<center>'''باب في عكس التقدير'''</center>
هذا موضع من العربية غريبغريب. وذلك أن تعتقد في أمر من الأمور حكماً ما وقتاماً ثم تحور في ذلك الشيء عينه في وقت آخر فتعتقد فيه حكماً آخرآخر.
من ذلك الحكاية عن أبي عبيدةعبيدة. وهو قولهقوله: "ما رأيت أطرف من أمر النحويين يقولونيقولون: إن علامة التأنيث لا تدخل على علامة التأنيث وهم يقولون علقاةعلقاة" وقد قال العجاجالعجاج: فكر في علقي وفي مكور يريد أبو عبيدة أنه قال "فيفي علقي" فلم يصرف التأنيث ثم قالوا مع هذا "علقاةعلقاة" أي فألحقوا تاء التأنيث ألفهألفه. قال أبو عثمانعثمان: كان أبو عبيدة أجفى من أن يعرف هذاهذا. وذلك أن من قال "علقاةعلقاة" فالألف عنده للإلحاق بباب جعفر كألف "أرطىأرطى" فإذا نزع الهاء أحال اعتقاده الأول عما كان عليه وجعل الألف للتأنيث فيما بعد فيجعلها للإلحاق مع تاء التأنيث وللتأنيث إذا فقد التاءالتاء.
ولهذا نظائرنظائر. هي قولهمقولهم: بُهمي وبُهماة وشكاعى وشكاعاة وباقلى وباقلاة ونقاوى ونقاواة وسمانى وسماناةوسماناة. ومثل ذلك من الممدود قولهمقولهم: طرفاء وطرفاءة وقصباء وقصباءة وحلفاء وحلفاءة وباقلاء وباقلاءةوباقلاءة. فمن قالقال: "طرفاءطرفاء" فالهمزة عنده للتأنيث ومن قالقال: " طرفاءة " فالتاء عنده للتأنيث وأما الهمزة على قوله فزيادة لغير التأنيثالتأنيث.
وأقوى القولين فيها عندي أن تكون همزة مرتجلة غير منقلبة لأنها إذا كانت منقلبة في هذا المثال فإنها عن ألف التأنيث لا غير نحو صحراء وصلفاء وخبراء والحرشاءوالحرشاء. وقد يجوز أن تكون منقلبة عن حرف لغير الإلحاق فتكون -في الانقلاب لا في الإلحاق- كألف علباء وحرباءوحرباء.
وهذا مما يؤكد عندك حال الهاء ألا ترى أنها إذا لحقت اعتقدت فيما قبلها حكماً ما فإن لم تلحق حار الحكم إلى غيرهغيره. ونحو منه قولهمقولهم: الصفنة والصفن والرضاع والرضاعة وهو صفو الشيء وصفوته وله نظائر قد ذكرت ومنه البرك والبركة للصدرللصدر. ومن ذلك قولناقولنا: كان يقوم زيد ونحن نعتقد رفع "زيدزيد" ب "كانكان" ويكون "يقوميقوم" خبراً مقدماً عليهعليه.
فإن قيلقيل: ألا تعلم أن "كانكان" إنما تدخل على الكلام الذي كان قبلها مبتدأ وخبراً وأنت إذا قلتقلت: يقوم زيد فإنما الكلام من فعل وفاعل فكيف ذلك فالجواب أنه لا يمتنع أن يعتقد مع "كانكان" في قولناقولنا: كان يقوم زيد أن زيداً مرتفع ب "كانكان" وأن "يقوميقوم" مقدم عن موضعه فإذا حذفت "كانكان" زال الاتساع وتأخر الخبر الذي هو "يقوميقوم" فصار بعد "زيدزيد" كما أن ألف "علقاةعلقاة" للإلحاق فإذا حذفت الهاء استحال التقدير فصارت للتأنيث حتى قالقال: على ذا تأوله أبو عثمان ولم يحمله على أنهما لغتانلغتان. وأظنه إنما ذهب إلى ذلك لما رآه قد كثرت نظائره نحو سمانى وسماناة وشكاعى وشكاعاة وبهمى وبهماةوبهماة. فألف "بهمىبهمى" للتأنيث وألف "بهماةبهماة" زيادة لغير الإلحاق كألف قبعثرى وضبغطرىوضبغطرى.
