فجعل يَقْفِزِ صُلْبه ويهزُ كَتِفيه ثم التَبط بالأرض فقلتُفقلتُ: مَعْتوه وربِّ الكعبة ثم ما بَرح مكانه حتى كان أغبط القوم عنديعندي.
ثم أرسلت إلينا النساء أن أمْتعونا من لَهْوكم فبَعثوا بهم إليهنَّ وبقيتْ الأصواتُ تَدور في آذانناآذاننا.
وكان مَعنا في البيت شابّ لا آبه له فعَلَت الأصوات له بالدُّعاء فخرج فجاء بِخَشبة في يده عينُها في صَدْرها فيها خُيُوط أربعة فاستخرج من جوانبها عُوداً فوضَعه على آذنه ثم زَمّ الخيوط الظاهرة فلما أحْكمها عرَك أذنها فنطق فُوها فإذا هي أحسن قَيْنة رأيتُها قط فاستخفَّني حتى قُمتُ - من مجلسي فجلستُ إليه فقلتُفقلتُ: بأبي أنتَ وأمّي ما هذه الدَّابة قالقال: يا أعرابيّ هذا البَرْبط قلتقلت: ما هذه الخُيُوط قالقال: أما الأسفل فزير والذي يَليه مثنى والذي يليه مثلث والذي يليه بَمّ فقلتُفقلتُ: آمنت باللهّباللهّ.
وقال أعرابيّأعرابيّ: تَمْرنا خُرس فُطْس يغيب فيهنَ الضِّرْس كأنّ فاها ألسن الطَّير تقع التمرة منها في فيك فتجد حَلَاوَتها في كَعْبِككَعْبِك.
وحضر أعرابيّ سُفْرة سُليمان بن عبد الملك فلما أتي بالفالوذج جَعَل يُسْرع فيه فقال سليمانسليمان: أتَدْري ما تأكْل يا أعرابي فقالفقال: بلى يا أمير المؤمنين إني لأجد رِيقاً هنيئاً ومُزْدَرَداً ليناً وأظنه الصراطَ المُستقيم الذي ذَكره الله في كتابهكتابه.
قالقال: فَضَحك سليمان وقالوقال: أريدك منه يا أعرابي فإنهم يذكرون أنّه يزيد في الدَماغ قالقال: كذَبوك يا أمير المؤمنين لو كان كذلك لكان رأسك مثلَ رأس البَغْلالبَغْل.
قالقال: ومررت بأعرابي يأكل في رَمضان فقلت لهله: ألا تَصُوم يا أعرابي فقالفقال: وصائمٍ هب يَلْحَاني فقلتُ له أعْمِد لِصَوْمِك واتْرُكْني وإفطاري واظمأ فإني سأرْوى ثم سوف تَرى من ذا يصير إذا مِتْنا إلى النار وحَضر سُفْرةَ سليمان أعرابيّ فنظر إلى شَعرة في لُقْمة الأعرابي فقالفقال: أرى شعرة في لُقْمتك يا أعرابي قالقال: وإنك لَتُراعيني مُرَاعاة من يُبْصِرُ الشَّعرة في لُقمتي واللهّ لا واكلتُك أبداً فقال اسْترها عليٌ يا أعرابي فإنها زلّة ولا أعود إلى مثلها أبداًأبداً.
===أخبار أبي مهدية الأعرابي ===
أبو عثمان المازني قالقال: قال أبو مَهْدئةمَهْدئة: بلغنيِ أن الأعراب والأعزاب هجاؤها واحد قلتقلت: نعم قالقال: فاقرأ الأعزاب أشدّ كُفْراً ونفاقاً ولا تقرأتقرأ: الأعراب ولا يَغُرُّك العَزَب وإن صام وصلَّىوصلَّى.
وتُوفّي بُني لأبي مهدية صغير فقيل لهله: أبشر أبا مَهدية فإنا نرجو أن يكون شَفِيع صِدْق يومَ القيامة قالقال: لا وَكلنا الله إلى شَفاعته إذاً والله يَكون أعيانا لساناً وأضعَفَنا حُجة ليته المِسْكينَ كَفَانا نَفْسهنَفْسه.
