الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مقدمة ابن خلدون/الباب الثالث من الكتاب الأول (الدول العامة و الملك و الخلافة و المراتب السلطانية)»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
سطر 36:
وجه النكير عليه و تداعوا للقيام و خلع طاعة المأمون و الاستبدال منه و بويع إبراهيم بن المهدي فوقع الهرج ببغداد و انطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار و الحربية على أهل العافية و الصون و قطعوا السبيل و امتلأت أيديهم من نهاب الناس و باعوها علانية في الأسواق و استعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدين و الصلاح على منع الفساق و كف عاديتهم و قام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فأجابه خلق و قاتل أهل الزعارة فغلبهم و أطلق يده فيهم بالضرب و التنكيل ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاري و يكنى أبا حاتم و علق مصحفاً في عنقه و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و العمل بكتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم فاتبعه الناس كافةً من بين شريف و وضيع من بنى هاشم فمن دونهم و نزل قصر طاهر و أتخذ الديوان و طاف ببغداد و منع كل من أخاف المارة و منع الخفارة لأولئك الشطار و قال له خالد الدريوس أنا لا أعيب على السلطان فقال له سهل لكني أقاتل كل من خالف الكتاب و السنة كائناً من كان و ذلك سنة إحدى و مائتين و جهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه و أسره و انحل أمره سريعاً و ذهب و نجا بنفسه ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق و لا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية و لا يشعرون بمغبة أمرهم و مآل أحوالهم و الذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون و إما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً و إما إذاعة السخرية منهم و عدهم من جملة الصفاعين و قد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داع له و ليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي و لا ما هو و أكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسةً امتلأت بها جوانحهم و عجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك و لا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة و تسوء عاقبة مكرهم و قد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك و زعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك و أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش ثم خشي رؤساؤهم أتساع نطاق الفتنة فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله في فراشه و كذلك خرج في غماره أيضاً لأول هذه المائة رجل يعرف بالعباس و ادعى مثل هذه الدعوة و اتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل و أغمارهم و زحف إلى بادس من أمصارهم و دخلها عنوة. ثم قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته و مضى في الهالكين الأولين و أمثال ذلك كثير و الغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها و أما إن كان التلبيس فأحرى أن لا يتم له أمر و أن يبوء بإثمه و ذلك جزاء الظالمين و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب غيره و لا معبود سواه.
 
==الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك و الأوطان لا تزيد عليها ==
و السبب في ذلك أن عصابة الدولة و قومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصاً على الممالك و الثغور التي تصير إليهم و يستولون عليها لحمايتها من العدو و إمضاء أحكام الدولة فيها من جباية و ردع و غير ذلك فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور و الممالك فلا بد من نفاد عددها و قد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة و تخماً لوطنها و نطاقاً لمركز ملكها فإن تكفلت الدولة بعد ذلك زيادةً على ما بيدها بقى دون حاميةً و كان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو و المجاور و يعود وبال ذلك على الدولة بما يكون فيه من التجاسر و خرق سياج الهيبة و ما كانت العصابة موفورة و لم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثغور و النواحي بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية حتى ينفسح نطاقها إلى غايته و العلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية و كل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها و الدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف و النطاق و إذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت و أقصرت عما وراءه شأن الأشعة و الأنوار إذا انبعثت من المراكز و الدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه ثم إذا أدركها الهرم و الضعف فإنما تأخذ في التناقص من جهة الأطراف و لا يزال المركز محفوظاً إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز و إذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف و النطاق بل تضمحل لوقتها فأن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح فإذا غلب على القلب و ملك انهزم جميع الأطراف و انظر هذا في الدولة الفارسية كان مركزها المدائن فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع و لم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه و بالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام لما كان مركزها القسطنطينية و غلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية و لم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلى أن تأذن الله بانقراضه و انظر أيضاً شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام و العراق و مصر لأسرع وقت ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند و الحبشة و أفريقية و المغرب ثم إلى الأندلس فلما تفرقوا حصصاً على الممالك و الثغور و نزلوها حامية و نفد عددهم في تلك التوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد و انتهى أمر الإسلام و لم يتجاوز تلك الحدود و منها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها و كذا كان حال الدول من بعد ذلك كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة و عند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح و الاستيلاء سنة الله في خلقه.
 
 
== الفصل الثامن في أن عظم الدولة و اتساع نطاقها و طول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة ==