهرية النحاة قال: إن أو زائدة هنا، وليس كذلك.
 
ومن هذا الباب الواو المتضمنة معنى رب. فإنك تجدها في أول الكلام كثيرًا إشارة منهم إلى تعداد المذكور بعدها من فخر، أو مدح، أو غير ذلك. فهذه كلها معان مضمرة في النفس وهذه الحروف عاطفة عليها، وربما صرحوا بذلك المضمر كقول ابن مسعود: دع ما في نفسك وإن أفتوك عنه وأفتوك.
 
ومن هذا الباب حذف كثير من الجوابات في القرآن لدلالة الواو عليها لعلم المخاطب أن الواو عاطفة ولا يعطف بها إلا على شيء كقوله تعالى: { فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب }، <ref>[ يوسف: 15 ]</ref> ، وكقوله تعالى: { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } <ref>[ الزمر: 73 ]</ref> وهذا الباب واسع في اللغة.
 
فهذا ما في هذه المسألة، وكان قد وقع لي هذا بعينه أمام المقام بمكة وكان يجول في نفسي فأضرب عنه صفحًا، لأني لم أره في مباحث القوم، ثم رأيته بعد لفاضلين من النحاة. أحدهما حام حوله وما ورد ولا أعرف اسمه. والثاني أبو القاسم السهيلي رحمه الله فإنه كشفه وصرح به. وإذا لاحت الحقائق فكن أسعد الناس بها وإن جفاها الأغمار. والله الموفق للصواب.
 
==فائدة بديعة: لا يجوز إضمار حرف العطف==
 
لا يجوز إضمار حرف العطف خلافًا للفارسي ومن تبعه لأن الحروف أدلة على معان في نفس المتكلم فلو أضمرت لاحتاج المخاطب إلى وحي يسفر له عما في نفس مكلمه. وحكم حروف العطف في هذا حكم حروف النفي والتوكيد والترجي والتمني وغيرهم اللهم إلا أن حروف الاستفهام قد يسوغ إضمارها في بعض المواطن لأن للمستفهم هيئة تخالف هيئة المخبر وهذا على قلته.
السطر 2٬121 ⟵ 2٬133:
قيل: ليس كذلك، وليس حرف العطف مرادًا هنا البتة. ولو كان مرادًا لانتقض الغرض الذي أراده الشاعر، لأنه لم يرد انحصار الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة عليهما. بل أراد أن تكرار هاتين الكلمتين دائمًا يثبت المودة، ولولا حذف الواو لانحصر إثبات الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة ولا استمرار عليها، ولم يرد الشاعر ذلك، وإنما أراد أن يجعل أول الكلام ترجمة على سائر الباب يريد الاستمرار على هذا الكلام والمواظبة عليه. كما تقول: قرأت ألفًا بابا جمعت هذه الحروف ترجمة لسائر الباب وعنوانًا للغرض المقصود. ولو قلت قرأت ألفًا وباء لأشعرت بانقضاء المقروء حيث عطفت الباء على الألف دون ما بعدها، فكان مفهوم الخطاب أنك لم تقرأ غير هذين الحرفين.
 
وأحسن من هذا أن يقال: دخول الواو هنا يفسد المعنى، لأن المراد أن هذا اللفظ وحده يثبت الود وهذا وحده يثبته بحسب اللقاء فأيهما وجد مقتضيه وواظب عليه أثبت الود ولو أدخل الواو لكان لا يثبت الود إلا باللفظين معًا. ونظير هذا أن تقول: أطعم فلانًا شيئًا فيقول: ما أطعمه؟ فيقول: أطعمه تمرًا أقطا زبيبًا لحمًا، لم ترد جمع ذلك، بل أردت أطعمه واحدًا من هذه أيهما تسير. ومنه الحديث الصحيح المرفوع: «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره»، ومنه قول عمر: صلى رجل في إزار ورداء في سراويل ورداء في تبان ورداء. . الحديث. يتعين ترك العطف في هذا كله لا المراد الجمع.
 
فإن قيل: فما تقولون: في قولهم أضرب زيدًا عمرًا خالدًا أليس على حذف الواو؟
السطر 2٬127 ⟵ 2٬139:
قيل: ليس كذلك إذ لو كان على تقدير الواو لاختص الأمر بالمذكورين ولم يعدهم إلى سواهم، وإنما المراد الإشارة بهم إلى غيرهم. ومنه قولهم: بوبت الكتاب بابًا بابًا وقسمت المال درهمًا درهمًا وليس على إضمار حرف العطف ولو كان كذلك، لانحصر الأمر في درهمين وبابين.
 
وأما ما احتجوا به من قوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه }، <ref>[ التوبة: 92 ]</ref> ، والذي دعاهم إلى ذلك أن جواب إذا هو قوله تعالى: { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع } <ref>[ التوبة: 92 ]</ref> والمعنى، إذا أتوك ولم يكن عندك ما تحملهم عليه تولوا يبكون فيكون الواو في قلت مقدرة، لأنها معطوفة على فعل الشرط وهو أتوك هذا تقرير احتجاجهم ولا حجة فيه لأنه جواب إذا في قوله قلت لا أجد. والمعنى إذا أتوك لتحملهم لم يكن عندك ما تحملهم عليه فعبر عن هذا بقوله قلت: لا أجد ما أحملكم عليه لنكتة بديعة وهي الإشارة إلى تصديقهم له، وأنهم اكتفوا من علمهم بعدم الإمكان بمجرد إخباره لهم بقوله: { لا أجد ما أحملكم عليه } <ref>[ التوبة: 92 ]</ref> بخلاف ما لو قيل: لم يجدوا عندك ما تحهلهم عليه فإنه يكون تبيين حزنهم خارجًا عن إخباره. وكذلك لو قيل: لم تجد ما تحملهم عليه لم يؤد هذا المعنى فتأمله فإنه بديع.
 
فإن قيل: فبأي شيء يرتبط قوله: { تولوا وأعينهم تفيض } <ref>[ التوبة: 92 ]</ref> ، وهذا عطف على ما قبله فإنه ليس بمستأنف.
 
فالجواب إنأن ترك العطف هنا من بديع الكلام لشدة ارتباطه بما قبله ووقوعه منه موقع التفسير حتى كأنه هو وتأمل مثل هذا في قوله تعالى: { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين }، <ref>[ يونس: 2 ]</ref> ، كيف لم يعطف فعل القول بأداة عطف لأنه كالتفسير لتعجبهم والبدل من قوله تعالى: { أكان للناس عجبًا } <ref>[ يونس: 2 ]</ref> ، فجرى مجرى قوله: { ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا }، <ref>[ الفرقان: 69 ]</ref> ، فلما كان مضاعفة العذاب بدلًا وتفسيرًا لأثامًا لم يحسن عطفه عليه.
 
وزعم بعض الناس أن من هذا الباب قول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح: لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله {{صل}} لها فقال: المعنى أعجبها حسنها وحب رسول الله {{صل}} وليس الأمر كذلك، ولكن قوله: حب رسول الله {{صل}}، بدل من قوله: هذه وهو من بدل الاشتمال والمعنى: لا يغرنك حب رسول الله {{صل}} لهذه التي قد أعجبها حسنها. ولا عطف هناك، ولا حذف، وهذا واضح بحمد الله.
 
==فائدة بديعة: كل لفظ دال على الإحاطة بالشيء وكأنه من لفظ الإكليل==
 
"كل" لفظ دال على الإحاطة بالشيء وكأنه من لفظ الإكليل والكلالة والكلة مما هو في معنى الإحاطة بالشيء وسر اسم واحد في لفظه جمع في معناه ولو لم يكن معناه معنى الجمع لما جاز أن يؤكد به الجمع، لأن التوكيد تكرار للمؤكد فلا يكون إلا مثله إن كان جمعًا فجمع، وإن كان واحدًا فواحد.
السطر 2٬141 ⟵ 2٬153:
وحقه أن يكون مضافًا إلى اسم منكر شائع في الجنس من حيث اقتضى الإحاطة، فإن أضفته إلى معرفة كقولك كل إخوتك ذاهب قبح إلا في الابتداء، لأنه إذا كان مبتدأ في هذا الموطن كان خبره بلفظ الإفراد تنبيهًا على أن أصله أن يضاف إلى نكرة، لأن النكرة شائعة في الجنس، وهو أيضا يطلب جنسًا يحيط به فأما أن تقول: كل واحد من إخوتك ذاهب فيدل إفراد الخبر على المعنى الذي هو الأصل وهو إضافته إلى اسم مفرد نكرة.
 
فإن لم تجعله مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة كقولك: رأيت كل إخوتك وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله لأنك لم تضفه إلى جنس ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس كما كان في قولهم كلهم ذاهب وكل القوم عاقل فإن أضفته إلى جنس معرف باللام نحو قوله تعالى: { فأخرجنا به من كل الثمرات } <ref>[ الأعراف: 57 ]</ref> حسن ذلك، لأن اللام للجنس لا للعهد، ولو كانت للعهد لقبح. كما إذا قلت: خذ من كل الثمرات التي عندك، لأنها إذا كانت جملة معرفة معهودة وأردت معنى الإحاطة فيها فالأحسن أن تأتي بالكلام على أصله فتؤكد المعرفة بكل فتقول: خذ من الثمرات التي عندك كلها، لأنك لم تضطر عن إخراجها عن التوكيد كما اضطررت في النكرة حين قلت: لقيت كل رجل، لأن النكرة لا تؤكد، وهي أيضا شائعة في الجنس كما تقدم.
 
فإن قيل: فإذا استوى الأمران كقولك كل من كل الثمرات وكل من الثمرات كلها. فلم اختص أحد النظمين بالقرآن في موضع دون موضع؟
السطر 2٬147 ⟵ 2٬159:
قيل: هذا لا يلزم، لأن كل واحد منه فصيح، ولكن لا بد من فائدة في الاختصاص.
 
أما قوله تعالى: { فأخرجنا به من كل الثمرات }، <ref>[ الأعراف: 57 ]</ref> ، فمن ههنا لبيان الجنس لاللتبعيض والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف، وإنما تريد الثمرات نفسها إلا أنه أخرج منها شيئًا وأدخل من لبيان الجنس كله. ولو قال: أخرجنا به من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف وأن مفعول أخرجنا فيما بعد، ولم يتوهم ذلك مع تقديم كل لعلم المخاطبين. أن كلًا إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس. وإذا تأخرت وكانت توكيدًا اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسًا شائعًا كان أو معهودًا معروفًا.
 
وأما قوله تعالى: { كلي من كل الثمرات } <ref>[ النحل: 69 ]</ref> ولم يقل من الثمرات كلها ففيها الحكمة التي في الآية قبلها ومزيد فائدة. وهو أنه تقدمها في النظم قوله تعالى: { ومن ثمرات النخيل والأعناب }، <ref>[ النحل: 67 ]</ref> ، فلو قال بعدها: كلي من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أنه يريد الثمرات المذكورة قبل هذا. أعني ثمرات النخيل والأغاب، لأن اللام إنما تنصرف إلى المعهود. فكان الابتداء بكل أحصن للمعنى، وأجمع للجنس، وأرفع للبس، وأبدع في النظم فتأمله.
 
وإذا قطعت عن الإضافة وأخبر عنها فحقها أن تكون ابتداء ويكون خبرها جمعًا، ولا بد من مذكورين قبلها، لأنها إن لم تذكر قبلها جملة ولا أضيفت إلى جملة بطل معنى الإحاطة فيها ولم يعقل لها معنى، وإنما وجب أن يكون خبرها جمعًا لأنها اسم في معنى الجمع فتقول: كل ذاهبون إذا تقدم ذكر قوم، لأنك معتمد في المعنى عليهم. وإن كنت مخبرًا عن كل فصارت بمنزلة قولك الرهط ذاهبون والنفر منطلقون، لأن الرهط والنفر اسمان مفردان، ولكنهما في معنى الجمع. والشاهد لما بيناه قوله سبحانه: { كل في فلك يسبحون }، <ref>[ الأنبياء: 33 ]</ref> ، { كل إلينا راجعون }، <ref>[ الأنبياء: 93 ]</ref> ، { وكل كانوا ظالمين }، <ref>[ الأنفال: 54 ]</ref> ، وإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ لم تجد خبرها إلا مفردًا للحكمة التي قدمتها قبل. وهي أن الأصل إضافتها إلى النكرة المفردة. فتقول: كل إخوتك ذاهب أي كل واحد منهم ذاهب ولم يلزم ذلك حين قطعتها عن الإضافة فقلت: كل ذاهبون، لأن اعتمادها إذا أفردت على المذكورين قبلها وعلى ما في معناها من معنى الجمع واعتمادها إذا أضفتها على الاسم المفرد إما لفظًا وإما تقديرًا كقوله {{صل}}: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، ولم يقل راعون ومسؤولون. ومنه: «كلكم سيروي». ومنه قول عمر أوكلكم يجد ثوبين ولم يقل تجدون. ومثله قوله تعالى: { كل من عليها فان }، <ref>[ الرحمن: 26 ]</ref> ، وقال تعالى: { كل له قانتون }، <ref>[ البقرة: 116 ]</ref> ، فجمع وقال تعالى: { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا }. <ref>[ مريم: 93 ]</ref> .
 
فإن قيل: فقد ورد في القرآن: { كل يعمل على شاكلته }، <ref>[ الإسراء: 84 ]</ref> ، { كل كذب الرسل } <ref>[ ق: 14 ]</ref> وهذا يناقض ما أصلتم.
 
قيل: إن في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره، أما قوله تعالى: { قل كل يعمل على شاكلته } فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين، ذكر مؤمنين وظالمين. فلو قال: يعملون وجميعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف فكان لفظة الأفراد أدل على المعنى المراد. كأنه يقول: كل فهو يعمل على شاكلته.
 
وأما قوله: { كل كذب الرسل } ، فلأنه ذكر قرونًا وأمما وختم ذكرهم بذكر قوم تبع. فلو قال: كل كذبوا. وكل إذا أفردت، إنما تعتمد على أقرب المذكورين إليها فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تبع خاصة بأنهم كذبوا الرسل فلما قال: { كل كذب } علم أنه يريد كل فريق منهم، لأن إفراد الخبر عن كل حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى كما تقدم. ومثل: { كل آمن بالله }، <ref>[ البقرة: 285 ]</ref> ، .
 
وأما قولنا في كل إذا كانت مقطوعة عن الإضافة فحقها أن تكون مبتدأة، فإنما يريد أنها مبتدأة يخبر عنها، أو مبتدأة باللفظ منصوبة بفعل بعدها لا قبلها، أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعد نحو: { وكلًا وعد الله الحسنى }، <ref>[ النساء: 95 ]</ref> ، وقول الشاعر: بكل تداوينا. .
 
ويقبح تقديم الفعل العامل فيها إذا كانت مفردة كقولك: ضربت كلا ومررت بكل وإن لم يقبح كلا ضربت وبكل مررت من أجل أن تقديم العامل عليها يقطعها عن المذكور قبلها في اللفظ، لأن العامل اللفظي له صدر الكلام. وإذا قطعتها عما قبلها في اللفظ لم يكن لها شيء تعتمد عليه قبلها، ولا بعدها فقبح ذلك.
السطر 2٬165 ⟵ 2٬177:
وأما إذا كان العامل معنويًا نحو كل ذاهبون، فليس بقاطع لها عما قبلها من المذكورين، لأنه لا وجود له في اللفظ. فإذا قلت: ضربت زيدًا وعمرًا وخالدًا وشتمت كلًا وضربت كلًا. لم يجز ولم يعد يخبر لما قدمناه.
 
إذا عرفت هذا فقولك كل إخوتك ضربت سواء رفعت، أو نصبت يقتضي وقوع الضرب بكل واحد منهم وإذا قلت: كل إخوتك ضربني يقتضي أيضا أن كل واحد واحد منهم ضربك. فلو قلت: كل إخوتي ضربوني وكل القوم جاؤوني احتمل ذلك، واحتمل أن يكونوا اجتمعوا في الضرب والمجيء، لأنك أخبرت عن جملتهم يخبر واقع عن الجملة بخلاف قولك، كل إخوانك جاءني فإنما هو إخبار عن كل واحد منهم وإن الإخبار بالمجيء عم جميعهم. فتأمل على هذا قوله تعالى: { قل كل يعمل على شاكلته } كيف أفرد الخبر، لأنه لم يرد اجتماعهم فيه. وقال تعالى: { كل إلينا راجعون }، <ref>[ الأنبياء: 93 ]</ref> ، فجمع لما أريد الاجتماع في المجيء وهذا أحسن مما تقدم من الفرق فتأمله.
 
ولا يرد على هذا قوله تعالى: { وله من في السموات والأرض كل له قانتون } <ref>[ البقرة: 116 ]</ref> بل هو تحقيق له وشاهد، لأن القنوت هنا هو العبودية العامة التي تشترك فيها أهل السموات والأرض لا يختص بها بعضهم عن بعض، ولا يختص بزمان دون زمان وهي عبودية القهر. فالقنوت هنا قنوت قهر وذل لا قنوت طاعة ومحبة، وهذا بخلاف قوله تعالى: { كل من عليها فان }، <ref>[ الرحمن: 26 ]</ref> ، فإنه أفرد لما لم يهجتمعوا في الفناء. ونظيره قوله {{صل}}: «وكلكم مسؤول عن رعيته»، فإن الله يسأل كل راع راع بمفرده.
 
ومما جاء مجموعًا لاجتماع الخبر قوله تعالى: { كل في فلك يسبحون }، <ref>[ الأنبباء: 33 ]</ref> ، وما أفرد لعدم اجتماع الخبر قوله تعالى: { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب * إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب }، <ref>[ ص: 12 ]</ref> ، فأفرد ما لم يجتمعوا في التكذيب.
 
ونظيره في [[سورة ق]]: { كل كذب الرسل فحق وعيد }، <ref>[ ق: 14 ]</ref> ، وتأمل كيف كشف قناع هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله تعالى: { وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا }. <ref>[ مريم: 95 ]</ref> . كيف أفرد آتيه لما كان المقصود الإشارة إلى أنهم وإن أتوه جميعًا فكل واحد منهم منفرد عن كل فريق من صاحب أو قريب أو رفيق. بل هو وحده منفرد فكأنه، إنما أتاه وحده وإن أتاه مع غيره لانقطاع تبعيته للغير وانفراده بشأن نفسه، فهذا عندي أحسن من الفرق بالإضافة وقطعها. والفرق بذلك فرقه السهيلي رحمه الله تعالى. فتأمل الفرقين واستقر الأمثلة والشواهد.
 
==فصل: كل ذلك لم يكن ولم يكن كل ذلك==
==فصل==
 
وأما مسألة كل ذلك لم يكن ولم يكن كل ذلك، ولم أصنع كله وكله لم أصنعه فقد أطالوا فيها القول وفرقوا بين دلالتي الجملة الفعلية والاسمية. وقالوا: إذا قلت كل ذلك لم يكن وكله لم أصنعه فهو نفي للكل بنفي كل فرد من أفراده فينا قض الإيجاب الجزئي. وإذا قلت لم أصنع الكل ولم يكن كل ذلك فهو نفي للكلية دون التعرض لنفي الأفراد فلا يناقضه الإيجاب الجزئي ولا بد من تقرير مقدمة تبنى عليها هذه المسألة وأمثالها وهي أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدإ بل يجوز أن يكون أعم منه أو مساويًا له إذ لو كان أخص منه لكان ثابتًا لبعض افراده ولم يكن خبرًا عن جملته فإن الأخص، إنما يثبت لبعض أفراد الأعم.
السطر 2٬183 ⟵ 2٬195:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ** علي ذنبًا كله لم أصنع
 
أنشده برفع كل، واستقبحه لحذف الضمير العائد من الخبر، وغير سيبويه يمنعه مطلقًا وينشد البيت منصوبًا فيقول: كلَّه لم أصنع. والصواب إنشاده بالرفع محافظة على النفي العام الذي أراده الشاعر وتمدح به عند أم الخيار، ولو كان منصوبًا لم يحصل له مقصوده من التمدح فإنه لم يفعل ذلك الذنب، ولا شيئًا منه، بل يكون المعنى لم أفعل كل الذنب بل بعضه، وهذا ينافي غرضه. ويشهد لصحة قول سيبويه قراءة ابن عامر في [[سورة الحديد]]: { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلٌّ وعد الله الحسنى }، <ref>[ الحديد: 10 ]</ref> ، فهذا يدل على أن حذف العائد جائز، وأنه غير قبيح.
 
ومن هذا على أحد القولين: { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون }، <ref>[ يونس: 50 ]</ref> ، أجاز الزجاج أن تكون الجملة ابتدائية وقد حذف العائد من يستعجل وتقديره يستعجله منه المجرمون، كما يحذف من الصلة والصفة والحال. إذا دل عليه دليل ودعوى قبح حذفه من الخبر مما لا دليل عليها. وللكلام في تقرير هذه المسألة موضع آخر.
 
والمقصود أن إنشاد البيت بالنصب محافظة على عدم الحذف اخلال شديد المعنى. وأما إذا تقدم النفي. وقلت: لم أصنع كله ولم أضرب كلهم، كأنك لم تتعرض للنفي عن كل فرد فرد. وإنما نفيت فعل الجميع، ولم تنف فعل البعض ألا ترى أن قولك لم أصنع الكل مناقض لقولك صنعت الكل. والإيجاب الكلي يناقضه السلب الجزئي. ألا ترى إلى قولهم لم أرد كل هذا فيما إذا فعل ما يريده وغيره، فتقول: لم أرد كل هذا، ولا يصح أن تقول: كل هذا لم أرده، فتأمله فهذا تقرير هذه المسألة وقد أغناك عن ذلك التطويل المتعب القليل الفائدة.
 
==فصل: إضافة كل للمخاطبين==
 
واعلم أن كلًا من ألفاظ الغيبة فإذا أضفته إلى المخاطبين جاز لك أن تعيد المضمر عليه بلفظ الغيبة مراعاة للفظه،للفظه وأن تعيده بلفظ الخطاب مراعاة لمعناهلمعناه، فتقول: كلكم فعلتم، وكلكم فعلوا. فإن قلت: أنتم كلكم فعلتم وأنتم كلكم بينكم درهم، فإن جعلت أنتم مبتدأ وكلكم تأكيد. قلت: أنتم كلكم فعلتم وبينكم درهم لتطابق المبتدأ، وإن جعلت كلكم مبتدأ ثانيًا جاز لك وجهان. أحدهما: أن تقول فعلوا وببنهم درهم مراعاة للفظ كل. وإن تقول فعلتم وبينكم درهم عملًا على المعنى، لأن كلًا في المعنى للمخاطبين.
 
==فائدة: كلا وكلتا بين الكوفيين والبصريين==
==فائدة==
 
اختلف الكوفيون والبصريون في كلا وكلتا فذهب البصريون إلى أنها اسم مفرد دال على الاثنين. فيجوز عود الضمير إليه باعتبار لفظه وهو الأكثر، ويجوز عوده باعتبار معناه وهو الأقل وألفها لام الفعل ليست ألف تثنية عندهم.
السطر 2٬207 ⟵ 2٬219:
فإن قيل: الجواب عن هذا أن كلا اسم للمثنى فحسن التوكيد به، وحصلت المطابقة باعتبار مدلوله وهو المقصود من الكلام، فلا يضر إفراد اللفظ.
 
قيل: هذا يمكن في الجمع أن يكون لفظه واحدًا ومعناه جمعًا نحو كل وأسماء الجموع كرهط وقوم، لأن الجموع قد اختلفت صورها أشد اختلاف فمذكر ومؤنث مسلم ومكسر على اختلاف ضروبه، وما لفظه على لفظ واحده كما تقدم بيانه، فليس ببدع أن يكون صورة اللفظ مفردًا ومعناه جمعًا. وأما التثنية فلم تختلف قط. بل لزمت طريقة واحدة أي وقعت فبعيد جدًا. بل ممتنع أن يكون منها اسم مفرد معناه مثنى، وليس معكم إلا القياس على الجمع. وقد وضح الفرق بينهما، فتعين أن تكون كلا لفظًا مثنى ينقلب ألفه ياء مع المضمر دون المظهر، لأنك إذا أضفته إلى ظاهر استغنيت عن قلب ألفه ياء بانقلابها في المضاف إليه لتنزله منزلة الجزئية لدلالة اللفظ على مدلول واحد، لأن كلًا هو نفس ما يضاف إليه، بخلاف قولك: ثوبا الرجلين وفرسا الزيدين. فلو قلت: مررت بكلى الرجلين، جمعت بين علامتي تثنية فيما هو كالكلمة الواحدة، لأنهما لا ينفصلان أبدًا، ولا تنفك كلا هذه عن الإضافة بحال. ألا ترى كيف رفضوا ضربت رأسي الزيدين. وقالوا: رؤوسهما لما رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد هذا مع أن الرؤوس تنفصل عن الإضافة كثيرًا. وكذلك القلوب من قوله: { صغت قلوبكما } <ref>[ التحريم: 4 ]</ref> فإذا كانوا قد رفضوا علامة التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه الإضافة، ولا تنفك عنه. فهذا الذي حملهم على أن ألزموها الألف على كل حال وكان هذا أحسن من إلزام طيء وخثعم وبني الحرث وغيرهم المثنى للألف في كل حال نحو الزيدان والعمران. فإذا أضافوه إلى الضمير قلبوا ألفه في النصب والجر، لأن المضاف إليه ليس فيه علامة إعراب، ولا يثنى بالباء، ولكنه أبدًا بالألف. فقد زالت العلة التي رفضوها في الظاهر وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله كما ترى. وإن كان سيبويه المعظم المقدم في الصناعة، فمأخوذ من قوله ومتروك.
 
ومما يدل على صحة هذا القول أن كلًا يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ كل، وهو موافق له في فاء الفعل وعينه. وأما اللام فمحذوفة كما حذفت في كثير من الأسماء. فمن ادعى أن لام الفعل واو وإنه من غير لفظ كل، فليس دلبل يعضده، ولا اشتقاق يشهد له.
السطر 2٬227 ⟵ 2٬239:
قيل العدد الذي يؤكد به، إنما يكون تأكيدًا مؤخرًا تابعًا لما قبله، فأما إذا قدم لم يجز ذلك لأنه في معنى الوصف. والوصف لا يقدم على الموصوف، فلا تقول ثلاثة أخوتك جاؤوني وهذا بخلاف كل وكلا وكلتا، لأن فيهما معنى الإحاطة فصارت كالحرف الداخل لمعنى فيما بعذه فحسن تقديمهما في حال الإخبار عنها، وتأخيرهما في حال التوكيد فهذا في هذا المذهب كما ترى.
 
==فائدة: تأكيد المفرد بأجمع==
 
لا يؤكد بأجمع المفرد مما يعقل ولا ما حقيقته لا تتبعض. وهذا إنما يؤكد به ما يتبعض كجماعة من يعقل فجرى مجرى كل.
السطر 2٬241 ⟵ 2٬253:
قيل الجواب: إن فيه معنى الصفة، لأنه مشتق من جمعت فلم يكن يقع تابعًا بخلاف كل.
 
ومن أحكامه أنه لا يثنى ولا يجمع على لفظه. أما امتناع تثنيته، فلأنه وضع لتأكيد جملة تتبعض فلو ثنيته لم يكن في قولك أجمعا توكيد لمعنى التثنية كما في كليهما، لأن التوكيد تكرار المعنى المذكور، إذا قلت درهمان أفدت أنهما اثنان فإذا قلت: كلاهما كأنك قلت: اثناهما ولا يستقيم ذلك في أجمعان لأنه بمنزلة من يقول: أجمع وأجمع كالزيدان بمنزلة زيد وزيد فلم يفدك أجمعان تكرار معنى التثنية، وإنما أفادك تثنية واحدة بخلاف كلاهما فإنه ليس بمنزلة قولك: كل وكل، وكذلك أثناهما المستغنى عنه بكليهما لا يقال فيها إثناثن وإثنواثن. فإنما هي تثنية لا تنحل ولا تنفرد فلم يصلح لتأكيد معنى التثنية غيرها. فلا ينبغي أن يؤكد معنى التثنية والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه كيلا يكون بمنزلة الأسماء المفردة المعطوف بعضها على بعض بالواو وهذه علة امتناع الجمع فيه لأنك لو جمعته كان جمعًا لواحد من لفظه ولا يؤكد معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد.
 
فإن قيل: هذا ينتقض بأجمعين وأكتعين فإن واحده أجمع وأكتع؟
السطر 2٬265 ⟵ 2٬277:
قيل: اللفظي لا يكون إلا متضمنًا لمعناه، فإذا اجتمعا معًا كان أقوى من المعخى المفرد عن اللفظ فوجب أن تكون أضعف. وهذا ظاهر لمن عدل وأنصف.
 
=المجلد الثاني=
 
==فائدة بديعة: دلالات العين==
 
المجلد الثاني
 
 
 
==فائدة بديعة==
 
العين: يراد بها حقيقة الشيء المدركة بالعيان أو ما يقوم مقام العيان، وليست اللفظة على أصل موضوعها، لأن أصلها أن يكون مصدرًا وصفة لمن قامت به، ثم عبر عن حقيقة الشيء بالعين، كما عبر عن الوحش بالصيد، وإنما الصيد في أصل موضوعه مصدر من صاد يصيد ومن ههنا لم يرد في الشريعة عبارة عن نفس الباري سبحانه وتعالى، لأن نفسه سبحانه غير مدركة بالعيان في حقنا اليوم. وأما عين القبلة وعين الذهب وعين الميزان فراجعة إلى هذا المعنى. وأما العين الجارية فمشبهة بعين الإنسان لموافقتها لها في كثير من صفاتها. وأما عين الإنسان فمسماة بما أصله أن يكون صفة ومصدرًا، لأن العين في أصل الوضع مصدر كالدين والزين والبين والأين وما جاء على بنائه. ألا تراهم يقولون: رجل عيون وعاين، ويقولون: عنته أصبته بالعين وعاينته رأيته بالعين، وفرقوا بين المعنيين وكأن عاينته من الرؤية أولى من عنته، لأنه بمنزلة المفاعلة والمقابلة فقد تقابلتما وتعاينتما بخلاف عنته. فإنك تفرد إصابته العين من حيث لا يشعر.
 
ومما يدلك على أنها مصدر في الأصل قوله تعالى: { عين اليقين كما قال: { علم اليقين }، <ref>[ التكاثر: 5 ]</ref> ، و { حق اليقين }، <ref>[ الواقعة: 95 ]</ref> ، فالعلم والحق مصدران مضافان إلى اليقين، فكذلك العين. هكذا قال السهيلي رحمه الله تعالى. وفيه نظر، لأن إضافة عين إلى اليقين من باب قولهم نفس الشيء وذاته. فعين اليقين نفس اليقين، والعين التي هي عضو سميت عينًا، لأنها آلة ومحل لهذه الصفة التي هي العين. وهذا من باب قولهم امرأة ضيف وعدل تسمية للفاعل باسم المصدر والعين التي هي حقيقة الشيء ونفسه من باب تسمية المفعول بالمصدر كصيد.
 
قال السهيلي: إذا علمت هذا، فاعلم أن العين أضيفت إلى الباري تعالى كقوله: { ولتصنع على عيني }، <ref>[ طه: 39 ]</ref> ، حقيقة لا مجازًا كما توهم أكثر الناس، لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك، وإنما المجاز في تسمية العضو بها وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى الباري تعالى لا حقيقة ولا مجازًا. ألا ترى كيف كفر الرومية من النصارى حيث قالوا في عيسى إنه ولد، على المجاز لا على الحقيقة، فكفروا ولم يدروا. <ref>في النتائج: ولم يعذروا. </ref> ألا ترى كيف لم يضف سبحانه إلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحدقة حقيقة، ولا مجازًا نعم ولا لفظ الإبصار، لأنه لا يعطي معنى البصر والرؤية مجردًا، ولكنه يقتضي مع معنى البصر معنى التحديق والملاحظة ونحوهما.
 
قلت: كأنه رحمه الله غفل عن وصفه بالسميع البصير وغفل عن قوله {{صل}} في الحديث الصحيح: «لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه»، <ref>صحيح مسلم</ref> وأما إلزامه التحديق والملاحظة ونحوها فهو كإلزام المعتزلة نظيره في الرؤية فهو منقول من هناك حرفًا بحرف. وجوابه من وجوه.
السطر 2٬293 ⟵ 2٬301:
يديتُ على ابن حَصحاصِ بن عمرو ** بأسفل ذي الجذاة يدَ الكريم
 
فيديت فعل مأخوذ من مصدر لا محالة والمصدر صفة موصوف. ولذلك مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: { أولي الأيدي والأبصار }، <ref>[ ص: 45 ]</ref> ، ولم يمدحهم بالجوارح، لأن المدح لا يتعلق إلا بالصفات لا بالجواهر.
 
قلت: المراد بالأيدي والأبصار هنا القوة في أمر الله والبصر بدينه فأراد أنهم من أهل القوى في أمره، والبصائر في دينه، فليست من يديت إليه يدًا فتأمله.
 
قال: وإذا ثبت هذا فصح قول أبي الحسن الأشعري إن اليد من قوله: خلق آدم بيده، وقوله تعالى: { لما خلقت بيدي }، <ref>[ ص: 75 ]</ref> ، صفة ورد بها الشرع؛ ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه، ولا في معنى النعم، ولا قط بشيء من التأويلات تحرزًا منه عن مخالفة السلف. وقطع بأنها صفة تحرزًا عن مذهب المشبهة. فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يفهمون ولا يستعملون، إذ اليد بمعنى الصفة لا يفهم معناه؟ قلنا: ليس الأمر كذلك. بل كان معناها مفهومًا عند القوم الذين نزل القرآن بلغتهم، ولذلك لم يستفت واحد من المؤمنين عن معناها، ولا خاف على نفسه توهم التشبيه، ولا احتاج إلى شرح وتنبيه. وكذلك الكفار لو كانت (اليد) عندهم لا تعقل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض واحتجوا بها على الرسول {{صل}} ولقالوا له زعمت أن الله تعالى ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يدًا كأيدينا وعينًا كأعيننا؛ ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر، علم أن الأمر كان فيهم عندهم جليًا ولا خفيًا، وأنها صفة سميت الجارحة بها مجازًا، ثم استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة. ورب مجاز كثر واستعمل حتى نسي أصله وتركت حقيقته. والذي يلوح في معنى هذه الصفة أنها قريب من معنى القدرة، إلا أنها أخص منها معنى والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة. وكل شيء أحبه الله فقد أراده، وليس كل شيء أراده أحبه، وكذلك كل شيء حادث فهو واقع بالقدرة، وليس كل واقع بالقدرة واقعًا باليد. فاليد أخص من معنى القدرة، ولذلك كان فيها تشريف لآدم.
 
قلت: أما قوله: ليس كل شيء أراده فقد أحبه. فهذا صحيح. وهوأحد قولي الأشعري وقول المحققين من أصحابه، وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة والمعقول كما هو مقرر في موضعه.
السطر 2٬303 ⟵ 2٬311:
وأما قوله: كل شيء أحبه فقد أراده، فإن كان المراد أنه أراده بمعنى رضيه وأراده دينا فحق. وإن كان المراد أنه أراده كونًا فغير لازم. فإنه سبحانه يحب طاعة عباده كلهم ولم يردها ويحب التوبة من كل عاص ولم يرد ذلك كله تكوينًا إذ لو أراده لوقع فالمحبة والإرادة غير متلازمين فإنه يريد كون ما لا يحبه ويحب ويرضى بأشياء لا يريد تكوينها، ولو أرادها لوقعت وهذا مقرر في غير هذا الموضع.
 
قال: ومن فوائد هذه المسألة أن يسأل عن المعنى الذي لأجله قال تعالى: { ولتصنع على عيني }، <ref>[ طه: 39 ]</ref> ، بحرف على، وقال تعالى: { تجري بأعيننا } <ref>[ القمر: 14 ]</ref> بالباء، { واصنع الفلك بأعيننا }، <ref>[ هود: 37 ]</ref> ، وما الفرق؟ فالفرق أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيًا وإبداء ما كان مكتومًا، فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون سرًا. فلما أراد أن يصنع موسى ويغذى ويربى على حال أمن وظهور لا تحت خوف واستسرار، دخلت على في اللفظ تنبيهًا على المعنى، لأنها تعطي الاستعلاء والاستعلاء ظهور وإبداء فكأنه يقول سبحانه وتعالى: ولتصنع على أمن لا تحت خوف وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلاءة. وأما قوله تعالى: { تجري بأعيننا } ، { واصنع الفلك بأعيننا } فإنه إنما يريد برعاية منا حفظ، ولا يريد إبداء شيء، ولا إظهاره بعد كتم، فلم يحتج في الكلام إلى معنى على بخلاف ما تقدم.
 
هذا كلامه، ولم يتعرض رحمه الله لوجه الإفراد هناك والجمع هنا، وهو من ألطف معاني الآية. والفرق بينهما يظهر من الاختصاص الذي خص به موسى في قوله تعالى: { واصطنعتك لنفسي }، <ref>[ طه: 41 ]</ref> ، فاقتضى هذا الاختصاص الاختصاص الآخر في قوله: { ولتصنع على عيني } <ref>[ طه: 39 ]</ref> فإن هذه الإضافة إضافة تخصيص.
 
وأما قول تعالى: { تجري بأعيننًا } ، { واصنع الفلك بأعيننا } ، فليس فيه من الاختصاص ما في صنع موسى على عينه سبحانه واصطناعه إياه لنفسه، وما يسنده سبحانه إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد يريد به ملائكته كقوله تعالى: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه }، <ref>[ القيامة: 18 ]</ref> ، وقوله: { نحن نقص عليك }، <ref>[ يوسف: 3 ]</ref> ، ونظائره فتأمله.
 
قال: وأما النفس فعلى أصل موضوعها، إنما هي عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد، وقد استعمل أيضا من لفظها النفاسة والشيء النفيس، فصلحت للتعبيرعنه سبحانه وتعالى بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية. وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس، ولا سيما المتكلمين القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون: ذات الباري هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله {{صل}}: «في قصة إبراهيم ثلاث كذبات كلهن في ذات الله»، وقول خبيب: * وذلك في ذات الإله. . *
 
قال: وليست هذه اللفظة إذا ستقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا. ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله كما قال تعالى: { ويحذركم الله نفسه }، <ref>[ آل عمران: 28، 30 ]</ref> ، وذلك غير مسموع ولا يقال إلا بحرف ( في ) الجارة وحرف ( في ) للوعاء وهو معنى مستحيل على نفس الباري تعالى. إذا قلت: جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء، وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته فيكون الحرف على بابه. كأنك قلت: هذا محسوب في الأعمال التي فيها مرضاة الله وطاعته. وإما أن تدع اللفظ على ظاهره فمحال.
 
وإذا ثبت هذا فقوله: في ذات الله، أو في ذات الإله، إما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله فذات وصف للديانة، وكذلك هي في الأصل موضوعها نعت لمؤنث. ألا ترى أن فيها تاء التأنيث، وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله تعالى عز وجل لا عن نفسه سبحانه. وهذا هو المفهوم من كلام العرب. ألا ترى إلى قول النابعة: * بجلتهم ذات الإله ودينهم * فقد بان غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه.
 
وهذا من كلامه من المرقِّصات، فإنه أحسن فيه ما شاء. وأصل هذه اللفظة هو تأنيث ذو بمعنى صاحب. فذات صاحبة كذا في الأصل، ولهذا لا يقال ذات الشيء إلا لما له صفات ونعوت تضاف إليه. فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات والنعوت. ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن هان وغيره على الأصوليين قولهم "الذات" وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا، كما لا يقال: "الذو" في ذو. وهذا إنكار صحيح، والاعتذار عنهم أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن نفس الشيء وحقيقته وعينه، فلما استعملوها استعمال النفس والحقيقة عرفوها باللام وجردوها، ومن هنا غلطهم السهيلي فإن هذا الاستعمال والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي، فإن العرب لا تكاد تقول: رأيت الشيء لعينه ونفسه، وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب إليه ومن جهته، وهذا كجنب الشيء. إذا قالوا هذا في جنب الله، لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته - لا يريدون غير هذا البتة. فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة ظن من ظن أن هذا هو المراد من قوله: «ثلاث كذبات في ذات الله»، وقوله: * وذلك في ذات الإله * فغلط واستحق التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى: { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله }، <ref>[ الزمر: 56 ]</ref> ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال ههنا: فرطت في نفس الله وحقيقته، ويحسن أن يقال: فرط في ذات الله، كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله، وصبر في ذات الله. فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر، والله الموفق المعين.
 
==فائدة: إبدال النكرة من المعرفة==
 
ما الفائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها، فإن كانت الفائدة في النكرة فلم ذكرت المعرفة، وإن كانت في المعرفة فما بال ذكر النكرة.
 
قيل: هذا فيه نكتة بديعة. وهي أن الحكم قد يعلق بالنكرة السابقة فتذكر. ويكون الكلام في معرض أمر معين من الجنس مدحًا، أو ذمًا، فلو اقتصر على ذكر المعرفة لاختص الحكم به، ولو ذكرت النكرة وحدها لخرج الكلام عن التعرض لذلك المعين. فلما أريد الجنس أتى بالنكرة ووصفت إشعارًا بتعليق الحكم بالوصف. ولما أتى بالمعرفة كان تنبيهًا على دخول ذلك المعين قطعًا. ومثال ذلك قوله تعالى: { لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة }، <ref>[ العلق: 15 - 16 ]</ref> ، فإن الآية كما قيل: نزلت في أبي جهل، ثم تعلق حكمها بكل من اتصف به فقال: { لنسفعا بالناصية } تعيينًا { ناصية كاذبة } لعدمه وتنبيهًا، ولذلك اشترط في النكرة في هذا الباب أن تكون منعوتة لتحصل الفائدة المذكورة وليتبين المراد.
 
وأما قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا }، <ref>[ النحل: 73 ]</ref> ، ففيها قولان:
 
أحدهما: أن شيئًا بدل من رزقه ورزقًا أبين من شيئًا، لأنه أخص منه، والأخص أبين من الأعم، وجاز هذا من أجل تقدم النفي، لأن النكرة إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي، فلما اقتضى النفي العام ذكر الاسم العام الذي هو أنكر النكرات ووقعت الفائدة به من أجل النفي صلح أن يكون بدلًا من رزق. ألا ترى أنك لو طرحت الاسم الأول واقتصرت على الثاني لم يكن إخلالًا بالكلام.
 
والقول الثاني: أن شيئًا هنا مفعول المصدر الذي هو الرزق وتقديره لا يملكون أن يرزقوا شيئًا وهذا قول الأكثرين إلا أنه يرد عليهم. أن الرزق هنا اسم لا مصدر، لأنه بوزن الذبح والطحن للمذبوح والمطحون. ولو أريد المصدر لجاء بالفتح نحو قول الشاعر: يخاطب [[عمر بن عبدالعزيزعبد العزيز]] رحمه الله وعفا عنه:
 
واقصد إلى الخير ولا توقه ** وارزق عيال المسلمين رزقه
السطر 2٬333 ⟵ 2٬341:
وقد يجاب عن هذا بأن الرزق من المصادر التي جاءت على فعل بكسر أوائلها كالفسق، ويطلق على المصدر والاسم بلفظ واحد، كالنسخ للمصدر والمنسوخ وبابه وهذا أحسن. والبيت لا نسلم أن راءه مفتوحة، وإنما هي مكسورة. وهذا اللائق بحال عمر بن عبد العزيز والشاعر فإنه طلب منه أن يرزق عيال المسلمين رزق الله الذي هو المال المرزوق لا أنه يرزقهم كرزق الله الذي هو المصدر، هذا مما لا يخاطب به أحد، ولا يقصده عاقل والله أعلم.
 
==فائدة بديعة: تفسير اهدنا الصراط المستقيم==
 
قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فيها عشرون مسألة.
السطر 2٬339 ⟵ 2٬347:
أحدها: ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الاسم الأول.
 
الثانية: ما فائدة تعريف { الصراط المستقيم } ، باللام، وهلا أخبرعنه بمجرد اللفظ دونها كما قال: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } .
 
الثالثة: ما معنى الصراط ومن أي شيء اشتقاقه ولم جاء على وزن فعال ولم ذكر في أكثر المواضع في القران بهذا اللفظ. وفي [[سورة الأحقاف]] ذكر بلفظ الطريق فقال: { يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }. <ref>[ الأحقاف: 30 ]</ref> .
 
الرابعة: ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى: { الذين أنعمت عليهم } بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيين والصديقين فلم عدل إلى لفظ المبهم دون المفسر.
 
الخامسة: ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذي مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال: { المغضوب عليهم } ، وما الفرق.
 
السادسة: لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم. فقال في أهل النعمة، الذين أنعمت وفي أهل الغضب المغضوب بحذف الفاعل.
 
السابعة لم قال: { اهدنا الصراط المستقيم } ، فعدى الفعل بنفسه، ولم يعده بإلى كما قال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }، <ref>[ الشورى: 52 ]</ref> ، وقال تعالى: { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } <ref>[ الأنعام: 87 ]</ref>
 
الثامنة: أن قوله تعالى: { الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم } يقتضي أن نعمته مختصة بالأولين دون المغضوب عليهم ولا الضالين. وهذا حجة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر. فهل هذا استدلال صحيح أم لا.
السطر 2٬359 ⟵ 2٬367:
الحادية عشرة: إذا ثبت ذلك في البدل، فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك، وليس في نية الطرح، فكيف جاء صراط الذين أنعمت عليهم بدلًا منه؟ وما فائدة البدل هنا.
 
الثانية عشرة: إنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد وأبو حاتم تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهوداليهود، والنصارى. بأنهم الضالونالضالون، فما وجه هذا التقسيم والاختصاص؟ وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه.
 
الثالثة عشرة: لم قدم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين؟
السطر 2٬367 ⟵ 2٬375:
الخامسة عشرة: ما فائدة العطف بلا هنا. ولو قيل المغضوب عليهم والضالين لم يختل الكلام وكان أوجز.
 
السادسة عشرة: إذ قد عطف بها فيأتي العطف بها مع الواو للمنفي. نحو ما قام زيد ولا عمرو وكقوله تعالى: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } <ref>[ التوبة: 91 ]</ref> إلى قوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم }، <ref>[ التوبة: 92 ]</ref> ، وأما بدون الواو فبابها الإيجاب. نحو مررت بزيد لا عمرو. فهذه ستة عشرة مسألة في ذلك.
 
السابعة عشرة: هل الهداية هنا هداية التعريف والبيان، أو هداية التوفيق والإلهام.
السطر 2٬379 ⟵ 2٬387:
فالجواب بعون الله وتعليمه فإنه لا علم لأحد من عباده إلا ما علمه، ولا قوة له إلا بإعانته.
 
