الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مقدمة ابن خلدون - الجزء الخامس»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل
OKBOT (نقاش | مساهمات)
ط تدقيق إملائي. 88 كلمة مستهدفة حاليًا.
سطر 27:
'''الفصل الخامس''' في علوم القرآن من التفسير و القراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف. و هو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على طرق مختلفين في بعض ألفاظه و كيفيات الحروف في أدائها. و تنوقل ذلك و اشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها أيضاً بأدائها و اختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة. و ربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل. و هذه القراءات السبع معروفة في كتبها. و قد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء و هو غير منضبط. و ليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. و أباه الأكثر و قالوا بتواترها و قال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد و التسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع و هو الصحيح. و لم يزل القراء يتداولون هذه القراءات و روايتها إلى أن كتبت العلوم و دونت فكتبت فيما كتب من العلوم و صارت صناعة مخصوصة و علماً منفرداً و تناقله الناس بالمشرق و الأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين و كان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر و اجتهد في تعليمه و عرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافراً. و اختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية و الجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمتها و بما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً و بالقراءات خصوصاً. فظهر لعهده أبو عمرو الداني و بلغ الغاية فيها و وقفت عليه معرفتها. و انتهت إلى روايته أسانيدها و تعددت تآليفه فيها. و عول الناس عليها و عدلوا عن غيرها و اعتمدوا من بينها كتاب التيسير له. ثم ظهر بعد ذلك فبما يليه من العصور و الأجيال أبو القاسم بن فيره من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دونه أ بو عمرو و تلخيصه فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف ا ب ج د ترتيباً أحكمه ليتيسر عليه ما قصده من الاختصار و ليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً و غني الناس بحفظها و تلقينها للولدان المتعلمين و جرى العمل على ذلك في أمصار المغرب و الأندلس. و ربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً و هي أوضاع حروف القرآن في المصحف و رسومه الخطية لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط كزيادة الياء في بأييد و زيادة الألف في لا أذبحنه و لا أوضعوا و الواو في جزاؤ الظالمين و حذف الألفات في مواضع دون أخرى و ما رسم فيه من التاءات ممدوداً. و الأصل فيه مربوط على شكل الهاء و غير ذلك و قد مر تعليل هذا الرسم المصحفي عند الكلام في الخط. فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط و قانونه احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضاً عند كتبهم في العلوم. و انتهت بالمغرب إلى أبي عمر الداني المذكور فكتب فيها كتباً من أشهرها: كتاب المقنع و أخذ به الناس و عولوا عليه. و نظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء و ولع الناس بحفظها. ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات و حروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في كتبه و هو من تلاميذ أبي عمرو الداني و المشتهر بحمل علومه و رواية كتبه ثم نقل بعده خلاف آخر فنظم الرزاز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافاً كثيراً، و عزاه لناقليه. و اشتهرت بالمغرب، و اقتصر الناس على حفظها. و هجروا بها كتب أبي داود و أبي عمرو و الشاطبي في الرسم.
و أما التفسير: فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب و على أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه و يعلمون معانيه في مفرداته و تراكيبه. و كان ينزل جملاً جملاً و آيات آيات لبيان التوحيد و الفروض الدينية بحسب الوقائع. و منها ما هو في العقائد الإيمانية، و منها ما هو في أحكام الجوارح، و منها ما يتقدم و منها ما يتأخر و يكون ناسخاً له. و كان النبي صلى الله عليه و سلم هو المبين لذلك كما قال تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم فكان النبي صلى الله عليه و سلم يبين المجمل و يميز الناسخ من المنسوخ و يعرفه أصحابه فعرفوه و عرفوا سبب نزول الآيات و مقتضى الحال منها منقولاً عنه. كما علم من قوله تعالى: إذا جاء نصر الله و الفتح إنها نعي النبي صلى الله عليه و سلم و أمثال ذلك و نقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. و تداول ذلك التابعون من بعدهم و نقل ذلك عنهم. و لم يزل متناقلاً بين الصدر الأول و السلف حتى صارت المعارف علوماً و دونت الكتب فكتب الكثير من ذلك و نقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة و التابعين و انتهى ذلك إلى الطبري و الواقدي و الثعالبي و أمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة و أحكام الإعراب و البلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل و لا كتاب فتنوسي ذلك و صارت تتلقى من كتب أهل اللسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب و على منهاج بلاغتهم. و صار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف و هي معرفة الناسخ و المنسوخ و أسباب النزول و مقاصد الآي. و كل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة. و التابعين. و قد جمع المتقدمون في ذلك و أوعوا، إلا أن كتبهم و منقولاتهم تشتمل على الغث و السمين و المقبول و المردود. و السبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم و إنما غلبت عليهم البداوة و الأمية. و إذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات و بدء الخليقة و أسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم و يستفيدونه منهم و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى. و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم و لا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب و معظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة و ما يرجع إلى الحدثان و الملاحم و أمثال ذلك. و هؤلاء مثل كعب الأحبار و وهب بن منبه و عبد الله بن سلام و أمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم و ليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. و تساهل المفسرون في مثل ذلك و ملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات. و أصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، و لا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم و عظمت أقدارهم. لما كانوا عليه من المقامات في الدين و الملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق و التمحيص و جاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب فلخص تلك التفاسير كلها و تحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها و وضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب و الأندلس حسن المنحى. و تبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج و احدأحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
و الصنف الآخر من التفسير و هو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة و الإعراب و البلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد و الأساليب. و هذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات. و إنما جاء هذا بعد أن صار اللسان و علومه صناعة. نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً و من أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة. فصار ذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه و تحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان و البلاغة و إذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية محسناً للحجاج عنها فلا جرم إنه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان. و لقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين و هو شرف الدين الطيببي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا و تتبع ألفاظه و تعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها و يبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة و فوق كل ذي علم عليم.