الفرق بين المراجعتين لصفحة: «التبصير في معالم الدين»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
جديدة '{{نثر}}{{رأسية |عنوان = التبصير في معالم الدين |مؤلف = الطبري | | ويكي مصدر:كتب مصورة | | التبصير في معال...'
 
لا ملخص تعديل
 
سطر 174:
وكذلك القول فيه إن شك أنه غير مخلوق: مقروءاً كان، أو محفوظاً، أو مكتوباً، كما لو قال قائلٌ: إن بارئ الأشياء يتحول بذكره، أو بمعرفته، أو بكتابته مصنوعاً لا صانعاً؛ كان لا شك في كفره.
وكذلك القول فيه لو شك في أنه يتحول عما هو به من صفاته بذكر ذاكر له، أو علم عالم له، أو كتابة كاتبٍ واسمه؛ كان كافراً.
23- وكذلك القول أن صفةً من صفاته تتحول عما هي به بذكر ذاكرٍ، أو معرفة عارف بها، أو كتابة كاتبٍ؛ أو شك في أنه لا يجوز تحولها أو تبديلها أو تغيرها عما لم يزل الله تعالى ذكره بها موصوفاً.
كما كان غير جائزٍ أن يتحول كلام الله –عز وجل- مخلوقاً بقراءة قارئٍ، أو كتابة كاتبٍ، أو حفظ حافظٍ. أو يتحول الصانع مصنوعاً، أو القديم محدثاً بذكر محدثٍ مصنوعٍ إياه؛ فكذلك غير جائزٍ أن تتحول قراءة قارئ، أو تلاوته، أو حفظه القرآن قرآناً أو كلام الله –تعالى ذكره-؛ بل القرآن هو الذي يقرأ ويكتب ويحفظ، كما الرب –جل جلاله- هو الذي يعبد ويذكر.
وشكر العبد ربه عبادته إياه، وذكره له غيره، والشاك في ذلك لا شك في كفره.
سطر 180:
 
وسواءٌ كان ذلك ذكر العبد ربه أو ذكره الشيطان إلا أن بعضهم يقصد بزعمه أن ذكره ربه مخلوقٌ إلى أن ربه مخلوقٌ؛ فيكون بذلك كافراً حلال الدم والمال.
24- وكذلك القول في قائل لو قال: ((قراءتي القرآن مخلوقةً)) . وزعم أنه يريد بذلك القرآن مخلوقٌ: فكافرٌ لا شك فيه عندنا، ولا أحسب أحداً أعطي شيئاً من الفهم والعقل يزعم ذلك أو يقوله.
فأما إن قال: أعني بقول ((قراءتي)) : فعلي الذي يأجرني الله عليه والذي حدث مني بعد أن لم يكن موجوداً، لا القرآن الذي هو كلام الله –تعالى ذكره- الذي لم يزل صفةً قبل كون الخلق جميعاً، ولا يزال بعد فنائهم الذي هو غير مخلوقٍ. فإن القول فيه نظير القول في الزاعم أن ذكره الله –جل ثناؤه- بلسانه مخلوقٌ، يعني بذلك فعله لا ربه الذي خلقه وخلق فعله.
قال أبو جعفر:
سطر 188:
 