أما المسألة الأولى وهي فائدة البدل من الدعاء، أن االآية وردت في معرض التعليم للعباد والدعاء وحق الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به. إذ الدعاء مخ العبادة والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا في لحم ودم. فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجًا بالثناء. فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مثوبًا بالخير تصريحًا من الداعي بمعتقده وتوسلًا منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه. فكأنه متوسل! ليه بإيمانه واعتقاده. إن صراط الحق هو الصراط المستقيم وإنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا، والداعي يجب عليهم اعتقاد خلافهم وإظهارو[[إظهار الحق]] الذي في نفسه. فلذلك أبدل وبين لهم ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان. ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبار بفائدتين جليلتين إحداهما فائدة الخبر، والثانية فائدة لازم الخبر.
 
فأما فائدة الخبر فهي الإخبار عنه بالاستقامة وإنه الصراط المستقيم الذي نصبه لأهل نعمته وكرامته. وأما فائدة لازم الخبر فإقرار الداعي بذلك وتصديقه وتوسله بهذا الإقرار إلى ربه، فهذه أربع فوائد الدعاء بالهداية إليه. والخبر عنه بذلك. والإقرار والتصديق لشأنه. والتوسل إلى المدعو إليه بهذا التصديق. وفيه فائدة خامسة وهي أن الداعي، إنما أمر بذلك لحاجته إليه وإن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبر ما يطلب وتصور معناه. فذكر له من أوصافه ما إذا تصور في خلده وقام بقلبه كان أشد طلبًا له وأعظم رغبة فيه، وأحرص على دوام الطلب والسؤال له، فتأمل هذه النكت البديعة.
 
===فصل: تعريف الصراط باللام===
==فصل==
 
وأما المسألة الثانية وهي تعريف الصراط باللام هنا. فاعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره. ألا ترى أن قولك جالس فقيهًا، أو عالمًا، ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم. ولا قولك أكلت طيبًا كقولك الطيب. ألا ترى إلى قوله {{صل}}: «أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق»، ثم قال: «ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق»، فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه.
السطر 2٬389 ⟵ 2٬397:
فإذا عرفت هذا، فلو قال: اهدنا صراطًا مستقيمًا لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق. وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقًا إلى رضوانه وجنته، وهو دينه الذي لا دين له سواه. فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف.
 
فإن قيل: لم جاء منكرًا في قوله لنبيه {{صل}}: { ويهديك صراطا مستقيمًا }، <ref>[ الفتح: 2 ]</ref> ، وقوله تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }، <ref>[ الشورى: 52 ]</ref> ، وقوله تعالى: { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم }، <ref>[ الأنعام: 87 ]</ref> ، وقوله تعالى: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم }. <ref>[ الأنعام: 161 ]</ref> .
 
فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب، وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه. ولم يكن للمخاطبين عهد به، ولم يكن معروفًا لهم فلم يجىء معرفًا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده، ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه، وإنما تأتي لام العهد ني أحد هذين الموضعين أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكري لفظي. وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع. فالتنكير هو الأصل وهذا بخلاف قوله: { اهدنا الصراط المستقيم } ، فإنه لما تقررعندالمخاطبين. إن لله صراطًا مستقيمًا هدى إليه أنبياءه ورسله. وكان المخاطب سبحانه المسؤول من هدايته عالمًا به دخلت اللام عليه فقال: { اهدنا الصراط المستقيم } .
 
وقال أبو القاسم السهيلي: إن قوله تعالى: { ويهديك صراطًا مستقيمًا } نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه. وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله {{صل}} أعلم فأنزل على رسوله {{صل}} هذه الآية. فلم يرد صراطًا مستقيمًا في الدين، وإنما أراد صراطًا في الرأي والحرب والمكيدة. وقوله تبارك وتعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }، <ref>[ الشورى: 52 ]</ref> ، أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم. ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظًا من الاستقامة إذ الألف واللام تنبىء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما قرب به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طرف منه.
 
وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن، أما قوله إن المراد بقوله: ويهديك صراطًا مستقيمًا في الحرب والمكيدة. فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسوله وأخبر النبي {{صل}} أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطًا مستقيمًا، وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك؟ بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } ثم فسره بقوله تعالى: { دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين } ونصب دينًا هنا على البدل من الجار والمجرور. أي هداني دينًا قيمًا. أفتراه يمكنه ههنا أن يقول: إنه الحرب والمكيدة؟ فهذا جواب فاسد جدًا.
السطر 2٬399 ⟵ 2٬407:
وتأمل ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء أحدها الفتح المبين. والثاني مغفرة ماتقدم من ذنبه وما تأخر. والثالث هدايته الصراط المستقيم. والرابع إتمام نعمته عليه. والخامس إعطاء النصر العزيز وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر، لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح. فإن الهدى هو العلم بالله ودينه والعمل بمرضاته وطاعته. فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه. فالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد، وقهر قلوب المخالفين له بالحجة، وقهر أبدانهم باليد.
 
وهو سبحانه كثيرًا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } <ref>[ التوبة: 33 ]</ref> في موضعين في [[سورة براءة]] وفي [[سورة الصف]]. وقال تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } ، فهذا الهدى ثم قال: { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد }، <ref>[ الحديد: 25 ]</ref> ، فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر. وقال تعالى: { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان }، <ref>[ آل عمران: 1 2، 3،- 4 ]</ref> ، فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل.
 
وسر اقتران النصر بالهدى. إن كلًا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل. ولهذا سمي تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانًا. كما قال تعالى: { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان }، <ref>[ الأنفال: 41 ]</ref> ، فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو [[يوم بدر]]. وهو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم ومن هذا قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين }، <ref>[ الأنبياء: 84 ]</ref> ، فالفرقان نصرة له على فرعون وقومه والضياء والذكر والتوراة هذا هو معنى الآية. ولم يصب من قال: إن الواو زائدة، وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في الأمالي المكية. فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر، وإنه لا يصح فيها غير ذلك البتة.
 
وأما جوابه الثاني عن قوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم بأنه لوعرف لجعل للكفر والضلال حظًا من الاستقامة. فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى؟ وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم افترى قوله تعالى: { وآتيناهما الكتاب المستبين }، <ref>[ الصافات: 117 ]</ref> ، { وهديناهما الصراط المستقيم } <ref>[ الصافات: 118 ]</ref> يفهم منه أن لغيره حظًا من الاستقامة، وما ثم غيره إلا طرق الضلال. وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله إليه أنبيائه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال: إنه يفهم منه إن لغيره حظًا من الاستقامة. بل يقال تعريفه ينبىء أن لا يكون لغيره حظ من الاستقامة. فإن التعريف في قوة الحصر فكانه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه، وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة، فتأمله هنا وفي نظائره.
 
===فصل: اشتقاق الصراط===
 
وأما المسألة الثالثة وهي اشتقاق الصراط. فالمشهور أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعًا سهلًا فسمي الطريق صراطًا، لأنه يشترط المارة فيه. والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقًا مستقيمًا سهلًا مسلوكًا واسعًا موصلًا إلى المقصود. فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطًا، ولا الصعب المشق، ولا المسدود غير الموصل. ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك. قال جرير:
السطر 2٬413 ⟵ 2٬421:
وبنوا الصراط على زنة فعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المشروط وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء، كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب يأتي لثلاثة معان. أحدها: المصدر كالقتال والضراب، والثاني المفعول نحو الكتاب والبناء والغرا س، والثالث إنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطي ويسد به، فهذا الة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود. ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه.
 
وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة.خاصة، فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن. إنهمأنهم قالوا لقومهم: { إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى مصدقًا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }، <ref>[ الأحقاف: 30 ]</ref> ، وتعبيرهم عنه ههنا بالطريق فيه نكتة بديعة، وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وإن الكتاب الذي سمعوه مصدقًا لما بين بديه من كتاب موسى وغيره، فكان فيه كالنبأ عن رسول الله {{صل}} في قوله لقومه: { ما كنت بدعًا من الرسل } <ref>[ الأحقاف: 9 ]</ref> أي لم أكن أول رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم، وإنما بعثت مصدقًا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان فقال مؤمنو الجن: { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }. <ref>[ الاحقاف: 30 ]</ref> . أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله، وإنه ليس ببدع كما قال في أول السورة نفسها فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق، لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل. فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه. فذكر الطريق ههنا إذًا أولى، لأنه أدخل في باب الدعوة. والتنبيه على تعين أتباعه والله أعلم. ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر.
 
===فصل: إضافة الصراط إلى الموصول المبهم===
==فصل==
 
وأما المسألة الرابعة وهي إضافته إلى الموصول المبهم دون أن يقول: صراط النبيين والمرسلين ففيه ثلاث فوائد:
 
إحداها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا، فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى الصراط فيه صاروا من أهل النعمة وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها. وهذا كقوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم }، <ref>[ البقرة: 274 ]</ref> ، { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون }، <ref>[ الزمر: 33 ]</ref> ، { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم }، <ref>[ الأحقاف: 13 ]</ref> ، وهذا الباب مطرد فالإتيان بالاسم موصولًا على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاص.
 
الفائدة الثانية: فيه إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه. فالسائل مستشعر سؤال الهداية وطلب الإنعام من الله عليه. والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه. والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه.
السطر 2٬425 ⟵ 2٬433:
الفائدة الثالثة: إن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم، ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم. فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة. إن المسؤول الهدي إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وهذا أجل مطلوب وأعظم مسؤول. ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيراه وقرنه بأنفاسه. فإنه لم يدع شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه. ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع، عباده فرضا متكررًا في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه، ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في، الصلاة وإنها ليس منها عوض يقوم مقامها.
 
===فصل: قال أنعمت عليهم ولم يقل المنعم عليهم===
==فصل==
 
وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال: { الذين أنعمت عليهم } ولم يقل المنعم عليهم. كما قال: { المغضوب عليهم } فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة.
 
أحدها: إن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القران. وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى. فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ، ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة. حذف الفاعل وبنى الفعل معها للمفعول أدبًا في الخطاب، وإضافته إلى الله أشرف فسمى أفعاله، فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه، ولم يحذف فاعلها. ولما ذكر الغضب حذف الفاعل، وبنى الفعل للمفعول. فقال: المغضوب عليهم وقال في الإحسان: الذين أنعمت عليهم. ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: { الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين } <ref>[ الأحقاف: 78، 79، 80 ]</ref> فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام. والسقي إلى الله تعالى. ولما جاء إلى ذكر المرض قال: وإذا مرضت. ولم يقل أمرضني. وقال: فهو يشفين ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا }، <ref>[ الجن: . 1 10]</ref> ، فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول. ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة فأردت أن أعيبها. فأضاف العيب إلى نفسه. وقال في الغلامين: { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما }، <ref>[ الكهف: 82 ]</ref> ، ومنه قوله تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم }، <ref>[ البقرة: 187 ]</ref> ، فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: { وأحل الله البيع وحرم الربا }، <ref>[ البقرة: 275 ]</ref> ، لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل ومنه: { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير }، <ref>[ المائدة: 3 ]</ref> ، وقوله: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } <ref>[ الأنعام: 151 ]</ref> إلى آخرها. ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله: { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } <ref>[ النساء: 23 ]</ref> إلى آخرها، ثم قال: { وأحل لكم ما وراء ذلكم }، <ref>[ النساء: 24 ]</ref> ، وتأمل قوله: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع. وقال في حق المؤمنين: { حرمت عليكم الميتة والدم }. <ref>[ المائدة: 3 ]</ref> .
 
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر النعم والعمل بطاعته. وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: { أنعمت عليهم } من ذكر وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله. فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون }. <ref>[ البقرة: 152 ]</ref> .
 
الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشركه أحد في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال: أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة، وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه. وهذا حقيقة العبودية واليهود قد غضب الله عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم. فحذف فاعل الغضب وقال: المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضبهم على من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإنه لله وحده. فتأمل هذه النكتة البديعة.
السطر 2٬437 ⟵ 2٬445:
الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الإلتفات إليهم والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها. وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشارة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين. فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى. فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك. فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم. فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم.
 
===فصل: تعدية الفعل بنفسه===
 
وأما المسألة السابعة وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف إلى، فجوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة، وبحرف إلى تارة وباللام تارة. والثلاثة في القرآن. فمن المعدى بنفسه هذه الآية. وقوله: { ويهديك صراطًا مستقيمًا }، <ref>[ الفتح: 2 ]</ref> ، ومن المعدى بإلى قوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }، <ref>[ الشورى: 52 ]</ref> ، وقوله تعالى: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم }، <ref>[ الأنعام: 161 ]</ref> ، ومن المعدى باللام قوله قول أهل الجنة: { الحمد لله الذي هدانا لهذا }، <ref>[ الأعراف: 43 ]</ref> ، وقوله تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }. <ref>[ الإسراء: 9 ]</ref> .
 
والفرق بين هذه المواضع تدق جدًا عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق، وهي أن الفعل المعدي بالحروف المتعددة لا بد أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف. فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت عنه ورغبت فيه، وعدلت إليه وعدلت عنه، وملت إليه وعنه وسعيت إليه وبه، وإن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وقصدت له، وهديته إلى كذا وهديته لكذا، وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر. وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره. فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، فيشربون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة أمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى، وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف. وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن. وهذا نحو قوله تعالى: { عينًا يشرب بها عباد الله }، <ref>[ الإنسان: 6 ]</ref> ، فإنهم يضمنون بشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها. فيكون في ذلك دليل على الفعلين أحدهما بالتصريح به، والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها. ومنه قوله في السحاب: شربن بماء البحر حتى روين، ثم ترفعن وصعدن. وهذا أحسن من أن يقال يشرب منها. فإنه لا دلالة فيه على الري وإن يقال: يروي بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه، بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها. دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله. ومن هذا قوله تعالى: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه }، <ref>[ الحج: 25 ]</ref> ، وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء، ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة. فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة، وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه ويكفي المثالان المذكوران. فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي بإلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين. فإذا قلت: هديته لكذا. فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا، وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى، الجامع لذلك كله وهو التعريف والبيان والإلهام. فالقائل إذا قال: اهدنا الصراط المستقيم. هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه، فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه. فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردًا معدى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها. ولو عدى بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف. فتأمله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها.
 
===فصل: تخصيص أهل السعادة بالهداية===
==فصل==
 
وأما المسألة الثامنة وهي أنه خص أهل السعادة بالهداية دون غيرهم. فهذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟ فمن ناف محتج بهذه وبقوله: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }، <ref>[ النساء: 69 ]</ref> ، فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه، ولقوله لعباده المؤمنين: { ولأتم نعمتي عليكم } <ref>[ البقرة: 15 ]</ref> وبأن الإنعام ينافي الانتقام والعقوبة فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي. ومن مثبت محتج بقوله: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }، <ref>[ إبراهيم: 34 ]</ref> ، وقوله لليهود: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }، <ref>[ البقرة: 122 ]</ref> ، وهذا خطاب لهم في حال كفرهم وبقوله في [[سورة النحل]] التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله: { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون * فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين * يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون }، <ref>[ النحل: 81،81 82،- 83 ]</ref> ، وهذا نص صريح لا يحتمل صرفًا. واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته. وهذا معلوم بالاضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته.
 
وفصل الخطاب في المسألة أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم. ومطلق النعمة عام للخليفة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم. فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم، فهذه غير مشتركة ومطلق النعمة عام مشترك. فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة أصاب، وإن أراد سلب مطلق النعمة أخطأ. وإن أراد المثبت إثبات النعمة المطلقة للكافر أخطأ. وإن أراد إثبات مطلق النعمة أصاب، وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب، والله الموفق.
 
وأما قوله تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }، <ref>[ البقرة: 122 ]</ref> ، فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم ولهذا يعددها عليهم واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون وإن فرق بهم البحر وإن وعد موسى أربعين ليلة. فضلوا بعده ثم تاب عليهم، وعفا عنهم، وبأن ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم، وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدعوهم ذكرهم لها إلى طاعته، والإيمان برسله، والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته، وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكرًا فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه؟ وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم.
 
===فصل: قال غير المغضوب ولم يقل لا المغضوب عليهم===
==فصل==
 
وأما المسألة التاسعة وهي أنه قال غير المغضوب، ولم يقل لا المغضوب عليهم. فيقال: لا ريب أن لا يعطف بها بعد الإيجاب، كما تقول: جاءني زيد لا عمرو وجاءني العالم لا الجاهل. وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا كما سيأتي. وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف. فتقول: لو أخرج الكلام مخرج العطف، وقيل: صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم. لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم. كما هو مقتضي العطف. فإنك إذا قلت: جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم. وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها. وصفهم بشيئين أحدهما أنهم منعم عليهم. والثاني أنهم غير مغضوب عليهم. فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم، ومدحهم فإنه يتضمن صفتين صفة ثبوتية وهي كونهم منعمًا عليهم وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وإنهم مغايرون لأهله. ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم، ولم تكن صفة منصوبة على الاستثناء لأنها يزول منها معنى الوصفية المقصود.
السطر 2٬457 ⟵ 2٬465:
وفيه فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام. فكأنه قيل لهم: المنعم عليهم غيركم لا أنتم. وقيل للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم. فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة. فتأمله وتأمل كيف قال المغضوب عليهم ولا الضالين. ولم يقل: اليهود والنصارى مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريدًا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل، لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال. فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد.
 
===فصل: جريان غير صفة على المعرفة===
==فصل==
 
وأما المسألة العاشرة وهي جريان غير صفة على المعرفة. وهي لا تتعرف بالإضافة ففيه ثلاثة أجوبة:
السطر 2٬463 ⟵ 2٬471:
أحدها: أن غير هنا بدل لا صفة وبدل النكرة من المعرفة جائز، وهذا فاسد من وجوه ثلاثة.
 
أحدها: أن باب البدل المقصود فيه الثاني والأول توطئة له ومهاد أمامه وهو المقصود بالذكر فقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }، <ref>[ آل عمران: 197 ]</ref> ، المقصود هو أهل الاستطاعة خاصة وذكر الناس قبلهم توطئة، وقولك: أعجبني زيد علمه، إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرت صاحبه توطئة لذكره وكذا قوله: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه }، <ref>[ البقرة: 217 ]</ref> ، المقصود إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر. وهذا ظاهر جدًا في بدل البعض وبدل الاشتمال، ويراعى في بدل الكل من الكل. ولهذا سمي بدلًا إيذانًا بأنه المقصود فقوله: { لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة }، <ref>[ العلق: 16 ]</ref> ، المقصود لنسفعن بالناصية الكاذبة الخاطئة وذكر المبدل منه توطئة لها، وإذا عرف هذا، فالمقصود هنا ذكر المنعم عليهم وإضافة الصراط إليهم ومن تمام هذا المقصود وتكميله الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم. فجاء ذكر غير المغضوب مكملًا لهذا المعنى ومتممًا، لأن أصحاب الصراط المسؤول هدايته هم أهل النعمة فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقق وفائدته فائدة الوصف المبين للموصوف المكمل له وهذا واضح.
 
الوجه الثاني: أن البدل يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتثنيته ولهذا كان في تقدير تكرار العامل وهو المقصود بالذكر كما تقدم فهو الأول بعينه ذاتًا ووصفًا، وإنما ذكر بوصف آخر مقصود بالذكر كقوله: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم } <ref>[ الفاتحة: 6، 7 ]</ref> ، ولهذا يحسن الاقتصار عليه دون الأول ولا يكون مخلًا بالكلام، ألا ترى أنك لو قلت: في غير القرآن لله حج البيت على من استطاع إليه السبيل لكان كاملًا مستقيمًا لا خلل فيه. ولو قلت في دعائك: رب اهدني صراط من أنعمت عليه من عبادك لكان مستقيمًا. وإذا كان كذلك فلو قدر الاقتصار على غير، وما في حيزها لاختل الكلام وذهب معظم المقصود منه. إذ المقصود إضافة الصراط إلى الذين أنعم الله عليهم لا إضافته إلى غير المغضوب عليهم. بل أتى بلفظ غير زيادة في وصفهم والثناء عليه فتأمله.
 
الوجه الثالث: أن غير لا يعقل ورودها بدلًا، وإنما ترد استثناء أو صفة أو حالًا. وسر ذلك أنها لم توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها ولهذا قلما يقال: جاءني غير زيد ومررت بغير عمرو. والبدل لا بد أن يكون مستقلًا بنفسه كما تبين أنه المقصود ونكتة الفرق أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلت الأول سلمًا ومرقاة إليه. فهو موضع قصدك ومحط إرادتك وفي باب الصفة بخلاف ذلك، إنما أنت قاصد الموصوف موضح له بصفته. فاجعل هذه النكتة معيارًا على باب البدل والوصف، ثم زن بها غير المغضوب عليهم. هل يصح أن يكون بدلًا أو وصفًا؟
السطر 2٬481 ⟵ 2٬489:
أفلا تراه أجرى غير المنكر صفة على النسب، كما أجرى عليه المعروف صفتان معينتان فلا إبهام في غير لأن مقابلها المعروف وهو معرفة وضده المنكر متميز متعين، كتعين المعروف أعني تعين الجنس.
 
وهكذا قوله: { صراط الذين أنعمت عليهم } ، فالمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم. فإذا كان الأول معرفة كانت غير معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم. فاكتسبت منه التعريف.
 
وينبغي أن تتفطن هنها لنكتة لطيفة في غير تكشف لك حقيقة أمرها. فأين تكون معرفة وأين تكون نكرة؟ وهي أن "غيرًا" هي نفس ما تكون تابعة له وضد ما هي مضافة إليه فهي واقعة على متبوعها وقوع الاسم المرادف على مرادفه. فإن المعروف هو تفسير غير المنكر والمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم هذا حقيقة اللفظة. فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة، وإن أضيفت. كما إذا قلت: رجل غيرك فعل كذا وكذا، وإذا كان متبوعها معرفة لم تكن إلا معرفة، كما إذا قيل المحسن غير المسيء محبوب معظم عند الناس والبر غير الفاجر مهيب والعادل غير الظالم مجاب الدعوة. فهذا لا تكون فيه غير إلا معرفة، ومن ادعى فيها التنكير هنا غلط وقال: ما لا دليل عليه إذ لا إبهام فيها بحال فتأمله.
السطر 2٬489 ⟵ 2٬497:
قلت: اسم الفاعل، إنما لا يتعرف بالإضافة إذا أضيف إلى معموله، لأن الإضافة في تقدير الانفصال نحو هذا ضارب زيد غدًا. وليست غير بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في المفعول حتى يقال الإضافة في تقدير الانفصال، بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات. ألا ترى أن قولك غيرك بمنزلة قولك سواك ولا فرق بينهما والله أعلم.
 
===فصل: إخراج صراط مخرج البدل===
==فصل==
 
وأما المسألة الحادية عشرة: وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم } <ref>[ الفاتحة: 6، 7 ]</ref> ، مخرج البدل مع أن الأول في نية الطرح.
 
فالجواب أن قولهم الأول في البدل في نية الطرح كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه. بل البدل نوعان: نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل، البعض من الكل، وبدل الاشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول، وقد تقدم، ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل، بل يكون الثاني بمنزلة التذكير واالتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول. فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه إنه لما قال: { اهدنا الصراط المستقيم } ، فكأن الذهن طلب معرفة ما إذا كان الصراط مختص بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله. فقال: { صراط الذين أنعمت عليهم } وهذا كما إذا دللت رجلًا على طريق لا يعرفها، وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها. فأنت تقول: هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك، ثم تزيد ذلك عنده توكيدًا وتقوية، فتقول: وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة. أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرًا زائدًا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة. فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة. فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله.
 
===فصل: تفسير المغضوب عليهم والضالين===
==فصل==
 
وأما المسألة الثانية عشرة: وهي ما وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال.
السطر 2٬501 ⟵ 2٬509:
فالجواب أن يقال هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى، فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه، لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها، وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق، لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال. فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع.
 
أما اليهود فقال تعالى في حقهم: { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين }، <ref>[ البقرة: 90 ]</ref> ، وفي تكرار هذا الغضب هنا أقوال.
 
أحدها: أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول الله {{صل}} والبغي عليه ومحاربته. فاستحقوا بكفرهم غضبًا، وبالبغي والحرب والصد عنه غضبًا آخر. ونظيره قوله تعالى: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب } <ref>[ النحل: 88 ]</ref> فالعذاب الأول بكفرهم، والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله.
 
القول الثاني أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء، والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح.
السطر 2٬509 ⟵ 2٬517:
والقول الثالث أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح والغضب الثاني بمحمد {{صل}}.
 
والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد، بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد {{صل}}، ومعاداتهم لرسل الله، إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبًا على حدته. وهذا كما في قوله: { فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين }، <ref>[ الملك: 3 - 4 ]</ref> ، أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط.
 
وقصد التعدد في قوله: { فباءوا بغضب على غضب }، <ref>[ البقرة: 9 ]</ref> ، أظهر ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبًا، وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبًا آخر وقتلهم إياهم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبًا، وتكذيبهم النبي {{صل}} يستدعي غضبًا، ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبًا، وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبًا. فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بالغضب المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الاسم والوصف من النصارى. وقال تعالى في شأنهم: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت }، <ref>[ المائدة: 60 ]</ref> ، فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ وهو أشد ما يكون من الغضب. وقال تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون }. <ref>[ المائدة: 78،78 79،- 80 ]</ref> .
 
وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل }، <ref>[ المائدة: 77 ]</ref> ، فهذا خطاب للنصارى، لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وقال المسيح: { يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } <ref>[ المائدة: 72 ]</ref> إلى قوله: { وضلوا عن سواء السبيل } <ref>[ المائدة: 77 ]</ref> ، فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولًا، ثم أضلوا كثيرًا وهم أتباعهم. فهذا قبل مبعث النبي في {{صل}} حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم، فلما بعث النبي {{صل}} ازدادوا ضلالًا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم. هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره، وهو ضعيف. فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات. أحدها أنهم قد ضلوا من قبلهم. والثاني أنهم أضلوا أتباعهم، والثالث أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهى هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفًا للموجودين في زمن النبي {{صل}}، لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم. فتأمله.
 
وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالًا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق. وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود، ووجه تكرار هذا الضلال. إن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالًا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده، ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودًا حقًا، لكن يضل في طريق طلبه والسبيل الموصلة إليه، فالأول ضلال في الغاية. والثاني ضلال في الوسيلة، ثم إذا دعى غيره إلى ذلك فقد أضله.
السطر 2٬533 ⟵ 2٬541:
فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه، ولا أوجب منه عليه. وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس، لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب.
 
===فصل: تقديم المغضوب عليهم على الضالين===
==فصل==
 
وأما المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه عديدة:
السطر 2٬539 ⟵ 2٬547:
أحدها: أنهم متقدمون عليهم بالزمان.
 
الثاني: أنهم كانوا هم الذين يلون النبي {{صل}} من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه. ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن أكثر من خطاب النصارى، كما في [[سورة البقرة]] والمائدة وآل عمران وغيرهما من السور.
 
الثالث: أن اليهود أغلظ من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة. فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم. فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم، وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم وعاند.
السطر 2٬545 ⟵ 2٬553:
الرابع: وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم، والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليه فيه من الإزدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين. فقولك: الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال.
 
===فصل: اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال===
==فصل==
 
وأما المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب بإسمباسم المفعول وفي الضالين باسم الفاعل فجوابهما ظاهر، فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم، وأما أهل الضلال. فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه. ولهذا استحقوا العقوبة عليه، ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيًا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم، وإنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم. بل فعل فيهم، ولا حجة في هذا للقدرية. فإنا نقول: إنهم هم الذين ضلوا وإن كان الله أضلهم بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلًا إلا على جهة المجاز لا الحقيقة فتضمنت الآية الرد عليهم، كما تضمن قوله: اهدنا الصراط المستقيم الرد على القدرية. ففي الآية إبطال قول الطائفتين والشهادة لأهل الحق أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدًا وخلقًا والقدرة لإضافة أفعال العباد إليهم عملًا وكسبًا وهو متعلق الأمر والعمل، كما أن الأول متعلق الخلق والقدرة. فاقتضت الآية إثبات الشرع والقدر والمعاد والنبوة فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه، فالمنعم عليهم رسله واتباعهم ليس إلا وهدى اتباعهم، إنما يكون على أيديهم. فاقتضت إثبات النبوة بأقرب طريق وأبينها وأدلها على عموم الحاجة وشدة الضرورة إليها، وإنه لا سبيل للعبد أن يكون من المنعم عليهم إلا بهداية الله له، ولا تنال هذه الهداية إلا على أيدي الرسل، وإن هذه الهداية لها ثمرة وهي النعمة التامة المطلقة في دار النعيم، ولخلافها ثمرة وهي الغضب المقتضي للشقاء الأبدي، فتأمل كيف اشتملت هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهم مطالب الدين وأجلها. والله الهادي إلى سواء السبيل وهو أعلم.
 
===فصل: زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه===
==فصل==
 
وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي ما فائدة زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه ففي ذلك أربع فوائد:
السطر 2٬557 ⟵ 2٬565:
الفائدة الثانية: إن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده، فلو لم يذكر لا وقيل: غير المغضوب عليهم والضالين. أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا ما غاير كل نوع بمفرده. فإذا قيل: ولا الضالين كان صريحًا أو أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء. وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيد وعمر فإنما نفيت القيام عنهما، ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده.
 
الفائدة الثالثة: رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم وإنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما، كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون،المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون،خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون }، <ref>[ المؤمنون: 1 - 3 ]</ref> ، إلى آخرها فإن هذه صفات للمؤمنين. ومثل قوله: { سبح اسم ربك الأعلى،الأعلى * الذي خلق فسوى،فسوى * والذي قدر فهدى }، <ref>[ الأعلى: 1 - 3 ]</ref> ، ونظائره فلما دخلت لا علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت لا أولى بهذا المعنى من غير لوجوه. أحدها: أنها أقل حروفًا. الثاني: التفادي من تكرار اللفظ. الثالث: الثقل الحاصل بالنطق بغير مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة، ولا ريب أنه ثقيل على اللسان الرافع أن لا، إنما يعطف بها بعد النفي، فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال وغيره. وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها، وقد عرف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة وهي أن لا إنما يعطف بها في النفي.
 
===فصل: معنى الهداية===
 
وأما المسألة السابعة عشرة: وهي أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات؟ فاعلم أن أنواع الهداية أربعة:
 
أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى: { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }، <ref>[ طه: 5 ]</ref> ، أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال وهذب هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجماد المسخر لما خلق له فله هداية تليق به. كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها، وكذلك كل عضو له هداية تليق به. فهدى الرجلين للمشي واليدين للبطش والعمل واللسان للكلام والأذن للاستماع والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خلق له وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه ومراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو، فتبارك الله رب العالمين.
 
وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومن الأبنية، ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها وهداها إلى طاعة يعسوبها وأتباعه والائتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء.
 
ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر وأول وهلة، وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها من كل شبهة، فإن من لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة، بل هداها إلى هذه التي تعجز عقول العقلاء عنها كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملًا، وسدى معطلًا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته. بل يتركه معطلًا لا يأمره ولا ينهاه ولا يثيبه ولا يعاقبه، وهل هذا إلا مناف لحكمته ونسبته له. مما لا يليق بجلاله. ولهذا أنكر ذلك على من زعمه، ونزه نفسه عنه، وبين أنه يستحيل نسبة ذلك إليه، وأنه يتعالى عنه فقال تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق }، <ref>[ المؤمنون: 115 ]</ref> ، فنزه نفسه عن هذا الحسبان فدل على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل، وإنه مما تظاهر عليه العقل والشرع. كما هو أصح الطريقين في ذلك ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى: { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون }، <ref>[ الأنعام: 38 ]</ref> ، بقوله: { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون }، <ref>[ الأنعام: 37 ]</ref> ، وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة، وإن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه. بل جعلها أممًا وهداها إلى غاياتها ومصالحها، كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم. فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها.
 
النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر، وطريقي النجاة والهلاك، وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط لا موجب، ولهذا ينبغي الهدى معها كقوله تعالى: { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }، <ref>[ فصلت: 17 ]</ref> ، أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا. ومنها قوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }. <ref>[ الشورى: 52 ]</ref> .
 
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتداء. فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله: { يضل من يشاء ويهدي من يشاء }، <ref>[ النحل: 93 ]</ref> ، وفي قوله: { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل }، <ref>[ النحل: 37 ]</ref> ، وفي قول النبي {{صل}}: «من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له»، وفي قوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت }، <ref>[ القصص: 56 ]</ref> ، فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }. <ref>[ الشورى: 52 ]</ref> .
 
النوع الرابع: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما قال تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم }، <ref>[ يونس: 9 ]</ref> ، وقال أهل الجنة فيها: { الحمد لله الذي هدانا }، <ref>[ الأعراف: 43 ]</ref> ، لهذا. وقال تعالى عن أهل النار: { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم }. <ref>[ الصافات: 23 ]</ref> .
 
إذا عرف هذا فالهداية المسؤولة في قوله الصراط المستقيم، إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة خاصة فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام.
السطر 2٬601 ⟵ 2٬609:
وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه ويذره أصلًا وتفصيلًا وتثبيتًا، ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام، فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية. فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يثبت قلوبنا على دينه.
 
===فصل: الإتيان بالضمير في قوله اهدنا===
==فصل==
 
وأما المسألة التاسعة عشرة: وهي الإتيان بالضمير في قوله: { اهدنا الصراط } ضمير جمع. فقد قال بعض الناس في جوابه: أن كل عضو من أعضاء العبد، وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به. فأتى بصيغة الجمع تنزيلًا، لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه. وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فاستركه واستضعفه جدًا، وهو كما قال: فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه، وعضو من أعضائه، والقائل إذا قال: اغفر لي وارحمني واجبرني واصلحني واهدني سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهره وباطنه فلا يحتاج أن يستشعرلكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظة.
 
فالصواب أن يقال هذا مطابق لقوله إياك نعبد وإياك نستعين. والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم. فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع، أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية. وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك. فيكون هذا أحسن وأعظم موقعًا عند الملك من أن يقول: أنا عبدك ومملوكك ولهذا، لو قال: أنا وحدي مملوكك استدعى مقته، فإذا قال أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم، لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدًا، وأنا واحد منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك الاستعانة بك وطلب الهداية منك. فقد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد. فتأمله، وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } <ref>[ البقرة: 201 ]</ref> ونحو دعاء آخر البقرة. وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن.
 
===فصل: ما هو الصراط المستقيم===
==فصل==
 
وأما المسألة العشرون، وهي ما هو الصراط المستقيم؟
السطر 2٬617 ⟵ 2٬625:
فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها. وهي معنى قول من قال: علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة، ومعنى قول من قال متابعة رسول الله ظاهرًا وباطنًا علمًا وعملًا ومعنى قول من قال: الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره. وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال: الصلوات الخمس. وقول من قال: حب أبي بكر وعمر، وقول من قال: هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له. بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم. والله أعلم.
 
==فائدة: بدل البعض وبدل المصدر==
 
في بدل البعض من الكل وبدل المصدر من الاسم وهما جميعًا يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، إلا أن البدل في هذين الموضعين لا بد من إضافته إلى ضمير المبدل منه بخلاف بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة.
السطر 2٬623 ⟵ 2٬631:
أما اتفاقهما في المعنى فإنك إذا قلت: رأيت القوم أكثرهم أو نصفهم، فإنما تكلمت بالعموم وأنت تريد الخصوص وهو كثير شائع فأردت بعض القوم وجعلت أكثرهم أو نصفهم تبيينًا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم، كما كان الاسم المبدل مضافًا إلى القوم فقد آل الكلام إلى أنك أبدلت شيئًا من شيء وهما لعين واحدة. وكذلك بدل المصدر من الاسم لأن الاسم من حيث كان جوهرًا لا يتعلق به المدح والذم والإعجاب والحب والبغض، إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به. فإذا قلت: نفعني عبد الله علمه دل أن الذي نفعك منه صفة وفعل من أفعاله، ثم بينت ذلك الوصف فقلت علمه أو إرشاده أو رويته. فأضفت ذلك إلى ضمير الاسم كما كان الاسم المبدل منه مضافًا إليه في المعنى. فصار التقدير نفعني صفة زيد أو خصلة من خصاله، ثم بينتها بقولك علمه أو إحسانه أو لقاؤه فآل المعنى إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة.
 
وإذا تقرر هذا فلا يصح في بدل الاشتمال أن يكون الثاني جوهرًا، لأنه لا يبدل جوهر من عرض، ولا بد من إضافته إلى ضمير الاسم، لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الاسم في التقدير والعجب من الفارسي يقول في قوله تعالى: { النار ذات الوقود } <ref>[ البروج: 5 ]</ref> إنها بدل من الأخدود بدل اشتمال والنار جوهر قائم بنفسه، ثم ليست مضافة إلى ضمير الأخدود وليس فيها شرط من شرانط الاشتمال، وذهل أبو علي عن هذا وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو، وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فكأنه قيل: أصحاب الأخدود أخدود النار ذات الوقود فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة كما قال الشاعر: * رضيعَي لِبان ثديِ أُمٍّ تحالفا * على رواية الجر في ثدي أم، أراد لبان ثدي فحذف المضاف.
 
==فائدة بديعة: ولله على الناس حج البيت==
 
قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا }. <ref>[ آل عمران: 97 ]</ref> . حج البيت مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله عى الناس، لأنه وجوب، والوجوب يقتضي على ويجوز أن يكون في قوله ولله، لأنه يتضمن الوجوب والاستحقاق، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير وكان الأحق أن يكون ولله ويرجع الوجه الأول بأن يقال قوله: { على الناس حج البيت أكثر استعمالًا في باب الوجوب من أن يقال: حج البيت لله أي حق واجب لله، فتأمله.
 
وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول، وليس بخبر، فائدتان:
السطر 2٬665 ⟵ 2٬673:
هذا تعبير السهيلي وهو بعيد جدًا. بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ولا يليق بالآية سواه وهو الوجوب المفهوم من قوله على الناس، أي يجب على الناس الحج، فهو حق واجب، وأما تعليقه بالسبيل أو جعله حالًا منها ففي غاية البعد فتأمله، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية. وهذا كما يقول لله: عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة.
 
ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويجرمه، يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر أو بلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم نحو: { كتب عليكم الصيام }، <ref>[ البقرة: 183 ]</ref> ، { حرمت عليكم الميتة }، <ref>[ المائدة: 3 ]</ref> ، { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم }، <ref>[ الأنعام: 151 ]</ref> ، وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه:
 
أحدها: أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص، ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على، ثم أبدل منه أهل الاستطاعة، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوت أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلًا، ثم اتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: ومن كفر أي بعدم التزام هذا الواجب وتركه، ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه والله تعالى هو الغني الحميد، ولا حاجة به إلى حج أحد، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو من أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عمومًا ولم يقل فإن الله غني عنه، لأنه إذا كان غنيًا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار، وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه. ثم أكد هذا المعنى بأداة إن الدالة على التوكيد.
السطر 2٬671 ⟵ 2٬679:
فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم. وتأمل سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين. مرة بإسناده إلى عموم الناس. ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين. وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرار الإسناد. ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته.
 
ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحلتين اعتناءً به وتأكيدًا لشأنه. ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها فقال: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدىً للعالمين } <ref>[ آل عمران: 96، 97 ]</ref> ، {* فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا }. <ref>[ آل عمران: 696 - 97 ]</ref> . فوصفه بخمس صفات:
 
أحدها: أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض.
السطر 2٬683 ⟵ 2٬691:
الخامس: الأمن الحاصل لداخله.
 
وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات، وهذا يدلك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه والرفعة من قدره. ولو لم يكن له شرف إلا ضافته إياه إلى نفسه بقوله: { وطهر بيتي للطائفين } <ref>[ الحج: 26 ]</ref> لكفى بهذه الإضافة فضلًا وشرفًا. وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حبًا له وشوقًا إلى رؤيته فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرًا أبدًا كلما ازدادوا له زيادة، ازدادوا له حبًا وإليه اشتياقًا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
 
أطوف به والنفس بعد مشوقة ** إليه وهل بعد الطواف تداني
السطر 2٬709 ⟵ 2٬717:
أتاك على بُعد المزار ولو وَنَت ** مطيته جاءت به القدمان
 
==فائدة بديعة: يسألونك عن الشهر الحرام==
 
قوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } <ref>[ البقرة: 217 ]</ref> من باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه فلم قدم الشهر وقد قلتم إنهم يقدمون ما هم ببيانه أهمّ وهم به أعنى؟
 
قيل السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر، وتشنيع أعدائهم عليهم، وانتهاك حرمته، فكان اعتناؤهم واهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال. فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر. فلذلك قدم في الذكر وكان تقديمه مطابقًا لما ذكرنا من القاعدة.
السطر 2٬723 ⟵ 2٬731:
فكذلك في الآية لما قال قتال فيه كبير فجعل الخبر بكبير واقعًا على قتال فيه فيطلق الحكم به على العموم، ولفظ المضمر لا يقتضي ذلك.
 
وقريب من هذا قوله تعالى: { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين }، <ref>[ الأعراف: 70 ]</ref> ، ولم يقل: أجرهم تعليقًا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين، وليس في الضمير ما يدل على الوصف المذكور.
 
وقريب منه وهو ألطف معنى قوله تعالى: { يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض }، <ref>[ البقرة: 222 ]</ref> ، ولم يقل فيه تعليقًا لحكم الاعتزال بنفس الحيض وأنه هو سبب الاعتزال. وقال تعالى: { قل هو أذى } <ref>[ البقرة: 222 ]</ref> ، ولم يقل الحيض، لأن الآية جارية على الأصل، ولأنه لو كرره لثقل اللفظ لتكرره ثلاث مرات وكان ذكره بلفظ الظاهر في الأمر بالإعتزال أحسن من ذكره مضمرًا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضًا بخلاف قوله: { قل هو أذى } فإنه إخبار بالواقع، والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضًا بخلاف تعليق الحكم به. فإنه إنما يعلم بالشرع فتأمله.
 
==فائدة: مجيء الحال من المضاف إليه==
 
إنما امتنع مجيء الحال من المضاف إليه، لأن الحال شبه الظرف والمفعول. فلا بد لها من عامل ومعنى الإضافة أضعف من لامها. ولامها لا تعمل في ظرف ولو مفعول. فمعناها أولى بعدم العمل.
السطر 2٬733 ⟵ 2٬741:
فإن قلت: فاجعل العامل فيها هو العامل في المضاف.
 
قلت: هو محال لا يجب اتحاد العامل في الحال وصاحبها، فلو كان العامل فيها هو العامل في المضاف لكانت حالًا منه دون المضاف إليه فتستحيل المسألة. فإما إذا كان المضاف فيه معنى الفعل نحو قولك: هذا ضارب هند قائمة، وأعجبني خروجها راكبة، جاز انتصاب الحال من المضاف إليه، لأن ما في المضاف من معنى الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حال منه وعلى هذا جاء قوله تعالى: { قال النار مثواكم خالدين فيها }، <ref>[ الأنعام: 128 ]</ref> ، وقوله: { أولئك أصحاب النار خالدين فيها } <ref>[ التغابن: 10 ]</ref> فإن ما في مثوى وأصحاب من معنى الفعل يصحح عمله في الحال بخلاف قولك: رأيت غلام هند راكبة فإنه ليس في الغلام شيء من رائحة الفعل. وقد يجوز انتصاب الحال عن المضاف إليه، إذا كان المضاف جزءه أو منزلًا منزلة جزءه نحو رأيت وجه هند قائمة، لأن البعض يجري عليه حكم الكل في اقتضاء العامل له. فجاز أن يعمل في الحال ما يعمل في بعض صاحبها لتنزله منزلته. وسريان حكم البعض إلى الكل لا ينكر لا لغة ولا شرعًا ولا عقلًا. فاللغة نحو هذا ونحو قوله: ذهبت بعض أصابعه وسرقت صدر القناة وتواصفت سور المدينة وهو كثير. وأما الشرع فكسريان العتق في الشقص المشترك. وأما العقل فإن الارتباط الذي بين الجزء والكل يقتضي أن يثبت لأحدهما ما يثبت للآخر وعلى هذا جاء قول الشاعر: * كان حواء منه مدبرًا * وقول حبيب: * والعلم في شهب الأرماح لامعة *
 
==فائدة بديعة: إضمار الناصب==
 
إن قيل كيف يضمرون الناصب في مثل: * للبسُ عباءة وتقرَّ عيني * وبابه، ولا يجوزون إضمار الخافض ولا الجازم، ولا إضمار نواصب الأسماء، وعواملُ الأسماء عندكم أقوى من عوامل الأفعال؟
السطر 2٬745 ⟵ 2٬753:
قيل: هذا سؤال حسن يستدعي جوابًا قويًا، وقد أجيب عنه بأن الأول لو جعل فعلًا مضارعًا لكان مرفوعًا. فإذا عطفت عليه الثاني شاركه في إعرابه وعامله. ورافع المضارع ضعيف لا يقوى على العمل في الفعلين. فإن العامل في المعطوف والمعطوف عليه واحد ولا يخفى فساد هذا الجواب فإنه منتقض بالطم والرم مما يعطف فيه المضارع على مثله كقوله: زيد يذهب ويركب، وإنما يذهب ويخرج زيد وأمثال ذلك.
 
فالجواب الصحيح أن يقال: المراد ما في المصدر من الدلالة على ثبوت نفس الحدث، وتعليق الحكم به دون تقييده بزمان دون زمان فلو أتى بالفعل المقيد بالزمان لفات الغرض. ألا ترى أن قولها بولبس عباءة وتقر عيني. المراد به حصول نفس اللبس مع كونها تقر عينها كل وقت شيئًا بعد شيء. فقرة العين مطلوب تجددها بحسب تجدد الأوقات وليس هذا مرادًا في لبس العباءة. وكذا قولك: آكل الشعير وأكف وجهي عن الناس أحب إلي من أكل البر وأبذل وجهي لهم. أفلا ترى تفضيل أكل الشعير على أكل البر ويدوم له كف وجهه عن الناس، كما أن تلك فضلت لبس العباءة على لبس الشفوف وتدوم لها قرة العين. فعلمت أن المقصود ماهية المصدر وحقيقته لا تقييده بزمان دون زمان. ولما كانت أن والفعل تقع موقع المصدر ويؤولان به في الإخبار عنهما كما يخبر عن الاسم نحو قوله: { وأن تصوموا خير لكم }، <ref>[ البقرة: 184 ]</ref> ، أي صيامكم أول المصدر بأن والفعل في صحة عطف الفعل عليه وهذا من باب المقابلة والموازنة وقد جاء عطف الفعل على الاسم إذا كان فيه معنى الفعل نحو صافات ويقبضن. وإن المصدقين والمصدقات واقرضوا الله. ومنه وجيهًا ومن المقربين ويكلم الناس في المهد، لأن الاسم المعطوف عليه لما كان حاملًا للضمير صار بمنزلة الفعل ولو كان مصدرًا لم يجز عطف الفعل عليه إلا بإضمار أن، لأن المصادر لا تتحمل الضمائر.
 
