الفرق بين المراجعتين لصفحة: «إقامة الدليل على إبطال التحليل/12»
تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل |
لا ملخص تعديل |
||
سطر 8:
والأموال التي كان يقسمها النبي
القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس، ولهذا قال: { وهو مردود عليكم } بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة، ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين، والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين الذين خلفوا رسول الله
تتضمن الربوبية .
ما يذكر في الإسرائيليات: " أن الله قال لداود: أما الذنب فقد غفرناه ; وأما الود فلا يعود " فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا ; فإن دين محمد
بعد معاداتهم لله ورسوله جعل الله بينهم وبين الرسل والمؤمنين مودة، وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه، وقد ثبت في الصحيح: { أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت: والله يا رسول الله، ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي
؟، ، وإن قال قائل: أولئك كانوا كفارا، لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم ; بل كانوا جهالا بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه، قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: إنه ليس الأمر كذلك، بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدا رسول الله، ويعادونه حسدا وكبرا وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي
الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما } قال أبو العالية: سألت أصحاب رسول الله
له ومودته إياه ; بل يبدل الله سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل الله سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل، وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده الله منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت مودة الله له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال الود لا يعود، وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول: " إن الله لا يبعث نبيا إلا من كان معصوما قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال إنه لا يبعث نبيا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصا فهو غالط غلطا عظيما، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلا ; لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة ; بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها،
لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمنا قليلا كفر الله ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد }، وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولا بد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين، كما قال تعالى: { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }، وقد أخبر الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد
ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد }، وفي صحيح مسلم وغيره: { أنه كان يقول: نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع }، وفي صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه عن النبي
وللمؤمنين والمؤمنات } وقال: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وثبت في الصحيحين: في حديث الشفاعة { أن المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر }، وفي الصحيح: { أن النبي
تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبا له، فإن قال: إن الله لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل: وهو أيضا لم يغفر ذنوب جميع أمته، الوجه الرابع: أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبا له، الوجه الخامس: أنه ثبت في الصحيح: أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الله، هذا لك فما لنا فأنزل الله { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } مختص به دون أمته، الوجه السادس: أن الله لم يغفر ذنوب جميع أمته بل قد ثبت أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وقد قال الله تعالى: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل، فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول ; لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب .
-مسألة: عن العمرة، هل هي واجبة ؟ وإن كان، فما الدليل عليه ؟، فصل: العمرة في وجوبها قولان للعلماء وهما قولان في مذهب الشافعي وأحمد، والمشهور عنهما وجوبها، والقول الآخر: لا تجب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهذا القول أرجح فإن الله إنما أوجب الحج بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } لم يوجب العمرة كما أوجب إتمامها بقوله: { وأتموا الحج والعمرة لله } إيجاب الإتمام وأوجب إتمامهما، وفي الابتداء إنما أوجب الحج، وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ; ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج فإنها إحرام وإحلال وطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وهذا كله داخل في الحج، وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئا مرتين، فلم يفرض وقوفين ولا طوافين ولا سعيين، ولا فرض الحج مرتين، فطواف الوداع ليس بركن بل هو واجب وليس هو من تمام الحج، ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع، ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض، لا
لكون ذلك واجبا بالإسلام كوجوب الحج، ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة لا على عهد النبي
وتجب النفقة لكل وارث ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم لأنه من صلة الرحم وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام، وهو رواية عن أحمد والأوجه وجوبها مرتبا وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض رجاء الاسترجاع وعلى هذا فمتى وجبت عليه النفقة وجب عليه القرض إذا كان له وفاء، وذكر القاضي وأبو الخطاب وغيرهما في أب وابن القياس أن على الأب السدس إلا أن الأصحاب تركوا القياس لظاهر الآية، والآية إنما هي في الرضيع وليس له ابن فينبغي أن يفرق بين الصغير وغيره فإن من له ابن يبعد أن لا تكون عليه نفقته بل تكون على الأب فليس في القرآن ما يخالف ذلك وهذا جيد على قول ابن عقيل حيث ذكر في التذكرة أن الولد ينفرد بنفقة والديه .
سطر 34:
المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل لم أقصد به ذلك، ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه، وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر لعلم الشارع ما جلبت عليه النفوس وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة، أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر، فالأول: قوله سبحانه وتعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } حرم سب الآلهة مع أنه عبادة لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى ; لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم، الثاني
ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله
المترتب على زوال العقل وهذا في الأصل ليس من هذا الباب، ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل وجعلها نجسة لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها، ثم إنه قد نهى عن الخليطين، وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها حسما لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف - وبين
وغروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود الكفار للشمس ففي ذلك تشبيه بهم ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها، الثامن: أنه نهى
أختها درة لم يجز ذلك }، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك ; لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة، وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع ; لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن به قوة على العدل بينهن مع الكثرة، وكذلك عند من زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العين الأولى بقوله تعالى: { ذلك أدنى ألا تعولوا } وهذا نص في اعتبار الذريعة، العاشر: أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك، الحادي عشر: أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي حال الإحرام حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين، الثاني عشر: أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما، ومثل اشتراط الولي فيه، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى
إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وكان أصل ذلك في قوله تعالى: { محصنين غير مسافحين } و { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وإنما ذلك ; لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش، ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى: { نسبا وصهرا }، وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح وتبين أن نكاح المحل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه، الثالث عشر: { أن النبي
عجوة قال إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله
مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق، أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا، وما ذاك إلا ; لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر، السابع عشر: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان ; لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين، الثامن عشر: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، التاسع عشر: { أن النبي
اللحاق بالكفار، العشرون: { أن النبي
بالسجود لغير الله سبحانه، الثاني والعشرون: أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي
الله سبحانه منع رسول الله
التصرفات لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذرائع الفرقة، وهي من الأفعال أيضا، الثامن والعشرون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع، التاسع والعشرون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم، الثلاثون: أن النبي
المحل وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع، والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي قصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا، ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخرى غير ما ذكرناه من الذرائع وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به المحرم أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله والله الهادي إلى سواء الصراط .
وإذا اختلف أصحاب محمد
التابعين، فأخذ بقول بعضهم فهذا لا يرد، فأما إذا كان عن رسول الله
واختلف الصحابة فهنا يجتهد في الراجح ولا يرد حكم من حكم بأحدهما ; لأن تراجيح الأدلة أو استنباطها عند خفاها هو محل اجتهاد المجتهدين، ثم إنه لم يحكم بخطإ من ذهب إلى أحد النصين مع قوله إن الحق عند الله واحد، وعند خفاء الأدلة قال لا أدري أصاب الحق أم أخطأ، وهذا تحقيق عظيم وذلك ; لأن النص دليل قطعا لكن عند معارضة الآخر له هل سلبت دلالته أم لم تسلب، هذا محل تردد، فإن اعتقد رجحانه اعتقد بقاء دلالته فقد تمسك بما هو دليل لم يثبت سلب دلالته فصار إن كان الحق في القول الآخر كالتمسك بالنص الذي نسخ ولم يعلم نسخه فلا يحكم على مخالفه بالخطإ، كما لا يحكم لنفسه بإصابة الحق الذي عند الله، وأما إذا لم يكن نصا وقد اجتهد فقد يكون ما اعتمده من الاستنباط بالرأي تأويلا وقياسا ليس بدليل، فلا ندري أنه أصاب كالمتمسك بدليل أم لم يصب فتحرر من كلامه أنه في الباطن ليس المصيب إلا واحدا، وأما في الظاهر فلا نحكم بالخطإ لمن تمسك بدليل صحيح، ولا نحكم بالصواب لمن لا نعلم أنه تمسك بدليل صحيح، وهذا التفصيل خير من إطلاق بعض أصحابنا وغيرهم الخطأ في الحكم مطلقا، وإطلاق بعضهم
الإصابة في الحكم مطلقا، واعلم أن أحمد لم يقل إنه مصيب في الحكم، بل قال لا يقال إنه مخطئ لعدم العلم بأنه مخطئ، ولأن ذلك يوهم أنه مخطئ في استدلاله .
سطر 55:
المقام الرابع: أن هذه الأدلة اليقينية أو الاعتقادية، لا بد أن يعمل بها بعض الأمة لئلا تكون الأمة مجمعة على الخطإ، ولا يحصل مقتضاه إلا لمن بلغته ونظر فيها، فمن يبلغه من غير تقصير ولا قصور إما أن يكون متمسكا بما هو دليل شرعي لولا معارضة تلك الأدلة كالمتمسك بالعام قبل أن يبلغه تخصيصه، وإما أن يكون متمسكا بحق في الباطن، لكن تلك الأدلة نسخته، وإما أن يكون متمسكا بالنفي الأصلي، وهو عدم الوجوب والتحريم، فهل يقال لأحد هؤلاء أنه مصيب أو مخطئ، أو مصيب من وجه مخطئ من وجه، أو لا يطلق عليه صواب ولا خطأ، وهل يقال فعل ما وجب أو ما لم يجب، أو ما أبيح أو ما لم يبح هذا المقام والذي بعده أكثر شعب هذه المسألة فمن أصحابنا وغيرهم من يطلق عليه الخطأ في الباطن في جميع هذه الأمور، وهو عنده معذور بل مأجور، وهذا قول من يقول إن النسخ يثبت في حق المكلف إذا بلغه الرسول قبل أن يصل إلى المكلف بمعنى وجوب القضاء عليه والضمان إذا بلغه لا بمعنى التأثيم، ويقول إنما يجب القضاء على من صلى إلى القبلة
المنسوخة قبل العلم ; لأن القبلة لا تجب إلا مع العلم والقدرة، ولهذا لا يجب القضاء على من تيقن أنه أخطأها في زماننا إذا كان قد اجتهد وإن سميته مخطئا ومنهم من يطلق الخطأ على المتمسك بدليل ليس في الباطن دليلا وعلى المتمسك بالنفي دون المستصحب للحكم بناء على أن الله ما حكم بموجب دليل قط، ومنهم من لا يطلق الخطأ على واحد من الثلاثة، وأما في الظاهر فمنهم من يطلق على المجتهد المخطئ عموما أنه مخطئ في الباطن وفي الحكم، هذا قول القاضي لكن عنده أن النسخ لا يثبت حكمه في حق المكلف قبل البلاغ، ومنهم من يقول ليس بمخطئ في الحكم، ومنهم من يقول هو مصيب في الحكم، حكى هذا أبو عبد الله بن حامد، وخرج القاضي في الخطإ في الحكم روايتين، وخرج ابن عقيل رواية أن كل مجتهد مصيب، والصحيح إذا ثبت أن في الباطن حكم في حقه أن يقال هو مصيب في الظاهر دون الباطن، أو مصيب في اجتهاده دون اعتقاده، أو مصيب إصابة مقيدة لا مطلقة بمعنى أن اعتقاد الإيجاب والتحري لا يتعداه إلى غيره، وإن اعتقده عاما هذا في الظاهر فقط، فإن النبي
أجران }، ولو كان كل منهما أصاب حكم الله باطنا وظاهرا لكانا سواء، ولم ينقض حكم الحاكم أو المفتي إذا تبين أن النص بخلافه، وإن كان لم يبلغه من غير قصور ولا تقصير، ولما قال النبي
المقام السادس: أن الواجب على المجتهد ماذا ؟ من أصحابنا وغيرهم من يقول الواجب طلب ذلك الحق المعين وإصابته، ومنهم من يقول الواجب طلبه لا إصابته ومنهم من يقول الواجب اتباع الدليل الراجح سواء كان مطابقا أو لم يكن، وكل من هؤلاء لحظ جانبا، وجمع هذه الأقوال أن الواجب في نفس الأمر إصابة ذلك الحكم، وأما الواجب في الظاهر هو اتباع ما ظهر من الدليل واتباعه أن يكون بالاجتهاد الذي يعجز معه الناظر عن الزيادة في الطلب، أو يشق عليه مشقة فادحة ومقدارا غير مضبوط، ولهذا كان العلماء يخافون في الفتوى بالاجتهاد كثيرا ويخشون الله ; لأن مقدار المشقة التي يعذرون معها ومقدار الاستدلال الذي يبيح لهم القول قد لا ينضبط فلو أصاب الحكم بلا دليل راجح فقد أصاب الحكم وأخطأ الحق المعين فقد أحسن وخطؤه مغفور له، وهذا عندنا وعند الجمهور لا يجوز إلا إذا كان ثم دليل آخر على الحق هو الراجح، لكن يعجز عن دركه وإلا للزم أن لا يكون الله نصب على الحق دليلا، وفي الحقيقة فالدليل الذي نصبه الله حقيقة على الحكم لا يجوز أن يخلف كما يجوز خطأ الشاهد لكن يجوز أن يخفى على بعض المجتهدين ويظهر له غيره .
سطر 72:
المالكية يقول إذا وطئ الزوج على التحليل وقصد هو وقت العقد الرغبة ولم يعلمهم بذلك، فهو نكاح صحيح لعدم النية والشرط المقارن، وذكر أصحابنا أن كل واحد من المواطأة المتقدمة على العقد واعتقاد التحليل مبطل للعقد، وهذا هو الذي دل عليه كلام الإمام أحمد، وهو قياس قول أصحابنا وقول المالكية فإن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة إن كانت صحيحة، وجب الوفاء بها، وإن كانت باطلة أثرت في العقد في المذهبين جميعا، بل هذه الصورة أبلغ في البطلان من الاعتقاد المجرد، فلهذا لم يرخص أحد من التابعين في المواطأة قبل العقد وحكي عن بعضهم الرخصة في الاعتقاد المجرد، فإن هذا تلبيس مدلس على القوم، والنكاح الذي قصده لم يرضوا به ولم يعاقدوه عليه، والنكاح الذي رضوا به لم يرض الله به ورسوله، وإنما يصح العقد برضى المتعاقدين التابع لرضى الله ورسوله، فإذا تخلف أحدهما فهو باطل، الوجه الثالث: أنه ليس في القصة أنهم واطئوه على أن يحلها للأول، ولا أشعروه أنها مطلقة، وإنما فيها أنهم واطئوه على أن يبيت عندها ليلة ثم يطلقها، وهذا من جنس نكاح المتعة، الذي يكون للزوج
فيه رغبة في النكاح إلى وقت، ونكاح المتعة قد كانوا يستحلونه صدرا من خلافة عمر، حتى أظهر عمر السنة بتحريمه، ولعل هذا كان قبل أن يظهر تحريم نكاح المتعة، ثم النكاح المشروط فيه الطلاق في الوقت الذي كان يصح فيه مثل هذا الشرط، إنما يجب الوفاء به إذا طلبت المرأة ذلك ; لأن الشرط حق لها كالصداق مثلا، ولهذا لما طلب من الرجل الطلاق رد الأمر إليها فلم تطلبه، وإذا كانت المرأة لم تطلبه لم يكن عليه أن يطلق، بخلاف النكاح المؤقت فإنه ينقضي بمضي الوقت، وقولها له فإن عمر لا يجبرك على طلاقي لأن الطلاق حق لها وعمر لا يجبر على توفية حق لم يطلبه صاحبه، بل عفا عنه، ثم إن عمر رضي الله عنه أظهر بعد هذا تحريم المتعة وتوعد عليه، الوجه الرابع: أن هذه القصة قضية عين وحكاية حال، والحاكي لها يشهدها ليستوفي صفتها، فيمكن أن تكون المرأة لما رغبت في الرجل وهو قد رغب فيها وهي امرأة ثيب هي أولى بنفسها من وليها كان بمنزلة خاطب، قد رغبت المرأة فيه فأمره عمر بإمساكها بنكاح جديد، وإن كان قد قال له لا تطلقها، فإن الفرقة النكاح وإن كان فاسدا يسمى طلاقا، وإن كانت فسخا، حتى
قد قال بعض العلماء إنه طلاق واقع، وهذا كما روي { عن فيروز الديلمي أنه قال أسلمت وعندي أختان فأمرني النبي
تزويجها بغير كفء، إن كان يرى ذلك، وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره ; لأن النكاح يكون فاسدا فلا يحصل التحليل، وإن لم يكن يرى ذلك فلا ينفعهم ذكره، فعلى التقريرين لا حاجة لهم بذكره إلا إذا كان العقد الأول غير لازم، وثانيها: أن عمر رضي الله عنه قال لو طلقتها لأوجعت رأسك بالسوط، ولو كان هذا النكاح صحيحا يحلها للأول لم ينهه عمر عن طلاقها إذا أرضوه، وهو يرى شغف الأول بها، وصفو الأولياء إليه فلما نهاه عن مفارقتها كان كالدليل على أنها لم تحل للأول إذا فارقها، وهم يريدون الاستحلال، وإنما درأ عمر رضي الله عنه العقوبة مع أنه قال لا أوتى بمحلل إلا رجمته، ; لأنه أعرابي جدير بأنه لا يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، وثالثها: أنهم لما قالوا له طلقها قال الأمر إليها فدل على أن مقامه مشروط وهذا إنما يكون قبل لزوم النكاح وصحته، ورابعها: أنه قد روى بعض المالكية أن عمر رضي الله عنه بعث المرأة لواسطة بينهما التي تسمى الدلالة، ونكل بها وهذا دليل على أنها فعلت ما لا يحل، الوجه الخامس: أن هذا الأثر ليس فيه عودها إلى المطلق بل فيه النهي عن ذلك، وليس فيه دوام
نية التحليل بل فيه أنه صار نكاح رغبة بعد أن كان تحليلا فإن كان بنكاح مستأنف فلا كلام، وإن كان باستدامة النكاح الأول فهذا مما قد يسوغ فيه الخلاف، كما في النكاح بدون إذن المرأة أو نكاح العبد بدون إذن سيده أو بيع الفضولي وشرائه، فإنه قد اختلف فيه هل هو مردود أو موقوف، وبعض الفقهاء يقول: إن الشرط الفاسد إذا حذف بعد العقد صح، فيمكن أن يكون قول عمر رضي الله عنه مخرجا على هذا، فإن الصحابة قد اختلفت فيه، ونية التحليل كاشتراطه، فيكون هذا الشرط الفاسد إن حذف صح العقد وإلا فسد، وإذا حمل الحديث على هذا فهو محل اختلاف في مسألة أخرى، ولا يلزم من ذلك الخلاف في مسألة المحلل، ولهذا لما أفتى أحمد في نكاح المحلل بأن يفرق بينهما وإن حدث له رغبة بعد ذلك، كما دلت عليه السنة وكما فعل عثمان وقاله ابن عمر، اعترض عليه بحديث عمر هذا، فأجاب بأنه غير مسند فلا يعارض الآثار المسندة، وإنما اعترض عليه بذلك بناء على الآثار قد اختلفت في نكاح المحلل، هل له أن يمسكها به، ولم يقل أحد إنها اختلفت في صحة أصل النكاح ولا في جواز عودها إلى الأول بالتحليل، وإذا كانت هذه الحكاية
بهذه المثابة من الإسناد والاحتمال لم تعارض ما عرف من كلام عمر رضي الله عنه فيما رواه عنه ابنه، ومن سمعه يخطب على منبر المدينة، ومما يبين أن مثل ذلك قد يقع فيه التباس، ما رواه سعيد في سننه ثنا جرير عن مغيرة قال قلت لإبراهيم هل كان عمر بن الخطاب حلل بين رجل وامرأته، فقال لا إنما كانت لرجل امرأة ذات حسب ومال فطلقها زوجها تطليقة أو اثنتين فبانت منه، ثم إن عمر تزوجها فهني بها وقالوا لولا أنها امرأة ليس بها ولد فقال عمر وما بركتهن إلا أولادهن فطلقها قبل أن يتزوجها فتزوجها زوجها الأول، قال مغيرة عن أبي معشر كان زوجها الأول الحارث بن أبي ربيعة، فهذا مغيرة قد بلغه إما عن أبي معشر أو غيره أن عمر حلل امرأة حتى أخبره إبراهيم أنه إنما كان نكاح رغبة، لا أنه تزوجها للتحلل لكن ; لأنه طلقها عقب الدخول بها أو عقب العقد، توهم من لم يعلم حقيقة الأمر أنه كان تحليلا، فكذلك ذو الرقعتين لما بلغهم أنهم طلبوا منه أن يطلق، وبذلوا له المال على ذلك فامتنع ظنوا أنه كان محللا، فإن وقوع الطلاق أشد إيهاما للتحليل من مسألته فإن كان توهمه مع وقوع الطلاق باطلا كان
توهمه مع مسألة الطلاق أولى بذلك، الوجه السادس: أنه لو ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه صحح نكاح المحلل فيجب أن يحمل هذا منه على أنه رجع عن ذلك ; لأنه ثبت عنه من غير وجه التغليظ في التحليل والنهي عنه، وأنه خطب الناس على المنبر فقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، وكذلك ذكر ابنه أن التحليل سفاح، وأن عمر لو رأى أصحابه لنكلهم، وبين أن التحليل يكون باعتقاد التحليل وقصده، كما يكون بشرطه، وقد كانوا في صدر خلافته يستحلون المتعة بناء على ما تقدم من رسول الله
عليهم - لم يختلفوا في ذلك .
ومن ذلك أن تجويز التحليل قد أفضى إلى ما هو غالب في التحليل المظهر بين الزوجين أو لازم له من الأمور المحرمة، وهو أن المرأة المعتدة لا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها في عدتها، إلا أن يكون ممن يجوز له نكاحها في العدة، دل عليه الكتاب واجتمعت عليه الأمة قال تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله }، وقد قال قبل هذا: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }، وأما التعريض فيجوز في حق من لا يمكن عودها إلى زوجها، مثل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا عند الجمهور، فأما المرأة المزوجة فلا يجوز أن تخطب تصريحا ولا تعريضا، بل ذلك تخبيب للمرأة على زوجها، وهو من أقبح المعاصي، والمطلقة ثلاثا أحرم على المطلق من المزوجة، فلا يجوز له أن يصرح بخطبتها ولا يعرض لا في العدة ولا بعد العدة، ثم إذا تزوجها رجل لم يجز له أن يصرح بخطبتها، أو لا يعرض حتى يطلقها ثم إذا طلقها لم يجز التصريح بخطبتها حتى تقضي العدة، وإنما يجوز التعريض إذا كان الطلاق ثلاثا عند الجمهور، فإن كان الطلاق بائنا ففيه خلاف مشهور، وإن كان رجعيا لم يجز وفاقا، وقد أفضى تجويز التحليل إلى أن يطلق الرجل المرأة ثلاثا فيواعدها في عدتها على أن يتزوجها بعد التحليل، ويسعى هو في هذا التحليل، وربما أعطاها ما تعطيه المحلل، وأنفق عليها مدة العدتين إنفاقه على زوجته، فيا سبحان الله أين مواعدتها على أن يتزوجها وهي في العدة من غيره، وقد حرمه الله من مواعدتها على أن يتزوجها قبل العدة بدرجتين، وليس يخفى على اللبيب أن هذا ركوب للمحرم مكررا مغلظا، ومن شرح الله صدره للإسلام علم أن الفعل إذا كان مظنة لبعض هذه المفاسد حسم الشارع الحكيم مادته بتحريمه جميعه، ألا ترى { أن النبي
الأوعية المقوية، كل ذلك حسما للمادة، وإن كان العناد التام هو شرب المسكر ; لأن القليل من ذلك يقتضي الكثير طبعا، فكذلك أصل التحليل لما كان مفضيا إلى هذه المفاسد كثيرا أو غالبا، كان الذي يقتضيه القياس تحريمه، وقد تقدم في مسلك الذرائع شواهد كثيرة لهذا الأصل، واعلم أنه ليس في المتعة شر إلا وفي التحليل ما هو شر منه بكثير، فإن المستمتع راغب إلى وقت فيعطي الرغبة حقها، بخلاف المحلل فإنه تيس مستعار، فمن العجب أن يشنع على بعض أهل الأهواء بنكاح المتعة، ولهم في استحلاله سلف، ومعهم فيه أثر وحظ من قياس، وإن كان مدفوعا بما قد نسخه، ثم يرخص في التحليل الذي لعن الشارع فاعله ولم يبحه في وقت من الأوقات، واتفق سلف الأمة على لعن فاعله، وليس فيه حظ من قياس، بل القياس الجلي يقتضي تحريمه، ويعتصم من يفرق بينهما بمقارنة الشرط العقد وتقدمه عليه، أو يكون هذا شرطا وذاك توقيتا، وهو فرق بين ما جمع الله بينه، وليس له أصل في كتاب ولا سنة، ولا يعرف مأثورا عن أحد من السلف، بل الأصول من الكتاب والسنة وما هو المأثور عن سلف الأمة يدل على أن الشروط معتبرة إما صحة
ووفاء وإما فسادا أو إلغاء سواء قارنت العقد أو تقدم عليه، ولولا أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك لبسطنا القول فيه، فإنما قد قررنا أن مجرد النية تحليل، والشرط المتقدم بطريق الأولى، ولكن ننبه على بعض أدلة ذلك لكي يدخل فيه إذا تواطآ على التحليل، ثم تزوجها غير ناو للتحليل من غير إظهار ذلك، قال الله تعالى { أوفوا بالعقود } وقال: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }، وقال: { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام }، وقال: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا }، ولم يفرق سبحانه بين عقد وعقد وعهد وعهد، ومن شارط غيره في بيع أو نكاح على صفات اتفقا عليها ثم تعاقدا بناء عليها فهي من عقودهم وعهودهم، لا يعقلون ولا يفهمون إلا ذلك، والقرآن نزل بلغة العرب، وقال سبحانه وتعالى: { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } وقال: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } يعني العهود ومن نكث الشرط المتقدم فهو ناكث، كمن نكث المقارن لا تفرق العرب بينهما في ذلك، وكذلك قال
العقد شرط كما قارنه، حتى أنه وقت الخصام يقول أحدهما لصاحبه ألم يكن الشرط بيننا كذلك، ألم نشارطك على كذا، والأصل عدم نقل اللغة وتعييرها، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي
المتقدمة فلا أعلم فيها مخالفا، ولا فرق بين الموضعين، بل الواصف إلى الفرقة أقرب، وأيضا فإن من دخل مع رجل في عقد على صفات تشارطوا عليها وعقدوا العقد ثم نكث به فلا ريب أنه قد خدعه ومكر به، فإن الخدع أن يظهر له شيئا ويبطن خلافه، والمكر قريب من ذلك، وهذا مما تسميه الناس خديعة ومكرا، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا زوالها وتغييرها، والخديعة والمكر حرام في النار كما دل عليه الكتاب والسنة، وأيضا فإن العقود في الحقيقة إنما تثبت على رضا المتعاقدين، وإنما كلامهما دليل على رضاهما كما نبه عليه قوله سبحانه: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ولما كانت البيوع تقع غالبا قبل الاختيار والاستكشاف، شرع فيها الخيار إلى التفرق بالأبدان ليتم الرضا بذلك، واكتفى في النكاح بما هو الغالب من تقدم الخطبة على العقد، لاستعلام حال الزوجين، وإذا تشارطا على أمر يتعاقدان عليه ثم تعاقدا فمن المعلوم أن كلا منهما إنما رضي بالعقد المشروط فيه الشرط الذي تشارطا عليه أولا، ومن ادعى أن أحدهما رضي بعقد مطلق خال عن شرط كان بطلان قوله معلوما بالاضطرار، وإذا كانا إنما رضيا بالعقد الذي تشارطا
عليه قبل عقده وملاك العقود هو الرضا، ووجب أن يكون العقد ما رضيا به لا سيما في النكاح الذي سبق شرطه عقده، وليس بعد عقده خيار يستدرك فيه الفائت، ولهذا قال
تشارطنا وأنكحتك النكاح الذي تراضينا به، فمن جعل كلامه مطلقا بعد أن تقدم منه المشارطة والمواطأة فقد خرج عن مقتضى قواعد خطاب الخلق وكلامهم في جميع إيجابهم ومقاصدهم، وهذا واضح لا معنى للإطناب فيه، وإذا كان الشرط المشروط قبل العقد كالمشروط فيه، فمعلوم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، ولهذا قالوا من دفع ثيابه إلى غسال يعرف منه الغسل بالأجرة لزمه الأجرة بناء على أن العرف شرط، وكذلك من دخل حمام حمامي أو ركب سفينة ربان فإنه يلزمه الأجرة بناء على العرف، وكذلك لا خلاف أنه لو أطلق الدراهم والدنانير في عقد بيع أو نكاح أو صلح أو غيرها، انصرف إلى النقد الغالب المعروف بين المتعاقدين، وكان هذا العرف مقيدا للفظ، ولم يجز أن ينزل على إطلاق اللفظ بإلزام مسمى الدرهم من أي نقد أو وزن كان، ولو أطلق اللفظ في الأيمان والمثمنات ونحوها انصرف الإطلاق إلى السليم من العيوب بناء على أنه العرف، وإن كان اللفظ أعم من ذلك، والعرف الخاص في ذلك كالعام على ما شهد به باب الأيمان والنذور والوقوف والوصايا وغيرها من الأحكام الشرعية، فإن كان بعض التيوس معروفا بالتحليل، وجيء بالمرأة
سطر 96:
الطلاق غير جائز ; لأنه إلجاء إلى فعل ما لا يجب عليه ولا يستحب له وهو يضره، وهي آثمة بهذا الفعل إذا كان ممسكا لها بالمعروف، وإنما الذي تستحقه بالشرع المطالبة لأحد أمرين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أما إذا قصدت التسريح فقط، وإنما تطالبه بموجبات العقد لتضطره بعسرها عليه إلى التسريح، فهذه ليست طالبة أحد الأمرين وإنما هي طالبة واحدا بعينه، وهي لا تملك ذلك شرعا، فهذه المرتبة تلحق بالتي بعدها كما قدمنا نظائر ذلك في أقسام الحيل، لكن هذا الفعل إنما حرم بالقصد، وهذا أمر لا يمكن الحكم عليه ظاهرا بخلاف الذي بعده، ولا فرق بين أن يكون التحريم لجنس الفعل أو لقصد يقترن بالفعل، ولا يقال فقد يباح لها الاختلاع إذا كانت تخاف أن لا تقيم حدود الله معه، فكذلك يباح لها الاستقصاء في الحقوق حتى تفارق ; لأنا نقول الاختلاع يتضمن تعويضه عن الطلاق برد الصداق إليه، أو رد ما يرضى به وهو شبيه بالإقالة في البيع، وهذه تلجئة إلى الطلاق من غير عوض فليست بمنزلة المختلعة، وإذا كانت لا تستحق أن يطلقها بغير عوض، وفي ذلك عليه ضرر فإذا قصدت إيقاع هذا الضرر به بفعل هو مباح، أو
خلا عن هذا القصد دخلت في قوله
وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوليهم، ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته وأكثر الناس يقولون إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات، وفي هذه الدرجة حصل النزاع في مسألة الحرف والصوت والمعنى القائم بالنفس، وذلك أن الجهمية لما أحدثت القول بأن القرآن مخلوق، ومعناه أن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلا بل حقيقة أن الله لم يتكلم ولا يتكلم، كما أفصح به رأسهم الأول الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما ; لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئا في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة فلا يتخذ شيئا خليلا، وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب تعالى، وكذلك نفت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة، أن المتكلم يكون متكلما بكلام يكون في غيره، وقالوا أيضا: يكون مريدا بإرادة ليست فيه ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير المرادات المخلوقة وغير الأمر
سطر 104:
حقيقة، وإن له كلاما حقيقة، فهذا معناه عندهم وهو تبديل للحقيقة التي فطر الله عليها عباده، واللغة التي اتفق عليها بنو آدم، والكتب التي أنزلها الله من السماء، ولما كان من المعلوم بالفطرة الضرورية التي اتفق عليها بنو آدم إلا من اجتالت الشياطين فطرته، أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام ويتصف به، وكذلك المحب والمريد من تقوم به المحبة والإرادة، كما أن العليم والقدير من يقوم به العلم والقدرة، وقد قالوا: ليس لله كلام إلا ما يكون قائما بغيره، كالشجرة لزم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بالكلام الذي خاطب الله به موسى ولهذا قال عبد الله بن المبارك: من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك ; لأن حقيقة قولهم إن المخلوق هو القائل لذلك، وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان وذكر له أن قوما يقولون القرآن مخلوق، فقال: كيف يصنعون ب { قل هو الله أحد }، كيف يصنعون بقوله: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا }، وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا
ربكم الأعلى، وقال غيره إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فهذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه، قال البخاري: وقال علي بن عاصم أما الذين قالوا إن لله ولدا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم، وقال: احذر ابن المريسي وأصحابه ; فإن كلا منهم ابن جد الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم جعدا فلم يثبت أن في السماء إلها قال البخاري، وقال عبد الرحمن بن عفان، سمعت سفيان بن عيينة يقول في السنة التي ضرب فيها المريسي فقام ابن عيينة من مجلسه مغضبا فقال: ويحكم القرآن كلام الله قد صحبت الناس وأدركتهم، هذا عمرو بن دينار، وهذا ابن المنكدر، حتى ذكر منصورا أو الأعمش ومسعر بن كدام، فقال ابن عيينة قد تكلموا في الاعتزال والرفض والقدر، وأمرونا باجتناب القوم، فما نعرف القرآن إلا كلام الله فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله ما أشبه هذا القول بقول النصارى، لا تجالسوهم ولا تسمعوا كلامهم، قال البخاري: حدثني الحكم بن محمد الطبري، حدثنا سفيان بن عيينة، قال أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن
دينار، يقولون: القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وكذلك أيضا قالوا: الله تعالى قد خلق كلاما في غيره، كما قال تعالى: { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء }، ومن ذلك كلام الذراع للنبي
المخلوقات، لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى ; لأن ما يقوم بالمخلوقات يسمعه كل أحد، كما يسمعون ما يحدثه في الجمادات من الإنطاق، وكما سمعوا ما يحدثه في الأحياء من الإنطاق، ولأنه فرق بين الوحي وبين التكليم من وراء حجاب، فلو كان كلامه هو ما يخلقه في غيره من غير أن يقوم به كلام، لم يحصل الفرق ولأنه فرق بين ذلك وبين أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، فلو كان ذلك الرسول لم يسمع إلا ما خلق في بعض المخلوقات لكان هذا من جنس ما يخلقه فيسمعه البشر، وحينئذ فيكون كلاهما من وراء حجاب فلا يكون الله مكلما للملائكة قط إلا من وراء حجاب، وقوله: { من وراء حجاب } دليل على أنه قد يكلم من شاء بلا حجاب، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي
السلف والأئمة لذلك من أعظم الأنكار دع ما هو أظهر فسادا، قال الإمام الحافظ أبو القاسم اللالكائي: وقد ذكر أقوال السلف والأئمة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وما ورد عنهم من تكفير من يقول ذلك، ثم قال: فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا وأكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخبيرين على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذاهبهم، قال: ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة، لكن اختصرت فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه وأمروا بقتله أو نفيه أو صلبه، قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق الجعد بن درهم في سني نيف وعشرين ثم الجهم بن صفوان، فأما جعد فقتله خالد بن عبد الله القشيري، وأما جهم فقتل بمرو في خلافة هشام بن عبد الملك وسأذكر قصتهما إن شاء الله .
فصل: ومع هذا فقد حفظ عن أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس هذا القول، وفي ذلك حجة على من يزعم أن أقوال هؤلاء الأئمة بدون الصحابة ليس بحجة، فروى اللالكائي من طريقين، من طريق محمد بن المصفى، ومن طريق الفضل بن عبد الله الفارسي، كلاهما عن عمرو بن جميع أبي المنذر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما حكم علي الحكمين، قالت له الخوارج: حكمت رجلين ؟ قال: ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن، ورواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناد آخر إلى علي، وقال: حدثنا محمد بن حجاج الحضرمي المضري، حدثنا يعلى بن عبد العزيز، حدثنا عتبة بن السكن الفزاري، حدثنا الفرج بن يزيد الكلاعي، قال: قالوا لعلي يوم صفين حكمت كافرا أو منافقا ؟ قال: ما حكمت مخلوقا، ما حكمت إلا القرآن، وهذا السياق يبطل تأويل من يفسر كلام السلف، بأن المخلوق هو المفتري المكذوب، والقرآن غير مفتر ولا مكذوب، فإنهم لما قالوا: حكمت مخلوقا، إنما أرادوا مربوبا مصنوعا خلقه الله، لم يريدوا مكذوبا، فقوله: ما حكمت مخلوقا، نفي لما ادعوه، وقوله: ما حكمت إلا القرآن، نفي لهذا الخلق عنه، وقد روي ذلك عن علي
من طريق ثالث، وأما قول ابن مسعود، فمن المحفوظ الثابت عنه، الذي رواه الناس من وجوه كثيرة صحيحة، من حديث يحيى بن سعيد القطان وغيره، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي كنف، قال: قال عبد الله من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال فقال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع، وروى محمد بن هارون الروياني، حدثنا أبو الربيع حدثنا أبو عوانة، عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن حنظلة بن خويلد العنزي، قال: أخذ عبد الله بيدي، فلما أشرفنا على السد إذ نظر إلى السوق، قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن وآية، قال فغمزني عبد الله بيدي ثم قال: أتراه مكفرا ؟ أما إن كل آية فيها يمين، ولا نزاع بين الأمة أن المخلوقات لا يجب في الحلف بها يمين، كالكعبة وغيرها، إلا ما نازع فيه بعضهم من الحلف برسول الله
كالإمام أحمد وإسحاق وغيرهما، لكن هل تتداخل الأيمان إذا كان المحلوف عليه واحدا، كما لو حلف بالله لا يفعل، ثم حلف بالله لا يفعل، هذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد، وأما قول ابن عباس، فقال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أبي حدثنا ابن صالح بن جابر الأنماطي حدثنا علي بن عاصم، عن عمران بن حدير، عن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده، قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس، فقال: مه القرآن منه، زاد الصهيبي في حديثه فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود، فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثانية، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب من أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور، وجرت المحنة المشهورة، وكان أئمة الهدى على ما جاءت به الرسل عن الله، من أن القرآن كلام الله تكلم به هو سبحانه، وهو منه وقائم به، وما كان كذلك لم يكن مخلوقا، إنما المخلوق ما يخلقه من الأعيان المحدثة وصفاتها، وكثير منهم يرد قول الجهمية
بإطلاق القول بأن القرآن كلام الله ; لأن حقيقة قولهم، أنه ليس كلامه، ولا تكلم ولا يتكلم به ولا بغيره، فإن المستقر في فطر الناس وعقولهم ولغاتهم، أن المتكلم بالكلام، لا بد أن يقوم به الكلام فلا يكون متكلما بشيء لم يقم به بل هو قائم بغيره كما لا يكون عالما بعلم قائما بغيره، ولا حيا بحياة قائمة بغيره ولا مريدا بإرادة قائمة بغيره ولا محبا ومبغضا ولا راضيا وساخطا بحب وبغض ورضا وسخط قائم بغيره، ولا متألما ولا متنعما وفرحا وضاحكا بتألم وتنعم وفرح وضحك قائم بغيره، فكل ذلك عند الناس من العلوم الضرورية البديهية الفطرية التي لا ينازعهم فيها إلا من أحيلت فطرته، وكذلك عندهم لا يكون آمرا وناهيا بأمر ونهي لا يقوم به بل يقوم بغيره ولا يكون مخبرا ومحدثا ومنبئا بخبر وحديث ونبأ لا يقوم به بل بغيره، ولا يكون حامدا أو ذاما ومادحا ومثنيا بحمد وذم ومدح وثناء لا يقوم به بل بغيره ولا يكون مناجيا ومناديا وداعيا بنجاء ودعاء ونداء لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون واعدا وموعدا بوعد ووعيد لا يقوم به بل لا يقوم إلا بغيره، ولا يكون مصدقا ومكذبا بتصديق وتكذيب
سطر 117:
تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق ؟ فلا يجد، فيقال له فبم قلت ؟ فيقول، من قول الله: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } وزعم أن كل مجعول مخلوق، فادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها ويبتغي الفتنة في تأويلها، وذلك أن جعل في القرآن من المخلوقين على وجهين على معنى التسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم، قوله: { الذين جعلوا القرآن عضين } قالوا: هو شعر وأنباء الأولين وأضغاث أحلام، فهذا على معنى التسمية، وقال: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } يعني أنهم سموهم إناثا ثم ذكر جعل على غير معنى تسمية فقال: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } فهذا على معنى فعل من أفعالهم وقال: { حتى إذا جعله نارا } هذا على معنى فعل، هذا جعل المخلوقين، ثم ذكر جعل من الله على معنى خلق، وجعل على غير معنى خلق، والذي قال الله جل ثناؤه جعل على معنى خلق لا يكون إلا خلقا ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عن المعنى فما قال الله جعل على معنى خلق كذلك قوله: { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } يعني خلق الظلمات والنور، { وجعلنا الليل والنهار آيتين }
يقول خلقنا الليل والنهار آيتين: قال { وجعل الشمس سراجا } وقال: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } يقول خلق منها زوجها خلق من آدم حواء، وقال: { وجعل لها رواسي } ومثله في القرآن كثير فهذا وما كان مثاله لا يكون مثاله إلا على معنى خلق وقوله: { ما جعل الله من بحيرة } لا يعني ما خلق الله من بحيرة، وقال الله لإبراهيم: { إني جاعلك للناس إماما } لا يعني أني خالقك للناس إماما لأن خلق إبراهيم كان متقدما قال إبراهيم: { رب اجعل هذا بلدا آمنا }، وقال: { رب اجعلني مقيم الصلاة } لا يعني، خلقني مقيم الصلاة، وقال: { يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } لا يعني يريد الله أن لا يخلق لهم حظا في الآخرة، وقال لأم موسى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } لا يعني وخالقوه من المرسلين ; لأن الله تعالى وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعد ذلك مرسلا، وقال: { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم } لا يعني فيخلقه في جهنم، وقال: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين } وقال: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } لا يعني خلقه دكا ومثله
في القرآن كثير وما كان على مثاله لا يكون على معنى خلق، فإذا قال تعالى جعل على معنى خلق وقال جعل على غير معنى خلق فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى الخلق، فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، فلما قال الله عز وجل: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } يقول جعله جعلا على معنى فعل من أفعال الله على غير معنى خلق، وقال في سورة يوسف: { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }، وقال: { بلسان عربي مبين } وقال: { فإنما يسرناه بلسانك } فلما جعل الله القرآن عربيا ويسره بلسان نبيه كان ذلك فعلا من أفعال الله جعل به القرآن عربيا، ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه، وقال البخاري في صحيحه، باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون، وقال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية، بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى
عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } أليس الله هو القائل قالوا: يكون الله شيئا يعبر عن الله كما يكون فعبر لموسى فقلنا: فمن القائل: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } أليس الله هو الذي يسأل ؟ قالوا: هذا كله إنما يكون الله شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله ; لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول عن مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال أقول إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق، قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء، ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم، ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول إنه كان
ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة، فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر، فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا: نحن نقول كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: (ذرني ومن خلقت وحيدا } أوقد كان لهذا الذي سماه وحيدا عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد، وكذلك ذكر الأشعري في المقالات
سطر 134:
القرآن هو الخالق وفرقة قالت هو بعضه، وحكاية زرقان أن القائل بهذا هو وكيع بن الجراح، هو من باب النقل بتأويلهم الفاسد، وكذلك قوله إن فرقة قالت إن الله بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه، فلما كان اسم الله في القرآن والاسم هو المسمى كان الله في القرآن، وذلك أن الذي قاله وكيع وسائر الأئمة إن القرآن من الله، يعنون أن القرآن صفة الله وأنه تعالى هو المتكلم به، وأن الصفة هي مما تدخل في مسمى الموصوف، كما روى الخلال حدثني أبو بكر السالمي، حدثني ابن أبي أويس سمعت مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله من الله وليس شيء من الله مخلوق ورواه اللالكائي من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبد الله بن يزيد الواسطي، سمعت أبا بكر أحمد بن محمد المعمري، سمعت ابن أبي أويس يقول، سمعت خالي مالك بن أنس وجماعة العلماء بالمدينة يذكرون القرآن، فقالوا: كلام الله وهو منه ليس من الله شيء مخلوق وقال الخلال أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: أدركت الناس ما يتكلمون في هذا ولا عرفنا هذا إلا بعد منذ سنين، القرآن كلام الله منزل من عند الله لا يئول إلى
خالق ولا مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هذا الذي لم نزل عليه ولا نعرف غيره، قال الخلال أنبأنا المروزي أخبرني أبو سعيد ابن أخي حجاج الأنماطي، أنه سمع عمه يقول: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق وهو منه، وروى اللالكائي من حديث أحمد بن الحسن الصوفي، حدثنا عبد الصمد مردويه قال: اجتمعنا إلى إسماعيل ابن علية بعد ما رجع من كلامه، فكنت أنا وعلي فتى هشيم وأبو الوليد خلف الجوهري وأبو كنانة الأعور وأبو محمد سرور مولى المعلى صاحب هشيم فقال له علي فتى هشيم: نحب أن نسمع منك ما نؤديه إلى الناس في أمر القرآن فقال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق ومن قال إن شيئا من الله مخلوق فقد كفر، وأنا أستغفر الله مما كان مني في المجلس، وروى من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال أخبرت عن محرز بن عون قال محمد بن يزيد الواسطي: علمه وكلامه منه وهو غير مخلوق، وقال عبد الله أنبأنا إسحاق بن البهلول، سمعت ابن أبي أويس يقول: القرآن كلام الله ومن الله وما كان من الله فليس بمخلوق، وقال الخلال في كتاب السنة، أخبرني محمد بن سليمان قال قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ما تقول
في القرآن عن أي قالة تسأل قلت كلام الله قال كلام الله وليس بمخلوق ولا تجزع أن تقول ليس بمخلوق فإن كلام الله من الله ومن ذات الله وتكلم الله به وليس من الله شيء مخلوق، وروى عن جماعة عن أحمد بن الحسن الترمذي قال سألت أحمد فقلت: يا أبا عبد الله قد وقع في أمر القرآن ما قد وقع فإن سئلت عنه ماذا أقول، فقال لي ألست أنت مخلوقا ؟ قلت نعم، فقال أليس كل شيء منك مخلوقا ؟ قلت نعم، قال فكلام الله أليس هو منه ؟ قلت نعم قال فيكون شيء من الله عز وجل مخلوقا قال الخلال وأخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني حنبل سمعت أبا عبد الله يقول قال الله في كتابه العزيز: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فجبريل سمعه من الله تعالى، وسمعه النبي
قالوا ودعوا الناس إلى ما دعوهم إليه فبان لنا أمرهم وهو الكفر بالله العظيم، ثم قال أبو عبد الله يزال الله عالما متكلما نعبد الله بصفات غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف بها نفسه { سميع عليم } { غفور رحيم } { عالم الغيب والشهادة } { علام الغيوب } ; فهذه صفات الله تبارك وتعالى وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال { ثم استوى على العرش } كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا يبلغه صفة الواصفين وهو كما وصف نفسه نؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه كل من عند ربنا قال الله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } نترك الجدال في القرآن والمراد فيه لا نجادل ولا نماري ونؤمن به كله ونرده إلى عالمه تبارك وتعالى فهو أعلم به منه بدأ وإليه يعود قال أبو عبد الله وقال لي عبد الرحمن بن إسحاق كان الله ولا قرآن فقلت مجيبا له: كان الله ولا علم، فالعلم من الله وله وعلم الله منه، والعلم غير مخلوق فمن قال أنه مخلوق فقد كفر بالله وزعم أن الله مخلوق فهذا الكفر البين الصراح .
سطر 144:
المعنى أو هو اللفظ فالذين يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق ويقولون الكلام هو الحروف والأصوات هم وإن وافقوا المعتزلة في مسمى الكلام فإنهم يقولون إن معنى الكلام سواء كان هو العلم والإرادة أو أمرا آخر قائما بذات الله والجهمية من المعتزلة وغيرهم نحوهم لا تثبت معنى قائما بذات الله بل هؤلاء يقولون إن الكلام الذي هو الحروف قائم بذات الله أيضا فموافقة هؤلاء المعتزلة أقل من موافقة الأولين بكثير والصواب الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فاللفظ والمعنى داخل في مسمى الكلام والأقوال في ذلك أربعة: أحدها: أن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى كما تقوله الطائفة الثانية، والثاني: أنه حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ كما يقوله جمهور الأولين، والثالث: أنه مشترك بينهما كما يقوله طائفة من الأولين، والرابع: أنه حقيقة في المجموع وإذا أريد به أحدهما دون الآخر احتاج إلى قرينة وهذا قول أهل الجماعة، وقد يحكي الأولون عن الآخرين أنهم يقولون إن القرآن قديم غير مخلوق وإن القديم الذي ليس بمخلوق هو الحروف والأصوات القائمة بالمخلوقات وهي أصوات العباد ومداد
المصاحف فيحكون عنهم أن نفس صوت العبد ونفس المداد قديم أزلي غير مخلوق وهذا مما يعلم كل أحد فساده بالحس والاضطرار وما وجدت أحدا من العلماء المعروفين يقر بذلك بل ينكرون ذلك ولكن قد يوجد مثل هذا القول في بعض الجهال من أهل البوادي والجبال ونحوه وإنكار ذلك مأثور عن الأئمة المتقدمين كما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال قال وقال إسحاق بن إبراهيم فأما الأوعية فمن شك في خلقها قال الله تعالى: { وكتاب مسطور، في رق منشور }، وقال: { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ }، فذكر محمد بن نصر وحية في كتابه عن أحمد بن عمر عن عبدان عن ابن المبارك قال الورق والمداد مخلوق فأما القرآن فليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ولكن منهم طائفة يقولون إن لفظهم بالقرآن أو الصوت المسموع منهم غير مخلوق أو أنه يسمع منهم الصوت المخلوق والصوت الذي ليس بمخلوق لكن هذا مما أنكره عليهم أئمتهم وجماهيرهم، والآخرون يحكون عن الأولين أنه ليس لله في الأرض كلام وأن هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله وأنه ليس لله في الأرض كلام وإنما هذا حكاية أو عبارة عن كلام الله وهؤلاء صادقون
في هذا النقل فإن هذا قول الأولين وهم أول من ابتدع في الإسلام القول بالحكاية والعبارة وهي البدعة التي أضافها المسلمون إلى ابن كلاب والأشعري فإن ابن كلاب قال الحروف حكاية عن كلام الله وليست من كلام الله لأن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم والله يمتنع أن يقوم به حروف وأصوات فوافق الجهمية والمعتزلة في هذا النفي فجاء الأشعري بعده وهو موافق لابن كلاب على عامة أصوله فقال الحكاية تقتضي أن تكون مثل المحكي وليس الحروف مثل المعنى بل هي عبارة عن المعنى ودالة عليه وهم وأتباعهم يقولون إن تسمية ذلك كلاما لله مجازا لا حقيقة ويطلقون القول الحقيقي بأن أحدا من المسلمين لم يسمع كلام الله وأمثال ذلك سواء قالوا إن الحروف تسمى كلاما مجازا أو بطريق الاشتراك بينهما وبين المعاني لأنها وإن سميت كلاما بطريق الاشتراك فالكلام عندهم وعند الجماعة لا بد أن يقوم بالمتكلم فيصح على أحد قولهم أن تكون الحروف والأصوات كلاما للعباد حقيقة لقيامها بهم ولا يصح أن تكون كلاما لله حقيقة لأنها لا تقوم به عندهم بحال فلو قال أحد منهم إن الحروف التي يخلقها الله في الهواء تسمى كلاما له حقيقة أو إن ما يسمع من العباد أو يوجد في المصاحف يسمى كلام الله حقيقة للزمه أن يجعل مسمى الكلام ما لا يقوم بالمتكلم بل يكون دلالة على ما يقوم المتكلم وإن كان مخلوقا له وهذا ما وجدته لهم وهو ممكن أن يقال لكن متى قالوه انتقض عليهم عامة الحجج التي أبطلوا بها مذهب المعتزلة عليهم وصار للمعتزلة حجة قوية، وقد يحكي الآخرون عن الأولين أنهم يستهينون بالمصاحف فيطئونها وينامون عليها ويجعلونها مع نعالهم وربما كتبوا القرآن بالعذرة وغير ذلك مما هو من أفعال المنافقين الملحدين وهذا يوجد في أهل الجفاء والغلو منهم لما ألقى إليهم أئمتهم أن هذا ليس هو كلام الله صاروا يفرعون على ذلك فروعا من عندهم لم يأمرهم بها أئمتهم وإنما هي من أفعال الزنادقة المنافقين وإلا فلا خلاف بين من يعتقد الإسلام في وجوب احترام المصاحف وإكرامها وإجلالها وتنزيهها وفي العمل يقول النبي
وإن كانت تلك البدعة هي المرقاة إلى هذا الفساد، وأما الطائفة الثانية التي جعلت القرآن هو مجرد الحروف والأصوات فإنهم وافقوا الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وعلى ذلك فإن أولئك جعلوا القرآن وسائر الكلام هو مجرد الحروف والأصوات الدالة على المعاني لكنهم لم يجعلوا لله كلاما تكلم هو به وقام به ولا جعلوا لهذه الحروف معاني تقوم بالله أصلا إذ عندهم لم يقم بالله لا علم ولا إرادة ولا غير ذلك بل جعلوا الحروف والأصوات مخلوقة خلقها الله في بعض الأجسام كما يزعمون أنه خلق في نفس الشجرة صوتا سمعه موسى حروف ذلك الصوت { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ولا ريب أن هذا يوجب أن تكون الشجرة هي القائلة إنني، أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إذ المتكلم بالكلام هو الذي يقوم به كما أن المتحرك بالحركة والعالم بالعلم وغير ذلك من الصفات والأفعال وغيرها هو من يقوم به الصفة ولا يجوز أن يكون لشيء متكلما بكلام يقوم بغيره ولا يقوم به أصلا كما لا يكون عالما قادرا بعلم وقدرة لا تقوم إلا بغيره ومتحركا بحركة لا تقوم إلا بغيره وطرد ذلك عند المحققين من الصفاتية أنه لا يكون
فاعلا خالقا ومكونا بفعل وخلق وتكوين لا يقوم إلا بغيره كما هو مذهب أهل الحديث والصوفية والفقهاء وطوائف من أهل الكلام .
وأهل الحديث لم يكونوا يتنازعون في تحريم ذلك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي
قال قائلون معنى المخلوق أن له خلقا، ولم يجعلوا الخلق قولا على وجه من الوجوه منهم أبو موسى وبشر بن المعتمر، الفرق بين المخلوق والمحدث هو اصطلاح أئمة أهل الحديث، وهو موافق للغة التي نزل بها القرآن، ومنهم من يفرق بين حدث ومحدث كما حكى القولين الأشعري، قال البخاري في صحيحه في كتاب الرد على الجهمية في أثناء أبواب القرآن، باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون، ثم قال بعد ذلك قال باب قول الله تعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } ولم يقل ماذا خلق ربكم وقال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }، وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا، حتى إذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق، قال: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس سمعت النبي
يقول { يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان }، ثم روي عن عكرمة عن أبي هريرة بلغ به النبي
وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم الكتب، وقالوا هو من الله ليشتروا بذلك ثمنا قليلا أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم، والذي كان عليه السلف والأئمة أهل السنة والجماعة، أن القرآن الذي هو كلام الله هو القرآن الذي يعلم المسلمون، أنه القرآن والقرآن وسائر الكلام له حروف ومعان فليس الكلام ولا القرآن إذا أطلق اسما لمجرد الحروف ولا أسماء لمجرد المعاني، بل الكلام اسم للحروف والمعاني جميعا فنشأ بعد السلف والأئمة ممن هو موافق للسلف والأئمة على إطلاق القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق طائفتان .
سطر 157:
والكلام فإذا صدق على الموصوف أنه عليم لزم أن يصدق حصول العلم والكلام له ولهذا كان أئمة السلف الذين عرفوا حقيقة قول من قال مخلوق وأن معنى ذلك أن الله لم يقم به كلام بل الكلام قام بجسم من الأجسام غيره وعلموا أن هذا يوجب بالفطرة الضرورية أن يكون ذلك الجسم هو المتكلم بذلك الكلام دون الله وأن الله لا يكون متكلما أصلا وصاروا يذكرون قولهم بحسب ما هو عليه في نفسه وهو أن الله لا يتكلم وإنما خلق شيئا تكلم عنه وهكذا كانت الجهمية تقول أولا ثم أنها زعمت أن المتكلم من فعل الكلام ولو في غيره واختلفوا هل يسمى متكلما حقيقة أو مجازا على قولين فلهم في تسمية الله تعالى متكلما بالكلام المخلوق ثلاثة أقوال: أحدها: وهو حقيقة قولهم وهم فيه أصدق لإظهارهم كفرهم أن الله لا تكلم ولا يتكلم، والثاني: وهم فيه متوسطون فيه النفاق أنه يسمى متكلما بطريق المجاز، والثالث: وهم فيه منافقون نفاقا محضا أنه يسمى متكلما بطريق الحقيقة وأساس النفاق الذي بني عليه الكذب فلهذا كانوا من أكذب الناس في تسمية الله متكلما بكلام ليس قائما به وإنما هو مخلوق في غيره كما كانوا كاذبين
مفترين في تسمية الله عالما قادرا مريدا متكلما بلا علم يقوم به ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام فكانوا وإن نطقوا بأسمائه فهم كاذبون بتسميته بها وهم ملحدون في الحقيقة كإلحاد الذين نفوا عنه أن يسمى بالرحمن: { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } وبذلك وصفهم الأئمة وغيرهم ممن خبر مقالاتهم كما قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، قلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون وقلنا، لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى، قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يعلم أنهم إنما يقودون بقولهم إلى ضلالة وكفر، وقال بعد ذلك بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء قلنا لم أنكرتم ذلك قالوا إن الله لم يتكلم ولا
يتكلم إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين فقلنا هل يجوز لمكون أو لغيره أن يقول: يا موسى { أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } أو { إني أنا ربك } فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم بأولا أن الله كون الأشياء كأن يقول ذلك المكون يا موسى أنا الله رب العالمين لا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين، وقد قال الله جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما } وقال { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } فهذا منصوص القرآن وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله
سبحت بجوف وفم وشفتين ولسان والجوارح إذا شهدت على الكافر { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين ولسان ولكن الله أنطقها كما شاء فكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان فلما خنقته الحجج قال إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره قلنا غيره مخلوق قال نعم قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون وحديث الزهري قال { لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الكلام الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك إنما كلمتك على قدر ما تطيق بذلك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا أتصف لنا كلام ربك قال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه لنا قال: أسمعتم الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله }، وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } أليس الله هو القائل قالوا يكون الله شيئا فيعبر عن
الله كما كون فعبر لموسى قلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } أليس الله هو الذي يسأل قالوا هذا كله إنما يكون شيئا فيعبر عن الله قلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تكلم ولا تحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق فقلنا وكذلك بنو آدم عليه السلام وكلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم أن الله كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله جل ثناؤه عن هذه الصفة بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه قد كان ولا يتكلم حتى خلق ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة فقالت
|