الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مقدمة ابن خلدون - الجزء الرابع»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل
سطر 1:
{{ترويسة
|عنوان = مقدمة ابن خلدون
|مؤلف = ابن خلدون
|باب =
|سابق =
|تالي =
|ملاحظات = {{مطبوعة|:تصنيف:مقدمة ابن خلدون:مطبوع}}
}}
 
== الفصل الثاني والخمسون في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره ==
السطر 555 ⟵ 564:
== الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة و طول أمده ==
و السبب في ذلك ظاهر و هو أن هذه كلها عوائد للعمران و الأوان. و العوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار و طول الأمد فتستحكم صبغة ذلك و ترسخ في الأجيال. و إذا استحكمت الصبغة عسر نزعها. و لهذا نجد في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة لما تراجع عمرانها و تناقص بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصار المستحدثة العمران و لو بلغت مبالغها في الوفور و الكثرة و ما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب و تداول الأحوال و تكررها و هذه لم تبلغ الغاية بعد. و هذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة و أحوالها فمن مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني و الطبخ و أصناف الغناء و اللهو من الآلات و الأوتار و الرقص و تنضيد الفرش في القصور، و حسن الترتيب و الأوضاع في البناء و صوغ الآنية من المعادن و الخزف و جميع المواعين و إقامة الولائم و الأعراس و سائر الصنائع التي يدعو إليها الترف و عوائده. فنجدهم أقوم عليها و أبصر بها. و نجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصة موفورة من ذلك و حظ متميز بين جميع الأمصار. و إن كان عمرانها قد تناقص. كالحا
 
و الكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة. و ما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية و ما قبلها من دولة القوط و ما بعدها من دولة الطوائف و هلم جرا. فبلغت الحضارة فيها مبلغاً لم تبلغه في قطر إلا ما ينقل عن العراق و الشام و مصر أيضاً لطول آماد الدول فيها فاستحكمت فيها الصنائع و كملت جميع أصنافها على الاستجادة و التنميق. و بقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ في الثوب.
 
و كذا أيضاً حال تونس فيما حصل فيها بالحضارة من الدول الصنهاجية و الموحدين من بعدهم و ما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال و إن كان ذلك دون الأندلس. إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما. و تردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنة و ربما سكن أهلها هناك عصوراً فينقلون من عوائد ترفهم و محكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه و من أحوال الأندلس لما أن أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة. و رسخ فيها من ذلك أحوال و إن كان عمرانها ليس مناسب لذلك لهذا العهد. إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلاً ما تحول إلا بزوال محلها. و كذا نجد بالقيروان و مراكش و قلعة ابن حماد أثراً باقياً من ذلك و إن كانت هذه كلها اليوم خراباً أو في حكم الخراب. و لا يتفطن لها إلا البصير من الناس فيجد من هذه الصنائع آثاراً تدله على ما كان بها كأثر الخط الممحو في الكتاب و الله الخلاق العليم.
 
 
== الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنما تستجاد و تكثر إذا كثر طالبها ==
و السبب في ذلك ظاهر و هو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً لأنه كسبه و منه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنفع. و إن كانت الصناعة مطلوبة و توجه إليها النفاق كانت و إنما الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها و تجلب للبيع. فتجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم.
 
و إذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها و لا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك و فقدت للإهمال. و لهذا يقال عن علي رضي الله عنه، قيمة كل امرئ ما يحسن بمعنى أن صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الذي هو معاشه. و أيضاً فهنا سر آخر و هو أن الصنائع و إجادتها إنما تطلبها الدولة فهي التي تنفق سوقها و توجه الطالبات إليها. و ما لم تطلبه الدولة و إنما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأن الدولة هي السوق الأعظم و فيها نفاق كل شيء و القليل و الكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق منها كان أكثرياً ضرورة. و السوقة و إن طلبوا الصناعة فليس طلبهم بعام و لا شوقهم بنافقة. و الله سبحانه و تعالى قادر على ما يشاء.
 
 
== الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع ==
و ذلك لما بينا أن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها و كثر طالبها. و إذا ضعفت أحوال المصر و أخذ في الهرم بانتقاض عمرانه و قلة ساكنه تناقص فيه الترف و رجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف لأن صاحبها حينئد لا يصح له بها معاشه فيفر إلى غيرها، أو يموت و لا يكون خلف منه. فيذهب رسم تلك الصنائع جملة، كما يذهب النقاشون و الصواغ و الكتاب و النساخ و أمثالهم من الصنائع لحاجات الترف. و لا تزال الصناعات في التناقص إلى أن تضمحل. و الله الخلاق العليم و سبحانه و تعالى.
 
 
== الفصل الحادي و العشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع ==
و السبب في ذلك أنهم أعرق في البدو و أبعد عن العمران الحضري و ما يدعو إليه من الصنائع و غيرها. و العجم من أهل المشرق و أمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها لأنهم أعرق في العمران الحضري و أبعد عن البدو و عمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحش و في القفر، و الإعراق في البدو، مفقودة لديهم بالجملة، و مفقودة مراعيها، و الرمال المهيئة لنتاجها. و لهذا نجد أوطان العرب و ما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة، حتى تجلب إليه من قطر آخر. و انظر بلاد العجم من الصين و الهند و أرض الترك و أمم النصرانية، كيف استكثرث فيهم الصنائع و استجلبها الأمم من عندهم. و عجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. و يشهد لك بذلك قلة الأمصار بقطرهم كما قدمناه..
 