فإن قيل: فلم جاز عطف الفعل على الاسم الحامل للضمير، ولم يعطف الاسم على الفعل. فتقول: مررت برجل يقعد وقائم، كما تقول: قائم ويقعد.
السطر 2٬753 ⟵ 2٬761:
وسر المسألة: أن عطف الفعل على الاسم في مثل قوله: { صافات ويقبضن } ومررت برجل قائم، وبقعد أن الاسم معتمد على ما قبله. وإذا كان اسم الفاعل معتمدًا عمل عمل الفعل وجرى مجراه والاعتماد أن يكون نعتًا أو خبرًا، أو حالًا، والذي بعد الواو ليس بمعتمد بل هو اسم محض فيجري مجرى الفعل.
 
==فائدة: مصدر الفعل اللازم==
 
لما كان الفعل اللازم هو الذي لزم فاعله ولم يجاوزه إلى غيره، جاء مصدره مثقلًا بالحركات. إذ المثقل من صفة ما لزم محله، ولم ينتقل عنه إلى غيره. والخفة من صفة المنتقل من محله إلى غيره، فكان خفة اللفظ في هذا الباب وثقله موازنًا للمعنى فما لزم مكانه ومحله فهو الثقيل لفظًا ومعنى، وما جاوزه وتعداه فهو الخفيف لفظًا ومعنى.
السطر 2٬767 ⟵ 2٬775:
ومن هذا الباب حلم فإنه يوافقه في وجه ويخالفه في وجه، لأنه يدل على إثبات الصفة، فوافق شرف وكرم في الضم وخالفه في المصدر لمخالفته له في المعنى، لأنه صفة تقتضي كف النفس وجمعها عن الانتقام والمعاقبة، ولا يقتضي انفتاحًا ولا انتشًارا فقالوا: حلم لأنه من بناء الخصال والطبائع. وقالوا: حلماء، لأن الصفة صفة جمع النفس وضمها وعدم إرسالها في الانتقام فتأمله. ومن هذا الباب كبر وصغر موافق لما قبله في الفعل مخالف له في المصدر، لأن الكبر والصغر عبارة عن اجتماع أجزاء الحمم في قلة أو كثرة، وليس من الصفات والأحداث المنتشرة. وهذا تنبيه لطيف على ما هو أضعاف ذلك.
 
==فائدة: فعل المطاوعة==
 
فعل المطاوعة هو الواقع مسببًا عن سبب اقتضاه نحو كسرته فانكسر. فزيدت النون في أوله قبل الحروف الأصلية ساكنة كيلا يتوالى الحركات، ثم وصل إليها بهمزة الوصل. وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازنة للمعاني الزائدة على معنى الكلمة. فإن كان المعنى الزائد مترتبًا قبل المعنى الأصلي كانت الحروف الزائدة قبل الحروف الأصلية كالنون في الفعل، وكحروف المضارعة في بابها، وإن كان المعنى الزائد في الكلمة آخرًا كان الحرف الزائد على الحروف الأصلية آخرًا، كعلامة التأنيث وعلامة التثنية الجمع.
السطر 2٬777 ⟵ 2٬785:
وهذا عكس دخول همزة التعدية على الفعل فإنها تزيده واحدًا أبدًا، وإن كان لازمًا صيرته متعديًا إلى مفعول، وإن كان متعديًا إلى واحد صيرته متعديًا إلى اثنين، وأما أحمر واحمار ففعل مشتق من الاسم كانتعل من النعل، وتمسكن من المسكن، وتمدرع وتمندل وتمنطق.
 
وزعم [[الخطابي]] أن معنى أحمر مخالف لمعنى احمار وبابه، وذهب إلى أن أفعل يقال فيما لم يخالطه لون آخر وأفعال. يقال لما خالطه لون آخر وهو ثقة في نقله والقياس يقتضي ما ذكر، لأن الألف لم يزد في إضاف حروف الكلمة إلا لدخول معنى زائد بين إضعاف معناها، والذي قاله غيره أحسن من هذا وهو أن أحمر يقال لما أحمر وهلة نحو أحمر الثوب ونحوه.
 
وأما احمارَّ فيقال لما يبدو فيه اللون شيئًا بعد شيء على التدريح نحو احمار البسر واصفار، ويدخل أفعل في هذا على أفعال. فيقال: احمر البسر، إذا تكامل لون الحمرة فيه واحمار، إذا ابتدأ صاعدًا إلى كماله.
 
==فائدة: المتعدي إلى مفعولين==
 
اختلفوا في المتعدي إلى مفعولين من باب كسى هل هو قياسي بالهمزة أم سماعي؟ والثاني قول سيبويه وهو الصحيح، فإنك لا تقول: آكلت زيدًا الخبز، ولا آخذته الدراهم، ولا أطلقت زيدًا امرأته وأعتقته عبده، ولكن ينبغي التفطن لضابط حسن وهو أنه ينظر إلى كل فعل منه في الفاعل صفة ما، فهو الذي يجوز فيه النقل، لأنك إذا قلت: أفعلته فإنما تعني جعلته على هذه الصفة، وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إذا كان ثلاثيًا. نحو قعد وأقعدته، وطال وأطلته.
السطر 2٬791 ⟵ 2٬799:
وأما أعطيته فمنقول من عطا يعطو إذا أشار للتناول وليس معناه الأخذ والتناول. ألا تراهم يقولون: عاط بغير أنواط، أي يشير إلى التناول من غير شيء فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل لشيء. فلذلك نقل كما نقل المتعدي لقربه منه فقالوا: أعطيته أي جعلته عاطيًا.
 
وأما أنلت من نال المتعدية وهي بمنزلة عطا يعطو لا تنبىء إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: { لن ينال الله لحومها }، <ref>[ الحج: 37 ]</ref> ، ولو كان فعلًا مؤثرًا في مفعوله لم يجز هذا، إنما هو شيء منبىء عن الوصول فقط، أو ما أتيت المال زيدًا، فمنقول من أتى، لأنها غير مؤثرة في المفعول وقد حصل منها في الفاعل صفة.
 
فإن قيل: يلزمك أن تجيز أتيت زيدًا عمرًا أو المدينة أي جعلته يأتيها؟
السطر 2٬797 ⟵ 2٬805:
قلت: بينهما فرق وهو أن ايتاء المال كسب وتمليك فلما اقترن به هذا المعنى صار كقوله أكسبته مالًا أو ملكته إياه وليس كقولك: آتي عمرًا.
 
وأما شرب زيد الماء فلم يقولوا فيه: أشربته الماء، لأنه بمثابة الأكل والأخذ ومعظم أثره في المفعول، وإن كان قد جاء على فعل كبلع، ولكنه ليس مثله إلا أن يريد أن الماء خالط أجزاء الشارب له وحصل من الشرب صفة من الشارب. فيجوز حينئذ نحو قوله تعالى: { وأشربوا في قلوبهم العجل }، <ref>[ البقرة: 93 ]</ref> ، وعلى هذا يقال: أشربت الدهن الخبز، لأن شرب الخبز الدهن ليس كشرب زيد الماء فتأمله.
 
وأما ذكر زيد عمرًا فإن كان في ذكر اللسان لم ينقل، لأنه بمنزلة شتم ولطم وإن كان من ذكر القلب نقل فقلت أذكرته الحديث بمنزلة أفهته وأعلمته أي جعلته على هذه الصفة.
 
==فائدة: اخترت يتعدى بحرف الجر==
 
اخترت: أصله أن يتعدى بحرف الجر وهو من، لأنه يتضمن إخراج شيء من شيء. وجاء محذوفًا في قوله تعالى: { واختار موسى قومه }، <ref>[ الأعراف: 155 ]</ref> ، لتضمن الفعل معـنا فعل غير متعد كأنه نخل قومه وميزهم وسبرهم ونحو ذلك. فمن ههنا والله أعلم أسقط حرف الجر كما سقط من أمرتك الخير أي ألزمتك وكلفتك، لأن الأمر إلزام وتكليف. ومنه تمرون الديار أي تعدونها وتجاوزونها. ومنه رحبتك الديار أي وسعتك.
 
==فائدة: تقديم المجرور وتأخير المفعول==
 
الاختيار تقديم المجرور في باب اخترت وتأخير المفعول المجرد عن حرف الجر. فتقول: اخترت من الرجال زيدًا ويجوز فيه التأخير. فإذا أسقطت الحرف لم يحسن تأخير ما كان مجرورًا به في الأصل فيقبح أن تقول: اخترت زيدًا الرجال، واخترت عشرة الرجال أي من الرجال لما يوهم من كون المجرور في موضع النعت للعشرة، وإنه ليس في موضع المفعول الثاني، وأيضا فإن الرجال معرفة فهو أحق بالتقديم للاهتمام به كما لزم في تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك: في الدار رجل لكون المجرور معرفة وكأنه المخبر عنه. فإذا حذفت حرف الجر لم يكن بد من التقديم للاسم الذي كان مجرورًا نحو اخترت الرجال عشرة.
السطر 2٬813 ⟵ 2٬821:
ووجه ثان وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعض، ثم ولي الفعل الذي هو اخترت توهم أنه مختار منه أيضا لأن كل ما يتبعض يجوز فيه أن يختار منه وأن يختار، فألزموه التأخير وقدموا الاسم المختار منه وكان أولى بذلك لما سبق من القول. فإن كان مما لا يتبعض نحو زيد وعمرو، فربما جاز على قلة في الكلام نحو قوله: * ومنا الذي اختير الرجال سماحة * وليس هذا كقولك: اخترت فرسًا الخيل، لأن الفرس اسم جنس فقد يتبعض مثله ويختار منه وزيد من حيث كان جسمًا يتبعض، ومن حيث كان علمًا على شيء بعينه لا يتبعض فتأمل هذا الموضع.
 
==فائدة بديعة: استغفر زيد ربه ذنبه==
 
قولهم: استغفر زيد ربه ذنبه، فيه ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثاني: استغفره من ذنبه. والثالث: استغفره لذنبه وهذا موضع يحتاج إلى تدقيق نظر وأنه هل الأصل حرف الجر وسقوطه داخل عليه؟ أو الأصل سقوطه وتعديه بنفسه وتعديته بالحرف مضمن هذا مما ينبغي تحقيقه. فقال السهيلي: الأصل فيه سقوط حرف الجر. وأن يكون الذنب نفسه مفعولًا بأستغفر غير متعد بحرف الجر، لأنه من غفرت الشيء إذا غطيته وسترته مع أن الاسم الأول هو فاعل بالحقيقة وهو الغافر.
السطر 2٬819 ⟵ 2٬827:
ثم أورد على نفسه سؤالًا فقال: فإن قيل: فإن كان سقوط حرف الجر هو الأصل فيلزمكم أن تكون من زائدة كما قال الكسائي. وقد قال سيبويه والزجاجي: أن الأصل حرف الجر، ثم حذف فنصب الفعل. وأجاب بأن سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه نحو غفر. وأم استغفر ففي ضمن الكلام ما لا بد منه من حرف الجر، لأنك لا تطلب غفرًا مجردًا من معنى التوبة والخروج من الذنب، وإنما تريد بالاستغفار خروجًا من الذنب وتطهيرًا منه. فلزمت من في هذا الكلام لهذا المعنى فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ، فإن حذفتها تعدى الفعل فنصب وكان بمنزلة أمرتك الخير.
 
فإن قيل: فما قولكم في نحو قوله تعالى: { يغفر لكم من ذنوبكم } <ref>[ نوح: 4 ، الأحقاف: 31 ]</ref> و { نغفر لكم خطاياكم }؟ <ref>[ البقرة: 58 ]</ref> ؟
 
قلنا هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والإخراج من الذنوب فدخلت منه لتؤذن بهذا المعنى، ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيث يذكر الفاعل والمفعول الذي هو الذنب نحو قوله: ( لكم ) لأنه المنقذ المخرج من الذنوب بالإيمان. ولو قلت: يغفر من ذنوبكم دون أن يذكر الاسم المجرور. لم يحسن إلا على معنى التبعيض، لأن الفعل الذي كان في ضمن الكلام وهو الإنقاذ قد ذهب بذهاب الاسم الذي هو واقع عليه.
 
فإن قلت: فقد قال تعالى: { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا }، <ref>[ آل عمران: 147 ]</ref> ، وفي سورة الصف: { يغفر لكم ذنوبكم }، <ref>[ الصف: 12 ]</ref> ، فما الحكمة في سقوطها هنا وما الفرق؟
 
قلت: هذا إخبار عن المؤمنين الذين قد سبق لهم الإنقاذ من ذنوب الكفر بأيمانهم، ثم وعدوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من الذنوب وهي غير محبطة كإحباط الكفر المهلك للكافر فلم يتضمن الغفران معنى الاستنقاذ إذ ليس، ثم إحاطة من الذنب بالمذنب، وإنما يتضمن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب، لأن الحسنات يذهبن السيئات بخلاف الآيتين المتقدمتين فإنهما خطاب للمشركين وأمر لهم بما ينقذهم ويخلصهم مما أحاط بهم من الذنوب وهو الكفر. ففي ضمن ذلك الإعلام والإشارة بأنهم واقعون في مهلكة قد أحاطت بهم. وأن لا ينقذهم منها إلا المغفرة المتضمنة للإنقاذ الذي هو أخص من الإبطال والإذهاب. وأما المؤمنون فقد أنقذوا.
 
وأما قوله تعالى: { يكفر عنكم من سيئاتكم } <ref>[ البقرة: 271 ]</ref> ، فهي في موضع من التي للتبعيض، لأن الآية في سياق ثواب الصدقة فإنه قال: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم }، <ref>[ البقرة: 271 ]</ref> ، والصدقة لا تذهب جميع الذنوب.
 
ومن هذا النحو قوله {{صل}}: «فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير». فأدخل عن في الكلام إيذانًا بمعنى الخروج عن اليمين لما ذكر الفاعل وهو الخارج فكأنه قال: فليخرج بالكفارة عن يمينه ولما لم يذكر الفاعل المكفر في قوله: { ذلك كفارة أيمانكم،أيمانكم } لم يذكر من وأضاف الكفارة إلا الأيمان وذلك من إضافة المصدر إلى المفعول وإن كانت الأيمان لا تكفر، وإنما يكفر الحنث والإثم، ولكن الكفارة حل لعقد اليمين. فمن هنالك أضيفت إلى اليمين، كما يضاف الحل إلى العقد إذ اليمين عقد والكفارة حل له. والله أعلم.
 
==فائدة: ألبست زيدا الثوب==
 
قولك: ألبست زيدًا الثوب ليس الثوب منتصبًا بألبست كما هو السابق إلى الأوهام لما تقدم. من أنك لا تنقل الفعل عن الفاعل ويصير الفاعل مفعولًا حتى يكون الفعل حاصلًا في الفاعل، ولكن المفعول الثاني منتصب بما تضمنه ألبست من معنى، لبس فهو منتصب بما كان منتصبًا به قبل دخول الهمزة والنقل. وذلك أنهم اعتقدوا طرحها حين كانت زائدة، كما فعلوا في تصغير حميد وزهير. ومنه قولهم: أحببت حبيبًا فجاؤوا بحبيب على اعتقاد طرح الهمزة وهي لغية. ومنه أدرست البيت فهو دارس على تقدير درسته. ومنه: { والله أنبتكم من الأرض نباتًا }، <ref>[ نوح: 17 ]</ref> ، فجاء المصدر على نبت.
 
ومما يوضح هذا أنهم أعلوا الفعل. فقالوا: أطال الصلاة وأقامها مراعاة لإعلاله قبل دخول الهمزة. ولهذا حيث نقلوه في التعجب. فاعتقدوا إثبات الهمزة لم يعدوه إلى مفعول ثان. بل قالوا: ما أضرب زيدًا لعمرو باللام، لأن التعجب تعظيم لصفة المتعجب منه. وإذا كان الفعل صفة في الفاعل لم ينقل، ومن ثم صححوه في التعجب فقالوا: ما أقومه وأطوله، حيث لم يعتقدوا سقوط الهمزة، كما صححوا الفعل من استحوذ واستنوق الجمل حيث كانت الهمزة والزوائد لازمة غير عارضة. والله أعلم.
 
==فائدة: حذف الباء من أمرتك الخير==
 
حذف الباء من أمرتك الخير ونحوه إنما يكون بشرطين:
 
أحدهما: اتصال الفعل بالمجرور. فإن تباعد منه لم يكن بد من الباء نحو أمرت الرجل يوم الجمعة بالخير، لأن المعنى الذي من أجله حذفت الباء معنى وليس بلفظ وهو تضمنها معنى كلفتك. فلم يقو على الحذف إلا مع القرب من الاسم كما كان ذلك في اخترت. ألا ترى إلى قوله تعالى: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم }، <ref>[ الأعراف: 75 ]</ref> ، كيف أعاد حرف الجر في البدل لما طال بالصلة وكذلك: { يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها }، <ref>[ البقرة: 61 ]</ref> ، على أحد القولين أي يخرج لنا من بقل الأرض وقثائها. وقوله: { مما تنبت } توطئة وتمهيد. والقول الثاني أنها متعلقة بقوله: { تنبت } أي ما تنبت من هذا الجنس. فمن الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الجنس، وهذا الثاني أظهر فإذا أعيد حرف الجر مع البدل لطول الاسم الأول فإثبات الحرف من نحو أمرتك الخير إذا طال الاسم أجدر.
 
الشرط الثاني: أن يكون المأمور به حدثًا. فإن قلت: أمرتك بزيد لم يحذف، لأن الأمر في الحقيقة ليس به، وإنما هو على غيره. كأنك قلت، أمرتك بضربه أو إكرامه. وأما نهيتك عن الشر فلا يحذف الحرف منه، لأنه ليس في الكلام ما يتضمن الفعل الناصب، لأن النهي عنه كف وزجر وإبعاد وهذه المعاني التي يتضمنها نهي تطلب من الحرف ما يطلبه نهي بخلاف أمر فإنه كلف وألزم لا تطلب الباء.
 
==فائدة بديعة: أصل وضع عرفت كذا==
 
قولهم: عرفت، كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه حتى يظهر للذهن منفردًا عن غيره. وهذه المادة تقتضي العلو والظهور كعرف الشيء لأعلاه ومنه الأعراف ومنه عرف الديك.
السطر 2٬855 ⟵ 2٬863:
وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلم واحد، وأن علمه بصدق في رسول الله {{صل}} هو عين علمه بكذب مسيلمة. والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول وأن العلوم متكثرة متغايرة بتكثر المعلومات وتغايرها، فلكل معلوم علم يخصه. ولإبطال قول أولئك وذكر الأدلة الراجحة على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به. وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه تعالى وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلى الإفراد والتركيب في متعلق العلم، وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها فإنها في مجاري استعمالها، إنما تستعمل فيما سبق تصوره من نسيان أو ذهول أو عزوب عن القلب. فإذا تصور وحصل في الذهن قيل: عرفه، أو وصف له صفته ولم يره. فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل: عرفه ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينت أنه هو قلت: عرفته، وكذلك عرفت اللفظة وعرفت الديار وعرفت المنزل وعرفت الطريق.
 
وسر المسألة: أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره. فاشتبه، فالمعرفة تمييز له وتعيين ومن هذا قوله تعالى: { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }، <ref>[ البقرة: 146 ]</ref> ، فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته، وجاء كما يعرفون أبناءهم من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر فتأمله. وقد بسطنا هذا في كتاب التحفة المكية وذكرنا فيها من الأسرار والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنف.
 
وأما ما زعموا من قولهم إن علمت قد يكون بمعنى عرفت واستشهادهم بنحو قوله تعالى: { لا تعلمهم نحن نعلمهم }، <ref>[ التوبة: 101 ]</ref> ، وبقوله: { وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } <ref>[ الأنفال: 60 ]</ref> ، فالذي دعاهم إلى ذلك، أنهم رأوا علمت قد تعدت إلى مفعول واحد. وهذا هو حقيقة العرفان. فاستشهاد ظاهر على أنه قد قال بعض الناس: إن تعدي فعل العلم في هذه الآيات وأمثالها إلى مفعول واحد لا يخرجها عن كونها علمًا على الحقيقة. فإنها لا تتعدى إلى مفعول واحد على نحو تعدى عرفت، ولكن على جهة الحذف والاختصار فقوله: لا تعلمهم نحو نعلمهم لا تنفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم، وإنما تنفي عنه العلم بعدوانهم ونفاقهم، وما تقدم من الكلام يدلك على ذلك، وكذلك قوله: وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمونهم أعداء لهم، فيتعلق العلم بالصفة المضافة إلى الموصوف لا بعينه وذاته. قال: هذا وإنما مثل من يقول: إن علمت بمعنى عرفت من أجل أنها متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ كمثل من يقول: إن سألت يتعدى إلى غير العقلاء بقولهم: سألت الحائط وسألت الدار ويحتج بقوله: واسأل القرية، قال: وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف، وكذلك ما تقدم.
 
وليس ما قاله هؤلاء بقوي. فإن الله سبحانه نفى عن رسوله معرفة أعيان أولئك المنافقين، هذا صريح اللفظ، وإنما جاء نفي معرفة نفاقهم من جهة اللزوم، فهو {{صل}} كان يعلم وجود النفاق في أشخاص معينين وهو موجود في غيرهم، ولا يعرف أعيانهم. وليس المراد أن أشخاصهم كانت معلومة له معروفة عنده وقد انطووا على النفاق وهو لا يعلم ذلك فيهم، فإن اللفظ لم يدل على ذلك بوجه.
 
والظاهر بل المتعين أنه {{صل}} لو عرف أشخاصهم لعرفهم بسيماهم وفي لحن القول: ولم يكن يخفى عليه نفاق من يظهر له الإسلام ويبطن عداوته وعداوة الله عز وجل. والذي يزيد هذا وضوحًا الآية الأخرى فإن قوله: { ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم }، <ref>[ الأنفال: 60 ]</ref> ، فيهم قولان:
 
أحدهما: أنهم الجن المظاهرون لأعدائهم من الإنس على محاربة الله ورسوله وعلى هذا. فالآية نص في أن العلم فيها بمعنى المعرفة، ولا يمكن أن يقال: أنهمإنهم كانوا عارفين بأشخاص أولئك جاهلين عداوتهم كما أمكن مثله في الإنس.
 
والقول الثاني أنهم المنافقون وعلى هذا فقوله: لا تعلمونهم إنما ينبغي حمله على معرفة أشخاصهم لا على معرفة نفاقهم، لأنهم كانوا عالمين بنفاق كثير من المنافقين يعلمون نفاقهم ولا يشكون فيه. فلا يجوز أن ينفي عنهم علم ما هم عالمون به. وإنما ينفي عنهم معرفة أشخاص من هذا الضرب. فيكون كقوله تعالى: { لا تعلمهم نحن نعلمهم } فتأمله.
السطر 2٬885 ⟵ 2٬893:
ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث معمول علمت وظننت إذا الغيت نحو زيد ظننت قائم كأنك قلت: ظننت هذا الحديث فلم تعملها لفظًا، إنما أعملتها معنى.
 
ومن هذا الباب إعمالهم إن وأخواتها، وإنما دخلت لمعان في الجملة والحديث: ألا ترى أن كلمة أن وأخواتها كلمات يصح الوقف عليها، لأن حروفها ثلاثة فصاعدًا كما قال: *. . فقلت: إنه * وقال آخر: * ليت شعري وأين مِني ليتُ * وقال حبيب: * عسى وطن يدنو بهم ولعلما *
 
وإذا كان هذا حكمها، فلو رفع ما بعدها على الأصل بالابتداء لم يظهر تشبثها بالحديث الذي دخلت لمعنى فيه. فكان إعمالها في الاسم المبتدإ إظهارًا لتشبثها بالجملة كي لا يتوهم انقطاعها عنها وكان عملها نصبًا، لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظ بها لنصبت نحو أؤكد وأترجى وأتمنى. وليست هذه المعاني مضافة إلى الاسم المخبر عنه، ولكن الحديث هو المؤكدة والمتمني والمترجي فكان عملها نصبًا بها وبقي الاسم الآخر مرفوعًا لم تعمل فيه حيث لم تكن أفعالًا كعلمت وظننت فتعمل في الجملة كلها.
السطر 2٬913 ⟵ 2٬921:
فلما في الكلمة من التشبيه المخبر به عن زيد صار زيد بمنزلة من أخبر عنه بالفعل فوقع موقع النعت والحال وعمل ذلك المعنى وتعلقت به المجرورات، ومن حيث كان في الكلمة معنى أن دخلت في هذا الباب ووقع في خبرها الفعل نحو قولك: كأن زيدًا يقوم. والجملة نحو كأن زيدًا أبوه أمير. ولو لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يجز هذا، لأن الاسم لا يشبه بفعل ولا بجملة. ولكنه حديث مؤكد بأن والكاف تدل على أن خبرًا أشبه من خبر وذلك الخبر المشبه هو الذي عليه زيد فكان المعنى زيد قائم وكأنه قاعد وزيد أبوه وضيع وكأنه أبوه أمير فشبهت حديثًا بحديث. والذي يؤكد الحديث أن والذي يدل على التشبيه الكاف فلم يكن بد من اجتماعهما.
 
==فصل: حروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيه ما بعدها==
==فصل==
 
وكل هذه الحروف تمنع ما قبلها أن بعمل فيه ما بعدها لفظًا أو معنى. أما اللفظ. فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد وهذه الحروف عوامل. وأما المعنى فلا تقول: سرني زيد قائم أي سرني هذا الحديث ولا كرهت زيد قائم أي كرهت هذا الحديث كما يكون ذلك في كان وليس، لأنها ليست بفعل محض فجاز أن تقول: كان زيد قائم أي كان هذا الحديث. ولم يجز في سرني ولا بلغني. فإن أدخلت ليت، أو لعل، أو إن المكسورة لم يجز أيضا، لأن هذه المعاني ينبغي أن يكون لها صدر الكلام فلا يقع بعدها فعل يعمل ولا يلغى فإن جئت بأن المفتوحة قلت: بلغني أن زيدًا منطلق فأعملت الفعل في معمول معنوي وهو الحديث، لأن الجملة الملفوظ بها حديث في المعنى، وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه أن. ولا بد له من معمول فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث حيث لم يمكن أن يعمل في اللفظي الذي عملت فيه أن. وكذلك كرهت أن زيدًا منطلق المفعول هو الحديث وهو معنى لا لفظ.
السطر 2٬931 ⟵ 2٬939:
قيل: الفرق بينهما أن هذه الأفعال تدل على الحدث والزمان وليست بمنزلة كان وليس ولا بمنزلة إن وليت فجرت مجرى كرهت وأحببت، فلذلك قالوا: علمت أنك منطلق كما قالوا: أحببت أنك منطلق إلا أنها تخالف كرهت وسائر الأفعال لأنها لا تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به فمن، ثم قالوا: علمت زيدًا منطلقًا وزيد، علمت منطلق ولم يقولوا كرهت زيدًا أخاك لأنه لا متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث، إنما متعلقها الأسماء إلا أن يمنعها من العمل من الأسماء مانع فتصير متعلقة بالحديث فافهمه.
 
==فصل: العامل في قولك لو أنك ذاهب فعلت==
==فصل==
 
فإن قيل: فما العامل في هذا الحديث المؤكد بأن من قولك: لو أنك ذاهب فعلت لا سيما ولو لا يقع بعدها إلا الفعل. ولا فعل ههنا فما موضع إن وما بعدها؟
السطر 2٬943 ⟵ 2٬951:
وأما اختصاص لا بالتركيب معها في باب لولا زيد لزرتك، فلأن لا قد تكون منفردة معنى عن الفعل إذا قيل لك: هل قام زيد؟ فتقول لا، فقد أخبرت عنه بالقعود. وإذا قيل هل قعد؟ قلت: لا فكأنك مخبر بالقيام وليس شيء من حروف النفي يكتفي به في الجواب حتى يكون بمنزلة الإخبار إلا هذا الحرف. فمن ثم صلح للاعتماد عليه في هذا الباب وساغ تركيبه مع حرف لا يطلب إلا الفعل فصارت الكلمة بأسرها بمنزلة حرف وفعل. وصار زيد بعدها بمنزلة الفاعل، ولذلك قال سيبويه: إنه مبني على لولا وهذا هو الحق، لأن ما يهذون به من أنه مبتدأ وخبره محذوف لا يظهر وخامل لا يذكر هذا الفصل كله كلام السهيلي إلى آخره.
 
==فائدة: الاقتصار على المفعول الأول من باب أعلمت==
==فائدة==
 
قول [[سيبويه]]: لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول من باب أعلمت تأوله أصحابه بمعنى لا يحسن الاقتصار عليه. قالوا: لأنه هو الفاعل في المعنى فإنه هو علم ما أعلمته به من كون زيد قائمًا قالوا: والفاعل يجوز الاقتصار عليه لتمام الكلام به. فهكذا ما في معناه بخلاف المفعول الأول من باب علمت فإنه ليس فاعلًا لفظلًا ولا معنى. هذا تقرير قولهم. وقول إمام النحو هو الصواب؛ ولا حاجة إلى تأويله هذا التأويل البارد.
 
وممن أنكر هذا التأويل السهيلي وقال: عندي أن قول سيبويه محمول على الظاهر، لأنك لا تريد بقولك أعلمت زيدًا. أي جعلته عالمًا على الإطلاق هذا محال، إنما تريد أعلمته بهذا الحديث. فلا بد إذًا من ذكر الحديث الذي أعلمته به.
السطر 2٬959 ⟵ 2٬967:
وقوله: فثبت أن الظن لا تفعله أنت، ولا تفعل شيئًا من أسبابه - يقال: وكذلك العلم لم تفعله أنت به، ولا شيئًا من أسبابه إن أردت أنك لم تحدثه فيه، وإن أردت أنك لم تتسبب إلى حصوله فيه فباطل، فإن ذكر الأمارات والأدلة الظنية سبب إلى حصول الظن له. وهذا أظهر من أن يحتاج إلى تقريره ويدل عليه. قولهم شككته. فإن معناه أحدثت له شكًا بما ذكرته له من الأمور التي تستلزم شكه.
 
==فائدة: الفعل الذي يطلب مفعولا ولا يصل إليه بنفسه==
==فائدة==
 
كل فعل يقتضي مفعولًا ويطلبه ولا يصل إليه بنفسه. توصلوا إليه بأداة وهي حرف الجر، ثم أنهم قد يحذفون الحرف لتضمن الفعل معنى فعل متعد بنفسه كما تقدم.
السطر 2٬967 ⟵ 2٬975:
والتوبة النصوح إنما هي من هذا، فإن الذنب يمزق الدين، فالتوبة النصوح بمنزلة نصح الخياط الثوب إذا أصلحه وضم أجزاءه ويقولون: نصحت زيدًا فيسقطون الحرف، لأن النصيحة إرشاد فكأنك قلت: أرشدته وكذلك شكرت، إنما هو تفخيم للفعل وتعظيم له من شكر بطنه إذا امتلأ. فالأصل شكرت لزيد إحسانه وفعله، ثم تحذف المفعول فتقول: شكرت لزيد ثم تحذف الحرف، لأن شكرت متضمنة لحمدت أو مدحت.
 
وأما كلت لزيد ووزنت له فمفعولهما غير زيد، لأن مطلوبهما ما يكال أو يوزن فالأصل دخول اللام، ثم قد يحذف لزيادة فائدة، لأن كيل الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمقاوضة إلا مع حرف اللام، فإن قلت: كلت لزيد اخبرت بكيل الطعام خاصة. وإذا قلت: كلت زيدًا فقد أخبرت بمعاملته ومبايعته مع الكيل كأنك قلت: بايعته بالكيل والوزن. قال تعالى: { وإذا كالوهم أو وزنوهم } <ref>[ المطففين: 3 ]</ref> أي بايعوهم كيلًا أو وزنًا.
 
وأما قوله: { اكتالوا على الناس } <ref>[ المطففين: 2 ]</ref> فإنما دخلت على لتؤذن أن الكيل على البائع للمشتري ودخلت التاء في اكتالوا، لأن افتعل في هذا الباب كله للأخذ، لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذن بمعنى زائد على معنى الكلمة، لأن الآخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري. ونحو ذلك يدخل فعله من التناول والاجترار إلى نفسه والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعل المعطي والمبايع. ولهذا قال سبحانه: { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }، <ref>[ البقرة: 286 ]</ref> ، يعني من السيئات، لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى والحسنة تنال بهبة الله من غير واسطة شهوة، ولا إغراء عدو، فهذا الفرق بينهما على ما قاله السهيلي.
 
وفيه فرق أحسن من هذا، وهو أن الاكتساب يستدعي التعمل والمحاولة والمعاناة فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمله. وأما الكسب فيحصل بأدنى ملابسة حتى بالهم بالحسنة ونحو ذلك فخص الشر بالاكتساب والخير بأعم منه. ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح: «إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها». وأما حديث الواسطة وعدمها فضعيف، لأن الخير أيضا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق. فهذا في مقابلة وسائط الشر فالفرق ما ذكرناه. والله أعلم.
 
==فصل: سمع الله لمن حمده==
 
وأما سمع الله لمن حمده، فقال السهيلي: مفعول سمع محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها، فاللام على بابها إلا أنها تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهي الاستجابة لمن حمده وهذا مثل قوله: عسى أن يكون ردف لكم ليست اللام لام المفعول كما زعموا، ولا هي زائدة، ولكن ردف فعل متعد ومعموله غير هذا الاسم كما كان مفعول سمع غير المجرور، ومعنى ردف تبع وجاء على الأثر فلو حملته على الاسم المجرور لكان المعنى غير صحيح إذا تأملته، ولكن المعنى ردف لكم استعجالكم وقولكم لأنهم قالوا: متى هذا الوعد، ثم حذف المفعول الذي هو القول والاستعجال اتكال على فهم السامع ودلت اللام على الحذف لمنعها الاسم الذي دخلت عليه أن يكون مفعولًا، وآذنت أيضا بفائدة أخرى وهي معنى عجل لكم. فهي متعلقة بهذا المعنى فصار معنى الكلام. قل: عسى أن يكون عجل لكم بعض الذي تستعجلون فردف قولكم واستعجل لكم. فدلت ردف على أنهم قالوا: واستعجلوا ودلت اللام على المعنى الآخر فانتظم الكلام أحسن انتظام واجتمع الإيجاز مع التمام.
السطر 2٬987 ⟵ 2٬995:
الرابع: سمع قبول وانقياد.
 
فمن الأول: { سمع الله قول التي تجادلك في زوجها }، <ref>[ المجادلة: 1 ]</ref> ، { قد سمع الله قول الذين قالوا }، <ref>[ آل عمران: 181 ]</ref> ، ومن الثاني قوله: { لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا }، <ref>[ البقرة: 104 ]</ref> ، ليس المراد سمع مجرد الكلام بل سمع الفهم والعقل. ومنه سمعنا وأطعنا، ومن الثالث سمع الله لمن حمده، وفي الدعاء المأثور اللهم اسمع أي أجب واعط ما سألتك. ومن الرابع قوله تعالى: { سماعون للكذب } <ref>[ المائدة: 41، 42 ]</ref> أي قابلون له ومنقادون غير منكرين له. ومنه على أصح القولين { وفيكم سماعون لهم }، <ref>[ التوبة: 47 ]</ref> ، أي قابلون ومنقادون وقيل: عيون وجواسيس وليس بشيء فإن العيون والجواسيس، إنما تكون بين الفئتين غير المختلطتين فيحتاج إلى الجواسيس والعيون وهذه الآية، إنما هي في حق المنافقين وهم كانوا مختلطين بالصحابة بينهم فلم يكونوا محتاجين إلى عيون وجواسيس. وإذا عرف هذا فسمع الإدراك يتعدى بنفسه، وسمع القبول يتعدى باللازم تارة، وبمن أخرى، وهذا بحسب المعنى. فإذا كان السياق يقتضي القبول عدى بمن، وإذا كان يقتضي الانقياد عدى باللام. وأما سمع الإجابة فيتعدى باللام نحو سمع الله لمن حمده لتضمنه معنى استجاب له ولا حذف هناك، وإنما هو مضمن. وأما سمع الفهم فيتعدى بنفسه، لأن مضمونه يتعدى بنفسه.
 
==فصل: قولهم قرأت الكتاب واللوح==
==فصل==
 
ومما يتعلق بهذا قولهم: قرأت الكتاب واللوح ونحوهما مما يتعدى بنفسه. وأما قرأت بأم القرآن وقرأت بسورة كذا كقوله {{صل}}: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، ففيه نكتة بديعة قل من يتفطن لها وهي أن الفعل إذا عدى بنفسه فقلت: قرأت سورة كذا، اقتضى اقتصارك عليها لتخصيصها بالذكر وأما إذا عدى بالباء فمعناه لا صلاة لمن لم يأت بهذا السورة في قراءته، أو في صلاته أي في جملة ما يقرأ به. وهذا لا يعطي الاقتصار عليها بل يشعر بقراءة غيرها معها. وتأمل قوله: في الحديث كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة كيف تجد المعنى أن يقرأ فيما يقرأ به بعد الفاتحة بهذا العدد، وكذلك قوله: قرأ بالأعراف، إنما هي بعد الفاتحة، وكذلك قرأ بسورة ق ونحو هذا. وتأمل كيف لم يأت بالباقي قوله: قرأ سورة النجم فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون فقال: قرأ سورة النجم ولم يقل بها لأنه لم يكن في صلاة فقرأها وحدها، وكذلك قوله: قرأ على الجن سورة الرحمن، ولم يقل بسورة الرحمن، وكذلك قرأ على أبي سورة لم يكن ولم يقل بسورة ولم تألت الباء إلا في قراءة في الصلاة كما ذكرت لك. وإن شئت قلت: هو مضمن معنى صلى بسورة كذا وقام بسورة كذا، وعلى هذا فيصح على الإطلاق وإن أتى بها وحدها وهذا أحسن من الأول وعلى هذا فلا يقال: قرأ بسورة كذا. إذا قرأها خارج الصلاة وألفاظ الحديث تتنزل على هذا فتدبرها.
 
==فصل: كفى بالله شهيدا==
 
وأما كفى بالله شهيدًا. فالباء متعلقة بما تضمنه الخبر عن معنى الأمر بالاكتفاء، لأنك إذا قلت: كفى بالله أو كفاك الله زيدًا، فإنما تريد أن يكتفي هو به. فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر فدخلت الباء لهذا السبب. فليست زائدة في الحقيقة، وإنما هي كقولك حسبك بزيد، ألا ترى أن حسبك مبتدأ وله خبر. ومع هذا فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول: حسبك يتم الناس فيتم جزم على جواب الأمر الذي في ضمن الكلام. حكى هذا سيبويه عن العرب.
 
==فائدة: تعدي الفعل إلى المصدر==
 
تعدي الفعل إلى المصدر على ثلاثة أنحاء: أحدها: أن يكون مفعولًا مطلقًا لبيان النوع؛ الثاني: أن يكون توكيدًا؛ الثالث: أن يكون حالًا.
 
قال سيبويه: وإنما تذكره لتبين أي فعل فعلت أو توكيدًا. وأما الحال فنحو جاء زيد مشيًا وسعيًا تريد ماشيًا وساعيًا وفيه قولان: أحدهما هذا. والثاني: أن الحال محذوف ومشيًا معمولها أي يمشي مشيًا، وقد تقول: مشيت ماشيًا وقعدت قاعدًا تجعلها حالًا مؤكدة. وقد تقول: مشيت مشيًا بطيئًا ومسرعًا فلك فيها وجهان: أحدهما: أن يكون المصدر حالًا فيكون من باب قوله تعالى: { لسانًا عربيًا }، <ref>[ الأحقاف: 12 ]</ref> ، وهي الحال الموطئة، لأن الصفة وطأت الاسم الجامد أن يكون حالًا. فإن حذفت الاسم وبقيت الصفة وحدها لم يكن في الحال إشكال. نحو سرت شديدًا.
 
ويبين ما قلناه إن قولك سرت شديدًا هي حال من المصدر الذي دل عليه الفعل. فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال. ويجوز تقديمه وتأخيره. إذا كان مفعولًا مطلقًا، أو حالًا، ولا يجوز تقديمه على الفعل إذا كان توكيدًا له، لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد. والعامل فيه، إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه. والعامل فيه إذا كان مفعولًا مطلقًا ليس هو لفظ الفعل بنفسه، وإنما هو ما يتضمنه من معنى فعل الذي هو فاء وعين ولام، لأنك إذا قلت: ضربًا فالضرب ليس بمضروب ولكنك حين قلت: ضربت تضمن ضربت معنى فعلت، لأن كل ضرب فعل وليس كل فعل ضربًا فصار هذا بمنزلة تضمن الإنسان الحيوان. وإذا كان كذلك فضربًا منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت حتى كأنك قلت: فعلت ضربًا. ولا يكون المصدر مفعولًا مطلقًا بل يكون منعوتًا أو في حكم المنعوت، وإنما يكون توكيدًا للفعل، لأن الفعل يدل عليه دلالة مطلقة ولا يدل عليه محدودًا ولا منعوتًا، وقد يكون مفعولًا مطلقا وليس، ثم نعت في اللفظ إذا كان في حكم المنعوت كأنك تريد ضربًا تامًا فلا يكون حينئذ توكيدًا إذ لا يؤكد الشيء بما فيه معنى زائد على معناه، لأن التوكيد تكرار محض.
 
وقد احتج بعض أهل السنة على القائلين من المعتزلة بأن تكليم الله لموسى مجاز بقوله: { وكلم الله موسى تكليما } <ref>[ النساء: 164 ]</ref> فأكد الفعل بالمصدر ولا يصح المجاز مع التوكيد. قال السهيلي: فذاكرت بها شيخنا أبا الحسن فقال: هذا حسن لولا أن سيبويه أجاز في مثل هذا أن يكون مفعولًا مطلقًا وإن لم يكن منعوتًا في اللفظ. فيحتمل على هذا أن يريد تكليمًا ما فلا يكون في الآية حجة قاطعة والحجاج عليهم كثيرة.
 
قلت: وهذا ليس بشيء والآية صريحة في أن المراد بها تكليم أخص من الإيحاء، فإنه ذكر أنه أوحى إلى نوح والنبيين من بعده وهذا الوحي هو التكليم العام المشترك، ثم خص موسى باسم خاص وفعل خاص وهو كلم تكليمًا، ورفع توهم إرادة التكليم العام عن الفعل بتأكيده بالمصدر، وهذا يدل على اختصاص موسى بهذا التكليم. ولو كان المراد تكليمًا ما لكان مساويًا لما تقدم من الوحي أو دونه وهو باطل. وأيضا فإن التأكيد في مثل هذا السياق صريح في التعظيم وتثبيت حقيقة الكلام والتكليم فعلًا ومصدرًا ووصفه بما يشعر بالتقليل مضاد للسياق فتأمله. وأيضا فإن الله سبحانه قال لموسى: { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } <ref>[ الأعراف: 144 ]</ref> فلو كان التكليم الذي حصل له تكليمًا ما كان مشاركًا لسائر الأنبياء فيه فلم يكن لتخصيصه بالكلام معنى. وأيضا فإن وصف المصدر ههنا مؤذن بقلته وإن نوعًا من أنواع التكليم حصل له وهذا محال ههنا فإن الإلهام تكليم ما ولهذا سماه الله تعالى وحيًا والوحي تكليم ما فقال: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه }، <ref>[ القصص: 7 ]</ref> ، { وإذ أوحيت إلى الحواريين }، <ref>[ المائدة: 111 ]</ref> ، ونظائره. وقال عبادة بن الصامت: رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه. هذه الأنواع تسمى تكليمًا ما. وقد خص الله سبحانه موسى واصطفاه على البشر بكلامه له. وأيضا فإن الله سبحانه حيث ذكر موسى ذكر تكليمه له باسم التكليم الخاص دون الاسم العام كقوله: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني }، <ref>[ الأعراف: 143 ]</ref> ، ذكر تكليمه له بأخص من ذلك وهو تكليم خاص كقوله: { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًا }، <ref>[ مريم: 52 ]</ref> ، فناداه وناجاه، والنداء والنجاء أخص من التكليم، لأنه تكليم خاص، فالنداء تكليم من البعد يسمعه المنادى والنجاء تكليم من القرب. وأيضا فإنه اجتمع في هذه الآية ما يمتنع معه حملها على ما ذكره وهو أنه ذكر الوحي المشترك، ثم ذكر عموم الأنبياء بعد محمد ونوح، ثم ذكر موسى بعينه بعد ذكر النبيين عمومًا، ثم ذكر خصوص تكليمه، ثم أكده بالمصدر وكل من له أدنى ذوق في الألفاظ ودلالتها على معانيها يجزم بأن هذا السياق يقتضي تخصيص موسى بتكليم لم يحصل لغيره. وأنه ليس تكليمًا ما. فما ذكره أبو الحسن غير حسن بل باطل قطعًا والذي غره ما اختاره سيبويه من حذف صفة المصدر وإرادتها، وسيبويه لم يذكر هذا في كل مصدر كان هذا شأنه، وإنما ذكر أن هذا مما يسوغ في الجملة، فإذا كان في الكلام ما يدل على إرادة التأكيد دون الصفة لم يقل سيبويه ولا أحد أنه موصوف محذوف يدل على تقليله كما إذا قيل: صدقت الرسول تصديقًا وآمنت به إيمانًا. أو قيل: قاتل فلان مع رسول الله {{صل}} قتالًا ونصره نصرًا وبين الرسول لأمته تبيينًا وأرشدهم إرشادًا وهداهم هدى فهل يقول سيبويه أو أحد أن هذا يجوز أن يكون موصوفًا. والمراد تصديقًا وإيمانًا ما وتبيينًا ما وهدى ما. فهكذا الآية والله الموفق للصواب.
 
قال السهيلي: وسألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيدًا للفعل. والتوكيد لا يعمل فيه المؤكد إذ هو هو في المعنى فما العامل فيه؟
السطر 3٬021 ⟵ 3٬029:
قد أشرنا إلى أن الفعل قسمان: خاص وعام، فالعام فعلت وعملت وفعلت أعم، لأن عملت عبارة عن حركات الجوارح الظاهرة مع دؤب. ولذلك جاء على وزن فعل كتعب ونصب، ومن ثم لم تجدها يخبر بها عن الله سبحانه إلا أن يراد بها سمع فيحمل على المجاز المحض ويلتمس له التأويل.
 