وقيل لأبي مهديّةمهديّة: أكُنتم تتوضئون بالبادية قالقال: نعم والله لقد كُنا نتوضّأ فتكفي التَوْضئة الرجل منّا الثلاثة الأيام والأربعة حتى دخلتْ علينا هذه الحمراء - يعني الموالي - فجعلت تُليق أستاهها كما تُلاق الدَّواةالدَّواة.
وقيل لأبي مَهديّةمَهديّة: أتقرأ من كتاب اللهّ تعالى شيئاً قالقال: نعمِ ثم افتتح يقرأيقرأ: " والضُّحَى واللَيْل إذا سَجَى " حتى انتهى إلى " وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهَدَى " فالتفت إلى صاحب له فقالفقال: إنَ هؤلاء العُلوج يقولونيقولون: وَوَجدك ضَالاً فهدى والله لا أقولها أبداًأبداً.
ولما أسَن أبو مهديّة وَلي جانباً من اليمامة وكان به قَوْمٌ من اليهود أهلُ عَطاء وجِدَة فأرسل إليهم فقالفقال: مَا عندكم في المَسِيح قالواقالوا: قَتلناه وصَلَبْناه قالقال: فهل غَرِمْتُم دِيَته قالواقالوا: لا قالقال: إذاً واللهّ لا تَبْرحوا حتى تَغْرموا دِيتَه فأرْضوه حتى كَف عنهمعنهم.
وقيل لأبي مهدية ما أصْبَرَكم معشرَ العرب على البَدْو قالقال: كيف لا يَصْبر على البدو مَن طعامُه الشمس وشرابه الرٌيحالرٌيح.
ونظر أبو مَهْديّة إلى رجل يسْتَنجي ويُكثر من الماء فقال لهله: إلى كم تَغْسلها ويحكويحك! أتريد أن تَشرَب فيها سَويقاًسَويقاً.
ومات طفل لأبي مهدية فقيل لهله: اصبر يا أبا مهديّة فإنه فَرَط افترطته وخير قدَمته وذُخْر أحْرزته فقالفقال: بل وَلد دفنته وثُكل تُعجِّلته والله لئن لمِ أجْزع للنَّقص لا أفْرَح بالمَزيدبالمَزيد.
قال أبو عُبيدةعُبيدة: سمع أبو مَهْدِيَّة رجلاً يقول بالفارسيَّةبالفارسيَّة: ذود ذود فقالفقال: ما يقول هذا فقيل لهله: يقول عَجِّل عَجِّل فقالفقال: أفلا يقوليقول: حَيّهَلاَ خبر أبي الزهراء المُعلى بن المُثَنَّى الشّيبانيّ قالقال: حَدّثنا سُويد بن مَنْجوف قالقال: أقبل أعرابيّ من بنى تميم حتى دخل الكوفة من ناحية جَيّانة السُّبيع تحته أتان له تَخُبّ وعليه ذلاذل وأطمار من سَحْق صُوف وقد اعتمّ بما يًشْبه ذلك من أشْوه الناس مَنْظراً وأقْبحهم شَكلاً وهو يَهْدر كما يَهْدر البعيرُ وهو يقولهيقوله: ألا سَبَد ألا لَبَد ألا مُؤْوٍ ألا سَعْديّ ألا يَربوعي ألا دارمي هَيهات هَيهات وما يُغْنى أصْلُ حَوْض الماء صادياً مُعَنّى قال سُويدسُويد: فَدَخل علينا في دَرْب الكُنَاسة فلم يجد مَنْفذاً وقد تَبعه صِبْيان كثيرون وسَواد من سَواد الحيّ فسمعتُ سوادياً يقول لهله: يا عَماه يا إبليس متى أذن لك بالظِّهور فالتفت إليهم فقالفقال: منذ سَرَق آباؤكم وفَسَقت أمهاتكمأمهاتكم.
