الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مجلة البيان للبرقوقي/العدد 60/مساوئ العقاب»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
استيراد تلقائي للمقالات
 
(لا فرق)

المراجعة الحالية بتاريخ 20:58، 23 مايو 2015

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 60/مساوئ العقاب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 8 - 1921



في مصر

(إن السجن لم ينشأ لعذاب المجرمين ولكن لإصلاح حالهم)

كليمانس الحادي عشر

تعرف العلم الحديث أسباب الإجرام وبحث العوامل التي تدعوإليه، وهي على الإجمال عاملان. فطري يرجع إلى مزاج المجرم وأعصابه وخلقه وتأثير الوراثة فيه وتكوين عقليته المختلة أوالصحيحة، وعامل آخر اجتماعي كالعامل الطبيعي في طقس البلاد وجوها وفي تأثير البيئة على الأخلاق وفي الحالة الاقتصادية والاجتماعية للبلد. ولا يزيد في مقالتنا هذه أن تبحث في كل هذه العوامل ونطبقها على مصر، فإن ذلك لم يكن من غرضنا عند كتابة المقال، ولكن اطراد الجرائم في السنوات الأخيرة دعانا إلى البحث عن العلة الحقيقية التي أوجبت ذلك وإرجاعها إلى مصادرها في مساوئ العقوبات الحالية وفساد أنظمة السجون مما لا يلائم الغرض المقصود من توقيع العقاب على المجرمين. وبعبارة أخرى نريد أن نعرف ونحن في القرن العشرين إلى أي حد بلغت بيننا تلك الكلمة الخالدة التي نطق بها البابا كليمانس الحادي عشر منذ ثلاثة قرون واتخذها عنوانا لمقالتنا. نريد أن نبحث في الأغراض التي يرمي إليها المجتمع من وضع العقاب ومعرفة خير الوسائل التي تلائم هذه الأغراض وترد الجرم إلى الإصلاح والهداية. ليس الغرض ان نقبض على الجناة ونعاقبهم، إنما نرومه لهو أعلى وأسمى من ذلك! إننا لا نريد أن تمتلئ السجون بالمجرمين وأن تقوم الحاجة إلى بناء سجن بعد سجن كما حدث في المنصورة أخيراً، ولكن نروم علاج الحالة الحاضرة وتلمس الدواء لهذا الداء الوبيل.

مضى الزمن الذي كان المجتمع يثأر فيه من المجرمين لا لشيء سوى جرائمهم، ومضى الزمن الذي كانوا ينظرون فيه إلى المجرم كأنه جرثومة يجب أن تستأصل ووباء فتاك يجب أن يضرب حواليه الحصار، وأصبح ينظر إلى المجرم كأنه طفل صغير جدير بالشفقة والعناية. لقد عرف العلم الحديث أن أهل للرعاية والشفقة وأنه ليس إلا آلة تسيرها عوامل مختلفة نحوالإجرام. إن ظروفه هي التي تدفعه إلى ارتكاب الجرائم، إنها أعصابه ووراثته والمجتمع الذي نشأ فيه وليس تفكيره وإرادته. ومن قرأ رواية الجريمة لكبير روائي الروس (دستوفسكي) أمكنه أن يرى شواهد ذلك. يقول الأستاذ بروكنر (إن ذلك الاندفاع الميكانيكي نحوالجريمة ليس إلا كالذي يقترب من آلة متحركة فيشتبك طرف ثيابه بعجلاتها فتجذبه إليها وتطحنه بين أسنانها). فلنباعد ما استطعنا بينه وبين تلك الآلة المشئومة!

عرف العلم الحديث كل هذا وعرف أن المجرم مريض ينبغي أن يطبب بالعقاقير والأدوية وأن يعطف عليه كما يعطف على المرضى والمصابين، وأن يدخل المستشفيات بدل السجون، وأن تخدمه (أخوات الرحمة) بدل أن يقرعه صوت السجان ويساق سوق البهائم إلى العمل في الجبال والمناجم والسكك الحديدية ولكن للتشريع خشونة غلبت فضيلة العلم وأصبحت الشجون دوراً موبوءة تعدى السليم وتزيد الخبيث شراً، وتخرج إلينا في كل عام عدداً من المعتوهين واليائسين والمرضى. لم يجدوا في السجن رحمة فيئسوا ولم يلق إصلاحا فضلوا.

