الفرق بين المراجعتين لصفحة: «ويكي مصدر:الميدان/أرشيف 2012»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
لا ملخص تعديل
سطر 156:
 
:وصل ويكي مصدر العربي إلى المرتبة 21 شكرا للمساهمين النشطين والبوتات السريعة --[[مستخدم:Wikimyth|Wikimyth]] 18:16، 23 ديسمبر 2008 (UTC)
 
فاتح المدرس
 
لوحة دنياها قشرة الأصباغ .. وآخرتها بدائع النبوغ
_______________________________ طلال معلا
 
هذا بحر، زرقة تشي به، وتلك بادية الوطن، جفافها يدبغ عروقنا بالعطش والسهوب، والشمس التي تنقش على وجوه الفلاحين تجاعيد التاريخ.
هذه سماء، مخزوفة بأزلية وجودها، تاجاً على رأس الشساعة الإنسانية اللامحدودة الإبداع، والمترامية التجليات. وفي السماء يرحل البدو إلى الماء والنار، وفي زرقتها يحاصر الهواء طهر الإنسان، وبحثه عن بذور العدالة والحقيقة . كائنات أسطورية تنزع إلى ذاكرتها كما ننزع إلى ترك الصدى يعبر ذاته في واد سحيق.
هذه مساحة التوتر، أو لَوحة فاتح المدرس، مادة تتجلى في نارية بحثها، ووحشة مناخها، وأسهل مما يمكن أن تحقق من رؤيتك للممتنع على الرؤية، تراكيبها محكومة بأعصاب المدرس ورائحة النعناع، النفاذ إلى فضائه الموسيقي الصارم.
مادة خطوطها رقصة الشاعر في حضرة الحضارة، والثقافات المتعددة، وإعجاز الانتماء إلى سحر الأصباغ، وهوية الإنشاء، والمعمار، والتنظيم، ونبالة الاختيار والخيار.
لوحة دنياها قشرة الأصباغ، وآخرتها بدائع النبوغ وفيض الروح على الأنفاس وهي تنسج ملاحم التودد للحياة، وما وراء الفن. ليحضر ما هو غائب على هيئة الضوء، أو الصوت، أو الزمان، ولتبرق منازل الجنون في رهانها على الشوق، وهي ترحل من شمال سوريا إلى جنوبها، في الافتتان برهان الروح على الجمال، إلى ساحات المدن القلقة على غدها.
ويوماً بعد يوم كانت المغامرة ترفع راياتها على هيئة صبي وسيم لا يدري كيف يهييء نفسه ليهندس مشاعر الناس، ويبتعد بها عن الظلم والجور، والآلام . فيكتب عنوان طفولته أنس روحه، إلى مقام أمه الوادعة الشفافة، المعادلة لما لا يمكن أن يمحي من ذاكرة الفنان، أو يعتم على بستان الورد والياسمين والتراب الأحمر، الذي يطوق خطوات الاقطاعي القاتل لصورة الليالي، وهي تتموج منصهرة في حكاية كانت ككل الحكايا تتلذذ بنقش السكين على أروقة العشق، أو ما تمثله الفرشاة، وهي تئن بين أصابع الفنان، والفرشاة المتمايلة على أنغام ناي تفتنه شفاه الرعاة، وقاعات العرض، وتملأ صدره شهوة الرسم ومفاتين التمتع بعينين كحيلتين عميقتين تنقضان على الجميل لتعميق الصلة بالكائنات، من خلال توثيق الصلة بالذات وتشريح شروحها . ليحكي الفن تاريخه، ولتبلغ العين متعتها، وهي تنسخ علاقتها بالعالم.
نظر صقيل إلى المتحرك من القيم، يضمه كحبيب، ليحيله رزانة، أو مجداً، أو ملحمة تتغنى بطهر الإنسان، ووداعته، وميله لتمجيد أبناء جلدته، بتعميق شعورهم الوطني بإنتاج لوحة وطنية تحسس المكان، والهوية، والحيا، والمآثر.
" ليست الأرض التي انتمى اليها فضاء واحد البعد، إنها فضاء بأبعاد كثيرة، ومتنوعة : جمع نبصيغة المفرد.
أفروديت، فينوس : اسم آخر لعشتار أثينا، روما، ضوءان، ظلان يتآلفان مختلفين، ويختلفان مؤتلفين، مع الأضواء والظلال في بابل وأوغاريت وبيروت، وجلقامش نموذج أول لأوليس، والأندلس هي التجسيد الأكثر تكاملاً للتآلف بين الذات والآخر، تأسيساً على رؤيا دمشق، وعلى كونية مدارها"
 
الحداثة الذاتية
ولد الفنان فاتح المدرس في العام 1922في حلب في فترة الانتداب الفرنسي (1920 – 1946) حيث " تجددت حركة الرواد التشكيليين في هذا الزمن، وبرزت بعض المتغيرات على الساحة الفنية، تبعاً للظروف الجديدة التي طرأت على الحياة في ظل الاحتلال.
ورغم أن التعبير الفني ظل تقليدياً، لكن هناك بعض المفاهيم الفنية الجديدة التي سادت، جعلت الفن التشكيلي أن يراعيها حين يرسم، سواء كان واقعياً أو تسجيلياً أم لم يكن، وهكذا لا نرى فناناً من الرواد . لم يتأثر بهذه الفترة أو يتفاعل معها . وكذلك كان تأثيرها واضحاً وعميقاً على التجارب اللاحقة التي تلت فترة ما بعد الجلاء، والتي تمثل قمة النضج لتجربة الرواد . وحتى في التجارب الحديثة، تأثرت بشكل أو بآخر بهذه الفترة، بحيث نستطيع القول بأنها تمثل مرحلة التكوين الأولى الأساسية في الحركة التشكيلية. إذ تبلورت فيها كل المفاهيم الأساسية لهذه الحركة، وتوضحت كل معالمها، وبرزت أهم المؤشرات التي استفاد الرواد منها بما لجأوا اليه من أشكال فنية، وما تخلوا عنه.
لقد تعرف الرواد إلى بعض التجارب الفنية الجديدة المهمة، التي حملها الفنانون الذين سافروا للدراسة والاطلاع الفني، أو حملها الفنانون الفرنسيون، الذين قدموا للرسم، أو الذين استقدمهم الفرنسيون للعمل في مجال التعليم، وأحدث هذا تغييراً في الموضوعات، والأشكال الفنية.
وتبلورت اتجاهات جديدة وافدة ولعل أهمها ظهور الانطباعية تحت تأثير الاحتكاك المباشر مع الفن الفرنسي، والتفاعل مع الطبيعة من جهة أخرى والذي جعل الفنان يحمل ألوانه ليرسم في الهواء الطلق ويبتعد عن الرسم في المحترف، ويقدم المنظر الطبيعي باللون وحده، معبراً عن جمال الطبيعة.
وفي الفترة نفسها تراجعت الواقعية التسجيلية الأولى، لتصبح قريبة من الواقع، حيث اتجه الفنانون إلى الموضوعات التاريخية للرد على الاحتلال الفرنسي، والتمسك بالتاريخ العربي، وإحياء بطولات العرب في المعارك التاريخية الكبيرة، إذ رسم الفنانون معركة حطين، والقادسية، واليرموك، وغيرها" (2)
هذا ما كان عليه الحال التشكيلي في سوريا في الفترة التي كان فاتح المدرس يتأمل ما حوله ويتفكر بالطريقة التي سينسق من خلالها بصيرته – خاصة – وأن سمة فترة ما بعد الجلاء ستتكثف حول التفرد الشخصي للفنانين، سواء عبر الموضوع المحلي أو من خلال التعبير عن الذات كموضوع يحيكه النضج الفكري.
ولقد كانت فترة ما بعد الجلاء حافلة بالنشاط التشكيلي المتمثل بإقامة المعارض والتجمعات الفنية وتأسيس الروابط الفنية . حيث ( تأسست في العام 1950 الجمعية السورية للفنون، وجمعية محبي الفنون الجميلة في العام 1952 ورابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت في العام 1956) ، ويذكر الناقد طارق الشريف أن المنافسة كانت قائمة بين الروابط والجمعيات، وبخاصة بين جيل تقليدي تجمع في رابطة الفنانين السوريين، وبين جيل أكثر شباباً تجمع في الجمعية السورية للفنون الجميلة.
لقد كان الفنان فاتح المدرس يدرس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في روما في الفترة (1954 – 1960) وقد استطاع الانفتاح على الإرث التقليدي لعالم التصوير وتاريخه‘ مما حدا به للبحث المعمق عن أشكال أكثر حداثة، تلائم نزوعه للتعبير الذاتي، خصوصاً أنه كان يحمل حساً متمرداً على الأوضاع الاجتماعية، والسياسية، منذ نعومة أظفاره نتيجة العديد من المواقف التي أحاطته في أسرته.
ولقد استطاعت الأفكار التحررية التي سادت حينذاك أن تمهد السبيل لمواهبه في تحقيق ما نعتبره كشفاً فنياً في التعبير، بخاصة فيما اعتمده واهتم به، ألا وهو المخزون الكبير لإرث المنطقة الحضاري، والتاريخي، والآثاري. الذي أعانه فيما بعد لربط هذه الأشكال الإنسانية المعاصرة بتاريخها الشكلي والمعنوي، وتحقيق الصلة فيما بين الوعي الذاتي والوعي المجتمعي، لإبراز كل ما له علاقة بالتراث القومي.
ولقد كان الفنان فاتح المدرس رائداً لواحد من أهم الاتجاهات الحداثوية في التشكيل السوري ألا وهو " الحداثة الذاتية" التي يشير إليها طارق الشريف إلى جانب حداثات أخرى يمكن حصرها ضمن مفاهيم " الحداثة والتراث العربي، والحداثة الاجتماعية، والحداثة والتجريد، والحداثة والاتجاهات الشخصية" .
وقد اعتبر الفنان المدرس " من أهم الذين قدموا هذه اللغة التعبيرية بشكل شخصي، وأصبحت لوحته عبارة عن وجوه لأطفال، يحورهم ليعكسوا مأساة حياتهم، ويرسمهم على أرضية ممتدة إلى الأفق، ممثلة الأرض التي أصبحت رمزاً لكل ما هو مخزون فيها من تراث قديم يمتد عبر آلاف السنين، ولقد اختلطت العناصر القديمة بالأشكال الحديثة، ما هو عريق في التراث بما هو ذاتي شخصي، وهو يقدم موضوعاته في شكل ملحمة إنسانية، حيث يصارع القوى، والمشكلات التي تواجهه.
 