قالقال: وكانَ معنا أبو حمَاد الخيَّاط وكانَ من أطلب الناس لكلام الأعراب وأصبرهم على الإنفاق على أعرابي يدخل علينا وكان مع ذلك مَوْلى لبني تميمٍ فأتيتُه فأخبرته فخرج مبَادراً كأنّي قد أفدتُه فائدة عظيمة وقد نَزل الأعرابي عن الأتان واستند إلى بعض الحِيطان وأخذ قَوْسَه بيده فتارة يُشير بها إلى الصبيان وتارةً يَذُب بها الشَذا عن الأتان وهو يقول لأتانهلأتانه: قد كُنتِ بالأمْعَز في خِصْب خَصِبْ ما شِئْتِ من حَمْض وماء مُنْسَكِبْ فرَبُّكِ اليومَ ذليل قد نَصِب يَرَى وجوهاً حوله ما تُرْتَقب ولا عليها نُورُ إشراق الحَسَب كأنها الزَنج وعُبْدان العَرَب إلى عُجَيْل كان كالرَّغْل السرَّب ولو أمنْتُ اليومَ من هذا اللَجَبْ رَمَيْتُ أفواقاً قَوِيماتِ النصُب الريشُ أولاها وأخراها العَقَب قالقال: فلم يزل أبو حمّاد يُلْطِفه ويتَلطَف به ويُبخله إلى أن أدخله منزله فمهَّد له وحطَه عن أتانه ودعا بالعَلَف فجعل الأعرابيّ يقوليقول: أين اللَيف والنَّئِيف والوِساد والنِّجادوالنِّجاد.
يعني باللِّيفباللِّيف: الحَصير وبالنَّئِيفوبالنَّئِيف: عُشبَة عندهم يقال لها البُهْمَىالبُهْمَى.
وبالوِسادوبالوِساد: جِلْد عَنْز يُسْلخ ولا يُشَق ويُحْشى وَبراً وشَعراً ويُتّكأ عليه وبالنِّجَاد مِسْح شَعر يستظل تحتهتحته.
قالقال: فلما نَزَع القَتب عن إن تُنْحَضي أو تَدْبَرِي أو تَزْحَرِي فذاك من دُؤوب ليل مُسْهِرِ أنا أبو الزهراء من آل السري مُشَمَّخ الأنْفِ كريم العُنْصُرِ إذا أتيت خُطَة لم أفسَرِ وكان يُسَمى الأعرابيّ صَلَتان بن عَوْسجة من بني سَعْد بن دارم ويُكْنَى بأبي الزَهرِاءالزَهرِاء.
وما رأيتُ أعرابياً أعجبَ منه كان أكثر كلامه شِعْراً وأمْثَلَ أعرابي سمعتُه كلاماً إلا أنه ربما جاء باللَفظة بعد الأخرى لا نَفهمها وكان من أضْجَر الناس وأسْوأهم خُلقاً وإذا نحن سألناه عن الشيء قال رُدوا عليّ القَوس والأتان يظُنّ أنا نَتلاعب به وكُنّا نجتمع معه في مجلس أبي حمّاد وما مِنا إلا من يأتيه بما يشتهيه فلا يُعْجبه ذلك حتى أتيناه يوماً بخِرْبِز وكانت أمامه فلما أبصرها تأمّلها طويلاً وجعل يقوليقول.
بُدِّلْتً والدَهْرُ قديماً بَدّلَا من قَيْض بَيْض القفْر فَقْعاً حَنْظلا أخْبَثُ ما تُنْبت أرْضٌ مأكلا فكنا نقول لهله: يا أبا الزًهراء إنه ليس بحَنْظَل ولكنه طعام هنيء مريء ونحن نَبْدؤك فيه إنْ شئتَ قالقال: فخُذوا منه حتىِ أرىأرى.
فبدأنا نأكل وهو يَنظر لا يَطْرف فلما رأى ذلك بَسَط يده فأخذ واحدةً فنزع أعلاها وقوَّر أسْفَلها فقُلنا لهالها: ما تُريد أن تَصْنع يا أبا الزهراء فقالفقال: إن كان السم يا بنِ أخي ففيما تَرَوْنتَرَوْن.
فلما طَعِمه استخفّه واستعذبه واستَحلاه فلم يكن يُؤْثِرُ عليه شيئاً وما كنا نأتيه بعدُ بغَيره وجَعل في خِلال ذلك يقوليقول: هذا طَعام طَيِّب يَلينُ في الجَوْف والحَلْق لهُ سُكُونُ الشَّهدُ والزّبد به مَعْجُونُ فلما كان إلى أيام قلتُ لهله: يا أبا الزهراء هل لك في الحَمّام دالدال: وما الحمام يا بن أخي قلنا لهله: دارٌ فيها أبيات حارّ وفاتر وبارد تكون في أيها شئت تُذْهب عنك قَشَفَ السَّفَر ويَسْقط عنك هذا الشَّعرالشَّعر.
قالقال: فلم نَزل به حتى أجابنا فأتينا به الحمَّام وأمرنا صاحب الحمّام أن لا يُدْخل علينا أحداً فَدَخل وهو خائف مترقّب لا يَنزع يده من يد أحدنا حتى صار في داخل الحمَّام فأمرنا مَن طَلاه بالنّورة وكان جِلْده أشْعَر كجِلد عَنْز فَقَلِق ونازَعَ للخُروج وبدأ شَعره يَسْقط فقلنافقلنا: أحين طاب الحمَّام وبدأ شعرك يسقط تخرُج قالقال: يا بن أخي وهل بقي إلا أن أنْسَلخ كما يَنْسلخ الأديم في احتدام القَيْظ وجعل يقوليقول: وهل يَطيب الموتُ يا إخْواني هل لكُم في القَوْس والأتانِ خذُوهما مِنِّي بلا أثمان وخَلَصوا المًهْجَة يا صِبياني فاليومَ لو أبْصَرَني جيراني عُرْيان بل أعرَى من العرْيان قالقال: ثم خرج مُبادراً وأتْبعَه أحداثٌ لنا لولاهم لَخَرَج بحاله تلك ما يستره شيء ولحقناه في وَسط البيوت فأتيناه بماء بارد فشرب وصبَ على رأسه فارتاح واستراح وأنشأ يقوليقول: الحمدُ للمُستَحْمد القهار أنْقَذَني من حَر بيت النَّارِ إلى ظَليل ساكن الأوَار من بعد ما أيقنت بالدَمار قالقال: فدعونا بكُسوة غير كُسوته فألبسناه وأتينا به مجلس أبي حماد وكان أبو حَماد يبيع الحِنْطة والتمرِ وجميع الحبوب وكان يُجاوره قومٌ يَبيعون أنبِذَة التمر وكان أبو الحسن التمّار ماهراً فإذا خُضنا في النحو وذكرنا الرُّواسي والكِسائي وأبا زيد جعل يَنْظر بفقه الكلام ولا يفهم التأويل فقلنا لهله: ما تقول يا أبا الزَّهْراء فقالفقال: يا بن أخي إن كلامكم هذا لا يسد عوزا مما تتعلمونه له فقال أبو الحسنالحسن: إن بهذا تعرف العرب صوابَها من خَطئها فقال لهله: ثَكلْتَ وأثْكلت وهل تُخْطىء العرب قالقال: بلى قالقال: على أولئك لعنة الله وعلى الذين أعتَقوا مثلَك قال سُويدسُويد: وكنت أحدثَهم سنًّاً قالتقالت: فقلتفقلت: جُعِلت فداك أنا رجل من بني شَيْبان وربيعة ما نعلم أنِّا على مثل الذي أنتَ عليه من الإنكار عليهم فقال فيهمفيهم: يُسائلني بيَّاع تَمْرٍ وَجَرْدقٍ ومازِج أبْوَال له في إنائِه عن الرَّفع بعد الخَفْض لا زال خافضاً ونَصْب وجَزْم صِيغ من سُوء رائه فقال بهذا يُعْرَف النحْو كلُّه يرى أنّني في العُجْم من نُظرائه فأما تَميم أو