إن نظرية السجون أصبحت ثابتة الخطأ في القرن العشرين ظاهرة العجز عن أن تداوي داء الإجرام في النفوس. إن العلم الحديث عرف أن شفاء المجرم ليس في سجنه في غرفة ضيقة وتكبيله بالسلاسل والقيود ولكن في تحريره من قيود نفسه المريضة وإطلاقه من سجن أعصابه المنهوكة. إننا نريد أن نطهر النفوس ونكبح من النزعات ولن نصل إلى ذلك مهما شددنا في قانون العقوبات واستنبطنا في السجن من أنواع العذاب. وقد أخطأ أحد قضاة الإنجليز إذ يقول (أن معتادي الإجرام يجب معاقبتهم بالسجن الطويل أوالأشغال الشاقة حرصاً على مصلحة الجمهور وليس من قبيل التشفي والانتقام وإن ذلك ضروري والعدل يقضي به). وهل هناك شيء أكثر تشفيا وانتقاما من القضاء على شخص بعزلة مؤبدة؟ وهل من مصلحة الجمهور أن يفقد أفراده على هذا الشكل؟ وهل هذا هوتطبيق العدل الذي وصل إليه العلم بتقريره أن اعتياد الإجرام ليس غريزة طبيعية في نفس المجرم ولكن نزعة مكتسبة كان للمجتمع يد في تكوينها لديه؟ وأخيرا أليس اعتياد الإجرام هوإخفاق المجتمع في إصلاح المجرم أول مرة؟ ألا أن فكرة الزجر بتشديد العقاب والصرامة في معاملة المسجونين ليس لها من أثر في منع الناس من ارتكاب الجرائم. وأن الذين يقولون إن القانون مانع من الإجرام وإن رؤية السجون شامخة أمام أعيننا تنتظر عن ارتكاب الجرائم - إن الذين يقولون مثل هذا القول يخطئون الحكم وينظرون إلى الجانب الأضعف في الإنسان. القوانين موجودة من عهد الرومان وأنواع العقوبات تكثر وتتعدد في القوانين الحديثة وكلها على شدتها وصرامتها لم تستأصل شرة الإجرام بل لم تعمل على تحقيقها وإقلالها وها نحن أولاء نرى الجرائم في كل عام في ازدياد وكأنها والمدينة صنوان كلتهما في اطراد.

أن فكرة الردع العام لا تمنع الإجرام بقدر ما تحفظ الناس من تكرر وقوعه، وبين الأمرين بعيد. ما كان القانون في دور من أدواره طبيبا يداوي علة الإجرام ولكنه كان دائما جلاداً يوقع الجزاء! إن الناس لا يحملون في جيوبهم كتاب العقوبات لينظروا بين السرقة بالإكراه والسرقة العادية فيختاروا أهونها عقابا. بل ما كان الناس ليتأثروا بأمثلة المجرمين ليس إلا عملية بسيطة يراد منها إضعاف عددهم في الخارج! وكذلك تدور عجلة الإجرام في مجراها كما تدور عجلة التناسل البشري، ففريق داخل جدران السجن وفريق آخر خارجه!

نروم إصلاح المجرم بعقابه فنحكم على القاتل بالإعدام! نفقد شخصين بدل شخص واحد! أما الذين يقوون أن ذلك رادع لغيره من ارتكاب الجرائم فلا أستطيع أن أفهم الفرق بين الردع بالتهديد به. إن الردع العام لا يقوم به عقاب شديد بقدر ما يقوم به تشريع عادل، وإن الذين يمتنعون عن ارتكاب الجرائم لا يمتنعون لأنهم رأوا توقيع العقاب على غيرهم ولكن لأن القانون يهددهم بتوقيعه عليهم.

إن جميع العقوبات في مصر لا ترمي إلا إلى غرض واحد وهوالانتفاع من ذلك القطيع البشري الذي يدخل السجن (دور الإصلاح) في كل عام. فهملا يفرقون في السجن بين الضعفاء والأقوياء ولا بين المرضى والأصحاء ولا بين الكهول والشبان ولكنهم يرومون أن يشتغل الجميع أشغالا مختلفة تعود فائدتها على السجن وأربابه دون أجر ولا غذاء صالح: المجرمون هم الذين يغسلون غرف السجن ونوافذه وأبوابه، وهم الذين يصنعون طعامهم وثيابهم، وهم الذين يرصفون الطرق ويقطعون الصخور من الجبال. فإن لم يجدوا لهم عملا أمروهم بنقل تراب من مكان إلى آخر أوإدارة طاحونة فارغة أوملئ حوض ثم تفريغه! وكذلك يشتغل هؤلاء الرجال المنكودوا الحظ عشر ساعات في كل يوم كما تشتغل الدواب، ثم يعودون إلى غرفهم في آخر النهار فينامون على (برش) صغيرة فوق البلاط الصقيع! ولا أستطيع أن أفهم العلاقة بين العقاب وبين إهداء الأمة في كل عام عددا من أبنائها مسلولين ومرضى من جراء هذه المعيشة في السجون.

أليس غريبا أن نروم إصلاح المجرم فنعامل السجين السياسي كما نعامل المجرم العادي، ولا نفرق بين أرباب السوابق في الإجرام أوبين حديثي العهد به، ونجمع في سجن واحد بين شرار المجرمين وبين من ساقتهم إلى الجريمة ظروف طارئة أونزوة عارضة أوأعصاب مختلة.