فالصنائع بالمغرب لذلك قليلة و غير مستحكمة الأماكن من صناعة الصوف من نسجه، و الجلد في خرزه و دبغه. فإنهم لما استحضروا بلغوا فيها المبالغ لعموم البلوى بها و كون هذين أغلب السلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. و أما المشرق فقد رسخت الصنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين من الفرس و النبط و القبط و بني إسرائيل و يونان و الروم أحقاباً متطاولة، فرسخت فيهم أحوال الحضارة. و من جملتها الصنائع كما قدمناه، فلم يمح رسمها. و أما اليمن و البحرين و عمان و الحزيرة و إن ملكه العرب إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرين منهم. و اختطوا أمصاره و مدنه و بلغوا الغاية من الحضارة و الترف مثل عاد و ثمود و العمالقة و حمير من بعدهم.
 
و التبابعة و الأذواء فطال أمد الملك و الحضارة و استحكمت صبغتها و توفرت الصنائع و رسخت، فلم تبل ببلى الدولة كما قدمناه. فبقيت مستجدة حتى الآن. و اختصت بذلك للوطن، كصناعة الوشي و العصب و ما يستجاد من حول الثياب و الحرير فيها و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.
 
 
== الفصل الثاني و العشرون فيمن حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعد في ملكة أخرى ==
و مثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة و أحكمها و رسخت في نفسه فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد و لم ترسخ صبغتها. و السبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس و ألوان فلا تزدحم دفعة. و من كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات و أحسن استعداداً لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى و خرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف. و هذا بين يشهد له الوجود. فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثم يحكم من بعدها أخرى و يكون فيهما معاً على رتبة واحدة من الإجادة. حتى أن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. و من حصل منهم على ملكة علم من العلوم و أجادها في الغاية فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته بل يكون مقصراً فيه إن طلبه إلا في الأقل النادر من الأحوال. و مبني سببه على ما ذكرناه من الاستعداد و تلوينه بلون الملكة الحاصلة في النفس. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.
 
 
== الفصل الثالث و العشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع ==
إعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر و لا يأخذها العد. إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضع فنخصها بالذكر و نترك ما سواها. فأما الضروري فالفلاحة و البناء و الخياطة و النجارة و الحياكة، و أما الشريفة بالموضع فكالتوليد و الكتابة و الوراقة و الغناء و الطب. فأما التوليد فإنها ضرورية في العمران و عامة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود و تتم غالباً. و موضوعها مع ذلك المولودون و أمهاتهم. و أما الطب فهو حفظ الصحة لإنسان و دفع المرض عنه و يتفرع عن علم الطبيعة، و موضوعه مع ذلك بدن الإنسان.
 
و أما الكتابة و ما يتبعها من الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته و مقيدة لها عن النسيان و مبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب و مخلدة نتائج الأفكار و العلوم في الصحف و رافعة رتب الوجود للمعاني. و أما الغناء فهو نسب الأصوات و مظهر جمالها للأسماع. و كل هذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم و مجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها. و ما سوى ذلك من الصنائع فتابعة و ممتهنة في الغالب. و قد يختلف ذلك باختلاف الأغراض و الدواعي. و الله أعلم بالصواب.
 
 
== الفصل الرابع و العشرون في صناعة الفلاحة ==
هذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات و الحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها ازدراعها و علاج نباتها و تعهده بالسقي و التنمية إلى بلوغ غايته ثم حصاد سنبله و استخراج حبه من غلافه و إحكام الأعمال لذلك. و تحصيل أسبابه و دواعيه. و هي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً إذ يمكن وجوده من دون القوت. و لهذا اختصت هذه الصناعة بالبدو. إذ قدمنا أنه أقدم من الحضر و سابق عليه فكانت هذه الصناعة لذلك بدوية لا يقوم عليها الحضر و لا يعرفونها لأن أحوالهم كلها ثانية على البداوة فصنائعهم ثانية عن صنائعها و تابعة لها. و الله سبحانه و تعالى مقيم العباد فيما أراد.
 