ويجوز أن تكون للإلحاق بجخدب على قياس قول أبي الحسن الأخفش إلا أنه إلحاق اختص مع التأنيث ألا ترى أن أحداً لا ينون " بهمى " فعلى ذلك يكون الحكم على قولناقولنا: كان يقوم زيد ونحن نعتقد أن زيداً مرفوع بكانبكان. ومن ذلك ما نعتقده في همزاء حمراء وصفراء ونحوهما أنهما للتأنيث فإن ركبت الاسم مع آخر قبله حرت عن ذلك الاستشعار والتقدير فيها واعتقدت غيرهغيره. وذلك أن تركب مع " حمراء " اسماً قبلها فتجعلهما جميعاً كاسم واحد فتصرف " حمراء " حينئذحينئذ. وذلك قولكقولك: هذا دار حمراء ورأيت دار حمراء ومررت بدار حمراء وكذلك هذا كلبصفراء ورأيت كلبصفراء ومررت بكلبصفراء - فلا تصرف الاسم للتعريف والتركيب كحضرموتكحضرموت. فإن نكرت صرفت فقلتفقلت: رب كلبصفراءٍ مررت به - وكلبصفراء آخرآخر. فتصرف في النكرة وتعتقد في هذه الهمزة مع التركيب أنها لغير التأنيث وقد كانت قبل التركيب لهله. ونحو من ذلك ما نعتقده في الألفات إذا كن في الحروف والأصوات أنها غير منقلبة وذلك نحو ألف لا وما وألف قاف وكاف ودال وأخواتها وألف على وإلى ولدى وإذا فإن نقلتها فجعلتها أسماء أو اشتققت منها فعلاً استحال ذلك التقدير واعتقدت فيها ما تعتقده في المنقلبالمنقلب. وذلك قولكقولك: مويت إذا كتبت " ما " ولويت إذا كتبت " لا " وكوفت كافاً حسنة ودولت دالاً جيدة وزويت زاياً قويةقوية. ولو سميت رجلاً ب "علىعلى" أو "إلىإلى" أو "لدىلدى" أو "ألاألا" أو "إذاإذا" لقلت في التثنيةالتثنية: عَلَوان وإلَوان ولَدَوان وأَلَوان وإذَوَان فاعتقدت في هذه الألفات مع التسمية بها وعند الاشتقاق منها الانقلاب وقد كانت قبل ذلك عندك غير منقلبةمنقلبة.
وأغرب من ذلك قولكقولك: بأبي أنتأنت!. فالباء في أول الاسم حرف جر بمنزلة اللام في قولكقولك: لله أنتأنت! فإذا اشتققت منه فعلاً اشتقاقاً صوتياً استحال ذلك التقدير فقلتفقلت: بأبأت به بئباء وقد أكثرت من البأبأةالبأبأة. فالباء الآن في لفظ الأصل وإن كنا قد أحطنا علماً بأنها فيما اشتقت منه زائدة للجرللجر. ومثال البِئباء على هذا الفعلال كالزلزال والقلقال والبأبأة الفعللة كالقلقلة والزلزلة وعلى هذا اشتقوا منهما " البئب " فصار فعلاً من باب سلس وقلق قالقال: يا بأبي أنت ويا فوق البئبالبئب! فالبئب الآن بمنزلة الضلع والعنب والقمع والقربوالقرب. ومن ذلك قولهمقولهم: القرنوة للنبت وقالواوقالوا: قرنيت السقاء إذا دبغته بالقرنوة فالياء في قرنيت الآن للإلحاق بمنزلة ياء سلقيت وجعبيت وإنما هي بدل من واو " قرنوة " التي هي لغير الإلحاقالإلحاق.
وسألني أبو علي -رحمه الله- عن ألف "يايا" من قوله -فيما أنشده أبو زيد-: فخيرٌ نحن عند الناس منكم إذا الداعي المثوب قال يا لا فقالفقال: أمنقلبة هي؟ قلتقلت: لا لأنها في حرف أعني "يايا" فقالفقال: بل هي منقلبةمنقلبة. فاستدللته على ذلك فاعتصم بأنها قد خلطت باللام بعدها ووقف عليها فصارت كأنها جزء منها فصارت " يال " بمنزلة قال والألف في موضع العين وهي مجهولة فينبغي أن يحكم عليها بالانقلاب عن الواوالواو. هذا جمل ما قاله ولله هو وعليه رحمته فما كان أقوى قياسه وأشد بهذا العلم اللطيف الشريف أنسهأنسه. فكأنه إنما كان مخلوقاً لهله. وكيف كان لا يكون كذلك وقد أقام على هذه الطريقة مع جلة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة زائحة علله ساقطة عنه كلفه وجعله همه وسدمه لا يعتاقه عنه ولد ولا يعارضه فيه متجر ولا يسوم به مطلباً ولا يخدم به رئيساً إلا بأخرة وقد حط من أثقاله وألقى عصا ترحالهترحاله! ثم إني - ولا أقول إلا حقاً - لأعجب من نفسي في وقتي هذا كيف تطوع لي بمسئلة أم كيف تطمح بي إلى انتزاع علةعلة! مع ما الحال عليه من علق الوقت وأشجانه وتذاؤبه وخلج أشطانه ولولا معازة الخاطر واعتناقه ومساورة الفكر واكتداده لكنت عن هذا الشأن بمعزل وبأمر سواه على شغلشغل.