قلت: وقد ورد قوله تعالى: { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا }، <ref>[ يس: 71 ]</ref> ، وقد تقدم له كلام أن اليد صفة أخص من القدرة والنعمة كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله ونصر ذلك المذهب وارتضاه، وعلى هذا فلا تأويل في الآية، بل هي على حقيقتها على قوله. وأما الدؤب والنصب وإثبات الجارحة فمن خصائص العبد والله تعالى منزه عن ذلك متعال عنه. وخصائص المخلوقين لا يجوز إثباتها لرب العالمين. بل الصفة المضافة إلى الله لا يلحقه فيها شيء من خصائصهم، فإثباتها له كذلك يحتاج معه إلى تأويل فإن الله ليس كمثله شيء. وقد تقدم أن خصائص المخلوقين غير داخلة في الاسم العام فضلًا عن دخولها في الاسم الخاص المضاف إلى الرب تعالى، وأنها لا يدل اللفظ عليها بوضعه حتى يكون نفيها عن الرب تعالى صرفًا للفظ عن حقيقته. ومن اغتفر دخولها في الاسم المضاف إلى الرب، ثم توسل بذلك إلى نفي الصفة عنه. فقد جمع بين التشبيه والتعطيل. وأما من لم يدخلها في مسمى اللفظ الخاص ولا أثبتها للموصوف. فقوله محض التنزيه وإثبات ما أثبت الله لنفسه. فتأمل هذه النكتة ولتكن منك على ذكر في باب الأسماء والصفات فإنها تزيل عنك الاضطراب والشبهة والله الموفق للصواب.
 
عاد كلامه، قال: إذا ثبت هذا ففعلت وما كان نحوها من الأحداث العامة الشائعة لا تؤكد بمصدر، لأنها في الأفعال بمنزلة شيء وجسم في الأسماء فلا يؤكد، لأنه لم يثبت له حقيقة معينة عند المخاطب، وإنما يؤكد ما ثبت حقيقة والمخاطب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع الفائدة منه إلى توكيد فعلت فلو قلت له: فعلت فعلت وأكدته بغاية ما يمكن من التوكيد ما كان الكلام إلا غير مفيد، وكذلك لو قال: فعلت فعلًا على التوكيد، لأن المصدر الذي كنت تؤكد به، لو أكدت قياسه أن يكون مفتوح الفاء، لأنه ثلاثي والمصدر الثلاثي قياسه فتح فائه، كما أن فعله كذلك.
السطر 3٬029 ⟵ 3٬037:
قال: إذا ثبت هذا فلا يقع بعد فعلت إلا مفعول مطلق إما من لفظها فيكون عامًا نحو فعلت فعلًا حسنًا. ومن ثم جاء مكسور الفاء، لأنه كالطحن والذبح ليس بمصدر اشتق منه الفعل، بل هو مشتق من فعلت. وإما أن يكون خاصًا نحو فعلت ضربًا. فضربًا أيضا مفعول مطلق من غير لفظ فعل، فصار فعلت فعلًا كطحنت طحنًا وفعلت ضربًا كطحنت دقيقًا.
 
فإن قيل: ألم يجيزوا في ضربت ضربًا وقتلت قتلًا أن يكون مفعولًا مطلقًا فلم لم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولًا مطلقًا، ومفتوحًا إذا كان مصدرًا مؤكدًا ؟مؤكدًا؟
 
قيل: "حدِّث حديثين امرأةً"، ألم يقدم في أول الفائدة أنه لا يعمل في ضربًا إذا كان مفعولًا مطلقًا؟ إلا معنى فعلت لا لفظ ضربت، فلو عمل فيه لفظ ضربت لقلت، ضربًا بالكسر كطحن وهو محال، لأن الضرب لا يضرب. ولكنك إذا شققت له اسمًا من فعلت التي هي عاملة فيه على الحقيقة فقلت هو فعل وإن شققت له اسمًا من ضربت التي لا يعمل لفظها فيه لم يجز أن يجعلها كالطحن والذبح، لأن الاسم القابل لصورة الفعل. إنما يشتق لفظه من لفظ ما عمل فيه. فثبت من هذا كله إن فعلت وعملت استغنى بمفعولها المطلق عن مصدرها، لأنها لا تتعدى إلا إلى حدث وذلك الحدث يشتق له اسم من لفظها فيجتمع اللفظ والمعنى ويكون أقوى عند المخاطب من المصدر الذي يشتق منه الفعل. ولذلك لم يقولوا: صنعت صنعًا بفتح الصاد، ولا عملت عملًا بسكون الميم، ولا فعلت فعلًا، بفتح الفاء استغناء عن المصادر بالمفعولات المطلقة، لأن العمل مثل القصص والنغص والصنع مثل الدهن والخبز والفعل مثل الطحن وكلها بمعنى المفعول لا بمعنى المصدر الذي اشتق منه الفعل.
السطر 3٬035 ⟵ 3٬043:
وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يخبر بها عن خالقها. وإنما تتعدى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة نحو ضربت زيدًا فهو مضروب على الإطلاق وإن اشتق له من لفظ فعلت مفعول به أي فعل به الضرب، ولم يفعل هو جاز.
 
وأما حلمت في النوم حلمًا فهو بمنزلة فعلت وصنعت في اليقظة، لأن جميع أفعال النوم تشتمل عليها حلمت وكان جميع أفعال اليقظة يشتمل عليها فعلت، فمن ثم لم يقولوا حلمًا بوزن ضربًا، لأن حلمت مغنية عن المصدر كما كانت فعلت مغنية عنه. وإنما مطلوب المخاطب معرفة المحلوم والمفعول، فلذلك قالوا: حلمًا ولذلك جمعوه على أحلام وحلوم، لأن الأسماء هي التي تجمع وتثنى. وأما الفعل أو ما فائدته كفائدة الفعل من المصادر فلا يجمع ولا يثنى. وقولهم: إنما جمعت الحلوم والأشغال لاختلاف الأنواع. بل يقال لهم: (وهل) اختلفت الأنواع إلا من حيث كانت بمثابة الأسماء المفعولة؟ ألا ترى أن الشغل على وزن فعل كالدهن هو عبارة عما يشتغل المرء عنه. فهو اسم مشتق من الفعل وليس الفعل مشتقًا منه. إنما هو مشتق من الشغل والشغل هو المصدر كما أن الجعل كذلك. فعلى هذا ليس الأشغال والأحلام بجمع المصدر. وإنما هو جمع اسم والمصدر على الحقيقة لا يجمع، لأن المصادر كلها جنس واحد من حيث كانت عبارة عن حركة الفاعل، والحركة تماثل الحركة، ولا تخالفها بذاتها. ولولا هاء التأنيث في الحركة ما ساغ جمعها فلو نطقت العرب بمصدر حلمت الذي استغنى عنه بالحلم وبمصدر شكرت الذي استغني عنه بالشكر لما جاز جمعه، لأن اختلاف الأنواع ليس راجعًا إليه وإنما هو راجع إلى المفعول المطلق ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنعم من ثناء أو فعل، وكذلك نقيضه وهو الكفر عبارة عما يقابل به المنعم من جحد وقبح فعل فهو مفعول مطلق لا مصدر اشتق منه الفعل إلا أن الكفر يتعدى بالباء لتضمنه معنى التكذيب، وشكرت يتعدى باللام التي هي لام الإضافة، لأن المشكور في الحقيقة هي النعمة وهي مضافة إلى المنعم، وكذلك المكفور في الحقيقة هي النعمة. لكن كفرها تكذيب وجحد، فلذلك قالوا: كفر بالله وكفر نعمته وشكر له وشكر نعمته. وإذا ثبت أن الشكر من قولك شكرت شكرًا مفعول مطلق وهو مختلف الأنواع، لأن مكافأة النعم تختلف جاز أن يجمع، كما جمع الحلم والشغل، فيحتمل قوله سبحانه حكاية عن المخلصين من عباده: { لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا }، <ref>[ الإنسان: 9 ]</ref> ، أن يكون جمعًا لشكر وليس كالقعود والجلوس، لأنه متعد. ومصدر المتعدي لا يجيء على الفعول.
 
قلت: الصحيح أنه مصدر جاء على الفعول، لأن مقابله وهو الكفر والجحد والنفار تجيء مصادرها على الفعول نحو كفور وجحود ونفور، ويبعد كل البعد أن يراد بالكفور جمع الكفر والكفر لا يعهد جمعه في القرآن قط ولا في الاستعمال. فلا يعرف في التخاطب أكفار وكفور، وإنما المعروف الكفر والكفران. والكفور مصادر ليس إلا فحسن مجيء الشكور على الفعول حمله على مقابله وهو كثير في اللغة، وقد تقدم الإشارة إليه وحتى لو كان الشكور سائغًا استعماله جمعًا واحتمل الجمع والمصدر لكان الأليق بمعنى الآية المصدر لا الجمع، لأن الله تعالى وصفهم بالإخلاص، وإنهم إنما قصدوا بإطعام الطعام وجهه ولم يريدوا من المطعمين جزاءً ولا شكورًا، ولا يليق بهذا الموضع أن يقول: لا نريد منكم أنواعًا من الشكر وأصنافًا منه. بل الأليق بهم وبإخلاصهم أن يقولوا: لا نريد منكم شكرًا أصلًا فينفوا إرادة نفس هذه الماهية منهم وهو أبلغ في قصد الإخلاص من نفي الأنواع فتأمله، فإنه ظاهر فلا يليق بالآية إلا المصدر. وكذلك قوله تعالى: { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا }، <ref>[ الفرقان: 62 ]</ref> ، إنما هو مصدر وليس بالمعهود البين جمع الشكر على الشكور واستعماله كذلك. كما لم يعهد ذلك في الكفور.
 
عاد كلامه، قال ويزيد هذا وضوحًا قولهم: أحببت حبًا. فالحب ليس بمصدر لأحببت. إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب. ولذلك جاء على وزنه مضموم الأول، ومن ثم جمع كما يجمع الشغل قال:
السطر 3٬117 ⟵ 3٬125:
فهذا مقصور كالعصا. وعليه قول الآخر: * جرى الدميان بالخبر اليقين *
 
==فصل: توكيد الفعل وتوكيد النكرة==
==فصل==
 
ومن حيث امتنع أن يؤكد الفعل العام بالمصدر لشيوعه، كما يمتنع توكيد النكرة لشيوعها، وأنها لم تثبت لها عين لم يجز أن يخبر عنه، كما لا يخبر عن النكرة لا تقول من فعل: كان شرًا له بخلاف من كذب كان شرًا له، لأن كذب فعل خاص، فجاز الأخبار عما تضمنه من المصدر، ومن ثم لم يقولوا: فعلت سريعًا ولا عملت طويلًا. كما قالوا: سرت سريعًا وجلست طويلًا على الحال من المصدر، كما يكون الحال من الاسم الخاص، ولا يكون من النكرة الشائعة.
السطر 3٬131 ⟵ 3٬139:
وأما الفكر فليس باسم عند سيبويه. ولذلك منع من جمعه. فقال: لا يجمع الفكر على أفكار حمله على المصادر التي لا تجمع. وقد استهوى الخطباء والقصاص خلاف هذا وهو كالعلم لقربه منه في معناه ومشاركته له في محله، وأما الذكر فبمنزلة العلم لأنه نوع منه.
 
==فصل: فيما يحدد من المصادر بالهاء==
 
فيما يحدد من المصادر بالهاء وفيه بقايا من الفصل الأول.
 
قد تقدم أن الفعل لا يدل على مصدره إلا مطلقًا غير محدد ولا منعوت، وإنك إذا قلت ضربته ضربة. فإنما هو مفعول مطلق لا توكيد، لأن التوكيد لا يكون في معناه زيادة على المؤكد، ومن ثم لا تقول سير بزيد سريعة حسنة تريد سيرة، كذلك ولا قعدت طويلة لأن الفعل لا يدل بلفظه على المرة الواحدة، ومن ثم بطل ما أجازه النحاس وغيره من قوله: زيد ظننتها منطلق تريد الظنة، لأن الفعل لا يدل عليها.
السطر 3٬179 ⟵ 3٬187:
فاحمد الله على ما ساقه إليك من هذه الأسرار والفوائد عفوًا لم تسهر فيها عينك، ولم يسافر فيها فكرك عن وطنه ولم تتجرد في تحصيلها عن مألوفاتك. بل هي عرائس معان تجلى عليك وتزف إليك فلك لذة التمتع بها، ومهرها على غيرك، لك غنمها وعليه غرمها.
 
==فصل: تثنية المصادر وجمعها==
==فصل==
 
فلنرجع إلى كلامه، قال: وكل ما حدد من المصادر تجوز تثنيته وجمعه وما لم يحدد فعل الأصل الذي تقدم لا يثنى، ولا يجمع وقولهم: إلا أن تختلف أنواعه لا تختلف أنواعه، إلا إذا كان عبارة عن مفعول مطلق اشتق من لفظ الفعل لا عن مصدر اشتق الفعل منه، ولذلك تجده على وزن فعل بالكسر وعلى وزن فعل نحو عمل. والذي هو مصدر حقيقة ما تجده على وزن فعل نحو ضرب وقتل. وأما الشرب بالفتح والضم والكسر فالشرب بالفتح هو المصدر، والشرب بالضم عبارة عن المشروب، أو عن الحدث الذي هو مفعول مطلق في الأصل، وربما اتسع فيه فأجرى مجرى المصدر الذي اشتق الفعل منه كما قال تعالى: { فشاربون شرب الهيم }، <ref>[ الواقعة: 55 ]</ref> ، بالضم والفتح.
 
قلت: هذه كبوة من جواد ونبوة من صارم، فإن الشرب بالضم هو المصدر، وأما المشروب فهو الشرب بكسر الشين. قال تعالى في الناقة: { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم }، <ref>[ الشعراء: 155 ]</ref> ، فهذا هو المشروب كما تقول: قسم من الماء وحظ ونصيب تشربه في يومها، ولكم حظ وقسم تستوفونه في يومكم وهذا هو القياس في الباب، كالذبح بمعنى المذبوح، والطحن للمطحون والحب للمحبوب والحمل للمحمول والقسم للمقسوم والعرب للزوجة التي قد عرس بها ونظائره كثيرة جدًا.
 
وأما الشرب بالفتح فقياسه أن يكون جمع شارب كصاحب وصحب وتاجر وتجر، وهو يستعمل كذلك وإطلاق لفظ الجمع عليه جريًا على عادتهم، والصواب أنه اسم جمع فإن فعلًا ليس من صيغ الجموع، واستعمل أيضا مصدرًا وقد قرئت الآية بالوجوه الثلاثة، فمن قرأ بالضم أو الفتح فهو مصدر، ومن قرأ بالكسر فهو بمعنى المشروب. وعلى الأول يقع التشبيه بين الفعلين وهو المقصود بالذكر شبه شربهم من الحميم بشرب الإبل العطاش التي قد أصابها الهيام وهو داء تشرب منه ولا تروى وهو جمع أهيم وأصله هيم بضم الهاء كأحمر وحمر، ثم قلبوا الضمة كسرة لأجل الياء فقالوا: هيم. وأما قراءة الكسر فوجهها أنه شبه مشروبهم بمشروب الإبل الهيم في كثرته وعدم الري به والله أعلم.
السطر 3٬195 ⟵ 3٬203:
وإذا ثبت هذا فلم يجمع الفهم على أفهام إلا من حيث كان بمنزلة حاسة ناطقة للإنسان. فإذا أضيف إلى أكثرين جمع، وإذا أضيف إلى واحد لم يجمع، لأنه كالحاسة الواحدة وإن كان في أصله مصدرًا فرب مصدر أجرى مجرى الأسماء كضيف وضيفان وعدل وعدول وصيد وصيود.
 
وأما رؤية العين فليست التاء فيها للتحذير بل هي لتأنيث الصفة كالقدرة والصفرة والحمرة وكان الأصل فيها رأيًا، ولكنهم إنما يستعملون هذا الأصل مضافًا إلى العين نحو قوله تعالى: { رأي العين } <ref>[ آل عمران: 13 ]</ref> ، فاذا لم تضف استعمل في الرأي المعقول، واستعملت الرؤية في المعنى الآخر للفرق.
 
وأما الظن فمصدر لا يثنى ولا يجمع إلا أن تريد به الأمور المظنونة نحو قوله تعالى: { وتظنون بالله الظنونا }، <ref>[ الأحزاب: 10 ]</ref> ، أي يظنون أشياء كاذبة. والظنون على هذا مفعول مطلق. لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في الأصل. والله أعلم.
 
==فائدة: لفظ سحر وتقسيمه==
 
سحر على قسمين: أحدهما يراد به سحر يوم بعينه معرفة كان اليوم أو نكرة. وهو في هذا ظرف غير منون، بشرط أن يكون اليوم ظرفًا لا فاعلًا ولا مفعولًا. وفيه وجهان:
السطر 3٬219 ⟵ 3٬227:
قيل: لأن اليوم وإن اتسع فيه فهو ظرف في معناه وهو يشتمل على السحر ولا يشتمل السحر عليه. فلا يجوز إذًا أن يتعرف السحر تعريفًا معنويًا جتى يكون ظرفًا بمنزلة اليوم الذي هو منه ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفًا مغنيًا عن آلة التعريف.
 
==فصل: ضحوة وعشية ومساء==
 
وأما ضحوة وعشية ومساء ونحو ذلك، فإنها مفارقة لسحر من حيث كانت منونة، وإن أردتها ليوم بعينه وهي موافقة له في عدم التصرف والتمكن. والفرق بينهما أن هذه أسماء فيها معنى الوصف، لأنها مشتقة مما توصف به الأوقات التي هي ساعات اليوم، فالعشي من العشاء والضحوة من قولك فرس أضحى وليلة أضحيان يريد البياض والصباح من الصبح وهو لون بين لونين. فإذا قلت: خرجت اليوم عشاء وظلامًا وضحى وبصرًا حكاه سيبويه، فإنما تريد خرجت اليوم في ساعة وصفها كذا. وخرجت وقتًا مظلمًا أو مبصرًا ونحو ذلك. فقد بان لك أنها أوصاف لنكرات، وتلك النكرات هي أجزاء اليوم وساعاته. ألا ترى أنك إذا قلت: خرجت اليوم ساعة منه أو مسيت اليوم وقتًا منه لم يكن إلا منونًا إلا أن ساعة ووقتًا غير معين. وضحوة وعشية قد تخصصا بالصفة، ولكنه لم يتعرف وإن كان ليوم بعينه، لأنه غير معرف بالألف واللام كما كان سحر، لأن سحر اسم جامد يتعرف كالأسماء ويخبر عنه، وأما نعته فلا يكون كذلك لأن النعت لا يكون فاعلًا ولا مفعولًا. ولا يقام مقام المنعوت إلا على شروط مخصوصة.
السطر 3٬231 ⟵ 3٬239:
قلت: ولما كان النهار أوسع من النهر خص بالألف المعطية اتساع النطق وانفتاح الفم دون النهر.
 
==فصل: غدوة وبكرة==
 
وأما غدوة وبكرة فهما اسمان علمان وعدم التنوين فيهما للتعريف والتأنيث، والذي أخرجهما عن باب ضحوة وعشية وإن كان فيهما معنى الغدو والبكور كما كان في أخواتهما معاني الفعل. إنهما قد بنيا بناء لا يكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرها للعلمية. كما غير عمارة وعمر وأشباههما، وكما غير الدبران وفيه معنى الدبور إيذانًا بالعلمية وتحقيقًا لمعناها. ألا ترى أن ضحوة على وزن صعبة من النعوت وضربة من المصادر، والمصادر ينعت بها، وضحى على وزن هدى وعلى وزن حطم من النعت، وكذلك سائر تلك الأسماء وغدوة وبكرة بخلاف ذلك قد غيرنا عن لفظ الغدو والبكور تغييرًا بينًا، ففارقتا الفصل المتقدم.
السطر 3٬245 ⟵ 3٬253:
قال سيبويه: ومما لا يكون الفعل إلا واقعًا به كله سرت المحرم وصفر، هذا معنى كلامه. وإذا ثبت هذا فرجب ورمضان أسماء أعلام إذا أردتها لعام بعينه، أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفها إليه، فإن لم يكن كذلك صار الاسم نكرة تقول: صمت رمضان ورمضانًا آخر، وصمت الجمعة وجمعة أخرى، إنما أردت جمعة أسبوعك ورمضان عامك. وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهرًا واحدًا كما تكون النكرة من قولك ضربت رجلًا إنما تريد واحدًا، وإذا كان معرفة يكون ما يدل على التمادي وتوالي الأعوام. لم يكن حينئذ واحدًا كقولك المؤمن يصوم رمضان فهو معرفة، لأنك لا تريده لعام واحد بعينه إذ المعنى يصوم رمضان من كل عام على التمادي وذكر الإيمان قرينة تدل على أن المراد ولو لم يكن في الكلام ما يدل على هذا لم يكن محمله إلا على العام الذي أنت فيه.
 
وإذا ثبت هذا فانظر إلى قوله تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }، <ref>[ البقرة: 185 ]</ref> ، وفي الحديث: «من صام رمضان»، وإذا دخل رمضان بدون لفظ الشهر، ومحال أن يكون فعل ذلك إيجازًا واختصارًا، لأن القرآن أبلغ إيجازًا وأبين إعجازًا، ومحال أيضا أن يدع لفظ القرآن مع تحريه لألفاظه وما علم من عادته من الاقتداء به فيدع ذلك لغير حكمة بل فائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعين.
 
وقد ارتبك الناس في هذا الباب فكرهت طائفة أن تقول: صمت رمضان بل شهر رمضان، واستهوى ذلك الكتاب واعتل بعضهم في ذلك برواية منحولة إلى [[ابن عباس]]: رمضان اسم من أسماء الله. قالوا: ولذلك أضيف إليه الشهر وبعضهم يقول: إن رمضان من الرمضاء وهو الحر وتعلق الكراهية بذلك، وبعضهم يقول: إن هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن.
 
وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسائي لعلمه وحذقه فقال في السنن: باب جواز أن يقال دخل رمضان أو صمت رمضان، وكذلك فعل البخاري وأورد الحديث المتقدم من صام رمضان.
السطر 3٬261 ⟵ 3٬269:
وفائدة ثالثة في ذكر الشهر وهو التبيين في الأيام المعدودات، لأن الأيام تبين بالأيام وبالشهر ونحوه، ولا تبين بلفظ رمضان لأن لفظه مأخوذ من مادة أخرى. وهو أيضا علم فلا ينبغي أن يبين به الأيام المعدودات حتى يذكر الشهر الذي هو في معناها، ثم تضاف إليه.
 
وأما قوله {{صل}}: «من صام رمضان»، ففي حذف الشهر فائدة أيضا، وهى تناول الصيام لجميع الشهر. فلو قال: من صام أو قام شهر رمضان لصار ظرفًا مقدرًا بفي، ولم يتناول القيام والصيام جميعه. فرمضان في الحديث مفعول على السعة نحو قوله: { قم الليل } لأنه لو كان ظرفًا لم يحتج إلى قوله: { إلا قليلًا }. <ref>[ المزمل: 2 ]</ref> .
 
فإن قيل: فينبغي أن يكون قوله من قام رمضان مقصورًا على العام الذي هو فيه لما تقدم من قولكم إنه إنما يكون معرفة علمًا. إذا أردته لعامك، أو لعام بعينه.
السطر 3٬267 ⟵ 3٬275:
قيل: قوله: من صام رمضان على العموم خطاب لكل فرد ولأهل كل عام فصار بمنزلة قولك: من صام كل عام رمضان كما تقول: إن جئتني كل يوم سحر أعطيتك فقد مر قرينة تدل على التمادي وتنوب مناب ذكر كل عام. وقد اتضح الفرق بين الحديثين والآية فاذا فهمت فرق ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها، ثم لم تعدل عندك هذه الفائدة جميع الدنيا بأسرها. فما قدرتها حق قدرها والله المستعان على واجب شكرها. هذا نص كلام السهيلي بحروفه. ثم قال:
 
==فصل: عمل الفعل وشروطه==
 
الفعل لا يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظه، كالمصدر والفاعل والمفعول به، أو فيما كان صفة لواحد من هذه. نحو سرت سريعًا وجاء زيد ضاحكًا، لأن الحال هي صاحب الحال في المعنى، وكذلك النعت والتوكيد والبدل كل واحد من هذه هو الاسم الأول في المعنى فلم يعمل الفعل إلا فيما دل عليه لفظه، لأنك إذا قلت: ضرب اقتضى هذا اللفظ ضربًا وضاربًا ومضروبًا، وأقوى دلالته على المصدر، لأنه هو الفعل في المعنى ولا فائدة في ذكره مع الفعل إلا أن تريد التوكيد، أو تبيين النوع منه وإلا فلفظ الفعل مغن عنه، ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على المفعول به من وجهين:
السطر 3٬275 ⟵ 3٬283:
والوجه الآخر أن الفعل هو حركة الفاعل والحركة لا تقوم بنفسها. وإنما هي متصلة بمحلها، فوجب أن يكون الفعل متصلًا بفاعله لا بمفعوله، ومن ثم قالوا: ضرب زيد لعمرو وضرب زيد عمرًا فأضافوه إلى المفعول باللام تارة، وبغير لام أخرى. ولم يضيفوه إلى الفاعل باللام أصلًا، لأن اللام تؤذن بالانفصال، ولا يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظًا، كما لا ينفصل عنه معنى.
 
قلت: وفي صحة قوله ضرب زيد لعمرو نظر، والمعروف الإتيان بهذه اللام إذا ضَعُف الفعل بالتأخير، نحو قوله تعالى: { إن كنتم للرؤيا تعبرون }، <ref>[ يوسف: 43 ]</ref> ، أو كان اسمًا نحو أنا ضارب لزيد، أو يعجبني ضربك لزيد، لضعف العامل في هذه المواضع دعم باللام. ولا يكادون يقولون: شربت للماء وأكلت للخبز.
 
قال: فإن قيل: فإن الفعل لا يدل على الفاعل معينًا، ولا على المفعول معينًا. وإنما يدل عليهما مطلقًا، لأنك إذا قلت: ضرب لم يدل على زيد بعينه. وإنما يدل على ضارب، وكذلك المضروب وكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول ضرب ضارب مضروبًا بهذا اللفظ، لأن لفظ زيد لا يدل عليه لفظ الفعل، ولا يقتضيه.
السطر 3٬291 ⟵ 3٬299:
وأما الزمان فهو حركة الفلك فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من جهة الإتفاق والمصاحبة، إلا أنهم قالوا: فعلت اليوم، لأن اليوم ونحوه أسماء وضعت للزمان يؤرخ بها الفعل الواقع فيها. فإذا سمعها المخاطب علم المراد منها واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار. فإن أضمرتها لم يكف لفظ الإضمار ولا أغنى عن الحرف، لأن لفظ الإضمار يصلح للزمان ولغيره فقلت: يوم الجمعة خرجت فيه. وقد تقول: خرجت في يوم الجمعة، لأنها وإن كانت أسماء موضوعة للتاريخ فقد يخبر عنها كما يخبر عن المكان. إلا أن الأخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى، لأن الأمكنة أشخاص كزيد وعمرو وظروف الزمان بخلاف ذلك، فمن ثم قالوا: سرت اليوم وسرت في اليوم ولم يقولوا: جلست الدار.
 
==فصل: تعدي الفعل واشتقاقه==
الفصل
 
فإن كان الظرف مشتقًا من فعل تعدى إليه بنفسه، لأنه في معنى الصفة التي لا تتمكن ولا يخبر عنها، وذلك كقبل وبعد وقريبًا لمنك، لأن في قبل معنى المقابلة وهي من لفظ قبل وبعد من لفظ بعد وهذا المعنى هو من صفة المصدر، لأنك إذا قلت: جلست قبل جلوسي زيد فما في قبل من معنى المقابلة فهو في صفة جلوسك، ولم يمتنع الاخبار عن قبل وبعد من حيث كان غير محدود، لأن الزمان والدهر قد يخبر عنهما وهما غير محدودين. تقول: قمت في الدهر مرة، وإنما امتنع قمت في قبلك للعلة التي ذكرناها.
السطر 3٬305 ⟵ 3٬313:
وأما مرة فإن أردت بها فعلة واحدة من مرور الزمان فهي ظرف زمان. وإن أردت بها فعلة واحدة من المصدر مثل قولك لقيته مرة أي لقيه فهي مصدر وعبرت عنها بالمرة، لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله بالدوام صار بمنزلة شيء مررت به ولم تقم عنده. فإذا جعلت المرة ظرفًا. فاللفظ حقيقة، لأنها من مرور الزمان، وإذا جعلتها مصدرًا. فاللفظ مجاز إلا أن تقول: مررت مرة فيكون حينئذ حقيقة.
 
==فصل: جلست خلفك وأمامك==
 
ومن هذا القبيل جلست خلفك وأمامك وفوق وتحت، (وإزاءَ وتِلقاء وحِذاء، وكذلك قربك وعندك، لأن) وعندك في معنى القرب لأنها من لفظ العَنَد. قال الراجز:
السطر 3٬327 ⟵ 3٬335:
وأما جلست يمينك وشمالك، فليس من هذا الفصل، ولكنه مما حذف منه الجار لعلم السامع أرادوا عن يمينك، وعن شمالك أي الناحيتين، ثم حذف الجار فتعدى الفعل فنصب فهو من باب أمرتك الخير، وإنما حذف الحرف لما تضمنه الفعل من معنى الناصب، لأنك إذا قلت: جلست عن يمينك، فمعنى الكلام قابلت يمينك وحاذيته ونحو ذلك.
 
==فصل: تعدي الفعل إلى الحال بنفسه==
==فصل==
 
ومن هذا الباب تعدي الفعل إلى الحال بنفسه. ونعني بالحال صفة الفاعل التي فيها ضميره، أو صفة المفعول، أو صفة المصدر الذي عمل فيها، لأن الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف. وذلك نحو سرت سريعًا وجاء ضاحكًا وضربته قائمًا. فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالًا، لأن الحال غير الاسم الذي نزل عليه الفعل، ألا ترى أنك إن صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف نحو جاء زيد في حال ضحك، ولا تقول: جاء زيد حال ضحك، لأن الحال غير زيد. ولذلك لا تقول: جاء زيد ضحكًا لأنه غيره وغير المجيء فلا يعمل جاء فيه إلا بواسطة. فإن قلت: ضاحكًا عمل فيه، لأن الضاحك هو زيد. وإذا قلت: جاء مشيًا عمل فيه أيضا. لا من حيث كان صفة لزيد، لأنه لا ضمير فيه يعود على زيد. ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي هو المجيء فعمل فيه جاء كما يعمل في المصدر.
السطر 3٬341 ⟵ 3٬349:
الثالث: أن المفعول له هو علة الفعل وهي إما علة فاعلية، أو غائية. وكلاهما ينتصب على المفعولية تقول فعلت ذلك خوفًا وقعدت عن الحرب جبنًا، وأمسك عن الإنفاق شحًا. فهذه أسباب حاملة على الفعل والترك لا أنها هي الغايات المقصودة منه. وتقول: ضربته تأديبًا وزرته إكرامًا، وحبسته صيانة، فهذه غايات مطلوبة من الفعل، إذا ثبت هذا فالمعلل إذا ذكر الفعل طلب المخاطب منه الباعث عليه لما في النفوس من طلب الأسباب والغايات في الأفعال الاختيارية شاهدًا، أو غائبًا، فإذا ذكر الباعث أو الغاية وهو المراد من الفعل كان مخبرًا بأن هذا هو مقصوده وغايته، والباعث له على الفعل. فكان اقتضاء الفعل اللفظي كاقتضاء الفعل الذي هو حدث له فصح نصبه له كما كان واقعًا لأجله، وهذا بحمد الله واضح، فتأمله.
 
==فصل: إذا كانت الحال صفة لازمة للاسم==
==فصل==
 
قال: إذا كانت الحال صفة لازمة للاسم كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها. وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للاسم إلا في وقت الإخبار عنه بالفعل. مع أن تكون حالًا، لأنها مشتقة من التحول فلا تكون إلا صفة يتحول عنها، ولذلك لا تكون إلا مشتقة من فعل، لأن الفعل حركة غير ثابتة، وقد تجيء غير مشتقة، لكن في معنى المشتق كقوله {{صل}}: «وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا»، أي يتحول عن حاله ويعود منصورًا في صورة الرجل، فقوله رجلًا في قوة متصورًا بهذه الصورة. وأما قولهم: جاءني زيد رجلًا صالحًا. فالصفة وطأت الاسم للحال ولولا صالحًا ما كان رجل حالًا، وكذلك قوله تعالى: { لسانًا عربيًا }. <ref>[ الأحقاف: 46 ]</ref> .
 
قلت: وعلى هذا فيكون أقسام الحال أربعة: مقيدة ومقدرة ومؤكدة وموطئة.
السطر 3٬353 ⟵ 3٬361:
فإن قيل: كيف يصح في لسانًا عربيًا أن يكون حالًا وليست وصفًا منتقلًا ولهذا لو قلت: جاءني زيد قرشيًا أو عربيًا لم يجز.
 
قيل: قوله: { لسانًا عربيًا } حال من الضمير في { مصدق } لا من { كتاب } ، لأنه نكرة، والعامل في الحال ما في مصدق من معنى الفعل. فصار المعنى أنه مصدق لك في هذه الحال والاسم الذي هو صاحب الحال قديم، وقد كان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى ومن خلا من الرسل. وإنما كان عربيًا حين أنزل على محمد {{صل}} مصدقًا لما بين يديه من الكتاب. فقد أوضحت فيه معنى الحال وبرح الإشكال.
 
قلت: كلا بل زدت الإشكال إشكالًا. وليس معنى الآية ما ذهبت إليه، وإنما { لسانًا عربيًا } حال من كتاب، وصح انتصاب الحال عنه مع كونه نكرة لكونه قد وصف. والنكرة إذا وصفت انتصب عنها الحال لتخصصها بالصفة، كما يصح أن يبتدأ بها.
 
وأما قوله: إن المعنى مصدق لك، فلا ريب أنه مصدق له. ولكن المراد من الآية أنه مصدق لما تقدم من كتب الله تعالى كما قال: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب }، <ref>[ المائدة: 48 ]</ref> ، وقال: { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه }، <ref>[ آل عمران: 3 ]</ref> ، وقال: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه }. <ref>[ الأنعام: 92 ]</ref> . أفلا ترى كيف اطرد في القرآن وصف الكتاب بأنه مصدق لما بين يديه. وقال: وباتفاق الناس: أن المراد مصدق لما تقدمه من الكتب. وبهذه الطريق يكون مصدقا للنبي {{صل}}، ويكون أبلغ في الدليل على صدقه من أن يقال: هذا كتاب مصدق لك فإنه إذا كانت الكتب المتقدمة تصدقها وتشهد بصحة ما فيها مما أنزله الله من غير مواطأة ولا اقتباس منها، دل على أن الذي جاء به رسول الله {{صل}} صادق كما أن الذي جاء بها كذلك، وأن مخرجهما من مشكاة واحدة.
 
ولهذا قال النجاشي حين قرىء عليه القرآن: إن هذا والذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة، يعني فإذا كان موسى صادقًا وكتابه حق فهذا كذلك، إذ من المحال أن يخرج شيئان من مشكاة واحدة ويكون أحدهما باطلًا محضًا والآخر حقًا محضًا. فإن هذا لا يكون إلا مع غاية التباين والتنافر. فالقرآن صدق الكتب المتقدمة وهي بشرت به وبمن جاء به فقام الدليل على صدقه من الوجهين معًا من جهة بشارة من تقدمه به، ومن جهة تصديقه ومطابقته له فتأمله.
 
ولهذا كثيرًا ما يتكرر هذا المعنى في القرآن، إذ في ضمنه الاحتجاج على الكتابيينَ بصحة نبوة محمد {{صل}} بهذه الطريق. وهي حجة أيضا على غيرهم بطريق اللزوم، لأنه إذا جاء بمثل ما جاؤوا به من غير أن يتعلم منهم حرفًا واحدًا، دل على أنه من عند الله. وحتى لو أنكروا رسالة من تقدم لكان في مجيئه بمثل ما جاؤوا به إثبات لرسالته ورسالة من تقدمه ودليل على صحة الكتابينِ وصدق الرسولين، لأن الثاني قد جاء بأمر لا يمكن أن ينال بالتعليم أصلًا ولا البعض منه. ، فجاء على يدي أمي لا يقرأ كتابًا ولا خطه بيمينه، ولا عاشر أحدًا من أهل الكتاب، بل نشأ بينكم وأنتم شاهدون حاله حضرًا وسفرًا وظعنًا وإقامة. فهذا من أكبر الأدلة على أن ما جاء به ليس من عند البشر ولا في قدرتهم، وهذا برهان بين أبين من برهان الشمس. وقد تضمن ما جاء به تصديق من تقدمه، وتضمن ما تقدمه البشارة به فتطابقت حجج الله وبيناته على صدق أنبيائه ورسله، وانقطعت المعذرة وثبتت الحجة. فلم يبق لكافر إلا العناد المحض أو الإعراض والصد.
 
وقوله: إن الاسم الذي هو صاحب الحال قديم وكان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى وداود هذا بناء منه على الأصل الذي انفردت به الكلابية عن جميع طوائف أهل الأرض من أن معاني التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر كتب الله معنى واحد. فالعين لا اختلاف فيها ولا تعدد. وإنما تتعدد وتتكرر العبارات الدالة على ذلك المعنى الواحد فإن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا وهو نفس التوراة. وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهو نفس القرآن. وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا وهو أيضا نفس القرآن ونفس التوراة، وكذلك سائر الكتب.
السطر 3٬369 ⟵ 3٬377:
والجواب الصحيح أن يقال الحال المؤكدة لا يشترط فيها الاشتقاق والانتقال، بل التنقل مما ينافي مقصودها فإنما أتى بها لتأكيد ما تقدمها وتقريره فلا معنى لوصف الاشتقاق والانتقال فيها أصلًا وتسميتها حالًا تعبير نحوي اصطلاحي وإلا فالعرب لم تقل: هذه حال حتى يقال: كيف سميتموها حالًا؟ وهي وصف لازم. وإنما النحاة سموها حالًا فيا لله العجب! من أن تكون تسميتهم الحادثة الاصطلاحية موجبة لاشتراط التنقل والاشتقاق فلو سماها مسم بغير هذا الاسم. وقال: هذه نصب على القطع من المعرفة إذا جاءت بعد معرفة أكان يلزمه هذا السؤال فقد بان لك ضعف ما اعتمده من الجواب وبالله التوفيق.
 
عاد كلامه، قال: وأما قوله تعالى: { وهو الحق مصدقًا }، <ref>[ البقرة: 91 ]</ref> ، فقد حكموا أنها حال مؤكدة. ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل، لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى. وذلك نحو قم قائمًا وأنا زيد معروفًا هذه هي الحال المؤكدة في الحقيقة. وأما وهو الحق مصدقًا فليس بحال مؤكدة لأنه قال: { مصدقًا لما معهم } وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق إذ ليس من شرط الحق أن يكون مصدقًا لفلان ولا مكذبًا له بل الحق في نفسه حق وإن لم يكن مصدقًا لغيره. ولكن مصدقًا هنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى: { ويكفرون بما وراءه } <ref>[ البقرة: 91 ]</ref> ، وقوله: { وهو الحق } جملة في معنى الحال أيضا. والمعنى كيف تكفرون بما وراءه وهو في هذه الحال أعني مصدقًا لما معكم كما تقول: لا تشتم زيدًا وهو أمير محسنًا إليك. فالجملة حال ومحسنًا حال بعددها. والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الحال على قولك محسنًا ومصدقًا إنك لو أخرتها لتوهم أنها في موضع الحال من الضمير الذي في محسن ومصدق. ألا ترى أنك لو قلت: أشتم زيدًا محسنًا إليك وهو أمير لذهب الوهم إلى أنك تريد محسنًا إليك في هذه الحال. فلما قدمتها اتضح المراد وارتفع اللبس.
 
ووجه آخر يطرد في هذه الآية وفي الآية التي في [[سورة فاطر]]: { والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقًا لما بين يديه } <ref>[ فاطر: 31 ]</ref> وهو أن يكون مصدقًا ههنا حالًا يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها الألف واللام، لأن الألف واللام قد تنبىء عما تنبىء عنه أسماء الإشارة. حكى سيبويه لمن الدار مفتوحًا بابها فقولك مفتوحًا بابها حال. لا يعمل فيها الاستقرار الذي يتعلق به لمن، لأن ذلك خلاف المعنى المقصود وتصحيح المعنى لمن هذه الدار مفتوحًا بابها فقد استغني بذكر الألف واللام، وعلم المخاطب أنه مشير وتنبه المخاطب بالإشارة إلى النظر وصار ذلك المعنى المنبه عليه عاملًا في الحال.
 
وكذلك قوله: { وهو الحق مصدقًا } كأنه يقول: ذلك هو الحق مصدقًا، لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة، فلما أشار نبهت الإشارة على العامل في الحال، كما إذا قلت: هذا زيد قائمًا، نبهت الإشارة المخاطب على النظر فكأنك قلت: انظر إلى زيد قائمًا، لأن الاسم الذي هو ذا هو العامل. ولكن مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال. وذلك المعنى هو انظر.
السطر 3٬377 ⟵ 3٬385:
ومما أغنت فيه الألف واللام على الإشارة قولهم اليوم قمت، والساعة جئت، والليلة فعلت والآن قعدت. اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة.
 
قلت: ليس المراد بقول النحاة حال مؤكدة ما يريدون بالتأكيد في باب التوابع. فالتأكيد المبوب له هناك أخص من التأكيد المراد من الحال المؤكدة. وإنما مرادهم بالحال المؤكدة المقررة لمضمون الجملة بذكر الوصف الذي لا يفارق العامل ولا ينفك عنه. وإن لم يكن معنى ذلك الوصف هو معنى الجملة بعينه وهذا كقولهم زيد أبوك عطوفًا. فإن كونه عطوفًا ليس معنى كونه أباه، ولكن ذكر أبوته تشعر بما يلازمها من العطف، وكذلك قوله: { هو الحق مصدقًا لما بين يديه } ، فإن ما بين يديه حق، والحق يلازمة تصديق بعضه بعضًا.
 
وقوله: ليس من شرط الحق أن يكون مصدقًا لفلان. يقال: ليس هذا بنظير لمسألتنا. بل الحق يلزمه لزومًا لا انفكاك عنه تصديق بعضه بعضًا. فتصديق ما بين يديه من الحق هو من جهة كونه حقًا. فهذا معنى قولهم: إنها حال مؤكدة فافهمه. والمعنى أنه لا يكون إلا على هذه الصفة وهي مقررة لمضمون الجملة. فإن كونه مصدقًا للحق المعلوم الثابت مقررًا ومؤكدًا ومبينًا لكونه حقًا في نفسه.
 
وأما قوله: إنها حال من المجرور في قوله: { ويكفرون بما وراءه } <ref>[ البقرة: 91 ]</ref> ، والمعنى يكفرون به مصدقًا لما معهم. فهذا المعنى وإن كان صحيحًا، لكن ليس هو معنى الحال في القرآن حيث وقعت بهذا المعنى وهب أن هذا يمكن دعواه في هذا الموطن. فكيف يقول في قوله تعالى: { والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقًا لما بين يديه } <ref>[ فاطر: 31 ]</ref> ، والكلام والنظم واحد. وأيضا فالمعنى مع جعل مصدقًا حال من قوله: { وهو الحق } أبلغ وأكمل منه إذا جعل حالًا من المجرور. فإنه إذا جعل حالًا من المجرور يكون الإنكار قد توجه عليهم في كفرهم به حال كونهم مصدقًا لما معهم، وحال كونه حقًا. فيكونان حالًا من المجرور أي يكفرون به في هذه الحال وهذه الحال. وإذا جعل حالًا من مضمون قوله: { وهو الحق } كان المعنى يكفرون به حال كونه حقًا مصدقًا لما معهم فكفروا به في أعظم أحواله المستلزمة للتصديق والإيمان به وهو اجتماع كونه حقًا في نفسه وتصديقه لما معهم. فالكفر به عند اجتماع الوصفين فيه يكون أغلظ وأقبح وهذا المعنى والمبالغة لا تجده فيما إذا قيل يكفرون به حال كونه حقًا وحال كونه مصدقًا لما معهم. فتأمله بديع جدًا فصح قول النحاة والمفسرين في الآية والله أعلم.
 
==فائدة: قولهم هذا بسرا أطيب منه رطبا==
 
قولهم هذا بسرًا أطيب منه رطبًا فيه أسئلة عشرة:
السطر 3٬411 ⟵ 3٬419:
أما السؤال الأول: فجهة انتصابه على الحال في أصح القولين وهو اختيار سيبويه ومحققي أصحابه خلافًا لمن زعم أنه خبر كان، وسيأتي إبطاله في جواب السؤال التاسع وإنما جعله سيبويه حالًا، لأن المعنى عليه فإن المخبر إنما يفضله على نفسه باعتبار حالين من أحواله. ولولا ذلك لما صح تفضيل الشيء على نفسه. فالتفضيل إنما صح باعتبار الحالين فيه. فكان جهة انتصابهما على الحال لوجود شروط الحال وسيأتي الكلام على شرط الاشتقاق. فلما كان هذا الباب لا يذكر إلا لتفضيل شيء في زمان، أو على حال على نفسه في زمان، أو على حال أخرى وسائر وجوه النصب متعذرة فيه إلا الحال، أو كونه خبرًا لكان. وسيأتي بطلان الثاني فيتعين أن يكون حالًا. فإن قلت: فهلا جعلته تمييزًا. قلت. يأتي ذلك أنه ليس من قسمي التميير فإنه ليس من المقادير المنتصبة عن تمام الاسم، ولا من التمييز المنتصب عن تمام الجملة فلا يصح أن يكون تمييزًا.
 
==فصل: صاحب الحال==
 
وأما السؤال الثاني: وهو ما هو صاحب الحال ههنا فجوابه أنه الاسم المضمر في أطيب الذي هو راجع إلى المبتدأ من خبره. فبسرًا حال من ذلك الضمير، ورطبًا حال من المضمر المجرور بمن. وإن كان المجرور بمن هو المرفوع المستتر في أطيب من جهة المعنى. ولكنه نزل منزلة الأجنبي، ألا ترى أنك لو قلت: زيد قائمًا أخطب من عمرو قاعدًا. لكان قاعدًا حال من الاسم المخفوض بمن وهو عمرو، فكذلك رطبًا حال من الاسم المجرور بمن.
السطر 3٬459 ⟵ 3٬467:
وأجاب طائفة بأن قالوا: أفعل التفضيل في قوة فعلين، لأن معناه حسن وزاد حسنه وطاب وزاد طيبه. وإذا كان في قوة فعلين فهو عامل في بسرًا باعتبار حسن وطاب، وفي رطبًا باعتبار زاد. حتى لو فككت ذلك لقلت هذا زاد بسرًا في الطيب على طيبه في حال كونه رطبًا. فاستقام المعنى المطلوب. وهذا جواب حسن والأول أمتن، فتأملهما.
 
==فصل: تقديم معمول أفعل التفضيل عليه==
==فصل==
 
وأما السؤال الرابع: وهو تقديم معمول أفعل التفضيل عليه. فالجواب عنه من وجهين:
السطر 3٬471 ⟵ 3٬479:
وجواب ثالث: وهو أنهم إذا فضلوا الشيء على نفسه باعتبار حالين. فلا بد من تقديم أحدهما على العامل وإن كان مما لا يسوغ تقديمه لو لم يكن كذلك فإذا فضلوا ذاتًا باعتبار حالين قدموا أحدهما على العامل، وأخروا الآخر عنه. فقالوا: زيد قائمًا أحسن منه قاعدًا، وكذلك في التشبيه أيضا، يقولون: زيد قائمًا كعمرو قاعدًا. وإذا جاز تقديم هذا المعمول على الكاف التي هي أبعد في العمل من باب أحسن. فتقديم معمول أحسن أجدر. والغرض هنا بهذا الكلام تفضيل هذه التمرة في حال كونها بسرًا عليها في حال كونها رطبًا.
 