 
== الفصل الخامس و العشرون في صناعة البناء ==
هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري و أقدمها و هي معرفة العمل في اتخاذ البيوت و المنازل للكن و المأوى للأبدان في المدن. و ذلك أن الإنسان لما جبل عليها من الفكر في عواقب أحواله، لا بد أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر و البرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف و الحيطان. من سائر جهاتها و البشر مختلف في هذه الجبلة الفكرية فمنهم المعتدلون فيها فيتخذون ذلك باعتدال أهالي الثاني و الثالث و الرابع و الخامس و السادس و أما أهل البدو فيبعدون عن اتخاذ ذلك لقصور أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية فيبادرون للغيران و الكهوف المعدة من غير علاج. ثم المعتدلون و المتخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون في البسيط الواحد بحيث يتناكرون و لا يتعارفون فيخشون طرق بعضهم بعضاً بياتاً فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة ماء أو أسوار تحوطهم و يصير جميعاً مدينة واحدة و مصراً واحداً و يحوطهم الحكم من داخل يدفع بعضهم عن بعض و قد يحتاجون إلى الانتصاف و يتخذون المعاقل و الحصون لهم و لمن تحت أيديهم و هؤلاء مثل الملوك و من في معناهم من الأمراء و كبار القبائل. ثم تختلف أحوال البناء في المهن كل مدينة على ما يتعارفون و يصطلحون عليه و يناسب مزاج هوائهم و اختلاف أحوالهم في الغنى و الفقر. و كذا حال أهل المدينة الواحدة فمنهم من يتخذ القصور و البضائع العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدور و البيوت و الغرف الكبيرة لكثرة ولده و حشمه و عياله و تابعه و يؤسس جدرانها بالحجارة و يلحم بينها بالكلس و يعالي عليها بالأصبغة و الجص و يبالغ في كل ذلك بالتنجيد و التنميق إظهاراً للبسطة بالعناية في شأن المأوى. و يهيىء مع ذلك الأسراب و المطامير للاختزان لأقواته و الإسطبلات لربط مقرباته إذا كان من أهل الجنود و كثرة التابع و الحاشية كالأمراء و من في معناهم و منهم من يبني الدويرة و البيوت لنفسه و سكنه و ولده لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه و اقتصاره عن الكن الطبيعي للبشر و بين ذلك مراتب غير منحصرة و قد يحتاج لهذه الصناعة أيضاً عند تأسيس الملوك و أهل و الدول المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة و يبالغون في إتقان الأوضاع و علو الأجرام مع الإحكام بتبلغ الصناعة مبالغها. و هذه الصناعة هي التي تحصل الدواعي لذلك كله و أكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع و ما حواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها.
 
و إنما يتخذون البيوت حظائر من القصب و الطين أو يأوون إلى الكهوف و الغيران. و أهل هذه الصناعة القائلون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر و منهم القاصر.
 
ثم هي تتنوع أنواعاً كثيرة فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقاً بعضها إلى بعض بالطين و الكلس الذي يعقد معها و يلتحم كأنها جسم واحد و منها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان يتخذ لها لوحان من الخشب فقدران طولاً و عرضاً باختلاف العادات في التقدير. و أوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس و قد يوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس و يوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال و الجدر. و يسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثم يوضع فيه التراب مخلطاً بالكلس و يركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه و يختلط أجزاؤه بالكلس ثم يزاد التراب ثانياً و ثالثاً إلى أن يمتلىء ذلك الخلاء بين اللوحين و قد تداخلت أجزاء الكلس و التراب و صارت جسماً واحداً. ثم يعاد نصب اللوحين على صورة و يركز كذلك إلى أن يتم و ينظم الألواح كلها سطراً من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحماً كأنه قطعة واحدة و يسمى الطابية و صانعه الطواب.
 
و من صنائع البناء أيضاً أن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء و يخمر أسبوعاً أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط و ذلك إلى أن يلتحم. و من صنائع البناء عمل السقف بأن يمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت و من فوقها الألواح كذلك موصولة بالدسائر و يصب عليها التراب و الكلس و يبسط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها و تلتحم و يعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط. و من صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق و التزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء ثم يرجع جسداً و فيه بقية البلل، فيشكل على التناسب تخريماً بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق و رؤاء. و ربما عولي على الحيطان أيضاً بقطع الرخام أو الآجر أو الخزف أو بالصدف أو السبج يفصل أجزاء متجانسة أو مختلفة و توضع في الكلس على نسب و أوضاع مقدرة عندهم يبدو به الحائط للعيان، كأنه قطع الرياض المنمنمة.
 
إلى غير ذلك من بناء الجباب و الصهاريج لسفح الماء بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج يجلب إليه من خارج القنوات المفضية إلى البيوت و أمثال ذلك من أنواع البناء. و تختلف الصناع في جميع ذلك باختلاف الحذق و البصر و يعظم عمران المدينة و يتسع فيكثرون. و ربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء. و ذلك أن الناس في المدن لكثرة الازدحام و العمران يتشاحون حتى في الفضاء و الهواء الأعلى و الأسفل و من الانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان. فيمنع جاره من ذلك إلا ما كان له فيه حق. و يختلفون أيضاً في استحقاق الطرق و المنافذ للمياه الجارية و الفضلات المسربة في القنوات و ربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار أو يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه خشية سقوطه و يحتاج إلى الحكم عليه بهدمه و دفع ضرر عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرضة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدار و لا إهمال لمنفعتها. و أمثال ذلك. و يخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر العارفين بالبناء و أحواله المستدلين عليها بالمعاقد و القمط و مراكز الخشب و ميل الحيطان و اعتدالها و قسم المساكن على نسبة أوضاعها. و منافعها و تسريب المياه في القنوات مجلوبة و مرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت و الحيطان و غير ذلك. فلهم بهذا كله البصر و الخبرة التي ليست لغيرهم. و هم مع ذلك يختلفون بالجودة و القصور في الأجيال باعتبار الدول و قوتها. فإنا قدمنا أن الصنائع و كمالها، إنما هو بكمال الحضارة و كثرتها بكثرة الطالب لها. فلذلك عندما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقع للوليد بن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة و القدس و مسجده بالشام. فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناء فبعث إليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد و قد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن و إجراء المياه بأخذ الارتفاع و أمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله. و كذلك في جر الأثقال بالهندام فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رقمها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفاً فيتم المراد من ذلك بغير كلفة و هذا إنما يتم بأصول هندسية معروفين متداولين بين البشر و بمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية. و أن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني و ليس كذلك و إنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه. فتفهم ذلك. و الله يخلق ما يشاء سبحانه.
 