سُلَيم وعامر ومَن حَل غَمْر الضَال أو في إزائه ففيهم وعنهم يُؤثر العلم كُلُّه ودَع عنك من لا يهتدي لخطائه فمن ذا الرُّؤاسيّ الذي تَذْكرونه ومن ذا الكِسَائي سالحٌ في كِسائه ومَن ثالثٌ لم أسمع الدهرَ باسمه يُسمونه من لُؤمه سيبوائه فكيف يُحيل القوم من كان أهلَه ويهْدِي له من ليس من أوْليائه فَلَستُ لبيَّاع التُّميرات مُغْضِياً على الضيم إن واقفتُ بعد عَشائه ولقد قلنا لهله: يا أبا الزَّهراء هل قرأتَ من كتاب الله شيئاً قالقال: أي وأبيك آيات مُفَصلات أرَدِّدهن في الصَلوات أباء وأمهات وعمات وخالات ثم أنشأ يقوليقول: قرأتُ قَوْلَ الله في الكتاب ما أنزل الرحمنُ في الأحزاب لعُظم ما فيها من الثوَابِ الكُفْر والغِلْظة في الأعراب وأنا فاعلم من ذوي الألباب أومن بالله بلا ارتياب وجاحِم يَلْفح بالتهاب أوْجُه أهل الكُفْرو والتَّباب ودَفْع رَحْل الطارق المنتاب في ليلة ساكنة الكِلاب ولما أحضرناه ذات يومٍ جِنازة قلنا لهله: يا أبا الزهراء كيف رأيت الكوفة فقالفقال: يا بن أخي حَضَراً حاضراً ومَحلاً أهلاً أنكرتُ من أفعالكم الأكيال والأوزان وشَكْل النِّسوان ثم نظر إلى الجبَّانة فقالفقال: ما هذه التِّلال يا بن أخي قلت لهله: أجداثُ الموتىالموتى: فقالفقال: أماتوا أم قُتلوا فقلتفقلت: قد ماتوا بآجالهم مِيتات مخُتلفات قالقال: فماذا نَنْتظر نحن يا بن أخي قلتقلت: مثل الذي صاروا إليه فاستعبر وبَكى وجعل يقوليقول: يا لَهفَ نَفسي أنْ أموتَ في بَلَد قد غابَ عنِّي الأهْلُ فيه والوَلدْ وكل ذي رحْم شفيق مُعْتَقدْ يكون ما كنتُ سقيماً كالرمد يا ربّ يا ذا العرْش وَفِّق للرشدْ وَيسرِ الخيرَ لشيخ مُنْحَصِدْ ثم لم يَلْبث إلا يسيراً حتى أخذتْه الحُمَّى والبِرْسام فكنًا لا نُبارحه عائدين متفقدين فبينا نحن عنده ذات يوم وقد اشتد كَرْبه وأيقنى بالموت جعل يقوليقول: أبْلِغ بناتي اليومَ أبلغ بالصُّوَى قد كُنَّ يأمُلْنَ إيَابي بالغِنَى وقر تَمنَّينَ وما تُفْنى المنى بأنّ نَفْسي وردت حَوْض الرَّدى ومن صلاتي في صباح ومِسَا فَعُدْ على شيخ كبير ذي انحِنا كفاه ما لاقاه في الدُنيا كَفى قلنا لهله: يا أبا الزَهراء ما تأمرنا في القَوْس والأتان وفيما قَسَم الله لك عندنا من رزق فقالفقال: يا بن أخي أما ما قَسم الله لي عندكم فمردود إليكم وأما القَوْس والأتان فَبِيعوها وتَصدَقوا بثمنهما في فقراء صَلِبَة بني تميم وما بَقي ففي مَوَاليهم ثم جعل يقوليقول: اللهم اسمع دُعاء عَبدك إليك وتضرعه بين يديك وأعرف له حَقَّ إيمانه بك وتَصْديقه برُسلك الذين صَليت عليهم وسلمْت اللهم إني جانٍ مُقْترف وهائبٌ مُعْترف لا أدَعي بَراءة ولا أرجو نجاة إلا برحمتك إياي وتجاوزك عنَي اللهم إنك كتبت علي في الدنيا التّعب والنَّصب وكان في قَضَائك وسابق علمك قبضُ روحي في غير أهلي وولدي اللهم فبدِّل لي التَّعب والنَّصب رَوْحاً وريحانا وجنة نعيم فْضل كريمكريم.
ثم صار يتكلم بما لا نَفْقَهه ولا نَفْهمه حتىِ مات رحمه اللهالله.
فما سمعتُ دُعاء أبلغ من دُعائه ولا شهدتُ جنازة أكثرَ باكياَ وداعياً من جنازته رحمه اللهالله.
===عودة إلى كلام الأعراب ===
َن كان ذابتً فهذا بَتِّي مقيِّظٌ مُصَيِّف مُشَتي َسَجْتُه من نَعجاتٍ سِت وقال أعرابيأعرابي: قالت سُلَيْمى ليت ليَ بَعْلاً بِمَنّ يَغْسِلُ أسي ويسلبني الحَزَنْ حاجة ليس لها عِنْدي ثَمَنْ مشهورة قضاؤُها منه وَهَن قالت جواري الحي يا سلمى وإنْ كان فقيراً معدماً قلت وإن قال الإعرابيالإعرابي: جاريتان حَلَفتْ أماهما وأن ليس مغبوناً من أشتراهما والله لا أخْبركم أسماهما إلا بقولي هكذا هُما هُما ما اللِّتان صادَني سهماهما حيا وحيا الله من حياهما أمَاتَ رَبِّي عاجلاً أباهما حتى تُلاقي مُنْيتي مناهما وقال أعرابيأعرابي: إِن لنا لَكَنَه مِعَنَة مِفَنَه السٌمْعنة النَظْرنةالنَظْرنة: المرأة التي إذا سَمِعت أو نَظرت فلم تَرَ شيئاً تَظنَت تَظنياًتَظنياً.
وأنشد أبو عبد الله بن لُبانة لأعرابيلأعرابي: كَرِيمةً يُحبُّها أبُوها مَلِيحةَ العَيْنَينْ عَذْباً فُوها لا تُحْسِنُ السَّبَّ وإنْ سَبُّوها قال الأصمعيالأصمعي: دخلتُ على هارون الرَّشيد وبين يديه بَدْرَة فقالفقال: يا أصمعي إن حدثتني بحديث العَجْز فأضْحَكتني وهَبتك هذه البدرة قلتقلت: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا في صَحارَى الأعراب في يوم شديد البرد والريح إذا أنا بأعرابي قاعد إلى أجمة قد احتملت الرّيح كِساءَه فألقته على الأجمة وهو عُريان فقلت لهله: يا أعرابي ما أجلسك ها هنا على هذه الحال فقالفقال: جارية واعدتُها يقال لها سَلمى أنا مُنتظر لها فقلت وما يَمنعك من أخذ كِسائك قالقال: العَجز يُوقفني عن أخذه قلت لهله: فهل قلتَ في سَلْمى شيئاً قالقال: نعمنعم: قلتُ لهله: أسمعني لله أبوك قالقال: لا أسمعك حتى تأخذ كِسائي وتلقيه عليّعليّ.
قالقال: فأخذتُه فألقيته عليه فأنشأ يقوليقول: لعل الله أن يأتي بسَلْمى فَيَبْطَحَها ويُلْقيني عليها ويأتي بعد ذاك سحابُ مُزْن يُطَهِّرُنا ولا نَسعى إليها أذكروا أنّ أعرابياً أتى عَيْناً من ماءٍ صافٍ في شهر رمضان فشرَب حتى رَوِيَ ثم أومأ بيده إلى السماء فقالفقال: إنْ كُنْتَ قدَرْتَ الصِّيا مَ فأعْفِنا من شَهْر آب أوْلا فإنّا مُفْطِرُو ن وصابرون على العَذابَ خَلا أعرابيّ بامرأة ليفسُق بها فلم يَنْتَشر لهله.
فقالت لهله: قُم خائباً فقالفقال: الخائبُ من فَتَحَ فم الجراب ولم يُكَل له دقيقدقيق.
فخَجِلت ولم تَرُد جَواباًجَواباً.
==كتاب المجنبة في الأجوبة ==
قال أحمدُ بن محمد بن عبد ربّهربّه: قد مَضى قولُنا في كلام الأعراب خاصة ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الْجَوابات التي هي أصعبً الَكلام كلّه مَرْكباً وأعزُّه مَطْلباً وأغمضه مَذْهباً وأضيَقه مَسْلكا لأنّ صاحبَه يُعْجل مُناجاةَ الفِكْرة واستعمالواستعمال! القَريحة يُوم في بَديهة نَقْض ما أًبْرم في رويّة فهو كمن أخذت عليه الفِجَاج وسُدَّت عليه المَخارج قد تَعرّض للأسنَة واستهدف للمَرامي لا يدْرِي ما يُقْرَع به فيتأهّب له ولا ما يَفجؤه من خَصمه فيَقْرعه بمثلهبمثله.
ولا سيّما إذا كان القائلُ قد أَخذ بمجامع الكلام فقاده بزِمامه بعد أن رَوّى فيه وأحتَفل وجَمع خواطره وأجتهد وتَرك الرأي يَغِب حتى يَخْتمر فقد كَرِهوا الرأي الفَطير كما كرهوا الجوابَ الدَّبَريّ فلا يزال في نَسج الكَلام واستئناسه حتى إذا اطمأن شاردُه وسَكن نافرُه صكّ به خَصْمًه جُملة واحدة ثم إذا قيل لهله: أجِب ولا تُخطىء وأَسرع ولا تُبْطىء ترَاه يجاوب من غير أناة ولا استعداد يُطبّق المَفاصل ويَنْفُذ إلى المَقاتل كما يُرْمَى الْجَندل بالجندل وُيقْرَع الحديد بالحديد فَيَحُل به عُراه ويَنْقُض به مرائره ويكون جوابُه على كلامه كسحابة لَبّدت عَجاجةعَجاجة.
فلا شيءَ أعضلُ من الجواب الحاضر ولا أعزّ من الخَصْم الألدّ الذي يَقْرع بقول كمِثْل النار في الْحَطَب الْجَزْل قال أبو الْحَسنالْحَسن: أسرعُ الناسِ جواباً عند البديهة قريش ثم بقيّة العرب وأحسنُ الجواب كُلِّه ما كان حاضراً مع إصابة مَعنى وإيجاز لَفْظلَفْظ.
وكان يُقاليُقال: اتّقوا جوابَ عُثمانَ بنِ عفّانعفّان.
وقالت النبيّ عليه الصلاةُ والسلامُ لعمرو بن الأهتمالأهتم: أخبرني عن الزِّبْرِقان قالقال: مًطَاعٌ في أدانِيه شديدُ العارضة مانعٌ لما وراءَ ظَهْرهظَهْره.
قال الزِّبْرِقانُالزِّبْرِقانُ: واللهّ يا رسولَ اللهّ لقد عَلِم منّي أكثرَ من هذا ولكنْ حَسَدنيحَسَدني.
قال عمروبنُ الأهتمالأهتم: أمَا والله يا رسولَ اللهّ إنه لَزَمِرُ المُروءة ضَيِّق العَطَن أحمقُ الوالد لَئيم الْخَال واللهّ يا رسولَ الله ما كذبتُ في الأولى ولقد صدقتُ في الأخرى رَضِيتً عن ابن عمِّي فقلتُ فيه أحسنَ ما فيه ولم أكْذِب وسَخِطتُ عليه فقلت أقبحَ ما فيه ولم أكذِبأكذِب.