== القول في الاختلاف الأول ==
25- قال أبو جعفر:
ونحن مبتدئون القول الآن فيما تنازعت فيه الأئمة مما لا يدرك علمه إلا سماعاً وخبراً.
فأول ذلك أمر الخلافة، فإن أول اختلافٍ حدث بعد رسول الله {{صلى الله عليه وسلم}} بين الأمة فيما هو من أمر الدين مما ليس بتوحيد ولا هو من أسبابه مما ثبت الاختلاف فيه بين الناس من لدن اختلفوا فيه إلى يومنا هذا: الاختلاف في أمر الخلافة وعقد الإمامة.
سطر 211:
قال أبو جعفر:
ثم كان الاختلاف الآخر الذي حدث في منتحلي الإسلام بعد الذي ذكرت من الاختلاف في أمر الإمارة، الاختلاف في الحجة التي هي لله حجة على خلقه فيما لا يدرك علمه إلا سماعاً، ولا يدرك استدلالاً ولا استنباطاً.
# فقال بعضهم: لا يدرى علم شيءٍ من ذلك إلا سماعاً من الله تبارك وتعالى عما قالوا من ذلك علواً كبيراً. فزعموا أن الأرض لا تخلو منه، غير أنه يظهر لخلقه في صورٍ مختلفة، في كل زمانٍ في صورةٍ غير الصورة التي ظهر بها في الزمان الذي قبله وفي الزمان الذي بعده. وهو قولٌ يذكر عن عبد الله بن سبأ وأصحابٍ له تبعوه على ذلك فقالوا لعلي رضي الله عنه: أنت أنت، فقال لهم عليٌ: من أنا؟ قالوا: أنت ربهم، فقتلهم رضوان الله عليه، ثم حرقهم بالنار. قال أبو جعفر: وقد بقي في غمار المسلمين ممن ينتحل هذا المذهب خلقٌ كثير.
# وقال آخرون: لا يدرك علم شيءٍ من ذلك إلا من واسطةٍ بين الله وبين خلقه، زعموا أنه من القديم مكان وزير الملك من الملك. وقد استكفاه الأمور كلها فكفاه إياها.
فزعموا أن الأرض لا تخلو منه، غير أنه يظهر لخلقه في صورٍ مختلفة، في كل زمانٍ في صورةٍ غير الصورة التي ظهر بها في الزمان الذي قبله وفي الزمان الذي بعده. وهو قولٌ يذكر عن عبد الله بن سبأ وأصحابٍ له تبعوه على ذلك فقالوا لعلي رضي الله عنه: أنت أنت، فقال لهم عليٌ: من أنا؟ قالوا: أنت ربهم، فقتلهم رضوان الله عليه، ثم حرقهم بالنار. قال أبو جعفر: وقد بقي في غمار المسلمين ممن ينتحل هذا المذهب خلقٌ كثير.
# وقال آخرون: لا يدرك علم شيءٍ من ذلك إلا من واسطةٍ بين الله وبين خلقه، زعموا أنه من القديم مكان وزير الملك من الملك.
وقد استكفاه الأمور كلها فكفاه إياها.
# وقال آخرون: لا يدرك علم ذلك إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه، لا تخلو الأرض منه. وقالوا: لن يموت منهم أحدٌ حتى يخلفه آخر.
# وقال آخرون: لا يدرك علم ذلك إلا من وصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من وصي وصي قالوا: وذلك كذلك إلى قيام الساعة. قال أبو جعفر: وكل هذه الأقوال عندنا ضلالٌ وخروجٌ من الملة وقد بينا فساد كل ما قالوا واعتلوا به لمذاهبهم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. اختلفوا في الأسباب التي تضطر القلوب إلى علمه بما يطول بحكايته الكتاب.
قال أبو جعفر: وكل هذه الأقوال عندنا ضلالٌ وخروجٌ من الملة وقد بينا فساد كل ما قالوا واعتلوا به لمذاهبهم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. اختلفوا في الأسباب التي تضطر القلوب إلى علمه بما يطول بحكايته الكتاب.
# وقال آخرون: لا يدرك علم شيءٍ من ذلك إلا اكتساباً. قالوا: وإذ كان ذلك كذلك علم أن الذي يكتب من ذلك هو ما جرت به عادات الخلق بينهم، ولم يزل عليه نشوءهم وفطرهم، وذلك الخبر المستفيض الذي لم تزل العادات بالسكون إليه جاريةٌ، وبالطمأنينة إليه ماضيةٌ مضيها بأن النيران محرقةٌ والثلج مبردٌ.
قالوا: وكل مدع ادعى أن ما لا تدرك حقيقة علمه إلا سماعاً، تدرك حقيقته وصحته بغير ذلك؛ فقد ادعى خلاف الجاري من العادات، وغير المعروف في الفطر، كالمدعي ناراً غير مسخنةٍ، وثلجاً غير مبردٍ، فمدعي غير الذي جرت به العادات وغير المعروف في الفطرة.
السطر 227 ⟵ 224:
قال أبو جعفر:
الثالث بعد ذلك الاختلاف في أفعال الخلق.
# فقالت فرقةٌ ممن ينتحل جملة الإسلام: ليس لله –عز وجل- في أفعال خلقه صنعٌ غير المعرفة التي أعطاها للفعل كما أعطاهم الجوارح التي بها يعملون. ثم أمرهم ونهاهم، فمن شاء منهم أطاع فله الثواب، ومن عصى فله العقاب. قالوا: فلو كان لله –جل ثناؤه- صنعٌ في أفعال الخلق غير الذي قلنا، بطل الثواب والعقاب. وهذا قول القدرية.
# وقال آخرون –منهم جهم بن صفوان وأصحابه-: ليس للعباد في أفعالهم وأعمالهم صنعٌ، وإنما يضاف إليهم ذلك كما تضاف حركة الشجرة إذا حركتها الريح إلى الشجرة، وليست لها حركةٌ وإنما حركتها الريح، وكما يضاف طلوع الشمس إلى الشمس وليس لها فعلٌ وإنما أطلعها الله، وكذهاب الحجر إذا رمي به وليس له عملٌ، وإنما ذهب بدفع دافعٍ. وقالوا: لو جاز أن يكون فاعلٌ غير الله جاز أن يكون خالقٌ غيره. وقالوا: لا ثواب ولا عقاب، وإنما هما طينتان خلقتا إحداهما للنار وأخرى للجنة.
قالوا: فلو كان لله –جل ثناؤه- صنعٌ في أفعال الخلق غير الذي قلنا، بطل الثواب والعقاب. وهذا قول القدرية.
 
* وقال آخرون –وهم جمهور أهل الإثبات وعامة العلماء والمتفقهة من المتقدمين والمتأخرين- إن الله تعالى ذكره وفق أهل الإيمان للإيمان، وأهل الطاعة للطاعة، وخذل أهل الكفر والمعاصي، فكفروا بربهم، وعصوا أمره.
 
1- قالوا: فالطاعة والمعصية من العباد بسبب من الله –تعالى ذكره- وهو توفيقه للمؤمنين، وباختيارٍ من العبد له.
 
2- قالوا: ولو كان القول كما قالت القدرية، الذين زعموا أن الله –تعالى ذكره- قد فوض إلى خلقه الأمر فهم يفعلون ما شاءوا، ولبطلت حاجة الخلق إلى الله –تعالى ذكره- في أمر دينه، وارتفعت الرغبة إليه في معونته إياهم على طاعته.
 
3- قالوا: وفي رغبة المؤمنين في كل وقتٍ أن يعينهم على طاعته ويوفقهم ويسددهم، ما يدل على فساد ما قالوا.
 
4- قالوا: ولو كان القول كما قالوا من أن من أعطي معونة على الإيمان، فقد أعطيها قوةً على الكفر، وجب أن لا يكون لله –جل ثناؤه- خلقٌ هو أقوى على الإيمان والطاعة من إبليس، وذلك أنه لا أحد من خلق الله يطيق من الشر ومن معصية الله ما يطيقه.
 
5- قالوا: وكان واجباً أن يكون إبليس أقدر الخلق على أن يكون أقربهم إلى الله وأفضلهم عنده منزلة.
 
6- قالوا: وأخرى: أن القوة على الطاعة لو كانت قوةً على المعصية، والقوة على الكفر قوةً على الإيمان؛ لوجب أن يوجد الكفر والإيمان معاً في جسمٍ واحدٍ، في حالٍ واحدةٍ؛ لأن السبب إذا وجد وجب أن يكون مسببه موجوداً معه، كالنار إذا وجدت وجب وجود الإسخان مع وجودها، وكالثلج إذا وجد وجب التبريد معه.
 
7- قالوا: فإن كانت القوة جائزاً وجودها وعدم أحدهما، كاليد التي قد توجد وهي لا متحركة ولا ساكنة لعجزٍ محلها، فقد يجب أن يكون جائزاً وجود القدرة على الطاعة والمعصية، والعجز عنهما في حالٍ واحدةٍ، في جسمٍ واحدٍ.
 
8- قالوا: ففي استحالة اجتماع العجز والقدرة في حالٍ واحدةٍ، في جسمٍ واحدٍ، الدليل الواضح على اختلاف حكم القدرة في الجوارح للفعل والجوارح، والقدرة للعمل سببٌ وليس كذلك الجوارح.
 
9- قالوا: وإذا كانت القدرة للفعل سبباً وجب وجود مسببه معه.
 
10- قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان محالاً اجتماع الكفر والإيمان في جسمٍ واحدٍ، في حالٍ واحدةٍ، علم أن القدرة على الطاعة غير القدرة على المعصية، وأن الذي تعمل به الطاعة فيوصل به إليها من الأسباب غير الذي تعمل به المعصية فيوصل به إليها من الأسباب. وصح بذلك فساد قول من زعم أن الله –عز ذكره- قد فوض إلى خلقه الأمر فهم يعملون ما شاءوا من طاعةٍ ومعصيةٍ، وإيمانٍ وكفرٍ، وليس لله –جل ثناؤه- في شيءٍ من أعمالهم صنعٌ.
قالوا: فإذا فسد قول القدرية الذين وصفنا قولهم؛ فقول جهمٍ وأصحابه الذين زعموا أن الله –تعالى ذكره- اضطر عباده إلى الكفر وإلى الإيمان وإلى شتمه والفرية، وأنه ليس للعباد في أفعالهم صنعٌ: أبطل وأفسد.
 
1- قالوا: وذلك أن الله –تعالى ذكره- أمر ونهى، ووعد الثواب على طاعته، وأوعد العقاب والعذاب على معصيته؛ فقال في غير موضع من كتابه إذ ذكر ما فعل بأهل طاعته وولايته من أهل كرامته لهم: {جزاء بما كانوا يعملون} ، وإذ ذكر ما فعل بأهل معصيته وعداوته من عقابه إياهم: {جزاء بما كانوا يكسبون} .
 
2- قالوا: فلو كانت الأفعال كلها لله لا صنع للعباد فيها، لكان لا معنى للأمر والنهي؛ لأن الآمر يأمر غيره لا نفسه، وإذا أمر غيره فإنما يأمره ليطيعه في ما أمره، وكذلك نهيه إياه إذا نهاه.
 
3- قالوا: فهذا أمر الله –تعالى ذكره- ونهى في قولنا وقول جهمٍ وأصحابه؛ فأثاب وعاقب، فلن يخلوا من أن يكون أمر نفسه ونهاها، وأمر عبده ونهاه.
 
4- قالوا: ومن المحال أن يكون أمر نفسه ونهاها عندنا وعندهم؛ فالواجب أن يكون أمر غير نفسه ونهى غيرها.
 
5- قالوا: وإذ كان ذلك كذلك فلن يخلو من أن يكون أمر ليطاع أو لا يطاع.
وإن كان أمر ليطاع فمعلومٌ أن الطاعة فعل المطيع والمعصية فعل العاصي، وأن فعل الله وخلقه الذي ليس بكسبٍ للعبد لا طاعةً ولا معصيةً كما خلقه السموات والأرض ليس بطاعةٍ ولا معصيةٍ؛ لأن ذلك ليس بكسبٍ لأحدٍ، وأنه ليس فوق الله –جل ثناؤه- أحدٌ يأمره وينهاه، فيكون فعله طاعةً أو معصيةً.
فالطاعة إنما هي الفعل الذي بحذائه أمرٌ، والمعصية كذلك.
فإن كان أمر لا ليطاع، فقد زالت المآثم عن الكفرة، واللائمة عن العصاة؛ فارتفع الثواب والعقاب، إذ كان الثواب ثواباً على طاعته والعقاب عقاباً على معصيته.
الإثبات بالذي استشهدنا من الدلالة.
وهذا القول –أعني قول أهل الإثبات المخالفين القدرية والجهمية- هو الحق عندنا والصواب لدينا للعلل التي ذكرناها.
 
== القول في الاختلاف الرابع ==
قال أبو جعفر:
ثم كان الاختلاف الرابع الذي حدث بعد هذا الاختلاف الثالث الذي ذكرناه، وذلك اختلافهم في الكبائر.
#فقال بعضهم: هم كفار، وهو قول الخوارج.
#وقال بعضهم: ليسوا بالكفار الذين تحل دماؤهم وأموالهم، ولكنهم كفار نعمةٍ، وهم منافقون؛ لأن لهم حكم المؤمنين.
#وقال آخرون: ليسوا بمؤمنين ولا كفار، ولكنهم فسقةً أعداء الله، ويوارثون في الدنيا المسلمين ويناكحونهم ويحكم لهم بحكم الإسلام، غير أنهم من أهل النار مخلدون فيها. وهذا قول المعتزلة. وكل أهل هذه المقالات الثلاث التي وصفنا صفة قائليها يزعمون أن أهل الكبائر من أهل التوحيد مخلدون في النار لا يخرجون منها.
#وقال آخرون: أهل الكبائر من أهل التوحيد الذين وحدوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقروا بشرائع الإسلام مؤمنون بإيمان جبريل وميكائيل، وهم من أهل الجنة.
وقالوا: لا يضرهم مع الإيمان ذنبٌ، صغيرةً كانت أو كبيرةً، كما لا ينفع مع الشرك عملٌ.
قالوا: والوعيد إنما هو لأهل الكفر بالله، المكذبين بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
 
وقال آخرون: هم مؤمنون غير أنهم لما ركبوا من معاصي الله فاجترحوا الذنوب في مشيئة الله إن شاء عفا عنهم بفضله فأدخلهم الجنة، وإن شاء عاقبهم بذنوبهم، فإنه يعاقبهم بقدر الذنب ثم يخرجهم من النار بعد التمحيص فيدخلهم الجنة.
 
1- قالوا: ولا يجوز في عدله أن يعاقب عبده على ذنوبه، ولا يجازيه على طاعته إياه.
 
2- قالوا: بل الذي هو أولى به الأخذ بالصفح والفضل عن الجرم.
 
3- قالوا: فإن هو لم يصفح عن الجرم وعاقب عليه، فغير جائزٍ أن لا يثيب على الطاعة؛ لأن ترك الثواب على الطاعة مع العقاب على المعصية جورٌ. قالوا: والله عدلٌ لا يجور وليس ذلك من صفته.
وقال آخرون فيهم: هم مسلمون وليسوا بمؤمنين، لأن المؤمن هو الولي المطيع لله.
قالوا: وقول القائل: فلانٌ مؤمنٌ، مدحٌ منه لمن وصفه.
قالوا: والفاسق مذمومٌ غير ممدوحٍ، عدو الله لا ولي له.
قالوا: فغير جائزٍ أن يوصف أعداء الله بصفة أوليائه، أو أولياؤه بصفة أعدائه.
قالوا: فاسمه الذي هو اسمه الفاسق الخبيث الرديء لا المؤمن.
قالوا: وتسميته مسلماً باستسلامه لحكم الله الذي جعله حكماً له ولأمثاله من الناس.
 
