<center>'''باب في الاستغناء بالشيء عن الشيء'''</center>
هذا الموضع كثيراً ما يستهوي من يضعف نظره إلى أن يقوده إلى إفساد الصنعةالصنعة. وذلك كقولهم في تفسير قولنا "أهلَكَأهلَكَ والليلَ" معناه الحق أهلك قبل الليل فربما دعا ذاك من لا دربة له إلى أن يقول "أهلكأهلك والليل" فيجره وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليلالليل.
وكذلك قولنا زيد قامقام: ربما ظن بعضهم أن زيداً هنا فاعل في الصنعة كما أنه فاعل في المعنىالمعنى. وكذلك تفسير معنى قولناقولنا: سرني قيام هذا وقعود ذاك بأنه سرني أن قام هذا وأن قعد ذاك ربما اعتقد في هذا وذاك أنهما في موضع رفع لأنهما فاعلان في المعنىالمعنى.
ولا تستصغر هذا الموضع فإن العرب أيضاً قد مرت به وشمت روائحه وراعتهوراعته. وذلك أن الأصمعي أنشد في جملة أراجيزه شعراً من مشطور السريع طويلاً ممدوداً مقيداً التزم الشاعر فيه أن جعل قوافيه كلها في موضع جر إلا بيتاً واحداً من الشعرالشعر: يستمسكون من حذار الإلقاء بتلعات كجذوع الصيصاء رِدِي رِدِي وِردَ قطاة صماء كدرية أعجبها برد الماء كأنها وقد رآها الرؤاء والذي سوغه ذاك -على ما التزمه في جميع القوافي- ما كنا على سمته من القولالقول.
وذلك أنه لما كان معناهمعناه: كأنها في وقت رؤية الرؤاء تصور معنى الجر من هذا الموضع فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات وكأنه لذلك لم يخالفيخالف.
ونظير هذا عندي قول طرفةطرفة: في جفان تعتري نادينا وسديف حين هاج الصِنَّبِر يريد الصِنَّبر فاحتاج للقافية إلى تحريك الباء فتطرق إلى ذلك بنقل حركة الإعراب إليها تشبيهاً بباب قولهمقولهم: هذا بكر ومررت ببكر وكان يجب على هذا أن يضم الباء فيقولفيقول: الصَنَّبُر لأن الراء مضمومة إلا أنه تصور معنى إضافة الظرف إلى الفعل فصار إلى أنه كأنه قالقال: حين هيج الصنبر فلما احتاج إلى حركة الباء تصور معنى الجر فكسر الباء وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليهاإليها. ولولا ما أوردته في هذا لكان الضم مكان الكسرالكسر.
وهذا أقرب مأخذاً من أن تقولتقول: إنه حرّف القافية للضرورة كما حرفها الآخر في قولهقوله: هل عرفت الدار أم أنكرتها بين تبراك فشسَّى عبقُر وما دمية من دمى ميسنان معجبة نظراً واتصافا أراد -فيما قيل- ميسان فزاد النون ضرورة فهذا -لعمري- تحريف بتعجرف عار من الصنعةالصنعة. والذي ذهبت أنا إليه هناك في "الصنبِرالصنبِر" ليس عارياً من الصنعةالصنعة.
فإن قلتقلت: فإن الإضافة في قوله "حينحين هاج الصنبر" إنما هي إلى الفعل لا إلى الفاعل فكيف حرفت غير المضاف إليه قيل الفعل مع الفاعل كالجزء الواحد وأقوى الجزأين منهما هو الفاعل فكأن الإضافة إنما هي إليه لا إلى الفعل فلذلك جاز أن يتصور فيه معنى الجرالجر.
فإن قيلقيل: فأنت إذا أضفت المصدر إلى الفاعل جررته في اللفظ واعتقدت مع هذا أنه في المعنى مرفوع فإذا كان في اللفظ أيضاً مرفوعاً فكيف يسوغ لك بعد حصوله في موضعه من استحقاقه الرفع لفظاً ومعنى أن تحور به فتتوهمه مجروراً قيل هذا الذي أردناه وتصورناه هو مؤكد للمعنى الأول لأنك كما تصورت في المجرور معنى الرفع كذلك تممت حال الشبه بينهما فتصورت في المرفوع معنى الجرالجر.
ألا ترى أن سيبويه لما شبه الضارب الرجل بالحسن الوجه وتمثل ذلك في نفسه ورسا في تصوره زاد في تمكين هذه الحال له وتثبيتها عليه بأن عاد فشبه الحسن الوجه بالضارب الرجل في الجر كل ذلك تفعله العرب وتعتقده العلماء في الأمرين ليقوى تشابههما وتعمر ذات بينهما ولا يكونا على حرد وتناظر غير مجد فاعرف هذا من ومن ذلك قولهم في قول العربالعرب: كل رجل وصنعته وأنت وشأنكوشأنك: معناه أنت مع شأنك وكل رجل مع صنعته فهذا يوهم من أمم أن الثاني خبر عن الأول كما أنه إذا قال أنت مع شأنك فإن قوله " مع شأنك " خبر عن أنتأنت.
وليس الأمر كذلك بل لعمري إن المعنى عليه غير أن تقدير الأعراب على غيرهغيره. وإنما "شأنكشأنك" معطوف على "أنتأنت" والخبر محذوف للحمل على المعنى فكأنه قالقال: كل رجل وصنعته مقرونان وأنت وشأنك مصطحبانمصطحبان. وعليه جاء العطف بالنصب مع أن قالقال: أغار على معزاي لم يدر أنني وصفراء منها عبلة الصفوات ومن ذلك قولهم أنت ظالم إن فعلت ألا تراهم يقولون في معناهمعناه: إن فعلت فأنت ظالم فهذا ربما أوهم أن "أنتأنت ظالمظالم" جواب مقدم ومعاذ الله أن يقدم جواب الشرط عليه وإنما قوله "أنتأنت ظالمظالم" دال على الجواب وساد مسده فأما أن يكون هو الجواب فلافلا. ومن ذلك قولهم في عليك زيداًزيداً: إن معناه خذ زيداً وهو -لعمري- كذلك إلا أن "زيداًزيداً" الآن إنما هو منصوب بنفس "عليكعليك" من حيث كان اسماً لفعل متعد لا أنه منصوب ب "خذخذ".
ألا ترى إلى فرق ما بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى فإذا مر بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه وإن كان تقدير الإعراب مخالفاً لتفسير المعنى تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه وصححت طريق تقدير الإعراب حتى لا يشذ شيء منها عليك وإياك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه ألا تراك تفسر نحو قولهمقولهم: ضربت زيداً سوطاً أن معناه ضربت زيداً ضربة بسوطبسوط.
وهو -لا شك- كذلك ولكن طريق إعرابه أنه على حذف المضاف أي ضربته ضربة سوط ثم حذفت الضربة على عبرة حذف المضافالمضاف.
ولو ذهبت تتأول ضربته سوطاً على أن تقدير إعرابهإعرابه: ضربة بسوط كما أن معناه كذلك للزمك أن تقدر أنك حذفت الباء كما تحذف حرف الجر في نحو قولهقوله: أمرتك الخير وأستغفر الله ذنباً فتحتاج إلى اعتذار من حذف حرف الجر وقد غنيت عن ذلك كله بقولكبقولك: إنه على حذف المضاف أي ضربة سوط ومعناه ضربة بسوط فهذا -لعمري- معناه فأما طريق إعرابه وتقديره فحذف المضافالمضاف.
[[تصنيف:الخصائص]]
|