فقال النبيّ عليه الصلاةُ والسلاموالسلام: إنّ من البيان سِحْراًسِحْراً.
جواب عقيل بن أبي طالب لمعاوية وأصحابه لمَا قَدِم عَقِيل بن أبي طالب على مُعاوية أكْرَمه وقَربه وقَضى حوائجَه وقَضى عنه دَيْنَه ثم قال له في بعض الأيامالأيام: والله إنّ عليًّا غَيْر حافظ لك قَطَع قَرابتك وما وَصَلك ولا اصطنعكاصطنعك.
قال له عَقيلعَقيل: والله لقد أجزل العَطِيَّةَ وأعظمها ووَصَل القَرابة وحَفِظها وحَسُن ظَنُّه بالله إذ ساء به ظَنُّك وحَفِظ أمانَته وأصْلح رعيته إذ خُنْتم وأفسدتم وجُرْتم فاكفُف لا أبالك فإنه عما تقول بِمَعْزِلبِمَعْزِل.
وقال له مُعاوية يوماًيوماً: أبا يزيد أنا لك خيرٌ من أخيك عليٍعليٍ.
قالقال: صدقتَ إن أخي آثرَ دِينَه على دُنياه وأنت آثرتَ دُنياك على دِينك فأنت خيرٌ لي من أخي وأخي خيرٌ لنفسه منكمنك.
وقال له ليلةَ الهَريرالهَرير: أبا يزيد أنتَ الليلةَ معنا قالقال: نعم ويومَ بَدْر كنتُ معكممعكم.
وقال رجل لعَقيللعَقيل: إنك لخائنٌ حيثُ تركتَ أخاك وتَرغب إلى مُعاويةمُعاوية.
قالقال: أخْوَنُ منّي والله مَن سَفك دَمَه بين أخي وابن عمِّي أن يكون أحدًهما أميراًأميراً.
ودَخل عَقيل على معاوية وقد كُفَّ بَصَرُه فأجلسه معاوية على سريره ثم قال لهله: أنتم مَعْشرَ بني هاشم تُصابون في أبصاركمأبصاركم.
قالقال: وأنتم معشرَ بني أميّة تُصابون في بَصائرَكمبَصائرَكم.
ودَخل عُتْبة بن أبي سُفْيان فَوَسَّع له معاوية بينه وبين عَقيل فجلس بينهما فقال عَقِيل مَن هذا الذي اجلَسَ أميرُ المؤمنين بيني وبينه قالقال: أخوك وابن عمّك عُتبةعُتبة.
قالقال: أمَا إنّه إنْ كان أقربَ إليك منِّي إني لأقْرَبُ لرسول اللهّ {{صل}} منك ومنه ومنه وأنتما مع رسول الله {{صل}} أرضٌ ونحن سماءسماء.
قال عُتبةعُتبة: أبا يزيد أنت كما وَصَفْتَ ورسولُ الله {{صل}} فوق ما ذكرتَ وأميرُ المؤمنين عالم بحقّك ولك عندنا مما تُحبّ أكثر مما لنا عِنْدك مما نَكْرهنَكْره.
ودخل عَقِيل على مُعاويةَ فقال لأصحابهلأصحابه: هذا عَقيل عمه أبو لهبلهب.
قال له عَقيلعَقيل: وهذا مُعاوية عَمَتُه حمَالةُ الحَطب ثم قالقال: يا مُعاوية إذا دخلتَ النار فاعْدِلْ ذاتَ اليَسار فإنك سَتَجد عمّي أبا لهب مُفْترِشاً عمِّتَك حَمَّالَةِ الحَطب فانظُر أيهما خيرخير: الفاعلُ أو المَفْعول به وقال له معاوية يوماًيوماً: ما أبين الشَّبَق فيٍ رِجالكم يا بني هاشمهاشم! قالقال: لكنه في نِسائكم أبينُ يا بني أميَّةأميَّة.
{{العقد الفريد/الجزء الثاني}}
|