لغة بصرية متكاملة
إن عودة المدرس لمتابعة الدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس في الفترة (1969 – 1972) عمقت ميوله الذاتية، وتجاوز ما كان حوله من اهتمام بالمحتوى التصويري، متجهاً بقوة لتحقيق لغة بصرية متكاملة، تتيح التواصل مع الموروث الحضاري لإنسان المنطقة، ، بكل ما يعنيه من ثبات، واستغلال.
ولكي نكون أكثر إنصافاً فإن هذا التوجه للفنان فاتح المدرس، لم يكن معزولاً عما حوله من تجارب عربية في مناطق أخرى من الوطن العربي، فتوجهه إلى التجديد تزامن مع تجارب في المغرب الأقصى، لأسماء مثل أحمد الشرقاوي، وفريد بلكاهية، ومحمد المليحي، وفي العراق مع شاكر حسن آل سعيد، وجماعة البعد الواحد، التي أعلنت عن نفسها في أوائل السبعينات . ويمكن أن نذكر أسماء مهمة في مصر ولبنان وتونس وغيرها .. إلا أن الإشارة إلى وعي أمثال هؤلاء الفنانين من خلال احتكاكهم بالغرب، والفن الغربي والتحقق من قضايا كثيرة، أهمها تنبه الأجيال العربية في تلك الفترة إلى مخزونها التراثي التجريدي، من خلال الإلمام باستفادات كبار الفنانين الغربيين المعاصرين من التراث الشرقي ( ماتيس . هارتونغ . بول كلي) الأمر الذي أدى إلى يقظة الكثير من الفنانين العرب منذ الستينات، وتوجههم لبناء المفردة التشكيلية المعاصرة، الوثيقة الصلة بذاكرتها الحضارية.
إن التناقضات الفكرية والفلسفية التي رافقت تلك الفترة عربياً ودولياً، قد زادت من حدة اهتمام الفنان فاتح المدرس وزملائه لإنتاج أعمال تؤكد التوجه إلى الالتزام الفني . وبما لا يتناقض مع التوجه الحداثوي، والنزوع لتثبيت رؤاه الذاتية، ولعل تبادل الرسائل فيما بين المفكر أنطوان المقدسي والفنان فاتح المدرس في تلك الفترة، يكشف حدة هذه التناقضات . وقد أشار الناقد طارق الشريف في مقدمة كتابه " فاتح المدرس، فن حديث .. بروح عبيرية" الذي صدر في العام 1991 ضمن سلسلة أعلام الفن التشكيلي عن وزارة الثقافة السورية، اشار إلى أن رسالة الأستاذ أنطوان المقدسي، إلى الفنان فاتح المدرس " تنطلق من موقعه كمفكر وأستاذ فلسفة، تعبر عن هذا الموقع، ذلك ليبرر هذه التناقضات، ويكون القناعة الضرورية له، وذلك حتى يقنع الآخرين، ويساعدهم على فهم تجربة ( فاتح المدرس) وكان يريد من الفنان أن يرافق المشاهد في رحلته في التجربة الفنية ولهذا وضع كل التساؤلات والتحليلات للظواهر، والحلول للتناقضات أمام ( فاتح المدرس)، ليؤكد عليها أو ينفي أو يبرر في الخاتمة " .. وهكذا يخلص الفنان لتحديد الكثير من الأمور عبر الإجابة المباشرة عن تساؤلات الفلسفة مؤكداّ على أن تجربته :
" تجمع النقائض، وتؤلف بين عدة عناصر، أخذها من عدة مصادر، واستخدمها بخصوصية، وعن طريق ( حدس فني خاص) يعتمد على مخزون من عالم داخلي غني، وعلى تراكم لعناصر مختلفة في هذا العالم. والإضافات الرمزية التي أعطت دلالتها الجديدة في لحظة الخلق الفني، وتبرز هنا عملية التركيب والجمع لهذه العناصر في كل موحد، ولهذا تطل اللوحة على أكثر من عالم .. داخلي وخارجي، وتتشابك العناصر والدلالات، وتقدم الحداثة الفنية من خلال هذا التأليف . لأن الحداثة التي يقدمها ( فاتح المدرس) لها خصوصيتها، التي تجمع شرط الحداثة والتجديد في الفن التشكيلي المعاصر، وترتبط بنا كعرب . وأخيراً هناك الجانب الذاتي الخاص، والذي يقدمه ( فاتح المدرس) بخصوصية، معتمداً على عملية ( الخلق الفني) للوحة، والإضافة التي تقدمها هذه العملية حتى يتجاوز الفنان نفسه، يدمج، ويجمع، ويقدم ما هو شخصي خاص، وما هو غير متوقع .. ولهذا تحتاج كل لوحة إلى معالجة قد تطول وقد تقصر، لكنها مرتبطة بالرصيد الداخلي، والحالة الانفعالية التي يعيشها، والتي تكون المنبه، والتي يسعى من أجل أن تكون وسيلة للتعبير عن نفسه، هذا التعبير الذي أصبح له حضوره الخاص، وله امتداداته العميقة الجذور في الطفولة، وفي الطفولة الجماعية لبلده، وفي التراث المحلي، وبما يملكه التراث الفني التشكيلي العالمي من مفاهيم وصياغات " .
 
تعبير لا نراه إلا عنده
أشار الناقد التشكيلي أسعد عرابي إلى هذه الحداثة في مقاله " المادة التعبيرية بين المرئي والمتذكر" المنشور من قبل غاليري أتاسي ومعهد العالم العربي : " نقاط اللقاء بين حساسية (مدرس ) والمحترف السوري التعبيري، من خلال تراوح الاثنين الدؤوب ما بين قطبي التعبيرية (التشخيصية) من جهة، والتجريد الغنائي من جهة أخرى، أما المادة التشكيلية فتنبثق فيا لحالتين من خزان الذاكرة الذي يعانق أشباح الواقع اليومي (الملفحة بالنتيجة مع أساطيرها بغلالات الحلم والهذيان).
لعله وبسبب هذه القرابة الملحمية قد اتفق النقاد على اعتبار مسيرته الابداعية ( بخاصة بعد تجاوزه العقد السابع) النموذج الأبلغ تمثيلاً لحداثة هذا المحترف" .
لقد أجمع النقاد على أمية نزوع المدرس الحداثوي وخصوصاً فيما يتعلق باستفاداته القصوى من المواد كافة التي طوعها لتخدم غايته الأساسية من العمل الفني، وذلك باستفادته من الذاكرة الخصبة، وبواطن الطفولة، وكل ما يمت إلى مشاعره وأحاسيسه بصلة، وبخاصة الإنسان المجبول بقدره، والأرض التي تؤطرها الحضارات، وأرواح الذين قضوا من أجل قدسيتها وطهرها.
وهو بهذه الشمولية إنما يؤكد على أهمية المنهج والرؤية الفكرية للفنان الملتزم بقضايا مجتمعه وأمته من خلال اللوحة، مادة التعبير الأساسية التي لن تعرف حدوداً لاستلهامات الفنان الأسطورية والتراثية المبتكرة، وخصوصاً فيما حققته من تمرد على الأشكال التقليدية السائدة حينذاك، بالانحياز لخلق لغة شاعرية فنية تحمل " الايحاءات المختلفة، والتي تعني أن كل ما استخدمه أضاف إليه ما جعله أبعد أهمية من مجرد التسجيل الواقعي لهذا الشكل . وهكذا أصبحت شخوصه ورموزه المختلفة تمثل عالماً خاصاً له قدرته على التعبير الخاص الذي لا نراه إلا عنده.
هذا يدلنا على أن الفنان ( فاتح المدرس) لم يقدم لوحة واقعية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم تصل صياغته الفنية إلى التجريد، لها مفهومها الخاص عن الواقع على أنه العالم الذاتي تندمج فيه عناصر من الطفولة الفردية، ومن التراث القديم، أي من الطفولة المشتركة لأمته، وهذا الواقع يرى أن التحوير للاشكال الخارجية التي يأخذها يتم وفق عملية تغيير وتبديل للشكل، ليدل هذا التشويه على المعاني الذاتية والمأساوية.
وهكذا لا تستقل لوحته عنه .. وعن موقفه من الأشياء، ولهذا لا نرى موقفاً حيادياً في معالجة اللوحة مستقلاً عنه، لأن كل لوحة يرسمها فاتح المدرس هي نتيجة معاناته، وتمثل جزءاً من شخصيته، ولا يمكن أن تستقل اللوحة عن انفعالاته ومشاعره وما يعانيه في لحظة التعبير، أو ما تستدعيه ذاكرته من عوالم الطفولة الفردية أو المشتركة" (3)
إن محاولة ذكر أسماء بعض لوحاته يظهر مدى الالتزام بأصالة المآخذ وقدسية الغرض من الفن الذي هو قدسية عالمه الذاتي المطابق للحالة الجمعية، ذلك لأنه يرى العالم عبر وجدانه الخاص الواعي بضجيج الحياة ومسارح الموت المظلمة، وهذا جمع يوازي ما نجمعه من عوالم اللوحة إلى عوالم الذات المختزلة على هيئة شكل ملون يستخلص هويته من موضوعه الخاص .. لنقرأ مثلاً :
الطفل مع الجدار 1959 بعد الحرب 1958 السيدة برعاية الوحوش 1986 النازحون والمقاومة في جنوب لبنان 1986 الشهيد 1967 النزوح 1986 – الله محبة 1968 الترقب 1986 – أطفال القرية – 10977 أيقونة 1964 – طفلة عود النعناع 1970 – بيروت المقاومة 1977 – لبنان – المقاومة، بيروت تحترق 1978 – المسيح يصلب من جديد 1980 المسيح يعود إلى الناصرة 1980 – سيدة جبل الزيتون 1981 – الشهيد 1985 أسرة على الحدود 1981 – الضحية والوحوش والقاتل 1982 – بانتظاريقظة الميت 1986 – عودة المحارب 1974 .
 
