الفرق بين المراجعتين لصفحة: «موافقات الشاطبي - الجزء الرابع»
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل |
ط تدقيق إملائي. 37 كلمة مستهدفة حالياً. |
||
سطر 26:
26 لواحقه أو ما أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى وبيان أحكام الصوم ومما فيه ما لم يقع النص عليه في الكتاب وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان والبيوع وأحكامها والجنايات من القصاص وغيره كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن وهو الذى يظهر دخوله تحت الآية الكريمة وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقد روى عن عمران بن حصين أنه قال لرجل إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسرا إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف والله ما نريد بالقرآن بدلا ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال كان الوحي ينزل على رسول الله ويحضره جبريل بالسنة التى تفسر ذلك قال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر يريد أنها تقضى عليه وتبين المراد منه وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى
27 ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعريف بمفاسدهما دفعا لها وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام وهى الضروريات ويلحق بها مكملاتها والحاجيات ويضاف إليها مكملاتها والتحسينيات ويليها مكملاتها ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان وهى الإسلام والإيمان والإحسان فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وهى الدعاء إليه بالترغيب والترهيب وجهاد من عانده أو رام إفساده وتلافي النقصان الطارئ في أصله وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان وهى إقامة أصله بشرعية التناسل وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب وذلك ما يحفظه من داخل والملبس والمسكن وذلك ما يحفظه من
28 خارج وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وذلك حفظه عن وضعه
29 في القرآن والسنة وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده وهو في القرآن ومكملة شرعية الحد أو الزجر وليس في القرآن له أصل على الخصوص فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا فبقى الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف هذا وجه في الاعتبار في الضروريات ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد فيحصل المراد أيضا وإذا نظرت
30 فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء في الإغماء والجمع والصلاة قاعدا وعلى جنب وفى الصوم بالفطر في السفر والمرض وكذلك سائر العبادات فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها والسنة أول قائم بذلك وبالنسبة إلى النفس أيضا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص كالميتة للمضطر وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر وإباحة الطلاق من أصله والخلع وأشباه ذلك وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي
31 لا انفكاك عنها في الغالب ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهادي وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه فرجع إلا تفسير ما أجمل من الكتاب وما فسر من ذلك في الكتاب فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على رأي من رأى أنها من هذا القسم وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات
سطر 51:
51 إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل والثامن حديث سمرة بن جندب أن النبي قال صلاة الوسطى صلاة العصر وقال يوم الأحزاب اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس والتاسع حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز والعاشر حديث أنس في الكبائر قال عليه الصلاة والسلام فيها الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر وجميعها تفسير لقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية
52 وهذا النمط في السنة كثير ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التى تستعملها العرب أو نحوها وأول شاهد في هذا الصلاة والحج والزكاة والحيض والنفاس واللقطة والقراض والمساقاة والديات والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه فلم يوف به إلا على التكلف المذكور والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التى خرج مسلم ابن الحجاج في كتابه المسند الصحيح دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب والله الموفق للصواب فصل وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التى قالوا إن القرآن لم ينبه عليها فقوله عليه الصلاة والسلام يوشك رجل منكم متكئا على
53 أريكته إلى آخره لا يتناول ما نحن فيه فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى وقوله ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله صحيح على الوجه المتقدم إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه وإما بالطريقة القياسية وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة ومر الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وعن العقل وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى وإن استنصروكم
54 وأما إخفار ذمه المسلم فهو من باب نقض العهد وهو في القرآن وأقرب الآيات إليه قوله تعالى والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار وفي الآية الأخرى أولئك هم الخاسرون وقد مر تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن وأما من تولى قوما بغير إذن مواليه فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل وأيضا فإن الانتفاء من ولاء صاحب الولاء الذى هو لحمة كلحمة النسب كفر لنعمة ذلك الولاء كما هو في الانتساب إلى غير الأب وقد قال تعالى فيها والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون وصدق هذا المعنى ما في الصحيح من قوله أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم وفيه إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وحديث معاذ ظاهر في أن ما لم يصرح به في القرآن ولا حصل بيانه فيه فهو
55 مبين في السنة وإلا فالاجتهاد يقضي عليه وليس فيه معارضة لما تقدم المسألة الخامسة حيث قلنا أن الكتاب دال على السنة وإن السنة إنما جاءت مبينة له فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين أحدهما أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن فهذا لا نظر في أنه بيان له كما في قوله تعالى وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة قال دخلوا يزحفون على أوراكهم وفي قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم قال قالوا حبة في شعرة وفي قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية قال يدعى نوح فيقال هل بلغت فيقول نعم فيدعى قومه فيقال هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته قال فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ فذلك