قال أبو جعفر:
والذي نقول: معنى ذلك أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا نقول: هم مؤمنون بالإطلاق؛ لعلل سنذكرها بعد.
ونقول: هم مسلمون بالإطلاق؛ لأن الإسلام اسمٌ للخضوع والإذعان فكل مذعنٍ لحكم [الإسلام ممن وحد] الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عنده، فهو مسلمٌ.
ونقول: هم مسلمون فسقةٌ عصاةٌ لله ولرسوله. ولا ننزلهم جنة ولا ناراً، ولكنا نقول كما قال الله تعالى ذكره: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
فنقول: هم في مشية الله تعالى ذكره، إن شاء أن يعذبهم عذبهم وأدخلهم النار بذنوبهم، وإن شاء عفا عنهم بفضله ورحمته فأدخلهم الجنة، غير أنه إن أدخلهم النار فعاقبهم بها لم يخلدهم فيها، ولكنه يعاقبهم فيها بقدر إجرامهم، ثم يخرجهم بعد عقوبته إياهم بقدر ما استحقوا فيدخلهم الجنة؛ لأن الله –جل ثناؤه- وعد على الطاعة والثواب، وأوعد على المعصية العقاب، ووعد أن يمحو بالحسنة السيئة ما لم تكن السيئة شركاً.
فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يبطل بعقاب عبدٍ على معصيته إياه ثوابه على طاعته؛ لأن ذلك محوٌ بالسيئة الحسنة لا بالحسنة السيئة، وذلك خلاف الوعد الذي وعد عباده، وغير الذي هو به موصوفٌ من العدل والفضل والعفو عن الجرم.
والعدل: العقاب على الجرم، والثواب على الطاعة.
فأما المؤاخذة على الذنب وترك الثواب والجزاء على الطاعة، فلا عدل ولا فضل، وليس من صفته أن يكون خارجاً من إحدى هاتين الصفتين.
 
وبعد: فإن الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متظاهرةٌ بنقل من يمتنع في نقله الخطأ والسهو والكذب، ويوجب نقله العلم، أنه ذكر أن الله جل ثناؤه يخرج من النار قوماً بعد ما امتحشوا وصاروا حمماً؛ بذنوب كانوا أصابوها في الدنيا ثم يدخلهم الجنة. وأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) . وأنه عليه السلام يشفع لأمته إلى ربه –عز وجل ذكره- فيقال: أخرج منها منهم من كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ. في نظائر لما ذكرنا من الأخبار التي إن لم تثبت صحتها لم يصح عنه خبرٌ صلى الله عليه وسلم.
 
== القول في الاختلاف الخامس ==
قال أبو جعفر:
ثم كان الاختلاف الخامس وهو الاختلاف فيمن يستحق أن يسمى مؤمناً، وهل يجوز أن يسمى أحدٌ مؤمناً على الإطلاق، أم ذلك غير جائزٍ إلا موصولاً بمشيئة الله جل ثناؤه؟
 
(أ) فقال بعضهم: الإيمان معرفةٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالجوارح. فمن أتى بمعنيين من هذه المعاني الثلاثة ولم يأت بالثالث فغير جائزٍ أن يقال: إنه مؤمنٌ، ولكنه يقال له: إن كان اللذان أتى بهما المعرفة بالقلب والإقرار باللسان، وهو في العمل مفرطٌ فمسلمٌ.
 
- وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إذ كان كذلك فإننا نقول: هو مؤمنٌ بالله ورسوله، ولا نقول: مؤمنٌ على الإطلاق.
 
- وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إذ كان كذلك فإنه يقال له: مسلمٌ، ولا يقال له مؤمنٌ إلا مقيداً بالاستثناء؛ فيقال: هو مؤمنٌ إن شاء الله.
 
(ب) وقال آخرون: الإيمان معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وليس العمل من الإيمان في شيءٍ؛ لأن الإيمان في كلام العرب التصديق.
قالوا: والعامل لا يقال له مصدقٌ، وإنما التصديق بالقلب واللسان. قال: فمتى صدق بقلبه ولسانه فهو مؤمنٌ مسلمٌ.
 
(ج) وقال آخرون: الإيمان المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه وإن جحده بلسانه وفرط في الشرائع، فهو مؤمنٌ.
 
(د) وقال آخرون: الإيمان نفسه التصديق باللسان، والإقرار بدون المعرفة والعمل. قالوا: لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب.
 
1- قالوا: وبعد، فإن معرفة الله –جل ثناؤه- ليس بكسبٍ للعبد فيكون من معاني الإيمان، والعمل من فرائض الله التي شرعها لعباده وليس ذلك بتوحيد أيضاً.
 
2- قالوا: وإيمانٌ بلا كسب العبد من العمل الذي هو توحيد الله تعالى ذكره، وإقرارٌ منه بوحدانيته ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من شرائع دينه.
 
3- قالوا: فمتى أتى بذلك فهو مؤمنٌ لا شك فيه.
 
قال أبو جعفر:
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الإيمان اسمٌ للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتاب الله –تعالى ذكره- خبراً عن إخوة يوسف من قيلهم لأبيهم يعقوب: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} . بمعنى: ما أنت بمصدق لنا على قيلنا.
غير أن المعنى الذي يستحق به اسم مؤمنٌ بالإطلاق، هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله –تعالى ذكره- من معرفةٍ وإقرارٍ وعملٍ.
وذلك أن العارف المعتقد صحة ما عرف من توحيد الله –تعالى ذكره- وأسمائه وصفاته، مصدقٌ لله في خبره عن وحدانيته وأسمائه وصفاته؛ فكذلك العارف بنبوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، المعتقد صحة ذلك، وصحة ما جاء به من فرائض الله.
وذلك أن معارف القلوب عندنا اكتساب العباد وأفعالهم، وكذلك الإقرار باللسان بعد ثبوته، وكذلك العمل بفرائض الله التي فرضها على عباده، تصديقٌ من العامل بعمله ذلك لله –جل ثناؤه-، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كما إقراره بوجوب فرض ذلك عليه، تصديقٌ منه لله ورسوله بإقراره أن ذلك له لازمٌ فإذ كل هذه المعاني يستحق على كل واحدٍ منهما على انفراده اسم إيمان.
وكان العبد مأموراً بالقيام بجميعها كما هو مأمورٌ ببعضها، وإن كانت العقوبة على تضييع بعضها أغلظ، وفي تضييع بعضها أخف، كان بيناً أنه غير جائز تسمية أحدٍ مؤمناً ووصفه به مطلقاً من غير وصلٍ إلا لمن استكمل معاني التصديق الذي هو جماع أداء جميع فرائض الله.
كما أن العلم الذي يأتي مطلقاً هو العلم بما ينوب أمر الدين.
فلو أن قائلاً قال لرجلٍ عرف منه نوعاً، وذلك كرجلٍ كان عالماً بأحكام المواريث دون سائر علوم الدين، فذكره ذاكرٌ عند من يعتقد أن اسم عالم لا يلزمه بالإطلاق في أمر الدين إلا من قلنا: إنه يلزمه، فقال: فلانٌ عالمٌ بالإطلاق ولم يصله، فيقال: فلانٌ عالمٌ بالفرائض أو بأحكام المواريث، كان قد أخطأ في العبارة وأساء في المقالة؛ لأنه وضع اسم العموم على خاص عند من لا يعلم مراده، إن كان قائل ذلك أراد الخصوص.
وإن كان أراد العموم وهو يعلم أن هذا الاسم لا يستحق إلا من كان جامعاً علم جميع ما ينوب أمر الدين فقد كذب.
 
