الفرق بين المراجعتين لصفحة: «موافقات الشاطبي - الجزء الرابع»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل
 
OKBOT (نقاش | مساهمات)
ط تدقيق إملائي. 37 كلمة مستهدفة حالياً.
سطر 26:
26 لواحقه أو ما أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى وبيان أحكام الصوم ومما فيه ما لم يقع النص عليه في الكتاب وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان والبيوع وأحكامها والجنايات من القصاص وغيره كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن وهو الذى يظهر دخوله تحت الآية الكريمة وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقد روى عن عمران بن حصين أنه قال لرجل إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسرا إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف والله ما نريد بالقرآن بدلا ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال كان الوحي ينزل على رسول الله ويحضره جبريل بالسنة التى تفسر ذلك قال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر يريد أنها تقضى عليه وتبين المراد منه وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى
27 ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعريف بمفاسدهما دفعا لها وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام وهى الضروريات ويلحق بها مكملاتها والحاجيات ويضاف إليها مكملاتها والتحسينيات ويليها مكملاتها ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان وهى الإسلام والإيمان والإحسان فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وهى الدعاء إليه بالترغيب والترهيب وجهاد من عانده أو رام إفساده وتلافي النقصان الطارئ في أصله وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان وهى إقامة أصله بشرعية التناسل وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب وذلك ما يحفظه من داخل والملبس والمسكن وذلك ما يحفظه من
28 خارج وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وذلك حفظه عن وضعه فىفي حرام كالزنى وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرها وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد وشرعية الحد والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم وأصوله في القرآن والسنة بينتها وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك وكتنميته أن لا يفي ومكمله دفع العوارض وتلافي الأصل بالزجر والحد والضمان وهو
29 في القرآن والسنة وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده وهو في القرآن ومكملة شرعية الحد أو الزجر وليس في القرآن له أصل على الخصوص فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا فبقى الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف هذا وجه في الاعتبار في الضروريات ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد فيحصل المراد أيضا وإذا نظرت الىإلى الحاجيات وكذلك التحسينيات وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة فلم يتخلف عنها شيء والاستقراء يبين ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق
30 فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء في الإغماء والجمع والصلاة قاعدا وعلى جنب وفى الصوم بالفطر في السفر والمرض وكذلك سائر العبادات فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها والسنة أول قائم بذلك وبالنسبة إلى النفس أيضا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص كالميتة للمضطر وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر وإباحة الطلاق من أصله والخلع وأشباه ذلك وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي
31 لا انفكاك عنها في الغالب ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهادي وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه فرجع إلا تفسير ما أجمل من الكتاب وما فسر من ذلك في الكتاب فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على رأي من رأى أنها من هذا القسم وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات
سطر 51:
51 إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل والثامن حديث سمرة بن جندب أن النبي قال صلاة الوسطى صلاة العصر وقال يوم الأحزاب اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس والتاسع حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز والعاشر حديث أنس في الكبائر قال عليه الصلاة والسلام فيها الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر وجميعها تفسير لقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية
52 وهذا النمط في السنة كثير ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التى تستعملها العرب أو نحوها وأول شاهد في هذا الصلاة والحج والزكاة والحيض والنفاس واللقطة والقراض والمساقاة والديات والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه فلم يوف به إلا على التكلف المذكور والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التى خرج مسلم ابن الحجاج في كتابه المسند الصحيح دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب والله الموفق للصواب فصل وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التى قالوا إن القرآن لم ينبه عليها فقوله عليه الصلاة والسلام يوشك رجل منكم متكئا على
53 أريكته إلى آخره لا يتناول ما نحن فيه فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى وقوله ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله صحيح على الوجه المتقدم إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه وإما بالطريقة القياسية وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة ومر الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وعن العقل وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى وإن استنصروكم فىفي الدين فعليكم النصر وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره فعلى الغير النصر والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر فهو مما يرجع إلى النظر القياسي وأما أن لا يقتل مسلم بكافر فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقوله ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقوله لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة وهذه الآية أبعد ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودا في القرآن على التنصيص أو نحوه لم يجعلها علي خارجة عن القرآن حيث قال ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة إذ لو كان في القرآن لعد الثنتين دون قتل المسلم بالكافر ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم لأن الله تعالى قال الحر بالحر والعبد بالعبد فلم يقد من الحر للعبد والعبودية من آثار الكفر فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر
54 وأما إخفار ذمه المسلم فهو من باب نقض العهد وهو في القرآن وأقرب الآيات إليه قوله تعالى والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار وفي الآية الأخرى أولئك هم الخاسرون وقد مر تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن وأما من تولى قوما بغير إذن مواليه فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل وأيضا فإن الانتفاء من ولاء صاحب الولاء الذى هو لحمة كلحمة النسب كفر لنعمة ذلك الولاء كما هو في الانتساب إلى غير الأب وقد قال تعالى فيها والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون وصدق هذا المعنى ما في الصحيح من قوله أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم وفيه إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وحديث معاذ ظاهر في أن ما لم يصرح به في القرآن ولا حصل بيانه فيه فهو
55 مبين في السنة وإلا فالاجتهاد يقضي عليه وليس فيه معارضة لما تقدم المسألة الخامسة حيث قلنا أن الكتاب دال على السنة وإن السنة إنما جاءت مبينة له فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين أحدهما أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن فهذا لا نظر في أنه بيان له كما في قوله تعالى وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة قال دخلوا يزحفون على أوراكهم وفي قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم قال قالوا حبة في شعرة وفي قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية قال يدعى نوح فيقال هل بلغت فيقول نعم فيدعى قومه فيقال هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته قال فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ فذلك
سطر 89:
89 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الاجتهاد وللنظر فيه أطراف أ طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الإجتهاد ب وطرف يتعلق بفتواه ج وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والإقتداء به فأما الأول ففيه مسائل المسألة الأولى الاجتهاد على ضربين أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذى لا خلاف
90 بين الأمة في قبوله ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله وذلك أن الشارع إذا قال وأشهدوا ذوى عدل منكم وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء بل ذلك يختلف اختلافا متباينا فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها وبينهما مراتب لا تنحصر وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد كما إذا أوصى بماله للفقراء فلا شك
91 أن من الناس من لا شئ له فيتحقق فيه إسماسم الفقر فهو من أهل الوصية ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا وبينهما وسائط كالرجل يكون له الشئ ولا سعة له فينظر فيه هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التى لا تنضبط بحصر ولا يمكن استيفاء القول في آحادها فلا يمكن أن يستغنى ها هنا بالتقليد لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه والمناط هنا لم يتحقق بعد لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير وإن
92 تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا فلا بد من النظر فيها بالإجتهاد وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا وهو نظر اجتهاد أيضا وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات وقيم المتلفات ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق بل ذلك منقسم إلى الضربين وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب وهذا كله بين لمن شدا في العلم ومن القواعد القضائية البينة على المدعي واليمين على من أنكر فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعه بل لا يمكنه توجيه الحجاج ولا طلب الخصوم بما عليهم إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه وهو أصل القضاء ولا يتعين ذلك إلا
93 بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة وهو تحقيق المناط بعينه فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه وكذلك سائر تكليفاته ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون وكله اجتهاد وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة كالمثل في جزاء الصيد فإن الذى جاء في الشريعة قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم وهذا ظاهر في اعتبار المثل إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ككون الكبش مثلا للضبع والعنز مثلا للغزال والعناق مثلا للأرنب والبقرة مثلا للبقرة الوحشية والشاة مثلا للشاة من الظباء
سطر 119:
119 لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فنفى أن يقع فيه الاختلاف ألبتة ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال وفي القرآن فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلا شيء واحد إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع وهذا باطل وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
120 الآية والبينات هي الشريعة فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله ألبتة لما قيل لهم من بعد كذا ولكان لهم فيها أبلغ العذر وهذا غير صحيح فالشريعة لا اختلاف فيها وقال تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فبين أن طريق الحق واحد وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية إلى قوله ولا تتفرقوا فيه ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم فقال وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقال تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد قال المزني صاحب الشافعي ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة والثاني أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ
121 على الجملة وحذروا من الجهل به والخطأ فيه ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا والفرض خلافة فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ من غير نص قاطع فيه فائدة ولكان الكلام فىفي ذلك كلاما فيما لا يجنى ثمرة إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين لكن هذا كله باطل بإجماع فدل على أن الاختلاف لا الأصل له في الشريعة وهكذا القول في كل دليل مع معارضه كالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد وما أشبه ذلك فكانت تنخرم هذه الأصول كلها وذلك فاسد فما أدى إليه مثله والثالث أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع فإما أن يقال إن المكلف مطلوب بمقتضاها أولا أو مطلوب بأحدهما دون الآخر والجميع غير صحيح فالأول يقتضي افعل لا تفعل لمكلف واحد من وجه واحد وهو عين التكليف بما لا يطاق والثاني باطل لأنه خلاف
122 الفرض وكذلك الثالث إذ كان الفرض توجه الطلب بهما فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم لا يقال إن الدليلين بحسب شخصين أو حالين لأنه خلاف الفرض وهو أيضا قول واحد لا قولان لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف وهو المطلوب والرابع أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير نظر في ترجيحه على الآخر والقول بثبوت الخلاف فىفي الشريعة يرفع باب الترجيح جملة إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن ذلك فاسد فما أدى إليه مثله والخامس أنه شيء لا يتصور لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلا لم يتحصل مقصوده لأنه إذا قال فىفي الشيء الواحد افعل
123 لا تفعل فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله لا تفعل ولا طلب تركه لقوله افعل فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف فلا يتصور توجهه على حال والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل لفساد الاختلاف فىفي الشريعة فإن قيل إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضى وقوعه فىفي الشريعة وقد وقع والدليل عليه أمور منها إنزال المتشابهات فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار واختلاف الآراء والمدارك هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود فإن الاختلاف فيها قد وقع ووضع الشارع لها مقصود له وإذا كان مقصودا له وهو عالم بالمآلات فقد جعل سبيلا إلى الاختلاف فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع مجال الاختلاف جملة ومنها الأمور الاجتهادية التى جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا فكثيرا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية بحيث يظهر بينها التعارض
124 ومجال الاجتهاد لما قصده الشارع فىفي وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التى يختلف فىفي أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك ولذلك نبه فىفي الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران فهذا موضع آخر من وضع الخلاف بسبب وضع محاله ومنها أن العلماء الراسخين الأئمة المتقين اختلفوا هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد والجميع سوغوا هذا الاختلاف وهو دليل على أن له مساغا فىفي الشريعة على الجملة وأيضا فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب وأن الاختلاف حق وأنه غير منكر ولا محظور فىفي الشريعة وأيضا فطائفة من العلماء جوزوا أن يأتي فىفي الشريعة دليلان متعارضان
125 وتجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي فىفي الاختلاف وطائفة أيضا رأوا أن قول الصحابي حجة فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر كل واحد منهما حجة وللمكلف في كل واحد منهما متمسك وقد نقل هذا المعنى عن النبي حيث قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا وقال القاسم بن محمد لقد نفع الله بإختلاف أصحاب النبي في أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة ورأى أن خيرا منه قد عمله وعنه أيضا أي ذلك أخذت به لم يكن فىفي نفسك منه شيء ومثل معناه مروى عن عمر بن عبد العزيز قال ما يسرني أن لي بإختلافهم حمر النعم قال القاسم لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ بقول رجل منهم كان في سعة وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء وأيضا فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى المقلدين كأقوال المجتهدين ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء وهو من ذلك فىفي سعة وقد قال ابن الطيب وغيره في الأدلة إذا تعارضت على المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم الآخر ولم يكن ثم ترجيح فله الخيرة في العمل بأيها شاء لأنهما صارا
126 بالنسبة إليه كخصال الكفارة والاختلاف عند العلماء لا ينشأ إلا من تعارض الأدلة فقد ثبت إذا فىفي الشريعة تعارض الأدلة إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الإختلاف يحمل على الإختلاف فىفي أصل الدين لا فىفي فروعه بدليل وقوعه فىفي الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا فالجواب أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة فإنها من المواضع المخيلة أما مسألة المتشابهات فلا يصح أن يدعى فيها أنها موضوعة فىفي الشريعة قصد الاختلاف شرعا لأن هذا قد تقدم فىفي الأدلة السابقة ما يدل على فساده وكونها قد وضعت ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة لا نظر فيه فقد قال تعالى ولا يزالون مختفلين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ففرق بين الوضع القدري الذى لا حجة فيه للعبد وهو الموضوع على وفق الإرادة التى لا مرد لها وبين الوضع الشرعي الذى لا يستلزم وفق
127 الإرادة وقد قال تعالى هدى للمتقين وقال يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ومر بيانه في كتاب الأوامر فمسألة المتشابهات من الثاني لا من الأول وإذا كان كذلك لم يدل على وضع الاختلاف شرعا بل وضعها للابتلاء فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم ويقع الزائغون في إتباع أهواءهم ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها وأن الزائغين هم المخطئون فليس في المسألة إلا أمر واحد لا أمران ولا ثلاثة فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ولا أصلا فيه وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ بل كان يكون الجميع مصيبين لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هى بموافقة قصد الشارع وأن
128 الخطأ بمخالفته فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه لأنها دائرة بين طرفي نفي وإثبات شرعيين فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحدا فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف ولا هو حجة من حجج الاختلاف بل هو مجال استفراغ الوسع وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا وإن قيل إن الكل مصيبون فليس على الإطلاق بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به لأن الإصابة عندهم إضافية لا حقيقية فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق لكان فيه حجة وليس كذلك فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد غير أنه إضافي فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد لا قولان مقرران فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه
سطر 133:
133 يتخير في الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم وقد مر الجواب عنه وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال ليس بداخل تحت ظاهر الحديث لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه فهما صاحبا دليلين متضادين فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى وقد ما مر فيه فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم
134 وهو باطل بالإجماع وأيضا فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفى اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فإختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ولذلك أعقبها بقوله ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية وهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله أصحابي كالنجوم وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف لا يقال إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز فكذلك بعد لقائه والاجتماع طردي لأنا نقول كلا بل للاجتماع أثر لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليل ولم يطلع على معارضة بعد البحث عليه جاز له العمل أما إذا اجتمعا واختلفا عليه فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ولقد
135 أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور لا قاصدا لاتباع هواه فيه ولا لمقتضى التخيير على الجملة فإن التخيير الذى هو معنى الإباحة مفقود ههنا واتباع الهوى ممنوع فلا بد من هذا القصد وفى هذا الاعتذار ما فيه وهو تناقض لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه فصل وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتى قريبه أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك فأما ما لا يتعلق به فصل قضية بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته ففيه من المعايب ما تقدم وحكى عياض فىفي المدارك قال موسى بن معاوية كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان فقال له بهلول ما أقدمك قال نازلة رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق ثلاثا ما أخفيته قال له البهلول مالك يقول إنه يحنث في زوجته فقال السائل وأنا قد سمعته
136 يقول وإنما أردت غير هذا فقال ما عندي غير ما تسمع قال فتردد إليه ثلاثا كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال يا بن فلان ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم قلتم قال مالك قال مالك فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص الحسن يقول لا حنث عليه في يمينه فقال السائل الله أكبر قلدها الحسن أو كما قال وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين فالأمر أشد وفى الموازية كتب عمر بن الخطاب لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك قال ابن المواز لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد وذلك عندي أن يقضى بقضاء بعض من مضى ثم يقضى في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه وهو أيضا من قول من مضى وهو في أمر واحد ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضى على هذا بفتيا قوم ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافة بفتيا قوم آخرين إلا فعل فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا وما قاله صواب فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر مع عدم تطرق التهمة للحاكم وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الإتباع ليحيى ابن يحيى لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم
137 وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى فصرف يحيى رسوله وقال له لا أشير عليه بشيء إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه وركب من فوره إلى يحيى وقال له لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع وسوف أقضي له غدا إن شاء الله فقال له يحيى وتفعل ذلك صدقا قال نعم قال له فالآن هيجت غيظي فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله متخيرا في الأقوال فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضى برضى مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به ولا في إن رضيته منك فاستعف من ذلك فإنه أستر لك وإلا رفعت في عزلك فرفع يستعفي فعزل وقصة محمد بن يحيى ابن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها عياض وكانت مما غض من منصبه وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وأن لا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه وتأذيه برؤيتهم أو إن تطلعه من علاليه فقال له ابن بقي لا حيلة عندي فيه وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له فتكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة فتكلم ابن بقي معهم فلم يجعلوا إليه سبيلا فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصودة وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ويقول إنهم حجروا عليه واسعا ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة ونقلدها وناظر أصحابه فيها فوقع الأمر بنفس الناصر وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها
138 فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه وابن لبابة ساكت فقال له القاضي ما تقول أنت يا أبا عبد الله قال أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يهتدى بهم أكثر الأمة وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه وله في السنة فسحة وأنا أقول فيه يقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأيا فقال له الفقهاء سبحان الله تترك قول مالك الذى أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه فقال له محمد بن يحيى ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتهم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم قالوا بلى قال فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة فسكتوا فقال للقاضي أنه إلى أمير المؤمنين فتياي فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس وبقى مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد ابن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثم جيء
139 من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة فهنى بالولاية وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة قال القاضي عياض ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذى حل سجل السخطة إلى سجل السخطة فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه أو كما قال وذكر الباجي في كتاب التبيين لسنن المهتدين حكاية أخرى فىفي أثناء كلامه فىفي معنى هذه المسألة قال وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء دون أن يخرج عنها ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك فيقضى في قضية بقول مالك وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضى فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول لا لرأي تجدد له وإنما ذلك بحسب اختياره قال ولقد حدثني من أوثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض فأراد المكترى الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد فأفتى المكترى الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة فىفي الإجارات قال لي فوردت من سفري فسألت أولئك الفقهاء وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح فىفي الدين عن مسألتي فقالوا ما علمنا أنها لك إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها فأفتاني جميعهم بالشفعة فقضى لي بها
140 قال وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر إن الذى لصديقي على إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالروية التى توافقه قال الباجي ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ولو استجازه لم يعلن به ولا أخبر به عن نفسه قال وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية أم لعل فيها رخصة وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به فىفي الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتى فىفي دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق رضى بذلك من رضيه وسخطه من سخطه وإنما المفتى مخبر عن الله تعالى فىفي حكمه فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية فكيف يجوز لهذا المفتى أن يفتى بما يشتهى أو يفتى زيدا بما لا يفتى به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الاغراض وإنما يجب للمفتى أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد فىفي طلبه ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته هذا ما ذكره وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد ولا أن يفتى به أحدا والمقلد فىفي اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتى الذى ذكر فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى وأما المجتهد فهو أحرى بهذا الأمر
141 فصل وقد زاد هذا الأمر على قدره الكفاية حتى صار الخلاف فىفي المسائل معدودا فىفي حجج الإباحة ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد فىفي جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر بل فىفي غير ذلك فربما وقع الإفتاء فىفي المسألة بالمنع فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها فيجعل الخلاف حجة فىفي الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا وما ليس بحجة حجة حكى الخطابي فىفي مسألة البتع المذكور فىفي الحديث عن بعض الناس أنه قال إن الناس لما اختلفوا فىفي الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه قال وهذا خطأ فاحش وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول قال ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله فىفي الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة قد اختلف فيها قال وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين هذا مختصر ما قال والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه فهو قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع فىفي الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد ويحتج فىفي ذلك بما روى عن القاسم
142 ابن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ويقول إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له لقد حجرت واسعا وملت بالناس إلى الحرج وما فىفي الدين من حرج وما أشبه ذلك وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة والتوفيق بيد الله وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ولكن تقرر منه ههنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض إما أن يكون حاكما به أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتى أما الأول فلا يصح على الإطلاق لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين فكذلك أو بالنسبة إلى الأول فكذلك أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر ومن ههنا شرطوا فىفي الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان فانضبطت الأحكام بذلك وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط وهذا معنى أوضح من إطناب فيه وأما الثاني فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى فىفي النازلة بالإباحة وإطلاق العنان وهو قول ثالث خارج عن القوالين وهذا لا يجوز له
143 إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق وإن بلغها لم يصح له القولان فىفي وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول وأيضا فإن المفتى قد أقامه المستفتى مقام الحاكم على نفسه إلا أنه لا يلزمه المفتى ما أفتاه به فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا وأما إن كان عاميا فهو قد استند فىفي فتواه إلى شهوته وهواه واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ولأن العامي إنما حكم العلم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب فإن العبد فىفي تقلباته دائر بين لمتين لمة ملك ولمة شيطان فهو مخير بحكم الابتلاء فىفي الميل مع أحد الجانبين وقد قال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وهديناه النجدين وعامة الأقوال الجارية فىفي مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات والهوى لا يعدوهما فإذا عرض العامي نازلته على المفتى فهو قائل له أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق فلا يمكن والحال هذه أن يقول له فىفي مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ولا ينجيه من هذا أن يقول
144 ما فعلت إلا بقول عالم لأنه حيلة من جملة الحيل التى تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية وتسليط المفتى العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية وجهل بالشريعة وغش فىفي النصيحة وهذا المعنى جار فىفي الحاكم وغيره والتوفيق بيد الله تعالى فصل واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله فقال إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلم وإن أراد ما فيه توسعت على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك بل قوله عليه الصلاة والسلام بعثت
145 بالحنيفية السمحة يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد بل بتحصيل المصالح وأنت تعلم بما تقدم ما فىفي هذا الكلام لان الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها فما قاله عين الدعوى ثم نقول تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ومضاد أيضا لقوله تعالى فإن تنازعتم فىفي شيء فردوه إلى الله والرسول وموضع الخلاف موضع تنازع فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس وإنما يرد إلى الشريعة وهى تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض فصل وربما استجاز هذا بعضهم فىفي مواطن يدعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح فىفي المذهب فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ومحال الضرورات معلومة من الشريعة فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ودعوى غير مقبولة
146 وقد وقع فىفي نوازل ابن رشد من هذا مسألة نكاح المتعة ويذكر عن الإمام المأزري أنه سئل ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان والضرورات تبيح المحظورات من معاملة فقراء أهل البدو فىفي سنى الجدب إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم ما عندنا إلا الطعام فربما صدقوا فىفي ذلك فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم خوفا أن يذهب حقهم فىفي أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته ولا حكام بالبادية أيضا مع ما فىفي المذهب فىفي ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع فأجاب إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى فهذا ممنوع فىفي المذهب ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت قال ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه لأن الورع قل بل كاد يعدم والتحفظ على الديانات كذلك وكثرت الشهوات وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه فلو فتح لهم باب فىفي مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذهب وهذا من المفسدات التى لا خفاء بها ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة ويقبض البائع الثمن ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز فانظر كيف لم يستجز وهو المتفق على إمامته الفتوى بغير مشهور المذهب ولا بغير ما يعرف منه بناء على
147 قاعدة مصلحية ضرورية إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب لأن ما وجب للشيء وجب لمثله وظهر أن تلك الضرورة التى ادعيت فىفي السؤال ليست بضرورة فصل وقد أذكر هذا المعنى جملة مما فىفي اتباع رخص المذهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره فىفي تضاعيف المسألة كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك فىفي هذه الأمصار مجهولة وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى
148 أمر معروف وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد التى يكثر تعدادها ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك ولكن فيما تقدم منه كاف والحمد لله فصل وقد بنوا أيضا على هذا المعنى مسألة أخرى وهى هل يجب الأخذ بأخف القولين أم بأثقلهما واستدل لمن قال بالأخف