الصدمة الحقيقية لدرامية الألوان
كما تشي هذه الباقة من العناوين عن رؤية واحدة، وهم وطني وقومي وإنساني واحد يتمثل في نغمة الإيقاع الثابت في الدلالة إلى موضوع يؤكد نفسه باستمرار .. ويشكل هاجساً دائماً لدى الفنان، يوتر المشاهد ويجعله مباشرة أمام الصدمة الحقيقية لدرامية الألوان، التي يستلهم أطيافها من واقع ينبثق في ذاكرة الفنان التي تؤججها شفافية العلاقة الانسانية الصادقة، فيما بين فاتح المدرس والعالم من حوله في جدلية أزلية تعمر مملكة الإنسان بالمعاني البهيجة، التي تغري المشاهدين بانتمائها للتراب، ودلالته التي تشحذ الذاكرة والروح، وتحشد كل القوى التعبيرية لاستنباط التاريخ من أزليته وتدفقه فينا، والتحول إلى ما تستنبطه لغة الرسم الكونية من صراعات عاصفة توازي مآسي الحياة.
لقد استمر المدرس ولفترة طويلة بتحقيق انسانه الأسطوري الذي يقف جامداً على الأغلب في مواجهة المتلقي . يستعرض ألوانه، وتقاسيمه ، وملامحه، كما يستعرض فيما بعد حرب 1967 وحوشه الأسطورية، ولهذا فإنه يقول: " تسربت الوحوش الأسطورية إلى لوحاتي بعد أحداث حرب 1967 وازدادت حشودها وتدافعها مع الحرب الأهلية اللبنانية" .
ولهذا أيضاً يقول عنه الشاعر أدونيس : " لا نعت يليق بإبداع فاتح المدرس، ويفصح عنه إلا الأسطوري، حيث لا ينفصل الانتهاء عن الابتداء، والشقاء عن البهاء، والجمال هنا، على اشراقه، نواسي، معري محفوف بالألم الفاجع كمثل طريق مستقيمة واضحة تنشق في القلق ووحدة الأعماق وتتعارك أبداً مع التيه.
إذ أقول أسطوري لا أشير إلى طريقه في التحبير أو التفسير أو التعبير، أشير إلى مناخ وإلى حالات بدئية وإلى بكارات، وإلى أن علاقة بالأرض ليست عودة وإنما هي انبثاق . ربما لهذا يموه المعالم في تخطيطاته وأشكاله، كأنه يريد أن يخلق وفقاً لما تعلم الأسطورة، لا فواصل وحدوداً، بل نوافذ وشرفات، ومظلات، كأنما يريد أن تسيل أرجاء بلاده كماء جوفي عذب في أرجاء لوحته، وأن ترتسم أرضه وتاريخها في اللوحة كما أنهما أنفاس وأنسام، كما لو أن اللوحة جملة لونية في كتابهما، الكتاب المفتوح بلا نهاية.
وإذ أقول أسطوري أقول عالماً يوسع حدود عالمنا، وأشعة تضيئنا وتحرضنا على الإيغال مشيرة إلى ما لا نعرفه، أو إلى ما كنا نحدس به، دون أن نقدر على الإفصاح عنه .. واللوحة في هذا كمثل الأرض طاقة تولد الطاقات، وصورة واهبة للصور" (4)
عروقه، أعصابه وشرايينه
إن معرفة الفنان فاتح المدرس عن قرب تزيد من لمعانه التأثيري، وعصف تدفق الأفكار التي يتكلم بها، إذ تعلو رياح هياجه وانفعاله بكل ما يتصل بالوطن والانسان والعدالة والطهر والإبداع . وتتدفق الحكم والخبرات الفلسفية التي تدعو لأن نكون مركزاً للثقافات المتسامحة والمتعانقة، وأرضاً لفنون تتدفق من أجل الانغلاق على نفسها.
لقد كان المدرس شديد الصلة بلوحته، وكانت لوحته أوثق صلة بذاته ومتغيراتها ولهذا فقد وصفها بعض النقاد بأنها ( مستودع أسراره)، ويضيف طارق الشريف بأن هذه اللوحات جزء لا يتجزأ منه، وقطعة من مشاعره وانفعالاته ومعاناته اليومية وهي لهذا مستودع أسراره، ووسيلة اساسية يعبر بها عن نفسه، وعلى نحو مباشر وصادق . لذا لا نرى حدثاً مهماً يمر بحياته إلا وينعكس على تجربته لوناً أو شكلاً أو شخصاً أو تكويناً فنياً أو موضوعاً متكاملاً له أبعاده المختلفة، الذي يغلفه بالرموز والأحداث التاريخية، وبالأشكال المأخوذة من التراث والأساطير القديمة، والتي تمتزج بحياة طفولته في الريف ومآسي طفولته . (5)
ونظراً للتطابق فيما بين ذات الفنان وأدوات تعبيره، فإن الريادة والأهمية التي اكتسبها في حقل الحداثة التشكيلية السورية، إنما تأتي من الوعي بالهوية والانتماء للمكان والزمان اللذين يبقيان شاهدين يقطران إبداعاً خلاقاً، لتعدد فروع هذه الهوية ولاجتماع التحولات التخييلية بين ذراعي المكان الذي نشأ به ( المدرس) وانطلق من خلاله إلى أوروبا لمتابعة الدراسة من دون أن يقع بفريسة الاستلاب الروحي والثقافي.
وقد أشار إلى ذلك أدونيس في مقدمة ( الفن التشكيلي المعاصر في سورية)، " ولنتذكر ولو تكراراً، أن أوروبا – القارة، أخذت اسمها من أوروب الآلهة الفينيقية التي اختطفها زوس كبير آلهة اليونان وأن أخاها قدموس الذي ذهب وراءها بحثاً عنها ولم يجدها – كأنها ذابت في الأرض الأوروبية، أعطى أوروبا أعمق وأغنى ما عنده : الأبجدية" .
بل إن الأمر يتعدى هذا الفهم لرحابه الذات وشمولها وثبات ركائزها في أنحاء التاريخ حيث "كانت الطقوس الخاصة بالآلهة السورية تتردد في أرجاء الدلتا ومعابدها، تصادياً مع آلهة الدلتا التي تنتشر في سورية ومعابدها، وكانت مقابر طيبة تزين بنقوش كريت .. وقد استمرت هذه الريادة عربياً وتمثل تتويجها الثقافي الفريد في احتضان الفلسفة الإغريقية، وفي تأسيس الأندلس خصوصاً " . (6)
إلى هذا المقام كانت تشرئب عروق وأعصاب وشرايين(المدرس) وهو يلقي بنظرته البعيدة إلى مركز اللوحة واضعاً يده اليسرى تحت إبطه وفي يمناه ريشة معطرة بورد الشام ترنو إلى شمس اللوحة التي ستغدو أيقونة الزمان الحديث . وقبل أن تقرع أجراس بدء الرقصة التشكيلية أمام المساحة البيضاء كانت تتكثف اللغة في حوار مع الذات، يتلو صدى الأيام واللحظات القاسية التي عاشها المدرس وعاشها الوطن على مدى الضوء الذي يعيد صياغة تمجيد الإنسان، ومادة إبداعية في ضوء المركبات الحضارية لمجتمعات الجبل والسهل والشاطيء، وهي تلون صفحات الشرق التي تبزغ مع الشمس، التي تولد الرؤية المستقبلية للناس وتآويلهم الخلافة المخصبة للفكر الإنساني.
إن انتماء (المدرس) للبادية السورية، وتكراره لموازين انفتاحها على آفاق السماء، كان انتماء للموقع التدمري في تلك البادية، وقد حقق بذلك خلفية للإنسان- الايقونة الذي تجلى في النحت التدمري، أو ما يمكن أن ندعوه بالمدرسة التدمرية التي تعتمد على التلخيص، والتكثيف ( الشكلي والتعبيري)، مطبقة جوانحها على السر الهائل للانسان ولتستنبط عبره فتنة مناجاة الكينونة، كينونة المبدع وكينونة العمل الفني، الذي سيميط اللثام عن أعماق مجالات تفكير ( المدرس) وموقفه من قضايا وحدود طرح الموضوع الذي سيبدو - أحياناً – متكرراً نظراً لانشغالنا بالتفاصيل اليومية للإبداع . بينما تشكل النظرة الاستراتيجية للمبدع قراءة حقيقية للغاية من الفن.
هل تشكل غاية ذاتية لدى (المدرس) أم أن العمل الفني سيشكل وسيلة لغاية أبعد من كينونتها اللحظية في مواجهة عيوننا التي تعاند غبار الزمن وأمراضه ونحن نستسلم للماضي، بينما القرن يكاد يفقد أوراقه في ساحات تساؤلنا.
هل سنعترف اليوم. وقد فقدنا ( المدرس) بأهمية هذه الذات، وهل ستكون علاقتنا بمبدع الصور على مدى يتجاوز نصف القرن كعلاقتنا بالضوء في رهبة الظلام، وهل سنتساءل عن الدور التضادي والأشياء والأحداث والأفكار التي كانت عينا ( المدرس) العميقتان تعيشانها كل لحظة وهو ينتقل بأصابعه على مغائر الموسيقا، التي كان يخلو إليها في قطيعته الداخلية، التي تتوق للرقص في حضرة قيامات صغيرة، وعذابات الاحتجاب في ظلال الزيتون الجبلي، وطيبة والدته الجبلية التي عاش في رحمها مذ قتل الفرنسيون والده إلى أن مات قبل ، مستذكراً عنف الاحتراق الأسري الذي رماه في نار المؤسسة، التي تهل عليه كل يوم لتهز عزلته وعشقه وشفافيته، ولتركض خلف الطفل المنفلت في وعيه، الذي مازال يختبيء في نوافذ الألوان، وذكريات المرور أمام مدرسة البنات في حلب.
ذات مكحلة بكينونتها، تعيد ربط خيوط اللعبة في كل ضربة فرشاة تمد الدهشة على كتان عيوننا، باحثة عن مخلوقات تختلط برائحة زيت الزيتون، أو زيت الألوان الذي أحال جدران المرسم أكثر إنسانية وأكثر ارتباطاً بشروط الخلق الشخصي، الذي كان يمارسه المدرس لتحطيم العلاقة بالسائد .. حيث تعني الحداثة عدم الحنين إلى ماض يكرس نفسه في قوالب ثابتة، وحيث يشكل الانقلاب تحقيق شروط ( الحنين إلى الوجود والانبهار بالوطن) والتأرجح فيما بين الغريزة والعقل، أو اللذة والقانون والتحوط من هذه المتضادات التي ستكشف الطريق لثقافة جديدة، ومجتمعات جديدة، ولغة جديدة تفترض القطيعة مع ما قبلها باعتباره بالياً، الأمر الذي يؤدي إلى تنسيق ذهني مختلف يعيد قراءة الحضارة والطبيعة والانسان، ويبني أشكال الاسطورة بمقاييس الانفجار الجمالي الذاتي الذي حققه ( المدرس) في تجريبيته الذاتية، التي استمرت لفترة طويلة في بناء لغة الخطاب البصري السوري المعتمد على أركان النور الوهاج، اللاهي بخدعه المسافرة في بصيرتنا كمتلقين موعودين بولادة تجهد لإنارة وجودنا.
 
العلاقة الحميمة مع سارتر
إن تجربة ( المدرس ) فرضت إلى جانب كينونتها وخطابها الجمالي خطاباً نقدياً مختلفاً كفنان إشكالي يعيد صياغة التعبير بمفردات جديدة وذهنية جديدة من دون أن يتمكن هذا الخطاب الإحالة إلى مذهب، أو مدرسة، او اتجاه كان من الممكن أن يقاسم توجه الفنان، ويعطي الأولوية لترك أثر نقدي يكون بداية لمنهج حداثوي في النقد التشكيلي العربي، بخاصة وأن ظروف تحقيق المعركة فيما بين التقليدية والحداثة كانت جاهزة في إطار المتغيرات الفكرية الدولية، وما كان من صراع بين القديم والجديد على المستوى الأوروبي، وبخاصة في النقد الفرنسي الذي رفد المعرفة الإنسانية باستيحاء العلوم الإنسانية والاهتمام بالتيارات الفكرية المعاصرة لفهم الأثر الإبداعي، وتفسير عملية الخلق وكل ما يتعلق ( بالأنا الخالقة).
ولعل إحساس الفنان فاتح المدرس المتطور في هذا الاتجاه هو الذي جعله على علاقة حميمة بالفيلسوف جان بول سارتر، وعلى صداقة مؤسسة على ندية الاكتشاف أو التماهي في الأفكار، بخاصة أن سارتر يقول : " إن الانسان كلية وليس مجموعاً، وبالتالي فهو يعبر عن نفسه بكليته في أكثر تصرفاته سطحية وأكثرها تفاهة وبعبارة أخرى ليس هناك ذوق أو عادة أو عمل إنساني لا يكون كاشفاً " .
ولعل الربط فيما بين الأثر الإبداعي وظروف مبدعيه وسيرة حياته ونمو ذاته تعمق القدرة الاكتشافية للعمل الفني وتحليله اعتماداً على فسحة الحرية التي تمثلها هذه العلاقة.
ويشير بعض الباحثين إلى أن سارتر اعتمد في مؤلفاته النقدية على علم الوجود بالانطلاق نحو الانثربولوجيا وهذا يفسر بشكل موجز التحول الذي سار به المدرس إثر دراسته في الغرب والتعمق في الأفكار المطروحة كبدائل فكرية إنسانية دفعت الضرورة إلى اكتشاف أهمية نقدها كمعرفة إنسانية، وبالتركيز على شخصية المبدع العصابية التي ترسم سيرة إبداعية.
إن الذات الواقعة تحت وصاية ( فاتح المدرس) بقيت خاضعة لمجموعة التآليف التركيبية التي يتكون منها مشروعة البصري والجمالي، بحيث تشمل هذه الخصوصية وجوده في ذاته، في محاولة لتأليف مشروع مطلق فيما بين ( الكينونة الثابتة والوجود العابر) كمغامرة حرية تمتد على إرث شعوري فياض، يشرح فهم ( المدرس) للوجود الذي يحيط به . أو الذي ألف ذاته التي لا يمكن تجزئتها إلى أجزاء ارتدادية تجعلنا نعيد تكوين أو تشكيل المشهد الفجائعي لطفولة (المدرس) أو حتى مراقبة التقاطعات التي وقف عليها في اختياراته الحياتية، لينأى عن الوصايات المعهودة بإحلال تمثيلات أسطورية مكان الواقع، أو انحطاط الوجود الذي يستلب الإنسان إلى الدرجة التي يبدأ فيها المبدع بتحويل هذا الواقع إلى حلم يعيد صياغة الماضي، وفق الشروط التي سيفرضها الفنان المتحرر من حاضره ليعطي المستقبل امكانية تحقيقه.
إن الإشارة إلى الظروف المختلفة والمأساوية التي عاشها الفنان فاتح المدرس ستحتاج إلى زمن أوسع لدراستها، والوقوف على تفاصيلها، بما يخدم السيرة الزمانية الدينامية التي رافقت عطاءه الواسع، والقيمة التي أضافها إلى التشكيل العربي، من منظور الفترة التاريخية التي عاشها كمتحولات سياسية واجتماعية كان له موقف نقدي واضح منها، ومما تنطوي عليه من تفجيرات لشفافية المبدع. وكأنه يشير إلى أن " السبب في إخفاق كل انتصار هو أن المنتصر يتغير بوساطة انتصاره والمغلوب بوساطة اندحاره" .
في الختام، يبدو أن مفهومين ينبثقان من العلاقة الخفية بين الفن، والحلم، والفعل : الشدة والتغيير، أن الشدة فردية والتغيير جماعي، لكنهما وجهان لعملة واحدة، إن الشدة الشخصية للتجربة تأتي بشكل رئيسي من خلال الآخرين، من خلال المجموع، والتغيير في المجموع يأتي من خلال رؤية الأفراد.
في الحياة العربية، عندما استشرف الشعراء رؤى جديدة لم يكن الأسلوب وحده هو الذي تغير وبشكل جذري، لكن المجتمع نفسه تغير وبشكل جذري أيضاً. إن كل تحول في الرؤية الخاصة يبث من خلال الفن وينعكس في تحول الرؤية الجماعية في حلم الفنان، قد تكون المدينة الفاضلة بعيدة إلى الأمام أو قد تقع في المنعطف القريب .. لكنه إذا توقف عن الحلم أو أرغم على التوقف عن الحلم فإن كل معالم المدينة الفاضلة ستغيب عن الأبصار، وسيفقد الكثير من الفعل الإنساني مغزاة، فبالرؤى وحدها يمكن الحفاظ على القوى المحركة لمسيرة الحضارة.
ليس ثمة معادلة سهلة كما يبدو لخلاص الإنسان، إن هم الإنسان المركزي، عند التحليل النهائي هو حريته، حبة، تساميه على موته، وهذه كلها هي الجوهر الأساسي للفن وجوهر ما كان يتطلع إليه فاتح المدرس دائماً.
 
 
هوامش :
(1) ادونيس . الفن التشكيلي المعاصر في سورية ص 12
(2) طارق الشريف . المرجع السابق ؟ ص42.
(3) ص 111، اعدام الفن التشكيلي.
(4) ص 19 . مدرس.
(5) ص 147 . فاتح المدرس . في حديث بروح تعبيرية.
(6) ص 14 . المصدر السابق .
 
