الفرق بين المراجعتين لصفحة: «التبصير في معالم الدين»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
جديدة '{{نثر}}{{رأسية |عنوان = التبصير في معالم الدين |مؤلف = الطبري | | ويكي مصدر:كتب مصورة | | التبصير في معال...'
(لا فرق)

نسخة 21:00، 28 أغسطس 2016

​التبصير في معالم الدين​ المؤلف الطبري


Wikipedia logo اقرأ عن التبصير في معالم الدين في ويكيبيديا، الموسوعة الحرة


مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تتابعت على خلقه نعمه، وترادفت لديهم مننه، وتكاملت فيهم حججه، بواضح البيان، وبين البرهان، ومحكم آي الفرقان؛ {ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} . وصلى الله على سيد الأصفياء، وخاتم الأنبياء محمد وآله وسلم كثيراً. قال أبو جعفر: ثم أما بعد: ذلكم معاشر حملة الآثار ونقلة سنن الأخبار من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، من أهل آمل طبرستان فإنكم سألتموني تبصيركم سبل الرشاد في القول فيما تنازعت فيه أمة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من بعد فراقه إياهم، واختلفت فيه بعده من أمر دينهم، مع اجتماع كلمة جميعهم على أن ربهم تعالى ذكره واحدٌ، ونبيهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم صادقٌ، وقبلتهم واحدةٌ.

وقلتم. قد كثرت الأهواء، وتشتت الآراء، وتنابز الناس بالألقاب، وتعادوا فتباغضوا وافترقوا، وقد أمرهم الله تعالى ذكره بالألفة، ونهاهم عن الفرقة، فقال جل ذكره في محكم كتابه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} . وقال تعالى ذكره: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} .

وقلتم: هذا كتاب الله المنزل وتنزيله المحكم، يأمر بالائتلاف، وينهى عن الاختلاف، وقد خالف ذلك من قد علمتم من الأمة؛ فكفر بعضهم بعضاً، وتبرأ بعضٌ من بعضٍ، وكل حزبٍ يدلي بحجة لما يظهر من اعتقاده؛ فيلعن –على القول بخلافه فيه- من خالفه، ولا سيما في زماننا هذا وبلدتنا هذه، فإن المصدور عن قوله فيهم، والمأخوذ معالم الدين عنه منهم الأجهل، والمقنوع برأيه وعلمه في نوازل الحلال والحرام وشرائع الإسلام عندهم الأسفه الأرذل. فالمسترشد منهم حائرٌ تزيده الليالي والأيام على طول استرشاده إياهم حيرةً، والمستهدي منهم إلى الحق فيهم تائهٌ، يتردد على كر الدهور باستهدائه إياهم في ظلمةٍ لا يتبين حقاً من باطلٍ، ولا صواباً من خطأٍ.

وسألتموني إيضاح قصد السبيل، وتبيين هدي الطريق لكم في ذلك بواضح من القول وجيز، وبين من البرهان بليغ؛ ليكون ذلك لكم إماماً في القول فيما اشتجر فيه الماضون تأتمون به، وعماداً تعتمدون عليه فيما تبتغونه من معرفة صحة القول في الحوادث والنوائب فيما يختلف فيه الغابرون. وإن مسألتكم إياي صادفت مني فيكم تحريا، ووافقت مني لكم احتساباً؛ لما صح عندي، وتقرر لدي من خصوص عظيم البلاء ببلدكم دون بلاد الناس سواكم من ترؤس الرويبضة فيكم، واستعلاء أعلام الفجرة عليكم وإعلانهم صريح الكفر جهرةً بينكم، وإصغاء عوامكم لهم، وترك وزعتكم إلحاقهم بنظائرهم بقتلهم ثم صلبهم والتمثيل بهم، حتى لقد بلغني عن جماعة منهم أن الأمنية بينكم بلغت بهم، والجرأة عليكم حملتهم على إظهار نوعٍ من الكفر لا يعلم أنه دان به يهوديٌ، ولا نصرانيٌ، ولا مجوسيٌ، ولا وثنيٌ، ولا زنديقٌ ولا ثنويٌ، ولا جنسٌ من أجناس أهل الكفر سواهم، وهو أن أحدهم –فيما ذكر لي- يخط بيده في التراب بسم الله، ويكتب بيده نحوه على اللوح، أو ينطق بلسانه، ثم يقول: ((قولي هذا الذي قلته ربي الذي أعبده، وكتاب هذا الذي كتبته: خالقي الذي خلقني)) . ويزعم أن علته في صحة القول بذلك أن أبا زرعة وأبا حاتم الرازيين قالا: ((الاسم هو المسمى)) . فلا هو يعقل الاسم ولا يعرف المسمى، ولا هو يدري ما مراد القائل: الاسم هو المسمى، ولا مراد القائل: الاسم غير المسمى، ولا مراد القائل: لا هو المسمى ولا غير المسمى، بلادة وعمى، فسبحان الله لقد عظمت مزلة هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم، الزاعمين أنهم يعملون ربهم بأيديهم، ويحدثونه بألسنتهم كلما شاءوا، ويفنونه بعد إحداثهموه كلما أحبوا، لقد خابوا وخسروا، وضلوا بفريتهم هذه على الله ضلالاً بعيداً، وقالوا على الله قولاً عظيماً. وغير بديع –رحمكم الله- أن يصغى إلى مثل هذا العظيم من الكفر العجيب فيتقبله من كان قد أخذ عن آبائه الدينونة بنبوة السندي الرشنيق، ويقبل منهم عنه تحليل الزنا، وإباحة فروج النساء بغير نكاح ولا شراء، ومن كان دايناً بإمامة من رأى أن المآثم تزول عن الزاني بامرأة رجلٍ بإحلال زوجها له ذلك.