سطر 89:
89 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الاجتهاد وللنظر فيه أطراف أ طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الإجتهاد ب وطرف يتعلق بفتواه ج وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والإقتداء به فأما الأول ففيه مسائل المسألة الأولى الاجتهاد على ضربين أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذى لا خلاف
90 بين الأمة في قبوله ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله وذلك أن الشارع إذا قال وأشهدوا ذوى عدل منكم وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء بل ذلك يختلف اختلافا متباينا فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها وبينهما مراتب لا تنحصر وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد كما إذا أوصى بماله للفقراء فلا شك
91 أن من الناس من لا شئ له فيتحقق فيه
92 تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا فلا بد من النظر فيها بالإجتهاد وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا وهو نظر اجتهاد أيضا وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات وقيم المتلفات ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق بل ذلك منقسم إلى الضربين وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب وهذا كله بين لمن شدا في العلم ومن القواعد القضائية البينة على المدعي واليمين على من أنكر فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعه بل لا يمكنه توجيه الحجاج ولا طلب الخصوم بما عليهم إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه وهو أصل القضاء ولا يتعين ذلك إلا
93 بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة وهو تحقيق المناط بعينه فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه وكذلك سائر تكليفاته ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون وكله اجتهاد وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة كالمثل في جزاء الصيد فإن الذى جاء في الشريعة قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم وهذا ظاهر في اعتبار المثل إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ككون الكبش مثلا للضبع والعنز مثلا للغزال والعناق مثلا للأرنب والبقرة مثلا للبقرة الوحشية والشاة مثلا للشاة من الظباء
سطر 119:
119 لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فنفى أن يقع فيه الاختلاف ألبتة ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال وفي القرآن فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلا شيء واحد إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع وهذا باطل وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
120 الآية والبينات هي الشريعة فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله ألبتة لما قيل لهم من بعد كذا ولكان لهم فيها أبلغ العذر وهذا غير صحيح فالشريعة لا اختلاف فيها وقال تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فبين أن طريق الحق واحد وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية إلى قوله ولا تتفرقوا فيه ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم فقال وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقال تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد قال المزني صاحب الشافعي ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة والثاني أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ
121 على الجملة وحذروا من الجهل به والخطأ فيه ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا والفرض خلافة فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ من غير نص قاطع فيه فائدة ولكان الكلام
122 الفرض وكذلك الثالث إذ كان الفرض توجه الطلب بهما فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم لا يقال إن الدليلين بحسب شخصين أو حالين لأنه خلاف الفرض وهو أيضا قول واحد لا قولان لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف وهو المطلوب والرابع أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير نظر في ترجيحه على الآخر والقول بثبوت الخلاف
123 لا تفعل فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله لا تفعل ولا طلب تركه لقوله افعل فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف فلا يتصور توجهه على حال والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل لفساد الاختلاف
124 ومجال الاجتهاد لما قصده الشارع
125 وتجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي
126 بالنسبة إليه كخصال الكفارة والاختلاف عند العلماء لا ينشأ إلا من تعارض الأدلة فقد ثبت إذا
127 الإرادة وقد قال تعالى هدى للمتقين وقال يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ومر بيانه في كتاب الأوامر فمسألة المتشابهات من الثاني لا من الأول وإذا كان كذلك لم يدل على وضع الاختلاف شرعا بل وضعها للابتلاء فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم ويقع الزائغون في إتباع أهواءهم ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها وأن الزائغين هم المخطئون فليس في المسألة إلا أمر واحد لا أمران ولا ثلاثة فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ولا أصلا فيه وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ بل كان يكون الجميع مصيبين لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هى بموافقة قصد الشارع وأن
128 الخطأ بمخالفته فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه لأنها دائرة بين طرفي نفي وإثبات شرعيين فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحدا فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف ولا هو حجة من حجج الاختلاف بل هو مجال استفراغ الوسع وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا وإن قيل إن الكل مصيبون فليس على الإطلاق بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به لأن الإصابة عندهم إضافية لا حقيقية فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق لكان فيه حجة وليس كذلك فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد غير أنه إضافي فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد لا قولان مقرران فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه
سطر 133:
133 يتخير في الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم وقد مر الجواب عنه وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال ليس بداخل تحت ظاهر الحديث لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه فهما صاحبا دليلين متضادين فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى وقد ما مر فيه فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم
134 وهو باطل بالإجماع وأيضا فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفى اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فإختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ولذلك أعقبها بقوله ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية وهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله أصحابي كالنجوم وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف لا يقال إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز فكذلك بعد لقائه والاجتماع طردي لأنا نقول كلا بل للاجتماع أثر لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليل ولم يطلع على معارضة بعد البحث عليه جاز له العمل أما إذا اجتمعا واختلفا عليه فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ولقد
135 أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور لا قاصدا لاتباع هواه فيه ولا لمقتضى التخيير على الجملة فإن التخيير الذى هو معنى الإباحة مفقود ههنا واتباع الهوى ممنوع فلا بد من هذا القصد وفى هذا الاعتذار ما فيه وهو تناقض لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه فصل وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتى قريبه أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك فأما ما لا يتعلق به فصل قضية بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته ففيه من المعايب ما تقدم وحكى عياض
136 يقول وإنما أردت غير هذا فقال ما عندي غير ما تسمع قال فتردد إليه ثلاثا كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال يا بن فلان ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم قلتم قال مالك قال مالك فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص الحسن يقول لا حنث عليه في يمينه فقال السائل الله أكبر قلدها الحسن أو كما قال وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين فالأمر أشد وفى الموازية كتب عمر بن الخطاب لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك قال ابن المواز لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد وذلك عندي أن يقضى بقضاء بعض من مضى ثم يقضى في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه وهو أيضا من قول من مضى وهو في أمر واحد ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضى على هذا بفتيا قوم ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافة بفتيا قوم آخرين إلا فعل فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا وما قاله صواب فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر مع عدم تطرق التهمة للحاكم وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الإتباع ليحيى ابن يحيى لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم
137 وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى فصرف يحيى رسوله وقال له لا أشير عليه بشيء إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه وركب من فوره إلى يحيى وقال له لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع وسوف أقضي له غدا إن شاء الله فقال له يحيى وتفعل ذلك صدقا قال نعم قال له فالآن هيجت غيظي فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله متخيرا في الأقوال فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضى برضى مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به ولا في إن رضيته منك فاستعف من ذلك فإنه أستر لك وإلا رفعت في عزلك فرفع يستعفي فعزل وقصة محمد بن يحيى ابن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها عياض وكانت مما غض من منصبه وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وأن لا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه وتأذيه برؤيتهم أو إن تطلعه من علاليه فقال له ابن بقي لا حيلة عندي فيه وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له فتكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة فتكلم ابن بقي معهم فلم يجعلوا إليه سبيلا فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصودة وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ويقول إنهم حجروا عليه واسعا ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة ونقلدها وناظر أصحابه فيها فوقع الأمر بنفس الناصر وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها
138 فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه وابن لبابة ساكت فقال له القاضي ما تقول أنت يا أبا عبد الله قال أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يهتدى بهم أكثر الأمة وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه وله في السنة فسحة وأنا أقول فيه يقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأيا فقال له الفقهاء سبحان الله تترك قول مالك الذى أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه فقال له محمد بن يحيى ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتهم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم قالوا بلى قال فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة فسكتوا فقال للقاضي أنه إلى أمير المؤمنين فتياي فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس وبقى مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد ابن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثم جيء
139 من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة فهنى بالولاية وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة قال القاضي عياض ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذى حل سجل السخطة إلى سجل السخطة فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه أو كما قال وذكر الباجي في كتاب التبيين لسنن المهتدين حكاية أخرى