 
فاتح المدرس – سورية
- ولد في حلب عام 1922 وتوفى في دمشق عام 2000
- 1954 – 1960 أكاديمية الفنون الجميلة في روما.
- 1969 – أكاديمية الفنون الجميلة – باريس.
- معارض شخصية في سورية – ألمانيا – إيطاليا – لبنان – النمسا – فرنسا.
- أمريكا وله مشاركات في معارض جماعية دولية.
- نال العديد من الجوائز ( في بينالي سان باولو 1963 بينالي القاهرة – جائزة المحكمين 1994) وجائزة الدولة التقديرية للفنون في الأردن 1992. والميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي 1962 ، وجائزة الشراع الذهبي في المعرض الخامس للفنانين العرب في الكويت 1977 ، والجائزة الأولى للمعرض السنوي العام بدمشق 1954، وجائزة تكريم الدولة في بينالي اللاذقية 1995.
- أثر بعمق في التشكيل السوري.
 
 
 
 
الفنان أحمد معلا
سيرة جديدة للحواس و طفولة لم تبلغ ذروتها
بقلم: طــلال معــلا
 
احمد معلا من قرية سورية مطلة على البحر المتوسط، تختفي تحتها آثار مملكة اوغاريث، فوق احد التلال القريبة من المكان الذي ابدع اول ابجدية مكتوبة في التاريخ. ولهذا فان حوارا تاريخيا ما يزال قائما بين الفنان والفكر، ويمتد هذا الحوار بسطوع ليشمل تناولات مشهدية تمثل احالات لالتقاط مفردات من تلك الحوارات، التي مازالت تعيش حتى يومنا هذا، بكل ما تتضمنه من احاديث فانتازية تتدرفل على سطح من الرغبة باخفاء المعاني، او تفجير الاسئلة الغريزية التي تعيد صياغة موضوعات الحياة .. قليل من الرضا، وكثير من الضحايا التي تعبر عن الخطر والارتعاش في مواجهة اختزال التاريخ الذي لا تكفي ادانته لتمثل ايقاعه، او تشكيل صورته، بل لابد من استعارة الجسد الانساني من كلية الطبيعة لبناء تفاصيل هذه الصور الحوارية، واللحظات الحاسمة التي تعيد ربط الحاضر بالماضي وتثبت القدرات التجريبية الابداعية للاجابة عن اسئلة تشتمل البواطن القصية والتائهة في ازقة الحضارات، اسئلة الوعي الحية التي لا تفنى لبساطتها وروحانيتها وامتلاكها لجوهر التذكير.
حركة الروح:
تشكل الاعمال الصغيرة التي نفذ الفنان اغلبها بشكل بانورامي عرضاني طارئا يستحسن التوقف عنده وهو في خضم انتاج اعمال كبيرة الحجم، اذ تعلن هذه الاعمال عن حدود يريد تفصيلها بدقة كحوادث بصرية وصباغية وتقنية تكمل توجهه العام في السيطرة على المواد التي تسهم في قيادة التجربة باتجاه اكتمال التعبير المشهدي بحيث تغدو السماكات المبالغ بها سينوغرافيا تجمع التحالف الشكلي الحسي، بالتراتب المنطقي لسرديات ينسجها الوعي الغائب بالفترات التاريخية. واذ ينتقل معلا من الابيض والاسود الذي تلذذ بابداعه وبغاية الدقة والاكتمال، الى الذاكرة اللونية المتخمرة، فانه ينقلنا من حالة العري اللوني، والجوهري، الى خضوع للموسيقا اللونية، التي يترجمها الجسد الانساني في حركياته اللامتناهية، الحركة النموذج في استقرارها وترحالها، حركة الروح التي لا تكتفي بطقوسها، وشعرها، وحقيقتها، بل تستدعي علاوة على كل ذلك وجودية تحققها، وتأقلمها مع فطرية الفوضى التي ابدعتها، واصالة الرؤية التي ستستقر عليها.
حسب رؤية الفنان احمد معلا، فان هذه الحركة ترتبط بالضوء الذي يعيد صياغة منظورها، ويربط تمردها بالفضاء المتحرك ايضا الذي يمجد تحققها، ولهذا فان المناخ العام يبقى صراعيا على كافة المستويات التي تقتضيها هذه اللوحات، فما بين التضاد والتناغم، يمكن تلمس التجليات الصراعية التي يلعبها اللون كقيمة، وما بين الحركة والفراغ، والهوامش المكانية، نقرأ التوصيفات الصراعية للحساسية الابداعية، وما بين الكثافة اللونية وشفافية اللمسات، نقرأ الصراع التبادلي مابين المباديء المستقرة وتاريخها التقني .. وتبقى هذه الحركة في النهاية ممزوجة بالحس الثقيل الذي تفرضه السماكات، والمبالغات العجائنية، التي تبذر الجذب والشد الى محيط اللوحة العرضاني الصغير، اي الصورة التي تعيد صياغة الزمن، عبر تحديها لواقعها، وامتداداها في مدركات الفنان الحسية، والذهنية، استمرارا للحوار، او الخطاب التحريضي، الذي يحتفي بتحققه التصوري، وتماسه مع انتقاد التاريخ، وجمالياته، اذ يحتفي الفنان بالموازاة مع التاريخ الداخلي للتصوير شرق المتوسطي، وبمرجعياته التنبؤية، والرمزية لتغدو هذه التجربة نموذجا لمشروع قيد الاكتمال.
مغامرة مفتوحة
عمل واحد، هكذا تشي مجموعة الاعمال الصغيرة المنفذة على الخشب باعتبارها لقطات مقربة .. اماكن مفتوحة على ذاتها، وعلى الرموز المساعدة، النوافذ والاشجار والمناضد، التجمعات والتجمهرات .. الترقب، الحذر، الوشوشة والصمت، الاشخاص المتحركة بين الداخل والخارج، بانورامية المشاهد، ومشهدية الحدث، القيمة المسرحية التعبيرية التي تنفي السكون وتثبت الحركة، استمرار الاطراف بالايحاء بتدوير المشاهد واتصال اطرافها، فرضيات التمثيل التي تقدم الحدث السردي على هيئة الواقع دون تفاصيل او ملامح، او مسميات .. عمل واحد تفصله لقطات مختلفة تشكل الزمن بتعاقب انتاجها، (ريلييف) تصويري، ملامسه خشنة، تعكس الخبرة الواسعة لمستويات المزج الدقيقة، ولتراتب الطبقات اللونية، التي تمزج الانسان بالطبيعة والذهني بالملموس، وتشي بتشخيصية تنصح فيها فروقات التعبير والايحاء الجسدي، المرأة والرجل .. الألم والفرح، وحشية التصنم، الغربة، الانزواء، الوحدة والعزلة، وكل الصيغ المحركة للمشهد العام.
عمل واحد بالازرق والرمادي، والاخضر، والاصفر تقنية الالوان ، احمر رمادي، اخضر مسود، رمادي ترابي، اعراس لونية، عتمة وظلام، وبؤر النور التي تلغي ملامح الوجوه المتحلقة على ولائم الدسائس، والهزائم .. صحارى، اقبية، مدن واحياء .. كل شيء في هذا العمل الواحد الذي ينظم تقطعه الفنان بحضوره المثقف، يستحيل الى ملامس ونتوءات، تخترق العيون باتجاه الروح التواقة الى لحظة تفوق على ذاتها، او نصر، او بعض عدالة، او اية فارقة تبعث الحياة والعافية في القلب الذي باتت اسراره تنهش ملاحمه، وتطريباته، ومشاريعه، وخيالاته، وتذكراته، وتوازناته، في سعيه الدائم لتجاوز ملامح التصور، وبناء ارادة جديدة للكائنات التي يخفق فيها.
عمل واحد .. مغامرة مفتوحة على اروقة شهوة الرسم، ومفاتن اللوحة ذات الصلة بوجودها، وهويتها، وفضائها، وجوف العذاب الانساني الازلي .. رقصة رسام على موسيقى التطهر من آثام التاريخ والزمن المقلوب واجهزة القطيعة مع الوعي والحضارة والانسان.
اللوحة بيت الوزن
تعبر الاستطالات الدقيقة لأشكال الاعمال عن قلق وجودي معاصر تجاه غياب المعايير التقليدية في رؤية العمل التشكيلي، اذ ترتبط هذه الاستطالة بضغط عمودي على اختيار الرؤى والافكار، يمنحها مجالا ارحب ـ ربما ـ لسرد بصري يستعيد عبره الفنان خطوات الاشخاص، وهي تمضي في حركتها الافقية متماهية مع موضوعاتها، فهي مخلوقات مبنية من عفوية الحركة الحقيقية، وطبيعية تجسيدها المتماوج الذي يصوغ رؤى الفنان لمآلها او مصيرها .. انها تنتهي بملء المساحة الافقية التي تقرب خط السماء من خط الارض، المساحة التي توحي بالامتلاء، لكثافة النسيج الحركي المعبر عن انسحاب باتجاه البدايات، فالمغامرات تبدع قوانينها، وبيئتها، وفضاءها الثقافي، الذي يشكل رغبة الفنان بالتغيير، ووعيه لهذا التغيير .. انه مكان عربي بانورامي وضيق بآن معا، عالم لا يملك من الجدة اكثر من هذا الضيق بالحياة والبصيرة والعقل . .صورة تبدو في مطلقها سؤالا عن العدم، وكل ما يمكن ان تقود الخيبة اليه .. سرير حزين يتذكر توجهه ونقاوته، عبر الحشود التي عزفت فوضاه وانسحاره بالغربة.
قبل سنة تقريبا من الان، وحين كنت اتابع الاعمال الكبيرة جدا للفنان في مرسمه، اجتذبتني افكار حول مدى الحيرة التي يحاول ان يتجاوزها، وحول اذا كانت اللوحة مكان الوزن الذي يترجم علاقة المبدع بسيرته .. انني اعتقد الآن ـ حقيقة ـ بأن جذور الشكل الذي يختاره الفنان تتعلق بمستوى (التغجر) الذي يصوغ حوار الحكاية، الممتدة من التراب الى التراب، الحكاية التي تشكل استذكار المبدع لمستقبله، وبراءة تمثله لماضيه، الذي يأتي بعد ان مضى .. انه يأتي اليوم على هيئة الشق الذي يفصل بين خشابات الباب الخشبي القديم، الذي خففته شمس الانتظار، لذلك يقرب احمد عينيه من هذا الشق الطولاني، ليرى الخطوات وهي تلتهم التراب. فاللوحة عنده اليوم انتخاب قصدي لنصف الرؤية، الممتلئة بالخراب والكوابيس، والمناحات، والاخفاقات والتهويمات .. انه منشغل بالسقف الذي يقترب لحظة بعد اخرى من قلبه بينما العالم في الخارج بانتظار ان يخرج من بئره الى الدرب الصحيح للحقيقة.
لقد تابعت غير مرة الفنان وهو يعرض اعماله الصغيرة على ارض وطاولات مرسمه بالتتالي لمجموعة من الزائرين ومحبي اعماله، وكنت اراقب دهشة المتلقي وهو يضيف هواجسه الى كائنات اللوحات الصغيرة، بينما احمد ينشغل برهانه الاساسي على اختراق الجنس الشكلي للوحة، انها مواجهة مع مخاطر قد لايدركها المتلقي، مخاطر جمالية تفرضها الحرية الغائبة التي يفترض ان تحمي الذات المجربة وتطور من ادائها بدل ان تفتح المجال على مرثيات بصرية فجائعية تمتلك الغاية وتدفع الى خرابها.
رحاب افقية ترى بمقدار ما تعلم، تضمر اكثر مما توصف، ومساحات منعمة بوعي غايتها، ولعل الظاهر المرح للملامح العامة لا يشكل الا انفتاحا على مضمون مأساوي يجعلنا نحس بثقل التجسيدات البشرية وهي تخطو باتجاه عذابها وهلاكها، فثمة ماهو مرعب في تكاتف الشخصيات وتجاورها واحاديثها بل لعل تكرار هذه المشهديات يؤكد على حقيقة القسوة التي ترسم هذه الشخصيات كما هي في واقعها وكما تتجلى عيوبها في زهو الحياة المتمثلة في خبرة الفنان وبلاغة صنعته اللونية وطراوة الحركة التي يمرر عبرها مفردات الافكار الجمالية التي تمتع الناظر وترويه بتميزها في الوقت الذي تجعله فيه ظامئا الى اكتمال المقولة البصرية، لهذا فان امرا ناقصا في كل عمل من هذه الاعمال يجعل المشاهد يطلب متابعة رؤية بقية الاعمال لتحقيق الرؤية النموذجية للظاهرة المطروحة، فكريا او تقنيا، ولنتذكر دائما الاحالات العديدة التي تقدمها هذه المشهديات الى التصوير الممسرح الذي يبقى امينا للتوترات الجسدية والضوئية.
اذن هل يمكن القول: ان اللوحة مأزق الفنان، شكلا او مضمونا، وهل هي المرئي الحلمي المتوالد من بعضه البعض عبر طاقة تجريبية تفصل مابين انواع الشكل من جهة، وانواع المضمون من جهة اخرى؟ اذ تشكل ارادة الفنان في الاختيار اساس الفصل مابين الحدس والعقل، ويعتمد هذا الاختيار لدى معلا المزيد من التوتر الروحي والنفسي، كونه يفيض دائما بما هو باطني ومجهول في التوجه نحو انتاج الاشكال الطبيعية او الفرضية وكأنه يعيد صياغة مقولة بيكاسو «في كل مرة ابدأ فيها برسم صورة، اشعر وكأني قد قمت بقذف نفسي في الفراغ. ولست اعرف ابداً هل اني سأقف على قدمي من جديد، ام لا».
بهذا التصور يمكن اعتبار خروج الفنان عن اشكاله وقياساته تطوراً باتجاه تطويع احاسيسه لبناء الصور المتلاشية في لاوعيه الذاتي، وهو بمماثلته الكفاءة المعقدة للواقع انما يلهب خبرته لتجاوز، هذا الواقع وبناء حوار لانهائي مع ذاته اولاً، ومع الخارج ثانياً لتحديد معالم شكل الصورة الطولانية التي تقدم تحليلاً لكيان الشكل الذي يعتمد على سلف منظوري يحمله الفنان خفايا جديدة، تجعل المشاهد مرتبطاً به دون ان يتلمس اسباب ذلك، اذ تشي صراحة الشكل (بكل اختزالاته التشخيصية) بجاذبية حسية وسحراً عاماً يقترب من حدود الشعر ونقاء الموسيقى وقد يكون مرجعه عدم الاكتمال او الاكتفاء فاللوحة كما اشرت لا تقدم صياغات نهائية على كافة المستويات الجمالية والتقنية وهي في ذات الوقت لا تدعو مستقبلها لايجاد مبررات البهجة التي يشعر بها رغم الدراما القاسية التي تعبر عنها وذلك عائد ـ ربما ـ لحجم الوجدانيات والعواطف الملونة التي توحي بها ذكريات الفنان عن الاماكن والاحداث والخبرات الانسانية العميقة، والتي يحولها الفن الى اثار اشارية تجسد ذاتاً تحترم تحققها ووجودها وتسعى عبر ينابيعها الخاصة لتأسيس افكار تصويرية تبرهن نزوع الفنان احمد معلا التحليلي والبنائي في آن معاً.
الحلم البدائي
تختلط في هذه الاعمال الاساطير بالاحلام والتهويمات بالواقع، والشعر بالابتكار والطفولة بالعقل، والباطن بالظاهر لتقدم مخزوناً يتراوح بين البهجة والفجائع. واذ يكتشف الفنان مفاتيح احلامه الاولى التي مازال يحلو له ان يبهرجها ويدفع بها لتكون جزءاً من حياته الفعلية، اي جزءاً من خرافته اليومية المولدة للاسباب التي تربط اعماله ببعضه وتجعل من تأليفاتها الشكلية خطاباً بصرياً توليدياً يعرف بتطور الصور لدى الفنان والتفاصيل الحيوية لمعنى الاشارات التي يشير اليها المعنى الواحد، الساكن في طريقة توجيه الحركة الارتجالية. ويمكن مقارنة هذه التفاصيل بالايماءات المنظورية التي تستغني عن البعد الثالث لتعميم ابتكار ينفي الواقع حقيقة، ويثبته مجازاً، وينسجم مع توتر اللاوعي في انتقاله من الخفاء الى العلن وهو يرسم دلالات شكلية اكثر مما يرسم اشكالا تحاول تمزيق اكفانها لتبلور حالات تحقق وجودها في العمل الفني.
لقد بقي خط الافق كفاصل بين الفضاء والزمن مؤثراً في الاحالة الافقية لشكل اللوحة الصغيرة التي يعيد صياغتها الفنان على هيئة ما عاشت بصيرته في البادية السورية او مقابل البحر الابيض المتوسط.. افقان يتحولان من الزمن الى مفهوم شكلي لم تستطع دواخل الفنان التهرب منها او الاستقلال عنهما رغم تنقلاته العديدة بحثاً عن كينونة شكلية للوحة او صياغة وجودية لمحيط او اطار او جسد هذه اللوحة التي ستغدو مدينة الايقونات، ليس من خلال ثبات المعنى الرمزي لتشخيصها وانما عبر التحويرات الخلاقة التي تشيد الحافز الحركي في هذه المساحات، والحق ان انتقال احمد الى دمشق فباريس واستقراره مرة اخرى في دمشق قد دعم استلهامه لهذا الافق مؤخراً لاستنفاذ الصفات المميزة له وحشوه بمواد يحضرها في مرسمه. وبما يخلق الايقاعات الاثارية التي تقدمها (الريلييفات الموتيفية) التي تشد انتباهنا الى مظاهرها البنائية حيث يتولد الفصل بين النحت والرسم وتهيمن سبل النظر الى العمل على نتائج الرؤية المباشرة له. وكان الفنان قد امضى طفولته الاولى على ساحل المتوسط وطفولته الثانية في البداية السورية (الرقة).
ان الافكار المتولدة من خشونة السطوح ونفورها عن المستوى العام للسطوح المستوية يعيد الى الاذهان العديد من علاقة التصوير بالنحت والحجم بالمساحة والكتلة بالوزن والخامة بمكان توضعها، كل ذلك لتوليد تعبيرات تعيد الى افضاء دينامية تقبله الروحي والاحساس بايقاع حركات الاشخاص في عبورها هذا الفضاء الافقي وتغير طريقة تلقي هذه الحركة بمجرد تغيير موقع رؤيتنا لها، واذ ترحل الجبال الى السهول لتشق رؤية جديدة في بصيرتنا فإن هذه الاعمال تواصل النمو والاستقلال خطوة خطوة لتمجيد علاقتنا بها باعتبارها اثاراً حية تنبض بالاثارة والوثوب والتخطي.
احتفاليات بصرية:
عندما مررت على اكثر من خمسين عملاً صغيراً بسرعة، شدني الامر كي اعيد هذا الفعل اكثر من مرة يومياً وعلى مدى ايام، وكأني اقوم بالتنقيب في موقع من المواقع الاثرية.. او كأني انتظر ان القى شيئاً غير الذي اراه بعيني ولأقل ان اطمئناناً عاماً كان يغلفني وانا افرد الاعمال الصغيرة ثم اجمعها.. افرقها في مجموعات ثم الغي هذا التأليف، وكأني امحق بسرعة ان يعني هذا التأليف ارتباطاً سرياً فيما بينها لنسبة اللون او الاشخاص او الحركة او المقياس، ولعل التراجع عن وضعها في اطار المجاميع عائد للكينونة، والحياة الخاصة التي تتمتع بها كل واحدة من الاعمال. مما يلقي الضوء على القيم التشكيلية الايجابية التي تنتقل بالموتيف من حالته التجريبية الى حالته التي يمكن ان تقاس على مفهوم العمل المكتمل تشكيلياً والذي يكتنز اسراره وخفاياه الابدية ويعيش ظروف اكتماله المعاصرة، اي الحالة التوليدية الابداعية، حقيقة التجدد في نهج الخيال والنزوع الدائم لفتح المجال للحوار مع الزمن.
امام هذا الحوار، نعترف بمجموعة من الاجابات المتولدة من اسئلة طموحة، اولها علاقة الماضي بالمستقبل وليس اخرها الحساسية الذاتية المتولدة من جملة التصفيات التي اعتدنا جلد فنوننا بها اقتداء بما يشير اليه النقد الغربي والذي ملخصه ان فنوننا لا تتحرك خارج كونية النظم الغربية المؤطرة للعمل الفني، ولعل هذا الامر من اشد الامور حساسية، في تلقي اعمال الفنان احمد معلا، اذ تشكل المقارنة والمشابهة منطلقاً للوصول الى نتائج تعسفية في اطلاقياتها خارج البحث الرئيسي في حقيقة وجود وتحقيق ممارسات منظورية لا تستند الى مرجعيتها الغربية قدر انتمائها الى المناظير النورانية الداخلية التي تدعم كونية الرغبة بانجاز نابع من خصوصية المكان والافكار والتاريخ، وهذا لا ينفي القول بأن تقاطعاً تقنياً يحصل في آليات انجاز العمل الفني بسبب التراكم التاريخي الذي يفسح المجال لمثل هذا التأثر، الا ان ذلك لا يتعدى البناء الخارجي، اي ما يشكل الحجاب الفاصل عن الحقيقة، اية حقيقة اذن تحاول ان تظهر في هذه الاعمال؟ وهل يحاول احمد ان يرى صورته في بنية التفاصيل والموجودات المتناهية؟
بالتأكيد تعكس هذه المجموعة من اللوحات الصغيرة احلاماً كبيرة عن الذات، يكثفها الفنان في الحركة والعجائن اللونية وباقي المواد التي تصهر تطلعاته في احاديث بصرية واجساد تتزين لمراياه الضميرية، فالسطوحالمستطيلة جداً تمحو مسافات واسعة من الفضاء العلوي، وتكاد تلتصق بالارض التي تحتل كامل الارتفاع، انها في مركز النظر، اي مركز الرغبة، وهي تقدم نفسها في اطار الحيوية الصاعقة لتكثيف الزمن الممتد من البداوة الى الحضارة ومن الظلمة الى النور ومن القبيلة الى المدينة، ولعل الجسد الذي يركز عليه معها في هذه الاعمال حامل زماني يبرز اللحظات الخصوصية التي تحترق برهة بعد اخرى لحكاية لغة هي اشمل من التجسيد الموسيقي لهذا الجسد بكل تمايلاته وانطواءاته ونبضاته التي تؤنس صمتنا وتحتوي مفاهيمنا الجمالية. اذ كل تمايل ظاهر انعكاس لتمايل لامرئي يتكامل واياه لبناء تواصل لا نهائي في سماع الرواية الموسيقية الشرقية التي لابد وشمت رحلة هذا الجسد من الحياة الى اللوحة.
انه الجسد مرتين، مرة حين يرسم واخرى حين يُرسم.. وفي كلتا الحالتين فانه يعني رفضاً للغياب والموت وحضورا للذاكرة التي تحترق لتؤسس صورها.
في كل المراحل التي عبرها الفنان يمكن الاشارة الى دور الذاكرة في بناء التصاقات حيوية بكل ما هو خارج عزلة العصر، اي الاستمرار في بناء التجمعات الانسانية المتوجهة التي تختص العلاقة مع المواسم والولادة والخصب كمنفذ روحاني ـ ربما ـ لما يحمله من رموز واساطير وعلاقات كونية تعيد للمناخ الداخلي استقراره الحضاري. وقد يكون لانتمائه المتوسطي كما اشرت علاقة بالوضوح الطقسي الذي يجعله يعتقد بكثير من الاحتفاليات البصرية كقوى ذاكراتية تعيد للجماعات والتجمعات حساسيتها الموقفية المنصهرة ببعضها دون الانتماء الى الملامح الفردية، وبهذا فإن توحداً واضحاً (الحركة واللون) بالطبيعة والقوى الابداعية العميقة لصياغة بالغة تتجاوز الملامس المرئية الى مستويات التذكر والانخراط في هذا التذكر الايجابي، الاحيائي، الذي تنظمه الرؤيا والحرفة معاً.
عجائن الخلاص:
لم ينشر اي كتاب تحليلي عن الفنان احمد معلا، وما نشر حتى الان لا يتعدى التوثيق الاعتيادي لبعض المعارض الفردية التي اقامها او شارك بها، ولهذا لم يتطرق اي من النقاد الى الاوساط المختلفة التي تغلف تجربته، او تفسر ما يمكن ان تلعبه الاماكن والظروف في استقبال عمله الفني، باعتبارها وسيطاً ايضاحياً مؤثراً. ولا اود في هذا التقديم البسيط ان احاول ذلك، الا ان هذه التجربة المتوزعة بين مقولة الفن الكلية، وخصوصية التجربة المستقلة في تناول العمل الفني تفسح المجال واسعاً لتناول طروحات وافكار الفنان نظراً للدور التحريضي والانقلابي في آليات التأمل، وكل ما مكن الفنان من ايضاح طروحاته النظرية والاختبارية المثقفة للعين والذهن، لصياغة صورة وطنية وانسانية، تركت دلالاتها البصرية كقوة للفهم والتذوب والخلاص.
ما انظر اليه في هذه الاعمال المصغرة، يفصح لي عن عتاب، اطيافه محفورة في اطراف السنة الشعراء، وكل ما يشف عنه الضوء، وهو يلامس العناصر التي تصل العمل الفني بجمهوره ومتلقيه، لينفذ مباشرة الى تمثل واع للحالة التي ينتج الفنان عبرها تصوره عن الواقع والخيال معاً في اطار التحولات القسرية السريعة التي تبتر في اغلب الاحيان الرابط بين الوعي بالفن والعمل به، ولهذا فقد يجد بعض المبدعين انفسهم خارج تجاربهم للحظات ـ تطول او تقصر ـ ثم يعودون لتجديد وفق آلية التنفس الابداعي التي تتيح للقلب ان يحترق في حمم تفاصيل الحياة وهو يكشف عن موقع السر وسماكته ولونه وتأثيره، ولعل هذا ما حدا بأحمد ان يعيد صياغة المواد التي يرسم بها في اسلوب يقترب من تقديم المادة بمعايير تكونها البدائي، كون هذه المادة الوسيط الاساسي في تقديم الصورة لعقل واحاسيس المشاهد.
هذه العجائن، والمواد التوصيفية، محاولة تجسيدية ظاهرة لنفي الموت، والنأي بالصورة من حالتها المسطحة الملساء الى كيانها (الريلييفي) النافر، الذي يستودع فيه الفنان مالا يمكن حصره من طاقة الحياة، وتاريخها المحفور على عمارة الضمير. واذ يمزج الفنان هذه العجائن بمواد الطبيعة الاساسية، الهواء والماء والتراب والنار، فانه بينها على هيئة الطين وفق توازن مزجي يحاكي علاقة الحضارات القديمة بادواتها كوعي بدائي بالطين الذي يشكل الامتداد الطبيعي للانسان والذي يعيد احمد صياغته خارج شعائره النائسة بين الولادة والموت. فرائحة الموت تحت جلد الحركة التي لا تهدأ في الامتداد والتجمعي التشخيصي المتوالد في تشظي المساحة الى حمم اليفة من المشاعر، تستحيل عبر المهارة الروحية الى قوى يتكئ فيها القلب والتوتر على الارث التشكيلي البصري لنزع بشرة اللوحة بانبثاق كوامنها وتحويلها الى شحنة من الرغبات وفضاء من الرؤى.
بدأ احمد انجاز هذه المجموعة من الاعمال صيف العام 2001 في دمشق بعد عودته من رحلة قصيرة الى اسبانيا، وصادف ان عاد خلال انجاز الاعداد الاولى منها الى باريس بعد ما يزيد على اثنتي عشرة سنة لبضعة ايام، كما ان حديثاً عن رحلة على (طوف) فوق مياه نهر الفرات كان لا يفارقه وهو يرسم حتى ساعات الصباح بشكل يومي ودون توقف، وهذا ما حدا به لترك مهامه في بينالي المحبة الخامس على شاطئ المتوسط ليعود الى حواره البصري مع هذه المجموعة من الاعمال التي تتقلص فترة انجازها الى حدود الجسارة التي يبدلها الفنان في مراجعة طفولته التي لم تبلغ ذروتها بعد.
واعتقد ان ما انجزه حتى الان من هذه المجموعة، قد حقق له سلسلة من الاكتشافات المجازية، اتاحت له الاعتراف بقيمة التصوير الشعري، وحسنت علاقته باعماق اللوحة وكشف حجبها، مظهراً وجهة نظره الشرقية في احياء الجسد الانساني في اطار زماني متعدد المستويات والتناولات البصرية بعيداً عن الزمان الغربي المفرد الذي يقتضي مكاناً مفرداً.. هذه الاعمال تصوغ سيرة جديدة للحواس تمكن آليات التخاطب من بناء علاقات جديدة سيكون على الفنان تحديدها وربطها ببعضها في انجازاته القادمة.
 
== الفنان حسن شريف ولغة التغيير ==
 
الأخطاء في أعمالي تتحول إلى جمال
التشكيلي الإماراتي حسن شريف:
أهدر الوقت في التأمل لأن الحياة تأمل متواصل
 
بقلم: طلال معلا
 
حققت الاتجاهات الفنية المتعاقبة في اوروبا نهاية القرن العشرين فيما حققت الاجيال التي تبنت طروحاتها وفلسفتها تحت شعارات مختلفة ربطها التجديد والابتكار والتجاوز في الاختبارات المكثفة التي جعلت الرأي العام غير مستقر على طرف من الأطراف وخاصة فيما بين الذهنية الصرفة (للفنون الذهنوية) التي عمت ستينيات وسبعينيات القرن العشرين و(الارباك العاطفي) للتعبيرية التجريدية.. وبغض النظر عن اقتراب وجهات النظر المختلفة من الحقائق او ابتعادها عنها إلا انه لا بد من التصريح بوجود أزمنة فنية في العالم اقتضت هذه الانقلابات الخافقة، فقد كتب مارسيل دوشان في العام 1962 رسالة إلى هانز ريختر قائلا: "هذه (الدادا) الجديدة التي يسمونها (الواقعية الجديدة) والفن الشعبي، والتجميع، الخ.. ان هي الا وسيلة سهلة للخروج من المأزق، وهي تقتات على ما اقتاتت عليه الدادا، حين اكتشفت "أشيائي الجاهزة" كنت أهدف إلى تثبيط الجمالية.
في (الدادا الجديدة) استعاروا اشيائي الجاهزة، فوجدوا فيها جمالية فنية.. لقد رميت القناني والمبولة في وجوههم تحديا.. واليوم يؤخذون بها إعجابا بجمالها الفني". (الدادا – الفن ضد الفن – هانز رختر) "في الستينيات – بدا كأن الفن – في الأقل – ذلك النوع الذي حظي باهتمام اكبر – قد تصدى بذاته لمواجهة مشكلة تنقية النائي (في ذاته) مما هو غريب فقط، مما متنافرن مما يصدم اجتماعيا فالتجميع والشعبي والبيئي والبصري والحركي، كل أنواع الفن غير المألوفة، تبدو وكهنيهات كثيرة في سباق حل المشكلة التي تبدو انها اليوم على شفا الحل، في صيغة ما يسمى (البنائيات الاولية) او (الفن المقلل)، والظاهر ان الفنانين المقللين قد أدركوا اخيرا بأن (النائي بذاته) ينبغي أن يكون نائيا كفاية بذاته.. وان هذا يعني النأي إلى أبعد ما يمكن".
لقد ساق ادوارد لوسي سميث هذا المقطع على لسان جيرنبرنج في كتابة ما بعد الحداثة للتأكيد على الغاية من النأي والابتعاد عن الجذور التقليدية لماهية الفنون التي تعبر الاجماع العام عليها بمثابة قدسية لا يمكن ان يطالها التغيير، بما تحققه من تناسق في هوية تحققها ووجودها، وما تسعى هذه القدسية لتحقيقه من صرامة كانت هدف فنون التغيير منذ الستينيات وماتلاها تأكيدا على صراع الانسان الوحيد في هذا العالم ومواجهاته التي اضحى عليه ان يجد لتحقيقها باعتبارها هدف خلاصه ومحور ابداعه الذي عليه ان يعيد صياغة ابتكاره من جديد.
آلات حادة
التشكيلي حسن شريف الذي درس الفنون الجميلة في مدرسة (بايم شو للفنون) في لندن – بريطانيا منذ نهاية السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات كتب شهادته التالية في الكتاب الذي حرره عن تجربة الإمارات (آلات حادة لصنع الفن):
"أحسست ابتداء من عام 1982 ان الكثير من اللوحات التشكيلية سواء الانطباعية او التجريدية التعبيرية في كل مكان بدأت تفقد أهميتها لدي، إذ لم أعد أحس بأي متعة بصرية عند مشاهدتها.
وشعرت بأن هناك فجوة بين اللوحة وبين النحت التقليدي، ويجب البحث عن العمل الفني في هذه الفجوة، ومنذ ذلك الحين بدا لي إن العمل الفني ليس هو اللوحة ولا النحت بل هو (شيء آخر) هكذا حاولت ملء هذه الفجوة.
كل تجربة قادتني إلى تجربة أخرى، واعتقد أن جميع الاعمال التي انتجتها منذ عام 1982 وحتى الآن هي تجربة واحد مستمرة، وأحيانا أعود إلى بعض الاعمال القديمة التي كنت قد عرضتها سابقا واستمر في استكمالها بعد توقفي عن انتاجها لسنوات طويلة... صنع هذه الاعمال هو عبارة عن فعل واحد متكرر دون توقف، ولا يتطلب جهدا عضليا ولا أي انفعال جسدي آخر، نحن هنا بحاجة إلى حركة اصابع اليدين فقط، وهذه الحركة شبيهة بالعزف على آلة وترية، ولكن الفارق انها تعزف بدون مهارة لانه عزف على وتر واحد متكرر وبدون توقف.
الميزة الأخرى لهذه الاعمال هي انها تفتقد لبداية ولنهاية، لهذا فهي مستمرة إلى الابد، وتظل تشبه النموذج الاول دائما، واحس خلال انتاج هذه الاعمال انني وصلت إلى ادنى قدر من (الانتباه) حيث يتحول العمل إلى (عملية آلية أو أوتوماتيكية) لهذا فهي ليست منظمة، بمعنى أنني قد أرتكبت العديد من الأخطاء اثناء العمل، ولكن هذه الاخطاء تساعد العمل في النهاية، وهي تختلف عن اخطاء (الفن النظامي) الذي هو رياضي لا شعوري بينما هذه الاعمال شعورية وحسية لكنها تفتقد إلى (الانتباه) الذي يرافق عادة أي عمل فني... هكذا أرى ان الاخطاء في عملي تتحول إلى جمال.
قد تتشابه هذه القطع، ولكنها غير متكررة. كل قطعة لها خاصيتها لأنها وجدت في زمنها الخاص، فكل غرزة ابرة اثناء ثقب الورقة تختلف عن الغرزة الاخرى لان زمنها مختلف... تأمل – مثلا – حركة ابرة ماكينة الخياطة... انها حركة قصيرة وسريعة جدا، وهي بذلك تختزل الزمن الامر الذي لا نجده في ضربات الفرشاة أثناء الرسم لصنع عشرين ثقبا أو أكثر... نحن لا نحتاج إلا لثانية واحدة (طلوع ونزول ابرة ماكينة الخياطة) لكن الاختلاف بين غرزة واخرى هو اختلاف في الزمن، حتى اذا كان في أجزاء من الثانية... بالرغم من كل ذلك فإن هذه الاعمال استغرق في صنعها عدة شهور... كم من الوقت (اهدرت) كي انتج هذه الاعمال؟ .. قد يفكر المشاهد انني (اهدرت وقتي) ولكن في الحقيقة فإن الناس ينشغلون وينهمكون في اعمال يومية مكررة قد يطلقون عليها (واجبا يوميا) دون أن يفكروا أنهم احيانا (يهدرون الوقت).
الحياة تأمل متواصل
ويواصل التشكيلي حسن شريف: "انني اثبت اوراقا او اتخيل لاغير، نعم لقد اهدرت الوقت في التأمل... ولكن أليست الحياة تأملا متواصلا". اذا كان يشير حسن شريف إلى فرديته في انتاج عمله محيلا الامر إلى فنون الانساق لا المواد باعتبار الزمن المتغير الرابط الاوحد، فإن الدعوة إلى ايجاد الأفكار كانت هي السابقة على توصيف تحولاته التي استفادة من فضاء تحققها كمفهوم ومن فرادانية منتجها كموضوع غالبا ما أشار حسن إلى غيابه رغم الان الاشارة واجبة إلى تحقيق فردية الفنان كموضوع أولي للعمل الفني المنتج. ان الوصف الابتكاري لما يحققه الفنان إنما هو صدى لرغبة تغييرية جامحة طالت أحاسيسه وأفكاره في الاتجاه الذي في الغرب حيث كان النصف الثاني من القرن العشرين صدى لحركات بصرية وفكرية غاية في الضآلة تواترت في تحققها بسرعة (التعبيرية التجريدية، التجميع والتجهيزات الفراغية، البوب والفنون الشعبية، الفنون الذهنوية، فنون مافوق الواقعية، التعبيرية الجديدة، رسم اللون، الأوب آرت والفنون البصرية، الفنون الحركية، التقليلية) وكل ما يمكن أن نشير اليه من تطورات نشأت فيما بين هذه الفنون بالتماس معها او التقاطع مع افكارها، إلا أنه لا يمكن لاحد أن ينكر الامتداد الطبيعي لهذه التوجهات في بعضها حيث يكون الانقطاع خروج على معاني التاريخ ووقوع في مطبات الصدفة والمفاجأة، فالتعبيرية التجريدية – مثلا – تمتد إلى السوريالية، بينما يمتد فن التجميع والفن الشعبي إلى ما قبل السوريالية (الدادائية)، ويمتد الفن البصري (أوب آرت) إلى الباوهاوس، أما فنون التقليلية فتجمع الدادا إلى الباو هاوس، وهكذا أضحى لنا الحق أن نشير إلى أن الفن قد راوح في مغامراته المتلاحقة هذه بين (الشخصاني المتطرف واللاشخصاني) في صراع الانبعاثات الاسلوبية على حساب المضامين والتي باتت منبوذة.
الناقد والمؤرخ ادوارد لوسي سميث الذي اجتمعنا معه (أنا وحسن شريف) في عضوية تحكيم بينالي الشارقة الدولي الثالث للفنون يرى "إن المحاولات المبذولة لتصنيف فن الثمانينيات من هذا القرن كـ "ما بعد الحداثة" وليس "حداثة" لم تكن مقنعة، فحتى الفن الذي يتمرد على مقاييس الحداثة القائمة لا يزال يعترف ضمنا بالتقليد الحداثوي المتواصل، فالتجديد انما يتخذ له موقعا داخل الاطار العام المؤسسي، وفن هذا العصر تميز أكثر ما تميز في انطلاق بالافكار القائمة فعلا إلى آفاق أكثر تطورا لا إلى ابتكار جديد... هذه العملية من المبالغة والتحجر ولدت عددا من المواقف المتضاربة جدا إزاء الفن والفنانين في اوخر القرن العشرين".
التجريد والمغامرة
ان تأكيد حسن شريف على الزمن الذي ينسج منه بقاياه البصرية والتي تتكرر (ايقاعيا ونبضيا)، هذا التأكيد يحمل في طياته تخيلا جديدا للعمل التشكيلي العربي، إذ لم تستطع أورقة الفنون أن تقدم مثل الحماس اللاتقليدي لإذكاء روح التجريب والمغامرة الابدايعة – وخاصة – فيما يهم اعادة الاعتبار المجتمعين للفنان بعد أن نأى به عمله الفني ورماه خارج لعبة الفن او ما نطلق عليه عادة مختبر الفن المولود للأخيلة الفنية.
الفنان الذي يمنح ذاته كليا للتغيير، يصطدم بقوة ومنذ الستينيات بالمتلقي المندهش بالتطورات العلمية والتقنية، ما أدى به للخروج من ساحة الفعل الابداعي كمشارك فعلي ليتحول إلى ممارس وهمي لنظام الابداع الجديد بعد ان بدأت تستلب ذاكرته محطات التطور التقني في خطة لتغيير امكاناته التخيلية لاستبدال نظام الرؤية التقليدية بنظام جديد لا يفترض الشكل هدف العملية الفنية وانما الموقع سواء أكان هذا الموقع واقعيا او مفترضا. وهكذا اضحى الفنان ايضا كمنتج للمادة البصرية ومركز التغيير والبث الذهني، اضحى مولدا لرموز تمثيلية يبثها إلى زمان وفضاء المتلقي بدلا من التوجه إلى المتلقي مباشرة.
وهذا ما فعله حسن في اسلوب بناء لغته المتكررة والتي تخضع ليس لسلطة الزمان وحسب بل وسلطة المكان او الحيز الذي يتجاذب سرديته البصرية مع فضاء مشترك لكل من العمل المنتج والفنان الذي اعتاد قراءة متخيل الانسان بلغة الصمت الاسطورية التي تقوده في نسيج بصري لا نهائي يطليه التراخي... وقد كتبت منذ فترة اننا اذا افترضنا ان حسن شريف يعتمد "الزمن المتراخي" أو "الزمن الاكثر شدا" لتقديم عمله الفني، فإنه يعتمد على تكرار وتطويل المادة العادية التي يستعملها، في مقابل تكثيف اللغة غير العادية التي يركز عبرها سرده للتحدي الظاهر لفضاء العمل الفني، ومكونات المتلقي الثقافية، وبنية الدلالات في لغته البصرية، لبناء نسيج الرؤية المفتوحة على جماليات الراهن الفلسفية، وحركية المستقبل التائهة بين الانتاج والاستهلاك كمفهومين نقديين يعتمد عليهما الفنان لفهم (العصر) و (الفضاء الفني) لضجيج الحياة، وعواطف الذاكرة المبتورة عن حاملها الاساسي.
إن (الشيء) أو (العمل) أو (التنصيب) الذي ينتجه الفنان، هو في مؤداه صورة مرئية، سواء علقت على الجدار او تكبلت في الأرض، أو ضمن علب مغلقة أو في وسط نهر جار أم على حافة جبل شاهق فهي علاقة سيميولوجية مبنية على (علاقة مادة التعبير باشكال التعبير) وعلاقة الاثنين بمضمون ورسالة هذا التعبير... وهذه الاشارة، أو مجموع الاشارات انما تحاول فتح الباب واسعا على إغراء المشروع الناهض لسلطة المكان.
في تصريحات الفنان وشهادته المتواصلة، كان يؤكد على نفي الصورة التي باتت موئلا فاصلا للتعبير في زمن العراء التقني، وتقف هذه الشهادات لتبتر الاتصال بصيرورة الصورة (المرجع التشكيلي البصري) والمفسر الأول (للحيرة الروحية) التي عانى منها الانسان في تطوره الحضاري، ويقع هذا النفي للصورة في اطار تعويضي غربي مارسه الفنان في اوروبا وامريكا لتعويض الشحنة العاطفية الذاتية التي فقدتها الانسانية وهي تبني الحياة الموازية لوجودها، ليس عبر الطبيعة وقوانينها بل عبر قوانين الوهم والافتراض المفتوحة على المستقبل وعلومه والانحياز بلهفة إلى المفهوم لتأمين اعلى سرية من الاتصال الجمالي المسحور بالانسلاخ عن النفعية، وبطبيعية الحال فإن نفي حسن شريف لهذه الصورة اضافة إلى التأثر بالحركات الغربية وتوجهاتها، انما يشير إلى التأزم الحضاري الذي يعيشه المثقف العربي الحائر في توجهه ما بين اشراقات روحه وبصيرته، وبين الانفتاح على متغيرات العصر في مجالات الفنون المجازية.
انفجار العصر
من الذي يفكك العلاقة بالجمال التقليدي؟ وهل النظر إلى الفن في العالم بات سلفيا، أم أن ما ينتجه الفن اليوم يعبر عن واقع مخالف للأسس التي أدت سابقا لانتاج الفنون المعروفة التي حازت على حميمية المشاهد وتعاطفه... وهل تشكل اعمال مثل اعمال حسن شريف تحديثا للذوق العام بدعوتها للخروج على أعراف العرض والتلقي خارج اسوار المتحف التقليدي... تصور جديد يعكس اغتراب الذات في واقعها بنتيجة تعقد العصر وتشابك مفرزاته الأيديولوجية والفكرية، هكذا تنظر إلى حسن شريف كفنان يسيطر عليه انفجار العصر... ليس الفن متاهة طالما الفنان هو الوعي الداعي إلى الحياة والرغبة بها.
الانسان، الصحراء، البحر أقاليم ثلاثة تشكل محورا لموضوعات الفن في الإمارات، وكل ما ينتجه الفنان حسن شريف ومجموعة الفنانين الذين ينتجون أعمالهم في الاتجاه الذي يمضي به انما ينتجون اعمالهم من وحي هذه الشساعة وهذا العمق وهذا البعد اللامتناهي للبحر واعماق الصحراء... الانسان في مواجهة الفراغ، والإنسان في مواجهة العمق... مواجهات تضع الفنان في مواجهة قاسية مع رغبتهم بوعي المجتمع السائر نحو الاستهلاك وعالم ما بعد الحداثة كعالم جديد.. انها محاولة لاحياء الذاكرة وربطها بالانتماء بلآلىء البحر ورمال الصحراء التي تغطي اطراف الحياة.
يقول حسن شريف: لقد كان لدراستي في بريطانيا تأثير كبير على فني وفكري... كان ذلك في العام 1979 واذكر المحاضرة الاولى في الفترة التمهيدية... لقد رأيت شرائح فيلمية لفان جوخ وسيزان والانطباعيين وغيرهم... وفجأة رايت أعمالا لمارسيل ديوشان وكازيمير ماليفيتش الامر الذي دعاني للتساؤل مباشرة. لماذا ينتج هؤلاء اعمالا بهذه الطريقة... لقد بدأ بحثي حينذاك في اعمال ديوشان حتى آخر سنة دراسية وقد كان بحثي النهائي عنه... لقد تعمقت كثيرا في اعماله وكونت بذلك حسن شريف الذي ينتج اعماله... لقد أوفد الكثير من الفنانين إلى العراق ومصر وسوريا وامريكا وبريطانيا... وعادوا ... ألا يحق لهم أن يجربوا بعد الدراسة وبعد كل هذه الفترة من الدراسة ... هل نقول أن هذا الفن ينتمي للغرب وعلينا ألا ننتجه؟
مجرد التساؤل اعتبره عرقلة لمسيرة الفنان من الناس... انهم يتهمونني بالغرب دائما ولهذا أقول: كل رسام انطباعي أو تسجيلي يتعامل مع عناصر اللوحة الغربية ويجب ان نعترف بأن اللوحة بمفاهيمها الجديدة هي عمل غربي ولا بد أن نتفق على ذلك.
معرض رباعي
وحول ما أثير عن جماعة تقتدي بفنه المخالف والمغاير يقول: لم نحاول أن نؤلف جماعة... بمعنى لم يكن هذا الهدف سابق لوجودنا انها محاولات لخمسة أو ستة اشخاص نناقش قضايا الفن وقد بدأ التفاهم حين كنت اعود في الصيف.. في 1983 اقمنا معرضا "موجب سالب (+ و-)" في النادي الاهلي بدبي وكان معي حسين شريف وعبد الرحيم سالم وعبد اللطيف الصمودي وقد حقق هذا العرض الرباعي اعمالا مختلفة لكل منا، بعد ذلك لا بد من تذكر مرسم المريجة في الشارقة حيث اقمنا انا وعبد الرحيم سالم معرض اليوم الواحد بالاضافة إلى تواجد مجموعة من الشباب اذكر منهم خالد بدر عبيد، نجوم الغانم، احمد راشد ثاني، ناجي الحاي، انهم الآن في الساحة الابداعية، والثقافية سواء في المسرح او الشعر او غيره .. لقد اقمنا معارض في السوق المركزي في 1984 وقد استثمر نشاطنا بالمشاركة في المعارض البيناليات خارج الدولة وكنا نسجل حضورنا المتميز داخل الدولة أيضا.
الفن لغة لها رموزها ودلالاتها، واللغة تقود إلى المعنى والجوهر والعلاقة فيما بين الشكل والرمز والجوهر تستلزم استنفار الوعي لتحقيق التجانس اللازم والاسيضحي العمل الفني خارج امكانيات هذه اللغة. أي خارج امكانيات التعبير وسيغدو خطابه ليس على مقدار هيئته بل على مقدار الفراع الذي يحيطه غياب المعنى الذي ينفي وجود المتلقي كمفكر يتعقب الشكل والرمز والجوهر في هذا الاطار فلكل فن من الفنون وظيفته التي يؤديها وهذه الوظيفة هي التي تجعل الفنان يلجأ إلى اسلوب تعبيري دون آخر يدور في تقلباته ليضع يده على ما احتجب من موضوعات أو كل ما يتحدى التصور والخيال.
في العام 1985 أو 1986 كانت طاقتي باتجاه انتاج اعمال مملة، وقد انتجت اعمالا من المستحيل ان أقوم بانجازها حاليا ولهذا فأنا احتفظ بها. لقد كان انتاجها اشبه بالعزف على وترين بشكل متكرر وممل فعلا، حاليا يختلف الأمر عن العام 1986، الان استخدم الكرتون المستخدم سابقا لأعمالي الاخيرة التقطت موادها من الشارع، إنها مجموعة (كراتين) لمواد مستهلكة، حتى الاشارات الماركات ابقيت عليها ولم اغطها واستخدمها دون الاشارة إلى ذلك لكني امنحها الموضوع والبعد الفني.. ما انتجه اسمية اشياء وليس عملا تركيبيا ورغم توفر المواد في البيئة إلا أنني لا أسمي ما أنتجه فنا بيئيا .. قد يكون الفنان محمد أحمد ابراهيم أقرب إلى فنون البيئة فهو يتعامل مع الشجر والحجر والامكنة.. وكذلك عبدالله السعدي الذي يتعامل مع المكان (المقهى في خورفكان).
البحث عن الجديد
ويستمر حسن شريف في حديثه قائلا: التغيير موجود، ومن الصعب ان احدد الجديد في اعمالي، وقد ترون انها منذ عشر سنوات مازالت كما هي، واليوم يمكنكم متابعة الجديد لدى غيري كمحمد كاظم الذي يتحدث عن السير الذاتية والصور الفوتوغرافية.. انا لم اتطرق إلى كل هذا.. الآخر يتابع الطريق بالتجديد فيما بدأته. واعمالي ستبقى كشيء يذكر وليس في اهتمامي مطلقا البحث عن الجديد. ومن يبحث عن الجديد عليه أن ينظر إلى الفترة الزمنية منذ العام 1983 وحتى اليوم.. وما دام الغد سيأتي فإني انتج الجديد وهنا لا بد أن انوه بكتاباتي والجوانب النظرية التي اعمل عليها، لقد استخدم حسين شريف العلب بكشل مخالف وجديد لم يخطر على بالي مطلقا وقام بعرضها باسلوبه الجريء.. عبدالله السعدي ومحمد احمد ابراهيم وغيرهم كمحمد يوسف مؤخرا وكذلك عبد الرحيم سالم الذي تراجع كثيرا قدم أعمالا لا يتجاوز فيها نفسه.. السائد ممل وطبيعة الفن ان تتمرد وتقول ما هو مخالف للسائد، نحن نريد أن نقول أن هناك عقلية مملة ونظرتكم مملة وبصيرتكم مملة، ولعلنا لسنا على خلاف مع كل من يحتقر الفن الذي ننتجه لكننا ندرك ونعلم بأن ما يحتقره الآخرون هو الفن ولا بد من نشره. انا اطبق كافة تعاليم تعلم الفن على المبتدئين وقد حدث ان حمل بعض الشباب اي شيء لعرضه وقد واجهتهم بالصد.. أمر آخر لا بد ان ننوه اليه، المتحف، متحفنا تقليدي، بناؤه تقليدي، لم استطع ان اعرض عملا لمحمد كاظم مؤلف من رمل وتراب قالوا لا يمكن عرضه، وقد اضطررنا لادخال عناصر على العمل غيرت من تركيبته. نحن نطالب بمتحف للفن المعاصر إلى جانب هذا المتحف التقليدي او بناء ملحق له للفن المعاصر يسمح لنا عرض اعمالنا التي لا تتعامل مع مسمار على الجدار، فنوننا تنظر إلى المكان بشكل مختلف، ونحن نحترم ما هو موجود ولكننا بحاجة إلى مكان طبيعي لاعمالنا كي لا يستغرب الناظر اليها... الفنون ليست يقينية، ومازلنا نمشي في الطريق الصحيح.
إن ما يقوله الفنان حسن شريف يعبر تماما عما جرى في ابتعاد الاطراف عن المركز في الغرب "لينال اللامألوف اعتراف الجمهور الشاب حيث طفى الفن الشعبي على الفنون الاكاديمية وعمت طرز الفن الحديثة.
فنون ما بعد الحداثة عادت وتطاولت على الحركات النقدية باعتبارها الوسيط وقد قللت من الاهتمام بها وبأهمية النقاد ودعت إلى تشويش الحواس وتقديس التكنولوجيا، وقد يكون الفن اتجه في اوروبا منذ الستينيات نحو الديمقراطية ليتحلل من ماديته لهذا يقول النقاد الفرنسي (بير رستاني) بنبذ المفهوم القديم للشيء المتفرد أي (النتاج المترف) للاستخدام الفردي "يساهم الفنان في اختراع لغة جديدة للاتصال بين الناس وبالتنصل من دوره الملتبس أو الغامض بكونه مغامرا هامشيا ومنتجا مستقلا اصبح الفنان مهيأ لتأدية دوره المهم في مجتمع المستقبل "ألا وهو تنظيم الفراغ"
البداية من الذات
لقد كانت الوجودية فلسفة انسانية بحسب سارتر الذي اشار منذ العام 1946 إلى ضرورة الاقرار بالمبدأ الاساسي لفلسفته التي تقوم على أن (الوجود يسبق الماهية) أو إن شئنا القول ان علينا البدء من الذاتي، وقد حقق هذا الانقلاب في حينه مفهوم موقع الفنان من عمله ومن مجتمعه (تبني الموقف الوجودي) والبدء بالميل باتجاه اعتبار الفردية موضوعا اساسيا للعمل الفني، وقد اكد (جوزيف بويز) فيما بعد على أهمية الفردية كموضوع فقد كانت الأشياء تشهد على سياقها الخاص أكثر من كونها اشياء "تحاول أن تستقبل بذاتها، فهي ممتعة ماديا ونفسيا لا شكلا وتكوينا" فبويز – حسب ادعائه – متكافىء مع المجتمع وليس جزءا منه.
واذا كان الجمهور عندنا ما زال كما يذكر حسن شريف ينظر بتردد إلى أعماله، فإنه لا بد من العودة إلى الاسلوب الذي نظر الجمهور في الغرب إلى الاعمال المماثلة والاسباب التي دعت لاحتضان هذا النوع من الفنون هناك، وبغض النظر عن الاسلوب الذي اتبعته امريكا في سحب البساط من تحت اقدام أوروبا كمنتج تقليدي للفنون فإن اوروبا الخارجة من الحرب الثانية كانت تسعى لاعادة الاعتبار للفن والفنانين خاصة فيما اعتبر تكفيرا عما اقترفته النازية بحق الفن!! ويشير الناقد ادوارد لوسي سميث إلى ذلك مضيفا: "بان الجمهور كان مهيئا لهذه المعارض كمفردة من مفرادات الامتاع الجمالي وأضحى الفن بذلك حدثا إعلاميا وجزءا من صحافة العصر اضافة إلى الكتب المختلفة التي ساعدت على تثقيف الجمهور بل إن الفن بعمومة كان يخوض إلى جانب تأمل الذات اسطورة الحداثة التي ورثت مما قبل الحرب. وهكذا اصبحت المعارض الدولية الكبيرة على صلة وطيدة برعاية الدول (بينالي البندقية... بينالي الشباب في باريس – بينالي ساوباولو – دوكيومنتا كاسيل في المانيا) وأضحت هذه المعارض مجال مفاخرة دولية، فسعت الدول النامية لتقليدها خاصة والثقافة التقليدية في هذه البلدان في انحسار وتراجع مما جعل المثقف يقتدي بأمثلة واضحة استمدها من الطرازين الاوروبي والامريكي وهذا ما جرى في اليابان وامريكا الجنوبية. (جيرويوشيها – التجريدية اللانمطية وجداريات دييجو ريفيرا في المكسيك).
إن حسن شريف وهو يشير إلى اهمية كتاباته النظرية في توطيد دائم تجربة مجموعته انما يحاول ان يستمد القوة والحضور من الشواهد التي يكرر على مسامعنا تأثره بها وتفكيره بمؤداها ولهذا فقد كتب في (الفن الجديد) عن دونالد جود: (بالرغم من ان النقاد يهاجمون اعماله، يصر دونالد جود على أن ينتج اعمالا غنية في الصراحة والمباشرة عن اعمال التعبيرية التجريدية. ويعتقد دونالد جود بأن الاعمال الحديثة للاوروبيين من سيزان إلى بول كلي وحتى تجريدية كاندنسكي بالاضافة إلى اعمال التجريدية التعبيرية، تخلق عند المشاهدة عادة سيئة وهي أنه – أي المشاهد – يتعذر أن يرى العالم بطريقة صحيحة لأن هذه الاعمال – أي الاعمال التي سميت حديثة – تخاطب شبكية العين فقط، - هذه الاعمال تشجع المشاهد ليفكر بطريقة ايقونية، ويتعذر عليه قبول العمل الجديد لانه يفكر دائما في موضوع العمل او طريقة مزج الالون، حتى في حالة اعمال كاندنسكي 0 وعلى المشاهد أن يضحي بهذه الاشياء (مثل الموضوع وطريقة المزج اللوني التي تخاطب شبكية العين من اجل الوصول إلى شيء آخر وهو "الصرامة والمباشرة").
يرى بعض النقاد ان تصويب التصور نحو الجمال مسبقا هو طرد اللامعقول ونفي للعبث والفوضى وليس من الصواب القول بأن الفن المعاصر هو محاولة للانفلات بل هو خط معقولي يستعمل الطاقة الابداعية الهائلة للوصول إلى العقلانية.
والاعمال المجسدة للاشياء تكتسب قدرة هائلة على التحريض التصوراني وعلى التشكيل والتشكل والانتظام والتغير ضمن الاسس الجمالية التي تعبر عن روح العصر القلق وروح العصر المتوثبة نحو الكمال والابداع وكل ما نراه مجتمعين سنكون قادرين على وصفه انه إذن في اطار المعقول وامكانات اللغة الفنية التي لا تكتفي بالحسن والبهاء والجلال بل وانكشاف العقل على كافة وسائل التعبير، والجوهر المحتجب بوجود العمل الفني المادي الظاهري والذهني الرمزي الذي يساعدنا على التصور.
الرحلة إلى الشرق
يقول حسن شريف: اشبه نفسي بإحدى اعمال هيرمان هيسة (الرحلة إلى الشرق) انها مجموعة مسافرة من الغرب إلى الشرق، هدفهم واحد ونحن كمجموعة تمتلك هدفا واحدا هو تغيير المفهوم السائد عن الفن البصري... ونحن كمجموعة هيسة، هدفنا واحد ولكل منا خصوصيته في مجموعته من يحب جمع الثعابين، آخر يحب البحث عن الحشرات وآخر يقف امام نهر ويتأمل.. اننا نؤكد على المحلية.. بل يمكن القول جازما بأننا أكثر الفنانين التزاما بهذه المحلية الدقيقة.. اعمال السعدي مبنية على شرط محلي (رسائل أمي) ... محمد يوسف وانا وبقية الزملاء اوفياء لهذه المحلية وللاشياء المحيطة بنا والموجودة قربنا.
غايتنا دمج الفن والشعر والمسرح والموسيقى والسينما. والسياسة والاعمال ببعضها البعض، نحن اكثر شمولية حين ندعو الناس لمساعدتنا في انجاز عمل فني، هكذا ينخرط المجتمع في الفن. نحن لا نتقوقع في استوديوهاتنا وورش عملنا... نحن نسجل الواقع ... بل نحن مع الواقع وتفاعلنا معه اشد.
حسن شريف يدفع الافكار القائمة إلى آفاق اكثر تطورا، اكثر مما يحاول أن يقدم ابتكارا جديدا، وكما حاول وارهول في العام 1946 (تسوق الغامض) بالاشارة إلى تحولات الانسان نحو تسليع الفنون في صناديقه فإن صفة التحدي للمجتمع لم تفارق أيا من الانقلابيين الذين ازاحوا الفنان عن موقعه المجتمعي والوجودي.. فصفة الانقلابية صفة لازمة في التحدي الذي اشرت اليه في اكثر من موقع وقام الفنان حسن شريف بالاشارة إليه برفض الحرفة في العمل الفني حيث يكون الشرط الوحيد لانتاج الاشياء هو الوعي فقط. كما ان هذا التحدي مستمر من مواقف الفنانين في الغرب الذين دعوا لعدم الجبن ازاء التغيير ولهذا ينقل حسن شريف ما كتبه مانزوني ويثبته في كتابه (الفن الجديد):
"العيب الوحيد الشائع بين الكثير من الفنانين هو نوع من الجبن العقلي، وهذا الجبن العقلي يمنع هؤلاء الفنانين من أن يلعبوا دورا اكثر جدية في عملهم الفني. هذا الجبن يجعلهم بلداء في حياتهم، وهكذا في عملهم وفي رؤيتهم فرؤية هؤلاء الفنانين للفن رؤية غامضة ومبهمة، وهذه الرؤية تنعكس في اعمالهم ولهذا السبب فأعمالهم ناقصة ورديئة".
الدعوة للحوار مع حسن شريف مستجابة دوما، وهو يبدي جرأة كبيرة في طروحاته حول الابداع والوعي بظروفه التي تقتضي غالبا رفض النظم والتوازنات والثوابت التقليدية للعمل الفني ورؤية العالم بشكل مخالف للمخاطبات البصرية المتعارف عليها... إن حسن شريف وهو يمتحن مشاهدتنا البصرية للعمل الفني يفاجئنا بإعلاء لهجة الصمت، لغة التبادل المعلوماتي ما بين العمل والمتلقي.. انها مرحلة تبادل الاسرار.. والبساطة المفرغة من معانيها الباطنية.