149 بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر الآية وقوله وما جعل عليكم فىفي الدين من حرج وقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا ضرار وقوله بعثت بالحنيفية السمحة وكل ذلك ينافى شرع الشاق الثقيل ومن جهة القياس أن الله غني كريم والعبد محتاج فقير وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغنى الأولى والجواب عن هذا ما تقدم وهو أيضا مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ولذلك سميت تكليفا من الكلفة وهى المشقة فإذا كانت المشقة حيث لحقت فىفي التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك فىفي الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال فما أدى إليه مثله فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال ثم قال المنتصر لهذا الرأي إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل فىفي الملاذ الإذن وفى المضار الحرمة وهو أصل قرره فىفي موضع آخر وقد تقدم التنبيه على ما فيه فىفي كتاب المقاصد وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم
150 فصل فإن قيل فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة فىفي المذهب المالكي فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها فإن كانت مختلفا فيها روعي فيها قول المخالف وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها ألا تراهم يقولون كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث ويفتقر فىفي فسخه إلى الطلاق وإذا دخل مع الإمام فىفي الركوع وكبر للركوع ناسيا تكبير الإحرام فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول من قال إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام وكذلك من قام إلى ثالثة فىفي النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها فإنه لا يراعى فيها غير دلائلها ومثله جار فىفي عقود البيع وغيرها فلا يعاملون الفاسد المختلف فىفي فساده معاملة المتفق على فساده ويعللون التفرقة بالخلاف فأنت تراهم يعتبرون الخلاف وهو مضاد لما تقرر فىفي المسألة
151 فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة منهم ابن عبد البر فإنه قال الخلاف لا يكون حجة فىفي الشريعة وما قاله ظاهر فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقضيه الآخر وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف وهو جمع بين متنافيين كما تقدم وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم فمنهم من تأول العبارة ولم يحملها على ظاهرها بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ويكون هو الراجح ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف فيكون القول بأحدهما فىفي غير الوجه الذى يقول فيه بالقول الآخر فالأول فيما بعد الوقوع والآخر فيما قبله وهما مسألتان مختلفتان فليس
152 جمعا بين متنافيين ولا قولا بهما معا هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف وسيأتى للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله على أن الباجي حكى خلافا فىفي اعتبار الخلاف فىفي الأحكام وذكر اعتباره عن الشيرازي واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ولو قال الشارع إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا فىفي جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ لكان ذلك ذلك صحيحا فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط وما قاله غير ظاهر لأمرين أحدهما أن هذا الدليل مشترك الإلزام ومنقلب على المستدل به إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ثم يقول لو قال الشارع إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا فىفي جواز أكله فإن جلده لا يطهر بالدباغ لكان ذلك صحيحا فكذلك إذا علق الحكم بالاستنباط ويكون هذا القلب أرجح لأنه مائل إلى جانب الاحتياط وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه والثاني أنه ليس كل جائز واقعا بل الوقوع محتاج إلى دليل ألا ترى أنا نقول يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء وأن شرب
153 الماء السخن يفسد الحج وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين وما أشبه ذلك ولا يكون هذا التجويز سببا فىفي وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالإستنباط فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال فإن قال إنما أعنى ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه فىفي التعليل قيل لم تفصل أنت هذا التفصيل وأيضا فمن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه كالاطراد والانعكاس ونحوه ويمكن أن يكون الباجي أشار فىفي الجواز إلى ما فىفي الخلاف من المعنى المتقدم ولا يكون بين القولين خلاف فىفي المعنى واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير الحكم والحكم
154 لا يجوز أن يتقدم على علته قال الباجي ذلك غير ممتنع كالإجماع فإن الحكم يثبت به وإن حدث فىفي عصرنا وأيضا فمعنى قولنا إنه مختلف فيه أنه يسوغ فيه الاجتهاد وهذا كان حاله فىفي زمان رسول الله فلم يتقدم على علته والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم بل هو أصل الحكم وقوله إن معنى قولنا مختلف فيه كذا هى عين الدعوى فصل ومن القواعد المبينة على هذه المسألة أن يقال هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركا كما يفعله المتورعون فىفي التروك أم لا أما فىفي ترك العمل بهما معا مجتمعين أو متفرقين فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح
155 وأما فىفي العمل فإن أمكن الجمع بدليله فلا تعارض وإن فرض التعارض فالجمع بينهما فىفي العمل جمع بين متنافيين ورجوع إلى إثبات الاختلاف فىفي الشريعة وقد مر إبطاله وهكذا يجرى الحكم فىفي المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه ولهذا الفصل تقرير فىفي كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله المسألة الرابعة محال الاجتهاد المعتبر هى ما ترددت بين طرفين وضح فىفي كل واحد منهما قصد الشارع فىفي الإثبات فىفي أحدهما والنفي فىفي الآخر فلم تنصرف ألبتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات وبيانه أن نقول لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا فإن لم يأت فيها خطاب فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود والبراءة الأصلية فىفي الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع
156 بالعفو أو غيره وإن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو فىفي الإثبات أولا فإن لم يظهر له قصد ألبتة فهو قسم المتشابهات وإن ظهر فتارة يكون قطعيا وتارة يكون غير قطعي فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق فىفي النفي أو فىفي الإثبات وليس محلا للاجتهاد وهو قسم الواضحات لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج عنه مخطئ قطعا وأما غير القطعي فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا فليس من الواضحات بإطلاق بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه لأن مراتب الظنون فىفي النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى فىفي إحدى الجهتين وتارة لا يقوى فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات والمقدم
157 عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإن قوى فىفي إحدى الجهتين فهو قسم المجتهدات وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه فىفي نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح فىفي حقه فىفي النفي أو في الإثبات إن قلنا إن كل مجتهد مصيب وأما على قول المخطئة فالمقدم عليه إن كان مصيبا فىفي نفس الأمر فواضح وإلا فمعذور وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا وأن الإضافي إنما صار إضافيا لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين فيقرب عند بعض من أحد الطرفين وعند بعض من الطرف الآخر وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات فهو غير مستقر فىفي نفسه فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون فىفي القوة
158 والضعف ويجرى مجرى النفي فىفي أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه فثبوت العلم مع نفيه نقيضان كوقوع التكليف وعدمه وكالوجوب وعدمه وما أشبه ذلك وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان كالوجوب مع الندب أو الإباحة أو التحريم وما أشبه ذلك وهذا الأصل واضح فىفي نفسه غير محتاج إلى إثباته بدليل ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير فىفي الهواء والسمك فىفي الماء وعلى جواز بيع الجبة التى حشوها مغيب عن الأبصار ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات فىفي مقدار الري فهذان طرفان فىفي اعتبار الغرر وعدم اعتباره لكثرته فىفي الأول وقلته مع عدم الإنفكاك عنه في الثاني فكل مسألة وقع الخلاف فيها فىفي باب الغرر فهى متوسطة بين الطرفين آخذة بشبه من كل واحد منهما فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ومن منع مال إلى جانب الآخر
159 ومن ذلك مسألة زكاة الحلى وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة فىفي العروض وعلى الزكاة فىفي النقدين فصار الحلى المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين فذلك وقع الخلاف فيها واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق وصار المجهول الحال دائرا بينهما فوقع الخلاف فيه واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه هل يملك أم لا بناء على تغليب حكم أحد الطرفين واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع فىفي الصلاة يتوضأ ولا يصلى بتيممه وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة وما بين ذلك دائر بين الطرفين فاختلفوا فيه واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل فىفي البيع وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع وأقروا بالقبول فإجماع بإتفاق أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق فإن سكتوا من غير ظهور إنكار فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه والمبتدع بما لا يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة وبما اقتضى كفرا مصرحا
160 به ليس من الأمة فالوسط مختلف فيه هل هو من الأمة أم لا وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق واختلفوا فىفي إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص وفى عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هى الكمال وكذلك ما أشبهها فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها لأنها دائرة بين طرفين واضحين فحصل الإشكال والتردد ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به فىفي العقليات أو في النقليات لا مبنيا على الظن ولا على القطع إلا دائر بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف فصل وبأحكام النظر فىفي هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف جديرا بأن يتبين له الحق فىفي كل نازلة تعرض له ولأجل ذلك جاء فىفي حديث ابن مسعود أنه قال يا عبد الله
161 ابن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال أتدرى أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا فىفي العمل وإن كان يزحف فىفي أسته فهذا تنبيه على المعرفة بمواقع الخلاف ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف فعن قتادة من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه وعن هشام بن عبيد الله الرازي من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه وعن عطاء لا ينبغي لأحد أن يفتى الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه وعن أيوب السختياني وابن عيينة أجسر الناس على الفتية أقلهم علما باختلاف العلماء زاد أيوب وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء وعن مالك لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول الله وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لا يعرف
162 الاختلاف أن يفتى ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلى وعن سعيد بن أبي عروبة من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما وعن قبيصة بن عقبه لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس وكلام الناس هنا كثير وحاصلة معرفة مواقع الخلاف لا حفظ مجرد الخلاف ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر فلا بد منه لكل مجتهد وكثيرا ما تجد هذا للمحققين فىفي النظر كالمأزري وغيره المسألة الخامسة الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد فىفي النصوص فلا يلزم فىفي ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة والدليل على عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات
163 الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا يمكن التفاهم بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه وأما المعاني مجردة فالعقلاء مشتركون فىفي فهمها فلا يختص بذلك لسان دون غيره فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التى ليست بعربية ويعتبرون الألفاظ فىفي كثير من النوازل وأيضا فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا فيما يتعلق
164 بالمقيس عليه وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة النصوص عليها أو التى أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما وما سواه فراجع إلى النظر العقلي وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب فىفي مذهب مالك وأبي يوسف ومحمد بن الحسن فىفي مذهب أبي حنيفة والمزني والبويطي فىفي مذهب الشافعي فإنهم على ما حكى عنهم يأخذون أصول إمامهم وما بنى عليه فىفي فهم ألفاظ الشريعة ويفرعون المسائل ويصدرون الفتاوي على مقتضى ذلك وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم وعملوا على مقتضاها خالفت مذهب إمامهم أو وافقته وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع فىفي وضع الأحكام ولولا ذلك لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى ولا حل لمن فىفي زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص فلما لم يكن شىء من ذلك دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام فيه فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ فىفي فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه هذا
165 على فرض أنهم لم يبلغوا فىفي كلام العرب مبلغ المجتهدين فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا فىفي صحة اجتهادهم على الإطلاق والله أعلم المسألة السادسة قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر فىفي ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التى ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به فهذا يعتبر اجتهادة فيما هو عارف به كان عالما بالعربية أم لا وعارفا بمقاصد الشارع أم لا وكذلك القارئ فىفي تأدية وجوه
166 القرءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق فىفي معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها والعاد فىفي صحة القسمة والماسح في تقدير الأرضين ونحوها كل هذا وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالا فىفي المجتهد والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا فىفي الندرة بل هو محال عادة وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها ولا كلام فيه وأيضا إن لزم فىفي هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم فىفي كل علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع وذلك باطل فيما أدى إليه مثله فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ومن الكفار
167 المنكرين للشريعة ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون فىفي هذه الأمور من ليس من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة وهو التقليد فىفي تحقيق المناط فالحاصل أنه إنما يلزم فىفي هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه كما أنه فىفي الأولين كذلك فالاجتهاد فىفي الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذى يتعلق به الحكم لا من وجه غيره وهو ظاهر المسألة السابعة الاجتهاد الواقع فىفي الشريعة ضربان أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعا وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد وهذا هو الذى تقدم الكلام فيه والثانى غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه لأن حقيقته أنه رأى بمجرد التشهي والأغراض وخبط فىفي عماية واتباع للهوى فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية فىفي عدم اعتباره لأنه ضد الحق الذى أنزل الله كما قال تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وقال تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة فىفي الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية وهذا على الجملة لا إشكال فيه ولكن قد ينشأ فىفي كل واحد من القسمين قسم آخر فأما القسم الأول وهى
168 المسألة الثامنة فيعرض فيه الخطأ فىفي الاجتهاد إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه وإما بعدم الإطلاع عليه جملة وحكم هذا القسم معلوم من كلام الأصوليين إن كان فىفي أمر جزئي وأما إن كان فىفي أمر كلي فهو أشد وفى هذا الموطن حذر من زلة العالم فإنه جاء فىفي بعض الحديث عن النبي التحذير منها فروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا وما هى يا رسول الله قال أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع وعن عمر ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن أبي الدرداء إن مما أخشى عليكم زلة العالم أو جدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى القرآن منار كمنار الطريق وكان معاذ بن جبل يقول فىفي خطبته كثيرا وإياكم وزيغة الحكيم فإن
169 الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا وكيف زيغة الحكيم قال هى كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفئ وأن يراجع الحق وقال سلمان الفارسي كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان وننتهي عما ينتهي عنه فلان وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان الحديث وعن ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه فيترك قوله ثم يمضى الاتباع وعن ابن مبارك أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي أي بني إن أخذت بشر ما فىفي الحسن وبشر ما فىفي ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله وقال مجاهد والحكم بن عيينة ومالك ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا
170 وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع فىفي ذلك المعنى الذى اجتهد فيه والوقوف دون أقصى المبالغة فىفي البحث عن النصوص فيها وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور لكن مما ينبني عليه فىفي الإتباع لقوله فيه خطر عظيم وقد قال الغزالي إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهى فىفي نفسها صغيرة وذكر منها أمثلة ثم قال فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا فىفي العالم أياما متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه وهكذا الحكم مستمر فىفي زلته فىفي الفتيا من باب أولى فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة فىفي خصوص مسألته فيفضى ذلك إلى أن يصير قوله شرعا يتقلد وقولا يعتبر فىفي مسائل الخلاف فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته تدارك ما سار فىفي البلاد عنه ويضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا زلة العالم مضروب بها الطبل فصل إذا ثبت هذا فلا بد من النظر فىفي أمور تنبني على هذا الأصل منها أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتدا بها لم يجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى
171 التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى وقد روى عن ابن المبارك أنه قال كنا في الكوفة فناظروني في ذلك يعني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي بالرخصة فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى فقال قائلهم يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا
172 خيارا قال فقلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى والحق ما قال ابن المبارك فإن الله تعالى يقول فإن تنازعتم فىفي شيء فردوه إلى الله والرسول الآية فإذا كان بينا ظاهرا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة لم يصح الاعتداد به ولا البناء عليه ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع مع أن حكمه مبنى على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر ولا ينقض مع الخطأ فىفي الاجتهاد وإن تبين لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة لأنه حكم بغير ما أنزل الله فصل ومنها أنه لا يصح اعتمادها خلافا فىفي المسائل الشرعية لأنها لم تصدر فىفي الحقيقة عن اجتهاده ولا هى من مسائل الاجتهاد وإن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلا فصارت فىفي نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد وإنما يعد فىفي الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة فىفي الشريعة كانت مما يقوى أو يضعف وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا فلذلك قيل إنه لا يصح أن يعتد بها فىفي الخلاف كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف فىفي مسألة ربا الفضل والمتعة ومحاشي النساء وأشباهها من المسائل التى خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها
173 فإن قيل فماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك فالجواب أنه من وظائف المجتهدين فهم العارفون بما وافق أو خالف وأما غيرهم فلا تمييز لهم فىفي هذا المقام ويعضد هذا المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي فىفي حكم كلي ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني والأدلة الظنية متفاوتة كأخبار الآحاد والقياس الجزئية فأما المخالف للقطعي فلا إشكال فىفي اطراحه ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه لا للاعتداد به وأما المخالف للظني ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره فإن قيل فهل لغير المجتهد من المتفقهين فىفي ذلك ضابط يعتمده أم لا فالجواب أن له ضابطا تقريبيا وهو أن ما كان معدودا فىفي الأقوال غلطا وزللا قليل جدا فىفي الشريعة وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين فصل وقد عد ابن السيد هذا المكان من أسباب الخلاف حين عد جهة الرواية وأن لها ثماني علل فساد الإسناد ونقل الحديث على المعنى أو من المصحف والجهل بالإعراب والتصحيف وإسقاط جزء الحديث أو سببه وسماع
174 بعض الحديث وفوت بعضه وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها فىفي المواضع المختلف فيها علل حقيقة فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد فىفي كونها موجودة فىفي محل الخلاف وإذا كان على هذا الوجه فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول وأما القسم الثاني وهى المسألة التاسعة فيعرض فيه أن يعتقد فىفي صاحبه أو يعتقد هو فىفي نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به وتكون مخالفته تارة فىفي جزئي وهو أخف وتارة فىفي كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال فتراه آخذا ببعض جزئياتها فىفي هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ
175 رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها ولا مسلم لما روى عنهم فىفي فهمها ولا راجع إلى الله ورسوله فىفي أمرها كما قال فإن تنازعتم فىفي شئ فردوه إلى الله والرسول الآية ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة فىفي النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه فىفي اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر وأصل هذا القسم مذكور فىفي قوله تعالى هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية وفى الصحيح أن النبي قرأ هذه الآية ثم قال إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم والتشابه فىفي القرآن
176 لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ولا غير ذلك مما يذكرون بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم فىفي القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد فىفي أكثرها مقرر واضح فىفي معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهرة مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه ودل على ذلك قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب فجعل المحكم وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه هو الأم والأصل المرجوع إليه ثم قال وأخر متشابهات يريد وليست بأم ولا معظم فهى إذا قلائل ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن
177 أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الإعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة فقال في حديثه وأن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة لم يخص من ذلك شيء دون شيء وفي أبي داود وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهى الجماعة وهى بمعنى الرواية التى قبلها وقد
178 روى ما يبين هذا المعنى ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه وإن كان غيره قد هون الأمر فيه أنه قال ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله ما أنا عليه وأصحابي وهو ظاهر فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية فصل وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التى يظن أن الحديث شامل لها وأنها مقصودة الدخول تحته فإنه جاء في القرآن أشياء تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها فهو آخذ في بدعة خارج عن مقتضى الشريعة وكذلك في الأحاديث الصحيحة فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها وربما ورد التعيين في بعضها كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج إن من ضئضئي هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية
179 وفي رواية دعه يعني ذا الخويصرة فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام الحديث إلى أن قال آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر الخ فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء وذكر لهم علامة في صاحبهم وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين أحدهما اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داود الظاهري وقال إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه الصور والآيات وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في مشكل القرآن وكتابه في مشكل الحديث يبين لك صحة هذا الإلزام فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر
180 والثاني قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام فىفي الدنيا والآخرة ناجون وأن أهل الأوثان هالكون ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم فإذا كان النظر فىفي الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد صار صاحبه هادما لقواعدها وصادا عن سبيلها ومن تأمل كلامهم فىفي مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس وفى غيرها ظهر له خروجهم عن القصد وعدولهم عن الصواب وهدمهم للقواعد وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز وأشباه ذلك فهذان وجهان ذكرا فىفي الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعا للمتشابهات وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن وأن لا حرام إلى ما فىفي قوله قل لا أجد فىفي ما أوحي إلى الآية وما سوى ذلك فحلال وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم وأن التقية لا تجوز فىفي قول ولا فعل على الإطلاق والعموم وأن الزاني لا يرجم بإطلاق والقاذف للرجال لا يحد وإنما يحد قاذف النساء خاصة وأن الجاهل معذور فىفي أحكام الفروع بإطلاق وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد وأن المكلف قد يكون مطيعا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله وإنكارهم سورة يوسف من القرآن وأشباه ذلك وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية
181 ولكن الغالب فىفي هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها ويبقى الأمر فىفي تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذى ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا فىفي الدنيا بها فىفي الحكم الغالب العام وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف ليس كما ذكر عن بنى إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة وكذلك فىفي شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها وتركت غير المقبول وفي ذلك افتضاح المذنب إلى ما أشبه ذلك فكثير من هذه الأشياء خصت بها هذه الأمة وقد قالت طائفة إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف وللستر حكمة أيضا وهى أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التى أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وقال ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وفي الحديث لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين وأخبر أن فساد ذات البين هى الحالقة وأنها تحلق الدين والشريعة طافحة بهذا المعنى ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب البر والصلة وقد جاء في قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فىفي شئ الآية أنه روى عن عائشة وأبي هريرة هذا حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه
182 وسلم يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم قلت الله ورسوله أعلم قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة وأنا منهم بري وهم مني برءآء فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها كما عين رسول الله الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفون ويحذر منهم ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى وخرج أبو داود عن عمر ابن أبي قرة قال كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون
183 إلى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله فقال إن رسول الله يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ولقد علمت أن رسول الله خطب فقال أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر فهذا من سلمان حسن من النظر فهو جار في مسألتنا فإن قيل فالبدع مأمور باجتنابها واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشديد بهم وتقبيح ما هم عليه فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز فالجواب أن النبي نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ونبه على البدع من غير تفصيل وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس فنحن أولى بذلك معشر الأمة وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع وأنها لاحقة
184 فى جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد فهو ممكن أن يكون هو المراد فىفي نفس الأمر أو بعضه فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد والأصل ما تقدم من الستر حتى يظهر أمر فيكون له حكمه ويبقى النظر هل هذا الظاهر من جملة ما يدخل تحت الحديث أم لا فهو موضع اجتهاد وأيضا فإن البدع المحدثة تختلف فليست كلها فىفي مرتبة واحدة فىفي الضلال ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة التى قال فيها مالك التثويب ضلال وقد قسم المتقدمون البدع إلى ما هو مكروه وإلى ما هو محرم ولو كانت عندهم على سواء لكانت قسما واحدا وإذا كان كذلك فالبدع التى تفترق بها الأمة مختلفة الرتب فىفي القبح وبسبب ذلك يظهر أنها كثيرة جدا وما فىفي الحديث محصور فيمكن أن يكون بعضها غير داخل فىفي الحديث أو يكون بعضها جزءا من بدعة فوقها أعظم منها أو لا تكون داخلة من حيث هى عند العلماء من قبيل المكروه فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه فلا يقدم على ذلك إلا ببرهان قاطع وهذا كالمعدوم فيها فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها
185 فإن قيل فالعلماء يقولون خلاف هذا وإن الواجب هو التشديد بهم والزجر لهم والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين فالجواب أن ذلك حكم فيهم كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم كما يقتل تارك الصلاة وإن كان مقرا إلى ما دون ذلك وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث فتوجه الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر فصل ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة وعلامات أيضا في التفصيل فأما عالمات الجملة فثلاث إحداها الفرقة التى نبه عليها قوله تعال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فىفي شئ وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا وغير ذلك من الأدلة قال بعض المفسرين صاروا فرقا لاتباع أهوائهم وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا وهو قوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ثم برأه الله منهم بقوله لست منهم فىفي شيء وهم أصحاب البدع والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله قال ووجدنا أصحاب رسول الله من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم
186 يجدوا فيه نصا واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كإختلاف أبي بكر وعمر وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك مما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت المرذية التى حذر منها رسول الله وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه قال فكل مسألة حدثت فىفي الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين فىفي شئ وأنها التى عنى رسول الله بتفسير الآية وهى قوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وقد تقدمت فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا فإذا اختلفوا وتقاطعوا
187 كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قالوه وهو ظاهر فىفي أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين وهذه الخاصية موجودة فىفي كل فرقة من تلك الفرق ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأي فرقة توازى هذا إلا الفرقة التى بين أهل الإسلام وأهل الكفر وهكذا تجد الأمر فىفي سائر من عرف من الفرق أو من ادعى ذلك فيهم والخاصة الثانية هى التى نبه عليها قوله تعالى فأما الذين فىفي قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة الآية فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق ممن شأنهم إتباع المتشابهات وقد تبين معناه وقال عليه الصلاة والسلام فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم والخاصية الثالثة اتباع الهوى وهى التى نبه عليها قوله فأما الذين فىفي قلوبهم زيغ وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى وقوله ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقوله أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية
188 إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أخذ فىفي خاصة نفسة لأنها أمر باطن فلا يعرفها غير صاحبها إلا أن يكون عليها دليل فىفي الظاهر والتى قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين فىفي العلم لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها والتى قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام لأن التواصل أو التقاطع معروف للناس كلهم وبمعرفته يعرف أهله وأما العلامات التفصيلية فىفي فرقة فقد نبه عليها وأشير إليها كما فىفي قوله تعالى فإن تنازعتم فىفي شئ فردوه إلى الله والرسول إلى قوله ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقوله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله الآية وقوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى إلى آخرها وقوله إنما النسىء زيادة فىفي الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الآية وقوله وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه الآية وقوله ومن الناس من يعبد الله على حرف إلى آخر الآيتين وقوله يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إلى قوله لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وقوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها الآية وقوله ثمانية أزواج من الضأن اثنين إلى قوله إن الله لا يهدى القوم الظالمين إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم وكذلك فىفي الحديث كقوله إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وكذلك ما تقدم ذكره فىفي قسم زلة