 
== الفصل السادس و العشرون في صناعة النجارة ==
هذه الصناعة من ضروريات العمران و مادتها الخشب و ذلك أن الله سبحانه و تعالى جعل للآدمي في كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته و كان منها الشجر فإن له فيه من المنافع مالا ينحصر مما هو معروف لكل أحد. و من منافعها اتخاذها خشباً إذا يبست و أول منافعه أن يكون وقوداً للنيران في معاشهم و عصياً للاتكاء و الذود و غيرهما من ضرورياتهم و دعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثم بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو و الحضر فأما أهل البدو فيتخذون منها العمد و الأوتاد لخيامهم و الحدوج لظعائنهم و الرماح و القسي و السهام لسلاحهم و أما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم و الأغلاق لأ بوابهم و الكراسي لجلوسهم. و كل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها و لا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة. و الصناعة المتكفلة بذلك المحصلة لكل واحد من صورها هي النجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولاً، إما بخشب أصغر منه أو ألواح.
ثم تركب تلك الفضائل بحسب الصور المطلوبة. و هو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصير أعضاء لذلك الشكل المخصوص. و القائم على هذه الصناعة هو النجار و هو ضروري في العمران. ثم إذا عظمت الحضارة و جاء الترف و تأنق الناس فيما يتخذونه من كل صنف من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون، حدث التأنق في صناعة ذلك و استجادته بغرائب من الصناعة كمالية ليست من الضروري في شيء مثل التخطيط في الأبواب و الكراسي و مثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها و تشكيلها ثم تؤلف على نسب مقدرة و تلحم بالدسائر فتبدو لرأي العين ملتحمة و قد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كل شيء يتخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. و كذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتخذة من الخشب من أي نوع كان. و كذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح و الدسر و هي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت و اعتبار سبحه في الماء بقوادمه و كلكله ليكون ذلك الشكل أعون لها في مصادمة الماء و جعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح. و ربما أعينت بحركة المقاذيف كما في الأساطيل.
 
و هذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى أصل كبير من الهندسة في جميع أصنافها لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة التناسب في المقادير إما عموماً أو خصوصاً و تناسب المقادير لا بد فيه من الرجوع إلى المهندس. و لهذا كانت أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجاراً و بها كان يعرف. و كذلك أبلونيوس صاحب كتاب المخروطات و ميلاوش و غيرهم. و فيما يقال: أن معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام و بها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان. و هذا الخبر و إن كان ممكناً أعني كونه نجاراً إلا أن كونه أول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. و إنما معناه و الله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم يصح حكاية عنها قبل خبر نوع عليه السلام فجعل كأنه أول من تعلمها. فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
 
 
== الفصل السابع و العشرون في صناعة الحياكة و الخياطة ==
إعلم أن المعتدلين من البشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. و يحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر و البرد. و لا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوباً واحداً، و هو النسج و الحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، و إن قالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعاً يقدرون منها ثوباً على البدن بشكله و تعدد أعضائه و اختلاف نواحيها. ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوباً واحداً على البدن و يلبسونها. و الصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة.
هاتان الصناعتان ضروريتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرفه فالأولى لنسج الغزل من الصوف و الكتان و القطن إسداء في الطول و إلحاماً في العرض و إحكاماً لذلك النسج بالالتحام الشديد، فيتم منها قطع مقدرة فمنها الأكسية من الصوف للاشتمال، و منها الثياب من القطن و الكتان للباس. و الصناعة الثانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال و العوائد، تفصل بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاء البدنية ثم تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلاً أو تنبيتاً أو تفسحاً على حسب نوع الصناعة. و هذه الصناعة مختصة بالعمران الحضري لما أن أهل البدو يستغنون عنها و إنما يشتملون الأثواب اشتمالاً. و إنما تفصيل الثياب و تقديرها و إلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة و فنونها. و تفهم هذه في سر تحريم المخيط في الحج لما أن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيويئة كلها و الرجوع إلى الله تعالى كما خلقنا أول مرة، حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيباً و لا نساءً لا مخيطاً و لا خفاً، و لا يتعرض لصيد و لا لشيء من عوائده التي تلونت بها نفسه و خلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة. و إنما يجيء كأنه وارد إلى المحشر ضارعاً بقلبه مخلصاً لربه. و كان جزاؤه إن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. سبحانك ما أرفقك بعبادك و أرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك.
 
و هاتان الصنعتان قديمتان في الخليقة لما أن الدفء ضروري للبشر في العمران المعتدل. و أما المنحرف إلى الحر فلا يحتاج أهله إلى دفء. و لهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأول من السودان أنهم عراة في الغالب. و لقدم هذه الصنائع ينسبها العامة إلى ادريس عليه السلام و هو أقدم الأنبياء. و ربما ينسبونها إلى هرمس و قد يقال إن هرمس هو إدريس. و الله سبحانه و تعالى هو الخلاق العليم.
 