وكذلك القائل- لمن لم يكن جامعاً أداء جميع فرائض الله –عز ذكره- من معرفةٍ وإقرارٍ وعملٍ-: هو مؤمنٌ، إما كاذبٌ، وإما مخطىءٌ في العبارة، مسيءٌ في المقالة، إذا لم يصل قيله: هو مؤمنٌ بما هو به مؤمنٌ، لأن وصفنا من وصفنا بهذه الصفة، وتسميتناه هذه التسمية بالإطلاق إنما هو للمعاني الثلاثة التي قد ذكرناها.
فمن لم يكن جامعاً ذلك فإنما له ذلك الاسم بالخصوص؛ فغير جائزٍ وصف من كان له من صفات الإيمان خاصٌ، ومن أسمائه بعضٌ بصيغة العموم، وتسميته باسم الكل، ولكن الواجب أن يصل الواصف إذا وصف بذلك أن يقول له –إذا عرف وأقر وفرط في العمل- هو مؤمنٌ بالله ورسوله، فإذا أقر بعد المعرفة بلسانه وصدق وعمل ولم تظهر منه موبقةٌ ولم تعرف منه إلا المحافظة على أداء الفرائض. قيل: هو مؤمنٌ إن شاء الله.
وإنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا إن شاء الله؛ لأن لا ندري هل هو مؤمنٌ ضيع شيئاً من فرائض الله عز ذكره – أم لا؛ بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين، فإنه غير مضيع شيئاً منها ولا مفرطٍ فلذلك من وصفناه بالإيمان بالمشيئة إذ كان الاسم المطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال، فمن لم يكن مكملاً جميع معانيه –والأغلب عندنا أنه لا يكملها أحدٌ- لم يكن مستحقاً اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال؛ لأن الناقص غير جائزٍ تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل.
 
== القول في الاختلاف السادس ==
قال أبو جعفر:
ثم كان الاختلاف السادس. وذلك الاختلاف في زيادة الإيمان ونقصانه.
 
(أ) فقال بعضهم: الإيمان يزيد وينقص، وزيادته بالطاعة، ونقصانه بالمعصية. قالوا: وإنما جازت الزيادة والنقصان عليه؛ لأنه معرفةٌ وقولٌ وعملٌ، فالناس متفاضلون بالأعمال. فأكثرهم له طاعةً أكثرهم إيماناً، وأقلهم طاعة أقلهم إيماناً.
 
(ب) وقال آخرون: يزيد ولا ينقص. وقالوا: زيادته الفرائض. وذلك أن العبد في أول حالٍ تلزمه الفرائض، إنما يلزمه الإقرار بتوحيد الله –جل ثناؤه- دون غيره من الأعمال، وذلك بلوغ نوعً من أنواع الإيمان. ثم فرض الطهارة للصلاة، والغسل من جنابةٍ إن كان أجنب مثل ذلك. ثم الصلاة ثم كذلك سائر الفرائض إنما يلزمه كل فرضٍ منها بمجيء وقته.
قالوا: وإنما يزداد إيمانه وفرائضه بمجيء أوقاتها ولا ينتقص.
قالوا: فلا معنى لقول القائل: الإيمان ينقص؛ لأنه لا يسقط عنه فرضٌ لزمه بعد لزومه إياه وهو بالحال التي لزمه فيها إلا بأدائه. قالوا: فالزيادة معروفةٌ، ولا يعرف نقصانه.
 
(ج) وقال آخرون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وذلك أن الإيمان: معرفة الله وتوحيده والإقرار بذلك بعد المعرفة وبما فرض عليه من فرائضه.
 
أ- قالوا: والجهل بذلك وجحود شيءٍ منه كفرٌ، فلا وجه للزيادة فيما لا يكون إيماناً إلا بتمامه وكماله، ولا للنقصان فيما النقصان عنه كفرٌ.
 
ب- قالوا: فقول القائل: الإيمان يزيد وينقص كفرٌ وجهلٌ لما وصفنا.
 
قال أبو جعفر:
والحق في ذلك عندنا أن يقال: الإيمان يزيد وينتقص، لما وصفنا قبل من أنه معرفةٌ وقولٌ وعملٌ. وأن جميع فرائض الله تعالى ذكره التي فرضها على عباده من المعاني التي لا يكون العبد مستحقاً اسم مؤمنٍ بالإطلاق إلا بأدائها.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا شك أن الناس متفاضلون في الأعمال، مقصرٌ وآخر مقتصد مجتهد ومن هو أشد منه اجتهاداً، كان معلوماً أن المقصر أنقص إيماناً من المقتصد، وأن المقتصد أزيد منه إيماناً، وأن المجتهد أزيد إيماناً من المقتصد والمقصر، وأنهما أنقص منه إيماناً؛ إذ كان جميع فرائض الله كما قلنا قبل.
فكل عاملٍ فمقصر عن الكمال، فلا أحد إلا وهو ناقص الإيمان غير كامله؛ لأنه لو كمل لأحدٍ منهم كمالاً تجوز له الشهادة به، لجازت الشهادة له بالجنة؛ لأن من أدى جميع فرائض الله فلم يبق عليه منها شيءٌ، واجتنب جميع معاصيه فلم يأت منها شيئاً ثم مات على ذلك، فلا شك أنه من أهل الجنة. ولذلك قال عبد الله ابن مسعود في الذي قيل له: إنه قال: إني مؤمنٌ – ألا قال: إني من أهل الجنة.
لأن اسم الإيمان بالإطلاق إنما هو للكمال. ومن كان كاملاً كان من أهل الجنة، غير أن إيمان بعضهم أزيد من إيمان بعضٍ، وإيمان بعضٍ أنقص من إيمان بعض؛ فالزيادة فيه بزيادة العبد بالقيام باللازم له من ذلك.
 