وقال لي مرة -رحمه الله- بهذه الانتقالاتالانتقالات: كما جاز إذا سميت ب " ضرب " أن تخرجه من البناء إلى الإعراب كذلك يجوز أيضاً أن تخرجه من جنس إلى جنس إذا أنت نقلته من موضعه إلى غيرهغيره.
ومن طريف ما ألقاه -رضي الله تعالى عنه- علي أنه سألني يوماً عن قولهم هات لا هاتيت فقال: "ماما هاتيت"؟؟ فقلتفقلت: فاعلت فهات من هاتيت كعاط من عاطيت، فقالفقال: أشيء آخر فلم يحضر إذ ذاك، فقال: أنا أرى فيه غير هذاهذا. فسألته عنه، فقالفقال: يكون فعليت، قلتقلت: ممه، قالقال: من الهوتة -وهي المنخفض من الأرض-، قالقال: وكذلك "هيتهيت" لهذا البلد لأنه منخفض من الأرض فأصله هوتيت ثم أبدلت الواو التي هي عين فعليت وإن كانت ساكنة كما أبدلت في ياجل وياحل فصار هاتيت وهذا لطيف حسنحسن. على أن صاحب العين قد قالقال: إن الهاء فيه بدل من همزة كهرقت ونحوهونحوه. والذي يجمع بين هاتيت وبين الهوتة حتى دعا ذلك أبا علي إلى ما قال به أن الأرض المنخفضة تجذب إلى نفسها بانخفاضهابانخفاضها. وكذلك قولكقولك: هات إنما هو استدعاء منك للشيء واجتذابه إليكإليك. وكذلك صاحب العين إنما حمله على اعتقاد بدل الهاء من الهمزة أنه أخذه من أتيت الشيء والإتيان ضرب من الانجذاب إلى الشيءالشيء. والذي ذهب إليه أبو علي في " هاتيت " غريب لطيفلطيف.
ومما يستحيل فيه التقدير لانتقاله من صورة إلى أخرى قولهم "هلممتهلممت" إذا قلتقلت: هلمهلم. فهلممت الآن كصعررت وشمللت وأصله قبل غير هذا إنما هو أول " ها " للتنبيه لحقت مثال الأمر للمواجه توكيداًتوكيداً. وأصلها ها لُمَّ فكثر استعمالها وخلطت "هاها" ب "لملم" توكيداً للمعنى لشدة الاتصال فحذفت الألف لذلك ولأن لام "لملم" في الأصل ساكنة ألا ترى أن تقديرها أول "الممالمم" وكذلك يقولها أهل الحجاز ثم زال هذا كله بقولهم "هلممتهلممت" فصارت كأنها فعللت من لفظ "الهلمامالهلمام" وتنوسيت حال التركيبالتركيب. وكأن الذي صرفهما جميعاً عن ظاهر حاله حتى دعا أبا علي إلى أن جعله من "الهوتةالهوتة" وغيره من لفظ أتيت عدم تركيب ظاهره ألا ترى أنه ليس في كلامهم تركيب "هـ ت" و " ولا " ه ت ي " فنزلا جميعاً عن بادي أمره إلى لفظ غيرهغيره.
فهذه طريق اختلاف التقدير وهي واسعة غير أني قد نبهت عليها فأمض الرأي والصنعة فيما يأتي منهامنها.
ومن لفظ "الهوتةالهوتة" ومعناها قولهم مضى هيتاء من الليل وهو فعلاء منه، ألا تراهم قالواقالوا: قد تهور الليل ولو كسرت "هيتاءهيتاء" لقلت "هواتيهواتي" وقريب من لفظه ومعناه قول الله سبحانه {{مض|هَيْتَهَيْتَ لَكَلَكَ}} إنما معناه هلم لك وهذا اجتذاب واستدعاء له قالقال: أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا.
|