== الفصل الثامن و العشرون في صناعة التوليد ==
و هي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها و تهيئة أسباب ذلك. ثم ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. و هي مختصة بالنساء في غالب الأمر لما أنهن الظاهرات بعضهن على عورات بعض. و تسمى القائمة على ذلك منهن القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء و القبول كأن النساء تعطيها الجنين و كأنها تقبله. و ذلك أن الجنين إذا استكمل خلقه في الرحم و أطواره و بلغ إلى غايته و المدة التي قدرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك و يضيق عليه المنفذ فيعسر. و ربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط و ربما انقطع بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق و الالتحام بالرحم. و هذه كلها آلام يشتد لها الوجع و هو معنى الطلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر و الوركين و ما يحاذي الرحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدافعة في إخراج الجنين و تسهيل ما يصعب منه بما يمكنها و على ما تهتدي إلى معرفة عسرة.
 
ثم إن أخرج الجنين بقيت بينه و بين الرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه. و تلك الوصلة عضو فضلي لتغذية المولود خاصة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضلة و لا تضر بمعاه و لا برحم أمه ثم تدمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثم إن الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق و هو رطب العظام سهل الانعطاف و الانثناء فربما تتغير أشكال أعضائه و أوصافها لقرب التكوين و رطوبة المواد فتتناوله القابلة بالغمز و الإصلاح حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي و وضعه المقدر له و يرتد خلقه سوياً. ثم بعد ذلك تراجع النفساء و تحاذيها بالغمز و الملاينة لخروج أغشية الجنين لأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلاً. و يخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية و هي فضلات فتتعفن و يسري عفنها إلى الرحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا و تحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية التي كانت قد تأخرت ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان و الذرورات القابضة لتشده و تجفف رطوبات الرحم و تحنكه لرفع لهاته و تسعطه لاستفراغ نطوف دماغه و تغرغره باللعوق لدفع السدد من معاه و تجويفها عن الالتصاق.
 
ثم تداوي النفساء بعد ذلك من الوهن الذي أصابها بالطلق و ما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود إن لم يكن عضواً طبيعياً فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. و تداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التمزيق عند الضغط في الخروج. و هذه كلها أدواء نجد هولاء القوابل أبصر بدوائها. و كذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بها من الطبيب الماهر. و ما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن إنساني بالقوة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدناً إنسانياً بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطبيب أشد. فهذه الصناعة كما تراه ضرورية في العمران للنوع الإنساني، لا يتم كون أشخاصه في الغالب دونها. و قد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة، إما بخلق الله ذلك لهم معجزة و خرقاً للعادة كما في حق الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أو بإلهام و هداية يلهم لها المولود و يفطرعليها فيتم وجودهم من دون هذه الصناعة. فأما شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيراً. و منه ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد مسروراً مختوناً واضعاً يديه على الأرض شاخصاً ببصره إلى السماء. و كذلك شأن عيسى في المهد و غير ذلك.
 
و أما شأن الإلهام فلا ينكر. و إذا كانت الحيوانات العجم تختص بغرائب الإلهامات كالنحل و غيرها فما ظنك بالإنسان المفضل عليها. و خصوصاً بمن اختص بكرامة الله. ثم الإلهام العام للمولودين في الإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجوب الإلهام العام لهم. فشأن العناية الإلهية أعظم من أن يحاط به. و من هنا يفهم بطلان رأي الفارابي و حكماء الأندلس فيما احتجوا به لعدم انقراض الالواح و استحالة انقطاع المكونات. و خصوصاً في النوع الإنساني، و قالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقفه على وجود هذه الصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها. إذ لو قدرنا مولوداً دون هذه الصناعة و كفالتها إلى حين الفصال لم يتم بقاؤه أصلاً. و وجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنها ثمرته و تابعة له. و تكلف ابن سينا في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه و ذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع و خراب عالم التكوين ثم عوده ثانياً لاقتضاءات فلكية و أوضاع غريبة تنذر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة فيتم كونه إنساناً ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاماً لتربيته و الحنو عليه إلى أن يتم وجوده و فصاله. و أطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان. و هذا الاستدلال غير صحيح و إن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدل به. فإن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العلة الموجبة.
 
و دليل القول بالفاعل المختار يرد عليه و لا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال و القدرة القديمة و لا حاجة إلى هذا التكلف. ثم لو سلمناه جدلاً فغاية ما ينبني عليه اطراد وجوب هذا الشخص بخلق الإلهام لترتيبه في الحيوان الأعجم. و ما الضرورة الداعية لذلك ؟ و إذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسه كما قررناه أولاً. و خلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك و الله تعالى أعلم.
 
 
== الفصل التاسع و العشرون في صناعة الطب و أنها محتاج إليها في الحواضر و الأمصار دون البادية ==
هذه الصناعة ضرورية في المدن و الأمصار لما عرف من فائدتها فإن ثمرتها حفظ الصحة للأصحاء و دفع المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم. و اعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الجامع للطب و هو قوله: المعدة بيت الداء و الحمية رأس الدواء و أصل كل داء البردة فأما قوله المعدة بيت الداء فهو ظاهر و أما قوله الحمية رأس الدواء فالحمية الجوع و هو الاحتماء من الطعام. و المعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية و أما قوله أصل كل داء البردة فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة قبل أن يتم هضم الأول.
 
و شرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان و حفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل و ينفذ فيه القوى الهاضمة و الغاذية إلى أن يصير دماً فلا ملائماً لأجزاء البدن من اللحم و العظم، ثم تأخذه النامية فينقلب لحماً و عظماً. و معنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طوراً بعد طور حتى يصيرجزءاً بالفعل من البدن و تفسيره أن الغذاء إذا حصل في الفم و لاكته الأشداق أثرت فيه حرارة الفم طبخاً يسيراً و قلبت مزاجه بعض الشيء، كما تراه في اللقمة إذا تناولتها طعاماً ثم أجدتها مضغاً فترى مزاجها غير مزاج الطعام ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموساً و هو صفو ذلك المطبوخ و ترسله إلى الكبد و ترسل ما رسب منه في المعى ثقلاً ينفذ إلى المخرجين. ثم تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دماً عبيطاً و تطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء. و ترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء و يقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثم ترسلها الكبد كلها في العزوق و الجداول، و يأخذها طبخ الحال الغريزي هناك فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني و تأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحماً ثم غليظة عظاماً.
 
ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق و اللعاب و المخاط و الدمع. هذه صورة الغذاء و خروجه من القوة إلى الفعل لحماً. ثم إن أصل الأمراض و معظمها هي الحميات. و سببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن تمام النضج في طبخه في كل طور من هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج، و سببه غالباً كثرة الغذاء في المعدة حتى يكون أغلب على الحار الغزيري أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول فيستقل به الحار الغريزي و يترك الأول بحالة أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ و النضج. و ترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضاً على إنضاجه. و ربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة. و ترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق و الدمع و اللعاب إن اقتدر على ذلك. و ربما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق و الكبد و المعدة و تتزايد مع الأيام. و كل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ و النضج يعفن فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج و هو المسمى بالخلط.
 
و كل متعفن ففيه حرارة غريبة و تلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى. و اختبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن و في الزبل إذا تعفن أيضاً، كيف تنبعث فيه الحرارة و تأخذ مأخذها. فهذا معنى الحميات في الأبدان و هي رأس الأمراض و أصلها كما وقع في الحديث. و هذه الحميات علاجها بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم يتناول الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه. و ذلك في حال الصحة له علاج في التحفظ من هذا المرض و غيره و أصله كما وقع في الحديث و قد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولد عنه مرض في ذلك العضو و يحدث جراحات في البدن، إما في الأعضاء الرئيسية أو في غيرها. و قد يمرض العضو و يحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلها جماع الأمراض، و أصلها في الغالب من الأغذية و هذا كله مرفوع إلى الطبيب. و وقوع هذه الأمراض في أهل الحضر و الامصار أكثر. لخصب عيشهم و كثرة مآكلهم و قلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية و عدم توقيتهم لتناولها. و كثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل و البقول و الفواكه، رصباً و يابساً في سبيل العلاج بالطبخ و لا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربما عددنا في اليوم ا الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات و الحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. و ربما يكون غريباً عن ملاءمة البدن و أجزائه. ثم إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفصلات. و الأهوية فنشطة للأرواح و مقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم.
 
ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً و لا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن و الأمصار و على قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة. و أما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب و الجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة. و ربما يظن أنها جبلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة.
 
و علاج الطبخ بالتوابل و الفواكه إنما يدعو إلى ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها و يقرب مزاجها من ملاءمة البدن. و أما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات و العفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن. ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كله الهضم و يجود و يفقد إدخال الطعام على الطعام فتكون أمزجتهم أصلح و أبعد من الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب. و لهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه. و ما ذاك إلا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد، لأنه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه سنة الله في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلاً.
 
 
== الفصل الثلاثون في أن الخط و الكتابة من عداد الصنائع الإنسانية ==
و هو رسوم و أشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية و هو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان. و أيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر و تتأدى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة فتقضي الحاجات و قد دفعت مؤنة المباشرة لها و يطلع بها على العلوم و المعارف و صحف الأولين و ما كتبوه من علومهم و أخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه و المنافع. و خروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم و على قدر الاجتماع و العمران و التناغي في الكمالات و الطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة. إذ هو من جملة الصنائع.
 
و قد قدمنا أن هذا شأنها و أنها تابعة للعمران و لهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون و لا يقرأون و من قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصراً أو قراءته غير نافذة. و نجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ و أحسن و أسهل طريقاً لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد و أن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين و أحكاماً في وضع كل حرف و يزيدون إلى ذلك المباشر بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم و الحس في التعليم و تأتي ملكته على أتم الوجوه. و إنما أتى هذا من كمال الصنائع و وفورها بكثرة العمران و انفساح الأعمال و قد كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الإحكام و الإتقان و الجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة و الترف و هو المسمى بالخط الحميري. و انتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية و المجددين لملك العرب بأرض العراق. و لم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين.
 
و كانت الحضارة و توابعها من الصنائع و غيرها قاصرة عن ذلك. و من الحيرة لقنه أهل الطائف و قريش فيما ذكر. و يقال إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية و يقال حرب بن أمية و أخذها من أسلم بن سدرة. و هو قول ممكن و أقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراقإذا ساروا جميعاً و الخط و القلم
 
و هو قول بعيد لأن إياداً و إن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. و الخط من الصنائع الحضرية. و إنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط و القلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار و ضواحيها فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة و لقنها أهل الحيرة من التبابعة و حمير هو الأليق من الأقوال و رأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ الفيرواني القاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه و اسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. عن أبيه قال قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش، خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم تجمعون منه ما أجتمع و تفرقون منه ما افترق مثل الألف و اللام و الميم و النون ؟ قال: نعم.
 