إن الذين يشكون من ازدياد الجرائم وتمادي المجرمين لا يجب عليهم أن يطلبوا إصلاح ذلك في قانون العقوبات ولكن في النظام السيئ لتنفيذ تلك العقوبات. وما دام في السجن سوط (وزنزانة) وقيود وسلاسل فلن يصلوا إلى قلب المجرم فينتزعوا منه حمئة الإجرام، ولن تتهذب روحه ولوقضى في السجن ألف عام! سيقول قوم لقد غإلى في القول وأين هوذلك النظام المنشود الذي سيجعل المجرمين ملائكة أخيار؟! وأقول لهم إنه نظام بسيط، إنه لن يجعل المجرمين ملائكة أخيار ولكنه سيمنع هذه التجربة التي نراها كل يوم بأعيننا في الشوارع. أطفال صغار يساقون إلى دور الشرطة لأنهم متسولون أولأنهم متشردون، فإذا كبروا وكبرت معهم جرائمهم نسي القانون والناس من المجرم الحقيقي، وقالوا كما يقول ذلك القاضي الإنجليزي الذي أشرنا إليه (إن معتادي الإجرام يجب معاقبتهم بالسجن أوالأشغال الشاقة) إن أولئك المعتادي الإجرام ليسوا إلا أولئك الأربعة الصبية الذين عثر بهم قسم محرم بك في الإسكندرية ومكثوا أياما والحكومة في حيرة من أمرهم لا تجد عائلا يؤويهم ولا كريم يعولهم ولا قاضيا يأمر بمعاقبتهم بالسجن الطويل أوالأشغال الشاقة!.

إذا صح أن المجرم مريض قابل للشفاء وأن ليس هناك مجرم بالطبع لا ينجح معه العلاج، وإذا صح أن الإنسانية تتألم لهؤلاء البؤساء وتبغي أن تطبق عليهم حكمة كليمانس الحادي عشر، فما معنى أن نرى السجون شامخة أمامنا وهي دور عذاب، ونرى الحبس الانفرادي باقيا وهواقرب طريق إلى الجنون، ونرى طعام أهل السجن تعافه حتى الوحوش.

لا نظام غير (الإصلاحيات) يمحوعن الإنسانية عار هذه الوصمة في القرن العشرين. ينبغي أن تستبدل السجون والحبوس بإصلاحيات زراعية أوصناعية يدخلها الزجال والأحداث والنساء على السواء. ينبغي أن يكون الغرض من معاقبة المجرم ليس الانتفاع بمدته في السجن ولكن إصلاحه وتهذيبه وتعليمه حرفة أومهنة ما يحترفها بعد خروجه. وليس في مصر ما يمكن أن يقال أنه يشبه بهذا النظام سوى إصلاحية الأحداث في الجيزة. أما إصلاحية الرجال في الدلتا فلا تختلف في شيء عن سجون الأشغال الشاقة.

بقي علينا أن ننظر الآن في الأثر غير المباشر الذي ينتجه سوء النظام الحالي للعقاب، دع الحالة التي يخرج عليها السجين بعد سجنه فهي أدعى إلى الإشفاق مما كان فيه. وانظر إلى الجريمة التي يرتكبها العقاب بحرمان أطفال صغار من عائلهم أوترك زوجة ضعيفة بلا ولي ولا ناصر. فيتخبط الجميع في الفاقة والبؤس والشقاء وينحدرون إلى الجريمة. وكذلك تدور عجلة الإجرام في مجراها كما تدور عجلة التناسل البشري. ففريق داخل جدران السجون وفريق آخر لاحقه.

وقد سمعنا أخيرا أن القاضي الإنكليزي هوريدج أدخل عقوبة جديدة إلى بلاده وهي عقوبة الجلد بالسياط - سيقول قوم عقوبة من عقوبات القرون الوسطى. ولكنا نسائلهم أين هي العقوبة التي لا ترجع بالمدينة مئات السنين إلى الوراء؟ أليست عقوبة الضرب للأحداث أردع وأفضل من أن يدخلوا السجن فتسوء أخلاقهم؟

وأخيرا نقول كلمة صغيرة عن العقوبات المالية. لم لا يفتح باب الغرامة على مصراعيه لمعاقبة المجرمين الذين حسنت نياتهم أوبعدت نفوسهم عن معاودة الشر والأذى. إن الحرمان من بعض المال كثر أوقل عقاب رادع كاف ووقاية في الوقت نفسه تحفظ للمجتمع أفراده منه ارتكبوا فعلتهم عن خطأ أوبجهالة وليست نفوسهم متأثرة بعامل من عوامل الإجرام. هذه هي عقوبة التغريم التي لووضعت بجانب كل عقاب لأعنت الناس عن أن تقول (الرحمة فوق القانون) خرج الحجاج يوماً متصيداً بالمدينة فوقف على إعرابي يرعى إبلا له فقال له يا إعرابي كيف رأيت سيرة أميركم الحجاج، فقال له الإعرابي غشوم ظلوم وأغشم فبينما هوكذلك إذا أحاطت به الخيل فأومأ الحجاج إلى الإعرابي فأخذ وحمل فلما صار معه قال من هذا: قالوا له الحجاج. فحرك دابته حتى صار بالقرب منه. ثم ناداه يا حجاج قال: ما تشاء يا إعرابي. قال السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون مكتوما.

ونظر إعرابي إلى رجل سمين فقال أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك: