الفرق بين المراجعتين لصفحة: «ويكي مصدر:الميدان/أرشيف 2012»

تم حذف المحتوى تمت إضافة المحتوى
الرجوع عن التعديل 25413 بواسطة 86.96.226.86 (نقاش)
سطر 156:
 
:وصل ويكي مصدر العربي إلى المرتبة 21 شكرا للمساهمين النشطين والبوتات السريعة --[[مستخدم:Wikimyth|Wikimyth]] 18:16، 23 ديسمبر 2008 (UTC)
 
== الفنان السوري الراحل عبد اللطيف الصمودي ==
 
رسم بالموازين وحرر الرمز من غربته
 
طلال معلا
 
 
عمارة الضوء
العمل الفني حياة مستقلة ، ولا بد من أن يمتلك حيوية ذاتية ليستطيع بث التعبير المخطط له ، والذي هو شرط لانعكاس قيمة الحياة ، بكل ما فيها من مفاهيم طبيعية ، حركية ، وثقافية .. إن هذا الشرط ، هو بالتحديد الطاقة الكامنة ، التي تميز عمل فنان عن آخر ، وبالتالي فإن الوظيفة التي يشتمها بعض النقاد ، تكون غائبة بكليتها في تلك الطاقة الكامنة ، ولا يعبر عنها إلا حشد الرموز ، والخطوط التي ترمي بنظرها إلى فن العمارة ، كما في أعمال عبد اللطيف الصمودي ، العمارة التي تجعلنا نتواصل مع دهشة اكتشاف النور في التصاميم التي يقدمها المشهد العام للوحة ، الممتدة على فراغ الزمن ، الذي يراه الفنان كتلة مزينة باللحظات التي تنسجم فيها معرفته ، مع حاضره الخاص الذي ندعوه مجازاً حاضراً صوفياً نقياً ، يغيب فيه الفنان عن ركام التنظير والاستهلاك الإنساني .
كنت أرى في مراحل الصمودي الأولى ملامح الأساليب الفنية التي كرست الإنسان كمصير يتنوع بتنوع المذاهب والمدارس ، إلا أن عظم الموهبة اعترض طريق التشخيص والتجسيم لمصلحة جدل الحضارة التي تقتضي أن يستسيغ الفنان مصيره أولاً ، وعصره ثانياً ، لتقديم الحقيقة الواضحة لنظرته إلى التاريخ ، الذي ينشأ أساساً من معاصرتنا لمفاهيمه ومحاولة الخروج به إلى البناء النفسي للعمل الفني ، وهذا ما استدعى الصمودي ليكرس الاتصال بالموتيف الإنساني الرمزي الذي عبر به ومن خلاله ، عن اللغة الأقوى والأسمى لبناء الاختلاف والتمايز عن الإدراكات ، أو الرؤى السابقة كافة ، ويحول الخط من محيط يحتوى المعاني الأدبية للصورة أو المعاني التشخيصية لما سبق الاصطلاح عليه إلى محيط للمعنى الرمزي لقيم التجريد الدلالية ، التي بدأ التركيز عليها الفن الإسلامي أساساً لبناء شخصية التقطها مباشرة معظم الذين نوه بهم تاريخ الفن ، الأمر الذي جعل مهمة الصمودي أكثر تعقيداً من جهة ، وأعطاه القدرة على التميز في محيط الفنون العربية المعاصرة من جهة أخرى .
يجدر بنا أن ننظر إلى تطور الفنان عبد اللطيف الصمودي من ناحيتين : التقنية ، والأسلوبية ، فقد بدأ رحلته اللونية مثلاً بالألوان المركبة التي تشي بعالم تعبيري حتى في أشد احتمالات قربها من منطق التصوير المباشر ، وكلما كان يوغل في عزلته عن العالم المتحرك حوله ، كان يجد لنفسه مساحة للتجريب ، ولتدريب الحس على ملامسة الأهداف التي كان يرمي إليها في محاولة للبحث عن الأشكال والفراغات التي سيؤسس لها حقاً وهو يدخل في عالم مفعم بالموسيقى الداخلية بصرياً ، مما أدى إلى رفع وتيرة الإحساس بالزمن ، كنموذج يختلط فيه إمكان التعديل المستمر للنبرة البصرية إضافة إلى استمرار الفكر على ضخ ما يدعى بالهوية الشخصية للفنان ، التي تكون عرضة للتغير الداخلي لإنجاز ما سندعوه تطور الإحساس بالعالم سواء الداخلي ، أم الخارجي ، ومدى قدرته على تصعيد وتائر الإحساس بالمتغيرات الإنسانية التي طرأت على هيكل المعرفة المنجزة والتي بدأت تطرد مسافات تغيرها بتوقيعات إنشاء الرموز الخاصة به .
لقد كان وعي الصمودي لمفردات الإيقاع الزمني يعتمد على اليقين بأن الجديد يكمن دائما في ولوج أعماق أدق التفاصيل ، تفاصيل الزمن المعاش ، الذي يمنح نزقه وآنيته لغاية أسمى من الزائل ، والراهن ، ولهذا فإن الجدة لديه بقيت مرتبطة بالتفكير التأملي الذاتي على نحو فريــد ، منحه إمكانات تقنية تنسجم وهذا العمق التأملي ، الذي لا يمكن أن يندرج إلا في محاولات الصمودي الجادة لنقض ما ينتجه من أعمال أخرى تصنع قانونها الخاص، والإيجابي ، لإنجاح ملامح التقائه بالعصر .. وخصائصه المولعة بالتغيرات ، حيث تنقلب دائماً المفاهيم المجردة على ذاتها ، لمصلحة أبواب أوسع ، يتألق فيها لون العمارة التي تطبع الأزمنة بطابعها ، وتدعونا للتساؤل عما يختلط في رؤانا الخاصة ، ونحن نجهد لقبول العمل الفني بصريا ، بعيداً من أدبيات الشرح ، والاستكشافات التي تخلط الأمية الجمالية بالأفق الاجتماعي لفهم حالات الوعي البصري للعمل الفني .
إن ثمة من يدعو - في مجالات النقد - لعمليات تنازعية ، حول المفاهيم التي سنقبل أو نستقبل بها أعمالاً مثل أعمال عبد اللطيف الصمودي ، وقد يمارس بعضهم سلطة النقد لإفزاع أو إرهاب المبدع بخاصة حين تهيمن الأفكار المسبقة والمدسوسة لقراءة طبيعة أعماله بعيداً من المضامين الفكرية والفلسفية المرتبطة بها ، واليقين البصري الذي تطرحه مؤسسة لتشكيل مترع بالتجديد الذي يسهم في التعريف بمثل هذه الفنون : التعريف الصحيح المتوازن المؤدي إلى خلق بنية تكشف تناقضات القبول بالعمل الفني المتأرجح بين الواقع والميتافيزيق.
لقد كان للقلق والوحدة أهمية لا يستهان بها ، كمؤثرين فاعلين في بنية العمل الفني لدى الصمودي ، وهذه الظواهر هي التي اعطته إمكان خلق النبرة الخاصة ، التي تنشىء التعابير الذاتية كإشارات للتطور والاتجاه نحو التجديد والتجويد .
وبالقدر الذي كانت الوحدة فيه لاغية للزمن والشعور بتفاصيله فإن القلق كان عزفاً دائماً لبناء الحلول البصرية بألوان الزمن التي تحشد في شكلها المديني حيث ينقسم الزمن على نفسه ذرياً إلى تفاصيل متناهية في الصغر تدخل مباشرة في تكوين الإشارات التي توحي بها أشكاله التي تحاول الترابط فيما بينها لتشكيل كتابة جديدة تظهر علاقات خاصة ومتميزة عبر التجاور والتناظر والتراكب والتناحر والنقض ، وهي في كل ذلك إنما ترتكز إلى جدلية الفصل والتجميع.
إننا ونحن نحاول قراءة هذه الظاهرة أو تحليلها ، لا بد من أن نركز على أن التجميع هو غير الرصف الذي يؤدي في أغلب الأحيان إلى أشكال زخرفية لم تكن في يوم من الأيام من اهتمامات الفنان الصمودي ، ولهذا فإن الجدلية التي أشرت إليها إنما هي الطريقة التي يكشف الفنان من خلالها الاقتراحات الإبداعية ، التي يقدمها كمفاهيم حركية للخط المتماهي في كتلته وللكتلة المتطابقة مع نزوعها لبناء الرمز الذي هو هدف مباشر يفصح عن إشباعه بالرموز ، الذي لا يتوصل إليه الفنان إلا من خلال البحث عن المعاني الحركية له وامتداداتها كافة ، الجمالية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية والتقنية .
ولكي لا نتجاوز نسيج الفنان الذي يحكيه بدقة وأناة ، فإننا لا بد من أن نلمس تلك المحاولات العقلية للظهور على سطح العمل الفني كناظم للتجريد الحسي ، الذي يبدو في اللغة التأملية المتوازنة التي تطبع أسرار العمل وتسلط الضوء على اللذة الخاصة التي يتمتع بها الفنان ، وهو يرى إلى عمله قيد الانتهاء .
وطالما أن العمل لدى الصمودي يمر في مراحل بناء معماري حقيقي ، فإن هذه المراحل خاضعة للصراعات التي تشي بإشكالياتها ، وهي تضع الحلول الجمالية لبناء مناخ اللوحة وزمنها الخاصين في الوقت الذي يحاول فيه الفنان ألا يبعد هذا الصراع عن الوحدة التي تربط بين مجمل أعماله .. وهذا الأمر ليس حتمياً .. إنما هو خاضع لمدى التواصلية التي يفرضها وعي الفنان على مراحله الإبداعية ، أو ماندعوه المسار الإبداعي المؤدي إلى التراكم المعرفي الذي يفرض نفسه كخيار ينتمي حتماً إلى المستقبل المرتبط بفعل الخلق لا بفعل الصنع .
 
موسيقى الصمت
الفنان عبد اللطيف الصمودي لم يسع إلى خلق توقيعات موسيقية في أشكاله بشكل اعتباطي حتى في أعماله الأولى التي كان قد بدأها وهو في فترة الدراسة إلا أن الأشكال التخطيطية التي كان يعبر بها عن إرادته في إثارة النوازع الموسيقية كانت تضفي على البناء البصري تصميماً موسيقياً خاصاً يرتبط بحبه للسماع وتشبعه بما يمكن أن ندعوه الخضوع الودي للمقامات الموسيقية الشرقية التي ألف سماعها منذ طفولته والتي كانت على صلة عميقة بتوقيعات ظلال العمارة في حيه أو مدينته التي تبدو فيها الألوان الرطبة القصوى ممتزجة بنقاء روحي يمنح الأصوات التي تطلقها الروافع المائية الخشبية الدائرية ، نوعاً من العمق الشعري المبني على توقيعات موسيقية أو ريتمات وزنية بقيت محفوظة في قناعات الفنان ، بخاصة حين بدأ يتلمس اسلوبه المتفرد في بناء التشكيل الموسيقي الشامل والتصميم الإبداعي للجوهر الذي يمسخ الأشكال وينأى عن النواة المركزية التقليدية لمذهب التصوير من أجل اكتشاف معادلات تهتم بتوقيعات النور المطلق والنور الظاهر والنور الخفي في أركان السطوح التي يعمل عليها .
وعلى الرغم من ارتباط كل مفاهيم الرؤية بعوالم فيزيائية مباشرة فإن الفنان لم يدع لفطرته الأولى أن تخضع للقوانين الفيزيائية، بل إنه قد ذهب بعيداً في الدوران حول لهب المعنى ، والكيف ، والماورائيات التي تضفي على موجودات العمل ما ندعوه تجاوزاً " تعظيم الموجود بالمخفي " أو ما تمنحه غير المرئيات كالموسيقى للموجودات الشكلية الحسية ، وكأننا نزوق المضمون بما يتضمن ، ونبرز الخواص البصرية التشكيلية عبر نباهة ترفع من سوية العين التي تستخرج أو تخفي الأشكال في آن واحد .
في خبرة الصمودي التأملية نلمح مجموعة من وجهات النظر الشخصية التي تتسم بهالة موسيقية بصرية تعيد اكتشاف الحالة التي أمضاها في فترات شبابه الأولى ، بخاصة طريقته في التعبير عن احتجاجه على كل ما يضر بالإحساس الجمالي ولهذا فقد نشأت معه مجموعة من الرؤى التي تمجد فترات فنية سابقة في الحضارة التي ينتمي إليها ، حيث نلمح في أحاديثه ما ينعش وهو ينتقل بين إبداع الطبيعة وإبداع التاريخ هذه النشوة الراقية كانت بمثابة رد واضح ومموسق ، وموقع ، ضد التآلف مع الهمجية التي تلعن الفن والثقافة .
إن النغم المنبعث من أعمال الفنان ليس فطرياً في أية حال من الأحوال ، كما إنه ليس مباشراً في مغادرته للرمز البهي ... إنه إعادة اكتشاف لذات المرموز بكل ما تمليه عليه حضارته ، وثقافته ، بل إن القدرة على تلمس الروح الموسيقية في أعماله ، تحيل إلى ما تتيحه تلك الأعمال من مجاز شعري يؤدي إلى اعتبار اللوحة نشيداً يستحوذ على الدلالات النفسية التي أدت إلى ظهوره ، والتي تمنح مشاهدها خاصية إيجابية : هي ولوج عالم الأناشيد بتقصي التصعيد ( الروحي - البصري ) عبر قراءة الأجزاء المتناهية في صغرها ، مقابل التجمعات المتناهية في التقائها ، وكأننا في هذه المحاولات إنما نتأرجح بين الجزء في تناهيه ، والمطلق في كليته للتعبير بما وراء الجزئي عن الكلي ، لتحقيق المتعة الإيقاعية التي تحقق ماهية أعمال الصمودي . وإذا افترضنا أن النشيد البصري يؤدي إلى إنفاق الجوهر ، الذي هو شارة لاختيار إيجابي بمقابل اختيار سلبي مفترض ، فإن علاقة الجذب والتنافر إنما تؤدي إلى رسم عالمين ، الأول كتيم في بنيته المادية ، والآخر شفاف في فراغه ، وباعتبار أن الأثنين يؤديان نزوعاً حسياً ، فإنهما يولدان مدركات تفرغ الشحنة العاطفية الإيقاعية التي تختفي وراء تلك الأشكال البليغة ، التي تقدم نفسها واضحة وجلية في عالم النور الذي ينمنمه الصمودي بتأن ونشوة ، وهو غائب عن قسوة الواقع ، وهائم فوق الأمكنة التي احتوته في استقراره وترحاله .
وبعبارة أخرى ، فإن معنى الجمال في إطلاقه ، لم يرتبط بمشروع ثابت لدى الصمودي على مدى تجربته ، وهو بذلك إنما ينقض عالم الاستقرار المناقض لنهجه ، على ما توحي به أعماله - بشكل عام - من أنه يكرر أو يعيد صياغة تجربته في التنويع بين الذاتي - الروحي ، والفراغ الدنيوي العام لتكريس موسيقى الصمت التي لم تكن في أي حال من الأحوال موسيقى الاستقرار أو الثبات .
 
صدى الأصوات
ولهذا فإننا نقبل أن يتردد صدى الأصوات بين رموزه الإنسانية أكثر من قبولنا للخواء ، الذي سيلحقها جراء اعتماده عللا الكلمة التي تحيل إلى سياق أدبي ، وجو نفسي مختلف ، وهذا ما جعله يبتعد كثيراً عن المهام التي كرسها الفنانون الحروفيون .
بيد أن اتجاه الصمودي البصري نحو الموسيقى ساعد كثيراً في إقصاء الصور الذهنية التي كان يرسمها في بداياته ليصبح الرمز الموقع المقابل الصريح لطاقاته المتجهه نحو باطن المعنى ، الذي تولده حركة الرموز وتكرارها ... تماماً كما في رقصة الزار التي تبنيها حركة إيقاعية جماعية ، لتوليد التركيز على عبقرية الباطن الذي يتناهى في الفضاء الموسيقي دائراً حول نفسه ، وحول الوجود ، للوصول إلى اللحظة المتوافقة مع الزمن ، حيث ينعدم الفرق ، ويذوب المرئي في الرائي ، ويصبح الرمز هو المرموز .. وفي هذه الحال يفرض التوازن الجمالي حضوره الخاص الذي يهبه الخيال متجلياً في الموسيقى .. موسيقى المزاج الرزين الذي يبدد الموهبة بلذة في فضاء بلا أبعاد .. ودنيا بلا حدود .
لقد عرفت - عبر علاقتي الطويلة بالفنان عبد اللطيف الصمودي - أنه يرسم بالموازين ، وقد كنت أنظر إلى أدواته الاعتيادية ، وكأنها مساطر ومقاييس وموازين وأثقال يقوم بها وعبرها بدحض الإغراءات التصويرية ، وتأكيد الارتباط بأعماقه الساكنة المنظمة بهدوء اليقين لتوجيه الطبيعة إلى نقيضها ، والغريزة إلى وعي الحقائق .. ويحاول بحنكة وخبرة أن يتحول كإنسان مبدع إلى ما يشبه عمله الفني سواء في الطلقة الشعرية الكامنة التي تثير التساؤل أو في الطاقة الإيقاعية الموسيقية التي تعين على درء الاشمئزاز من الأفعال الشنيعة للإنسان على هذه الأرض .. وهذه مهمة بصيرية ويقينية تتسق والمهمة التي حاول الصمودي ان ينجزها من أجل تحرير الرمز من غربته التي فرضتها القطيعة البصرية معه ، وإطلاقها بحرية في الخيال الجمعي لتكوين القيم الجمالية ، والافتراضات البصرية ، والدهشة التي تقود إلى موسيقى حركة المعنى ... حيث أعاد الفنان صياغة نفسه ، أو بصورة أدق ( أبدع نفسه ) .