الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الفتاوى الكبرى/مسائل منثورة/2»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
Obaydb (نقاش | مساهمات)
استيراد تلقائي للمقالات
 
Obayd (نقاش | مساهمات)
لا ملخص تعديل
سطر 98:
 
وهذه المسألة من أصول أهل الإيمان والسنة التي فارقوا بها الجهمية من المعتزلة والفلاسفة ونحوهم والكلام عليها مبسوط في غير هذا الموضع والله أعلم
 
1027 - / 3 - مسألة: فيمن قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما فقال له أخر: بل كلمه تكليما فقال: إن قلت كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث ومن قال إن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر كما قال أم لا؟
 
الجواب: الحمد لله أما من قال: إن الله لم يكلم موسى تكليما فهذا إن كان لم يسمع القرآن فإنه يعرف أن هذا نص القرآن فإن أنكره بعد ذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد أن يجحد نص القرآن بل لو قال: إن معنى كلامي أنه خلق صوتا في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه أيضا كفرا وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف وقالوا يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لكن من كان موقنا بالله ورسوله مطلقا ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيرا مما يرد من معاني الكتاب والسنة والخطأ والنسيان مرفوع عن هذه الأمة والكفر لا يكون إلا بعد البيان
 
والأئمة الذين أمروا بقتل مثل هؤلاء الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة ويقولون القرآن مخلوق ونحو ذلك قيل إنهم أمروا بقتلهم لكفرهم وقيل لأنهم إذا دعوا الناس إلى بدعتهم أضلوا الناس فقتلوا لأجل الفساد في الأرض وحفظا لدين الناس أن يضلوهم
 
وبالجملة فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع حتى أخرجهم كثير عن الثنتين وسبعين فرقة ومن الجهمية المتفلسفة والمعتزلة الذين يقولون إن كلام الله مخلوق وإن الله إنما كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء وأنه لا يرى في الآخرة وأنه ليس مباينا لخلقه وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه
 
وأما قول الجهمية: إن قلت: كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث ومن قال إن الله كلم موسى بحرف وصوت فهو كافر
 
فيقال لهذا الملحد: أنت تقول أنه كلمه بحرف وصوت لكن تقول بحرف وصوت خلقه في الهواء وتقول: إنه لا يجوز أن تقوم به الحروف الأصوات لأنها لا تقوم إلا بمتحيز والباري ليس بمتحيز ومن قال إنه متحيز فقد كفر ومن المعلوم أن من جحد ما نطق به الكتاب والسنة كان أولى بالكفر ممن أقر بما جاء به الكتاب والسنة
 
وإن قال الجاحد لنص الكتاب والسنة: أن العقل معه قال له الموافق للنصوص: بل العقل معي وهو موافق للكتاب والسنة فهذا يقول إن معه السمع والعقل وقال إنما يحتج لقوله بما يدعيه من العقل الذي يبين منازعة فساده ولو قدر أن العقل معه والكفر هو من الأحكام الشرعية وليس كل من خالف شيئا علم بنظر العقل يكون كافرا ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفرا في الشريعة وأما من خالف ما علم أن الرسول جاء به فهو كافر بلا نزاع
 
وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة ولا في قول أحد من سلف الأمة وأئمتها الإخبار عن الله بأنه متحيز أو أنه ليس بمتحيز ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا أو هذا يكفر وهذا اللفظ مبتدع والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة بل يستفسر هذا القائل إذا قال إن الله متحيز أو ليس بمتحيز فإن قال أعني بقولي أنه متحيز أنه دخل في المخلوقات قد حازته وأحاطت به فهذا باطل وإن قال أعني به أنه منحاز عن المخلوقات مباين لها فهذا حق
 
وكذلك قوله: ليس بمتحيز إن أراد أن المخلوق لا يجوز الخالق فقد أصاب وإن قال إن الخالق لا يباين المخلوق وينفصل عنه فقد أخطأ
 
وإذا عرف ذلك فالناس في الجواب عن حجته الداحضة وهي قوله لو قلت أنه كلمه فالكلام لا يكون إلا بحرف وصوت والحرف والصوت محدث ثلاثة أصناف: صنف منعوه المقدمة الأولى وصنف منعوه المقدمة الثانية وصنف لم يمنعوه المقدمتين بل استفسروه وبينو أن ذلك لا يمنع أن يكون الله كلم موسى تكليما
 
فالصنف الأول: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ومن اتبعهما قالوا: لا نسلم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت بل الكلام معنى قائم بذات المتكلم والحروف والأصوات عبارة عنه وذلك المعنى القائم بذات الله تعالى يتضمن الأمر بكل ما أمر به والخبر عن كل ما أخبر عنه وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وقالوا: إن اسم الكلام حقيقة فيكون اسم الكلام مشتركا أو مجازا في كلام الخالق وحقيقة في كلام المخلوق
 
والصنف الثاني: سلموا لهم أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت ومنعوهم المقدمة الثانية وهي أن الحرف والصوت لا يكون إلا محدثا وصنف قالوا إن المحدث كالحادث سواء كان قائما بنفسه أو بغيره وهو متكلم بكلام لا يكون إلا قديما وهو بحرف وصوت وهذا قول من يقول القرآن قديم وهو بحرف وصوت كأبي الحسن بن سالم وأتباعه السالمية وطوائف ممن اتبعه وقال هو لا في الحرف والصوت نظير ما قاله الذين قبلهم في المعاني وقالوا كلام لا بحرف ولا بصوت لا بعقل ومعنى أن يكون أمرا ونهيا وخبرا ممتنع في صريح العقل
 
ومن ادعى أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد وإنما اختلف العبارات الدالة عليه فقوله معلوم الفساد بالاضطرار عقلا وشرعا وإخراج الحروف عن مسمى الكلام مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات وإن جاز أن يقال إن الحروف والأصوات المخلوقة في غير كلام الله حقيقة أمكن حينئذ أن يكون كلم موسى بكلام مخلوق في غيره قالوا لإخوانهم الأولين: إذا قلتم إن الكلام هو مجرد المعنى وقد خلق عبارة
 
فإن قلتم إن تلك العبارة كلام حقيقة بطلت حجتكم على المعتزلة فإن أعظم حجتكم عليهم قولكم: إنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام بخلقه في غيره كما يمتنع أن يعلم بعلم قائم بغيره وأن يقدر بقدرة قائمة بغيره وأن يريد بإراد قائمة بغيره وإن قلتم: هي كلام مجازا لزم أن يكون الكلام حقيقة في المعنى مجازا في اللفظ وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من جميع اللغات
 
الصنف الثالث: الذين لم يمنعوا المقدمتين ولكن اسفسروهم وبينوا أن هذا لا يستلزم صحة قولكم بل قالوا إن قلتم أن الحرف والصوت محدث بمعنى أنه يجب أن يكون مخلوقا منه منفصلا عنه فهذا دليل على فساد قولكم وتناقضه وهذا قول ممنوع وإن قلتم بمعنى أنه لا يكون قديما فهذا مسلم لكم لكن تسميته هذا محدث
 
وهؤلاء صنفان: صنف قال: إن المحدث هو المخلوق المنفصل عنه فإذا قلنا الحرف والصوت لا يكون إلا محدثا كان بمنزلة قولنا لا يكون إلا مخلوقا وحينئذ فيكون هذا المعتزلي أبطل قوله بقوله حيث زعم أنه يتكلم بحرف وصوت مخلوق ثم استدل على ذلك بما يقتضي أنه يتكلم لا يتكلم بكلام مخلوق فيه تلبيس
 
ونحن لا نقول كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام مخلوق بل هو سبحانه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما أنه سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه سبحانه استوى إلى السماء وهي دخان وأنه سبحانه يأتي في ظلل من الغمام والملائكة كما قال: { وجاء ربك والملك صفا صفا } وقال: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } وقال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وقال تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }
 
وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير من أنه سبحانه إذا شاء فعل ما أخبر عنه من تكليمه وأفعاله القائمة بنفسه وما كان قائما بنفسه هو كلامه لا كلام غيره والمخلوق لا يكون قائما بالخالق ولا يكون الرب محلا للمخلوقات بل هو سبحانه يقوم به ما شاء من كلماته وأفعاله وليس من ذلك شيء مخلوقا إنما المخلوق ما كان بائنا عنه وكلام الله من الله ليس ببائن منه
 
ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فقالوا: منه بدأ أي: هو المتكلم به لا أنه خلقه في بعض الأجسام المخلوقة
 
وهذا الجواب هو جواب أئمة أهل الحديث والتصوف والفقه وطوائف من الكلام من أئمتهم من الهشامية والكرامية وغيرهم وأتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد منهم من يختار جواب الصنف الأول وهم الذين يرتضون قول ابن كلاب في القرآن وهم طوائف من متأخري أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة ومنهم من يختار جواب الصنف الثاني وهم الطوائف الذين ينكرون قول ابن كلاب ويقولون إن القرآن قديم كالسالمية وطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة ومنهم من يختار جواب الطائفة الثالثة وهم الذين ينكرون قول الطائفتين المتقدمين الكلابية والسالمية
 
ثم من هؤلاء من يقول بقول الكرامية والكرامية منتسبون إلى أبي حنيفة ومنهم من لا يختار قول الكرامية أيضا لما فيه من تناقض آخر بل يقول بقول أئمة الحديث كالبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومن قبلهم من السلف: كأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ومحمد بن كعب القرظي والزهري وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وما نقل من ذلك عن الصحابة والتابعين وفي ذلك آثار كثيرة معروفة في كتب السنن والآثار تضيق عنها هذه الورقة
 
وبين الأصناف الثلاثة منازعات ودقائق تضيق عنها هذه الورقة وقد بسطنا الكلام عليها في مواضع وبينا حقيقة كل قول وما هو القول الصواب في صريح العقول وصحيح المنقول: لكن هؤلاء الطوائف كلهم متفقون على تضليل من يقول إن كلام الله مخلوق والأمة متفقة على أن من قال إن كلام الله مخلوق لم يكلم موسى تكليما يستتاب فإن تاب وإلا قتل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا
 
1028 - / 4 - مسألة: في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق وليستعمل فيما خلق له
 
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه: إن الله سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء كما خلق العين يرى بها الأشياء والأذن يسمع بها الأشياء وكما خلق سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور وعمل من الأعمال فاليد للبطش والرجل للسعي واللسان للنطق والفم للذوق والأنف للشم والجلد للمس وكذلك سائر الأعضاء الباطنة الظاهرة فإذا استعمل العضو فيما خلق له وأعد من أجله فذلك هو الحق القائم والعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكان ذلك خيرا وصلاحا لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استعمل فيه وذلك الإنسان هو الصالح الذي استقام حاله وأولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
 
وإذا لم يستعمل العضو في حقه بل ترك بطالا فذلك خسران وصاحبه مغبون وإن استعمل في خلاف له فهو اضلال والهلاك وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفرا ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب كما سمي قلبا قال النبي {{صل}}: [ إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ]
 
وقال {{صل}}: [ الإسلام علانية والإيمان في القلب ثم أشار بيده إلى صدره وقال: ألا إن التقوى هاهنا ألا إن التقوى هاهنا ]
 
وإذ قد خلق ليعلم به فتوجه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر كما أن إقبال الإذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع وانصراف الطرف إلى الأشياء طلبا لرؤيتها هو النظر فالفكر للقلب كالإصغاء الأذن إذا سمعت ما أصغت إليه ومثله نظر العينين في شيء وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبة كما أن الأذن إذا سمعت ما أصغت إليه أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه
 
وكم من ناظر مفكر لم يحب العلم ولم ينله كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره ومستمع إلى صوت لا يسمعه وعكسه من يؤتى علما بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه سابقة فكر كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه أو سمع قولا من غير أن يصغي إليه
 
وذلك كله لأن القلب بنفسه يقبل العلم وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلا من الإنسان فيكون مطلوبا وقد يأتي فضلا من الله فيكون موهوبا فصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء لا أقول أن يعلمها فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلا له بل غافلا عنه ملغيا له والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه وثبته في قلبه فيكون وقت الحاجة إليه غنيا فيطابق عمله قوله وباطنه ظاهره وذلك هو الذي أوتي الحكمة: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا }
 
وقال أبو الدرداء: إن من الناس يؤتى علما ولا يؤتى حكما وإن شداد بن أوس ممن أوتي علما وحكما
 
هذا مع أن الناس متباينون في نفس أن يعقلوا الأشياء من بين كامل وناقص وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير وجليل ودقيق وغير ذلك
 
ثم هذه الأعضاء الثلاثاء هي أمهات ما ينال به العلم يدرك أعني العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر الحيوانات دون ما يشاركه فيه من الشم الذوق واللمس وهنا يدرك به ما يحب ويكره وما يميز به من يحسن إليها ويسيء إلى غير ذلك
 
قال الله تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } وقال: { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } وقال: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقال: { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } وقال: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها }
 
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن وتفارقهما في شيء وهو أنها إنما ترى بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص فأما القلب والأذن فيعلم بهما ما غاب عن الإنسان وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء بنفسه إذا كان العلم بها هو غذاؤه وخاصيته: أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب فهي بنفسها إنما تنال القول والكلام فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب وإنما سائر الأعضاء حجته توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه حتى إن من فقد شيئا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه فالأصم لا يعلم ما في الكلام من العلم والضرير لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة
 
وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب فإنه لا يعقل شيئا فمدار الأمر على القلب وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق
 
فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة وحكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها ومثله قوله: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } وتتبين حقيقة الأمر في قوله: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }
 
فإن من يؤتى الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله وابتعه ولم يحتج إلى من يدعوه إليه فذلك صاحب القلب أو رجل لم يعقله بنفسه بل هو محتاج إلى من يعلمه وتتبين له ويعظه ويؤدبه فهذا أصغى فألقى السمع وهو شهيد أي حاضر القلب ليس بغائبه كما قال مجاهد أوتى العلم وكان له ذكرى
 
ويتبين قوله: { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } وقوله: { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا }
 
ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق فإن الله هو الحق المبين: { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال } إذا كان كل ما يقع عليه لمحة ناظر ويحول في لفتة خاطر فالله ربه ومنشئه وفاطره ومبدئه لا يحيط علما لابما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه وأصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
 
ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه وجدته إلى العدم ما هو فقير إلى الحي القيوم فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه هم هدى رأيته حينئذ موجودا مكسوا حلل الفضل والإحسان
 
فقد استبان القلب إنما خلق لذكر الله سبحانه ولذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام: أظنه سليمان الخواص رحمه الله الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا أو كما قال: فإذا كان القلب مشغولا بالله عاقلا للحق مفكرا في العلم فقد وضع موضعه كما أن العين إذا صرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها
 
أما إذا لم يصرف إلى العلم ولم يرع فيه الحق فنسي ربه فلم يوضع في موضع بل هو ضائع ولا يحتاج أن يقال: قد وضع غير موضعه بل لم يوضع أصلا فإن موضعه هو الحق وما سوى الحق باطل فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل والباطل ليس بشيء أصلا وما ليس بشيء أحرى إلا أن يكون موضعا
 
والقلب هو بنفسه لا يقبل إلا الحق فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خلق له: { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وهو مع ذلك ليس بمتروك مخلى فإن من لا يزال من أودية الأفكار وأقطار الأماني لا يكون على الحل التي تكون عليها العين والأذن من الفراغ والتخلي فقد وضع في غير موضع لا مطلق ولا معلق موضوع لا موضع له وهذا من العجب فسبحان العزيز الحكيم
 
وإنما تنكشف له هذه الحال عند رجوعه إلى الحق: إما في الدنيا عند الإنابة أو عند المنقلب إلى الآخرة فيرى سوء الحال التي كان عليها وكيف كان قلبه ضالا عن الحق هذا إذا صرف إلى الباطل
 
فأما لو ترك وحالته التي فطر عليها فارغا عن كل ذكر وخاليا من كل فكر لقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه ويرى الحق الذي لا ريب فيه فيؤمن بربه وينيب إليه فإن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء لا تحس فيها من جدعاء: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } وإنما يحول بينه وبين الحق في غالب الحال شغله بغيره من فتن الدنيا ومطالب الجسد وشهوات النفس فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها أن ترى مع ذلك الهلال أو هو يميل فيصده عن اتباع الحق فيكون كالعين التي فيها قذى لا يمكنها رؤية الأشياء
 
ثم الهوى قد يعرض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه فلا يتبين له الحق كما قيل: حبك الشيء يعمي ويصم فيبقى في ظلمة الأفكار وكثيرا ما يكون ذلك كبرا يمنعه عن أن يطلب الحق: { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون }
 
وقد يعرض الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه كما قال سبحانه فيهم: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا }
 
ثم القلب للعمل كالإناء للماء والوعاء للغسل والوادي للسيل كما قال تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } الآية
 
وقال للنبي {{صل}}: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت فيها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
 
وفي حديث كميل بن زياد عن علي رضي الله عنه قال: القلوب أوعية فخيرها أوعاها وبلغنا عن بعض السلف قال: القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها وهذا مثل حسن فإن القلب إذا كان رقيقا لينا كان قبوله للعلم سهلا يسيرا ورسخ فيه وأثر وإن يكن قاسيا غليظا يكن قبوله للعلم صعبا عسيرا
 
ولا بد من ذلك أن يكون زكيا صافيا سليما حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرا طيبا وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم وكان كالدغل في المزدرع إن لم يمنع الحب من أن نبت منعه من أن يزكو ويطيب وهذا بين لأولي الأبصار
 
وتلخيص هذه الجملة أنه إذا استعمل في الحق فله وجهان: وجه مقبل على الحق ومن هذا الوجه يقال له وعاء وإناء لأن ذلك يستوجب ما يوعى فيه ويوضع فيه وهذه الصبغة وجود ثبوت ووجه معرض عن الباطل ومن هذا الوجه يقال له زكي وسليم وطاهر لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر والخبث والدغل وهذه الصبغة عدم ونفي وبهذا يتبين أنه إذا صرف إلى الباطل فله وجهان: وجه الوجود أنه منصرف إلى الباطل مشغول به ووجه العدم أنه معرض عن الحق غير قابل له وهذا يبين من البيان والحسن والصدق ما في قوله:
 
( إذا ما وضعت القلب في غير موضع... بغير إناء فهو قلب مضيع )
 
فإنه لما أراد أن يبين حال من ضيع قلبه فظلم نفسه بأن اشتغل بالباطل وملأ به قلبه حتى لم يبق فيه متسع للحق ولا سبيل له إلى الولوج فيه ذكر ذلك منه فوصف حال هذا القلب بوجهيه ونعته بمذهبه فذكر أولا وصف الوجود منه فقال: إذا ما وضعت القلب في غير موضع يقول إذا شغلته بما لم يخلق له فصرفته إلى الباطل حتى صار موضوعا فيه
 
ثم الباطل على منزلتين: إحداهما: تشغل عن الحق ولا تعانده مثل الأفكار والهموم التي من علائق الدنيا وشهوات النفس والثانية: تعاند الحق وتصد عنه مثل الآراء الباطلة والأهواء المردية من الكفر والنفاق والبدع وشبه ذلك بل القلب لم يخلق إلا لذكر الله فما سوى ذلك فليس موضعا له
 
ثم ذكر ثانيا ووصف العدم منه فقال: بغير إناء يقول: إذا وضعته بغير إناء فوضعته ولا إناء معك كما تقول حضرت المجلس بلا محبرة فالكلمة حال من الواضع لا من الموضوع والله أعلم
 
وبيان هذه الجملة والله أعلم أنه يقول إذا ما وضعت قلبك في غير موضع فاشتغل بالباطل ولم يكن معك إناء يوضع فيه الحق ويتنزل إليه الذكر والعلم الذي هو حق القلب فقلبك إذا مضيع ضيعته من وجهي التضييع وإن كانا متحدين من جهة أنك وضعته في غير موضوع ومن جهة أنه لا إناء معك يكون وعاء لحقه الذي يجب أن يعطاه كما لو قيل لملك قد أقبل على اللهو: إذا اشتغلت بغير المماسكة وليس في الملك من يدبره فهو ملك ضائع لكن هنا الإناء هو القلب بعينه وإنما كان ذلك لأن القلب لاينوب عنه غيره فيما يجب أن يصنعه: { ولا تزر وازرة وزر أخرى }
 
وإنما خرج الكلام في صورة اثنين بذكر نعتين لشيء واحد كما جاء نحوه في قوله تعالى: { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان }
 
قال قتادة والربيع: هو القرآن فرق فيه بين الحلال والحرام والحق والباطل وهذا لأن الشيء الواحد إذا كان له وصفان كبيران فهو مع وصف كالشيء الواحد وهو مع الوصفين بمنزلة الاثنين حتى لو كثرت صفاته لتنزل منزلة أشخاص
 
ألا ترى أن الرجل الذي يحسن الحساب والطب بمنزلة حاسب وطبيب والرجل الذي يحسن النجارة والبناء بمنزلة نجار وبناء والقلب لما كان يقبل الذكر والعلم فهو بمنزلة الإناء الذي يوضع فيه الماء وإنما ذكر في هذا البيت الإناء من بين سائر أسماء القلب لأنه هو الذي يكون رقيقا وصافيا وهو الذي يأتي به المستطعم المستعطي في منزلة البائس الفقير ولما كان ينصرف عن البال فهو زكي وسليم فكأنه ثنان وليتبين في الصورة أن الإناء غير القلب فهو يقول: إذا ما وضعت قلبك في غير موضع وهو الذي يوضع فيه الذكر والعلم ولم يكن معك إناء يوضع فيه المطلوب فمثلك مثل رجل بلغه أنه يفرق على الناس طعاما وكان له زبدية أو سكرجة فتركها ثم أقبل يطلب طعاما فقيل له هات إناء نعطك طعاما فأما إذا أتيت وقد وضعت زبديتك مثلا في البيت وليس معك إناء نعطيك فيه شيئا رجعت بخفي حنين
 
وإذا تأمل من له بصر بأساليب البيان وتصاريف اللسان وجد موقع هذا الكلام من العربية والحكمة كليهما موقعا حسنا بليغا فإن نقيض هذه الحال المذكورة أن يكون القلب مقبلا على الحق والعلم والذكر معرضا عن ذكر غير ذلك وتلك هي الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام فإن الحنف هو الميل عن الشيء بالإقبال على آخر فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده والإعراض عما سواه وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق والكلمة الطيبة لا إله إلا هو
 
اللهم ثبتنا عليها في الدنيا وفي الآخرة ولا حول ولا قوة إلا بالله
 
هذا آخر ما حضر في هذا الوقت والله أعلم بالمراد والله أعلم وفوق كل ذي علم عليم والحمد لله العزيز الوهاب الكريم التواب وحسبنا الله ونعم الوكيل
 
{{الفتاوى الكبرى}}