189 العالم وغيره مما فىفي الأحاديث المختصة بهذا المعنى وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ولم يصرح بها على الإطلاق لما تقدم ذكره فمن تهدى إليها فذاك وإلا فلا عليه أن لا يعلمها والله الموفق للصواب فصل ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام بل ذلك ينقسم فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقا فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعا بثه ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه وقد جاء فىفي الحديث عن علي حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وفى الصحيح عن معاذ أنه عليه الصلاة والسلام قال يا معاذ تدرى ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله الحديث إلى أن قال قلت يا رسول أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا وفى حديث آخر عن معاذ فىفي مثله قال يا رسول الله أفلا أخبر بها فيستبشروا فقال إذا يتكلوا
190 قال أنس فأخبر بها معاذ عند موته تأثما ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبى هريرة أنظره فىفي كتاب مسلم والبخاري فإنه قال فيه عمر يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون فقال رسول الله فخلهم وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجلا فقال إن فلانا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا فقال عمر لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون يغضبونهم قلت لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلها على وجهها فيطيروا بها كل مطير وأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتلخص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها فقال والله لأقومن فىفي أول مقام أقومه بالمدينة الحديث ومنه حديث سلمان مع حذيفة وقد تقدم ومنه أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهى بل يربي بصغار
191 العلم قبل كباره وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة فىفي نظر الفقه كما ذكر عز الدين بن عبد السلام فىفي مسألة الدور فىفي الطلاق لما يؤدى إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق وهو مفسدة من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ولذلك أنكرت عائشة على من قالت لم تقضى الحائض الصوم ولا تقضى الصلاة وقالت لها أحروية أنت وقد ضرب عمر ابن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى وفاكهة وأبا فقال هذه الفاكهة فما الأب ثم قال ما أمرنا بهذا إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقا وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك فتنبه لهذا المعنى وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت فىفي ميزانها فانظر فىفي مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها فىفي ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم ان كانت مما تقبلها العقول على العموم وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية
192 فصل هذه الفرق وإن كانت على ما هى عليه من الضلال فلم تخرج من الأمة ودل على ذلك قوله تفترق أمتي فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها وقد جاء فىفي الخوارج فىفي هذه الأمة كذا فأتى بفى المقتضية أنها فيها وفى جملتها وقال فىفي الحديث وتتمارى فىفي الفوق ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار فىفي كفرهم ولقال إنهم كفروا بعد إسلامهم
193 فإن قيل فقد اختلف العلماء فىفي تكفير أهل البدع كالخوارج والقدرية وغيرهما فالجواب أنه ليس فىفي النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذا من تلك الفرق بل الفرق من لم تؤدهم بدعتهم إلى الكفر وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به فىفي أهله والأمر بالقتل فىفي حديث
194 الخوارج لا يدل على الكفر إذ للقتل أسباب غير الكفر كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل وما أشبه ذلك فالحق أن لا يحكم بكفر من هذا سبيله وبهذا كله يتبين أن التعيين فىفي دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب وأنه أمر اجتهادى لا قطع فيه إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر وما أعز وجود مثله المسألة العاشرة النظر فىفي مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على
195 خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول فىفي الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة والدليل على صحته أمور أحدها أن التكاليف كما تقدم مشروعة لمصالح العباد ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف فىفي الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم وأما الدنيوية فإن الأعمال إذا تأملتها مقدمات لنتائج المصالح فإنها أسباب لمسببات هى مقصودة للشارع والمسببات هى مآلات الأسباب فاعتبارها فىفي جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر فىفي المآلات لا يقال إنه قد مر فىفي كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الإلتفات إليها عند الدخول فىفي الأسباب
196 لأنا نقول وتقدم أيضا أنه لا بد من اعتبار المسببات فىفي الأسباب ومر الكلام فىفي ذلك والجمع بين المطلبين ومسألتنا من الثاني لا من الأول لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر فىفي حكم غيره على البراءة من الحظوظ فإن المجتهد نائب عن الشارع فىفي الحكم على أفعال المكلفين وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات فىفي الأسباب وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب وهو مآل السبب والثانى أن مآلات الأعمال إنما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة فإن اعتبرت فهو المطلوب وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق والثالث الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة فىفي أصل المشروعية كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون وقوله كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وقوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا
197 بها إلى الحكام الآية وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية وقوله رسلا مبشرين ومنذرين الآية وقوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية وقوله ولكم فىفي القصاص حياة وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة وأما فىفي مسألة على الخصوص فكثير فقد قال فىفي الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقوله لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم
198 فقال له لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله هذا معنى الكلام دون لفظه وفى حديث الأعرابي الذي بال فىفي المسجد أمر النبي بتركه حتى يتم بوله وقال لا تزرموه وحديث النهي عن التشديد على النفس فىفي العبادة خوفا من الإنقطاع وجميع ما مر فىفي تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل فىفي الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما فىفي ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح فىفي عمل غير مشروع فىفي الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها قال ابن العربي حين أخذ فىفي تقرير هذه المسألة اختلف الناس بزعمهم فيها وهى متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها فصل وهذا الأصل ينبنى عليه قواعد منها قاعدة الذرائع التى حكمها مالك فىفي أكثر أبواب الفقه لأن
199 حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل بأن يشترى البائع سلعته من مشتريها بخمسة نقدا فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل والسلعة لغو لا معنى لها فىفي هذا العمل لأن المصالح التى لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شىء ولكن هذا بشرط أن
200 يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس بمقتضى العادة ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المال أيضا لأن البيع إذا كان مصلحة جاز وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى فكل عقدة منهما لها مآلها ومآلها فىفي ظاهر أحكام الإسلام مصلحة فلا مانع على هذا إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد إلى المآل الممنوع ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق واتفقوا في خصوص المسألة على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله عملا بمقتضى قوله تعالى ولا تبسوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وأشباه ذلك من المسائل التى اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها وأيضا فلا يصح أن يقول الشافعي إنه يجوز التدرع إلى الربا بحال إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو وهو دال على القصد إلى الممنوع فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق
201 على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر ومنها قاعدة الحيل فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية
202 ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضا لكن على حكم الانفراد فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة كإنفاق المال عند رأس الحول وأداء الدين منه وشراء العروض به وغيرها مما لا تجب فيه زكاة وهذا الإبطال صحيح جائز لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع وأما إبطالها ضمنا فلا وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ولا يقول بهذا واحد منهم ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل والخلاف إنما وقع في أمر آخر ومنها قاعدة مراعاة الخلاف وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت
سطر 276:
276 بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه لا على أمر حصل لذلك المقتدى به لكنه قصد الإقتداء بناء على ما عند المقتدى به فأدى إلى بناء الإقتداء على غير شيء وذلك باطل بخلاف الإقتداء بناء على ظهور علاماته فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدي به علما أو ظنا وإياه قصد المقتدى بإقتدائه فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة والثالث أن هذا الإقتداء يلزم منه التناقض لأنه إنما يقتدي به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا وإذا لم يقتضه لم يكن الإقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر وقد فرضنا أنه كذلك هذا خلف متناقض وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن والفرق بينهما ظاهر لأمرين أحدهما أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك حسبما دلت عليه الأدلة الظنية بخلاف تحسين الظن فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أولا والثاني أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدي به فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن قواه وثبته بتكراره في فكره
277 ووعظ النفس في اعتقاده وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ونفاه وكرر نفيه على فكرة ومحاه عن ذكره فإن قيل إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد والانقطاع إلى الله ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب شأن الأحكام الواردة على هذا الوزان فالجواب أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره والظن الذى يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه وفرض مسألتنا ليس هكذا بل على جهة أن لا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ويضعف الاحتمال الآخر كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته فمثل هذا له في هذه الدار حالان حال دنيوي به يقيم معاشه ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه وحال أخروي به يقيم أمر آخرته فأما هذا الثاني فلا كلام فيه وهو متعين في نفسه وغير محتمل إلا في القليل ولا اعتبار بالنوادر وأما الأول فهو مثار
278 الاحتمال فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه فىفي نفسه فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ومتعبدا له به فيعمل به على قصد التقرب ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به ليس له أصل ينبني عليه إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدي به نيل ما أبيح له من حظه فلا يصادف قصد المقتدي محلا بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيرة متقربا به والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام بل نقول إذا وقف المقتدي به وقفة أو تناول ثوبه على وجه أو قبض لحيته في وقت ما أو ما أشبه ذلك فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي أو غافلا كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين فمثل هذا هو المراد بالمسألة وكذلك إذا كان له درهم مثلا فأعطاه صديق له لصداقته وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به فيقول المقتدي حسن الظن به يقتضى أنه يتصدق به لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر الأخروي فيجئ منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث واختبأت دعوتى شفاعة لأمتي يوم القيامة فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا فإذا بنينا على
279 ما تقدم فلقائل أن يقول إن ما قاله غير متعين لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه لأنه لا حجر عليه ولا قدح فيه ينسب إليه فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب من الدنيا أشياء وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ويتعين ذلك في أمور كحبه للنساء والطيب والحلواء والعسل والدباء وكراهيته للضب وأشباه ذلك وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له وهو منقول كثيرا ووجه ثان وهو أنه قد دعا عليه الصلاة والسلام بأمور كثيرة دنيوية كاستعاذته من الفقر والدين وغلبة الرجال وشماتة الأعداء والهم وأن يرد إلى أرذل العمر وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ويدل عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله لكل نبى دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم وهو الدعاء عليهم كقوله وقال نوح ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا حسبما نقله المفسرون وكان من الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط فكذلك دعوة النبي لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم
280 وأمر ثالث وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله عليه الصلاة والسلام كان من أفعال الجبلة الآدمية أولا إذ يمكن أن يقال إنه قصد بها أمورا أخروية وتعبدا مخصوصا وليس كذلك عند العلماء بل كان يلزم منه أن لا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به وكذلك إذا لم يبين جهته لأنه محتمل أيضا فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة فإذا ثبت صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه مع أن الحديث كما تقدم يقتضى أن الدعوة مخصوصة بالأمة لقوله فيه لكل نبي دعوة مستجابة في امته فليست مخصوصة به فلا يحصل
سطر 307:
307 كقوله في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وهو قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وقال ولهم فيها أزواج مطهرة وقال والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وهو كثير حتى إنه قال في الجنة فيها أنهار من ماء غير آسن إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة وقال والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى أن قال وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا إلى قوله فيه شفاء للناس وهو كثير أيضا فأنزل الأحكام وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لها من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات وقال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة يعني في الدنيا ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة وقال حين أمتن بالنعم كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور وقال في بعضها ولتبتغوا من فضله فعد طلب الدنيا فضلا كما عد حب الإيمان وبغض الكفر فضلا والدلائل أكثر من الاستقصاء فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني وهو ظاهر لأن عدم اعتبارها وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته وإتصافه بصفات الكمال وعلى أن الآخرة حق فهي مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق وهذا لا تنفصل
308 الدنيا فيه من الآخرة بل هو في الدنيا لا يفنى لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم الذى تعطيه فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه وهو لا يفنى وإن فنى منها ما يظهر للحس وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة فتكون هنالك نعيما فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه كجعل اللفظ دليلا على المعنى باق وإن فنى العنوان وكذلك ضد كونها منقضية بإطلاق فالوصفان إذا متضادان والشريعة منزهة عن التضاد مبرأة عن الاختلاف فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين أو حالتين متنافيتين بيانه أن لها نظرين أحدهما نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفا متعرفا للحق ومستحقا لشكر الواضع لها بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا للذات ومآلا للشهوات انتظاما في سلك البهائم فظاهر أنها من هذه الجهة قشر بلا لب ولعب بلا جد وباطل بلا حق لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا من غير زائد ثم يزول عن قريب فلا يبقى منه شئ فذلك كأضغاث الأحلام فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به ولذلك صارت أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وفى الآية الأخرى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
309 والثاني نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم مبثوث فيها من كل شئ خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه فإذا نظر إليها العاقل وجد كل نعمة فيها يجب شكرها فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته وصار ذلك القشر محشوا لبا بل صار القشر نفسه لبا لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم ومن ههنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق كقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق أولم يتفكروا فىفي أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق إلى غير ذلك ولأجل هذا صارت أعمال أهل النظر معتبرة مثبتة حتى قيل فلهم أجر غير ممنون من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة وليست بمذمومة من جهة النظر الثاني بل هي محمودة فذمها بإطلاق لا يستقيم كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم والأخذ
310 لها من الجهة الأولى مذموم يسمى أخذه رغبة في الدنيا وحبا في العاجلة وضده هو الزهد فيها وهو تركها من تلك الجهة ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ولا يسمى أخذه رغبة فيها ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا ولأجله كان الصحابة طالبين لها مشتغلين بها عاملين فيها لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها وعلى اتخاذها مركبا للآخرة وهم كانوا أزهد الناس فيها وأورع الناس في كسبها فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار وحاش لله من ذلك إنما طلبوها من الجهة الثانية فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهم رضى الله عنهم وألحقنا بهم وحشرنا معهم ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه فتأمل هذا الفصل فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفى أحوال أهلها وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه كما يفهمون طلبها على غير وجهه فيمدحون ما لا يمدح شرعا ويذمون ما لا يذم شرعا وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق ولا الغنى أفضل بإطلاق بل الأمر في ذلك يتفصل فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموما وكان الفقر أفضل منه وإن أمال إلى إيثار الآجلة فإنفاقه في وجهه والاستعانة به على التزود للمعاد فهو أفضل من الفقر والله الموفق بفضله
311 فصل واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب فلذلك اختصر القول فيه وأيضا فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به قلما يذكرها الأصوليون ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع فلم نتعرض لها لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر النظر والله المستعان وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر والأصل العتيد لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح النظر الثاني في أحكام السؤال والجواب وهو علم الجدل وقد صنف الناس فيه من متقدم ومتأخر والذي يليق منه بغرض هذا الكتاب فرض مسائل المسائلة الأولى إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم وأعنى بالعالم المجتهد وغير العالم المقلد وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم فهذه أربعة أقسام الأول سؤال العالم وذلك في المشروع يقع على وجوه كتحقيق
سطر 326:
326 في الحديث في قوله أحجنا هذا لعامنا أو للأبد وأشباه ذلك بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل فذموا بذلك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم ووجه خامس وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية والعمومات المتفق عليها كقوله تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء وقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعد ما أقروا فيدعون لله شريكا وقال تعالى خلق
327 السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم لكن الأمر على خلاف ذلك فدل على أنه ليس مما يعترض عليه وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليل يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الإعتقادية فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية كقوله ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء الآية وقوله ألهم أرجل يمشون بها وأشباه ذلك واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة ولا قريبة من البديهة هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية فدخلوا في أشد مما منه فروا ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولا بالشريعة فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وإن طرق العقل إليها احتمالا فكذلك العبارات لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات وهى خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله فإذا لا يصح
328 في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة إلا أن يدل دليل على الخروج عنها فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح أو في باب البيان والله المستعان المسألة الخامسة الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية أو في جزئياتها الفرعية وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر فأما المجتهد الناظر لنفسه فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ضرورية كانت أو نظرية عقلية أو سمعية وأما الفروع فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ولا يفتقر إلى مناظرة لأن نظره في مطلبه إما نظر فىفي جزئي وهو ثان عن نظره في الكلي الذى ينبني عليه وإما نظر في كلي ابتداء والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده فلا يحتاج إلى غيره فيها وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه
329 في نفسه فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة وأيضا فالمجتهد أمين على نفسه فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته إذ هو عنده مجتهد مقبول القول فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة وهنا أمثلة كثيرة كمشاورة رسول الله السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمر المدينة فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال لم يبغ به بدلا ولم يستشر غيرهما وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة فما أنزل الله الحكم لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم فكلمه عمر في ذلك فلم يلتفت إلى وجه المصلحة
330 في ترك القتال إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة إلا من باب الاحتياط وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه وعند ذلك يلزمه أحد أمرين إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق وإما الاستعانة بمن يثق به وهو المناظر المستعين فلا يخلو أن يكون موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أولا فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها والأمر سهل فيها فإن اتفقا فحسن وإلا فلا حرج لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه وأمثلة هذا الأصل كثيرة يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله في المسائل المشكلة عليهم كما في سؤالهم عند نزول قوله الذين آمنوا ولم