وإن بلدةً وجد فيها أشكال من ذكرنا على جهله وعمى قلبه اتباعاً، وسلم فيها من سفك دمه جهاراً، لحريٌ أن تكون الأقلام عن أهلها مرفوعةً، وأن يكون الإثم عنهم موضوعاً وجديرون أن يتركوا في طغيانهم يعمهون، وفي دجى الظلماء يترددون، غير أني تحريث بياني ما بينت، وإيضاحي ما أوضحت في كتابي هذا لذوي الأفهام والألباب منكم، ليكون ذلك ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد. فليدبر كل من قرأ –منكم ومن سائر الناس غيركم- كتابي هذا بإشعار نفسه نصحها، وطلبه حضها، وتركه تقليد الرؤوس الجهال، ودعاة الضلال؛ فإني لم آل نفسي فيه وإياكم والمسلمين نصحاً. فإلى الله أرغب في حسن التوفيق، وإصابة القول في توحيده وعدله وشرائع دينه، والعون على ما يقرب من محابه، إنه سميعٌ قريب، وصلى الله على محمدٍ النبي وسلم تسليماً.

القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين

القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يعذر بالخطأ فيه المجتهد الطالب، وما لا يعذر بذلك فيه.

اعلموا –رحمكم الله- أن كل معلومٍ للخلق من أمر الدين والدنيا أن تخرج من أحد معنيين:

  1. من أن يكون إما معلوماً لهم بإدراك حواسهم إياه.
  2. وإما معلوماً لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم.

ثم لن يعدو جميع أمور الدين –الذي امتحن الله به عباده- معنيين: أحدهما: توحيد الله وعدله. والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلالٍ وحرامٍ وأقضيةٍ وأحكام.

  1. فأما توحيده وعدله: فمدركةٌ حقيقة علمه استدلالاً بما أدركته الحواس.
  2. وأما شرائعه فمدركةٌ حقيقة علم بعضها حساً بالسمع، وعلم بعضها استدلالاً بما أدركته حاسة السمع.

ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالاً على وجهين:

  • أحدهما: معذورٌ فيه بالخطأ والمخطئ، ومأجورٌ فيه على الاجتهاد والفحص والطلب؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ)) .

وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفةً غير مؤتلفةٍ، والأصول في الدلالة عليه مفترقةً غير متفقةٍ، وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضاً يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثيرٍ من بغاته.

  • والآخر منهما غير معذورٍ بالخطأ فيه مكلفٌ قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفرٌ بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحته متفقةً غير مفترقة، ومؤتلفةً غير مختلفةٍ، وهي مع ذلك ظاهرةٌ للحواس.

وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حساً، فغير لازمٍ فرضه أحداً إلا بعد وقوعه تحت حسه، فأما وهو واقعٌ تحت حسه فلا سبيل له إلى العلم به، وإذا لم تكن له إلى العلم به سبيلٌ، لم يجز تكلفيه فرض العمل به، مع ارتفاع العلم به؛ وذلك أنه من لم ينته إليه الخبر بأن الله تعالى ذكره بعث رسولاً يأمر الناس بإقامة خمس صلواتٍ كل يومٍ وليلةٍ، لم يجز أن يكون معذباً على تركه إقامة الصلوات الخمس. لأن ذلك من الأمر الذي لا يدرك إلا بالسماع، ومن لم يسمع ذلك ولم يبلغه؛ فلم تلزمه الحجة به، وإنما يلزم فرضه من ثبتت عليه به الحجة.

فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه غير مختلفةٍ، ظاهرةً للحس غير خفية، فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلاً دالاً وبرهاناً واضحاً يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحداً كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره، والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا، وعذاب الآخرة فقال –جل ثناؤه-: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} . فسوى –جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب. وذلك لما وصفنا من استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله –جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب. وخالف حكم ذلك حكم الجهل بالشرائع، لما وصفت من أن من لم يقطع الله عذره بحجة أقامها عليه بفريضة ألزمه إياها من شرائع الدين، فلا سبيل له إلى العلم بوجوب فرضها؛ إذ لا دلالة على وجوب فرضها، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن مأموراً، وإذا لم يكن مأموراً لم يكن بترك العمل لله –عز ذكره- عاصياً، ولا لأمر ربه مخالفاً؛ فيستحق عقابه؛ لأن الطاعة والمعصية إنما تكون باتباع الأمر ومخالفته.

فإن قال لنا قائلٌ:

فإنك قد تستدل بالمحسوس من أحكام الشرائع بعد وقوعه تحت الحس على نظائره التي لم تقع تحت الحس ويحكم له بحكم نظيره، ويفرق فيه بين المجتهد المخطئ، وبين المعاند فيه بعد العلم بحقيقته؛ فتجعل المجتهد المخطئ مأجوراً باجتهاده، والإثم عنه زائلاً بخطئه. وقد سويت بين حكم المجتهد المخطئ في توحيد الله وأسمائه وصفاته وعدله، والمعاند في ذلك بعد العلم به. فما الفصل بينك وبين من عارضك في ذلك، فسوى بين المجتهد المخطئ والمعاند بعد العلم، حيث فرقت بينهما، وفرق حيث سويت؟ قيل: الفرق بيني وبينه أن من قيلي وقيل كل موحدٍ: أن كل محسوسٍ أدركته حاسة خلقٍ في الدنيا فدليلٌ لكل مستدل على وحدانية الله عز وجل وأسمائه وصفاته وعدله، وكل دال على ذلك فهو في الدلالة عليه متفقٌ غير مفترق، ومؤتلفٌ غير مختلف. وإن من قيلي وقيل كل قائلٍ بالاجتهاد في الحكم على الأصول: أنه ليست الأصول كلها متفقةً في الدلالة على كل فرع. وذلك أن الحجة قد ثبتت على أن واطئاً لو وطئ نهاراً في شهر رمضان امرأته في حالٍ يلزمه فيها فرض الكف عن ذلك، أن عليه كفارةً بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك حكمٌ من الله تعالى ذكره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ امرأته في حالٍ حرامٌ عليه وطؤها، وقد يلزمه في حالٍ أخرى يحرم عليه فيها وطؤه، فلا يلزمه ذلك الحكم بل يلزمه غيره؛ وذلك لو وطئها معتكفاً، أو حائضاً: أو مطلقةً تطليقةً واحدة قبل الرجعة، وفي أحوال سواها نظائرٌ لها. فقد اختلفت أحكام الفرج الموطوء في الأحوال المنهي فيها الواطئ عن وطئه مع اتفاق أحواله كلها في أنه منهيٌ في جميعها عن وطئه.