قال أبو جعفر:
وقد دللنا على خطأ قول من زعم أن الإيمان: معرفةٌ وإقرارٌ دون العمل، وعلى فساد قول الزاعم أنه المعرفة دون الإقرار والعمل، وقول الزاعم أنه الإقرار دون المعرفة والعمل، بما أغنى عن تكراره في هذا الموضع.
وفي فساد ذلك القول فساد علة الزاعمين أنه لا يجوز الزيادة والنقصان في الإيمان، وصحة القول الذي اخترناه.
 
== القول في الاختلاف في أمر القرآن ==
قال أبو جعفر:
ثم كان الاختلاف الحادث بعد ذلك في أمر القرآن.
 
(أ) فقال بعضهم: هو مخلوقٌ.
 
(ب) وقال آخرون: ليس بمخلوقٍ ولا خالقٍ.
 
(ج) وقال آخرون: لا يجوز أن يقال: هو مخلوقٌ ولا غير مخلوق.
 
قال أبو جعفر:
والصواب في ذلك من القول عندنا قول من قال: ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ؛ لأن الكلام لا يجوز أن يكون كلاماً إلا لمتكلم؟
لأنه ليس بجسمٍ فيقوم بذاته قيام الأجسام بأنفسها.
فمعلومٌ إذ كان ذلك كذالك أنه غير جائز أن يكون خالقاً؛ بل الواجب إذ كان ذلك كذلك أن يكون كلاماً للخالق، وإذ كان كلاماً للخالق، وبطل أن يكون خالقاً، لم يكن أن يكون مخلوقاً؛ لأنه لا يقوم بذاته وأنه صفةٌ والصفات لا تقوم بأنفسها، وإنما تقوم بالموصوف بها، كالألوان والطعوم والأراييح والشم، لا يقوم شيءٌ من ذلك بذاته ونفسه، وإنما يقوم بالموصوف به.
فكذلك الكلام صفةٌ من الصفات لا تقوم إلا بالموصوف بها.
وإذ كان ذلك كذلك صح أنه غير جائزٍ أن يكون صفةً للمخلوق والموصوف بها الخالق؛ لأنه لو جاز أن يكون صفةً لمخلوقٍ والموصوف بها الخالق، جاز أن يكون كل صفةٍ لمخلوقٍ فالموصوف بها الخالق، فيكون إذ كان المخلوق موصوفاً بالألوان والطعوم والأراييح والشم والحركة والسكون أن يكون الموصوف بالألوان وسائر الصفات التي ذكرنا الخالق دون المخلوق، في اجتماع جميع الموحدين من أهل القبلة وغيرهم على فساد هذا القول ما يوضح فساد القول بأن يكون الكلام الذي هو موصوفٌ به رب العزة كلاماً لغيره.
فإذا فسد ذلك وصح أنه كلامٌ له، وكان قد تبين ما أوضحنا قبل أن الكلام صفةٌ لا تقوم إلا بالموصوف بما صح أنه صفةٌ للخالق. وإذ كان ذلك كذلك صح أنه غيره مخلوق.
 
ومن أبى ما قلنا في ذلك قيل له: أخبرنا عن الكلام الذي وصفت أن القديم به متكلمٌ مخلوقٌ، أخلقه إذ كان عنده مخلوقاً في ذاته، أم في غيره، أم قائمٌ بنفسه؟
فإن زعم خلقه في ذاته، فقد أوجب أن تكون ذاته محلاً للخلق، وذلك عند الجميع كفرٌ.
وإن زعم أنه خلقه قائمٌ بنفسه. قيل له: أفيجوز أن يخلق لوناً قائماً بنفسه وطعماً وذواقاً؟
فإن قال: لا، قيل له: فما الفرق بينك وبين من أجاز ما أبيت من قيام الألوان والطعوم بأنفسها، وأنكر ما أجزت من قيام الكلام بنفسه؟!
ثم يسأل الفرق بين ذلك، ولا فرق.
وإن قال: بل خلقه قائماً بغيره. قيل له: فخلقه قائمٌ بغيره وهو صفةٌ له؟! فإن قال: بلى.
قيل له: أفيجوز أن يخلق لوناً في غيره فيكون هو المتلون، كما خلق كلاماً في غيره، فكان هو المتكلم به. وكذلك يخلق حركةً في غيره فيكون هو المتحرك بها.
فإن أبى ذلك سئل الفرق.
وإن أجاز ذلك أوجب أن يكون –تعالى ذكره- إذا خلق حركةً في غيره فهو المتحرك. وإذا خلق لوناً في غيره فهو المتلون به. وذلك عندنا وعندهم كفرٌ وجهلٌ.
وفي فساد هذه المعاني التي وصفنا الدلالة الواضحة إذ كان لا وجه لخلق الأشياء إلا بعض هذه الوجوه، صح أن كلام الله صفةٌ له، غير خالق ولا مخلوقٍ. وأن معاني الخلق عنه منفيةٌ.
 
== القول في الاختلاف في عذاب القبر ==
44- قال أبو جعفر:
ثم كان الاختلاف بعد ذلك في ألفاظ العباد بالقرآن. وقد بينا ذلك فيما مضى من كتابنا هذا.
واختلف في عذاب القبر، وهل يعذب الله تعالى أحداً في قبره أو ينعمه فيه؟
 
(أ) فقال قومٌ: جائزٌ أن يكون الله جل ذكره يعذب في القبر من شاء من أعدائه وأهل معصيته.
 
(ب) وقال آخرون: بل ذلك كائنٌ لا محالة؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله –جل جلاله- يعذب قوماً في قبورهم بعد مماتهم.
 