==فصل: عمل العامل الواحد في حالين==
==فصل==
 
وأما السؤال الخامس: وهو متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين، فقد فرغنا من جوابه فيما تقدم. وأن ذلك يجوز إذا كانت إحدى الحالين متضمنة للأخرى نحو جاء زيد راكبًا مسرعًا، وكذلك يعمل في الظرفين إذا تضمن أحدهما الآخر. نحو سرت يوم الخميس بكرة.
 
==فصل: التقديم والتأخير في الحالين==
==فصل==
 
وأما السؤال السادس: وهو هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين أم لا؟ فالجواب عنه أن الحال الأولى يجوز فيها ذلك، لأن العامل فيها لفظي وهو ما في أطيب من معنى الفعل فلك أن تقول: هذا بسرًا أطيب منه رطبًا، وأن تقول: هذا أطيب بسرًا منه رطبًا وهو الأصل.
السطر 3٬485 ⟵ 3٬493:
وأما الحال الثانية فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها، لأنه معنوي والعامل المعنوي لا يتصور تقديم معموله عليه، لأن العامل اللفظي إذا تقدم على منصوبه الذي حقه التأخير. قلت: فيه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى فإن لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم يتصور تقديم المعمول عليه، لأنه لا بد من تأخير المعمول على عامله في المعنى. فلا يوجد تعد إلا وعامله متقدم عليه، لأنه منوي غير ملفوظ به فلا تذهب النية والوهم إلى غير موضعه بخلاف اللفظي. فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعنى القلب. فإذا ذهب اللسان باللفظ إلى غير موضعه لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه وهو التقديم.
 
==فصل: تصور الحال في غير المشتق==
==فصل==
 
وأما السؤال السابع: وهو كيف يتصور الحال في غير المشتق فاعلم أنه ليس لاشتراط الاشتقاق حجة ولا يقوم على هذا الشرط دليل. ولهذا كان الحذاق من النحاة على أنه لا يشترط بل كل ما دل على هيئة صح أن يقع حالًا. فلا يشترط فيها إلا أن تكون دالة على معنى متحول. ولهذا سميت حالًا كما قال:
السطر 3٬491 ⟵ 3٬499:
لو لم تحل ما سميت حالًا ** وكل ما حال فقد زالا
 
فإذا كان صاحب الحال قد أوقع الفعل في صفة غير لازمة للفعل فلا تبالي. أكانت مشتقة أم غير مشتقة فقد جاء في الحديث يتمثل لي الملك رجلًا فوقع رجلًا هنا حالًا، لأن صورة الرجلية طارئة على الملك في حال التمثل وليست لازمة للملك إلا في وقت وقوع الفعل منه وهو التمثل فهي إذًا حال، لأنه قد تحول إليها ومثله: { يخرجكم طفلًا }، <ref>[ غافر: 67 ]</ref> ، ومثله: { هذه ناقة الله لكم آية }، <ref>[ هود: 64، الأعراف: 73 ]</ref> ، ، ومثله: { فتمثل لها بشرًا }. <ref>[ مريم: 17 ]</ref> . ويقولون: مررت بهذا العود شجرًا، ثم مررت به رمادًا وهذا زيد أسدًا، وتأويل هذا كله بأنه معمول الحال والتقدير يشبه بعيد جدًا، وكذا تأويل ذلك كله بمشتق تعسف ظاهر والتحقيق ما تقدم وأنها كلها أحوال وإن كانت جامدة، لأنها صفات يتحول الفاعل إليها وليس يلزم في الصفات أن تكون كلها فعلية بل فيها نفسية ومعنوية وعدمية وهي صفة النفي، وإضافية وفعلية ولا يكون من جميعها حالًا إلا ما كان الفعل واقعا فيه وجاز خلوه عنها. فأما ما كان لازمًا للاسم مما لا يجوز خلوه عنه فلا يكون حالًا منتصبة بالفعل. نحو قولك: قرشي وعربي وحبشي وابن وبنت وأخ وأخت، فكل هذه لا يتصور وقوعها أحوالًا، لأنها لا تتحول.
 
==فصل: مدلول الإشارة بقولك هذا==
==فصل==
 
وأما السؤال الثامن: وهو إلى أي شيء وقعت الإشارة بقولك هذا؟
السطر 3٬499 ⟵ 3٬507:
فالجواب أن متعلق الإشارة هو الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بلحًا، ثم يكون سيابًا ثم جدالًا، ثم بسرًا إلى أن يكون رطبًا. فمتعلق الإشارة المحل الحامل لهذه الأوصاف. فالإشارة إلى شيء ثالث غير البسر والرطب وهو حامل االبسرية والرطبية، وقد عرفت بهذا أنه لا ينبغي تخصيص الإشارة بقولهم إنها إلى البلح والطلع والجدال كل ذلك تمثيل، والتحقيق أن الإشارة إلى الحقيقة الحاملة لهذه الصفات والذي يدل على هذا أنك تقول: زيد قائمًا أخطب منه قاعدًا. وقال عبد الله بن سلام لعثمان: أنا خارجًا أنفع لك مني داخلًا، فلا إشارة ولا مشار هنا، وإنما هو إخبار عن الاسم الحامل للصفات التي منها القيام والقعود، ولا يصح أن يكون متعلق الإشارة صفة البسرية، ولا الجوهر بقيد تلك الصفة، لأنك لو أشرت إلى البسرية وكان الجوهر بقيدها لم يصح تقييده بحال الرطبية، فتأمله فلم تبق إلا أن تكون الإشارة إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال. وقد تبين لك بطلان قول من زعم أن متعلق الإشارة في هذا هو العامل في بسر. فإن العامل فيها إما ما تضمنه أطيب من الفعل، وإما كان المقدرة وكلاهما لا يصح تعلق الإشارة به.
 
==فصل: هل النصب على أنه خبر كان==
==فصل==
 
وأما السؤال التاسع وهو قوله: هلا قلتم إنه منصوب على أنه خبر كان.
السطر 3٬509 ⟵ 3٬517:
قيل: هذا السؤال إنما يلزم إذ أضمرنا الظرف. وأما إذا لم نضمره لم نحتج إلى كان ويكون. وأما قولكم إنه يفضل الشيء على نفسه باعتبار زمانين وإذ وإذا للزمان. فجوابه أن في التصريح بالحالين المفضل أحدهما على الآخر غنية عن ذكر الزمان وتقدير إضماره. ألا ترى أنك إذا قلت: هذا في حال بسريته أطيب منه في حال رطبيته استقام الكلام ولا إذ هنا، ولا إذا لدلالة الحال على مقصود المتكلم من أن التفضيل باعتبار الوقتين، وكذلك تقول: هذا في حال شبوبيته أعقل منه في حال شيخوخته، ونظائر ذلك مما يصح فيه التفضيل باعتبار زمانين من غير ذكر ظرف، ولا تقديره فافهمه.
 
==فصل: اتحاد المفضل والمفضل عليه==
==فصل==
 
وأما السؤال العاشر: وهو أنه هل يشترط اتحاد المفضل والمفضل عليه بالحقيقة؟
السطر 3٬517 ⟵ 3٬525:
فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث علقتها صيدًا لسوانح الخاطر فيها خشية أن لا يعود فليسامح الناظر فيها فإنها علقت على حين بعدي من كتبي وعدم تمكني من مراجعتها وهكذا غالب هذا التعليق. إنما هو صيد خاطر والله والمستعان.
 
==(مسألة سلام عليكم ورحمة الله)==
 
سلام عليكم ورحمة الله
السطر 3٬531 ⟵ 3٬539:
السؤال الرابع: ما معنى السلام المطلوب عند التحية وإذا كان دعاء وطلبًا فما الحكمة في طلبه عند التلاقي والمكاتبة دون غيره من المعاني؟
 
السؤال الخامس: إذا كان من السلامة فمعلوم أن الفعل منها لا يتعدى بعلى فلا يقال سلامة عليك وسلمت عليك بكسر اللام وإنما يقال سلام لك كما قال تعالى: { فسلام لك من أصحاب اليمين }. <ref>[ الواقعة: 91 ]</ref> .
 
السؤال السادس: ما الحكمة في الابتداء بالنكرة في السلام مع كون الخبر جارًا ومجرورًا وقياس العربية تقديم الخبر في ذلك نحو في الدار رجل؟
السطر 3٬543 ⟵ 3٬551:
السؤال العاشر: ما السر في نصب السلام في تسليم الملائكة ورفعه في تسليم إبراهيم وهل هو كما تقول: النحاة أن سلام إبراهيم أكمل لتضمنه جملة إسمية دالة على الثبوت وتضمن سلام الملائكة صيغة جملة فعلية دالة على الحدوث أم لسر غير ذلك؟
 
السؤال الحادي عشر: ما السر في نصب السلام؟ من قوله تعالى: { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا }، <ref>[ الفرقان: 63 ]</ref> ، ورفعه من قوله: { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم }، <ref>[ القصص: 55 ]</ref> ، أو ما الفرق بين الموضعين؟
 
السؤال الثاني عشر: ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله والسلام إنما هو طلب السلامة للمسلم عليه فكيف يتصور هذا المعنى في حق الله؟ وهذا من أهم الأسئلة وأحسنها.
السطر 3٬549 ⟵ 3٬557:
السؤال الثالث عشر: إذا ظهرت حكمة سلامه تعالى عليهم فما الحكمة في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة؟ فيقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكذلك سلامهم على أنفسهم وعلى عباد الله الصالحين.
 
السؤال الرابع عشر: ما السر في تسليم الله على يحيى بلفظ النكرة في قوله: وسلام عليه وتسليم المسيح نفسه بلفظ المعرفة بقوله: { والسلام علي } <ref>[ مريم: 33 ]</ref> ، وأي السلامين أتم وأعم.
 
السؤال الخامس عشر: ما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة : { يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا }، <ref>[ مريم: 33 ]</ref> ، خاصة مع أن السلام مطلوب في جميع الأوقات فلو أتى به مطلقًا. أما كان أعم. فإن هذا التقييد خص السلام بهذه الأيام خاصة؟
 
السؤال السادس عشر: ما الحكمة في تسليم النبي {{صل}} على من اتبع الهدى في كتاب هرقل بلفظ النكرة، وتسليم موسى على من اتبع الهدى بلفظ المعرفة ليطابق القرآن وما الفرق بينهما؟
 
السؤال السابع عشر: قوله تعالى: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى }، <ref>[ النمل: 59 ]</ref> ، هل هذا سلام من الله فيكون الكلام قد تضمن جملتين طلبية وهي الأمر بقوله: قل الحمد لله، وخبرية وهي سلامه تعالى على عباده وعلى هذا، فيكون من باب عطف الخبر على الطلب أو هو أمر من الله بالسلام عليهم. وعلى هذا فيكون قد أمر بشيئين أحدهما قول الحمد لله، والثاني قول سلام على عباده الذين اصطفى ويكون كلاهما معمولًا لفعل القول وأي المعنيين أليق بالآية.
 
السؤال الثامن عشر: روى [[أبو داود في سننه]] من حديث أبي جري الهجيمي قال: أتيت رسول الله {{صل}} فقلت عليك السلام يا رسول الله فقال: «لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى»، قال الترمذي: حديث صحيح وقد صح عنه في السلام على الأموات فعلًا وأمرًا السلام عليكم دار قوم مؤمنين فما وجه هذا الحديث وكيف الجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة؟
 
السؤال التاسع عشر: ما وجه دخول الواو في قول النبي {{صل}}: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» وقد استشكل كثير من الناس أمر هذه الواو حتى أنكر بعضهم من الحذاق أن تكون ثابتة، قال: لأن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الأول وتصديقه. كما إذا قلت زيد كاتب. فقال: المخاطب وفقيه فإنه يقتضي إثبات الأول وزيادة وصف فقيه. فكيف دخلت في هذا الموضع وما وجهها؟
السطر 3٬569 ⟵ 3٬577:
السؤال الثالث والعشرون: ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة.
 
السؤال الرابع والعشرون: ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي {{صل}} بالمصدر دون الصلاة في قوله تعالى: { صلوا عليه وسلموا تسليمًا }، <ref>[ الأحزاب: 56 ]</ref> ، ولم يقل صلوا صلاة.
 
السؤال الخامس والعشرون: ما الحكمة في تقديم السلام عليه في الصلاة على الصلاة عليه، وهلا وقعت البداءة بالصلة عليه أولًا، ثم اتبعت بالسلام لتصح البداءة بما بدأ الله به من تقديم الصلاة على السلام؟
السطر 3٬579 ⟵ 3٬587:
السؤال الثامن والعشرون: وهو خاتمة الأسئلة ما السر في كون السلام خاتمة الصلاة وهلا كان في ابتدائها. وإذا كان كذلك. فما السر في مجيئه معرفًا وهلا جاء منكرًا؟
 
أما السؤال الأول: وهو ما حقيقة هذه اللفظة. فحقيقتها البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب. وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها فمن ذلك، قولك: سلمك الله وسلم فلان من الشر. ومنه دعاء المؤمنين على الصراط رب سلم اللهم سلم ومنه سلم الشيء لفلان. أي خلص له وحده. فخلص من ضرر الشركة فيه قال تعالى: { ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون ورجلًا سلمًا لرجل }. <ref>[ الزمر: 29 ]</ref> . أي خالصًا له وحده لا يملكه معه غيره. ومنه السلم ضد الحرب قال تعالى: { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }، <ref>[ الأنفال: 61 ]</ref> ، لأن كلًا من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر ولهذا يبني منه على المفاعلة. فيقال: المسالمة مثل المشاركة. ومنه القلب السليم وهو النقي من الغل والدغل. وحقيقته الذي قد سلم الله وحده. فخلص من دغل الشرك وغله ودغل الذنوب والمخالفات. بل هو المستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته. فهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام فإنه من هذه المادة، لأنه الاستسلام والانقياد لله، والتخلص من شوائب الشرك فسلم لربه، وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه ليس فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به.
 
ومنه السَّلَم للسَّلَف، وحقيقته العوض المسلم فيه، لأن من هو في ذمته قد ضمن سلامته لربه، ثم سمى العقد سلمًا وحقيقته ما ذكرناه.
السطر 3٬597 ⟵ 3٬605:
وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين؛ أحدهما: أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة وما يضاف إلى الجنة لا يكون إلا مختصًا بها كالخلد والقرار والبقاء. الثاني: أن من أوصافها غير التحية ما هو أكمل منها مثل كونها دائمة وباقية، ودار الخلد والتحية فيها عارضة عند التلاقي والتزاور بخلاف السلامة من كل عيب ونقص وشر. فإنها من أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم فيها إلا به فإضافتها إليه أولى وهذا ظاهر.
 
===فصل: إطلاق السلام على الله تعالى===
 
 
==فصل إطلاق السلام على الله تعالى==
 
وإذا عرف هذا فإطلاق السلام على الله تعالى اسما من أسمائه هو أولى من هذا كله وأحق بهذا الاسم من كل مسمى به، لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه. فهو السلام الحق بكل اعتبار والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار. فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه. وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه ونزهه به رسوله، فهو السلام من الصاحبة والولد والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل والسلام من الشريك. وكذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها، فحياته سلام من الموت ومن السنة والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب وعلمه سلام من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة وكلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت كلماته صدقا وعدلا وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غني عن كل ما سواه وملكه سلام من منازع فيه أو مشارك أو معاون مظاهر أو شافع عنده بدون إذنه وإلاهيته سلام من مشارك له فيها بل هو الله الذي لا إله إلا هو وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذلك أو مصانعة كما يكون من غيره بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه.
السطر 3٬605 ⟵ 3٬611:
وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلما أو تشفيا أو غلظة أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحقه علي إحسانه وثوابه ونعمه بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضا لحكمته ولعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله وحكمته وعزته، فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به من خلاف حكمته.
 
وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم ومن توهم وقوعه على خلاف الحكمة البالغة وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته بل شرعه كله حكمة ورحمة ومصلحة وعدل .
 
وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى. ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق. بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز .
 
واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجا إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه، فهو الغني عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى بل كان سبحانه ولا عرش ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرض ولا غيره بوجه ما. ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يضاد علوه وسلام مما يضاد غناه وكماله، وسلام من كل ما يتوهم معطل أو مشبه، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورا في شيء - تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله وغناه. وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل.
 
وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذلك كما يوالي المخلوق المخلوق بل هي موالاة رحمة وخير وإحسان وبر كما قال تعالى: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل }. <ref>[ الإسراء: 111 ]</ref> . فلم ينف أن يكون له ولي مطلقا بل نفي أن يكون له ولي من الذل.
 
وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه أو تملق له أو انتفاع بقربه وسلام مما يتقوله المعطلون فيها وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه فإنه سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل .
 
فتأمل كيف تضمن اسمه السلام كل ما نزه عنه تبارك وتعالى وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني والله المستعان المسئول أن يوفق للتعليق على الأسماء الحسنى على هذا النمط إنه قريب مجيب
 
===فصل: هل السلام مصدر أو اسم مصدر===
==فصل==
 
وأما السؤال الثاني، وهو هل السلام مصدر أو اسم؟
 
فالجواب أن السلام الذي هو التحية اسم مصدر من سلَّم، ومصدره الجاري عليه تسليم كعلَّم تعليما وفهم تفهيما وكلم تكليما. والسلام من سلم كالكلام من كلم .
 
فإن قيل: وما الفرق بين المصدر والاسم ؟والاسم؟
 
قلنا: بينهما فرقان لفظي ومعنوي.
 
أما اللفظي فإن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل والتفعيل من فعل والإنفعال من انفعل والتفعلل من تفعلل وبابه . وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما ولو جريا عليه لقيل تسليم وتكليم .
 
وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله. فإذا قلت تكليم وتسليم وتعليم ونحو ذلك دل على الحدث ومن قام به، فيدل التسليم على السلام والمسلم وكذلك التكليم والتعليم. وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده، فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلِّم ولا مكلم، بخلاف التكليم والتسليم.
 
وسر هذا الفرق أن المصدر في قولك سلم تسليما وكلم تكليما بمنزلة تكرار الفعل فكأنك قلت سلم سلم وتكلم تكلم والفعل لا يخلو عن فاعله أبدا. وأما اسم المصدر فإنهم جردوه لمجرد الدلالة على الحدث. وهذه النكتة من أسرار العربية، فهذا السلام الذي هو التحية .
 
وأما السلام الذي هو اسم من أسماء الله ففيه قولان :
 
أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر وإطلاقه عليه كإطلاق العدل عليه والمعنى أنه ذو السلام وذو العدل على حذف المضاف .
 
والثاني أن المصدر بمعنى الفاعل هنا أي السالم كما سميت ليلة القدر سلاما أي سالمة من كل شر بل هي خير لا شر فيها .
 
وأحسن من القولين وأقيس في العربية أن يكون نفس السلام من أسمائه تعالى كالعدل وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكررا منه كقولهم رجل صوم وعدل وزور وبابه .
 
وأما السلام الذي هو بمعنى السلامة فهو مصدر نفسه وهو مثل الجلال والجلالة فإذا حذفت التاء كان المراد نفس المصدر وإذا أتيت بالثاء كان فيه إيذان بالتحديد بالمرة من المصدر كالحب والحبة فالسلام والجمال والجلال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه تاء التحديد. والسلامة والجلالة والملاحة والفصاحة كلها تدل على الخصلة الواحدة .
 
ألا ترى أن الملاحة خصلة من خصال الكمال والجلالة من خصال الجلال، ولهذا لم يقولوا كمالة كما قالوا مَلاحة وفصاحة، لأن الكمال اسم جامع لصفات الشرف والفضل فلو قالوا كمالة لنقضوا الغرض المقصود من اسم الكمال فتأمله .
 
وعلى هذا جاءت الحلاوة والأصالة والرزانة والرجاحة لأنها خصلة من مطلق الكمال والجمال محدودة فجاءوا فيها بالتاء الدالة على التحديد؛ وعكسه الحماقة والرقاعة والنذالة والسفاهة فإنها خصال محدودة من مطلق العيب والنقص فجاءوا في الجنس الذي يشمل الأنواع بغير تاء فجاءوا في أنواعه وأفراده بالتاء، وقد تقدم تقرير هذا المعنى وأيضا فلا حاجة إلى إعادته .
 
فتأمل الآن كيف جاء السلام مجردا عن التاء إيذانا بحصول المسمى التام إذ لا يحصل المقصود إلا به، فإنه لو سلم من آفة ووقع في آفة لم يكن قد حصل له السلام فوضح أن السلام لم يخرج عن المصدرية في جميع وجوهه .
 
فإن قيل: فما الحكمة في مجيئه اسم مصدر ولم يجيء على أصل المصدر؟
السطر 3٬653 ⟵ 3٬659:
قيل: هذا السر بديع وهو أن المقصود حصول مسمى السلامة للمسلَّم عليه على الإطلاق من غير تقييد بفاعل، فلما كان المراد مطلق السلامة من غير تعرض لفاعل أتوا باسم المصدر الدال على مجرد الفعل ولم يأتوا بالمصدر الدال على الفعل والفاعل معًا، فتأمله.
 
===فصل: هل السلام عليكم إنشاء أم خبر===
==فصل==
 
وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم سلام عليكم هل هو إنشاء أم خبر؟
السطر 3٬659 ⟵ 3٬665:
فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيه لا تناقض جهة الإنشائية. وهذا موضع بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح. فنقول: الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم به نفسه، ونسبة إلى المتكلم فيه إما طلبًا، وإما خبرًا. وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بها هذا الغرض. وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين فباعتبار تينك النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر، والإنشاء ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان. فله بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادته لثبوت مضمونه وصف الإنشاء، وله بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بتحققه في الخارج وصف الأخبار، ثم تجتمع النسبتان في موضع وتفترقان في موضع. فكل موضع كان المعنى فيه حاصلًا بقصد المتكلم وإرادته فقط. فإنه لا يجامع فيه الخبر الإنشاء نحو قوله: بعتك كذا، ووهبتكه وأعتقت وطلقت. فإن هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلم وقصده. فهي إنشاءات وخبريتها من جهة أخرى وهي تضمنها إخبار المتكلم عن ثبوت هذه النسبة في ذهنه. لكن ليست هذه هي الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر وكل موضع كان المعنى حاصلًا فيه من غير جهة المتكلم. وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله ومحبته. فالخبر فيه لا يناقض الإنشاء وهذا نحو سلام عليكم. فإن السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المسلم، وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها فإذا قال: سلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها، وكذلك ويل له قال سيبويه: هو دعاء وخبر ولم يفهم كثير من الناس قول سيبويه على وجهه. بل حرفوه عما أراده به. وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به، فتدبر هذه النكتة التي لا تجدها محررة في غير هذا الموضع هكذا. بل تجدهم يطلقون تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء من غير تحرير. وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما. وقد عرفت بهذا أن قولهم سلام عليكم وويل له وما أشبه هذا أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو اللهم سلمه.
 
===فصل: معنى السلام المطلوب عند التحية===
==فصل==
 
وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية ففيه قولان مشهوران:
 
أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله عز وجل. ومعنى الكلام نزنت بركة اسمه عليكم، وحلت عليكم ونحو هذا واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء لما يأتي في جواب السؤال الذي بعده، واحتج أصحاب هذا القول بحجج منها ما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقولون في الصلاة: السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على فلان فقال النبي {{صل}}: «لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام». ولكن قولوا: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فنهاهم النبي {{صل}} أن يقولوا: السلام على الله، لأن السلام على المسلم عليه دعاء له، وطلب أن يسلم والله تعالى هو المطلوب منه لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له. فيستحيل أن يسلم عليه. بل هو المسلم على عباده كما سلم عليهم في كتابه. حيث يقول: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون،يصفون * وسلام على المرسلين }، <ref>[ الصافات: 180،180 - 181 ]</ref> ، وقوله: { سلام على إبراهيم }، <ref>[ الصافات: 109 ]</ref> ، { سلام على نوح }، <ref>[ الصافات: 79 ]</ref> ، { سلام على إل ياسين }، <ref>[ الصافات: 130 ]</ref> ، وقال في يحيى: { وسلام عليه } وقال لنوح: { اهبط بسلام منا وبركات عليك }، <ref>[ هود: 48 ]</ref> ، ويسلم يوم القيامة على أهل الجنة كما قال تعالى: { لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون،يدعون * سلام قولًا من رب رحيم }، <ref>[ يس: 57،57 - 58 ]</ref> ، فقولًا منصوب على المصدر، وفعله ما تضمنه سلام من القول، لأن السلام قول.
 
وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة من، حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله {{صل}}: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم». وقال: «يا أهل الجنة سلام عليكم»، ثم قرأ قوله: { سلام قولًا من رب رحيم }، <ref>[ يس: 58 ]</ref> ، ثم يتوارى عنهم فتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم.
 
وفي سنن ابن ماجة مرفوعًا أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة عمر، وقال تعالى: { تحيتهم يوم يلقونه سلام }، <ref>[ الأحزاب: 44 ]</ref> ، فهذا تحيتهم يوم يلقونه تبارك وتعالى. ومحال أن تكون هذه تحية منهم له. فإنهم أعرف به من أن يسلموا عليه، وقد نهوا عن ذلك في الدنيا، وإنما هذا تحية منه لهم. والتحية هنا مضافة إلى المفعول فهي التحية التي يحيون بها لا التحية التي يحيونه هم بها. ولولا قوله تعالى في [[سورة يس]]: { قولًا من رب رحيم } <ref>[ يس: 58 ]</ref> ، لاحتمل أن تكون التحية لهم من الملائكة كما قال تعالى: { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم }. <ref>[ الرعد: 23 ]</ref> . ولكن هذا سلام الملائكة إذا دخلوا عليهم وهم في منازلهم من الجنة يدخلون مسلمين عليهم، وأما التحية المذكورة في قوله: { تحيتهم يوم يلقونه سلام } ، فتلك تحية لهم وقت اللقاء كما يحيي الحبيب حبيبه، إذا لقيه. فماذا حرم المحجوبون عن ربهم يومئذ؟
 
يكفي الذي غاب عنك غيبته ** فذاك ذنب عقابه فيه
السطر 3٬673 ⟵ 3٬679:
والمقصود أن الله تعالى يطلب منه السلام. فلا يمتنع في حقه أن يسلم على عباده ولا يطلب له، فلذلك لا يسلم عليه. وقوله {{صل}}: «إن الله هو السلام» صريح في كون السلام اسمًا من أسمائه.
 
قالوا: فإذا قال المسلم: سلام عليكم كان معناها اسم السلام عليكم. ومن حججهم ما رواه أبو داود من حديث [[ابن عمر]] أن رجلًا سلم على النبي {{صل}} فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمم ورد عليه وقال: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر»، قالوا: ففي هذا الحديث بيان أن السلام ذكر الله. وإنما يكون ذكرًا إذا تضمن اسمًا من أسمائه.
 
ومن حججهم أيضا أن الكفار من أهل الكتاب لا يُبدأون بالسلام. فلا يقال لهم: سلام عليكم. ومعلوم أنه لايكره أن يقال لأحدهم: سلمك الله وما ذاك إلا أن السلام اسم من أسماء الله. فلا يسوغ أن يطلب للكافر حصول بركة ذلك الاسم عليه. فهذه حجج كما ترى قوية ظاهرة.
السطر 3٬691 ⟵ 3٬697:
وقريب من هذا ما روى عن بعض السلف. إنه قال في آمين: إنه اسم من أسماء الله تعالى. وأنكر كثير من الناس هذا القول. وقالوا: ليس في أسمائه آمين، ولم يفهموا معنى كلامه فإنه، إنما أراد أن هذه الكلمة تتضمن اسمه تبارك وتعالى، فإن معناها استجب وأعط ما سألناك فهي متضمنة لإسمه مع دلالتها على الطلب. وهذا التضمن في سلام عليكم أظهر، لأن السلام من أسمائه تعالى. فهذا كشف سر المسألة.
 
===فصل: الحكمة في السلام عند اللقاء===
==فصل==
 
إذا عرف هذا، فالحكمة في طلبه عند اللقاء دون غيره من الدعاء. إن عادة الناس الجارية بينهم أن يحيي بعضهم بعضًا عند لقائه، وكل طائفة لهم في تحيتهم ألفاظ وأمور اصطلحوا عليها. وكانت العرب تقول في تحيتهم بينهم في الجاهلية. أنعم صباحًا وأنعموا صباحًا. فيأتون بلفظة أنعموا من النعمة بفتح النون. وهي طيب العيش والحياة ويصلونها بقولهم صباحًا، لأن الصباح في أول النهار. فإذا حصلت فيه النعمة استصحب حكمها واستمرت اليوم كله فخصوها بأوله إيذانًا لتعجيلها وعدم تأخرها إلى أن يتعالى النهار، وكذلك يقولون: أنعموا مساء. فإن الزمان هو صباح ومساء. فالصباح في أول النهار إلى بعد انتصافه. والمساء من بعد انتصافه إلى الليل. ولهذا يقول الناس: صبحك الله بخير، ومساك الله بخير، فهذا معنى أنعم صباحًا ومساء، إلا أن فيه ذكر الله.
السطر 3٬701 ⟵ 3٬707:
وأما عند المكاتبة فلما كان المراسلان كل منهما غائب عن الآخر ورسوله إليه كتابه يقوم مقام خطابه له، استعمل في مكاتبته له من السلام ما يستعمله معه لو خاطبه لقيام الكتاب مقام الخطاب.
 
===فصل: تعدية السلام بعلى===
 
وأما السؤال الخامس: وهو تعدية هذا المعنى بعلى.
 
فجواب بذكر مقدمة وهي ما معنى قوله سلمت. فإذا عرف معناها عرف أن حرف على أليق به. فاعلم أن لفظ سلمت عليه، وصليت عليه، ولعنت فلانًا موضوعها ألفاظ هي جمل طلبية وليس موضوعها معاني مفردة. فقولك: سلمت، موضوعه: قلت: السلام عليك. وموضوع صليت عليه قلت: اللهم صل عليه أو دعوت له. وموضوع لعنته قلت: اللهم العنه .
 
نظير هذا سبحت الله قلت: سبحان الله. ونظيره وإن كان مشتقًا من لفظ الجملة هلل إذا قال: لا إله إلا الله، وحمدل إذا قال: الحمد الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وحيعل إذا قال: حي على الصلاة وبسمل إذا قال بسم الله. قال:
السطر 3٬713 ⟵ 3٬719:
وإذا ثبت هذا فقولك: سلمت عليه أي ألقيت عليه هذا اللفظ وأوضعته عليه إيذانًا باشتمال معناه عليه كاشتمال لباسه عليه. وكان حرف على أليق الحروف به فتأمله.
 
وأما قوله تعالى: { وأما إن كان من أصحاب اليمين،اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين }، <ref>[ الواقعة: 90،90 - 91 ]</ref> ، فليس هذا سلام تحية ولو كان تحية لقال: فسلام عليه كما قال: { سلام على إبراهيم }، <ref>[ الصافات: 109 ]</ref> ، { سلام على نوح }، <ref>[ الصافات: 79 ]</ref> ، ولكن الآية تضمنت ذكر مراتب الناس وأقسامهم عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله. فذكر أنهم ثلاثة أقسام. مقرب له الروح والريحان وجنة النعيم. ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة فوعده بالسلامة ووعد المقرب بالغنيمة والفوز. وإن كان كل منهما سالمًا غانمًا. . . وظالم بتكذيبه وضلاله. فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم. فلما لما يكن المقام مقام تحية، وإنما هو مقام أخبار عن حاله ذكر ما يحصل له من السلامة.
 
فإن قيل: فهذا فرق صحيح. لكن ما معنى اللام في قوله لك، ومن هو المخاطب بهدابهذا الخطاب، وما معنى حرف من في قوله من أصحاب اليمين؟ فهذه ثلاثة أسئلة في الآية.
 
قيل: قد وفينا بحمد الله بذكر الفرق بين هذا السلام في الآية، وبين سلام التحية وهو الذي كان المقصود. وهذه الأسئلة وإن كانت متعلقة بالآية فهي خارجة عن مقصودنا، ولكن نجيب عنها إكمالًا للفائدة بحول الله وقوته، وإن كنا لم نر أحدًا من المفسرين شفى في هذا الموضع الغليل، ولا كشف حقيقة المعنى واللفظ، بل منهم من يقول المعنى فمسلم لك إنك من أصحاب اليمين ومنهم من يقول غير ذلك مما هو حرم على معناها من غير ورود.
 
فاعلم أن المدعو به من الخير والشر مضاف إلى صاحبه بلام الإضافة الدالة على حصوله له. ومن ذلك قوله تعالى: { أولئك لهم اللعنة }، <ref>[ الرعد: 25 ]</ref> ، ولم يقل عليهم اللعنة إيذانًا بحصول معناها وثبوته لهم. وكذلك قوله: { ولكم الويل مما تصفون }. <ref>[ الأنبياء: 18 ]</ref> . ويقول في ضد هذا: لك الرحمة، ولك التحية، ولك السلام. ومنه هذه الآية: { فسلام لك } <ref>[ الواقعة: 91 ]</ref> ، أي ثبت لك السلام وحصل لك.
 
وعلى هذا فالخطاب لكل من هو من هذا الضرب فهو خطاب للجنس، أي فسلام لك يا من هو من أصحاب اليمين، كما تقول هنيئًا لك يا من هو منهم. ولهذا والله أعلم أتى بحرف من في قوله: { من أصحاب اليمين }. <ref>[ الواقعة: 91 ]</ref> . والجار والمجرور في موضع حال أي سلام لك كائنًا من أصحاب اليمين، كما تقول: هنيئًا لك من أتباع رسول الله وحزبه، أي: كائنًا منهم، والجار والمجرور بعد المعرفة ينتصب على الحال كما تقول: أحببتك من أهل الدين والعلم، أي: كائنًا منهم. فهذا معنى هذا الآية، وهو وإن خلت عنه كتب أهل التفسير فقد حام عليه منهم من حام وما ورد ولا كشف المعنى ولا أوضحه. فراجع ما قالوه والله الموفق المان بفضله.
 
===فصل: الابتداء بالنكرة في السلام===
==فصل==
 
وأما السؤال السادس: وهو ما الحكمة في الابتداء بالنكرة ههنا مع أن الأصل تقديم الخبر عليها؟ هذا سؤال قد تضمن سؤالين؛ أحدهما: حكمة الابتداء بالنكرة في هذا الموضع. الثاني: أنه إذ قد ابتدىء بها فهلا قدم الخبر على المبتدأ، لأنه قياس الباب، نحو: في الدار رجل؟
السطر 3٬741 ⟵ 3٬747:
قلت: لأن النكرة تطلب الوصف طلبًا حثيثًا فيسبق الوهم إلى أن الجار والمجرور وصف لها لا خبر عنها إذ ليس من عادتها الإخبار عنها إلا بعد الوصف لها. فيبقى الذهن متطلعًا إلى ورود الخبر عليه وقد سبق إلى سمعه. ولكن لم يتيقن أنه الخبر بل يجوز أن يكون وصفًا فلا تحصل به الفائدة بل يبقى في ألم الانتظار للخبر والترقب له. فإذا قدمت الجار والمجرور عليها استحال أن يكون وصفًا لها، لأنه لا يتقدم موصوفه فذهب وهمه إلى أن الاسم المجرور المقدم هو الخبر والحديث عن النكرة وهو محط الفائدة.
 
إذا عرفت هذا. فمن التخصيصات المسوغة للابتداء بها، أن تكون موصوفة نحو: { ولعبد مؤمن خير من مشرك }، <ref>[ البقرة: 221 ]</ref> ، أو عامة نحو "ما أحد خير من رسول الله"، وهل أحد عندك؟
 
ومن ذلك أن تقع في سياق التفضيل نحو قول عمر: تمرة خير من جرادة. فإن التفضيل نوع من التخصيص بالعموم. إذ ليس المراد واحدة غير معينة من هذا الجنس. بل المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة إيذانًا بأن هذا التفضيل ثابت لكل فرد فرد من أفراد الجنس، ومنه تأويل سيبويه في قوله تعالى: { طاعة وقول معروف }، <ref>[ محمد: 21 ]</ref> ، فإنه قدره طاعة أمثل وقول معروف أشبه وأجدر بكم وهذا أحسن من قول بعضهم: أن المسوغ للابتداء بها ههنا العطف عليها، لأن المعطوف عليها موصوف فيصح الابتداء به. وإنما كان قول سيبويه أحسن، لأن تقييد المعطوف بالصفة لا يقتضي تقييد المعطوف عليه بها. ولو قلت: طاعة أمثل، لساغ ذلك وإن لم يعطف عليها.
 
ومنه وقوع النكرة في سياق تفصيل بعد إجمال. كما إذا قلت: أقسم هذه الثياب بين هؤلاء فثوب لزيد وثوب لعمرو وثوب لبكر. فإن النكرة ههنا تخصصت وتعينت وزال إبهامها وشياعها في جنس الثياب. بل تخصصت بتلك الثياب المعية فكأنك قلت: ثوب منها لزيد وثوب منها لعمرو وهذا تقييد وتخصيص.
السطر 3٬751 ⟵ 3٬757:
ومن هذا قولهم: "شر أهر ذا ناب" وفيه تقديران. أحدهما أنه على الوصف أي شر عظيم، أو شر مخوف أهره. والثاني: أنه في معنى كلام آخر وهو ما أهر ذا ناب الأشر، أو إنما أهره شر، ولا ريب في صحة المسألة على وجه الفاعلية. فهكذا إذا كانت على وجه المبتدأ والخبر الذي في معناه.
 
ومنه قولهم "شرٌّ ما جاء به"، لأن معنى الكلام ما جاء به الأشر فأدت ما الزائدة هنا معنى شيئين النفي والإيجاب، كما أدته في قولك إنما جاء به شر وفي قوله تعالى: { فقليلًا ما يؤمنون } <ref>[ البقرة: 88 ]</ref> أي ما يؤمنون إلا قليلًا وقليلًا ما يذكرون. وقوله: { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم }، <ref>[ المائدة: 13 ]</ref> ، أي ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم ونحو فبما رحمة من الله لنت لهم أي ما لنت لهم إلا برحمة من الله، ولا تسمع قول من يقول من النحاة: إن ما زائدة في هذه المواضع فإنه صادر عن عدم تأمل.
 
فإن قيل: فمن أين لكم أفادة؟ ما هذه المعنيين المذكورين من النفي؟ والإيجاب: وهي لو كانت على حقيقتها من النفي الصريح لم تفد إلا معنى واحدًا وهو النفي. فإذا لم يكن النفي صريحًا فيها كيف تفيد معنيين؟
السطر 3٬763 ⟵ 3٬769:
أدافع عن أعراض قومي وإنما ** يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي
 
فإذا عرفت أن زيادتها مع أن واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب. فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر من قوله: { فبما رحمة من الله } <ref>[ آل عمران: 59ا 159]</ref> ، و { فبما نقضهم ميثاقهم }. <ref>[ المائدة: 13 ]</ref> ، وتأمل كيف تجد الفرق بين هذا التركيب وبين أن يقال: فبرحمة من الله، وفبنقضهم ميثاقهم. وأنك تفهم من تركيب الآية ما لنت لهم إلا برحمة من الله، وما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، وكذلك قوله: { فقليلًا ما يؤمنون دلت على النفي بلفظها وعلى الإيجاب بتقديم ما حقه التأخير من المعمول وارتباط ما به مع تقديم. كما قرر في قولهم شر ما جاء به، وقد بسطنا هذا في كتاب الفتح المكي، وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرف زائد وتكلمنا على كل ما ذكر في ذلك، وبينا أن كل لفظة لها فائدة متجددة زائدة على أصل التركيب. ولا ينكر جريان القلم إلى هذه الغاية وإن لم يكن من غرضنا فإنها أهم من بعض ما نحن فيه وبصدده.
 
فلنرجع إلى المقصود. فنقول: الذي صحح الابتداء بالنكرة في سلام عليكم. إن المسلم لما كان داعيًا وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء صار هو المقصود المهتم به، وينزل منزلة قولك أسأل الله سلامًا عليكم، وأطلب من الله سلامًا عليك. فالسلام نفس مطلوبك ومقصودك. ألا ترى أنك لو قلت: أسأل الله عليك سلامًا لم يجز وهذا في قوته ومعناه. فتأمله فإنه بديع جدًا.
السطر 3٬769 ⟵ 3٬775:
فإن قلت: فإذا كان في قوته فهلا كان منصوبًا مثل سقيًا ورعيًا، لأنه في معنى سقاك الله سقيًا ورعاك رعيًا؟
 
قلت: سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين سلام إبراهيم، وسلام ضيفه إن شاء الله. وأيضا فالذي حسن الابتداء بالنكرة ههنا. إنها في حكم الموصوفة، لأن المسلم إذا قال: سلام عليكم فإنما مراده سلام مني عليك كما قال تعالى: { اهبط بسلام منا }، <ref>[ هود: 48 ]</ref> ، ألا ترى أن مقصود المسلم إعلام من سلم عليه بأن التحية والسلام منه نفسه لما في ذلك من حصول مقصود السلام من التحيات والتواد والتعاطف فقد عرفت جواب السؤالين لما ابتدىء بالنكرة، ولم قدمت على الخبر بخلاف الباب في مثل ذلك والله أعلم.
 
===فصل: تقديم السلام في جانب المسلم===
==فصل==
 
وأما السؤال السابع وهو أنه لم كان في جانب المسلم تقديم السلام، وفي جانب الراد تقديم المسلم عليه.
السطر 3٬785 ⟵ 3٬791:
الفائدة الثالثة: وهي أقوى مما تقدم أن المسلم لما تضمن سلامة الدعاء للمسلم عليه بوقوع السلامة عليه، وحلولها عليه. وكان الرد متضمنًا لطلب أن يحل عليه من ذلك مثل ما دعا به. فإنه إذا قال: وعليك السلام كان معناه وعليك من ذلك مثل ما طلبت لي. كما إذا قال: غفر الله لك. فإنك تقول له: ولك يغفر ويكون هذا أحسن من قولك وغفر لك. وكذا إذا قال: رحمة الله عليك، تقول: وعليك وإذا قال: عفا الله عنك. تقول: وعنك، وكذلك نظائره لأن تجريد القصد إلى مشاركة المدعو له للداعي في ذلك الدعاء لا إلى إنشاء دعاء مثل ما دعا به فكأنه قال: ولك أيضا، وعنك أيضا. أي وأنت مشارك لي في ذلك مماثل لي فيه لا أنفرد به عنك، ولا اختص به دونك، ولا ريب أن هذا المعنى يستدعي تقديم المشارك المساوي فتأمله.
 
===فصل: ابتداء السلام بالنكرة والجواب بالمعرفة===
==فصل==
 
وأما السؤال الثامن: وهو ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة وجوابه بلفظ المعرفة، فيقول: سلام عليكم فيقول الراد: وعليك السلام؟
السطر 3٬801 ⟵ 3٬807:
الفائدة الرابعة: أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين، كما تقول: ناولني الكتاب واسقني الماء وأعطني الثوب لما هو حاضر بين يديك. فإنك تستغني بها عن قولك هذا فهي مؤدية معنى الإشارة.
 
وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع فقول الراد وعليك السلام بالتعريف متضمن للدلالة على أن مقصوده من الرد مثل ما ابتدىء به وهو هو بعينه فكأنه قال: ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عليك وواقع عليك فلو أتى بالرد منكرًا لم يكن فيه إشعار بذلك، لأن المعرف وأن تعدد ذكره واتحد لفظه فهو شيء واحد بخلاف المنكر. ومن فهم هذا فهم معنى قول النبي {{صل}}: «لن يغلب عسر يسرين». فإنه أشار إلى قوله تعالى: { فإن مع العسر يسرًا،يسرًا * إن مع العسر يسرًا }، <ref>[ الشرح: 5 6- 6]</ref> ، فاليسر وإن تكرر مرتين فتكرر بلفظ المعرفة فهو واحد، واليسر تكرر بلفظ النكرة، فهو يسران. فالعسر محفوف بيسربن يسر قبله ويسر بعده، فلن يغلب عسر يسرين.
 
وفائدة ثانية وهي أن مقامات رد السلام ثلاثة. مقام فضل. ومقام عدل. ومقام ظلم، فالفضل أن يرد عليه أحسن من تحيته، والعدل أن ترد عليه نظيرها، والظلم أن تبخسه حقه وتنقصه منها. فاختير للراد أكمل اللفظين وهو المعرف بالأداة التي تكون للاستغراق والعموم كثيرًا ليتمكن من الإتيان بمقام الفضل.
السطر 3٬807 ⟵ 3٬813:
وفائدة ثالثة وهي أنه قد تقدم أن المناسب في حقه تقديم المسلم عليه على السلام فلو نكره وقال عليك سلام لصار بمنزلة قولك عليك دين وفي الدار رجل فخرجه فخرج الخبر المحض. وإذا صار خبرًا بطل معنى التحية، لأن معناها الدعاء والطلب. فليس بمسلم من قال: عليك سلام. إنما المسلم من قال: سلام عليك. فعرف سلام الراد باللام إشعارًا بالدعاء للمخاطب. وإنه راد عليه التحية طالب له السلامة من اسم السلام. والله أعلم.
 
===فصل: السلام في المكاتبة===
 
وأما السؤال التاسع: وهو ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة، واختتامها بالمعرفة، فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء. فإن المكاتبة قائمة مقام النطق.
السطر 3٬819 ⟵ 3٬825:
الفائدة الثالثة: بديعة جدًا وهي جواب السؤال التاسع بعد هذا، وهي أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب: والسلام عليكم ورحمة الله فيها وجهان:
 
أحدهما: قول [[ابن قتيبة]] أنهاإنها عطف على السلام المبدوء به فكأنه قال: والسلام المتقدم عليكم.
 
والقول الثاني: إنها لعطف فصول الكتاب بعضه على بعض. فهي عطف لجملة السلام على ما قبلها من الجمل، كما تدخل الواو في تضاعيف الفصول وهذا أحسن من قول ابن قتيبة لوجوه؛ منها أن الكلام بين السلامين قد طال فعطف آخره بعد طوله على أوله قبيح غير مفهوم من السياق. الثاني: إنه إذا حمله على ذلك كان السلام الثاني هو الأول بعينه. فلم يفد فائدة متجددة. وفي ذلك شح بسلام متجدد وإخلال بمقاصد المتكاتبين من تعداد الجمل والفضول واقتضاء كل جملة لفائدة غير الفائدة المتقدمة. حتى أن قارىء الكتاب كلما قرأ جملة منه لفائدة غير الفائدة المتقدمة تطلعت نوازع قلبه إلى استفادة ما بعدها. فإذا كررت له فائدة واحدة مرتين سئمتها نفسه فكان اللائق بهذا المقصود أن يجدد له سلامًا غير الأول يسره به كما سره بالأول وهو السلام العام الشامل.
السطر 3٬827 ⟵ 3٬833:
وهذه فصاحة غريبة وحكمة سلفية موروثة عن سلف الأمة وعن الصحابة في مكاتباتهم. وهكذا كانوا يكتبون إلى نبيهم صلوات الله وسلامه عليه. وقد فرغنا من جواب السؤال التاسع المتعلق بواو العطف.
 
===فصل: نصب سلام ضيف إبراهيم الملائكة===
==فصل==
 
وأما السؤال العاشر: وهو السر في نصب سلام ضيف إبراهيم الملائكة ورفع سلامه.
السطر 3٬833 ⟵ 3٬839:
فالجواب: أنك قد عرفت قول النحاة فيه. أن سلام الملائكة تضمن جملة فعلية، لأن نصب السلام يدل على سلمنا عليك سلامًا، وسلام إبراهيم تضمن جمل إسمية، لأن رفعه يدل على أن المعنى سلام عليكم. والجملة الاسمية تدل على الثبوت والتقرر والفعلية تدل على الحدوث والتجدد. فكان سلامه عليهم أكمل من سلامهم عليه وكان له من مقامات الرد ما يليق بمنصبه {{صل}} وهو مقام الفضل إذ حياهم بأحسن من تحيتهم. هذا تقرير ما قالوه.
 
وعندي فيه جواب أحسن من هذا، وهو أنه لم يقصد حكاية سلام الملائكة. فنصب قوله سلامًا انتصاب مفعول القول المفرد كأنه قيل: قالوا قولًا سلامًا، وقالوا سدادًا وصوابًا ونحو ذلك. فإن القول إنما تحكي به الجمل. وأما المفرد فلا يكون محكيًا به. بل منصوب به انتصاب المفعول به ومن هذا قوله تعالى: { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا }، <ref>[ الفرقان: 63 ]</ref> ، ليس المراد أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب، وإنما معناه قالوا: قولًا سلامًا مثل سدادًا وصوابًا، وسمي القول سلامًا، لأنه يؤدي معنى السلام ويتضمنه من رفع الوحشة وحصول الاستئناس.
 
وحكي عن إبراهيم لفظ سلامه فأتى به على لفظه مرفوعًا بالابتداء محكيًا بالقول. ولولا قصد الحكاية لقال سلامًا بالنصب، لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعًا فعلى الحكاية ليس إلا. فحصل من الفرق بين الكلامين في حكاية سلام إبراهيم، ورفعه ونصب ذلك إشارة إلى معنى لطيف جدًا. وهو أن قوله: سلام عليكم من دين الإسلام المتلقي عن إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأنه من ملة إبراهيم التي أمر الله بها وباتباعها. فحكى لنا قوله ليحصل الاقتداء به والاتباع له، ولم يحك قول أضيافه، وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل. والله أعلم فزن هذا الجواب والذي قبله بميزان غير جائر يظهر لك أقواهما وبالله التوفيق.
 
===فصل: نصب السلام ورفعه===
 
وأما السؤال الحادي عشر: وهو نصب السلام من قوله تعالى: { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا } ورفعه في قوله حكاية عن مؤمني أهل الكتاب { سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } <ref>[ القصص: 55 ]</ref> .
 
فالجواب عنه أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا }، <ref>[ الفرقان: 63 ]</ref> ، فسلامًا هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه. أي قالوا: قولًا سلامًا أي سدادًا وصوابًا وسليمًا من الفحش والخنا ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور. بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم، وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل بجهل مثله بل يقابلونه بالقول السلام فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم وتفسير السلف. وألفاظهم صريحة بهذا المعنى.
 
وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل والألسن بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها، فقال: الذين يمشون على الأرض هونًا أي بسكينة ووقار. والهون بفتح الهاء من الشيء الهين وهو مصدر هان هونًا. أي سهل. ومنه قولهم: يمشي على هينته ولا أحسبها إلا مولدة. ومع هذا فهي قياس اللفظة فإنها على بناء الحالة والهيئة فهي فعلة من الهون وأصلها هونة فقلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها، فاللفظة صحيحة المادة والتصريف.
السطر 3٬847 ⟵ 3٬853:
وأما الهون بالضم فهو الهوان فأعطوا حركة الضم القوية للمعنى الشديد وهو الهوان، وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل وهو الهون. فوصف مشيهم بأنه مشي حلم ووقار وسكينة لامشي جهل وعنف وتبختر. ووصف نطقهم بأن سلام فهو نطق حلم وسكينة ووقار لا نطق جهل وفحش وخناء وغلظة. فلهذا جمع بين المشي والنطق في الآية. فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه سلام عليكم. فتأمله.
 
وأما قوله تعالى: { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين }، <ref>[ القصص: 55 ]</ref> ، فإنها وصف لطائفة من مؤمني أهل الكتاب قدموا على رسول الله {{صل}} مكة فآمنوا به فعيرهم المشركون. وقالوا: قبحتم من وفد بعثكم قومكم لتعلموا خبر الرجل ففارقتم دينكم وتبعتموه ورغبتم عن دين قومكم. فأخبر عنهم بأنهم خاطبوهم خطاب متاركة وإعراض وهجر جميل. فقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. سلام عليكم. لا نبتغي الجاهلين. وكان رفع السلام متعينًا، لأنه حكاية ما قد وقع ونصب السلام في آية الفرقان متعينًا، لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل. والأولى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل. فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة، والله المحمود وحده على ما منَّ به وأنعم.
 
وهي المواهب من رب العباد فما ** يقال لولا ولا هلّا ولا فَلِما
 
===فصل: تسليم الله أنبيائه ورسله===
==فصل==
 
وأما السؤال الثاني عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله، والسلام هو طلب ودعاء فكيف يتصور من الله؟
 
فهذا سؤال له شأن ينبغي الاعتناء به، ولا يهمل أمره وقل من يدرك سره إلا من رزقه الله فهمًا خاصًا وعناية، وليس هذا من شأن أبناء الزمان الذين غاية فاضلهم نقلًا أن يحكي قيلًا وقالًا. وغاية فاضلهم بحثًا أن يبدي احتمالًا، ويبرز أشكالًا، ، وأما تحقيق العلم كما ينبغي.
 
فللحروب أناس قائمون بها ** وللدواوين كتاب وحساب
السطر 3٬865 ⟵ 3٬871:
فإن قيل: كيف يعقل اتحاد الطالب والمطلوب منه وهما حقيقتان متغايرتان. فكما لا يتحد المطلوب والمطلوب منه ولا المطلوب والطالب. فكذلك لا يتحد الطالب والمطلوب منه، فكيف يعقل طلب الإنسان من نفسه؟
 
قيل: هذا هو الذي أوجب غموض المسألة وأشكالها، ولا بد من كشفه وبيانه، فنقول: الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئًا، فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها، والإرادة كالجنس له، فكما يعقل أن يكون المريد يريد من نفسه، فكذلك يطلب من نفسه، وللفرق بين الطلب والإرادة وما قيل في ذلك مكان غير هذا. والمقصودان طلب الحي من نفسه أمر معقول يعلمه كل أحد من نفسه. وأيضا فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمرًا لنفسه ناهيًا لنفسه قال تعالى: { إن النفس لأمارة بالسوء }، <ref>[ يوسف: 53 ]</ref> ، وقال: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى }. <ref>[ النازعات: 40 ]</ref> . وقال الشاعر:
 
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم
السطر 3٬873 ⟵ 3٬879:
وهذا أكثر من إيراد شواهده. فإذا كان معقولًا أن الإنسان يأمر نفسه وينهاها. والأمر والنهي طلب مع أن فوقه آمرًا وناهيًا، فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناه أن يطلب من نفسه فعل ما يحبه وترك ما يبغضه.
 
وإذا عرف هذا عرف سر سلامه تبارك وتعالى على أنبيائه ورسله، وأنه طلب من نفسه لهم السلامة، فإن لم يتسع لهذا ذهنك فسأزيدك إيضاحًا وبيانًا وهو أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا إيجاب منه على نفسه فهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجب بنفسه على نفسه. وقد أكد النبي {{صل}} هذا المعنى بما يوضحه كل الإيضاح ويكشف حقيقته بقوله في الحديث الصحيح: «لما قضى الله الخلق كتب بيده على نفسه في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»، وفي لفظ: «سبقت غضبي». فتأمل كيف أكد هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتابة وصفة اليد ومحل الكتابة. وأنه كتاب وذكر مستقر الكتاب، وأنه عنده فوق العرش. فهذا إيجاب مؤكد بأنواع من التأكيد وهو إيجاب منه على نفسه. ومنه قوله تعالى: { وكان حقًا علينا نصر المؤمنين } <ref>[ الروم: 47 ]</ref> فهذا حق أحقه على نفسه فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ الحق ولفظ على.
 
ومنه قول النبي {{صل}} في الحديث الصحيح لمعاذ: «أتدري ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت الله ورسوله أعلم، قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار»، ومنه قوله {{صل}} في غير حديث: «من فعل كذا وكذا كان حقًا على الله أن يفعل به كذا وكذا»، في الوعد والوعيد، فهذا الحق هو الذي أحقه على نفسه. ومنه الحديث الذي في [[المسند]] من حديث أبي سعيد عن النبي {{صل}} في قول الماشي إلى الصلاة: أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك. فهذا حق للسائلين عليه هو أحقه على نفسه لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقوه. بل أحق على نفسه أن يجب من سأله كما أحق على نفسه في حديث معاذ أن لا يعذب من عبده. فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، والحقان هو الذي أحقهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون، فإنه سبحانه:
 
ما للعباد عليه حق واجب ** كلا ولا سعى لديه ضائع
السطر 3٬881 ⟵ 3٬887:
إن عذبوا فبعد له أو نعموا ** فبفضله وهو الكريم الواسع
 
ومنه قوله تعالى: وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن فهذا الوعد هو الحق الذي أحقه على نفسه وأوجبه. ونظير هذا ما أخبر به سبحانه من قسمه ليفعلنه نحو: { فوربك لنسألنهم أجمعين }، <ref>[ الحجر: 92 ]</ref> ، وقوله: { فوربك لنحشرنهم والشياطين }، <ref>[ مريم: 68 ]</ref> ، وقوله: { لنهلكن الظالمين }، <ref>[ إبراهيم: 13 ]</ref> ، وقوله: { فالحق والحق أقول،أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }، <ref>[ ص: 84،84 - 85 ]</ref> ، وقوله: { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار }، <ref>[ آل عمران: 195 ]</ref> ، وقوله: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين }، <ref>[ الأعراف: 6 ]</ref> ، إلى أمثال ذلك مما أخبر أنه يفعله أخبارًا مؤكدًا بالقسم. والقسم في مثل هذا يقتضي الحض والمنع بخلاف القسم على ما فعله تعالى مثل قوله: { يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين }، <ref>[ يس: 1 ]</ref> ، والقسم على ثبوت ما ينكره المكذبون، فإنه توكيد للخبر وهو من باب القسم المتضمن للتصديق. ولهذا تقول الفقهاء اليمين ما اقتضى حقًا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا. فالقسم الذي يقتضي الحض والمنع هو من باب الطلب، لأن الحض والمنع طلب ومن هذا ما أخبر به،به أنه لا بد أن يفعله لسبق كلماته به كقوله: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين،المرسلين * إنهم لهم المنصورون،المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون }، <ref>[ الصافات: 171،171 172،- 173 ]</ref> ، وقوله: { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين }، <ref>[ هود: 191 ]</ref> ، وقوله: { ولولا كلمة سبقت من ربك }، <ref>[ طه: 129، فصلت: 45، الشورى: 14 ]</ref> ، فهذا إخبار عما يفعله ويتركه أنه لسبق كلمته به فلا يتغير.
 
ومن هذا تحريمه سبحانه ما حرمه على نفسه كقوله فيما يرويه عنه رسوله: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا». فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، فإن الناظر في سياق هذه المواضع. ومقصودها به يجزم ببعد المراد منها كقول بعضهم: إن معنى الإيجاب والكتابة في ذلك كله هو إخباره به، ومعنى كتب ربكم على نفسه الرحمة أخبر بها عن نفسه وقوله: حرمت الظلم على نفسي أي أخبرت أنه لا يكون ونحو ذلك مما يتيقن المرء أنه ليس هو المراد بالتحريم، بل الإخبار ههنا هو الإخبار بتحريمه وإيجابه على نفسه. فمتعلق الخبر هو التحريم والإيجاب، ولا يجوز إلغاء متعلق الخبر فإنه يتضمن إبطال الخبر ولهذا إذا قال القائل: أوجبت على نفسي صومًا فإن متعلقه وجوب الصوم على نفسه، فإذا قيل: إن معناه أخبرت بأني أصوم كان ذلك إلغاء وإبطالًا لمقصود الخبر فتأمله.
السطر 3٬895 ⟵ 3٬901:
الطائفة الثانية بإزاء هؤلاء، أوجبوا على الرب وحرموا أشياء بعقولهم جعلوها شريعة له يجب عليه مراعاتها من غير أن يوجبها هو على نفسه ولا حرمها، وأوجبوا عليه من جنس ما يجب على العباد، وحرموا عليه من جنس ما يحرم عليهم، ولذلك كانوا مشبهة في الأفعال والمعتزلة منهم جمعوا بين الباطلين تعطيل صفاته وجحد نعوت كماله والتشبيه له بخلقه فيما أوجبوه عليه، وحرموه فشبهوا في أفعاله وعطلوا في صفات كماله فجحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال، وسموه توحيدًا وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال، وسموا ذلك عدلًا، وقالوا: نحن هل العدل والتوحيد فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شتى من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى، وتحريف معانيها عما هي عليه. فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلًا وعدلهم شركًا وهذا مقرر في موضعه.
 
والمقصود أن هذه الطائفة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات، وهدى الله الأمة الوسط لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فلم يقيسوه بخلقه، ولم يشبهوه بهم في شيء من صفاته ولا أفعاله، ولم ينفوا ما أثبته لنفسه من ذلك، ولم يوجبوا عليه شيئًا، ولم يحرموا عليه شيئًا، بل أخبروا عنه بما أخبر عن نفسه وشهدت قلوبهم ما في ضمن ذلك الإيجاب والتحريم من الحكم والغايات المحمودة التي يستحق عليها كمال الحمد والثناء، فإن العباد لا يحصون ثناء عليه أبدا بل هو كما أثنى على نفسه. وهذا بين بحمد الله عند أهل العلم والإيمان مستقر في فطرهم ثابت في قلوبهم يشهدون انحراف المنحرفين في الطرفين وهم لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء. بل هم إلى الله ورسوله متحيزون، وإلى محض سنته منتسبون يدينون دين الحق أنى توجهت ركائبه، ويستقرون معه حيث استقرت مضاربه لا تستفزهم بداوات آراء المختلفين، ولا تزلزلهم شبهات المبطلين. فهم الحكام على أرباب المقالات والمميزون لما فيها من الحق والشبهات، يردون على كل باطله ويوافقونه فيما معه في الحق، فهم في الحق سلمه وفي الباطل حربه. لا يميلون مع طائفة على طائفة، ولا يجحدون حقها لما قالته من باطل سواه. بل هم ممتثلون قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }. <ref>[ المائدة: 8 ]</ref> .
 
فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطىء على أن لا يعدلوا عليهم. بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله، وما جاء به منه علمًا وعملًا. ودعوة إلى الله على بصيرة، وصبرًا من قومهم على الأذى في الله، وإقامة لحجة الله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل لا كمن نصب معالمه صادرة عن آراء الرجال، فدعا إليها وعاقب عليها وعادى من خالفها بالعصبية وحمية لجاهلية، والله المستعان وعليه التكلان. ولا حول ولا قوة إلا به. وليكن هذا تمام الكلام في هذا السؤال. فقد تعدينا به طوره وإن لم نقدره قدره.
 
===فصل: التسليم بلفظ النكرة أو المعرفة===
==فصل==
 
وأما السؤال الثالث عشر: وهو ما السر في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة. وكذلك تسليمهم على نفوسهم وعلى عباده الصالحين؟
 
فقد تقدم بيان الحكمة في كون السلام ابتداء بلفظ النكرة، ونزيد هنا فائدة أخرى وهي أنه قد تقدم أن في دخول اللام في السلام أربعة فوائد وهذا المقام مستغن عنها، لأن المتكلم بالسلام هو الله تعالى. فلم يقصد تبركًا بذكر الاسم كما يقصده العبد فإن التبرك استدعاء البركه واستجلابها. والعبد هو الذي يقصد ذلك، ولا قصد أيضا تعرضًا وطلبًا على ما يقصده العبد، ولا قصد العموم. وهو أيضا غير لائق هنا، لأن سلامًا منه سبحانه كاف من كل سلام، ومغن عن كل تحية ومقرب من كل أمنية. فأدنى سلام منه ولا أدنى هناك يستغرق الوصف ويتم النعمة ويدفع البؤس ويطيبب الحياة ويقطع مواد العطب والهلاك، فلم يكن لذكر الألف واللام هناك معنى. وتأمل قوله تعالى: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر }، <ref>[ التوبة: 72 ]</ref> ، كيف جاء بالرضوان مبتدأ منكرًا مخبرًا عنه بأنه أكبر من كل وعدوا به. فأيسر شيء من رضوانه أكبر الجنات وما فيها من المساكن الطيبة وما حوته، ولهذا لما يتجلى لأوليائه في جنات عدن ويمنيهم أي شيء يريدون. فيقولون: ربنا وأي شيء نريد أفضل مما أعطيتنا. فيقول تبارك وتعالى: إن لكم عندي أفضل من ذلك أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.
 
وقد بان بهذا الفرق بين سلام الله على رسله وعباده وبين سلام العباد عليهم. فإن سلام العباد لما كان متضمنًا لفوائد الألف واللام التي تقدمت من قصد التبرك باسمه السلام والإشارة إلى طلب السلام له وسؤالها من الله باسم السلام، وقصد عموم السلام كان الأحسن في حق المسلم على الرسول. أن يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وإن كان قد ورد سلام عليك، فالمعرفة أكثر وأصح وأتم معنى. فلا ينبغي العدول عنه ويشح في هذا المقام بالألف واللام والله أعلم.
 
===فصل: التسليم على يحيى والمسيح===
==فصل==
 
وقد عرفت بهذا جواب السؤال الرابع عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله تعالى على يحيى بلفظ النكرة، وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة لا ما يقوله من لا تحصيل له؟له أنإن سلام يحيى جرى مجرى ابتداء السلام في الرسالة والمكاتبة فنكر، وسلام المسيح جرى مجرى السلام في آخر المكاتبة فعرف. فإن السورة كالقصة الواحدة. ولا يخفى فساد هذا الفرق فإنهما سلامان متغايران من مسلمين. أحدهما سلام الله تعالى على عباده. والثاني سلام العبد على نفسه. فكيف يبنى أحدهما على الآخر؟ وكذلك قول من قال: إن الثاني عرف لتقدم ذكره في اللفظ فكانت الألف واللام فيه للعهد وهذا أقرب من الأول لإمكان أن يكون المسيح أشار إلى السلام الذي سلمه الله على يحيى، فأراد أن لي من السلام في مثل هذه المواطن الثلاثة مثل ما حصل له. والله أعلم.
 
===فصل: تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح===
==فصل==
 
وأما السؤال الخامس عشر: وهو ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة؟
السطر 3٬929 ⟵ 3٬935:
الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء ولا نسبة لما قبله من الدار إليه وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله. فإن عطبه لا يستدرك وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى. وفقره لا يسد. فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها وأعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها، وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة، ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند معاينته هول المطلع. إذا قدم على الله وحيدًا مجردًا عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل وعند موافاته القيامة مع الجمع إلا أعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها، واستعمل بعمل أهلها، فأي موطن أحق بطلب السلامه من هذه المواطن. فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه.
 
===فصل: تسليم نبينا وتسليم موسى===
==فصل==
 
وأما السؤال السادس عشر: وهو ما الحكمة في تسليم النبي {{صل}} على من اتبع الهدى في كتابه إلى هرقل بلفظ النكرة وتسليم موسى عليهم بلفظ المعرفة؟
 
فالجواب عنه أن تسليم النبي {{صل}} تسليم ابتدائي. ولهذا صدر به الكتاب حيث قال من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ففي تنكيره ما في تنكير سلام من الحكمة، وقد تقدم بيانها. وأما قول موسى: السلام على من اتبع الهدى، فليس بسلام تحية فإنه لم يبتدىء به فرعون بل هو خبر محض. فإن من اتبع الهدى له السلام المطلق دون من خالفه فإنه قال له: { فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى،الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى }. <ref>[ طه: 47،47 48- 48]</ref> .
 
أفلا ترى أن هذا ليس بتحية في ابتداء الكلام ولا خاتمته. وإنما وقع متوسطًا بين الكلامين إخبار محضًا عن وقوع السلامة، وحلولها على من اتبع الهدى. ففيه استدعاء لفرعون وترغيب له بما جبلت النفوس على حبه. وإيثاره من السلامة. وإنه إن اتبع الهدى الذي جاءه به، فهو من أهل السلام والله أعلم.
السطر 3٬939 ⟵ 3٬945:
وتأمل حسن سياق هذه الجمل، وترتيب هذا الخطاب، ولطف هذا القول اللين الذي سلب القلوب حسنه وحلاوته مع جلالته وعظمته. كيف ابتدأ الخطاب بقول: أنا رسولا ربك وفي ضمن ذلك إنا لم نأتك لننازعك ملكك ولا لنشركك فيه. بل نحن عبدان مأموران مرسلان من ربك إليك. وفي إضافة اسم الرب إليه هنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله. كما يقول الرسول للرجل من عند مولاه: أنا رسول مولاك إليك واستاذك وإن كان أستاذهما معا، ولكن ينبهه بإضافته إليه على السمع والطاعة له، ثم إنهما طلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل ويخلي بينهم وبينهما، ولا يعذبهم ومن طلب من غيره ترك العدوان والظلم، وتعذيب من لا يستحق العذاب فلم يطلب منه شططًا ولم يرهقه من أمره عسرًا. بل طلب منه غاية النصف.
 
ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات أحدها قوله تعالى: { قد جئناك بآية من ربك }، <ref>[ طه: 47 ]</ref> ، فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقول والافتراء بما جئناك به من البرهان والدلالة الواضحة. فقد قامت الحجة. ثم بعد ذلك للمرسل إليه حالتان إما أن يسمع ويطيع فيكون من أهل الهدى والسلام على من اتبع الهدى، وإما أن يكذب ويتولي، فالعذاب على من كذب وتولى فجمعت الآية طلب الإنصاف وإقامة الحجة، وبيان ما يستحقه السامع المطيع. وما يستحقه المكذب المتولي بألطف خطاب وأليق قول وأبلغ ترغيب وترهيب.
 
===فصل: قل الحمد لله وسلام على عباده===
==فصل==
 
وأما السؤال السابع عشر: وهو أن قوله: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } هل السلام من الله فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعًا؟
 
فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الامرين ويشهد لكل منهما هذا ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلًا في جملة القول بأمور :
 
منها اتصاله به وعطفه عليه من غير فاصل. وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعًا على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع، ولهذا إذا قلت: الحمد الله وسبحان الله، فإن التسبيح هنا داخل في المقول.
السطر 3٬951 ⟵ 3٬957:
ومنها أنه إذا كان معطوفًا على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل. ولو كان منقطفًا عنه كان عطفًا على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
 
ومنها أن قوله: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى }، <ref>[ النمل: 59 ]</ref> ، ظاهر في أن المسلم هو القائل الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة، ولم يقل سلام على عبادي.
 
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور. أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله: { سلام على نوح في العالمين }، <ref>[ الصافات: 79 ]</ref> ، { سلام على إبراهيم }، <ref>[ الصافات: 109 ]</ref> ، { سلام على موسى وهارون }، <ref>[ الصافات: 120 ]</ref> ، { سلام على إل ياسين }. <ref>[ الصافات: 130 ]</ref> .
 
ومنها أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه. وسلامه عليهم، وبين حمده لنفسه، وسلامه عليهم. أما الأول فقال تعالى: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون،يصفون * وسلام على المرسلين }، <ref>[ الصافات: 180،180 - 181 ]</ref> ، وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلامه على رسله.
 
وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيهًا مطلقًا، كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه، ثم سلم المرسلين. وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم. وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاؤوا به من الكذب والفساد. وأعظم ما جاؤوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم. وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض. وما خالفه هو الباطل والكذب المحال. وهذا المعنى بعينه في قوله: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } فإنه يتضمن حمده بما من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى، وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب. وذلك يتضمن سلامة ما جاؤوا به كل باطل. فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه. فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى. كما هو في آخر الصافات.
 
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى: { قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان }، <ref>[ الأنبياء: 112 ]</ref> ، وقوله: { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين }، <ref>[ المؤمنون: 118 ]</ref> ، وقوله: { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين }، <ref>[ الأعراف: 89 ]</ref> ، ونظائره كثيرة جدًا.
 
وفصل الخطاب في ذلك أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعًا وتنتظمهما انتظامًا واحدًا. فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ. والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده. وأمر رسوله بتبليغ ذلك، فإذا قال الرسول: الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه، وسلم به هو على عباده. فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغًا، ومن العباد اقتداء وطاعة. فنحن نقول كما أمرنا ربنا تعالى: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ونظير هذا قوله تعالى: { قل هو الله أحد } ، فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده. فإذا قال العبد: قل هو الله أحد كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقًا لهذا المعنى. وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم.
 
وهذا بخلاف قوله: { قل أعوذ برب الناس } فإن هذا أمر محض ط بإنشاء الاستعاذة لا تبليغ لقوله أعوذ برب الناس، فإن الله لا يستعيذ من أحد، وذلك عليه محال بخلاف قوله: { قل هو الله أحد } فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد، فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان.
 
===فصل: عليك السلام تحية الموتى===
==فصل==
 
وأما السؤال الثامن عشر: وهو نهي النبي {{صل}} من قال له عليك السلام عن ذلك وقال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى، فما أكثر من ذهب عن الصواب في معناه وخفي عليه مقصوده وسره. فتعسف ضروبًا من التأويلات المستنكرة الباردة ورد بعضهم الحديث وقال: وقد صح عن النبي {{صل}} أنه قال في تحية الموتى: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»، قالوا: وهذا أصح من حديث النهي. وقد تضمن تقديم ذكر لفظ السلام فوجب المصير إليه، وتوهمت طائفة. أن السنة في سلام الموتى أن يقال: عليكم السلام. فرقًا بين السلام على الأحياء والأموات.
السطر 3٬979 ⟵ 3٬985:
وهذا أكثر في أشعارهم من أن نذكره ههنا. والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه فضلًا عن كونه سنة، بل نهيه عنه مع إخباره بوقوعه يدل على عدم مشروعيته، وأن السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه في السلام على الأحياء وعلى الأموات. فكما لا يقال في السلام على الأحياء عليكم السلام، فكذلك لا يقال في سلام الأموات كما دلت السنة الصحيحة على الأمرين، وكأن الذي تخيله القوم من الفرق. أن المسلم على غيره لما كان يتوقع الجواب. وأن يقال له: وعليك السلام بدأوا باسم السلام على المدعو له توقعًا لقوله وعليك السلام. وأما الميت فما لم يتوقعوا منه ذلك قدموا المدعو له على الدعاء، فقالوا عليك السلام.
 
وهذا الفرق لو صح كان دليلًا على التسوية بين الأحياء والأموات في السلام. فإن المسلم على أخيه الميت يتوقع الجواب أيضا. قال [[ابن عبد البر]]: ثبت عن النبي {{صل}} أنه قال: «ما من رجل يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام»، وبالجملة فهذا الخيال قد أبطلته السنة الصحيحة.
 
وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها وهي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلم عليهم، لأنه دعاء بخير، والأحسن في دعاء الخير أن يتقدم الدعاء به على المدعو له كقوله تعالى: { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت }، <ref>[ هود: 73 ]</ref> ، وقوله: { سلام على إبراهيم }، <ref>[ الصافات: 109 ]</ref> ، { سلام على نوح }، <ref>[ الصافات: 79 ]</ref> ، { سلام على إل ياسين }، <ref>[ الصافات: 130 ]</ref> ، { سلام عليكم بما صبرتم }. <ref>[ الرعد: 24 ]</ref> .
 
وأما الدعاء بالشر فيقدم فيه المدعو عليه على المدعو به غالبًا كقوله تعالى لإبليس: { وإن عليك لعنتي }، <ref>[ ص: 78 ]</ref> ، وقوله: { وإن عليك اللعنة }، <ref>[ الحجر: 35 ]</ref> ، وقوله: { عليهم دائرة السوء }، <ref>[ التوبة: 98 ]</ref> ، وقوله: { وعليهم غضب } .
 
وسر ذلك والله أعلم أن في الدعاء بالخير قدموا اسم الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس، وتطلبه ويلذ للسمع لفظه فيبدأ السمع بذكر الاسم المحبوب المطلوب، ويبدأ القلب بتصوره فيفتح له القلب والسمع. فيبقى السامع كالمنتظر لمن يحصل هذا وعلى من يحل، فيأتي باسمه فيقول: عليك أو لك. فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحاب والتواد والتراحل الذي هو المقصود بالسلام.
السطر 3٬989 ⟵ 3٬995:
وأما في الدعاء عليه ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء وأنه عليه وحده كأنه قيل له: هذا عليك وحدك لا يشركك فيه السامعون بخلاف الدعاء بالخير. فإن المطلوب عمومه وكل ما عم به الداعي كان أفضل.
 
وسمعت شيخ الإسلام [[ابن تيمية]] رحمه الله يقول: فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء في الأرض. وذكر في ذلك حديثًا[[حديثا مرفوعًامرفوعا]] عن علي أن النبي {{صل}} مر به وهو يدعو فقال: "يا علي فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض". <ref>أبو داود في المراسيل والبيهقيو[[البيهقي في الكبرى]] من مرسل عمرو بن شعيب». </ref>
 
وفيه فائدة ثانية أيضا، وهي أنه في الدعاء عليه. إذا قال له: عليك انفتح سمعه وتشوف قلبه إلى أي شيء يكون عليه. فإذا ذكر له اسم المدعو به صادف قلبه فارغًا متشوفًا لمعرفته. فكان أبلغ في نكايته. ومن فهم هذا فهم السر في حذف الواو في قوله تعالى: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرًا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها }، <ref>[ الزمر: 71 ]</ref> ، ففاجأهم وبغتهم عذابها وما أعد الله فيها فهم بمنزلة من وقف على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر إلا أنه متوقع منه شرًا عظيمًا ففتح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه. وهذا كما تجد في الدنيا من يساق إلى السجن فإنه يساق إليه وبابه مغلق. حتى إذا جاءه فتح الباب في وجهه. ففاجأته روعته وألمه بخلاف ما لو فتح له قبل مجيئه.
 
وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة وكان من تمام إكرام المدعو الزائر أن يفتح له باب الدار فيجيء فيلقاه مفتوحًا، فلا يلحق ألم الانتظار فقال في أهل الجنة: { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها }، <ref>[ الزمر: 73 ]</ref> ، وحذف الجواب تفخيمًا لأمره وتعظيمًا لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد. وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة الواو، ومن دعوى كونها واو الثمانية. لأن أبواب الجنة ثمانية. فإن هذا لو صح فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة في اللفظ واحدًا بعد واحد فينتهون إلى السبعة، ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو وهنا لا ذكر للفظ الثمانية في الآية، ولا عدها فتأمله. على أن في كون الواو تجيء للثمانية كلام آخر قد ذكرناه في الفتح المكي وبينا المواضع التي ادعى فيها. أن الواو للثمانية وأين يمكن دعوى ذلك وأين يستحيل؟
 
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بأن سيد الخلائق {{صل}} يأتي باب الجنة فيلقاه مغلقًا حتى يستفتحه.
السطر 4٬001 ⟵ 4٬007:
وقد خرجنا عن المقصود وما أبعدنا، ولا تستطل هذه النكت، فإنك لا تكاد تجدها في غير هذا التعليق والله المان بفضله وكرمه.
 
===فصل: إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم===
==فصل==
 
وأما السؤال التاسع عشر: وهو دخول الواو في قوله {{صل}}: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم»، فقد استشكلها كثير من الناس كما ذكر في السؤال. وقالوا: الصواب حذفها. وأن يقال: عليكم. قال الخطابي: يرويه عامة المحدثين بالواو وابنو[[ابن عيينة]]: يرويه بحذفها وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوا بعينه مردودًا عليهم وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه، لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين.
 
قلت: معنى ما أشار إليه الخطابي: إن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الجملة وزيادة الثانية عليها، كما إذا قلت: زيد كاتب. فقال المخاطب وشاعر: فإنه يقتضي إثبات الكتابة له وزيادة وصف الشعر، وكذلك إذا قلت لرجل: فلان محب لك، فقال: ومحسن إلي.
السطر 4٬009 ⟵ 4٬015:
ومن هنا استنبط السهيلي في الروض أن عدة أصحاب الكهف سبعة. قال: لأن الله تعالى عطف عليهم الكلب بحرف الواو فقال: وثامنهم كلبهم، ولم يذكر الواو فيما قبل ذلك من كلامهم. والواو تقتضي تقرير الجملة الأولى. وما استنبطه حسن غير أنه إنما يفيد إذا كان المعطوف بالواو ليس داخلًا في جملة قولهم. بل يكون قد حكى سبحانه أنهم قالوا: سبعة، ثم أخبر تعالى أن ثامنهم الكلب فحينئذ يكون ذلك تقريرًا لما قالوه وإخبارًا يكون الكلب ثامنًا، وأما إذا كان الإخبار عن الكلب من جملة قولهم، وأنهم قالوا: هذا وهذا لم يظهر ما قاله، ولا تقتضي الواو في ذلك تقريرًا ولا تصديقًا فتأمله.
 
وأما قوله: المتحدثون يروونه بالواو. فهذا الحديث رواه عبد الله بن عمر أن النبي {{صل}} قال: «إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا وعليكم». قال أبو داود: وكذلك رواه مالك عن عبداللهعبد الله بن دينار ورواه الثوري عن [[عبد الله بن دينار]] وقال فيه: وعليكم. انتهى كلامه.
 
وأخرجه الترمذي والنسائي كذلك. ورواه مسلم وفي بعض طرقه فقل عليك. ولم يذكر الواو.
 
وحديث مالك الذي ذكره أبو داود وأخرجه [[البخاري في صحيحه،صحيحه]]، وحديث [[سفيان الثوري]] متفق عليه كلها بالواو.
 
وأما ما أشار إليه [[الخطابي]] من حديث ابن عيينة فرواه [[النسائي في سننه]] بإسقاط الواو.
 
وإذا عرف هذا فإدخال الواو في الحديث لا تقتضي محذورًا البتة، وذلك لأن التحية التي يحيون بها المسلمين غايتها الإخبار بوقوع الموت عليهم وطلبه، لأن السام معناه الموت، فإذا حيوا به المسلم فرده عليهم كان من باب القصاص والعدل وكان مضمون رده أنا لسنا نموت دونكم. بل وأنتم أيضا تموتون فما تمنيتموه لنا حالٌّ بكم واقع عليكم.
السطر 4٬023 ⟵ 4٬029:
وتأمل هذا في مقابلة الدعاء بالخير. إذا قال: غفر الله لك، فقال له: ولكن المعنى أن هذه الدعوة بعينها مني لك. ولو قلت: غفر الله لك، فقال: لك لم يكن فيه إشعار بأن الدعاء الثاني هو الأول بعينه فتأمله فإنه بديع جدًا. وعلى هذا فيكون الصواب إثبات الواو كما هو ثابت في الصحيح والسنن. فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة فمن وجد شيئًا فليلحقه بالهامش، فيشكر الله له وعباده سعيه. فإن المقصود الوصول إلى الصواب، فإذا ظهر وضع ما عداه تحت الأرجل. وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب تهذيب السنن.
 
===فصل: اقتران الرحمة والبركة بالسلام===
==فصل==
 
وأما السؤال العشرون: وهو ما الحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسلام؟
السطر 4٬031 ⟵ 4٬037:
وقد عرف بهذا فضل هذه التحية وكمالها على سائر تحيات الأمم ولهذا اختارها الله لعباده وجعلها تحيتهم بينهم في الدنيا وفي دار السلام. وقد بان لك أنها من محاسن الإسلام وكماله. فإذا كان هذا في فرع من فروع الإسلام وهو التحية التي يعرفها الخاص والعام. فما ظنك بسائر محاسن الإسلام وجلالته وعظمته وبهجته التي شهدت بها العقول والفطر. حتى أنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالة على نبوة محمد {{صل}} وكمال دينه وفضله وشرفه على جميع الأدايان، وأن معجزته في نفس دعوته فلو اقتصر عليها كانت آية وبرهانًا على صدقه. وأنه لا يحتاج معها إلى خارق، ولا آية منفصلة. بل دينه وشريعته ودعوته وسيرته من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته حتى أن إيمانهم به، إنما هو مستند إلى ذلك. والآيات في حقهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة. ومن فهم هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة يرقص القلب فيها طربًا ويتمنى أنه له بالدنيا وما فيها.
 
وعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيساعد على تعليق كتاب يتضمن ذكر بعض محاسن الشريعة وما فيها من الحكم البالغة والأسرار الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى وحكمته ورحمته، وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها. وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة، ولم يحسن إليهم إحسانًا أعظم من إحسانه إليهم، بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }، <ref>[ آل عمران: 164 ]</ref> ، وقوله: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } <ref>[ الحجرات: 17 ]</ref> فهي محض الإحسان إليهم والرأفة بهم، وهدايتهم إلى ما به صلاحهم في الدنيا والآخرة. لا أنها محض التكليف والامتحان الخالي عن العواقب الحميدة التي لا سبيل إليها إلا بهذه الوسيلة فهي لغاياتها المجربة المطلوبة بمنزلة الأكل للشبع والشرب للري والجماع لطلب الولد. وغير ذلك من الأسباب التي ربطت بها مسبباتها بمقتضى الحكمة والعزة. فلذلك نصب هذا الصراط المستقيم وسيلة وطريقًا إلى الفوز الأكبر والسعادة، ولا سبيل إلى الوصول إليه إلا من هذه الطريق، كما لا سبيل إلى دخول الجنة إلا بالعبور على الصراط. فالشريعة هي حياة القلوب وبهجة النفوس ولذة الأرواح والمشقة الحاصلة فيها. والتكليف وقع بالقصد الثاني كوقوعه في الأسباب المفضية إلى الغايات المطلوبة لا أنه مقصود لذاته فضلًا عن أن يكون هو المقصود لا سواه. فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من الفكر في مصادرها ومواردها يفتح لك بابًا واسعًا من العلم والإيمان. فتكون من الراسخين في العلم لا من الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
 
وكما أنها آية شاهدة له على ما وصف به نفسه من صفات الكمال. فهي آية شاهدة لرسوله بأنه رسوله حقًا، وأنه أعرف الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقواهم إلى الله وسيلة، وأنه لم يؤت عبد مثل ما أوتي فوالهفاه على مساعد على سلوك هذه الطريق، واستفتاح هذا الباب والإفضاء إلى ما وراءه ولو بشطر كلمة، بل والهفاه على من لا يتصدى لقطع الطريق والصد عن هذا المطلب العظيم ويدع المطي وحاديها، ويعطي القوس باريها، ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد وكثر المعارض والمعاند وإذا كان الاعتماد على مجرد مواهب الله وفضله يغنيه ما يتحمله المتحمل من أجله. فلا يثنك شنآن من صد عن السبيل وصدف. ولا تنقطع مع من عجز عن مواصلة السرى ووقف، فإنما هي مهجة واحدة فانظر فيما تجعل تلفها وعلى من تحتسب خلفها.
السطر 4٬045 ⟵ 4٬051:
وكل امرىء يهفو إلى من يحبه ** وكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه
 
===فصل: لماذا نهاية السلام عند قوله وبركاته===
==فصل==
 
وقد عرفت بهذا جواب السؤال الحادي والعشرون، وأن كمال التحية عند ذكر البركات إذ قد استوعبت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشر، وحصول الخير وثباته وكثرته ودوامه.ودوامه؛ فلا معنى للزيادة عليها ولهذا جاء في الأثر المعروف انتهى السلام إلى وبركاته.
 
===فصل: إضافة الرحمة لله وتجريد السلام عن الإضافة===
==فصل==
 
وأما السؤال الثاني والعشرون: وهو ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن الإضافة؟
السطر 4٬059 ⟵ 4٬065:
وجواب ثالث: وهو أن الرحمة والبركة أتم من مجرد السلامة. فإن السلامة تبعيد عن الشر. وأما الرحمةوالبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية، وهذا أكمل فإنه هو المقصود لذاته والأول وسيلة إليه، ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنة من النعيم أكمل من مجرد سلامتهم من النار، فأضيف إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظًا، وأطلق الآخر وفهمت إضافة إليه من العطف وقرينة الحال، فجاء اللفظ على أتم نظام وأحسن سياق.
 
===فصل: الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة===
==فصل==
 
وأما السؤال الثالث والعشرون: وهو ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة؟
السطر 4٬065 ⟵ 4٬071:
فجوابه: إن السلام إما مصدر محض فهو شيء واحد فلا معنى لجمعه. وإما اسم من أسماء الله. فيستحيل أيضا جمعه. فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه.
 
وأما الرحمة فمصدر أيضا بمعنى العطف والحنان فلا تجمع أيضا والتاء فيها بمنزلتها في الخلة والمحبة، والرقة ليست للتحديد بمنزلتها في ضربة وتمرة. فكما لا يقال: رقات ولا خلات ولا رأفات، لا يقال: رحمات، وهنا دخول الجمع يشعر بالتحديد والتقييد بعدد وإفراده يشعر بالمسمى مطلقًا من غير تحديد، فالإفراد هنا أكمل وأكثر معنى من الجمع، وهذا بديع جدًا أن يكون مدلول المفرد أكثر من مدلول الجمع، ولهذا كان قوله تعالى: { قل فلله الحجة البالغة }، <ref>[ الأنعام: 149 ]</ref> ، أعم وأتم معنى من أن يقال: فلله الحجج البوالغ وكان قوله: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }. <ref>[ إبراهيم: 34 ]</ref> . أتم معنى من أن يقال وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها. وقوله: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة }، <ref>[ البقرة: 201 ]</ref> ، أتم معنى من أن يقال حسنات. وكذا قوله: { يستبشرون بنعمة من الله وفضل } <ref>[ آل عمران: 171 ]</ref> ، ونظائره كثيرة جدًا، وسنذكر سر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.
 
وأما البركة فإنها لما كان مسماها كثرة الخير واستمراره شيئًا بعد شيء كلما انقضى منه فرد خلفه فرد آخر، فهو خير مستمر بتعاقب الأفراد على الدوام شيئًا بعد شيء كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن، كذلك في قوله تعالى: { رحمة الله وبركاته عليكم }، <ref>[ هود: 73 ]</ref> ، أهل البيت فأفرد الرحمة وجمع البركة. وكذلك في السلام في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
 
===فصل: الرحمة المضافة إلى الله===
 
 
==فصل==
 
واعلم أن الرحمة والبركة المضافتين إلى الله تعالى نوعان:
السطر 4٬079 ⟵ 4٬083:
والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها.
 
فمن الأول قوله في الحديث الصحيح: «احتجت الجنة والنار»، فذكر الحديث وفيه: «فقال للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة وخص بها أهل الرحمة وإنما يدخلها الرحماء ومنه قوله {{صل}}: «خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض»، ومنه قوله تعالى: { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة }، <ref>[ هود: 9 ]</ref> ، ومنه تسميته تعالى للمطر رحمة بقوله: { وهو الذي أرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته }، <ref>[ الفرقان: 48 ]</ref> ، وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديمًا وحديثًا وهو قول الداعي. اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك، وذكره [[البخاري]] في كتاب [[الأدب المفرد]] له عن بعض السلف وحكى فيه الكراهة. قال: لإن مستقر رحمته ذاته وهذا بناء على أن الرحمة صفة، وليس مراد الداعي ذلك، بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة.
 
ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدًا وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك، فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه. كما قال: حسنت مستقرًا ومقامًا، فكيف يضاف المستقر إليها والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء، ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة، فتأمله ولهذا قال: مستقر رحمته ذاته، والصواب أن هذا لا يمتنع وحتى لو قال صريحًا: اجمعنا في مستقر جنتك لم يمتنع. وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة، أو عذابًا. فإن أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره، كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر، ونظير هذا أن يقول: اجلس في مستقر المسجد. أي المستقر الذي هو المسجد، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة وأيضا فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة، ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة، فالداعي أن يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة وهذا ظاهر جدًا، فلا يمتنع الدعاء بوجه والله أعلم.
السطر 4٬087 ⟵ 4٬091:
وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته وعزته. فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته وهذا من كمال قدرته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال والغنى التام والقدرة التامة، فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن يكونا في مظنة تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإنالة الطلبات.
 
والمقصود إن الرحمة المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته، كما أن المستعيذ بعزته في قوله: أعوذ بعزتك، مستعيذ بعزته التي هي صفته لا بعزته التي خلقها يعز بها عباده المؤمنين. وهذا كله يقرر قول أهل السنة إن قول النبي {{صل}}: «أعوذ بكلمات الله التامات» يدل على أن كلماته تبارك وتعالى غير مخلوقة، فإنه لا يستعاذ بمخلوق، وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا } <ref>[ غافر: 7 ]</ref> فهذه رحمة الصفة التي وسعت كل شيء كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء }، <ref>[ الأعراف: 156 ]</ref> ، وسعتها عموم تعلقها بكل شيء. كما أن سعة علمه تعالى عموم تعلقه بكل معلوم.
 
===فصل: البركة المضافة لله===
 
وأما البركة. فكذلك نوعان أيضا:
السطر 4٬095 ⟵ 4٬099:
أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة، وبأداة على تارة، وبأداة في تارة. والمفعول منها مبارك وهو ما جعل. كذلك فكان مباركًا بجعله تعالى.
 
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله المبارك كما قال المسيح: { وجعلني مباركا أين ما كنت }، <ref>[ مريم: 31 ]</ref> ، فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك.
 
وأما صيغة تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: { تبارك الله رب العالمين }، <ref>[ الأعراف: 54 ]</ref> ، { تبارك الذي بيده الملك }، <ref>[ الملك: 1 ]</ref> ، { فتبارك الله أحسن الخالقين }، <ref>[ المؤمنون: 14 ]</ref> ،{ وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون }، <ref>[ الزخرف: 85 ]</ref> ، { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده }، <ref>[ الفرقان: 1 ]</ref> ، { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك }، <ref>[ الفرقان: 10 ]</ref> ، { تبارك الذي جعل في السماء بروجًا }. <ref>[ الفرقان: 61 ]</ref> .
 
أفلا تراها كيف أطردت في القرآن جارية عليه غير مختصة به لا تطلق على غيره. وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوهما. فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته. فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها. وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك وتعاظم. وقال آخر معناه أن تجيء البركات من قبله. فالبركة كلها منه. وقال غيره: كثر خيره وإحسانه إلى خلقه. وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم. وقيل تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، ومن هنا قيل معناه تعالى وتعاظم وقيل: تبارك تقدس والقدس الطهارة، وقيل: تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء. وقيل: تبارك ارتفع والمبارك المرتفع ذكره البغوي. وقيل: تبارك أي البركة تكتسب وتنال بذكره. وقال ابن عباس: جاء بكل بركة. وقيل: معناه ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال، ذكره البغوي أيضا.
 
وحقيقة اللفظة أن البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفًا وفعلًا منه تبارك وتعالى، وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل، فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم.
السطر 4٬105 ⟵ 4٬109:
ومثل هذه الألفاظ ليس معناها أنه جعل غيره عاليًا ولا قدوسًا ولا عظيمًا، وهذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نسبت إليه فهو المتعالي المتقدس. فكذلك تبارك، لا يصح أن يكون معناها بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر لفظًا ومعنى، هذا لازم وهذا متعد، فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره، لم يصب معناها وإن كان هذا من لوازم كونه متباركًا فتبارك من باب مجد والمجد كثرة صفات الجلال والسعة والفضل وبارك من باب أعطى وأنعم ولما كان المتعدي في ذلك يستلزم اللازم من غير عكس. فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين. فقال: مجيء البركة كلها من عنده، أو البركة كلها من قبله. وهذا فرع على تبارك في نفسه.
 
وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الفتح المكي، وبينا هناك أن البركة كلها له تعالى ومنه فهو المبارك، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا كان كتابه مباركًا ورسوله مباركًا وبيته مباركًا، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة. فليلة القدر مباركة، وما حول المسجد الأقصى مبارك وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة، وتدبر قول النبي {{صل}} في حديث ثوبان الذي رواه [[مسلم في صحيحه]] عند انصرافه من الصلاة: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام»، فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء أعني ثناء التنزيه والتسبيح، وثناء الحمد والتمجيد بأبلغ لفظ وأوجزه وأتمه معنى. فأخبر أنه السلام ومنه السلام، فالسلام له وصفًا وملكًا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام. وأن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسماءه كلها سلام، وكذا الحمد كله له وصفًا وملكًا فهو المحمود في ذاته وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودًا، فيهبه حمدًا من عنده، وكذلك العزة كلها له وصفًا وملكًا وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه ومن عز من عباده فبإعزازه له. وكذلك الرحمة كلها له وصفًا وملكًا. وكذلك البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه وعليه فيصير بذلك مباركًا. { فتبارك الله رب العالمين }، <ref>[ الأعراف: 54 ]</ref> ، { وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون }. <ref>[ الزخرف: 85 ]</ref> .
 
وهذا بساط؛ وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه وأطرافه. وأما ما وراء ذلك فكما قال: أعلم الخلق بالله، وأقربهم إلى الله وأعظمهم عنده جاهًا لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وقال في حديث الشفاعة الطويل فأخرساجدًا لربي فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن وفي دعاء الهم والغم أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به علم الغيب عندك فدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده دون خلقه لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. وحسبنا الإقرار بالعجز والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه وبالله التوفيق.
 
===فصل: تأكيد السلام على النبي دون الصلاة عليه===
==فصل==
 
وأما السؤال الرابع والعشرون: وهو ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي {{صل}} بالمصدر دون الصلاة عليه في قوله: { صلوا عليه وسلموا تسليما }؟
السطر 4٬117 ⟵ 4٬121:
وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب تعظيم شأن الصلاة، والسلام على خير الأنام وأتينا فيه من الفوائد بما يساوي أدناها رحلة مما لا يوجد في غيره. ولله الحمد فلنقتصر على هذه النكتة الواحدة.
 
===فصل: تقديم السلام على النبي في الصلاة قبل الصلاة عليه===
==فصل==
 
وأما السؤال الخامس والعشرون: وهو ما الحكمة في تقديم السلام على النبي {{صل}} في الصلاة قبل الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بما بدأ الله به في الآية؟
السطر 4٬125 ⟵ 4٬129:
ثم انتقل إلى السلام على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين وبدأ بنفسه، لأنها أهم، والإنسان يبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ثم ختم هذا المقام يعقد الإسلام وهو التشهد بشهادة الحق التي هي أول الأمر وآخره. وعندها كل الثناء والتشهد.
 
ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب، فالتشهد يجمع نوعي الدعاء. دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة والأول أشرف النوعين، لأنه حق الرب ووصفه، والثاني حظ العبد ومصلحته وفي الأثر: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين»، لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيها النوعين. وقدم الأول منهما لفضله، ثم انتقل إلى النوع الثاني وهو دعاء الطلب والمسألة. . فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه له وهو طلب الصلاة من الله على رسوله {{صل}} وهو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، كما ذكرنا في كتاب تعظيم شأن الصلاة على النبي {{صل}}، وفيه أيضا أن الداعي جعله مقدمة بين يدي حاجته وطلبه لنفسه، وقد أشار النبي {{صل}} إلى هذا المعنى في قوله، ثم لينتخب من الدعاء أعجبه إليه، وكذلك في حديث فضالة بن عبيد إذا دعا أحدكم. فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي {{صل}}، ثم ليدع فتأمل، كيف جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقًا لهذا منتظمًا له أحسن النظام، فحديث فضالة هذا هو الذي كشف لنا المعنى وأوضحه وبينه فصلوات الله وسلامه على من أكمل به لنا دينه، وأتم برسالته علينا نعمته، وجعله رحمة للعالمين وحسرة على الكافرين.
 
===فصل: السلام بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة===
==فصل==
 
وأما السؤال السادس والعشرون: وهو ما الحكمة في كون السلام وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة؟
السطر 4٬157 ⟵ 4٬161:
فالكامل من يحكّم العلم على الحال فيتصرف في حاله بعلمه، ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيح من الفاسد لا من يقدح في العلم بالحال، ويجعل الحال معيارًا عليه وميزانًا، فما وافق حاله من العلم قبله وما خالفه رده ونفاه، فهذا أضل الضلال في هذا الباب، بل الواجب تحكيم العلم والرجوع إلى حكمه، وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم وحرضوا على العلم أعظم تحريض لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
 
===فصل: الثناء على الله في التشهد===
==فصل==
 
وأما السؤال السابع والعشرون: وهو ما الحكمة في ورود الثناء على الله في التشهد بلفظ الغيبة مع كونه سبحانه هو المخاطب الذي يناجيه العبد والسلام على النبي {{صل}} بلفظ الخطاب مع كونه غائبًا؟
 
فجوابه أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافًا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير إلا أن يتقدم ذكر الاسم الظاهر فيجيء بعده المضمر. وهذا نحو قول المصلي: { الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد } ، وقوله في الركوع: سبحان ربي العظيم وفي السجود: سبحان ربي الأعلى وفي هذا من السر أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمنت معانيها من صفات الكمال ونعوت الجلال. فأتى بالاسم الظاهر الدل على المعنى الذي يثنى به ولأجله عليه تعالى ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك. ولهذا إذا كان ولابد من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالاسم الظاهر مقرونًا بميم الجمع الدالة على جمع الأسماء والصفات نحو قوله في رفع رأسه من الركوع: اللهم ربنا لك الحمد وربما اقتصر على ذكر الرب تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى. فتأمله فإنه لطيف المنزع جدًا.
 
وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة اللهم. كما في سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك الحديث. وجاء الدعاء المجرد مصدرًا بلفظ الرب نحو قول المؤمنين: { ربنا اغفر لنا ذنوبنًا }، <ref>[ آل عمران: 147 ]</ref> ، وقول آدم: { ربنا ظلمنا أنفسنا }، <ref>[ الأعراف: 23 ]</ref> ، وقول موسى: { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي }، <ref>[ القصص: 16 ]</ref> ، وقول نوح: { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم }، <ref>[ هود: 47 ]</ref> ، وكان النبي {{صل}} يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي رب اغفر لي».
 
وسر ذلك أن الله تعالى يسأل بربوبيته المتضمنة قدرته وإحسانه وتربيته عبده وإصلاح أمره ويثنى عليه بالاهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى. وتدبر طريقة القرآن تجدها كما ذكرت لك.
السطر 4٬169 ⟵ 4٬173:
فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة وهو في القرآن حيث وقع لا يكاد، يجيء إلا مصدرًا باسم الرب.
 
وأما الثناء فحيث وقع فمصدر بالأسماء الحسنى وأعظم ما يصدر به اسم الله جل جلاله نحو: { الحمد لله } حيث جاء ونحو: { فسبحان الله } وجاء: { سبحان ربك رب العزة } ، ونحوه: { سبح لله ما في السموات وما في الأرض } <ref>[ الحشر: 1، الصف: 1 ]</ref> حيث وقعت ونحو: { تبارك الله رب العالمين }، <ref>[ الأعراف: 54 ]</ref> ، { تبارك الله أحسن الخالقين }، <ref>[ المؤمنون: 14 ]</ref> ، { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده }، <ref>[ الفرقان: 1 ]</ref> ، ونظائره.
 
وجاء في دعاء المسيح: { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء }، <ref>[ المائدة: 114 ]</ref> ، فذكر الأمرين ولم يجىء في القرآن سواه ولا رأيت أحدًا تعرض لهذا ولا نبه عليه. وتحته سر عجيب دال على كمال معرفة المسيح بربه وتعظيمه له. فإن هذا السؤال كان عقيب سؤال قومه له: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء }، <ref>[ المائدة: 112 ]</ref> ، فخوفهم بالله وأعلمهم أن هذا مما لا يليق أن يسأل عنه. وأن الإيمان يرده. فلما ألحوا في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يجابوا إلى ما سألوا بدأ في السؤال باسم ( اللهم ) الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المثنى الحامد الذاكر لأسماء ربه المثى عليه بها. وأن المقصود من هذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة. إنما هو أن يثنى على الرب بذلك ويمجده به ويذكر آلاءه ويظهر شواهد قدرته وربوبيته، ويكون برهانًا على صدق رسوله. فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يحسن معه الطلب ويكون كالعذر فيه فأتى بالاسمين: اسم الله الذي يثنى عليه به. واسم الرب الذي يدعي ويسأل به لما كان المقام مقام الأمرين. فتأمل هذا السر العجيب، ولا ينب عنه فهمك فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه وله الحمد.
 
وأما السلام على النبي {{صل}} بلفظ الخطاب فقد ذكرنا سره في الوجه الذي قبل هذا فالعهد به قريب.
 
===فصل: السلام في آخر الصلاة وتعريفه===
==فصل==
 
وأما السؤال الثامن والعشرون: فقد تضمن سؤالين. أحدهما ما السر في كون السلام في آخر الصلاة، والثاني لم كان معرفًا؟
السطر 4٬183 ⟵ 4٬187:
فنقول وبالله التوفيق: لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل، وقطع جميل العلائق وتطهر، وأخذ زينته وتهيأ للدخول على الله ومناجاته. شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال. فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول الله أكبر. فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بمن ما لا يوجد في غيره، ولهذا كان الصواب أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه، ولا يؤدي معناه، ولا تنعقد الصلاة إلا به كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث. فجعل هذا اللفظ واستشعار معناه. والمقصود به باب الصلاة الذي يدخل العبد على ربه منه. فإنه إذا استشعر بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيي منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره. فلا يكون موفيًا لمعنى الله أكبر، ولا مؤديا لحق هذا اللفظ، ولا أتى الببت من بابه، بل الباب عنه مسدود. وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه.
 
وما أحسن ما قال [[أبو الفرج بن الجوزي]] في بعض وعظه: حضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى، فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى الضيف اليقظة، وكشف الحجاب لعين القلب، فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية، وقد تبعث قلبك في كل واد، فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك، فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه، فتدخل في الصلاة بغير قلب.
 
والمقصود أنه قبيح بالعبد أن يقول بلسانه: الله أكبر. وقد امتلأ قلبه بغير الله فهو قبلة قلبه في الصلاة، ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها. فلو قضي حق الله أكبر وأتى البيت من بابه لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات. فهذا الباب الذي يدخل منه المصلي وهو التحريم.
السطر 4٬192 ⟵ 4٬196:
 
وليكن هذا آخر الكلام في مسألة سلام عليكم. فلولا قصد الاختصار لجاءت مجلدًا ضخمًا. هذا ولم نتعرض فيها إلى المسائل المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله. فإنها مملوءة منها فمن أرادها، فليأخذها من هناك والحمد لله رب العالمين.
 
 
 
==(تفسير المعوذتين)==
 
روى مسلم في صحيحه من حديث قيس بن أبى حازم عن [[عقبة بن عامر]] قال قال رسول الله {{صل}}: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس». وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة: أن رسول الله {{صل}} قال له: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون»، قلت: بلى، قال: «قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس». وفي الترمذي: حدثنا قتيبة نا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر قال: أمرني رسول الله {{صل}} أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة قال: هذا حديحث غريب. وفي الترمذي والنسائي وسننو[[سنن أبي داود]] عن عبد الله بن حبيب قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة نطلب النبي {{صل}} ليصلي لنا فأدركناه. فقال: قل، فلم أقل شيئًا، ثم قال: قل، فلم أقل شيئًا، ثم قال: قل، قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: قل: «قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء». قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي الترمذي أيضا من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد قال: كان رسول الله {{صل}} يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما. قال: وفي الباب عن أنس، وهذا حديث غريب. وفي الصحيحين عن [[عائشة]]: إن النبي {{صل}} كان إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والعوذتين جميعًا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. قلت: هكذا رواه يونس عن [[الزهري]] عن [[عروة]] عن عائشة ذكره البخاري. ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها أن النبي {{صل}} كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها. وكذلك قال معمر عن الزهري عن عروة عنها: إن النبي {{صل}} كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها. فسألت ابن شهاب كيف كان ينفث، قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. ذكره البخاري أيضا. وهذا هو الصواب أن عائشة كانت تفعل ذلك والنبي {{صل}} لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك. وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا. ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها على رقيته أن يكون مسترقيًا. فليس أحدهما بمعنى الآخر، ولعل الذي كان بأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده فيكون هو الراقي لنفسه، ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه ويكون هذا غير قراءتها هي عليه ومسحها على يديه، فكانت تفعل هذا وهذا، والذي أمرها به إنما هو تنقل يده لا رقيته. والله أعلم.
 
والمقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة، بل الضرورة إليهما وأنه لا يستغني عنهما أحد قط. وأن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع السحر والعين وسائر الشرور. وإن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجتهه إلى النفس والطعام والشراب واللباس.
السطر 4٬203 ⟵ 4٬205:
فنقول والله المستعان: قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول وهي أصول الاستعاذة: أحدها نفس الاستعاذة، والثانية المستعاذ به، والثالثة المستعاذ منه. فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين. فلنعقد لهما ثلاثة فصول الفصل الأول في الاستعاذة، والثاني في المستعاذ به، والثالث في المستعاذ منه.
 
===الفصل الأول: الاستعاذة وبيان معناها===
 
اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة. وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذًا. كما يسمى ملجأ ووزرًا.
السطر 4٬223 ⟵ 4٬225:
وهذا بخلاف ما إذا قيل: استغفر الله، فقال: استغفرِ الله، فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله، فإذا قال: أستغفر الله كان ممتثلًا، لأن المعنى أطلب من الله أن يغفر لي. وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين فيقول: أستعيذ بالله، أي أطلب منه أن يعيذني، ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء الهرب إليه. فالأول مخبر عن حاله وعياذه بربه، وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه. والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني، فحال الأول أكمل.
 
ولهذا جاء عن النبي {{صل}} في امتثال هذا الأمر: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - وأعوذ بكلمات الله التامات - وأعوذ بعزة الله وقدرته. دون أستعيذ، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: { أعوذ برب الفلق } ، { قل أعوذ برب الناس } ، دون أستعيذ، فتأمل هذه الحكمة البديعة.
 
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به. فقال: { قل أعوذ برب الفلق } ، { قل أعوذ برب الناس } ، ومعلوم أنه إذا قيل: قل الحمد الله وقل سبحان الله، فإن امتثاله أن يقول: الحمد لله وسبحان الله، ولا يقول: قل سبحان الله.
 
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده [[أبي بن كعب]] على النبي {{صل}} بعينه وأجابه عنه رسول الله {{صل}} فقال البخاري في صحيحه: حدثنا قتيبة ثنا سفيان بن عاصم وعبدة عن زر قال: سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقال: سألت رسول الله {{صل}} فقال: قيل لي، فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله {{صل}}. ثم قال: حدثنا علي بن عبداللهعبد الله ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش، وحدثنا عاصم عن زر قال: سألت أبي بن كعب قلت أبا المنذر إن أخاك [[ابن مسعود]] يقول: كذا وكذا، فقال: إني سألت رسول الله {{صل}} فقال: قيل لي، فقلت: قل، فنحن نقول كما قال رسول الله.
 
قلت: مفعول القول محذوف وتقديره قيل لي قل، أو قيل لي هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي.
 
وتحت هذا من السر أن النبي {{صل}} ليس له في القرآن إلا بلاغه، لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه، بل هو المبلغ له عن الله. وقد قال الله له: { قل أعوذ برب الفلق } ، فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول: { قل أعوذ برب الفلق } ، كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي أشار النبي {{صل}} إليه بقوله: «قيل لي فقلت». أي: فلست مبتدئًا، بل أنا مبلغ أقول كما يقال لي، وأبلغ كلام ربي كما أنزله إلي. فصلوات الله وسلامه عليه. لقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وقال كما قيل له، فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القرآن العربي، وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به. ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول وأنه {{صل}} بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه حتى أنه لما قيل له "قل" قال هو: قل، لأنه مبلغ محض. وما على الرسول إلا البلاغ.
 
===الفصل الثاني: المستعاذ به هو الله===
 
في المستعاذ به، وهو الله وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه. بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره. وقد أخبر تعالى في كتابه عن من استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانًا ورهقًا. فقال حكاية عن مؤمني الجن: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا }، <ref>[ الجن: 6 ]</ref> ، جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح. أي فزاد الإنسَّ الجنُّ باستعاذتهم بسادتهم رهقًا، أي طغيانًا وإثمًا وشرًا. يقولون: سدنا الإنس والجن. والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم، فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانًا لما كان محظورًا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.
 
واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي {{صل}} استعاذ بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات»، وهو {{صل}} لا يستعيذ بمخلوق أبدًا. ونظير ذلك قوله: «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك». فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق. وكذلك قوله: «أعوذ بعزة الله وقدرته»، وقوله: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات». وما استعاذ به النبي {{صل}} غير مخلوق فإنه لا يستعيذ إلا بالله أو صفة من صفاته. وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس، ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها. وقد قررنا في مواضع متعددة. أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه، وقد قال النبي {{صل}} في هاتين السورتين: إنه «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما». فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيًا للمطلوب وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث وهو الشيء المستعاذ منه. فتتبين المناسبة المذكورة فنقول.
 
===الفصل الثالث: الشرور المستعاذ منها===
 
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
السطر 4٬247 ⟵ 4٬249:
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة. بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.
 
فإن [[سورة الفلق]] تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة. أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عمومًا. الثاني: شر الغاسق إذا وقب. الثالث: شر النفاثات في العقد، الرابع: شر الحاسد إذا حسد. فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد والتحرز منها قبل وقوعها وبماذا تدفع بعد وقوعها؟
 
وقبل الكلام في ذلك. لا بد من بيان الشر ما هو وما حقيقته. فنقول:
السطر 4٬255 ⟵ 4٬257:
والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذة ما هي شر. وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي. لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذ لآكله، وطاب له مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل. فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده.
 
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته. فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال }. <ref>[ الرعد: 11 ]</ref> .
 
ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم. وجد سبب ذلك جميعه، إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره. وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
السطر 4٬263 ⟵ 4٬265:
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه. فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس. ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
 
والمقصود أن هذه الأسباب شرور ولا بد. وأما كون مسبباتها شرورًا فلأنها آلام نفسية وبدنية فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم الغموم والأحزان والحسرات. ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب. ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله. وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم والإشراف والإطلاع على عالم البقاء. فحينئذ يقول: { يا ليتني قدمت لحياتي،لحياتي }، <ref>[الفجر: 24]</ref> { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله }. <ref>[ الفجرالزمر: 24 56]</ref> .
 
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبي {{صل}} جميعها مدارها على هذين الأصلين فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه. فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع وأمر بالاستعاذة منهن وهي عذاب القبر وعذاب النار. فهذان أعظم المؤلمات. وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال. وهذان سبب العذاب المؤلم. فالفتنة سبب العذاب. وذكر الفتنة خصوصًا وعمومًا. وذكر نوعي الفتنة، لأنها إما في الحياة، وإما بعد الموت، ففتنة الحياة قد يتراخى عنها العذاب مدة، وأما فتنة الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ فعادت الاستعاذة إلى الألم والعذاب وأسبابها. وهذا من آكد أدعية الصلاة حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير، وأوجبه [[ابن حزم]] في كل تشهد، فإن لم يأت به في بطلت صلاته.
 
ومن ذلك قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان. فالهم والحزن قرينان وهما من آلام الروح ومعذباتها. والفرق بينهما أن الهم توقع الشر في المستقبل والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح. فإن تعلق بالماضي سمي حزنًا، وإن تعلق بالمستقبل سمي همًا.
السطر 4٬277 ⟵ 4٬279:
ومن ذلك تعوذه {{صل}}: «من المأثم والمغرم» فإنهما يسببان الألم العاجل. ومن ذلك قوله: «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك» فالسخط سبب الألم والعقوبة هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.
 
===فصل: الشر المستعاذ منه نوعان===
==فصل==
 
والشر المستعاذ منه نوعان: أحدهما موجود يطلب رفعه، والثاني معدوم يطلب بقاؤه على العدم وأن لا يوجد. كما أن الخير المطلق نوعان: أحدهما موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه، والثاني معدوم فيطلب وجوده وحصوله.
 
فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين وعليها مدار طلباتهم. وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: { ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا }، <ref>[ آل عمران: 193 ]</ref> ، فهذا الطلب لدفع الشر الموجود. فإذ الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه.
 
ثم قال: { وتوفنا مع الأبرار } <ref>[ آل عمران: 193 ]</ref> ، فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه. فهذان قسمان.
 
ثم قال: { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } <ref>[ آل عمران: 194 ]</ref> ، فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه. ثم قال: { ولا تخزنا يوم القيامة } <ref>[ آل عمران: 194 ]</ref> ، فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم وهو خزي يوم القيامة.
 
فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام مرتبة أحسن ترتيب قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا، وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت، ثم اتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة. وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله وأن لا يخزيهم يوم القيامة.
السطر 4٬301 ⟵ 4٬303:
ويترجح الثاني بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل وأسبابها شر النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها. والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر.
 
===فصل: الشر ومصدره ومنتهاه===
==فصل==
 
ولما كان الشر له سبب هو مصدره وله مورد ومنتهى. وكان السبب إما من ذات العبد، وإما من خارج ومورده ومنتهاه إما نفسه، وإما غيره؛ كان هنا أربعة أمور: شر مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى، وشر مصدره من غيره وهو السبب فيه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى - جمع النبي {{صل}} هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق أن يقوله إذا أصبح، وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه: «اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم». فذكر مصدري الشر وهما النفس والشيطان، وذكر مورديه ونهايتيه وهما عوده على النفس أو على أخيه المسلم، فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظه وأخصره وأجمعه وأبينه.
 
===فصل: الشرور المستعاذ منها في المعوذتين===
==فصل==
 
فإذا عرف هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
 
الشر الأول العام في قوله: { من شر ما خلق } ، وما ههنا موصولة ليس إلا. والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه. فإنه لا شر فيه بوجه ما. فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله. كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى. فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما.
 
وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلًا، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى. ولعاد إليه منه حكم تعالى وتقدس عن ذلك وما يفعله من العدل بعباده وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شرًا بالنسبة إليهم، فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم لا في فعله القائم به تعالى، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر.
 
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال.:
 
أحدهما: أن ما هو شر أو متضمن للشر. فإنه لا يكون إلا مفعولًا منفصلًا لا يكون وصفًا له، ولا فعلًا من أفعاله.
السطر 4٬329 ⟵ 4٬331:
أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي، فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة، فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه. وإنه سبحانه. كما إنه البر الرحيم الودود المحسن، فهو الحكيم الملك العدل. فلا تناقض حكمته رحمته. بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم. فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلًا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
 
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره. كيف تجده كفيلًا بالرد على هذه المقالة، وإنكارها أشد الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون }، <ref>[ القلم: 36 ]</ref> ، وقوله: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون }، <ref>[ الجاثية: 21 ]</ref> ، وقوله: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار }، <ref>[ ص: 28 ]</ref> ، فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزه نفسه عنه. فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة. إن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلاهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوًا كبيرًا.
 
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة. فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام. كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم. فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه. فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله.
السطر 4٬337 ⟵ 4٬339:
نعمة الله لا تعاب ولكن ** ربما استقبحت على أقوام
 
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن، ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله الساعين في خلاف مرضاته الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره والحكم لغيره والطاعة لغيره فهم مضادون في كل ما يريد. يحبون ما يبغضه ويدعون إليه، ويبغضون ما يحبه، وينفرون عنه ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله. كما قال تعالى: { وكان الكافر على ربه ظهيرًا }، <ref>[ الفرقان: 55 ]</ref> ، وقال: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو }. <ref>[ الكهف: 50 ]</ref> .
 
فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابًا وجلالة وتهديدًا. كيف صدره بإخبارنا أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني. وقد لعنته وطردته إذ لم يسجد لأبيكم، وجعلته عدوًا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني. فليس هذا من أعظم الغبن وأشد الحسرة عليكم ويوم القيامة يقول تعالى: أليس عدلًا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا. فليعلمن أولياء الشيطان كيف حالهم يوم القيامة إذا ذهبوا مع أوليائهم وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ويقول: ألا تذهبون حيث ذهب الناس. فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم. وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده. فيقول: هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم إنه لا مثل له فيتجلى لهم، ويكشف عن ساق فيخرون له سجدًا.
 
فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم، وبقوا مع مولاهم الحق. فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه؛ إن أولياءه إلا المتقون { ولكن أكثرهم لا يعلمون } .
 
ولا تستطل هذا البسط، فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله ونزولها منها منازلها في الدنيا، لتنزل في جوار ربها في الآخرة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
 
===فصل: حديث لبيك وسعديك===
 
إذا عرف هذا عرف معنى قوله {{صل}} في الحديث الصحيح: «لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك». وإن معناه أجل وأعظم من قول من قال: والشر لا يتقرب به إليك. وقول من قال: والشر لا يصعد إليك. وإن هذا الذي قالوه وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب به إليه. فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق. فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما لا في صفاته، ولا في أفعاله ولا في أسمائه وأن دخل في مخلوقاته كقوله: { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق } <ref>[ الفلق: 1 - 2 ]</ref> .
 
وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به كقوله: { والكافرون هم الظالمون }، <ref>[ البقرة: 254 ]</ref> ، وقوله: { والله لا يهدي القوم الفاسقين }، <ref>[ النساء: 160 ]</ref> ، وقوله: { فبظلم من الذين هادوا،هادوا } وقوله: { ذلك جزيناهم ببغيهم }، <ref>[ الأنعام: 146 ]</ref> ، وقوله: { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين }، <ref>[ الزخرف: 76 ]</ref> ، وهو في القرآن أكثر من أن يذكر ههنا عشر معشاره. وإنما المقصود التمثيل.
 
وتارة بحذف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا }، <ref>[ الجن: 10 ]</ref> ، فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد.
 
ونظيره في الفاتحة: { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه والضلال منسوبًا إلى من قام به والغضب محذوفًا فاعله. ومثله قول الخضر في السفينة: { فأردت أن أعيبها،أعيبها }، <ref>[ الكهف: 79 ]</ref> ، وفي الغلامين: { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك }. <ref>[ الكهف: 82 ]</ref> .
 
ومثله قوله: { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان }، <ref>[ الحجرات: 7 ]</ref> ، فنسب هذا التزيين المحبوب إليه، وقال: { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين }، <ref>[ آل عمران: 14 ]</ref> ، فحذف الفاعل المزين.
 
ومثله قول الخليل {{صل}}: { الذي خلقني فهو يهدين،يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين }، <ref>[ الشعراء: 78،78 79، 80، 81،- 82 ]</ref> ، فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال. ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة.
 
وهذا كثير في القرآن ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية، وبينا هناك السر في مجيء الذين آتيناهم الكتاب، والذين أوتوا الكتاب والفرق بين الموضعين. وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعًا في سياق المدح. وحيث حذفه كان من أوتيه واقعًا في سياق الذم، أو منقسمًا. وذلك من أسرار القرآن الكريم.
 
ومثله: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }، <ref>[ فاطر: 32 ]</ref> ، وقال: { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب }، <ref>[ الشورى: 14 ]</ref> ، وقوله: { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى }، <ref>[ الأعراف: 169 ]</ref> ، وبالجملة فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة وعدل والشر ليس إليه.
 
===فصل: من شر ما خلق===
 
وقد دخل في قوله تعالى: { من شر ما خلق } ، الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيًا كان أو جنيًا أو هامة أو دابة أو ريحًا أو صاعقة أي نوع كان من أنواع البلاء.
 
فإن قلت: فهل في ما ههنا عموم؟
السطر 4٬373 ⟵ 4٬375:
وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «من نزل منزلًا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل منه»، رواه مسلم.
 
وروى [[أبو داود في سننه]] عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله {{صل}} إذا سافر فأقبل الليل قال: «يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد».
 
وفي الحديث الآخر: «أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن». <ref>أحمد وأبو يعلى</ref>
 
===فصل: شر غاسق إذا وقب===
 
الشر الثاني: { شر غاسق إذا وقب } ، فهذا خاص بعد عام، وقد قال المفسرين: إنه الليل. قال [[ابن عباس]]: الليل إذا أقبل بظلمته من الشرق، ودخل في كل شيء وأظلم والغسق الظلمة يقال: غسق الليل وأغسق إذا أظلم ومنه قوله تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل }. <ref>[ الإسراء: 78 ]</ref> .
 
وكذلك قال الحسن ومجاهدو[[مجاهد]]: الفاسقالغاسق: إذا وقب الليل إذا أقبل ودخل والوقوب الدخول. وهو دخول الليل بغروب الشمس. وقال مقاتل: يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار، وفي تسمية الليل غاسقًا قول آخر إنه من البرد والليل أبرد من النهار والغسق البرد. وعليه حمل ابن عباس قوله تعالى: { هذا فليذوقوه حميم وغساق }، <ref>[ ص: 57 ]</ref> ، وقوله: { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا }، <ref>[ النبأ: 24 - 25 ]</ref> ، قال: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها، وكذلك قال مجاهد ومقاتل: هو الذي انتهى برده.
 
ولا تنافي بين القولين. فإن الليل بارد مظلم فمن ذكر برده فقط، أو ظلمته فقط. اقتصر على أحد وصفيه. والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة، فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي في الليل ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور من شر الغاسق الذي هو الظلمة فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة. كما سنزيده تقريرًا عن قريب إن شاء الله.
السطر 4٬387 ⟵ 4٬389:
فإن قيل: فما تقولون فيما رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة قالت: أخذ النبي {{صل}} بيدي فنظر إلى القمر. فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وهذا أولى من كل تفسير فيتعين المصير إليه.
 
قيل: هذا التفسير حق ولا يناقض التفسير الأول. بل يوافقه ويشهد بصحته، فإن الله تعالى قال: { وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة }، <ref>[ الإسراء: 12 ]</ref> ، فالقمر هو آية الليل وسلطانه فهو أيضا غاسق إذا وقب. كما أن الليل غاسق إذا وقب والنبي {{صل}} أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب وهذا خبر صدق وهو أصدق الخبر ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب، وتخصيص النبي {{صل}} له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره.
 
ونظير هذا قوله في المسجد الذي أسس على التقوى وقد سئل عنه فقال: «هو مسجدي»، هذا ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قبا مؤسسًا على التقوى، (بل ثبت أن مسجده أحق بالدخول في هذا الاسم، وأنه أحق بأن يكون مؤسسا على التقوى) من ذاك.
السطر 4٬409 ⟵ 4٬411:
قيل: إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل. وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه، وأما أن يختص اللفظ به فباطل.
 
===فصل: سبب الاستعاذة من شر الليل===
==فصل==
 
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين. وفي الصحيح أن النبي أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين ولهذا قال: فاكفتوا صبيانكم واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء. وفي حديث آخر: فإن الله يبث من خلقه ما يشاء. والليل هو محل الظلام وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار؛ فإن النهار نور والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة وعلى أهل الظلمة
السطر 4٬415 ⟵ 4٬417:
وروي أن سائلا سأل مسيلمة كيف يأتيك الذي يأتيك فقال في ظلماء حندس، وسأل النبي كيف يأتيك؟ فقال: في مثل ضوء النهار. فاستدل بهذا على نبوته وأن الذي يأتيه ملك من عند الله وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان. ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار، فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير. ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه. وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع وهو فيه أثبت وأمكن.
 
===فصل: سر الاستعاذة برب الفلق===
==فصل==
 
من ههنا تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع، فإن الفلق الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين في الليل. فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب. أو كن أو غار، وتأوي الهوام إلى أحجرتها والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها. فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها ويقهر عسكرها وجيشها. ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور ويدع الكفار في ظلمات كفرهم. قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات }، <ref>[ البقرة: 257 ]</ref> ، وقال تعالى: { أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }، <ref>[ الأنعام: 122 ]</ref> ، وقال في اعمار الكفار: { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور }. <ref>[ النور: 40 ]</ref> .
 
وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم: { الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء }. <ref>[ النور: 35 ]</ref> .
 
فالإيمان كله نور ومآله إلى نور ومستقره في القلب المضيء المستنير والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة والكفر الشرك كله ظلمة ومآله إلى الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة.
السطر 4٬427 ⟵ 4٬429:
وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي قصر المتكلمون غاية التقصير في دفعها، وما شفوا في جوابها. وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها فلم يحوجنا إلى متكلم، ولا إلى أصولي، ولا أنظار. فله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه.
 
===فصل: تفسير الفلق===
 
واعلم أن الخلق كله فلق وذلك أن فلقًا فعل بمعنى مفعول كقبض وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص. والله عز وجل فالق الأصباح، وفالق الحب والنوى، وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأجنة، والظلام عن الأصباح، ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة فلقًا وفرقًا. يقال: هو أبيض من فرق الصبح وفلقه.
السطر 4٬435 ⟵ 4٬437:
فظهرت حكمة الاستعاذة برب الفلق في هذه المواضع، وظهر بهذا إعجاز القرآن وعظمته وجلالته وأن العباد لا يقدرون قدره، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
 
===فصل: شر النفاثات في العقد===
==فصل==
 
الشر الثالث شر النفاثات في العقد. وهذا الشر هو شر السحر، فإن النفاثات في العقد هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر . والنفث هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما، والنفث فعل الساحر فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك، وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور، فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري، لا الأمر الشرعي .
 
فإن قيل فالسحر يكون من الذكور والإناث فلم خص الإستعاذة من الإناث دون الذكور ؟الذكور؟
 
قيل في جوابه: إن هذا خرج على السبب الواقع وهو أن بنات لبيد بن الأعصم سحرن النبي {{صل}}. هذا جواب أبي عبيدة وغيره. وليس هذا بسديد فإن الذي سحر النبي {{صل}} هو لبيد بن الأعصم كما جاء في الصحيح .
 
والجواب المحقق إن النفاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات، لا النساء النفاثات، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة وسلطانه إنما يظهر منها. فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير والله أعلم .
 
ففي الصحيح عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي {{صل}} طُبَّ حتى إنه ليخيل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه، وأنها دعا ربه، ثم قال: أشعرتِ أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال له: فبماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في ذروان، بئر في بني زريق، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله {{صل}} ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رءوس الشياطين. قال: فقلت له: يا رسول الله هلا أخرجته، قال: أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا، فأمر بها فدفنت. قال البخاري: وقال الليث وسفيان بن عيينة عن هشام في مشط ومشاقة، ويقال إن المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان.
السطر 4٬455 ⟵ 4٬457:
فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه الأول فيه أنه لم يستخرجه وحديث ابن جريج عن هشام فيه أنه استخرجه، ولا تنافي بينهما فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه ثم دفنه بعد أن شفي.
 
وقول عائشة رضي الله عنها "هلا استخرجته" أي هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه، فأخبرها بالمانع له من ذلك وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك فيقع الإنكار ويغضب للساحر قومه فيحدث الشر؛ وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة فأمر بها فدفنت ولم يستخرجها للناس. فالاستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة، والذي يدل عليه أنه إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه ولم يجيء إليه لينظر إليها ثم ينصرف، إذ لا غرض له في ذلك والله أعلم .
 
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته وقد اعتاض على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء قال لأن النبي لا يجوز أن يسحر فإنه يكون تصديقا لقول الكفار: { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا }، <ref>[ الإسراء: 47 ]</ref> ، قالوا وهذا كما قال فرعون لموسى: { إني لأظنك يا موسى مسحورا }. <ref>[ الإسراء: 101 ]</ref> . وقال قوم صالح له: { إنما أنت من المسحرين } <ref>[ الشعراء: 153 ]</ref> وقال قوم شعيب له: إنما أنت من المسحرين . قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين.
 
وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم، فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه، فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة رضي الله عنها.
السطر 4٬463 ⟵ 4٬465:
وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء؛ وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله {{صل}} وأيامه من المتكلمين.
 
قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن [[الأعمش]] عن يزيد بن حباب عن زيد ابن الأرقم قال سحر النبيَّ {{صل}} رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما، قال: فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لذلك عقدا، فأرسل رسول الله عليا فاستخرجها فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله كأنما أنُشِط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط.
 
وقال ابن عباس وعائشة: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله {{صل}} فدنت إليه اليهود فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي وعدة أسنان من مُشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هاتان السورتان فيه.
السطر 4٬469 ⟵ 4٬471:
قال البغوي: وقيل كانت مغروزة بالإبرة، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين وهما أحد عشرة آية: سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات، فكلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي كأنما أُنشط من عقال.
 
قال: وروي أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام فنزلت المعوذتان .
 
قالوا: والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء وكذلك الإغماء. فقد أغمي عليه في مرضه ووقع حين انفكت قدمه وجُحِش شِقُّه. وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته. وأشد الناس بلاء الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس. فليس ببدع أن يبتلى النبي {{صل}} من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلي بالذي رماه فشجه وابتلي بالذي ألقى على ظهره السَّلى وهو ساجد، وغير ذلك. فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله.
 
قالوا: وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي فقال: يا محمدُ اشتكيتَ؟ فقال: نعم، فقال: باسم الله أَرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفسٍ أو عينِ حاسدٍ اللهُ يشفيك، بسم الله أَرقيك. فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد لما اشتكى فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته {{صل}}، وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره .
 
قالوا: وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها. أما قوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ،مسحورا، وقول قوم صالح له: إنما أنت من المسحرين ،المسحرين، فقيل المراد به من له سحر وهي الرئة، أي أنه بشر مثلهم يأكل ويشرب ليس بملك، ليس المراد به السحر. وهذا جواب غير مرض وهو في غاية البعد، فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور ولا يعرف هذا في لغة من اللغات، وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر فقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، أنؤمن لبشر مثلنا، أبعث الله بشرا رسولا. وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السحر وهي الرئة، وأي مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع؟ ثم كيف يقول فرعون لموسى إني لأظنك يا موسى مسحورا أفتراه ما علم أنه له سَحرا وأنه بشر. ثم كيف يجيبه موسى بقوله وإني لأظنك يا فرعون مثبورا . ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدقه موسى وقال نعم أنا بشر أرسلني الله إليك كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم: إن أنتم إلا بشرا مثلنا، فقالوا: إن نحن إلا بشرا مثلكم، ولم ينكروا ذلك. فهذا الجواب في غاية الضعف.
 
وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر. وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة وهو أن من علم السحر يقال له مسحور، ولا يكاد هذا يعرف في الاستعمال، ولا في اللغة وإنما المسحور من سحره غيره كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه. وأما من علِم السحر فإنه يقال له ساحر بمعنى أنه عالم بالسحر وإن لم يسحر غيره، كما قال قوم فرعون لموسى: { إن هذا لساحر عليم }. <ref>[ الشعراء: 34 ]</ref> . ففرعون قذفه بكونه مسحورا، وقومه قذفوه بكونه ساحرا.
 
فالصواب هو الجواب الثالث وهو جواب صاحب [[الكشاف]] وغيره : أن المسحور على بابه، وهو من سُحِر حتى جُن فقالوا مسحور مثل مجنون، زائل العقل لا يعقل ما يقول، فإن المسحور الذي لا يتبع هو الذي فسد عقله بحيث لا يدري ما يقول فهو كالمجنون. ولهذا قالوا فيه: { معلم مجنون } . فأما من أصيب في بدنه بمرض من الأمراض يصاب به الناس فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه. وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءهم من اتباعهم وهو أنهم قد سُحروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين. ولهذا قال تعالى: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } <ref>[ الإسراء: 48 ]</ref> : مثلوك بالشاعر مرة والساحر أخرى والمجنون مرة والمسحور أخرى، فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيره طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فإن أي طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة، فهو متحير في أمره لا يهتدي سبيلا ولا يقدر على سلوكها. فهذا حال أعداء رسول الله {{صل}} معه حتى ضربوا له أمثالا برأه الله منها وهو أبعد خلق الله منها، وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان.
 
وأما قولكم: إن الأنبياء ينافي حماية الله لهم (أن يسحروا؛ فجوابه أن ما يصيبهم من أذى أعدائهم لهم وأذاهم إياهم لا ينافي حماية الله وصيانته لهم)، فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم، فيعجل تطهير الأرض منهم. فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة والنعمة السابغة، لا إله غيره ولا رب سواه.
 
===فصل: تأثيرات السحر===
 
وقد دل قوله: { ومن شر النفاثات في العقد } ، وحديث عائشة المذكور على تأثير السحر وإن له حقيقة. وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وقالوا: إنه لا تأثير للسحر البتة، لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد. قالوا: وإنما ذلك تخييل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك. وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف، واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف وما يعرفه عامة العقلاء.
 
والسحر الذي يؤثر مرضًا وثقلًا وحلًا وعقدًا وحبًا وبغضًا ونزيفًا وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس وكثير منهم قد علمه ذوقًا بما أصيب به منه.
 
وقوله تعالى: { ومن شر النفاثات في العقد } ، دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه. ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرًا كما يقوله هؤلاء لم يكر للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه.
 
وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير في إحساسهم. فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم. وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن. فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركًا والمتصل منفصلًا والميت حيًا، فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يجعل المحبوب إليه بغيضًا والبغيض محبوبًا، وغير ذلك من التأثيرات.
 
وقد قال تعالى عن سحرة فرعون: { سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم }، <ref>[ الأعراف: 116 ]</ref> ، فبين سبحانه أن أعينهم سحرت، وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين فظنوا أنها تحركت بأنفسها وهذا كما إذا جر من لا يراه حصيرًا أو بساطًا، فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى الجار له مع أنه هو الذي يجره. فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلبتها كتقلب الحية، فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها. وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها. ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا، فتارة يتصرف في نفس الرأي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به، وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها.
 
وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزيبق وغيره، حتى سعت، فهذا باطل من وجوه كثيرة. فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالًا بل حركة حقيقية، ولم يكن ذلك سحرًا لأعين الناس، ولا يسمى ذلك سحرًا بل صناعة من الصناعات المشتركة. وقد قال تعالى: { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى }، <ref>[ طه: 66 ]</ref> ، ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون لم يكن هذا من السحر في شيء، ومثل هذا لا يخفى. وأيضا لو كان ذلك بحيلة كما قال هؤلاء لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزئبق وبيان ذلك المحال، ولم يحتج إلى إلقاء العصي لابتلاعها. وأيضا فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة، بل يكفي فيها حذاق الصناع ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والجزاء. وأيضا فإنه لا يقال في ذلك إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها. وبالجملة فبطلان هذا أظهر من أن يتكلف رده فلنرجع إلى المقصود.
 
===فصل: شر الحاسد إذا حسد===
 
الشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد، وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود. فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه، وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله تعالى قال: { ومن شر حاسد إذا حسد } ، فحقق الشر منه عند صدور الحسد.
 
والقرآن ليس فيه لفظة مهملة. ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدًا إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك. ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود لاه عنه. فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه ووجهت إليه سهام الحسد من قبله، فيتأذى المحسود بمجرد ذلك؛ فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والاقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد. فقوله تعالى: { إذا حسد } بيان، لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل.
السطر 4٬513 ⟵ 4٬515:
وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم، فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل وتلك الصنائع الغريبة وتلك الأفعال العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات، كيف ذهبت كلها مع الروح وبقي الهيكل سواء هو والتراب، وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك أو يعاديك ويخف عليك ويثقل ويؤنسك ويوحشك إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر. فرُب رجل عظيم الهيولا كبير الجثة خفيف على قلبك حلو عندك، وآخر لطيف الخلقة صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل؛ وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها، وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها. وبالجملة فالعلق والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلًا والأشباح تبعًا.
 
===فصل: العائن والحاسد===
 
والعائن والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء. فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه. فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته. والحاسد يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضا. ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد، أو حيوان، أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه. وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.
 
وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر }، <ref>[ القلم: 51 ]</ref> ، إنه الإصابة بالعين فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله {{صل}} فنظر إليه قوم من العائنين. وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجته. وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم وأتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر.
 
وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين، أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه، فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلًا ولا غنمًا أحسن من هذه؛ فما تذهب إلا قليلًا حتى يسقط منها طائفة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله {{صل}} بالعين ويفعل به كفعله في غيره، فعصم الله رسوله وحفظه وأنزل عليه: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم }، <ref>[ القلم: 51 ]</ref> ، هذا قول طائفة.
 