وليست كذلك الأدلة على وحدانية الله –جل جلاله- وأسمائه وصفاته وعدله، بل هي كلها مؤتلفةٌ غير مختلفة، ليس منها شيءٌ إلا وهو في ذلك دالٌ على مثل الذي دلت عليه الأشياء كلها. ألا ترى أن السماء ليست بأبين في الدلالة من الأرض، ولا الأرض من الجبال، ولا الجبال من البهائم، ولا شيء من المحسوسات وإن كبر وعظم بأدل على ذلك من شيءٍ فيها وإن صغر ولطف، فلذلك افترق القول في حكم الخطأ في التوحيد، وحكم الخطأ في شرائع الدين وفرائضه. ولولا قصدنا في كتابنا هذا الاختصار والإيجاز فيما قصدنا البيان عنه لاستقصينا القول في ذلك، وأطنبنا في الدلالة على صحة

ما قلنا فيه وفيما بينا من ذلك مكتفىً لمن وفق لفهمه. وإذا كان صحيحاً ما قلنا بالذي عليه استشهدنا، فواجبٌ أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض – فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت، فهو كافرٌ حلال الدم والمال، إلا أن يكون من أهل العهد الذين صولح سلفهم على الجزية وأقهروا فمن عليهم ووصف عليهم خراجٌ يؤدونه إلى المسلمين، فيكون من أجل ذلك محقون الدم والمال وإن كان كافراً.

فإن قال قائلٌ:

فإذا كان الوقت الذي تلزمه الفرائض هو الوقت الذي ألزمته الكفر إن لم يكن عارفاً بصانعه، بأسمائه وصفاته التي ذكرت، فمتى لزمه فرض النظر والفكر في مدبره وصانعه حتى كان مستحقاً اسم الكفر في الحال التي وصفت والحكم عليه بحكم أهله؟ قيل له:

لم يلزمه فرض شيءٍ من الأشياء قبل الحد الذي وصفت، غير أنه مع بلوغه حدث التمييز بين ماله فيه الحظ وعليه فيه البخس: أن يخليه داعي الرحمن وداعي الشيطان من الدعاء، هذا إلى معرفة الرحمن وطاعته، وهذا إلى اتباع الشيطان وخطواته؛ كما قال الله تعالى ذكره: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم} . وذلك قد يكون في حال بلوغ الصبي سبع سنين أو ثمان سنين، فإذا عرض له الداعيان اللذان وصفت في تلك الحال، فهو ممهلٌ بعد ذلك من الوقت السنين، وربما كان ذلك قدر عشر سنين وربما كان ثمانية، وربما كان أقل وأكثر. وأقل ما يكون ست سنين، وفي قدر ذلك من المهل، وفي أقل منه ما يتذكر من هو متذكرٌ، ويعتبر من هو معتبرٌ. ولن يهلك الله –جل ذكره- إلا هالكاً.

القول في صفة المستحق القتل أنه بالله عارفٌ المعرفة التي يزول بها عنه اسم الكفر

قال أبو جعفر: لن يستحق أحدٌ أن يقال له: إنه بالله [عارفٌ] المعرفة التي إذا قارنها الإقرار والعمل استوجب به اسم الإيمان، وأن يقال له: إنه مؤمنٌ، إلا أن يعلم بأن ربه صانع كل شيءٍ ومدبره، منفرداً بذلك دون شريكٍ ولا ظهيرٍ، وأنه الصمد الذي ليس كمثله شيءٌ: العالم الذي أحاط بكل شيء علمه، والقادر الذي لا يعجزه شيءٌ أراده، والمتكلم الذي لا يجوز عليه السكوت. وأن يعلم أن له علماً لا يشبهه علوم خلقه، وقدرةً لا تشبهها قدرة عباده، وكلاماً لا يشبهه كلام شيء سواه. وأنه لم يزل له العلم والقدرة والكلام.

فإن قال لنا قائلٌ:

فإنك قد ألزمت هذا الذي بلغ حد التكليف شططاً: أوجبت له الكفر بجهل ما قد عجز عن إدراك صحته من قد عاش من السنين مائة، ومن العمر طويلاً من المدة، وأنى له السبيل في المدة التي ذكرت مع قصرها إلى معرفة هذه المعاني. قيل له: إن الذين جهلوا حقيقة ذلك مع مرور الزمان الطويل، لم يجهلوه لعدم الأسباب الممكن معها الوصول إلى علم ذلك في أقصر المدة وأيسر الكلفة؛ ولكنهم تجاهلوا مع ظهور الأدلة الواضحة، والحجج البالغة لحواسهم؛ فأدخلوا اللبس على أنفسهم، والشبهة على عقولهم، حتى أوجب ذلك لهم الحيرة، وأكسبهم الجهل والملالة. ولو أنهم لزموا محجة الهدى، وأعرضوا عما دعاهم إليه دواعي الهوى لوجدوا للحق سبيلاً نهجاً، وطريقاً سهلاً. وأي أمر أبين، وطريقٍ أوضح، ودليلٍ أدل دلالةً من قول القائل: الله عالمٌ، على إثبات عالمٍ له علمٌ.

ولئن كان لا دلالة في قول القائل:

هو عالمٌ، على إثبات عالمٍ له علمٌ أنه لا دلالة من قول قائل: ((إنه على إثباته؛ إذ كان المعلوم في النشوء والعادة أن كل شيءٍ مسمى بعالمٍ فإنما هو مسمى به من أجل أن له علماً، فإن يك واجباً أن يكون المعلوم في النشوء والعادة في المنطق الجاري بينهم، والمتعارف فيه في بارئ الأشياء: خلافاً لما جرت به العادة والتعارف بينهم. إنه لواجبٌ أن يكون قول القائل: ((إنه)) دليلٌ على النفي لا على الإثبات، فيكون المقر بوجود الصانع مقراً بأنه غير عدمٍ، لا مقراً بوجوده؛ كما كان المقر بأنه عالمٌ مقراً –عند قائل هذه المقالة- بأنه ليس بجاهلٍ، لا مقراً بأن له علماً. فإن كان المقر عندهم بأنه مقرٌ بإثباته ووجوده، لا نافياً عدمه؛ فكذلك المقر بأنه عالمٌ مقرٌ بإثبات علمٍ له لا ينفي الجهل عنه. وكذلك القول في القدرة، والكلام، والإرادة، والعزة، والعظمة، والكبرياء، والجمال، وسائر صفاته التي هي صفات ذاته.

فإن قال لنا قائلٌ:

فهل من معاني المعرفة شيءٌ سوى ما ذكرت؟

قيل: لا.

فإن قال: فهل يكون عارفاً به من زعم أنه يفعل العبد ما لا يريده ربه ولا يشاء؟ قيل: لا.

وقد دللنا فيما وصفناه بالعزة التي لا تشبهها عزةٌ على ذلك.

وذلك أنه من لم يعلم أنه لا يكون في سلطان الله –عز ذكره- شيءٌ إلا بمشيئته، ولا يوجد موجودٌ إلا بإرادته، لم يعلمه عزيزاً. وذلك أن من أراد شيئاً فلم يكن وكان مالم يرد، فإنما هو مقهورٌ ذليلٌ، ومن كان مقهوراً ذليلاً فغير جائزٍ أن يكون موصوفاً بالربوبية.

فإن قال: فإن من يقول هذا القول يزعم أن إرادة الله ومشيئته: أمره ونهيه، وليس في خلاف العبد الأمر والنهي قهرٌ له؟ قيل له: لو كان الأمر كما زعمت، لكان الله تعالى ذكره لم يعم عباده بأمره ونهيه، لأنه يقول: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} . فإن تك المشيئة منه أمراً، فقد يجب أن يكون من لم يهتد لدين الإسلام لم يدخله الله عز وجل في أمره ونهيه الذي عم به خلقه، وفي عمومه بأمره ونهيه جميعهم، مع ترك أكثرهم قبوله: الدليل الواضح على أن قوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} إنما معناه: لو شاء الله لجمعهم على دين الإسلام، وإذ كان ذلك كذلك كان بيناً فساد قول من قال: مشيئة الله –تعالى ذكره- أمره ونهيه!

القول فيما أدرك علمه من صفات الصانع خبراً لا استدلالاً

قال أبو جعفر: أما ما لا يصح عندنا عقد الإيمان لأحدٍ، ولا يزول حكم الكفر عنه إلا معرفته، فهو ما قدمنا ذكره. وذلك أن الذي ذكرنا قبل من صفاته لا يعذر بالجهل به أحدٌ بلغ حد التكليف كان ممن أتاه من الله تعالى ذكره رسولٌ أولم يأته رسولٌ، عاين من الخلق غيره أو لم يعاين أحداً سوى نفسه. ولله تعالى ذكره أسماءٌ وصفاتٌ جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه به الخبر منه خلافه؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حساً؛ فمعذورٌ بالجهل به الجاهل. لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكرة.

وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميعٌ بصيرٌ، وأن له يدين لقوله: {بل يداه مبسوطتان} . وأن له يميناً لقوله: {والسموات مطويات بيمينه} . وأن وله وجهاً لقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} ، وقوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} . وأن له قدماً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حتى يضع الرب قدمه فيها)) . يعني جهنم. وأنه يضحك إلى عبده المؤمن لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله: ((إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه)) . وأنه يهبط كل ليلةٍ وينزل إلى السماء الدنيا، لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه ليس بأعور لقول النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر الدجال فقال: ((إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)) .وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها غيايةٌ، وكما يرون القمر ليلة البدر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم. وأن له أصابع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن)) .

فإن هذه المعاني التي وصفت، ونظائرها، مما وصف الله عز وجل بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم مما لا تدرك حقيقة علمه بالفكر والروية. ولا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهائها إليه.

  1. فإن كان الخبر الوارد بذلك خبراً تقوم به الحجة مقام المشاهدة والسماع، وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته في الشهادة عليه بأن ذلك جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسمع.
  2. وإن كان الخبر الوارد خبراً لا يقطع مجيئه العذر، ولا يزيل الشك غير أن ناقله من أهل الصدق والعدالة، وجب على سامعه تصديقه في خبره في الشهادة عليه بأن ما أخبره به كما أخبره، كقولنا في أخبار الآحاد العدول، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.

فإن قال لنا قائلٌ: فما الصواب من القول في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله –عز وجل- ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: الصواب من هذا القول عندنا، أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه –جل ثناؤه- فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} . فيقال: الله سميعٌ بصيرٌ، له سمعٌ وبصرٌ؛ إذ لا يعقل مسمى سميعاً بصيراً في لغةٍ ولا عقلٍ في النشوء والعادة والمتعارف إلا من له سمعٌ وبصرٌ. كما قلنا آنفاً: إنه لا يعرف مقولٌ فيه: ((إنه)) إلا مثبتٌ موجودٌ؛ فقلنا ومخالفونا فيه: ((إنه)) معناه الإثبات على ما يعقل من معنى الإثبات لا على النفي، وكذلك سائر الأسماء والمعاني التي ذكرنا. وبعد، فإن سميعاً اسمٌ مبنيٌ من سمع، وبصيرٌ من أبصر؛ فإن يكن جائزاً أن يقال: سمع وأبصر من لا سمع له ولا بصر، إنه لجائزٌ أن يقال: تكلم من لا كلام له، ورحم من لا رحمة له، وعاقب من لا عقاب له. وفي إحالة جميع الموافقين والمخالفين أن يقال: يتكلم من لا كلام له، أو يرحم من لا رحمة له، أو يعاقب من لا عقاب له، أدل دليلٍ على خطأ قول القائل: يسمع من لا سمع له، ويبصر من لا بصر له. فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل على ما يعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه؛ فنقول: يسمع –جل ثناؤه- الأصوات، لا بخرقٍ في أذنٍ، ولا جارحةٍ كجوارح بني آدم. وكذلك يبصر الأشخاص ببصرٍ لا يشبه أبصار بني آدم التي هي جوارحٌ لهم. وله يدان ويمينٌ وأصابع، وليست جارحةً، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير. ووجهٌ لا كجوارح الخلق التي من لحم ودم. ونقول: يضحك إلى من شاء من خلقه. ولا نقول: إن ذلك كشر عن أسنان. ويهبط كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا. فمن أنكر شيئاً مما قلنا من ذلك، قلنا له: إن الله تعالى ذكره يقول في كتابه: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} . وقال: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} . وقال: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} . فهل أنت مصدقٌ بهذه الأخبار، أم أنت مكذبٌ بها؟

  1. فإن زعم أنه بها مكذب، سقطت المناظرة بيننا وبينه من هذا الوجه.
  2. وإن زعم أنه بها مصدقٌ، قيل له: فما أنكرت من الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنه يهبط إلى السماء الدنيا فينزل إليها)) ؟

فإن قال: أنكرت ذلك؛ أن الهبوط نقلة، وأنه لا يجوز عليه الانتقال من مكانٍ إلى مكان؛ لأن ذلك من صفات الأجسام المخلوقة! قيل له: فقد قال –جل ثناؤه-: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} فهل يجوز عليه المجيء؟ فإن قال: لا يجوز ذلك عليه، وإنما معني هذا القول: وجاء أمر ربك. قيل: قد أخبرنا –تبارك وتعالى- أنه يجيء هو والملك؛ فزعمت أنه يجيء أمره لا هو؛ فكذلك تقول: إن الملك لا يجيء، إنما يجيء أمر الملك لا الملك؛ كما كان معنى مجيء الرب –تبارك وتعالى- مجيء أمره.

فإن قال: لا أقول ذلك في الملك، ولكني أقول في الرب. قيل له: فإن الخبر عن مجيء الرب –تبارك وتعالى- والملك خبرٌ واحدٌ، فزعمت في الخبر عن الرب –تعالى ذكره- أنه يجيء أمره لا هو؛ فزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه لا أمره، فما الفرق بينك وبين من خالفك في ذلك، فقال: بل الرب هو الذي يجيء، فأما الملك فإنما يجيء أمره لا هو بنفسه؟! فإن زعم أن الفرق بينه وبينه: أن الملك خلقٌ لله جائزٌ عليه الزوال والانتقال، وليس ذلك على الله جائزاً. قيل له: وما برهانك على أن معنى المجيء والهبوط والنزول هو النقلة والزوال، ولا سيما على قول من يزعم منكم أن الله –تقدست أسماؤه- لا يخلو منه مكانٌ. وكيف لم يجز عندكم أن يكون معنى المجيء والهبوط والنزول بخلاف ما عقلتم من النقلة والزوال من القديم الصانع،

وقد جاز عندكم أن يكون معنى العالم والقادر منه بخلاف ما عقلتم ممن سواه، بأنه عالمٌ لا علم له، وقادرٌ لا قدرة له؟ وإن كنتم لم تعقلوا عالماً إلا له علمٌ، وقادراً إلا له قدرةٌ، فما تنكرون أن يكون صائباً لا مجيء له، وهابطاً لا هبوط له ولا نزول له، ويكون معنى ذلك وجوده هناك مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكانٌ!

فإن قال لنا منهم قائلٌ: فما أنت قائلٌ في معنى ذلك؟ قيل له: معنى ذلك ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا للخبر إلا التسليم والإيمان به، فنقول: يجيء ربنا –جل جلاله- يوم القيامة والملك صفاً صفاً، ويهبط إلى السماء الدنيا وينزل إليها في كل ليلةٍ، ولا نقول: معنى ذلك ينزل أمره؛ بل نقول: أمره نازلٌ إليها كل لحظةٍ وساعةٍ وإلى غيرها من جميع خلقه الموجودين ما دامت موجودةً. ولا تخلو ساعةٌ من أمره فلا وجه لخصوص نزول أمره إليها وقتاً دون وقتٍ، ما دامت موجودةً باقيةً. وكالذي قلنا في هذه المعاني من القول: الصواب من القيل في كل ما ورد به الخبر في صفات الله عز وجل وأسمائه تعالى ذكره بنحو ما ذكرناه.

فأما الرؤية، فإن جوازها عليه مما يدرك عقلاً. والجهل بذلك كالجهل بأنه عالمٌ وقادرٌ. وذلك أن كل موصوف فغير مستحيل الرؤية عليه؛ فإذا كان القديم موصوفاً فاللازم لكل من بلغ حد التكليف أن يكون عالماً بأن صانعه إذا كان عالماً قادراً له من الصفات ما ذكرنا، أنه لا يكون زائلاً عنه أحكام الكفار إلا باعتقاده أن ذلك له جائزةٌ رؤيته؛ إذ كان موصوفاً، كما يلزمه اعتقاده أنه حيٌ قديمٌ إذ كان لا مدبر فعلٍ إلا حيٌ، ولا محدثٌ إلا مصنوعٌ. فأما إيجاب القول، فإنه لا محالة يرى، وفي أي وقتٍ يرى، وفي أي وقت لا يرى؟ فذلك ما لا يدرك علمه إلا خبراً وسماعاً. وبالخبر قلنا: إنه في الآخرة يرى، وإنه مخصوصٌ برؤية أهل الجنة دون غيرهم؛ فسبيل الجهل بذلك سبيل الجهل بما لا يدرك علمه إلا حساً حتى تقوم عليه حجة السمع به.

القول في الفروع التي تحدث عن الأصول التي ذكرنا أنه لا يسع أحداً الجهل بها من معرفة توحيد الله وأسمائه وصفاته

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل من كتابنا هذا أنه لا يسع أحداً بلغ حد التكليف الجهل بأن الله –جل ذكره- عالمٌ له علمٌ، وقادرٌ له قدرة، ومتكلمٌ له كلامٌ، وعزيزٌ له عزةٌ، وأنه خالقٌ. وأنه لا محدثٌ إلا مصنوعٌ مخلوقٌ. وقلنا: من جهل ذلك فهو بالله كافرٌ؛ فإذا كان ذلك صحيحاً بالذي به استشهدنا، فلا شك أن من زعم أن الله محدثٌ، وأنه قد كان لا عالماً، وأن كلامه مخلوقٌ، وأنه قد كان ولا كلام له، فإنه أولى بالكفر وبزوال اسم الإيمان عنه. وكذلك من زعم أن فعله محدثٌ، وأنه غير مخلوقٍ، فمثله لا شك أنه أولى باسم الكفر من الزاعم أنه لم يزل عالماً لا علم له؛ إذ كان قائل ذلك أوجب أن يكون في سلطان الله ما لا يقدر عليه ولا يريده، وأن يكون مريداً أمراً فيكون غيره، ولا يكون الذي يريده. ذلك لا شك صفة العجزة، لا صفة أهل القدرة. فإذا كان ذلك كذلك؛ فلا شك أن من يزعم أن كلام الله يتحول بتلاوته إذا تلاه، وبحفظه إذا حفظه، أو بكتابه إذ كتبه محدثاً مخلوقاً؛ فبالله –تعالى ذكره- كافرٌ. وكذلك القول فيه إن شك أنه غير مخلوق: مقروءاً كان، أو محفوظاً، أو مكتوباً، كما لو قال قائلٌ: إن بارئ الأشياء يتحول بذكره، أو بمعرفته، أو بكتابته مصنوعاً لا صانعاً؛ كان لا شك في كفره. وكذلك القول فيه لو شك في أنه يتحول عما هو به من صفاته بذكر ذاكر له، أو علم عالم له، أو كتابة كاتبٍ واسمه؛ كان كافراً. 23- وكذلك القول أن صفةً من صفاته تتحول عما هي به بذكر ذاكرٍ، أو معرفة عارف بها، أو كتابة كاتبٍ؛ أو شك في أنه لا يجوز تحولها أو تبديلها أو تغيرها عما لم يزل الله تعالى ذكره بها موصوفاً. كما كان غير جائزٍ أن يتحول كلام الله –عز وجل- مخلوقاً بقراءة قارئٍ، أو كتابة كاتبٍ، أو حفظ حافظٍ. أو يتحول الصانع مصنوعاً، أو القديم محدثاً بذكر محدثٍ مصنوعٍ إياه؛ فكذلك غير جائزٍ أن تتحول قراءة قارئ، أو تلاوته، أو حفظه القرآن قرآناً أو كلام الله –تعالى ذكره-؛ بل القرآن هو الذي يقرأ ويكتب ويحفظ، كما الرب –جل جلاله- هو الذي يعبد ويذكر. وشكر العبد ربه عبادته إياه، وذكره له غيره، والشاك في ذلك لا شك في كفره. وكما كان ذلك كذلك، فكذلك القول في الزاعم أن شيئاً من أفعال العباد أو غير ذلك من المحدثات غير مخلوقٍ، أو غير كائنٍ بتكوين الله جل ثناؤه – إياه، وإنشائه عينه؛ فبالله كافرٌ.