قلت و ممن أخذتموه ؟ قال، من حرب بن أمية. قلت: و ممن أخذه حرب ؟ قال، من عبد الله بن جدعان. قلت: و ممن أخذه عبد الله بن جدعان ؟ قال من أهل الأنبار. قلت: و ممن أخذه أهل الأنبار ؟ قال: من طارئ طرأ عليه من أهل اليمن. قلت و ممن أخذه ذلك لطاريء ؟
 
قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي ليهود النبى عليه السلام. و هو الذي يقول:
 
أفي كل عام سنة تحدثونها و رأي على غير الطريق يعبر
و الموت خير من حياة تسبنا بها جرهم فيمن يسب و حمير
 
انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة. و زاد في آخره حدثني بذلك أبو بكر بن أبي حميره في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلعنكي بن أبي عبد الله بن مفرح. و من خطه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمد بن حشيش بن عمر بن أيوب المغافري التونسي عن بهلول بن عبيدة الحمي عن عبد الله بن فروخ. انتهى.
 
و كان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة و كانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم. و من حمير تعلمت مصر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب و لا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو و الصناعة و استغناء البدو عنها في الأكثر. و كانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريباً من كتابتهم لهذا العهد أو نقول أن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة و مخالطة الأمصار و الدول. و أما مصر فكانوا أعرق في البدو و أبعد عن الحضر من أهل اليمن و أهل العراق و أهل الشام و مصر فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام و الإتقان و الإجادة و لا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة و التوحش و بعدهم عن الصنائع، و انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم و كانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم و خير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله و كلامه. كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً و يتبع رسمه خطاً أو صواباً. و أين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه فاتبع ذلك و أثبت رسماً و نبه العلماء بالرسم على مواضعه. و لا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط و أن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه. يقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه: إنه تنبيه على الذبح لم يقع و في زيادة الياء في بأييد إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية و أمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. و ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. و حسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه و نسبوا إليهم الكمال بإجادته و طلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه و ذلك ليس بصحيح. و اعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. و الكمال في الصنائع إضافي و ليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين و لا في الخلال و إنما يعود على أسباب المعا ش و بحسب العمران و التعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. و قد كان صلى الله عليه و سلم أمياً و كان ذلك كمالاً في حقه و بالنسبة إلى مقامه لشرفه و تنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعا ش و العمران كلها. و ليست الأمية كمالاً في حقنا نحن إذ هو منقطع إلى ربه و نحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية فإن الكمال في حقه تنزهه عنها جملةً بخلافنا. ثم لما جاء الملك للعرب و فتحوا الأمصار و ملكوا الممالك و نزلوا البصرة و الكوفة و احتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط و طلبوا صناعته و تعلموه و تداولوه فترقت الإجادة فيه و استحكم و بلغ في الكوفة و البصرة رتبة من الإتقان إلا أنها كانت دون الغاية. و الخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد.
 
ثم انتشر العرب في الأقطار و الممالك و افتتحوا أفريقية و الأندلس و اختط بنو العباس بغداد و ترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استبحرت في العمران و كانت دار الإسلام و مركز الدولة العربية و خالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة. في الميل إلى إجادة الرسوم و جمال الرونق و حسن الرواء. و استحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها ببغداد علي بن مقلة الوزير. ثم تلاه في ذلك علي بن هلال. الكاتب الشهير بابن البواب. و وقف سند تعليمها عليه في الماية الثالثة و ما بعدها.
 
و بعدت رسوم الخط البغدادي و أوضاعه عن الكوفة حتى انتهى إلى المباينة. ثم ازدادت المخالفة بعد تلك القصور بتفنن الجهابذة في إحكام رسومه و أوضاعه، حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت و الولي علي العجمي. و وقف سند تعليم الخط عليهم و انتقل ذلك إلى مصر، و خالفت طريقة العراق بعض الشيء و لقنها العجم هنالك، و ظهرت مخالفة لخط أهل مصر أو مباينة.
و كان الخط البغدادي معروف الرسم و تبعه الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد. و يقرب من أوضاع الخط المشرقي و تحيز ملك الأندلس بالأمويين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة و الصنائع و الخطوط فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد. و طما بحر العمران و الحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر. و عظم الملك و نفقت أسواق العلوم و انتسخت الكتب و أجيد كتبها و تجليدها و ملئت بها القصور و الخزائن الملوكية بما لا كفاء له و تنافس أهل الأقطار في ذلك و تناغوا فيه.
 
ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية و تناقص ذلك أجمع و درست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخط و الكتابة بل و العلم إلى مصر و القاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد و له بها معلمون يرسمون لتعليم الحروف بقوانين في وضعها و أشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع و قد لقنها حسناً و حذق فيها دربةً و كتاباً و أخذها قوانين علمية فتجئ أحسن ما يكون. و أما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها و من خلفهم من البربر، و تغلبت عليهم أمم النصرانية فانتشروا في عدوة المغرب و أفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد. و شاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع و تعلقوا بأذيال الدولة فغلب خطهم على الخط الأفريقي و عفى عليه و نسي خط القيروان و المهدية بنسيان عوائدهما و صنائعهما. و صارت خطوط أهل أفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس و ما إليها لتوفر أهل الأندلس بها عند الحالية من شرق الأندلس.
 
و بقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس و لا تمرسوا بجوارهم. إنما كانوا يغدون على دار الملك بتونس فصار خط أهل أفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء و تراجع أمر الحضارة و الترف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخط و فسدت رسومه و جهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة و تناقص العمران. و بقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها و حصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي لقرب جرارهم و سقوط من خرج منهم إلى فاس قريباً و استعمالهم إياهم سائر الدولة. و نسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك و داره. كأنه لم يعرف. فصارت الخطوط بإفريقية و المغربيين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة و صارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء و المشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد و التصحيف و تغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر و وقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة و فساد الدول و الله يحكم لا معقب لحكمه.
و للأستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب قصيدة من بحر البسيط على روي الراء يذكر فيها صناعة الخط و قوادها من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلم هذه الصناعة.
 
و أولها:
يا من يريد إجادة التحرير و يروم حسن الخط و التصوير
إن كان عزمك في الكتابة صادقاً فارغب إلى مولاك في التيسير
أعدد من الأقلام كل مثقفصلب يصوغ صناعة التحبير
و إذا عمدت لبرية فتوخه عند القياس بأوسط التقدير
انظر إلى طرفيه فاجعل بريه من جانب التدقيق و التحضير
و اجعل لجلفته قواماً عادلاً خلواً عن التطويل و التقصير
و الشق وسطه ليبقى بريه من جانبيه مشاكل التقدير
حتى إذا أيقنت ذلك كله فالقط فيه جملة التدبير
لا تطمعن في أن أبوح بسره إني أضن بسره المستور
لكن جملة ما أقول بأنه ما بين تحريف إلى تدوير
و ألق دواتك بالدخان مدبراً بالخل أو بالحصرم المعصور
و أضف إليه قفرة قد صولت مع أصغر الزرنيخ و الكافور
حتى إذا ما خمرت فاعمد إلى الورق النقي الناعم المخبور
فاكسبه بعد القطع بالمعصابر كي ينأى عن التشعيث و التغيير
ثم اجعل التمثيل دأبك صابراً ما أدرك المأمول مثل صبور
إبدأ به في اللوح منتفياً له غرماً تجرده عن التشمير
لا تخجلن من الردى تختطه في أول التمثيل و الشطير
فالأمر يصعب ثم يرجع هيناً و لرب سهل جاء بعد عسير
حتى إذا أدركت ما أملته أضحيت رب مسرة و حبور
فاشكر الهك و اتبع رضوانه إن الإله يجيب كل شكور
و ارغب لكفك أن تخط بنانها خيراً يخلفه بدار غرور
فجميع فعل المرء يلقاه غداً عند الشقاء كتابه المنشور
 
و اعلم بأن الخط بيان عن القول و الكلام، كما أن القول و الكلام. بيان عما في النفس و الضمير من المعاني فلا بد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة.
قال الله تعالى: خلق الإنسان * علمه البيان و هو يشتمل. بيان الأدلة كلها. فالخط المجود كماله أن تكون دلالته واضحة، بإبانة حروفه المتواضعة و إجادة وضعها و رسمها كل واحد على حدة متميز عن الآخر. إلا ما اصطلح عليه الكتاب من إيصال حرف الكلمة الواحدة بعضها ببعض. سوى حروف اصطلحوا على قطعها، مثل الألف المتقدمة في الكلمة، و كذا الراء و الزاي و الدال و الذال و غيرها، بخلاف ما إذا كانت متأخرة.
 
و هكذا إلى آخرها. ثم إن المتأخرين من الكتاب اصطلحوا على وصل كلمات، بعضها ببعض، و حذف حروف معروفة عندهم، لا يعرفها إلا أهل مصطلحهم فتستعجم على غيرهم و هؤلاء كتاب دواوين السلطان و سجلات القضاة، كأنهم انفردوا بهذا الإصطلاح عن غيرهم لكثرة موارد الكتابة عليهم، و شهرة كتابتهم و إحاطة كثير من دونهم بمصطلحهم فإن كتبوا ذلك لمن لا خبرة له بمصطلحهم فينبغي أن يعدلوا عن ذلك إلى البيان ما استطاعوه، و إلا كان بمثابة الخط الأعجمي، لأنهما بمنزلة واحدة من عدم التواضع عليه. و ليس بعذر في هذا القدر، إلا كتاب الأعمال السلطانية في الأموال و الجيوش، لأنهم مطلوبون بكتمان ذلك عن الناس فإنه من الأسرار السلطانية التي يجب إخفاؤها، فيبالغون في رسم اصطلاح خاص بهم. و يصير بمثابة المعمى. و هو الإصطلاح على العبارة عن الحروف بكلمات من أسماء الطيب و الفواكه و الطيور و الأزاهير، و وضع أشكال أخرى غير أشكال الحروف المتعارفة يصطلح عليها المتخاطبون لتأدية مافي ضمائرهم بالكتابة. و ربما وضع الكتاب للعثور على ذلك، و إن لم يضعوه أولاً، قوانين بمقاييس استخرجوها لذلك بمداركهم يسفونها فك المعمى. و للناس في ذلك دواوين مشهورة. و الله العليم الحكيم.
 
 
[[تصنيف:مقدمة ابن خلدون]]