وقالت طائفة أخرى منهم [[ابن قتيبة]]: ليس المراد أنهم يصيبونك بالعين كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك.
 
قال الزجاج: يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في الكلام يقول القائل نظر إلي نظرًا كاد يصرعني منها. قال: ويدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة فيحدون إليه النظر بالبغضاء.
السطر 4٬527 ⟵ 4٬529:
قلت: النظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون سببه شدة العداوة والحسد. فيؤثر نظره فيه كما تؤثر نفسه بالحسد، ويقوى تأثير النفس عند المقابلة، فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه، فإذا عاينه قبلًا اجتمعت الهمة عليه وتوجهت النفس بكليتها إليه. فيتأثر بنظره حتى إن من الناس من يسقط ومنهم من يحم ومنهم من يحمل إلى بيته، وقد شاهد الناس من ذلك كثيرًا. وقد يكون سببه الإعجاب، وهو الذي يسمونه بإصابة العين، وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين. وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين، فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه فيصاب بذلك.
 
قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن همام بن منبه <ref>تحرف في بعض النسخ إلى "هشام بن قتيبة". </ref> قال: هذا ما حدثنا [[أبو هريرة،هريرة]]، قال: قال رسول الله {{صل}}: «العين حق»، ونهى عن الوشم. <ref>[[مصنف عبد الرزاق]] وصحيفةو[[صحيفة همام»]]. </ref> وروى [[سفيان]] عن [[عمرو بن دينار]] عن عروة عن عامر عن عبيد بن رفاعة أن [[أسماء بنت عميس]] قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم قال: «نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين». <ref>أحمد والترمذي وابنو[[ابن ماجه»]]. </ref>
 
فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العداوة فهو نظر يكاد يزلقه لولا حفظ الله وعصمته. فهذا أشد من نظر العائن، بل هو جنس من نظر العائن ،العائن، فمن قال إنه من الإصابة بالعين أراد هذا المعنى ومن قال ليس به أراد أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب، فالقولان حق.
 
وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي {{صل}} كان يتعوذ من عين الإنسان. فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها.
السطر 4٬541 ⟵ 4٬543:
وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمنى زوالها، فالحاسد عدو النعم، وهذا الشر هو من نفسه وطبعها، ليس هو شيئًا اكتسبه من غيرها، بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى واستعانة بالأرواح الشيطانية. فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن. فالحسد من شياطين الإنس والجن والسحر من النوعين. وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن وهو الوسوسة في القلب فذكره في السورة الأخرى، كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله. فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه، بل هو أذى من أمر خارج عنه. ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق. والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له وقبوله منه، ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم، لأن ذلك بسعيه وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر، فإنه لا يعاقب عليه إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته. فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة، وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة، وكثيرًا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة.
 
ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم، فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم. وقد وصفهم الله في كتابه بهذا وهذا فقال: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }. <ref>[ البقرة: 102 ]</ref> .
 
وللكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الالتباس، وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما موضع غير هذا؛ إذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما، وأنه لا يقوم غيرهما مقامهما.
 
وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن كقوله تعالى: { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله }، <ref>[ النساء: 54 ]</ref> ، وفي قوله: { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق }. <ref>[ البقرة: 109 ]</ref> .
 
والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما، ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان، لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه، لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله وأبى أن يسجد له حسدًا. فالحاسد من جند إبليس، وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه، وربما يعبده من دون الله حتى يقضي له حاجته وربما يسجد له. وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب. ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ. ولهذا سحر عباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام، وهم الذين سحروا رسول الله {{صل}}. وفي [[الموطأ]] عن كعب قال: كلمات أحفظهن من التوراة لولاها لجعلتني يهود حمارًا، أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ.
 
والمقصود أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده ويأمره بموجبه والساحر بعلمه وكسبه وشركه واستعانته بالشياطين.
 
===فصل: الحاسد من الجن والإنس===
==فصل==
 
وقوله: { ومن شر حاسد إذا حسد } ، يعم الحاسد من الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته كما قال تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا }، <ref>[ فاطر: 6 ]</ref> ، ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس يعمهما كما سيأتي بيانهما. والحسد يعمهما أيضا. فكلا الشيطانين حاسد موسوس. فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعًا. فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم. وتضمنت شرورًا أربعة يستعاذ منها: شرًا عامًا وهو شر ما خلق، وشر الغاسق إذا وقب، فهذا نوعان، ثم ذكر شر الساحر والحاسد، وهي نوعان أيضا لأنهما من شر النفس الشريرة، وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده وهو الساحر، وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان وتقرب إليه إما بذبح باسمه أو بذبح يُقصد به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق. والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإن سماه بما سماه به. فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه. فمن سجد لمخلوق وقال ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبلها بالنعم أو هذا إكرام ،إكرام، لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله، فليسمه بما شاء. وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة بل يسميه استخدامًا ما. وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليس خدمة عبادة. فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به. والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان، وإنما سماه استخدامًا. قال تعالى: { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين }. <ref>[ يس: 60 ]</ref> . وقال تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون }. <ref>[ سبأ: 40، 41 ]</ref> . فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة، ولبئس المولى ولبئس العشير. فهذا أحد النوعين. والنوع الثاني: من يعينه الشيطان وإن لم يستعن به وهو الحاسد، لأنه نائبه وخليفته، لأن كليهما عدو نعم الله ومنغصها على عباده.
 
===فصل: تقييد الحاسد بقوله إذا حسد===
==فصل==
 
وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: { إذا حسد } لأن الرجل قد يكون عنده حسد. ولكن يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه، ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئًا من ذلك، ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله.
السطر 4٬561 ⟵ 4٬563:
وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك إخوة يوسف. لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر لها بل يعصيها طاعة لله وخوفًا وحياء منه وإجلالًا له أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخافة لله وبغضًا لما يحب الله ومحبة لما يبغضه، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ويلزمها بالدعاء للمحسود وتمني زيادة الخير له بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح؛ فهذا الحسد المذموم وهذا كله حسد تمني الزوال.
 
وللحسد ثلاث مراتب أحدها هذه. الثانية تمني استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء محقق وكلاهما حاسد عدو نعمة الله وعدو عباده وممقوت عند الله تعالى وعند الناس ولا يسود أبدًا ولا يرأس. فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبدًا إلا قهرًا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها، فهم يبغضونه وهو يبغضهم. والحسد الثالث حسد الغبطة وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه. فهذا لا بأس به، ولا يعاب صاحبه. بل هذا قريب من المنافسة. وقد قال تعالى: { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }، <ref>[ المطففين: 26 ]</ref> ، وفي الصحيح عن النبي {{صل}} أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس». فهذا حسد غبطة الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه وحب خصال الخير والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم وأن يكون من سباقهم وعليتهم ومصليهم، لا من فساكلهم، فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه. وتمنى دوام نعمة الله عليه. فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما. فهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكل على الله، والإلتجاء إليه، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة فهو مستعيذ بولي النعم وموليها كأنه يقول: يا من أولاني نعمته وأسداها إلي أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ويزيلها عني وهو حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجير المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير. فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه واتقاه أمنه مما يخاف ويحذر وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه فلا تستبطىء نصره ورزقه وعافيته. فإن الله بالغ أمر، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر. ومن لم يخفه أخافه من كل شيء وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله قال تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم،الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون،يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون }، <ref>[ النحل: 98،98 99،- 100 ]</ref> ، وقال: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين }، <ref>[ آل عمران: 175 ]</ref> ، أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في صدوركم. فلا تخافوهم وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم.
 
===فصل: دفع شر الحاسد عن المحسود===
==فصل==
 
ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
 
أحدها: التعوذ بالله من شره والتحصن به، واللجأ إليه، وهو المقصود بهذه السورة والله تعالى سميع لاستعاذته عليم بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به سمع الإجابة لا السمع العام فهو مثل قوله: سمع الله لمن حمده. وقول الخليل {{صل}}: { إن ربي لسميع الدعاء }، ومرة يقرنه بالعلم ومرة بالبصر لاقتضاء حال المستعيذ ذلك، فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته أي مجيب علم بكيد عدوه يراه ويبصره لينبسط أمل المستعيذ ويقبل بقلبه على الدعاء، وتأمل حكمة القرآن كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ السميع العليم في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ السميع البصير في سورة حم المؤمن فقال: { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير }، <ref>[ غافر: 56 ]</ref> ، لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر. وأما نزغ الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ويدرك بالرؤية والله أعلم.
 
السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا } ، وقال النبي {{صل}} لعبد الله بن عباس: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك»، فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامه أينما توجه. ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف ولمن يحذر.
 
السبب الثالث: الصبر على عدوه وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا فما نصره على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله، ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندًا وقوة للمبغي عليه المحسود يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله، وقد قال تعالى: { ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله }، <ref>[ الحج: 60 ]</ref> ، فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولًا. فكيف بمن لم يستوفه شيئًا من حقه. بل بغى عليه وهو صابر، وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وقد سبقت سنة الله أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكًا.
 
السبب الرابع: التوكل على الله فمن يتوكل على الله فهو حسبه. والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا. وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه، قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه }، <ref>[ الطلاق: 3 ]</ref> ، ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر. كما قال في الأعمال. بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره. وقد ذكرناه حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدة حاجة العبد إليه في كتاب الفتح القدسي. وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة وإنه من مقامات العوام، وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة، وبينا أنه من أجل مقامات العارفين وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجته إلى التوكل أعظم وأشد وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله. وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر والباغي.
 
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه، ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه. وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه. بل انعزل عنه لم يقدر عليه. فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر وهكذا الأرواح سواء. فإذا علق روحها وشبثها به، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومنامًا لا يفتر عنه وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار ودام الشر حتى يهلك أحدهما، فإذا جبذ روحه عنه وصانها عن الفكر فيه والتعلق به وأن لا يخطره بباله، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به بقى الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضًا. فإن الحسد كالنار، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضًا. وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية، وبين الكيس الفطن، وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه، وتعلق روحه به، ولا يرى شيئًا ألم لروحه من ذلك، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة التي رضيت بوكالة الله لها، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها فوثقت بالله، وسكنت إليه، واطمأنت به وعلمت أن ضمانه حق ووعده صدق وإنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلًا فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصر مخلوق مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا:
 
بالسبب السادس: وهو الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئًا فشيئًا حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب، والتقرب إليه وتملقه وترضيه واستعطافه وذكره. كما يذكر المحب التام المحب لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه فلا يستطيع قلبه انصرافا عن ذكره ولا روحه انصرافا عن محبته، فإذا صار كذلك. فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيت إنكاره وقلبه معمورًا بالفكر في حاسده، والباغي عليه والطريق إلى الانتقام منه. والتدبير عليه هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته. بل إذا مسه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج ناداه حرس قلبه إياك وحمى الملك اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حل فيها ونزل بها مالك، ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك، وأدار عليه الحرس وأحاطه بالسور. قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال: { فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين }، <ref>[ ص: 82 ]</ref> ، قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }، <ref>[ الحجر: 42 ]</ref> ، وقال: { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون }، <ref>[ النحل: 99 ]</ref> ، وقال في حق الصديق يوسف {{صل}}: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، <ref>[ يوسف: 24 ]</ref> ، فما أعظم سعادة من دخل هذاالحصن وصار داخل اليزك. لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }. <ref>[ الجمعة: 4 ]</ref> .
 
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فإن الله تعالى يقول: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }، <ref>[ الشورى: 30 ]</ref> ، وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه {{صل}}: { أو لماأولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم }، <ref>[ آل عمران: 165 ]</ref> ، فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه، أو لا يعلمه وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره. وفي الدعاء المشهور: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب. ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه. فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك فدخل فسجد لله وتضرع إليه، وتاب وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي. وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها. فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغى عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه. ولا بد فما أسعده من عبد وما أبركها من نازلة نزلت به وما أحسن أثرها عليه. ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع فما كل أحد يوفق لهذا لا معرفة ولا إرادة له ولا قدرة عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه. فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق. وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملًا فيه باللطف والمعونة والتأييد. وكانت له فيه العاقبة الحميدة. فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جنة واقية وحصن حصين وبالجملة، فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها. ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود. فحينئذ يبرد أنينه وتنطفي ناره لا أطفأها الله فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفران المنعم. فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه. فمن لم يكن له جند ولا عسكر ولا عدو، فإنه يوشك أن يظفر به عدوه. وإن تأخرت مدة الظفر والله المستعان.
 
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله وهو طفي نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحة وعليه شفقة. وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلًا عن أن تتعاطاه فاسمع الآن قوله عز وجل: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }، <ref>[ فصلت: 35 ]</ref> ، { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }، <ref>[ الأعراف: 200 ]</ref> ، وقال: { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون }. <ref>[ القصص: 54 ]</ref> .
 
وتأمل حال النبي {{صل}} الذي حكى عنه نبينا {{صل}} أنه ضربه قومه حتى أدموه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه. أحدها عفوه عنهم. والثاني استغفاره لهم. والثالث اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون. الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه، فقال: «اغفر لقومي»، كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي، فهبه لي.
السطر 4٬591 ⟵ 4٬593:
وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
 
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب وهو [[تجريد التوحيد]] والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم. والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه. فهو الذي يحسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه قال تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو }، <ref>[ الأنعام: 17 ]</ref> ، { وإن يردك بخير فلا راد لفضله }. <ref>[ يونس: 107 ]</ref> . وقال النبي {{صل}} لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك». فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه. وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله. بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلًا واشتغالًا به عن غيره. فيرى أن أعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده. وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل. والله يتولى حفظه والدفع عنه. فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإن كان مؤمنًا فالله يدافع عنه ولا بد وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه. فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج مزج له وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة كما قال بعض السلف: من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة.
 
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين قال بعض السلف: من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء.
السطر 4٬597 ⟵ 4٬599:
فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه وثقته به. وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده ولا يرجو سواه. بل يرجوه وحده فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه، وكل إليه وخذل من جهته فمن خاف شيئًا غير الله سلط عليه، ومن رجا شيئًا سوى الله خذل من جهته وحرم خيره. هذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
 
===فصل: تأثير نفوس الحاسدين وأعينهم والأرواح الشيطانية===
==فصل==
 
فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة المهمة التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر، والنفث في العقد. وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق:
السطر 4٬611 ⟵ 4٬613:
فهذا ما يسر الله من الكلام على سورة الفلق.
 
===(سورة الناس)===
 
وأما [[سورة الناس]]: فقد تضمنمت أيضا استعاذة ومستعاذًا به ومستعاذًا منه.
 
فالاستعاذة تقدمت. وأما المستعاذ به فهو الله، "رب الناس، ملك الناس، إله الناس ،" فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلاهيته لهم. ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان كما تقدم. فنذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث، ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة.
 
الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه، ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم، هذا معنى ربوبيته لهم وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم.
السطر 4٬633 ⟵ 4٬635:
وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كما يشاء وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى، كالعزيز الجبار المتكبر الحكم العدل الخافض الرافع المعز المذل العظيم الجليل الكبير الحسيب المجيد الوالي المتعالي مالك الملك المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
 
وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى. ولهذا كان القول الصحيح إن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، ، وإن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلي، فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى. فكان المستعيذ بها جديرًا بأن يعاذ ويحفظ ويمنع من الوسواس الخناس، ولا يسلط عليه.
 
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر. وإنما غاية أولى العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه وأن باديه إلى الخافي يسير.
 
===فصل: الاستعاذة من الشر===
 
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها، وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة. فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج، وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل.
السطر 4٬643 ⟵ 4٬645:
فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه، لأنه ليس من كسبه. والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي. فهذا شر المعائب والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما. فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات، وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.
 
===فصل: الوسواس===
 
إذا عرف هذا. فالوسواس فعلال من وسوس. وأصل الوسوسة الحركة، أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه، فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقى إليه، وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد ومن هذا وسوسة الحلى وهو حركته الخفية في الأذن والظاهر والله أعلم أنها سميت وسوسة لقربها وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الإذن. فقيل: وسوسة الحلى، لأنه صوت مجاور للأذن كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له.
السطر 4٬649 ⟵ 4٬651:
ولما كانت الوسوسة كلامًا يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها. فقالوا: وسوس وسوسة، فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه، ونظير هذا ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدوران والغليان والنزوان وبابه.
 
ونظير ذلك زلزل ودكدك وقلقل وكبكب الشيء، لأن الزلزلة حركة متكررة، وكذلك الدكدكة والقلقلة، وكذلك كبكب الشيء إذا كبه في مكان بعيد فهو يكب فيه كبًا بعد كب كقوله تعالى: { فكبكبوا فيها هم والغاوون }، <ref>[ الشعراء: 94 ]</ref> ، ومثله رضرضه إذا كرر رضه مرة بعد مرة ومثله ذر ذره إذا ذره شيئًا بعد شيء ومثله صرصر الباب إذا تكرر صريره. ومثله مطمط الكلام إذا مططه شيئًا بعد شيء، ومثله كفكف الشيء إذا كرر كفه وهو كثير.
 
وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب، لأن الثلاثي لا يدل على تكرار بخلاف الرباعي المكرر. فإذا قلت ذو الشيء وصر الباب وكف الثوب ورض الحب لم يدل على تكرار الفعل بخلاف ذرذر وصرصر ورضرض ونحوه، فتأمله فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني. وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته.
السطر 4٬655 ⟵ 4٬657:
وكذلك قولهم عَجَّ العِجلُ، إذا صوت، فإن تابع صوته قالوا: عجعج. وكذلك ثج الماء إذا صب، فإن تكرر ذلك قيل ثجثج. والمقصود أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها قيل وسوس.
 
===فصل: هل الوسواس وصف أو مصدر===
==فصل==
 
إذا عرف هذا فاختلف النحاة في لفظ الوسواس هل هو وصف، أو مصدر. على قولين، ونحن نذكر حجة كل قول، ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله وفضله.
السطر 4٬675 ⟵ 4٬677:
قالوا: وإذا ثبت هذا فحق ما وقع منها محتملًا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملًا على الأكثر الغالب وتجنبًا للشاذ. فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه ذو تقديرًا. فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران:
 
أحدهما أن كل مصدر أضيف إليه ذو تقديرًا. فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به كرضى وصوم وفطر وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط وسواس ووعواع وعظعاظ على أن منع المصدرية في هذا ممكن، لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم وسوس إليه الشيطان وسواسًا وهذا لا يتعين للمصدرية لاحتمال أن يراد به الوصفية، وينتصب وسواسًا على الحال ويكون حالًا مؤكدة. فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظًا ومعنى كقوله تعالى: { وأرسلناك للناس رسولًا }، <ref>[ النساء: 79 ]</ref> ، وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره نعم، إنما تتعين مصدرية الوسواس ذا سمع، أعوذ بالله من وسواس الشيطان، ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه إلى مضافًا إلى فاعله كما سمع ذلك في الوسوسة، ولكن أين لكم ذلك. فهاتوا شاهده. فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرًا لا بانتصابه بعد الفعل.
 
الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن وسواسًا مصدر مضاف إليه ذو تقديرًا أن المصدر المضاد إليه ذو تقديرًا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. بل يلزم طريقة واحدة ليعلم أصالته في المصدرية وإنه عارض الوصفية. فيقال: امرأة صوم وامرأتان صوم ونساء صوم، لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك. بل يثنى ويجمع ويؤنث فتقول: رجل ثرثار وامرأة ثرثارة ورجال ثرثارون. وفي الحديث: «أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون» وقالوا: ريح رفرافة أي تحرك الأشجار. وريح سفسافة أي تنخل التراب. ودرع فضفاضة أي متسعة. والفعل من ذلك كله فعلل، والمصدر فعللة وفعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح، وكذلك قالوا تمتام وفأفاء ولضلاض أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثير الكلام وهرهار أي ضحاك وكهكاه ووطواط أي ضعيف وحشحاش وعسعاس أي خفيف وهو كثير ومصدره كله الفعللة والوصف فعلال بالفتح ومثله هفهاف أي خميص ومثله دحداح أي قصير ومثله بجباج أي جسيم وتختاخ أي ألكن وشمشام أي سريع وشيء خشخاش أي مصوت وقعقاع مثله وأسد قضقاض أي كاسر وحية تضناض تحرك لسانها، فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفًا لا مصدرًا. فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه، فثبت أن وسواسًا وصف لا مصدر كثرثار وتمتام ودحداح وبابه.
السطر 4٬685 ⟵ 4٬687:
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما، فإنها مصادر لا تلتبس بالأوصاف. فإذا جرت أوصافًا، علم أنها على حذف مضاف أو تنزيلًا للمصدر منزلة الوصف مبالغة على الطريقتين في ذلك. فتعين أن الوسواس هو الشيطان نفسه وأنه ذات لا مصدر والله أعلم.
 
===فصل: الخناس وبيان اشتقاقه===
==فصل==
 
وأما الخناس فهو فعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى. ومنه قول أبي هريرة: لقيني النبي {{صل}} في بعض طرق المدينة وأنا جنب فانخنست منه. وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور فليست لمجرد الاختفاء ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى: { فلا أقسم بالخنس }، <ref>[ التكوير: 15 ]</ref> ، قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار فتختفي ولا ترى. وكذلك قال علي رضي الله عنه: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى. وقالت طائفة: الخنس هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق وهي السبعة السيارة. قالوا: وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء. والخناس هو مأخوذ من هذين المعنيين فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر. فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض كما ينخنس الشيء ليتوارى، وذلك الانخناس والانقباض هو أيضا تجمع ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج فهو تأخر ورجوع معه اختفاء.
 
وخنس وانخنس يدل على الأمرين معًا. قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان. فإذا ذكر العبد ربه خنس.
السطر 4٬703 ⟵ 4٬705:
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررًا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارًا حتى يعزم عليها العبد وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل، لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة فجاء بناء اللفظين مطابقًا لمعنييهما.
 
===فصل: الصفة الثالثة للوسواس===
==فصل==
 
وقوله: { الذي يوسوس في صدور الناس } ، صفة ثالثة للشيطان. فذكر وسوسته أولًا، ثم ذكر محلها ثانيًا وأنها في صدور الناس. وقد جعل الله للشيطان دخولًا في جوف العبد ونفوذًا إلى قلبه وصدره فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
 
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله {{صل}} معتكفًا فأتيته أزوره ليلًا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلِبني - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي {{صل}} أسرعا فقال النبي {{صل}}: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءًا - أو قال - شيئًا».
السطر 4٬715 ⟵ 4٬717:
وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله {{صل}} قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. قال: «الحمد الله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
 
ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال: { إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره }. <ref>[ الكهف: 63 ]</ref> .
 
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله: { من شر الوسواس } ، يعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا وأقواها تأثيرًا وأعمها فسادًا وهي الوسوسة التي هي مبادي الإرادة، فإن القلب يكون فارغًا من الشر والمعصية. فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه. فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسي علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصير الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب. فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم وعونًا. فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى: { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزًا }، <ref>[ مريم: 83 ]</ref> ، أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم. فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم فلا بتلك النخوة والكبر ولا يرضاه أن يصير قواد الكل من عصى الله كما قال بعضهم:
 
عجبت من إبليس في تيهه ** وقبح ما أظهر من نخوته
السطر 4٬727 ⟵ 4٬729:
فمن شره إنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف، وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم. فيدخل سارقًا ويخرج مغيرًا ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية، ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومنامًا أنه فعل كذا وكذا.
 
ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس فيصبح والناس يتحدثون به وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل، وألقاه إليهم فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به. فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته. وقلّ من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة .
 
ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدًا تمنعه من اليقظة كما في [[صحيح البخاري]] عن [[سعيد بن المسيب]] عن أبي هريرة أن رسول الله {{صل}} قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطًا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان».
 
ومن شره أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي {{صل}} أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى فأصبح قال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنه». رواه البخاري.
السطر 4٬751 ⟵ 4٬753:
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
 
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظًا لوقته شحيحًا به يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب. نقله إلى المرتبة السادسة وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل. فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له. إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه. قل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيًا قويًا ومحركًا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة، فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير فيقول: هذا الداعي من الله، وهو معذور ؛معذور؛ ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل.
 
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول {{صل}} وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول {{صل}} ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض. وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم والله يمن بفضله على من يشاء من عباده.
السطر 4٬759 ⟵ 4٬761:
فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس، وتزن به الأعمال فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق والله المستعان وعليه التكلان ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعًا لمن تدبره ووعاه.
 
===فصل: الصدور والقلوب===
 
وتأمل السر في قوله تعالى: { يوسوس في صدور الناس } ، ولم يقل في قلوبهم والصدر هو ساحة القلب وبيته. فمنه تدخل الواردات إليه فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب فهو بمنزلة الدهليز له، ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود.
 
ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: { وليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم } <ref>[ آل عمران: 154 ]</ref> فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقى ما يريد إلقاءه إلى القلب فهو موسوس في الصدر ووسوسته واصلة إلى القلب، ولهذا قال تعالى: { فوسوس لهما الشيطان }، <ref>[ الأعراف: 20 ]</ref> ، ولم يقل فيه. لأن المعنى. أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه فدخل في قلبه.
 
===فصل: الجار والمجرور من الجنة والناس===
==فصل==
 
وقوله تعالى: { من الجنة والناس } ، اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور بم يتعلق.
 
فقال الفراء وجماعة هو بيان للناس الموسوس في صدورهم والمعنى يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس أي الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن.
السطر 4٬783 ⟵ 4٬785:
يريد النبي {{صل}}.
 
ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه قال تعالى: { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم }، <ref>[ النجم: 31 ]</ref> ، ومنه المجن لاستتار المحارب به من سلاح خصمه، ومنه الجنة لاستتار داخلها بالأشجار ومنه الجنة بالضم لما يقي الإنسان من السهام والسلاح، ومنه المجنون لاستتار عقله.
 
وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى وبينهما اشتقاق أوسط وهو عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد والإنس والإنسان مشتق من الإيناس وهو الرؤية والإحساس ومنه قوله: { آنس من جانب الطور نارًا }، <ref>[ القصص: 29 ]</ref> ، أي رآها ومنه: { فإن آنستم منهم رشدًا }، <ref>[ النساء: 6 ]</ref> ، أي أحسستموه ورأيتموه. فالإنسان سمي إنسانًا، لأنه يونس أي يرى بالعين.
 
والناس فيه قولان:
السطر 4٬803 ⟵ 4٬805:
ولا ريب أن أناسا فعال، ولا يجوز فيه غير ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسًا فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق ويكون وزن ناس على هذا القول عال لأن المحذوف فاؤه وعلى القول الأول يكون وزنه فعل لأنه من النوس. وعلى القول الضعيف يكون وزنه فلع، لأنه من نسي فقلبت لامه إلى موضع العين فصار ناسًا ووزنه فلعًا.
 
والمقصود أن الناس اسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون من الجنة والناس بيانًا لقوله: { في صدور الناس } ، وهذا واضح لإخفاء فيه.
 
فإن قيل: لا محذور في ذلك، فقد أطلق على الجن اسم الرجال كما في قوله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } ، فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس.
 
قلت: هذا هو الذي غر من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية. وجواب ذلك أن اسم الرجال. إنما وقع عليهم وقوعًا مقيدًا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقًا. وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك، لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب. وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس وذلك، لأن الناس والجنة متقابلان، وكذلك الإنس والجن. فالله سبحانه يقابل بين اللفظين كقوله: { يا معشر الجن والإنس }، <ref>[ الأنعام: 130 ]</ref> ، وهو كثير في القرآن. وكذلك قوله: { من الجنة والناس } ، يقتضي أنهما متقابلان فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن فإنهما لم يستعملا متقابلين فلا يقال الجن والرجال، كما يقال الجن والإنس. وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس، لأنه قابل بين الجنة والناس فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخرة. فالصواب القول الثاني وهو أن قوله: { من الجنة والناس } بيان للذي يوسوس وأنهم نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس إلى الأنسي.
 
فالموسوس نوعان: إنس وجن. فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته، إنما هي بواسطة الأذن والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة، لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم.
السطر 4٬813 ⟵ 4٬815:
على أن الجني قد يتمثل له ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي كما في البخاري. عن عروة عن عائشة عن النبي {{صل}} أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر يكون في الأرض فتستمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم». فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
 
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني قال تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا }، <ref>[ الأنعام: 112 ]</ref> ، فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني، ويشتركان في الوسوسة. وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات والتعسفات التى ارتكبها أصحاب القول الأول.
 
وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين شياطين الإنس والجن. وعلى القول الأول إنما تكون الاستعاذة من شر شياطين الجن فقط. فتأمله فإنه بديع جدًا.
السطر 4٬819 ⟵ 4٬821:
فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين وله الحمد والمنة. وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط فما ذلك على الله بعزيز. والحمد لله رب العالمين ونختم الكلام على السورتين بذكر:
 
==قاعدة نافعة: اعتصام العبد من الشيطان==
 
فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه.
السطر 4٬825 ⟵ 4٬827:
وذلك عشرة أسباب:
 
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان. قال تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }، <ref>[ فصلت: 36 ]</ref> ، وفي موضع آخر: { إنه سميع عليم }، <ref>[ الأعراف: 200 ]</ref> ، وقد تقدم أن السمع المراد به ههنا. سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.
 
وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة. هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها. وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في [[سورة الأعراف]] لاستغناء المقام عنه. فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه. وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم، كما قال الله تعالى.
 
والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا. بل يريه أن هذا ذل وعجز، ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظه العاجل، فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }. <ref>[ فصلت: 36 ]</ref> .
 
وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان. بل بالإعراض. وهذا سهل على النفوس غير مستعصي عليها. فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم }، <ref>[ الأعراف: 200 ]</ref> ، وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين، وبين قوله في حم المؤمن: { فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } .
 
وفي صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: كنت جالسًا مع النبي {{صل}} ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي {{صل}}: «إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد».
السطر 4٬837 ⟵ 4٬839:
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين فإن لهما تاثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه. ولهذا قال النبي {{صل}}: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما». وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة. وتقدم قوله {{صل}}: «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح كفته من كل شيء».
 
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي ففي الصحيح من حديث [[محمد بن سيرين]] عن [[أبي هريرة]] قال: وكلني رسول الله {{صل}} بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله {{صل}}. فذكر الحديث فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي {{صل}}: «صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان».
 
وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده.
 
الحرز الرابع: قراءة [[سورة البقرة]]. ففي الصحيح من حديث سهل عن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله {{صل}} قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان».
 
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري قال: قال رسول الله {{صل}} من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي {{صل}} قال: «إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان».
 
الحرز السادس: أولى سورة حم المؤمن إلى قوله: { إليه المصير } <ref>[ غافر: 3 ]</ref> مع آية الكرسي، ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة، عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله {{صل}}: «من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح»، وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه. فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي، وهو محتمل على غرابته.
 
الحرز السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله {{صل}} قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»، فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.
 
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل. ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي {{صل}} قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وإنه كاد أن يبطىء بها»، فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تامرهم وإما أن آمرهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ وقعدوا على الشرف. فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأدِ إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمرَكم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم. وأمرَكم أن تذكروا الله. فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله. قال النبي {{صل}}: «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع». ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم». فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام قال: «وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله». قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح، وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة، وله غير هذا الحديث. <ref>أحمد والترمذي، وصححه [[ابن خزيمة]] وابنو[[ابن حبان]] والحاكمو[[الحاكم]]. </ref>
 
فقد أخبر النبي {{صل}} في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قل أعوذ برب الناس، فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي وساوس الشر كله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
السطر 4٬867 ⟵ 4٬869:
رأيت الذي لا كله أنت قادر ** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
 
وقال [[المتنبي]]:
 
وأنا الذي جلب المنية طرفه ** فمن المطالب والقتيل القاتل
السطر 4٬961 ⟵ 4٬963:
فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم. وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان. فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم، وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه. ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي، وفي الصباح يحمد القوم السري والله الموفق لا رب غيره، ولا إله سواه.
 
==فصل في بيان ما اشتمل عليه قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية من آداب==
 
قوله عز وجل: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين } <ref>[ الأعراف: 55-56 ]</ref> . هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة. فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان، فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقًا، والمعبود لا بد وأن يكون مالكًا لنفع والضر.
 
ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًا ولا نفعًا وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } <ref>[ يونس: 18 ]</ref> ، وقوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } <ref>[ يونس: 106 ]</ref> ، وقوله تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا والله هو السميع العليم } <ref>[ المائدة: 76 ]</ref> ، وقوله تعالى: { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله } <ref>[ الأنبياء: 16 ]</ref> ، وقوله تعالى: { واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون } <ref>[ الشعراء: 69 ]</ref> ، وقوله تعالى: { واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } <ref>[ الفرقان: 3 ]</ref> ، وقال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرًا } <ref>[ الفرقان: 55 ]</ref> . فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم.
 
وهذا في القرآن كثير بين أن المعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعي للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي خوفًا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وعلى هذا فقوله تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } <ref>[ البقرة: 186 ]</ref> ، يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية قيل أعطيه إذا سألني وقيل أثيبه إذا عبدني والقولان متلازمان وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعًا فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له.
 
وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدًا هي من هذا القبيل، ومثال ذلك قوله: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } <ref>[ الإسراء: 78 ]</ref> ، فسر الدلوك بالزوال وفسر بالغروب وحكيا قولين في كتب التفسير وليسا بقولين بل اللفظ يتناولهما معًا، فإن الدلوك هو الميل ودلوك الشمس ميلها، ولهذا الميل مبدأ ومنتهى فمبدأه الزوال ومنتهاه الغروب. فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.
 
ومثاله أيضا ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل والقمر وإن ذلك ليس باختلاف بل يتناولهما لتلازمهما فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة.
 
ومن ذلك قوله عز وجل: { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم } <ref>[ الفرقان: 77 ]</ref> ، قيل: لولا دعاؤكم إياه وقيل دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافًا إلى المفعول وعلى الأول مضافًا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه.
 
ومن ذلك قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } <ref>[ غافر: 60 ]</ref> فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ولهذا عقبه بقوله: { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } <ref>[ غافر: 60 ]</ref> . فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن ذر عن نسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله {{صل}} يقول على المنبر: «إن الدعاء هو العبادة»، ثم قرأ: { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } <ref>[ غافر: 60 ]</ref> . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
 
وأما قوله تعالى: { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } <ref>[ الحج: 73 ]</ref> ، وقوله: { إن يدعون من دونه إلا إناثًا } <ref>[ النساء: 117 ]</ref> ، وقوله: { وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } <ref>[ فصلت: 48 ]</ref> ، وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم. فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:
 
أحدها: أنهم قالوا: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } <ref>[ الزمر: 3 ]</ref> ، فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم.
 
الثاني: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخر بأنه العبادة كقوله: { وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون } <ref>[ الشعراء: 92 ]</ref> ، وقوله: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } <ref>[ الأنبياء: 98 ]</ref> ، وقوله: { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } ، وهو كثير في القرآن، فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها.
 
الثالث: أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله، فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها.
 
ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوإئجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة.
 
وقوله تعالى: { فادعوا الله مخلصين له الدين } <ref>[ غافر: 14 ]</ref> ، هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده واخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره.
 
وأما قول إبراهيم الخليل {{صل}}: { إن ربي لسميع الدعاء } <ref>[ إبراهيم: 39 ]</ref> ، فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام، لأنه سميع لكل مسموع، وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء، ودعاء الطلب، وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا.
 
وأما قول زكريا: { ولم أكن بدعائك رب شقيًا } <ref>[ مريم: 4 ]</ref> ، فقد قيل: إنه دعاء المسألة والمعنى إنك عودتني اجابتك واسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه. كما حكي أن رجلًا سأل رجلًا وقال: أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا وكذا فقال: مرحبًا بمن توسل إلينا بنا، وقضى حاجته، وهذا ظاهر ههنا. ويدل عليه أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد وجعله وسيلة إلى ربه. فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده من قضاء حوائجه، وإجابته إلى ما سأله.
 
وأما قوله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } <ref>[ الإسراء: 110 ]</ref> ، فهذا الدعاء المشهور وإنه دعاء المسألة وهو سبب النزول، قالوا: كان النبي {{صل}} يدعو ربه فيقول مرة: يا الله ومرة يا رحمن، فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن عباس: سمع المشركون النبي {{صل}} يدعو في سجوده يا رحمن يا رحيم، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو مثنى مثنى فأنزل الله هذه الآية: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } <ref>[ الإسراء: 110 ]</ref> .
 
وقيل: إن الدعاء ههنا بمعنى التسمية. كقولهم: دعوت ولدي سعيدًا أو ادعه بعبد الله ونحوه والمعنى سموا الله أو سموا الرحمن، فالدعاء ههنا بمعنى التسمية. وهذا قول الزمخشري. والذي حمله على هذا قوله أيًا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، فإن المراد بتعدده معنى أي وعمومها ههنا تعدد الأسماء ليس إلا، والمعنى أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى إما الله وإما الرحمن، فله الأسماء الحسنى، أي فللمسمى سبحانه الأسماء الحسنى، والضمير في له يعود إلى المسمى. فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التسمية. وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية، وليس هو عين المراد. بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب، بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب. فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا فتأمله. والمعنى أيًا ما تُسَمّوا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم والله أعلم.
 
وأما قوله تعالى: { إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } <ref>[ الطور: 28 ]</ref> .
 
فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال، رغبة ورهبة والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض. والفوز والنجاة، إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب.
 
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف: { ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها } <ref>[ الكهف: 14 ]</ref> ، أي لن نعبد غيره، وكذلك قوله تعالى: { أتدعون بعلًا وتذرون أحسن الخالقين } <ref>[ الصافات: 125 ]</ref> .
 
وأما قوله تعالى: { وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } <ref>[ القصص: 64 ]</ref> ، فهذا من دعاء المسألة يبكتهم الله عز وجل، ويخزيهم يوم القيامة بآراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم، وليس المراد اعبدوهم، وهو نظير قوله تعالى: { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } <ref>[ الكهف: 52 ]</ref> .
 
وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة وأنها هل نقلت عن مسماها في اللغة فصارت حقيقة شرعية منقولة، أو استعملت في هذه العبادة مجازًا للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائط؛ وعلى ما قررناه لا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء، إما دعاء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع؛ فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء. فتأمله.
 
إذا عرف هذا فقوله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية } <ref>[ الأعراف: 55 ]</ref> ، بتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة. متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه واسراره قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك إن الله تعالى يقول: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية } <ref>[ الأعراف: 55 ]</ref> ، وإن الله ذكر عبدًا صالحًا ورضي بفعله فقال: { إذ نادى ربه نداء خفيًا } <ref>[ مريم: 3 ]</ref> ، وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة.
 
أحدها: إنه أعظم إيمانًا، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.
 
وثانيها: إنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع صوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
 
وثالثها: إنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته وسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلًا.
 
ورابعها: إنه أبلغ في الإخلاص.
 
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء. فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته، فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.
 
وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدًا أنه دال على قرب صاحبه من الله وإنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه. فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
 
ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: { إذ نادى ربه نداء خفيًا } <ref>[ مريم: 3 ]</ref> ، فكلما استحضر القلب. قرب الله تعالى منه، وإنه أقرب إليه من كل قريب. وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسًا له يسمع خفي كلامه، فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه، وقد أشار النبي {{صل}} إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: «أربعوا على أنفسكم إنكم تدعون سمعيًا قريبًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، وقال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } <ref>[ البقرة: 186 ]</ref> . وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه، فأنزل الله عز وجل: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } . وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء. وإنما يسأل مسألة القريب المناجي لا مسألة البعيد المنادي. وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربًا عامًا من كل أحد فهو قريب من داعيه، وقريب من عابده، وأقرب ما يكون العبد من ربه. وهو ساجد وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد كما قال النبي {{صل}} راويًا عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا»، فهذا قربه من عابده.
 
وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } وقوله: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية } فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب.
 
وأما قربه تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر وشأن آخر كما قد ذكرناه في كتاب التحفة المكية على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدًا لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب وإياك، ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها. وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح، وقابلهم من غلظ حجابه فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه، وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوف فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا. وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء، وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق والمقصود ههنا الكلام على هذه الآية.
 
وسابعها: أنه ادعى إلى دوام الطلب، والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه. وهدا نظير من يقرأ ويكرر رافعًا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
 
وثامنها: إن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه، لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره. وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والإنس. فشوشت عليه ولا بد ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته، فيضعف أثر الدعاء لكفى، ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
 
وتاسعها: إن أعظم النعم، الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له.
 
وقد قال يعقوب ليوسف: { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين } <ref>[ يوسف: 5 ]</ref> ، وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها، فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدًا ويتكتمون به غاية التكتم، كما أنشد بعضهم في ذلك:
 
من سارروه فأبدى السر مجتهدًا ** لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
 
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ** وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
 
لا يأمنون مذيعًا بعض سرهم ** حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
 
والقوم أعظم شيء كتمانًا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ولا سيما للمبتدي والسالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا يخشى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله، ليقتدي به ويؤتم به لم يبال. وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله.
 
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه. يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله، فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين. وهذه فائدة شريفة نافعة.
 
وعاشرها: إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي {{صل}}: «أفضل الدعاء الحمد لله»، فسمي الحمد لله دعاء وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلا أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب من ربه حاجة ما. فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل إن الذاكر متعرض للنوال وإن لم لكن مصرحًا بالسؤال، فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض. كما قال أمية بن أبي الصلت:
 
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حياؤك إن شيمتك الحياء
 
إذا أثنى عليك المرء يومًا ** كفاه من تعرضه الثناء
 
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، وهو طلب المحب فهو دعاء حقيقة. بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب، الذي هو دونه والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول } <ref>[ الأعراف: 205 ]</ref> ، فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه.
 
قال مجاهد وابن جريج أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح. وقد تقدم حديث أبي موسى كنا مع النبي {{صل}} في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنما تدعون سميعًا قريبًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، وتأمل كيف قال في آية الذكر: { واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة } <ref>[ الأعراف: 205 ]</ref> ، وفي آية الدعاء: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية } فذكر التضرع فيهما معًا، وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء.
 
وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها. وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولا بد فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته، والمحبة مالم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره لأنها توجب الادلال والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له، فإذا حصل المقصود، فالاشتغال بالوسيلة باطل.
 
ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة. فقال له الشيخ: أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه، فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، أو كما قال، وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه فقال له: هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله. فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعي حفظ قلبه، أو كما قال.
 
فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة. فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة. وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته. ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. وقد جمع تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } <ref>[ الإسراء: 57 ]</ref> ، فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف، فهذه طريقة عباده وأوليائه، وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات. ويقول المحب: لا يضره ذنب.
 
وصنف بعضهم في ذلك مصنفًا وذكر فيه أثرًا مكذوبًا: إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب، وهذا كذب قطعًا مناف للإسلام، فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن. ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ - وأما عن رسول الله {{صل}} فمعاذ الله من ذلك - فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب، لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبًا لله، وإذا لم يصر على الذنب، بل بادر إلى التوبة النصوح منه، فإنه يمحا أثره ولا يضره الذنب، وكلما أذنب وتاب وإلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره. فهذا المعنى صحيح.
 
والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب، والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها، فإذا لم يعن للمطية سوط ولا عصى يردها إذا حادت عن الطريق وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن هذه الثلالة فسد فسادًا لا برجى صلاحه أبدًا ومتى ضعف فيه شيء من هذه، ضعف إيمانه بحسبه.
 
فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر والخفية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخيفة بالدعاء، والخفية بالذكر أيضا، فإنه قال: { اذكر ربك في نفسك } فلم يحتج بعدها أن يقول خفية. وقال في الدعاء: { وادعوه خوفًا وطمعًا } فلم يحتج أن يقول في الأول: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } فانتظمت كل واحدة من الآيتين للخيفة والخفية والتضرع أحسن النظام. ودلت على ذلك أكمل دلالة.
 
وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء، لأن الدعاء مبني عليه، فإن الداعي ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه. كما تقدم فذكر في كل آية ما هو اللائق بها، والأولى بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
 
==فصل في قوله تعالى: إنه لا يحب المعتدين والمراد بهم المعتدون في الدعاء==
 
وقوله تعالى: { إنه لا يحب المعتدين } قيل: المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء، كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك. وقد روى أبو داود في سننه من حديث حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل، سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله {{صل}} يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»، وعلى هذا، فالاعتداء في الدعاء تارة، بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يطلعه على غيبه أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدًا من غير زوجة ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله. وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء. قال ابن جريج من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء والنداء في الدعاء والصياح.
 
وبعد، فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادًا بها فهو من جملة المراد. والله لا يحب المعتدين في كل شيء دعاء كان أو غيره، كما قال: { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } <ref>[ المائدة: 87، البقرة: 19 ]</ref> ، وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم الذين يدعون معه غيره، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانًا، فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها. فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلًا في قوله: { إنه لا يحب المعتدين } .
 
ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع بل دعاء مدل كالمستغني بما عنده المدل على ربه به، وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد.
 
ومن الاعتداء أن تعبده بما لم يشرعه وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه، فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين:
 
أحدهما: محبوب للرب تبارك وتعالى مرضي له، وهو الدعاء تضرعًا وخفية.
 
والثاني: مكروه له مبغوض مسخوط وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه الله وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير، وهو أنه لا يحب فاعله، ومن لم يحبه الله فأي يناله وفي قوله: { إنه لا يحب المعتدين } عقب قوله: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } دليل على أن من لم يدعه تضرعًا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم، فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع لله تضرعًا وخفية. ومعتد بترك ذلك.
 
==فصل في قوله تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها أي بالمعاصي والدعاء لغير الله==
 
وقوله تعالى: { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } <ref>[ الأعراف: 56، 85 ]</ref> ، قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله، بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره. قال تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } <ref>[ الروم: 41 ]</ref> ، وقال عطية في الأية: ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم، وقال غير واحد من السلف، إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول: اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر.
 
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله {{صل}} هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والإتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة. فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله.
 
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله.
 
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عمومًا وخصوصًا. ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.