وسواءٌ كان ذلك ذكر العبد ربه أو ذكره الشيطان إلا أن بعضهم يقصد بزعمه أن ذكره ربه مخلوقٌ إلى أن ربه مخلوقٌ؛ فيكون بذلك كافراً حلال الدم والمال. 24- وكذلك القول في قائل لو قال: ((قراءتي القرآن مخلوقةً)) . وزعم أنه يريد بذلك القرآن مخلوقٌ: فكافرٌ لا شك فيه عندنا، ولا أحسب أحداً أعطي شيئاً من الفهم والعقل يزعم ذلك أو يقوله. فأما إن قال: أعني بقول ((قراءتي)) : فعلي الذي يأجرني الله عليه والذي حدث مني بعد أن لم يكن موجوداً، لا القرآن الذي هو كلام الله –تعالى ذكره- الذي لم يزل صفةً قبل كون الخلق جميعاً، ولا يزال بعد فنائهم الذي هو غير مخلوقٍ. فإن القول فيه نظير القول في الزاعم أن ذكره الله –جل ثناؤه- بلسانه مخلوقٌ، يعني بذلك فعله لا ربه الذي خلقه وخلق فعله. قال أبو جعفر: قد قلنا في تبصير المستهدي إلى صواب القول فيما تنازعت فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد فراقه إياهم من توحيد الله تعالى ذكره

وأسمائه وصفاته وعدله، وفيما يسع الجهل به من ذلك ولا يسع ذلك فيه. وفي حكم من جهل منه ما يضيق الجهل به وفي فروع ذلك. وحكم من جهل من فروعه ما وقع التشاجر فيه إلى يومنا هذا، أو فيما عسى أن يحدث بعد، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه وأعين عليه فهدي لرشده.

القول في الاختلاف الأول

25- قال أبو جعفر: ونحن مبتدئون القول الآن فيما تنازعت فيه الأئمة مما لا يدرك علمه إلا سماعاً وخبراً. فأول ذلك أمر الخلافة، فإن أول اختلافٍ حدث بعد رسول الله بين الأمة فيما هو من أمر الدين مما ليس بتوحيد ولا هو من أسبابه مما ثبت الاختلاف فيه بين الناس من لدن اختلفوا فيه إلى يومنا هذا: الاختلاف في أمر الخلافة وعقد الإمامة. وكان الاختلاف الذي اختلفوا فيه من ذلك بعد فراق رسول الله إياهم، الاختلاف الذي كان بين الأنصار وقريشٍ عند اجتماعهم في السقيفة: سقيفة بني ساعدة قبل دفن رسول الله وبعد وفاته، فقالت الأنصار لقريشٍ: منا أميرٌ ومنكم أمير. فقال خطيب قريش: نحن الأمراء وأنتم الوزراء.

فأقرت الأنصار بذلك، وسلموا الأمر لقريشٍ، ورأوا أن الذي قال خطيب قريشٍ صوابٌ. ثم لم ينازع ذلك قريشاً أحدٌ من الأنصار بعد ذلك إلى يومنا هذا. فإذا كان ذلك كذلك، وكان تسليم الإمرة من جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار يومئذٍ لقريشٍ عن رضاً منهم، وتصديقٍ من جمعيهم خطيبهم القائل: ((نحن الأمراء وأنتم الوزراء)) ، إلا من شذ منهم عن جميعهم الذين كان التسليم لقولهم به أولى، وكان الحق إنما يدرك علمه ويوصل إلى المعرفة به، مما كان من العلوم لا تدرك حقيقته إلا بحجة السمع:

  1. إما بسماعٍ شفاهاً من الرسول صلى الله عليه وسلم.
  2. وإما بخبرٍ متواترٍ يقوم في وجوب الحجة به مقام السماع من الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً، أو بنقل الحجة ذلك عملاً.

وكان الخبر قد تواتر بالذي ذكرناه من فعل المهاجرين والأنصار، وتسليمهم الخلافة، والإمرة لقريش، وتصديقهم خطيبهم: ((نحن الأمراء وأنتم الوزراء)) من غير إنكارٍ منهم، إلا من شذ وانفرد بما كان عليه التسليم لما نقلته الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الإمارة لقريشٍ دون غيرها، كان معلوماً بذلك أن لاحظ لغيرها فيها. فإذا كان صحيحاً أن ذلك كذلك، فلا شك أن من ادعى الإمارة، وحاول ابتزاز جميع قريشٍ الخلافة، فهو للحق في ذلك مخالفٌ، ولقريش ظالمٌ. وأن على المسلمين معونة المظلوم على الظالم إذا دعاهم إلى الحق؛ لمعونة المظلوم ودفع الظالم عنه ما أطاقوا. وإذا كان ذلك كذلك فلا شك أن الخوارج من غير قريش.

وأما ما كان بين قريشٍ من منازعةٍ في الإمارة، وادعاء بعضهم على بعضٍ أنه أولى منه بالخلافة، ومناصبته له على ذلك المحاربة بعد تسليمهم الأمر له العامة فيها، يجب على أهل الإسلام معونة المظلوم منهما على الظالم. فأما ما كان من منازعة غير القرشي الذي قد عقد له أهل الإسلام عقد البيعة وسلموا له الخلافة والإمرة على وجهٍ طلبها إياها لنفسه، أو لمن لم يكن من قريشٍ؛ فذلك ظالمٌ، وخروجٌ عن إمام المسلمين، يجب على المسلمين معونة إمامهم القرشي وقتال الخارج عليه؛ إذ لم يكن هناك أمرٌ دعاه إلى الخروج عليه إلا ادعاؤه بأنه أحق بالإمارة منه من أجل أنه من غير قريشٍ، إلا أن يكون خروجه عليه بظلمٍ ركب منه في نفسٍ أو أهلٍ أو مالٍ؛ فطلب الإنصاف فلم ينصف؛ فيجب على المسلمين حينئذٍ الأخذ على يد إمامهم المرضية إمرته عليهم، لإنصافه من نفسه إن كان هو الذي ناله بالظلم، أو أخذ عامله بإنصافه إن كان الذي ناله بالظلم عاملاً له، ثم يكون على الخارج عليه لما وصفنا أن يفيء إلى الطاعة: طاعة إمامه بعد إنصافه إياه من نفسه أو من عامله. فإن لم يفيء إلى طاعته حينئذٍ، كان على المسلمين هنالك معونة إمامهم العادل عليه حتى يؤوب إلى طاعته. وقد بينا أحكام الخوارج في كتابنا: ((كتاب أهل البغي)) بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وأما الذين نقموا على أهل المعاصي معاصيهم، وشهدوا على المسلمين –بمعصية أتوها، وخطيئةٍ فيما بينهم وبين ربهم تعالى ذكره ركبوها- بالكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم من الخوارج. والذين تبرءوا من بعض أنبياء الله ورسله؛ بزعمهم أنهم عصوا الله، فاستحقوا بذلك من الله –جل ثناؤه- العداوة. والذين جحدوا من الفرائض ما جاءت به الحجة من أهل النقل بنقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً مستفيضاً قاطعاً للعذر، كالذي أنكروا من وجوب صلاة الظهر والعصر، والذين جحدوا رجم الزاني المحصن الحر من أهل الإسلام، وأوجبوا على الحائض الصلاة في أيام حيضها، ونحو ذلك من الفرائض، فإنهم عندي بما دانوا به من ذلك مرقةٌ من الإسلام، خرجوا على إمام المسلمين أولم يخرجوا عليه. إذا دانوا بذلك بعد نقل الحجة لهم الجماعة التي لا يجوز في خبرها الخطأ، ولا السهو والكذب. وعلى إمام المسلمين استتابتهم مما أظهروا أنهم يدينون به بعد أن يظهروا الديانة به والدعاء إليه، فمن تاب منهم خلى سبيله، ومن لم يتب من ذلك منهم قتله على الردة؛ لأن من دان بذلك فهو لدين الله –الذي أمر به عباده بما لا نعذر بالجهل به ناشئاً نشأ في أرض الإسلام- جاحدٌ. ومن جحد من فرائض الله –عز وجل- شيئاً بعد قيام الحجة عليه به فهو من ملة الإسلام خارج.

القول في الاختلاف الثاني

قال أبو جعفر: ثم كان الاختلاف الآخر الذي حدث في منتحلي الإسلام بعد الذي ذكرت من الاختلاف في أمر الإمارة، الاختلاف في الحجة التي هي لله حجة على خلقه فيما لا يدرك علمه إلا سماعاً، ولا يدرك استدلالاً ولا استنباطاً.

  1. فقال بعضهم: لا يدرى علم شيءٍ من ذلك إلا سماعاً من الله تبارك وتعالى عما قالوا من ذلك علواً كبيراً.

فزعموا أن الأرض لا تخلو منه، غير أنه يظهر لخلقه في صورٍ مختلفة، في كل زمانٍ في صورةٍ غير الصورة التي ظهر بها في الزمان الذي قبله وفي الزمان الذي بعده. وهو قولٌ يذكر عن عبد الله بن سبأ وأصحابٍ له تبعوه على ذلك فقالوا لعلي رضي الله عنه: أنت أنت، فقال لهم عليٌ: من أنا؟ قالوا: أنت ربهم، فقتلهم رضوان الله عليه، ثم حرقهم بالنار. قال أبو جعفر: وقد بقي في غمار المسلمين ممن ينتحل هذا المذهب خلقٌ كثير.

  1. وقال آخرون: لا يدرك علم شيءٍ من ذلك إلا من واسطةٍ بين الله وبين خلقه، زعموا أنه من القديم مكان وزير الملك من الملك.

وقد استكفاه الأمور كلها فكفاه إياها.

  1. وقال آخرون: لا يدرك علم ذلك إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه، لا تخلو الأرض منه. وقالوا: لن يموت منهم أحدٌ حتى يخلفه آخر.
  2. وقال آخرون: لا يدرك علم ذلك إلا من وصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من وصي وصي قالوا: وذلك كذلك إلى قيام الساعة.

قال أبو جعفر: وكل هذه الأقوال عندنا ضلالٌ وخروجٌ من الملة وقد بينا فساد كل ما قالوا واعتلوا به لمذاهبهم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. اختلفوا في الأسباب التي تضطر القلوب إلى علمه بما يطول بحكايته الكتاب.

  1. وقال آخرون: لا يدرك علم شيءٍ من ذلك إلا اكتساباً. قالوا: وإذ كان ذلك كذلك علم أن الذي يكتب من ذلك هو ما جرت به عادات الخلق بينهم، ولم يزل عليه نشوءهم وفطرهم، وذلك الخبر المستفيض الذي لم تزل العادات بالسكون إليه جاريةٌ، وبالطمأنينة إليه ماضيةٌ مضيها بأن النيران محرقةٌ والثلج مبردٌ.

قالوا: وكل مدع ادعى أن ما لا تدرك حقيقة علمه إلا سماعاً، تدرك حقيقته وصحته بغير ذلك؛ فقد ادعى خلاف الجاري من العادات، وغير المعروف في الفطر، كالمدعي ناراً غير مسخنةٍ، وثلجاً غير مبردٍ، فمدعي غير الذي جرت به العادات وغير المعروف في الفطرة. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى الأقوال عندنا بالصحة، وقد بينا العلة الموجبة صحته في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذ الموضع. فأما خبر الواحد العدل فإنه معنىً مخالفٌ هذا النوع، وقد بيناه في موضعه.

القول في الاختلاف الثالث

قال أبو جعفر: الثالث بعد ذلك الاختلاف في أفعال الخلق.

  1. فقالت فرقةٌ ممن ينتحل جملة الإسلام: ليس لله –عز وجل- في أفعال خلقه صنعٌ غير المعرفة التي أعطاها للفعل كما أعطاهم الجوارح التي بها يعملون. ثم أمرهم ونهاهم، فمن شاء منهم أطاع فله الثواب، ومن عصى فله العقاب.

قالوا: فلو كان لله –جل ثناؤه- صنعٌ في أفعال الخلق غير الذي قلنا، بطل الثواب والعقاب. وهذا قول القدرية.