140 قال وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر إن الذى لصديقي على إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالروية التى توافقه قال الباجي ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ولو استجازه لم يعلن به ولا أخبر به عن نفسه قال وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية أم لعل فيها رخصة وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به
141 فصل وقد زاد هذا الأمر على قدره الكفاية حتى صار الخلاف
142 ابن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ويقول إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له لقد حجرت واسعا وملت بالناس إلى الحرج وما
143 إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق وإن بلغها لم يصح له القولان
144 ما فعلت إلا بقول عالم لأنه حيلة من جملة الحيل التى تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية وتسليط المفتى العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية وجهل بالشريعة وغش
145 بالحنيفية السمحة يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد بل بتحصيل المصالح وأنت تعلم بما تقدم ما
146 وقد وقع
147 قاعدة مصلحية ضرورية إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب لأن ما وجب للشيء وجب لمثله وظهر أن تلك الضرورة التى ادعيت
148 أمر معروف وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد التى يكثر تعدادها ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك ولكن فيما تقدم منه كاف والحمد لله فصل وقد بنوا أيضا على هذا المعنى مسألة أخرى وهى هل يجب الأخذ بأخف القولين أم بأثقلهما واستدل لمن قال بالأخف
149 بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر الآية وقوله وما جعل عليكم
150 فصل فإن قيل فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة
151 فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة منهم ابن عبد البر فإنه قال الخلاف لا يكون حجة
152 جمعا بين متنافيين ولا قولا بهما معا هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف وسيأتى للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله على أن الباجي حكى خلافا
153 الماء السخن يفسد الحج وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين وما أشبه ذلك ولا يكون هذا التجويز سببا
154 لا يجوز أن يتقدم على علته قال الباجي ذلك غير ممتنع كالإجماع فإن الحكم يثبت به وإن حدث
155 وأما
156 بالعفو أو غيره وإن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو
157 عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإن قوى
158 والضعف ويجرى مجرى النفي
159 ومن ذلك مسألة زكاة الحلى وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة
160 به ليس من الأمة فالوسط مختلف فيه هل هو من الأمة أم لا وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق واختلفوا
161 ابن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال أتدرى أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا
162 الاختلاف أن يفتى ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلى وعن سعيد بن أبي عروبة من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما وعن قبيصة بن عقبه لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس وكلام الناس هنا كثير وحاصلة معرفة مواقع الخلاف لا حفظ مجرد الخلاف ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر فلا بد منه لكل مجتهد وكثيرا ما تجد هذا للمحققين
163 الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا يمكن التفاهم بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه وأما المعاني مجردة فالعقلاء مشتركون
164 بالمقيس عليه وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة النصوص عليها أو التى أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما وما سواه فراجع إلى النظر العقلي وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب
165 على فرض أنهم لم يبلغوا
166 القرءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق
167 المنكرين للشريعة ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون
168 المسألة الثامنة فيعرض فيه الخطأ
169 الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا وكيف زيغة الحكيم قال هى كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفئ وأن يراجع الحق وقال سلمان الفارسي كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان وننتهي عما ينتهي عنه فلان وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان الحديث وعن ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه فيترك قوله ثم يمضى الاتباع وعن ابن مبارك أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي أي بني إن أخذت بشر ما
170 وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع
171 التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى وقد روى عن ابن المبارك أنه قال كنا في الكوفة فناظروني في ذلك يعني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي بالرخصة فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى فقال قائلهم يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا
172 خيارا قال فقلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى والحق ما قال ابن المبارك فإن الله تعالى يقول فإن تنازعتم
173 فإن قيل فماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك فالجواب أنه من وظائف المجتهدين فهم العارفون بما وافق أو خالف وأما غيرهم فلا تمييز لهم
174 بعض الحديث وفوت بعضه وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها
175 رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها ولا مسلم لما روى عنهم
176 لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ولا غير ذلك مما يذكرون بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم
177 أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الإعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة فقال في حديثه وأن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة لم يخص من ذلك شيء دون شيء وفي أبي داود وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهى الجماعة وهى بمعنى الرواية التى قبلها وقد
178 روى ما يبين هذا المعنى ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه وإن كان غيره قد هون الأمر فيه أنه قال ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله ما أنا عليه وأصحابي وهو ظاهر فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية فصل وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التى يظن أن الحديث شامل لها وأنها مقصودة الدخول تحته فإنه جاء في القرآن أشياء تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها فهو آخذ في بدعة خارج عن مقتضى الشريعة وكذلك في الأحاديث الصحيحة فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها وربما ورد التعيين في بعضها كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج إن من ضئضئي هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية
179 وفي رواية دعه يعني ذا الخويصرة فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام الحديث إلى أن قال آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر الخ فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء وذكر لهم علامة في صاحبهم وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين أحدهما اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داود الظاهري وقال إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه الصور والآيات وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في مشكل القرآن وكتابه في مشكل الحديث يبين لك صحة هذا الإلزام فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر
180 والثاني قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام
181 ولكن الغالب
182 وسلم يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم قلت الله ورسوله أعلم قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة وأنا منهم بري وهم مني برءآء فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها كما عين رسول الله الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفون ويحذر منهم ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى وخرج أبو داود عن عمر ابن أبي قرة قال كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون
183 إلى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله فقال إن رسول الله يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ولقد علمت أن رسول الله خطب فقال أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر فهذا من سلمان حسن من النظر فهو جار في مسألتنا فإن قيل فالبدع مأمور باجتنابها واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشديد بهم وتقبيح ما هم عليه فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز فالجواب أن النبي نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ونبه على البدع من غير تفصيل وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس فنحن أولى بذلك معشر الأمة وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع وأنها لاحقة
184 فى جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد فهو ممكن أن يكون هو المراد
185 فإن قيل فالعلماء يقولون خلاف هذا وإن الواجب هو التشديد بهم والزجر لهم والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين فالجواب أن ذلك حكم فيهم كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم كما يقتل تارك الصلاة وإن كان مقرا إلى ما دون ذلك وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث فتوجه الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر فصل ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة وعلامات أيضا في التفصيل فأما عالمات الجملة فثلاث إحداها الفرقة التى نبه عليها قوله تعال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم
186 يجدوا فيه نصا واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كإختلاف أبي بكر وعمر وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك مما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت المرذية التى حذر منها رسول الله وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه قال فكل مسألة حدثت
187 كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قالوه وهو ظاهر
188 إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أخذ
189 العالم وغيره مما
190 قال أنس فأخبر بها معاذ عند موته تأثما ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبى هريرة أنظره
191 العلم قبل كباره وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة
192 فصل هذه الفرق وإن كانت على ما هى عليه من الضلال فلم تخرج من الأمة ودل على ذلك قوله تفترق أمتي فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها وقد جاء
193 فإن قيل فقد اختلف العلماء
194 الخوارج لا يدل على الكفر إذ للقتل أسباب غير الكفر كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل وما أشبه ذلك فالحق أن لا يحكم بكفر من هذا سبيله وبهذا كله يتبين أن التعيين
195 خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول
196 لأنا نقول وتقدم أيضا أنه لا بد من اعتبار المسببات
197 بها إلى الحكام الآية وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية وقوله رسلا مبشرين ومنذرين الآية وقوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية وقوله ولكم
198 فقال له لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله هذا معنى الكلام دون لفظه وفى حديث الأعرابي الذي بال
199 حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل بأن يشترى البائع سلعته من مشتريها بخمسة نقدا فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل والسلعة لغو لا معنى لها
200 يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس بمقتضى العادة ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المال أيضا لأن البيع إذا كان مصلحة جاز وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى فكل عقدة منهما لها مآلها ومآلها
201 على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر ومنها قاعدة الحيل فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية
202 ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضا لكن على حكم الانفراد فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة كإنفاق المال عند رأس الحول وأداء الدين منه وشراء العروض به وغيرها مما لا تجب فيه زكاة وهذا الإبطال صحيح جائز لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع وأما إبطالها ضمنا فلا وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ولا يقول بهذا واحد منهم ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل والخلاف إنما وقع في أمر آخر ومنها قاعدة مراعاة الخلاف وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت
سطر 276:
276 بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه لا على أمر حصل لذلك المقتدى به لكنه قصد الإقتداء بناء على ما عند المقتدى به فأدى إلى بناء الإقتداء على غير شيء وذلك باطل بخلاف الإقتداء بناء على ظهور علاماته فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدي به علما أو ظنا وإياه قصد المقتدى بإقتدائه فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة والثالث أن هذا الإقتداء يلزم منه التناقض لأنه إنما يقتدي به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا وإذا لم يقتضه لم يكن الإقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر وقد فرضنا أنه كذلك هذا خلف متناقض وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن والفرق بينهما ظاهر لأمرين أحدهما أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك حسبما دلت عليه الأدلة الظنية بخلاف تحسين الظن فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أولا والثاني أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدي به فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن قواه وثبته بتكراره في فكره
277 ووعظ النفس في اعتقاده وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ونفاه وكرر نفيه على فكرة ومحاه عن ذكره فإن قيل إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد والانقطاع إلى الله ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب شأن الأحكام الواردة على هذا الوزان فالجواب أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره والظن الذى يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه وفرض مسألتنا ليس هكذا بل على جهة أن لا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ويضعف الاحتمال الآخر كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته فمثل هذا له في هذه الدار حالان حال دنيوي به يقيم معاشه ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه وحال أخروي به يقيم أمر آخرته فأما هذا الثاني فلا كلام فيه وهو متعين في نفسه وغير محتمل إلا في القليل ولا اعتبار بالنوادر وأما الأول فهو مثار
278 الاحتمال فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه
279 ما تقدم فلقائل أن يقول إن ما قاله غير متعين لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه لأنه لا حجر عليه ولا قدح فيه ينسب إليه فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب من الدنيا أشياء وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ويتعين ذلك في أمور كحبه للنساء والطيب والحلواء والعسل والدباء وكراهيته للضب وأشباه ذلك وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له وهو منقول كثيرا ووجه ثان وهو أنه قد دعا عليه الصلاة والسلام بأمور كثيرة دنيوية كاستعاذته من الفقر والدين وغلبة الرجال وشماتة الأعداء والهم وأن يرد إلى أرذل العمر وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ويدل عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله لكل نبى دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم وهو الدعاء عليهم كقوله وقال نوح ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا حسبما نقله المفسرون وكان من الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط فكذلك دعوة النبي لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم
280 وأمر ثالث وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله عليه الصلاة والسلام كان من أفعال الجبلة الآدمية أولا إذ يمكن أن يقال إنه قصد بها أمورا أخروية وتعبدا مخصوصا وليس كذلك عند العلماء بل كان يلزم منه أن لا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به وكذلك إذا لم يبين جهته لأنه محتمل أيضا فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة فإذا ثبت صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه مع أن الحديث كما تقدم يقتضى أن الدعوة مخصوصة بالأمة لقوله فيه لكل نبي دعوة مستجابة في امته فليست مخصوصة به فلا يحصل
سطر 307:
307 كقوله في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وهو قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وقال ولهم فيها أزواج مطهرة وقال والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وهو كثير حتى إنه قال في الجنة فيها أنهار من ماء غير آسن إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة وقال والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى أن قال وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا إلى قوله فيه شفاء للناس وهو كثير أيضا فأنزل الأحكام وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لها من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات وقال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة يعني في الدنيا ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة وقال حين أمتن بالنعم كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور وقال في بعضها ولتبتغوا من فضله فعد طلب الدنيا فضلا كما عد حب الإيمان وبغض الكفر فضلا والدلائل أكثر من الاستقصاء فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني وهو ظاهر لأن عدم اعتبارها وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته وإتصافه بصفات الكمال وعلى أن الآخرة حق فهي مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق وهذا لا تنفصل
308 الدنيا فيه من الآخرة بل هو في الدنيا لا يفنى لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم الذى تعطيه فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه وهو لا يفنى وإن فنى منها ما يظهر للحس وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة فتكون هنالك نعيما فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه كجعل اللفظ دليلا على المعنى باق وإن فنى العنوان وكذلك ضد كونها منقضية بإطلاق فالوصفان إذا متضادان والشريعة منزهة عن التضاد مبرأة عن الاختلاف فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين أو حالتين متنافيتين بيانه أن لها نظرين أحدهما نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفا متعرفا للحق ومستحقا لشكر الواضع لها بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا للذات ومآلا للشهوات انتظاما في سلك البهائم فظاهر أنها من هذه الجهة قشر بلا لب ولعب بلا جد وباطل بلا حق لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا من غير زائد ثم يزول عن قريب فلا يبقى منه شئ فذلك كأضغاث الأحلام فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به ولذلك صارت أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وفى الآية الأخرى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
309 والثاني نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم مبثوث فيها من كل شئ خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه فإذا نظر إليها العاقل وجد كل نعمة فيها يجب شكرها فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته وصار ذلك القشر محشوا لبا بل صار القشر نفسه لبا لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم ومن ههنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق كقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق أولم يتفكروا
310 لها من الجهة الأولى مذموم يسمى أخذه رغبة في الدنيا وحبا في العاجلة وضده هو الزهد فيها وهو تركها من تلك الجهة ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ولا يسمى أخذه رغبة فيها ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا ولأجله كان الصحابة طالبين لها مشتغلين بها عاملين فيها لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها وعلى اتخاذها مركبا للآخرة وهم كانوا أزهد الناس فيها وأورع الناس في كسبها فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار وحاش لله من ذلك إنما طلبوها من الجهة الثانية فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهم رضى الله عنهم وألحقنا بهم وحشرنا معهم ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه فتأمل هذا الفصل فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفى أحوال أهلها وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه كما يفهمون طلبها على غير وجهه فيمدحون ما لا يمدح شرعا ويذمون ما لا يذم شرعا وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق ولا الغنى أفضل بإطلاق بل الأمر في ذلك يتفصل فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموما وكان الفقر أفضل منه وإن أمال إلى إيثار الآجلة فإنفاقه في وجهه والاستعانة به على التزود للمعاد فهو أفضل من الفقر والله الموفق بفضله
311 فصل واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب فلذلك اختصر القول فيه وأيضا فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به قلما يذكرها الأصوليون ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع فلم نتعرض لها لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر النظر والله المستعان وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر والأصل العتيد لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح النظر الثاني في أحكام السؤال والجواب وهو علم الجدل وقد صنف الناس فيه من متقدم ومتأخر والذي يليق منه بغرض هذا الكتاب فرض مسائل المسائلة الأولى إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم وأعنى بالعالم المجتهد وغير العالم المقلد وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم فهذه أربعة أقسام الأول سؤال العالم وذلك في المشروع يقع على وجوه كتحقيق
سطر 326:
326 في الحديث في قوله أحجنا هذا لعامنا أو للأبد وأشباه ذلك بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل فذموا بذلك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم ووجه خامس وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية والعمومات المتفق عليها كقوله تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء وقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعد ما أقروا فيدعون لله شريكا وقال تعالى خلق
327 السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم لكن الأمر على خلاف ذلك فدل على أنه ليس مما يعترض عليه وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليل يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الإعتقادية فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية كقوله ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء الآية وقوله ألهم أرجل يمشون بها وأشباه ذلك واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة ولا قريبة من البديهة هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية فدخلوا في أشد مما منه فروا ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولا بالشريعة فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وإن طرق العقل إليها احتمالا فكذلك العبارات لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات وهى خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله فإذا لا يصح
328 في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة إلا أن يدل دليل على الخروج عنها فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح أو في باب البيان والله المستعان المسألة الخامسة الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية أو في جزئياتها الفرعية وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر فأما المجتهد الناظر لنفسه فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ضرورية كانت أو نظرية عقلية أو سمعية وأما الفروع فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ولا يفتقر إلى مناظرة لأن نظره في مطلبه إما نظر
329 في نفسه فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة وأيضا فالمجتهد أمين على نفسه فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته إذ هو عنده مجتهد مقبول القول فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة وهنا أمثلة كثيرة كمشاورة رسول الله السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمر المدينة فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال لم يبغ به بدلا ولم يستشر غيرهما وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة فما أنزل الله الحكم لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم فكلمه عمر في ذلك فلم يلتفت إلى وجه المصلحة
330 في ترك القتال إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة إلا من باب الاحتياط وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه وعند ذلك يلزمه أحد أمرين إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق وإما الاستعانة بمن يثق به وهو المناظر المستعين فلا يخلو أن يكون موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أولا فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها والأمر سهل فيها فإن اتفقا فحسن وإلا فلا حرج لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه وأمثلة هذا الأصل كثيرة يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله في المسائل المشكلة عليهم كما في سؤالهم عند نزول قوله الذين آمنوا ولم
|