(ج) وقال آخرون: ذلك من المحال ومن القول خطأٌ. وذلك أن الميت قد فارقه الروح، وزايلته المعرفة. فلو كان يألم وينعم لكان حياً لا ميتاً. والفرق بين الحي والميت الحس، فمن كان يحس الأشياء فهو حيٌ، ومن كان لا يحسها فهو ميتٌ.
قالوا: ومحالٌ اجتماع الحس وفقد الحس في جسمٍ واحدٍ، فلذلك كان عندهم محالاً أن يعذب الميت في قبره.
 
قال أبو جعفر:
والحق في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حقٌ)) .
 
ويقال لمن أنكر ذلك: أتجيزون أن يحدث الله حياةً في جسمٍ ويعدمه الحس؟
فإن أنكروا ذلك قيل لهم: وما المعنى الذي دعاكم إلى الإنكار لذلك؟
فإن زعموا أن الذي دعاهم إلى ذلك هو أن الحياة علةٌ للحس وسببٌ له، وغير جائزٍ أن يوجد سبب شيءٍ ويعدم مسببه. وأوجبوا أن يكون المبرسم والمغمى عليه يحسان الآلام في حال زوال أفهامهما.
فيقال لهم: أتنكرون جواز فقد الآلام واللذات مع وجود الحياة؟
فإن أنكروا جواز ذلك، وقالوا: لا يكون حيٌ إلا من يألم ويلذ. قلنا لهم: أفتحيلون أن يكون حياً إلا مطيعاً أو عاصياً أو فاعلاً أو تاركاً؟ فإن قالوا: نعم. خرجوا من حد المناظرة لدفعهم الموجود المحسوس. وذلك أن الأطفال والمجانين موجودون أحياءٌ لا مطيعين ولا عاصين. وأن المغمى عليه والمبرسم لا فاعلٌ ولا تاركٌ اختياراً.
وإن قالوا: بل لا نحيل ذلك ونقول: جائزٌ وجود حيٍ لا مطيعاً،
ولا عاصياً، ولا فاعلاً، ولا تاركاً، قيل لهم: فأجيزونا وجود حيٍ لا حاسٍ ولا مدرك كما أجزتم وجوده لا فاعلاً ولا تاركاً.
فإن أبو سئلوا الفرق بينهما.
وإن أجازوا وجود حيٍ لا حاسٍ ولا مدركٍ قيل لهم: فإذ كان جائزاً عندكم وجود حيٍ لا حاسٍ ولا مدركٍ فقد جاز وجود الحياة في جسمٍ، وارتفاع الحس عندكم منه.
فإذا جاز ذلك عندكم فما أنكرتم من وجود الحس في جسمٍ مع ارتفاع الحياة منه؟! ويسألون الفرق بين ذلك.
ويقال لهم: أليس من قولكم: إنه جائزٌ وجود الحياة في جسمٍ، وفقد العلم منه في حالٍ واحدةٍ؟
فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فما أنكرتم من وجود العلم في جسمٍ مع فقد الحياة؟ وهل بينكم وبين من أنكر وجود الحياة في جسمٍ مع فقد العلم، فأجازوا وجود العلم مع فقد الحياة؟!
فإن قالوا: الفرق بيننا وبينه أنا لم نجد عالماً إلا حياً، وقد نجد حياً لا عالماً.
قيل لهم: أوكل ما لم تشاهدوه أو تعاينوه أو مثله فغير جائز كونه عندكم؟
فإن قالوا: نعم.
قيل لهم: أفشاهدتم جسماً حياً له حياةٌ لا تفارقه الحياة بالاحتراق بالنار؟
فإن زعموا أنهم قد شاهدوا ذلك وعاينوه، أكذبتهم المشاهدة مع ادعائهم ما لا يخفى كذبهم فيه.
وإن زعموا أنهم لم يعاينوا ذلك ولن يشاهدوه.
قيل لهم: أفتقرون بأن ذلك كائنٌ، أم تنكرونه؟ فإن زعموا أنهم ينكرونه خرجوا من ملة الإسلام بتكذيبهم محكم القرآن. وذلك أن الله تعالى ذكره قال فيه: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} . فإن قالوا: بل نقر بأن ذلك كائنٌ.
قيل لهم: فما أنكرتم من جواز وجود العلم وحس الألم واللذة مع فقد الحياة؟ وإن لم تكونوا شاهدتم ولا عاينتم عالماً ولا حاساً إلا حيا له حياةٌ، كما جاز عندكم وجود الحياة في جسمٍ تحرقه النار، وإن لم تكونوا عاينتم جسماً تتعاقبه الحياة مع احتراقه بالنار.
فإن قالوا: إنما أجزنا ما أجزنا من بقاء الحياة في الجسم الذي تحرقه النار في حال إحراقه النار، تصديقاً منا بخبر الله –جل ثناؤه-. قيل لهم: فصدقتم بخبر الله –جل ثناؤه- بما هو ممكنٌ في العقول كونه أو بما هو غير ممكن فيها كونه؟
فإن زعموا أنهم أجازوا ما هو غير ممكنٍ في العقول كونه، زعموا أن خبر الله –عز وجل- بذلك تكذب به العقول وترفع صحته، وذلك بالله كفرٌ عندنا وعندهم. ولا إخالهم يقولون ذلك.
فإن زعموا أنه –تعالى ذكره- أخبر من ذلك بما تصدقه العقول.
قيل لهم: فإذ كان خبره بذلك خبراً يصدقه العقل –وإن لم تكونوا عاينتم مثله- فأجيزوا كذلك أن عذاب الله –تعالى ذكره- ألماً ولذةً وعلماً في جسمٍ لا حياة فيه، وإن لم تكونوا عاينتم مثله فيما شاهدتم، ولا صح بذلك عندكم خبرٌ عن الله –تعالى ذكره- أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، كما كان غير محال عندكم في العقل وجود الحياة في جسمٍ قد أحرقته النار قبل مجيء الخبر به.
وإن كان الخبر قد حقق صحة كون ذلك حتى يصح به عندكم خبرٌ من الله أو من رسوله عليه الصلاة والسلام.
 
قال أبو جعفر:
والمسألة على من أنكر منكراً ونكيرً، ودفع صحة الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الميت ليسمع خفق نعالهم)) ، يعني نعال من حضر قبره، إذا ولوا مدبرين.
والخبر الذي روي عنه عليه السلام: ((أنه وقف على أهل القليب فناداهم بأسمائهم: يا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ويا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. قالوا: يا رسول الله، أتكلم قوماً قد ماتوا وجيفوا؟! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)) . وما أشبه ذلك من الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموتى، كالمسألة على من أنكر عذاب القبر سواء؛ لأن علتهم في جميع إنكار ذلك علةٌ واحدةٌ، وعلتنا في الإيمان بجميعه والتصديق به علة واحدةٌ؛ وهو تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، مع جوازه في العقل وصحته فيه، وذلك أن الحياة معنىً، والآلام واللذات والمعلوم معانٍ غيره. وعير مستحيلٍ وجود الحياة مع فقد هذه المعاني، ووجود هذه المعاني مع فقد الحياة، لا فرق بين ذلك.
 
قال أبو جعفر:
قد أوضحت سبيل الرشاد، وبينت طريق السداد لمن أيد بنصح نفسه، وطلب منه السلامة منها لها، والنجاة من المهالك، وترك التعصب للرؤساء، والغضب للكبراء، وإعراضٌ منه عن تقليد الجهال، ودعاة الضلال، في جميع ما اختلفت فيه أمة نبينا صلى الله عليه وسلم بعده إلى يوم القيامة هذا، وما عساها أن تختلف فيه بعد اليوم من توحيد الله –جل ثناؤه- وأسمائه وصفاته وعدله ووعده ووعيده، وأحكام أهل الإجرام، والقول في أهل الآثام العظام وأسمائهم وصفاتهم.
والقول في أهل الاستحقاق للإمارة والخلافة، وأحكام المرقة من الخوارج على الأئمة.
والصحيح من القول فيما لا يدرك علمه إلا حساً وسماعاً، وفيما لا يدرك علمه إلا استدلالاً، وما الذي لا يسع جهله من ذلك، وما الذي يسع جهله منه بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله.
 
== القول في الاختلاف في الرؤية ==
قال أبو جعفر:
اختلف أهل القبلة في جواز رؤية العباد صانعهم:
 
(أ) فقال جماعة القائلين بقولهم جهم: لا تجوز الرؤية على الله –تعالى ذكره- ومن أجاز الرؤية عليه فقد حده، ومن حده فقد كفر.
 
(ب) وقال ضرار بن عمرو: الرؤية جائزةٌ على الله تعالى ذكره، ولكنه يرى في القيامة بحاسةٍ سادسة.
 
(ج) وقال هشامٌ وأصحابه وأبو مالك.. .... .... .... .... ....النخعي ومقاتل بن سليمان: الرؤية على الله –جل ثناؤه- جائزةٌ بالأبصار التي هي أبصار العيون.
 
(د) وقال جماعةٌ متصوفةٌ، ومن ذكر ذلك عنه مثل بكر بن أخت عبد الواحد: الله –جل وعز- يرى في الدنيا والآخرة، وزعموا أنهم قد رأوه، وأنهم يرونه كلما شاءوا – إلا أنهم زعموا أنه يراه أولياؤه دون أعدائه. ومنهم من يقول: يراه الولي والعدو في الآخرة، إلا أن الولي يثبته إذا هو رآه؛ لأنه يتراءى في صورةٍ إذا رآه بها عرفه، وأن العدو لا يثبته إذا رآه.
 
(هـ) وقال بعض أهل الأثر: يراه المؤمنون يوم القيامة بأبصارهم، ويدركونه عياناً ولا يحيطون به.
وقال آخرون منهم: يراه المؤمنون بأبصارهم ولا يدركونه.
قالوا: وإنما زعمنا أنهم لا يدركونه؛ لأنه قد نفى الإدراك عن نفسه بقوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} .
فهذه جملة أقاويلهم.
 
واعتل الذين نفوا الرؤية عنه بأن قالوا: إن كل من رأى شيئاً فلن يخلو في حال رؤيته إياه من أن يكون يراه مبايناً لبصره أو ملاصقاً.
قالوا: وغير جائزٍ أن يرى الرائي، ويبصر المبصر ما لاصق بصره؛ لأن ذلك لو كان جائزاً لوجب أن يرى الرائي عين نفسه.
فلما كان ذلك غير جائز في الدنيا، كان كذلك غير جائز في الآخرة، لأن ذلك إن جاز في الآخرة وهو غير جائز في الدنيا جاز أن يرى بسمعه في الآخرة ويسمع ببصره، فإذا كان ذلك في الدنيا محالاً، وكان ذلك غير جائزٍ كان كذلك رؤية البصر ما لاصقه في الآخرة محالاً كما كان في الدنيا محالاً.
قالوا: وإذا فسد ذلك لم يبق إلا أن يقال: إن العبد في الآخرة يرى ربه مبايناً ببصره؛ إذ كانت الأبصار في الدنيا لا ترى إلا ما باينها، فكذلك الواجب في الآخرة مثلها في الدنيا لا ترى إلا ما باينها؛ وجب أن يكون العبد إذا رآه في الآخرة مبايناً ببصره أن يكون بينه وبينه فضاءٌ.
وإذا كان ذلك كذلك كان معلوماً أن ذلك الفضاء لو كان الصانع فيه كان أعظم مما مر به، وليس هو فيه. قالوا: وفي وجوب ذلك كذلك وجوب حد له.
والقول بأنه يحد لو توهم بأكثر من ذلك الحد كان أعظم مما هو به. قالوا: وذلك صفةٌ لله عز وجل باللطف والصغر، وإيجاب الحدود له، وذلك عندهم خروجٌ من الإسلام.
قالوا وبعد: بعض من يخالفنا من أهل هذه المقالات ينفون الحدود عنه ويوافقوننا على ذلك.
 
قالوا: وفي نفيهم ذلك عنه –مع إجازتهم الرؤية عليه- نقضٌ منهم لقولهم: إذا أثبتوه مرئياً على المباينة التي وصفنا، نقضوا قولهم بذلك أنه غير محدودٍ.
وفي قولهم: إنه غير محدود نقضٌ منهم لقولهم: إنه يرى؛ لأنه إذا كان مرئياً لم يكن مرئياً إلا على المباينة التي وصفنا، وذلك إيجاب حد لله تعالى ذكره.
قالوا: فكل قولٍ من ذلك ناقضٌ لصاحبه، ولن يسلم مخالفنا من المناقضة.
قالوا: وفي تناقض القولين الدلالة الواضحة على فساد قول مخالفنا القائل: برؤية الصانع، وصحة قولنا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
[[تصنيف:التبصير في معالم الدين|*]]